عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 74 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {جَعَلَ
الله الكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرامَ قِياما لِلنَّاسِ
والشَّهْرَ الحرامَ وَالهدْيَ وَالقَلائِدَ ذالِكَ
لِتَعْلَمُوا أنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ ومَا
فِي الأرْضِ وأنَّ الله بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ}
(الْمَائِدَة: 79) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى، عز وَجل: جعل
الله ... إِلَى آخِره، وَوَقع فِي شرح ابْن بطال بِأَنَّهُ
ضم الْبَاب السَّابِق إِلَى هَذَا وجعلهما وَاحِدًا،
فَقَالَ بعد قَوْله: {لَعَلَّهُم يشكرون} (إِبْرَاهِيم:
53) . وَقَول الله تَعَالَى: {جعل الله الْكَعْبَة}
(الْمَائِدَة: 79) . إِلَى آخِره، قَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ
يُشِير إِلَى أَن المُرَاد بقوله: {قيَاما} أَي: قواما،
وَأَنَّهَا مَا دَامَت مَوْجُودَة فالدين قَائِم.
قلت: السِّرّ فِي هَذَا وَالتَّحْقِيق أَنه جعل هَذِه
الْآيَة الْكَرِيمَة تَرْجَمَة وَأَشَارَ بهَا إِلَى
أُمُور. الأول: أَشَارَ فِيهِ إِلَى أَن قوام أُمُور
النَّاس وانتعاش أَمر دينهم ودنياهم بِالْكَعْبَةِ المشرفة
يدل على قَوْله {قيَاما للنَّاس} (الْمَائِدَة: 79) .
فَإِذا زَالَت الْكَعْبَة على يَد ذِي السويقتين تختل
أُمُورهم، فَلذَلِك أورد حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِيهِ
مُنَاسبَة لهَذَا، فَتَقَع بِهِ الْمُطَابقَة بَين
الحَدِيث والترجمة. وَالثَّانِي: أَشَارَ بِهِ إِلَى
تَعْظِيم الْكَعْبَة وتوقيرها، يدل عَلَيْهِ قَوْله:
{الْبَيْت الْحَرَام} حَيْثُ وصفهَا بِالْحُرْمَةِ، فأورد
حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِيهِ
مُنَاسبَة لهَذَا، فَتَقَع بِهِ الْمُطَابقَة بَين
الحَدِيث والترجمة، وَذَلِكَ فِي قَوْله: (وَكَانَ يَوْمًا
تستر فِيهِ الْكَعْبَة) . وَالثَّالِث: أَشَارَ بِهِ إِلَى
أَن الْكَعْبَة لَا تَنْقَطِع الزوار عَنْهَا، وَلِهَذَا
تحج بعد خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج الَّذِي يكون فِيهِ من
الْفِتَن والشدائد مَا لَا يُوصف، فَلذَلِك أورد حَدِيث
أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِيهِ مُنَاسبَة لهَذَا، وَهُوَ
قَوْله: (ليحجن الْبَيْت وليعتمرن بعد خُرُوج يَأْجُوج
وَمَأْجُوج) ، وَيدل على هَذَا الْوَجْه أَيْضا قيَاما،
فَتَقَع بِهِ الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة.
قَوْله: (الْبَيْت الْحَرَام) ، نصب على أَنه عطف بَيَان
على جِهَة الْمَدْح لَا على التَّوْضِيح كَمَا تَجِيء
الصّفة، كَذَلِك قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ. قَوْله: (قيَاما)
أَي: عمادا للنَّاس فِي أَمر دينهم ودنياهم ونهوضا إِلَى
أغراضهم ومقاصدهم فِي معاشهم ومعادهم لما يتم لَهُم من
أَمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم، وَرُوِيَ عَن
عَطاء بن أبي رَبَاح: لَو تركوها عَاما وَاحِدًا
(9/231)
لم ينْظرُوا وَلم يتجروا، وَقَرَأَ ابْن
عَامر: قيمًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ قيَاما، وَأَصله:
قواما، وَيُقَال معني: قيَاما، معالم للحق، وَقَالَ
مقَاتل: يَعْنِي علما لقبلتهم يصلونَ إِلَيْهَا، وَقَالَ
سعيد بن جُبَير صلاحا لدينهم. قَوْله: {والشهر الْحَرَام}
وَهُوَ الشَّهْر الَّذِي يُؤَدِّي فِيهِ الْحَج، وَهُوَ
ذُو الْحجَّة، لِأَن اخْتِصَاصه من بَين الْأَشْهر
بِإِقَامَة موسم الْحَج فِيهِ، شَأْنًا عرفه الله
تَعَالَى، وَقيل: عَنى بِهِ جنس أشهر الْحرم. قَوْله:
{وَالْهَدْي} وَهُوَ مَا يهدي بِهِ قَوْله: {والقلائد}
يَعْنِي المقلدات أَو ذَات القلائد، وَالْمعْنَى: جعل الله
الشَّهْر الْحَرَام وَالْهَدْي والقلائد أمنا للنَّاس
لأَنهم إِذا توجهوا إِلَى مَكَّة وقلدوا الْهَدْي أمنُوا
من الْعَدو، لِأَن الْحَرْب كَانَت قَائِمَة بَين الْعَرَب
إلاَّ فِي الْأَشْهر الْحرم، فَمن لقوه على هَذِه الْحَالة
لم يتَعَرَّضُوا لَهُ. قَوْله: (ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى
جعل الْكَعْبَة قيَاما للنَّاس، أَو إِلَى مَا ذكر من حفظ
حُرْمَة الْإِحْرَام بترك الصَّيْد وَغَيره،، قَوْله:
{وَإِن الله بِكُل شَيْء عليم} أَي: من السِّرّ
وَالْعَلَانِيَة.
1951 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا زِيادُ بنُ سَعْدٍ عنِ
الزُّهْرِيِّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو
السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشةِ.
(الحَدِيث 1951 طرفه فِي: 6951) .
مطابقته للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا آنِفا. وَرِجَاله
سِتَّة: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن
الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَزِيَاد، بِكَسْر
الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن سعد بن عبد
الرَّحْمَن، يكنى أَبَا عبد الرَّحْمَن الْخُرَاسَانِي من
أهل بَلخ يُقَال إِنَّه من الْعَرَب سكن مَكَّة وانتقل
مِنْهَا إِلَى الْيمن فسكن فِي قَرْيَة إسمها: عك، وَمَات
بهَا، يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة وَابْن أبي عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج،
وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بن سعيد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يخرب الْكَعْبَة) فعل ومفعول
(وَذُو السويقتين) فَاعله، وَهَذِه تَثْنِيَة سويقة،
والسويقة مصغر السَّاق، وَألْحق بهَا التَّاء فِي التصغير
لِأَن السَّاق مُؤَنّثَة، والتصغير للتحقير، وَالْإِشَارَة
إِلَى الدقة لِأَن فِي سيقان الْحَبَشَة دقة وخموشة،
وَالتَّقْدِير: يخرب الْكَعْبَة ضَعِيف من هَذِه
الطَّائِفَة. قَوْله: (من الْحَبَشَة) كلمة: من،
بَيَانِيَّة أَي من هَذَا الْجِنْس من بني آدم. قَالُوا:
الْحَبَش جنس من السودَان، وهم الأحبش والحبشان والحبشة،
لَيْسَ بِصَحِيح فِي الْقيَاس لِأَنَّهُ لَا وَاحِد لَهُ
على مِثَال فَاعل، فَيكون مكسرا على فعله، والأحبوش
جمَاعَة الْحَبَش قَالَ العجاج.
(كَأَن صيران المهى الأخلاط ... والرمل أحبوش من الأنباط)
وَقيل: هم الْجَمَاعَة أيا كَانُوا لأَنهم إِذا اجْتَمعُوا
اسودوا. وَفِي (الصِّحَاح) : الْحَبَش والحبشة جنس من
السودَان، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: فَأَما قَوْلهم:
الْحَبَشَة، فعلى غير قِيَاس، وَقد قَالُوا: حبشان أَيْضا،
وَلَا أَدْرِي كَيفَ هُوَ. قلت: إنكارهم لفظ الْحَبَشَة
على هَذَا الْوَزْن لَا وَجه لَهُ لِأَنَّهُ ورد فِي لفظ
الفصيح، بل أفْصح النَّاس، وَقَالَ الرشاطي: وهم من ولد
كوش بن حام، وهم أَكثر مُلُوك السودَان وَجَمِيع ممالك
السودَان يُعْطون الطَّاعَة للحبش.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي: كَانَ أَوْلَاد حام
سَبْعَة أخوة كأولاد سَام: السَّنَد والهند والزنج والقبط
والحبشة والنوبة وكنعان، فَأخذُوا مَا بَين الْجنُوب
وَالدبور وَالصبَا. وروى سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا خير فِي
الْحَبَش، إِن جَاعُوا سرقوا، وَإِن شَبِعُوا زنوا، وَإِن
فيهم حسنتين إطْعَام الطَّعَام وإلباس يَوْم الْبَأْس) .
وَقَالَ ابْن هِشَام فِي (التيجان) : أول من جرى لِسَان
الْحَبَشَة على لِسَانه سحلب بن أداد بن ناهس بن سرعَان بن
حام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ تولدت من هَذَا
اللِّسَان ألسن استخرجت مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الأَصْل.
وَجَاء فِي تخريب الْكَعْبَة أَحَادِيث. مِنْهَا: حَدِيث
ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ بقوله:
بَاب هدم الْكَعْبَة، على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
تَعَالَى. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ بِسَنَد صَحِيح فِي: يُبَايع لرجل بَين
الرُّكْن وَالْمقَام، وَأول من يسْتَحل هَذَا الْبَيْت
أَهله، فَإِذا اسْتَحَلُّوهُ فَلَا تسْأَل عَن هلكة
الْعَرَب ثمَّ تَجِيء الْحَبَشَة فيخربونه خرابا لَا يعمر
بعده، وهم الَّذين يستخرجون كنزه، وَذكر الْحَلِيمِيّ: أَن
ذَلِك فِي زمن عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَن
الصَّرِيخ يَأْتِيهِ بِأَن ذَا السويقتين قد سَار إِلَى
الْبَيْت يهدمه فيبعث، إِلَيْهِ عِيسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، طَائِفَة بَين الثمان إِلَى التسع.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم بِسَنَد فِيهِ
مَجْهُول: كَأَنِّي أنظر إِلَى أصيلع أَقرع أفحج على ظهر
الْكَعْبَة يَهْدِمهَا بالكرزنة. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الله بن عمر عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: أتركوا الْحَبَشَة
(9/232)
مَا تركوكم، فَإِنَّهُ لَا يسْتَخْرج كنز
الْكَعْبَة إِلَّا ذُو السويقتين من الْحَبَشَة.
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمد من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (يخرب الْكَعْبَة ذُو السويقتين من
الْحَبَشَة، ويسلب حليها ويجردها من كسوتها، وَكَأَنِّي
أنظر إِلَيْهِ أصيدع أفيدع يضْرب عَلَيْهَا مسحاته ومعوله)
. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ من حَدِيث
حُذَيْفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر
حَدِيثا فِيهِ طول، وَفِيه: (وخراب مَكَّة من الْحَبَشَة
على يَد حبشِي أفحج السَّاقَيْن أَزْرَق الْعَينَيْنِ أفطس
الْأنف كَبِير الْبَطن مَعَه أَصْحَابه، ينقضونها حجرا
حجرا ويتناولونها حَتَّى يرموا بهَا يَعْنِي: الْكَعْبَة
إِلَى الْبَحْر، وخراب الْمَدِينَة من الْجُوع وخراب
الْيمن من الْجَرَاد) . وَفِي (كتاب الْغَرِيب) لأبي عبيد:
عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (استكثروا من
الطّواف بِهَذَا الْبَيْت قبل أَن يُحَال بَيْنكُم
وَبَينه، فَكَأَنِّي بِرَجُل من الْحَبَشَة أصلع وأصمع حمش
السَّاقَيْن قَاعد عَلَيْهَا وَهِي تهدم) . وخرجه
الْحَاكِم مَرْفُوعا (وَفِيه: أصمع أَقرع بِيَدِهِ معول
وَهُوَ يَهْدِمهَا حجرا حجرا) . وَذكر الْغَزالِيّ فِي
(مَنَاسِكه) : لَا تغرب الشَّمْس من يَوْم إلاَّ وَيَطوف
بِهَذَا الْبَيْت رجل من الأبدال، وَلَا يطلع الْفجْر من
لَيْلَة إلاَّ طَاف بِهِ أحد من الْأَوْتَاد، وَإِذا
انْقَطع ذَلِك كَانَ سَبَب رَفعه من الأَرْض، فَيُصْبِح
النَّاس وَقد رفعت الْكَعْبَة لَيْسَ مِنْهَا أثر، وَهَذَا
إِذا أَتَى عَلَيْهَا سبع سِنِين لم يحجها أحد ثمَّ، يرفع
الْقُرْآن الْعَظِيم من الْمَصَاحِف، ثمَّ من الْقُلُوب،
ثمَّ يرجع النَّاس إِلَى الْأَشْعَار والأغاني وأخبار
الْجَاهِلِيَّة، ثمَّ يخرج الدَّجَّال وَينزل عِيسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي (كتاب الْفِتَن)
لنعيم بن حَمَّاد: حَدثنَا بَقِيَّة عَن صَفْوَان عَن
شُرَيْح (عَن كَعْب: تخرج الْحَبَشَة خرجَة ينتهون فِيهَا
إِلَى الْبَيْت، ثمَّ يتفرغ إِلَيْهِم أهل الشَّام
فيجدونهم قد افترشوا الأَرْض، فيقتلونهم أَوديَة بني
عَليّ، وَهِي قريبَة من الْمَدِينَة، حَتَّى إِن الحبشي
يُبَاع بالشملة) . قَالَ صَفْوَان: وحَدثني أَبُو
الْيَمَان (عَن كَعْب، قَالَ: يخربون الْبَيْت وليأخذن
الْمقَام فيدركون على ذَلِك، فيقتلهم الله تَعَالَى.
وَفِيه (وَيخرجُونَ بعد يَأْجُوج) . (وَعَن عبد الله بن
عَمْرو: تخرج الْحَبَشَة بعد نزُول عِيسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فيبعث عِيسَى طَائِفَة فيهزمون) ،
وَفِي رِوَايَة: (يهدم مرَّتَيْنِ وَيرْفَع الْحجر فِي
الْمرة الثَّالِثَة) ، وَفِي رِوَايَة، وَيرْفَع فِي
الثَّانِيَة. وَفِي رِوَايَة (ويستخرجون كنز فِرْعَوْن
بمنوف من الْفسْطَاط، وَيقْتلُونَ بوسيم) وَفِي لفظ:
(فَيَأْتُونَ فِي ثَلَاثمِائَة ألف عَلَيْهِم أسيس أَو
أسيس) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَقيل: إِن خرابه يكون بعد
رفع الْقُرْآن من الصُّدُور والمصاحف، وَذَلِكَ بعد موت
عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ
الصَّحِيح.
فَإِن قلت: قَالَ تَعَالَى: {حرما آمنا} (الْقَصَص: 75) .
وَهُوَ يُعَارض مَا ذكرْتُمْ من هَذِه الْأَشْيَاء؟ قلت:
قَالُوا: لَا يلْزم من قَوْله: {حرما آمنا} (الْقَصَص: 75)
. أَن يكون ذَلِك دَائِما فِي كل الْأَوْقَات، بل إِذا
حصلت لَهُ حُرْمَة وَأمن فِي وَقت مَا، صدق عَلَيْهِ هَذَا
اللَّفْظ وَصَحَّ الْمَعْنى، وَلَا يُعَارضهُ ارْتِفَاع
ذَلِك الْمَعْنى فِي وَقت آخر. فَإِن قلت: قَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله أحل لي مَكَّة سَاعَة من
نَهَار، ثمَّ عَادَتْ حرمتهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) .
قلت: الحكم بِالْحُرْمَةِ وَالْأَمر لَا يرْتَفع إِلَى
يَوْم الْقِيَامَة، أما وُقُوع الْخَوْف فِيهَا وَترك
الْحُرْمَة فقد وجد من ذَلِك فِي أَيَّام يزِيد وَغَيره
كثيرا، وَقَالَ عِيَاض: {حرما آمنا} (الْقَصَص: 75) . أَي:
إِلَى قرب الْقِيَامَة، وَقيل: يخْتَص مِنْهُ قصَّة ذِي
السويقتين. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِن قيل مَا السِّرّ
فِي حراسة الْكَعْبَة من الْفِيل وَلم تحرس فِي
الْإِسْلَام مِمَّا صنع بهَا الْحجَّاج والقرامطة وَذُو
السويقتين؟ فَالْجَوَاب: إِن حبس الْفِيل كَانَ من
أَعْلَام النُّبُوَّة لسيدنا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَدَلَائِل رسَالَته لتأكيد الْحجَّة
عَلَيْهِم بالأدلة الَّتِي شوهدت بالبصر قبل الْأَدِلَّة
الَّتِي ترى بالبصائر، وَكَانَ حكم الْحَبْس أَيْضا
دلَالَة على وجود النَّاصِر.
2951 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ
عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (ح) وحدَّثني
مُحَمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ قَالَ أخبرَني عَبْدُ الله هُوَ
ابنُ المُبَارَكِ قَالَ أخبرنَا محَمَّدُ بنُ أبي حَفْصَةَ
عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عَنْ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كانُوا يَصُومُونَ عاشُوراءَ
قَبْلَ أنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ وكانَ يَوْما تُسْتَرُ فيهِ
الكَعْبةُ فلَمَّا فرَضَ الله رمضَانَ قَالَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ شاءَ أنْ يَصُومَهُ
فلْيَصُمْهُ ومنْ شاءَ أَن يَتْرُكهُ فَلْيَتْرُكْهُ..
قد مر وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، وَوجه
آخر وَهُوَ: أَن الْمُشْركين كَانُوا يعظمون الْكَعْبَة
قَدِيما بالستور
(9/233)
وَالْكِسْوَة، ويقومون إِلَيْهَا كَمَا
يقوم الْمُسلمُونَ، وَبَين الله تَعَالَى فِي الْآيَة
الْمَذْكُور أَنه جعل الْكَعْبَة بَيْتا حَرَامًا، وَمن
حرمتهَا تعظيمها فَعَظَّمَهَا الْمُسلمُونَ، وَمن جملَة
تعظيمهم إِيَّاهَا أَنهم كَانُوا يكسونها فِي كل سنة يَوْم
عَاشُورَاء الَّذِي هُوَ من الْأَيَّام المعظمة، فَمن
هَذِه الْحَيْثِيَّة حصلت الْمُطَابقَة بَين الْآيَة
الَّتِي هِيَ تَرْجَمَة وَبَين الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم: تِسْعَة: الأول: يحيى بن بكير، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة: أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي.
الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عقيل، بِضَم
الْعين: ابْن خَالِد، الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن
شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن
الْعَوام. السَّادِس: مُحَمَّد بن مقَاتل، بِضَم الْمِيم
على وزن اسْم الْفَاعِل من الْمُقَاتلَة: أَبُو الْحسن
المجاور بِمَكَّة. السَّابِع: عبد الله بن الْمُبَارك.
الثَّامِن: مُحَمَّد بن أبي حَفْصَة، واسْمه ميسرَة، ضد
الميمنة. التَّاسِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه:
الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة
الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي سَبْعَة
مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن
شَيْخه يحيى وَاللَّيْث مصريان، وَأَن عقيلاً أيلي، وَأَن
ابْن شهَاب وَعُرْوَة مدنيان، وَأَن شَيْخه مُحَمَّد بن
مقَاتل من أَفْرَاده، وَأَنه وَابْن الْمُبَارك مروزيان،
وَمُحَمّد بن أبي حَفْصَة بَصرِي. وَفِيه: أَنه رَوَاهُ من
طَرِيقين، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: جمع البُخَارِيّ
بَين رِوَايَة عقيل وَابْن أبي حَفْصَة فِي الْمَتْن،
وَلَيْسَ فِي رِوَايَة عقيل ذكر السّتْر، ثمَّ سَاقه
بِدُونِهِ من طَرِيق عقيل، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَعَادَة
البُخَارِيّ التَّجَوُّز فِي مثل هَذَا. وَقيل: أَرَادَ من
حَدِيث عقيل التَّصْرِيح بِسَمَاع ابْن شهَاب من عُرْوَة.
قلت: لَيْسَ لما ذكره فَإِنَّهُ لم يَأْتِ بِهِ، نعم هُوَ
عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي نعيم، وَقد روى الفاكهي من
طَرِيق ابْن أبي حَفْصَة، وَصرح بِسَمَاع الزُّهْرِيّ لَهُ
من عُرْوَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانُوا) ، أَي: الْمُسلمُونَ
كَانُوا يَصُومُونَ يَوْم عَاشُورَاء وَهُوَ الْيَوْم
الْعَاشِر من محرم، وَكَانَ فرضا، فَلَمَّا نزل فرض
رَمَضَان نسخ صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، وَهُوَ مَمْدُود غير
منصرف، وَقَالَ أَبُو عَليّ القالي فِي (كتاب الْمَمْدُود
والمقصور) : عَاشُورَاء على وزن فاعولاء، وَلَا نعلم من
هَذَا الْمِثَال غَيره. قَوْله: (وَكَانَ) أَي كَانَ يَوْم
عَاشُورَاء يَوْمًا تستر فِيهِ الْكَعْبَة، وَكَانَت
تُكْسَى فِي كل سنة مرّة يَوْم عَاشُورَاء، ثمَّ إِن
مُعَاوِيَة كَانَ يَكْسُوهَا مرَّتَيْنِ، ثمَّ الْمَأْمُون
كَانَ يَكْسُوهَا ثَلَاثًا الديباج الْأَحْمَر يَوْم
التَّرويَة، وَالْقَبَاطِي هِلَال رَجَب، والديباج
الْأَبْيَض يَوْم سبع وَعشْرين من رَمَضَان، وَذكر
مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي (السّير) أَن تبان أسعد أَبُو
كرب وَهُوَ تبع الآخر ابْن كلكيكرب بن زيد، وَهُوَ تبع
الأول ابْن عَمْرو، وسَاق نسبه إِلَى يعرب بن قحطان، ثمَّ
قَالَ: كَانَ هُوَ وَقَومه أَصْحَاب أوثان يعبدونها، توجه
إِلَى مَكَّة حَتَّى إِذا كَانَ بَين عسفان وأمج أَتَاهُ
نفر من هُذَيْل بن مدركة، فَقَالُوا: أَلا ندلك على بَيت
مَال داثر؟ قَالَ: بلَى. قَالُوا: مَكَّة، وَإِنَّمَا
أَرَادَ الهذليون هَلَاكه، لما عرفُوا هَلَاك من أَرَادَهُ
من الْمُلُوك، فَقَالَ لَهُ حبران كَانَا مَعَه: إِنَّمَا
إراد هَؤُلَاءِ هلاكك. قَالَ: فبماذا تأمراني , قَالَا:
نصْنَع عِنْده مَا يصنع أَهله، نحلق عِنْده ونطوف وننحر،
فَفعل فَأَقَامَ بِمَكَّة سِتَّة أَيَّام ينْحَر للنَّاس
ويطعمهم، فأري فِي الْمَنَام أَن يكسو الْبَيْت فَكَسَاهُ
الخصف، ثمَّ أرِي أَن يكسوه أحسن من ذَلِك فَكَسَاهُ
المعافر، ثمَّ أرِي أَن يكسوه أحسن من ذَلِك فَكَسَاهُ
الملاء، والوصائل، فَكَانَ تبع فِيمَا يَزْعمُونَ أول من
كسا الْبَيْت، وَذكر ابْن قُتَيْبَة أَن هَذِه الْقِصَّة
كَانَت قبل الْإِسْلَام بتسعمائة سنة. وَفِي (مُعْجم
الطَّبَرَانِيّ) من حَدِيث ابْن لَهِيعَة: حَدثنَا أَبُو
زرْعَة عَمْرو سعمت سهل بن سعد رَفعه: (لَا تسبوا تبعا
فَإِنَّهُ قد أسلم) . وَفِي (مغايض الْجَوْهَر فِي
أَنْسَاب حمير) : كَانَ يدين بالزبور، وَذكر ابْن أبي
شيبَة فِي (تَارِيخه) : أول من كساها عدنان بن أدد، وَزعم
الزبير أَن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير،
وَذكر الْمَاوَرْدِيّ: أَن أول من كساها الديباج خَالِد بن
جَعْفَر بن كلاب أَحْمد لطيمة يحل الْبر، وَوجد فِيهَا
إنماطا فعلقها على الْكَعْبَة، وَذكر الْحَافِظ: أَن أول
من علقها عبد الله بن الزبير وَفِي كتاب ابْن إِسْحَاق:
أول من حلاها عبد الْمطلب بن عبد منَاف لما حفرهَا
بالفزالين اللَّذين وجدهما من ذهب فِيهَا. وَعَن لَيْث بن
أبي سليم، قَالَ: كَانَت كسْوَة الْكَعْبَة على عهد رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الانطاع والمسوح. وَقَالَ
ابْن دحْيَة: كساها الْمهْدي الْقبَاطِي والخز والديباج،
وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أَسْفَلهَا إِلَى
أَعْلَاهَا. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ ابْن جريج: زعم بعض
عُلَمَائِنَا أَن أول من كساها إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ
السَّلَام، وَحكى البلاذري: أَن أول من كساها الأنطاع
عدنان بن أدد، وروى الْوَاقِدِيّ عَن إِبْرَاهِيم بن أبي
ربيعَة، قَالَ: كسي الْبَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة الأنطاع،
ثمَّ كَسَاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
الثِّيَاب اليمانية، ثمَّ كَسَاه عمر وَعُثْمَان
الْقبَاطِي، ثمَّ كَسَاه الْحجَّاج الديباج. وَقَالَ
(9/234)
ابْن إِسْحَاق: بَلغنِي أَن الْبَيْت لم
يكْسَ فِي عهد أبي بكر وَعمر، يَعْنِي: لم يجدد لَهُ
كسْوَة. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج: أخْبرت أَن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يَكْسُوهَا
الْقبَاطِي. وَأَخْبرنِي غير وَاحِد أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كساها الْقبَاطِي والحبرات، وَأَبُو بكر
وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَأول من
كساها الديباج عبد الْملك بن مَرْوَان، وَأَن أول من أدْرك
ذَلِك من الْفُقَهَاء قَالُوا: أصَاب، مَا نعلم لَهَا من
كسْوَة أوفق مِنْهُ وروى أَبُو عرُوبَة فِي (الْأَوَائِل)
لَهُ: عَن الْحسن، قَالَ: أول من لبس الْكَعْبَة
الْقبَاطِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى
الدَّارَقُطْنِيّ فِي (المؤتلف) : أَن أول من كسا
الْكَعْبَة الديباج تنيلة بنت جنان وَالِدَة الْعَبَّاس بن
عبد الْمطلب، كَانَت أضلت الْعَبَّاس صَغِيرا فنذرت إِن
وجدته أَن تكسو الْكَعْبَة الديباج، وَذكر الزبير بن بكار
أَنَّهَا أضلت ضِرَارًا ابْنهَا، فَرده عَلَيْهَا رجل من
جذام، فكست الْكَعْبَة ثيابًا بَيْضَاء، وَهُوَ مَحْمُول
على تعدد الْقِصَّة، وكسيت فِي أَيَّام الفاطميين الديباج
الْأَبْيَض، وَكَسَاهَا السُّلْطَان مَحْمُود بن سبكتكين
ديباجا أصفر، وَكَسَاهَا نَاصِر العباسي ديباجا أَخْضَر،
ثمَّ كساها ديباجا أسود، فاستمر إِلَى الْآن، وَلم تزل
الْمُلُوك يتداولون كسوتها إِلَى أَن وقف عَلَيْهَا
الصَّالح إِسْمَاعِيل بن النَّاصِر فِي سنة نَيف وَخمسين
وَسَبْعمائة، قَرْيَة بنواحي الْقَاهِرَة، وَلم تزل
تُكْسَى من هَذَا الْوَقْف.
3951 - حدَّثنا أحْمَدُ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا
إبْراهِيمُ عنِ الحَجَّاجِ بنِ حَجَّاجٍ عنْ قَتَادَةَ
عَنْ عَبْدِ الله بنِ أبي عُتْبَةَ عنْ أبي سَعِيدٍ
الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ
ولَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأجُوجَ ومَأجُوجَ.
قد مر وَجه الْمُطَابقَة فِي أول الب اب.
ذكر رِجَاله: وهم: سَبْعَة: الأول: أَحْمد بن أبي عَمْرو،
واسْمه حَفْص بن عبد الله بن رَاشد أَبُو عَليّ السّلمِيّ،
مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبوهُ
حَفْص أَبُو عَمْرو، قَاضِي نيسابور، الثَّالِث:
إِبْرَاهِيم بن طهْمَان أَبُو سعيد. الرَّابِع: الْحجَّاج
بن الْحجَّاج الْأَسْلَمِيّ الْبَاهِلِيّ الْأَحول.
الْخَامِس: قَتَادَة بن دعامة. السَّادِس: عبد الله بن أبي
عتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة. مولى أنس
بن مَالك. السَّابِع: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، سعد بن
مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه ذكر فِي بعض
النّسخ مُجَردا، وَفِي بَعْضهَا أَحْمد بن حَفْص، وَأَنه
وأباه نيسابوريان وَأَن إِبْرَاهِيم هروي سكن نيسابور ثمَّ
سكن مَكَّة، مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَة، وَأَن الْحجَّاج
وَقَتَادَة وَعبد الله بصريون.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (ليحجن) ، بِضَم الْيَاء وَفتح الْحَاء وَالْجِيم
على صِيغَة الْمَجْهُول، مؤكدا بالنُّون الثَّقِيلَة،
وَكَذَلِكَ قَوْله: (ليعتمرن) . قَوْله: (يَأْجُوج
وَمَأْجُوج) إسمان أعجميان بِدَلِيل منع الصّرْف، وقرىء
فِي الْقُرْآن مهموزين، وَقيل: يَأْجُوج من التّرْك،
وَمَأْجُوج من الجيل والديلم، وَقيل: هم على صنفين: طوال
مفرطوا الطول، وقصار مفرطوا الْقصر.
تابَعَهُ أبانُ وعِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ
أَي: تَابع عبد الله بن أبي عتبَة أبان بن يزِيد
الْعَطَّار عَن قَتَادَة، وَكَذَلِكَ تَابعه عمرَان
الْقطَّان عَن قَتَادَة، ومتابعتهما على لفظ الْمَتْن. أما
مُتَابعَة أبان فوصلها الإِمَام أَحْمد: عَن عَفَّان
وسُويد بن عَمْرو الْكَلْبِيّ، وَعبد الصَّمد بن عبد
الْوَارِث، ثَلَاثَتهمْ عَن أبان، فَذكر مثله، وَأما
مُتَابعَة عمرَان فوصلها أَحْمد أَيْضا: عَن سُلَيْمَان بن
دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنهُ، وَكَذَا أخرجه ابْن
خُزَيْمَة وَأَبُو يعلى من طَرِيق الطَّيَالِسِيّ، وَقد
تَابع هَؤُلَاءِ سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة، أخرجه
عبد بن حميد عَن روح بن عبَادَة عَنهُ، وَلَفظه: (أَن
النَّاس ليحجون ويعتمرون ويغرسون النّخل بعد خُرُوج
يَأْجُوج وَمَأْجُوج) .
وَقَالَ عَبْدُ الرحمانِ عَن شُعْبَةَ قَالَ لاَ تَقُومُ
السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ
أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن شُعْبَة عَن
قَتَادَة بِهَذَا السَّنَد: لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى لَا
يحجّ الْبَيْت، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْحَاكِم من
طَرِيق أَحْمد بن حَنْبَل عَنهُ.
وَالأوَّلُ أكْثَرُ
(9/235)
أَرَادَ البُخَارِيّ بِالْأولِ من تقدم
ذكرهم قبل شُعْبَة، وَإِنَّمَا قَالَ: أَكثر، لِاتِّفَاق
أُولَئِكَ على اللَّفْظ الْمَذْكُور، وانفراد شُعْبَة
بِمَا يخالفهم، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن ظاهرهما
التَّعَارُض، لِأَن الأول يدل على أَن الْبَيْت يحجّ بعد
أَشْرَاط السَّاعَة. وَالثَّانِي: يدل على أَنه لَا يحجّ،
وَيُمكن الْجمع بَينهمَا بِأَن يُقَال: لَا يلْزم من حج
النَّاس بعد خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج أَن يمْتَنع
الْحَج فِي وَقت مَا عِنْد قرب ظُهُور السَّاعَة،
وَالَّذِي يظْهر، وَالله أعلم، أَن يكون المُرَاد بقوله:
(ليحجن الْبَيْت) أَي: مَكَان الْبَيْت، وَيدل على ذَلِك
مَا رُوِيَ أَن الْحَبَشَة إِذا خربوه لم يعمر بعد ذَلِك
على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقَالَ
التَّيْمِيّ: قَالَ البُخَارِيّ: وَالْأول أَكثر، يَعْنِي:
الْبَيْت يحجّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
سَمِعَ قَتَادةُ عَبْدَ الله وعَبْدُ الله أبَا سَعِيدٍ
وَفِي بعض النّسخ قَالَ أَبُو عبد الله أَي: البُخَارِيّ
نَفسه، سمع قَتَادَة عبد الله بن أبي عُتَيّة الْمَذْكُور
فِي سَنَد الحَدِيث الْمَذْكُور، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى
أَن قَتَادَة لما كَانَ مدلسا صرح بِأَن عنعنته مقرونة
بِالسَّمَاعِ. قَوْله: (وَعبد الله) أَي: سمع عبد الله بن
أبي عتبَة أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ.
84 - (بابُ كِسْوَةِ الكَعْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم التصوف فِي كسْوَة
الْكَعْبَة.
4951 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ
حدَّثنا خالِدُ بنُ الحَارِثِ قَالَ حدَّثنا سُفيَانُ
قَالَ حَدثنَا واصِلٌ الأحْدَبُ عنْ أبِي وَائِلٍ قَالَ
جِئتُ إِلَيّ شَيْبَةَ (ح) وحدَّثنا قَبيصَةُ قَالَ
حدَّثنا سُفْيانُ عنْ وَاصِلٍ عنْ أبي وَائِلٍ قَالَ
جلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلى الكُرْسِيِّ فِي الكَعْبَةِ
فقالَ لَقَدْ جَلَسَ هاذا المَجْلِسَ عُمَرُ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ فقالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ لَا أدَعَ فِيهَا
صَفْرَاءَ ولاَ بَيْضَاءَ إلاَّ قَسَمْتُهُ قُلْتُ أنَّ
صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلا قالَ هُمَا المَرْآنِ أقْتَدِي
بِهِمَا.
(الحَدِيث 4951 طرفه فِي: 5727) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من وُجُوه:
الأول: أَنه مَعْلُوم أَن الْمُلُوك فِي كل زمَان كَانُوا
يتفاخرون بكسوة الْكَعْبَة برفيع الثِّيَاب المنسوجة
بِالذَّهَب وَغَيره، كَمَا يتفاخرون بتسبيل الْأَمْوَال
لَهَا، فَأَرَادَ البُخَارِيّ أَن عمر بن الْخطاب لما رأى
قسْمَة الذَّهَب وَالْفِضَّة صَوَابا، كَانَ حُكْم
الْكسْوَة حُكم المالِ يجوز قسمتهَا، بل مَا فضل من كسوتها
أولى بِالْقِسْمَةِ.
الثَّانِي: أَنه يحْتَمل أَن يكون مَقْصُود البُخَارِيّ
التَّنْبِيه على أَن كسْوَة الْكَعْبَة مَشْرُوعَة،
وَالْحجّة فِيهَا أَنَّهَا لم تزل تقصد بِالْمَالِ
فَيُوضَع فِيهَا على معنى الزِّينَة إعظاما لَهَا، فالكسوة
من هَذَا الْقَبِيل.
الثَّالِث: أَنه يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ مَا فِي بعض طرق
الحَدِيث كعادته، وَيكون هُنَاكَ طَرِيق مُوَافقَة
للتَّرْجَمَة وَتَركه إِيَّاه إِمَّا لخلل شَرطه وَإِمَّا
لتبحر النَّاظر فِيهِ.
الرَّابِع: أَنه يحْتَمل أَن يكون أَخذه من قَول عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَا أخرج حَتَّى أقسم مَال
الْكَعْبَة، فَالْمَال يُطلق على كل مَا يتمول بِهِ،
فَيدْخل فِيهِ الْكسْوَة.
الْخَامِس: أَنه لَعَلَّ الْكَعْبَة كَانَت مكسوة وَقت
جُلُوس عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَحَيْثُ لم
يُنكره وقررها دلّ على جَوَازهَا، والترجمة يحْتَمل أَن
يُقَال فِيهَا: بَاب فِي مَشْرُوعِيَّة الْكسْوَة كَمَا
ذكرنَا.
السَّادِس: أَنه يحْتَمل أَن يكون الحَدِيث مُخْتَصرا طوى
فِيهِ ذكر الْكسْوَة.
فَمن هَذِه الْوُجُوه يتَوَجَّه الرَّد على
الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي قَوْله: لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب
لكسوة الْكَعْبَة ذكرٌ، يَعْنِي فَلَا يُطَابق
التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم: ثَمَانِيَة: الأول: عبد الله بن عبد
الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي. الثَّانِي: خَالِد بن
الْحَارِث أَبُو عبد الله الحَجبي. الثَّالِث: سُفْيَان
الثَّوْريّ فِي الطَّرِيقَيْنِ. الرَّابِع: وأصل بن
حَيَّان الأحدب الْأَسدي. الْخَامِس: أَبُو وَائِل شَقِيق
ابْن سَلمَة. السَّادِس: شيبَة بن عُثْمَان الحَجبي،
بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْجِيم المفتوحتين، الْعَبدَرِي،
أسلم يَوْم الْفَتْح وَأعْطى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لَهُ وَلابْن عَمه عُثْمَان بن طَلْحَة مِفْتَاح
الْكَعْبَة، وَقَالَ: خذوها يَا بني أبي طَلْحَة خالدة
تالدة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، لَا يَأْخُذ مِنْكُم
(9/236)
إِلَّا ظَالِم، وَهُوَ الْآن فِي يَد بني
شيبَة، مَاتَ سنة تسع وَخمسين. السَّابِع: قبيصَة بن عقبَة
أَبُو عَامر السوَائِي. الثَّامِن: عمر بن الْخطاب، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه فِي الطَّرِيق الأول من أَفْرَاده،
وَقدمه مَعَ أَنه نَازل لتصريح سُفْيَان فِيهِ
بِالتَّحْدِيثِ، وَأَنه بَصرِي. وَفِيه: أَن خَالِدا
أَيْضا من أَفْرَاده، وَأَنه أَيْضا بَصرِي وسُفْيَان
وواصل وَأَبُو وَائِل كوفيون، وَفِي الطَّرِيق الثَّانِي
شَيْخه قبيصَة وَهُوَ أَيْضا من أَفْرَاده، وَهُوَ كُوفِي.
وَفِيه: صحابيان شيبَة وَعمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا. وَهَذَا الحَدِيث جعله الْحميدِي
وَأَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي وقبلهما الطَّبَرَانِيّ فِي
مُسْند شيبَة، وَذكره الْمزي أَيْضا فِي مُسْند شيبَة،
وَذكره غَيرهم فِي مُسْند عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن عَمْرو بن الْعَبَّاس.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن أَحْمد بن حَنْبَل.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على الْكُرْسِيّ) ، الْكُرْسِيّ
وَاحِد الكراسي، وَرُبمَا قَالُوا: كرْسِي بِكَسْر
الْكَاف، قَالَه الْجَوْهَرِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
الْكُرْسِيّ: مَا يجلس عَلَيْهِ وَلَا يفضل عَن الْقَاعِد،
وَلَيْسَت الْيَاء فِيهِ للنسبة، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْضُوع
على هَيْئَة النِّسْبَة كَمَا فِي زفني وقلطي وبختي وبردي.
قَوْله: (أَن لَا أدع) أَي: أَن لَا أترك. قَوْله:
(فِيهَا) أَي: فِي الْكَعْبَة. قَوْله: (صفراء وَلَا
بَيْضَاء) أَي: ذَهَبا وَلَا فضَّة، قَالَ الْقُرْطُبِيّ:
غلط من ظن أَن المُرَاد بذلك حلية الْكَعْبَة، وَإِنَّمَا
أَرَادَ الْكَنْز الَّذِي بهَا، وَهُوَ مَا كَانَ يهدى
إِلَيْهَا فيدخر مَا يزِيد عَن الْحَاجة. وَأما الْحلِيّ
فمحبّسة عَلَيْهَا كالقناديل، فَلَا يجوز صرفهَا إِلَى
غَيرهَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كَانُوا فِي
الْجَاهِلِيَّة يهْدُونَ إِلَى الْكَعْبَة تَعْظِيمًا
لَهَا فيجتمع فِيهَا. قَوْله: (إلاَّ قسمته) ، ذكر
الضَّمِير بِاعْتِبَار المَال، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن
شيبَة فِي (كتاب مَكَّة) : عَن قبيصَة شيخ البُخَارِيّ
فِيهِ: (إِلَّا قسمتهَا) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن
بن مهْدي عَن سُفْيَان عِنْد البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام
(إلاَّ قسمتهَا بَين الْمُسلمين) . وَعند
الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه: (لَا أخرج حَتَّى
أقسم مَال الْكَعْبَة بَين فُقَرَاء الْمُسلمين) . قَوْله:
(قلت: إِن صاحبيك لم يفعلا) . الْقَائِل هُوَ شيبَة،
وَأَرَادَ بالصاحبين، النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَأَبا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي رِوَايَة
عبد الرَّحْمَن ابْن مهْدي: (قلت: مَا أَنْت بفاعل! قَالَ:
لِمَ؟ قلت: لَمْ يَفْعَله صاحباك) . وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه، (قَالَ: ولِمَ ذَاك؟
قلت: لِأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قد رأى
مَكَانَهُ وَأَبُو بكر، وهما أحْوج مِنْك إِلَى المَال،
فَلم يحركاه) . قَوْله: (قَالَ: هما المرآن) أَي: قَالَ
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هما أَي: النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، مرآن يَعْنِي: رجلَيْنِ كَامِلين فِي الْمُرُوءَة.
قَوْله: (أقتدي بهما) أَي: بالمرأين الْمَذْكُورين، وهما
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَمَعْنَاهُ لَا أفعل مَا لم يفعلا،
وَلَا أتعرض لما لم يتعرضا، وبمثل هَذِه الْقَضِيَّة وَقع
بَين أبي بن كَعْب وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
وروى عبد الرَّزَّاق من طَرِيق الْحسن (عَن عمر: أَرَادَ
أَن يَأْخُذ كنز الْكَعْبَة فينفقه فِي سَبِيل الله،
فَقَالَ لَهُ أبي بن كَعْب: قد سَبَقَك صاحباك، فَلَو
كَانَ فضلا لفعلاً) . وَفِي لفظ: (فَقَالَ لَهُ أبي بن
كَعْب: وَالله مَا ذَاك لَك؟ قَالَ: ولِمَ؟ قَالَ: أقره
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ ابْن
بطال: أَرَادَ عمر لكثرته إِنْفَاقه فِي سَبِيل الله وَفِي
مَنَافِع الْمُسلمين، ثمَّ لما ذكر بِأَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يتَعَرَّض لَهُ أمسك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: التَّنْبِيه على
مَشْرُوعِيَّة الْكسْوَة. وَفِيه: مَا يدل من قَول عمر أَن
صرف المَال فِي الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين آكِد من صرفه
فِي كسْوَة الْكَعْبَة، لَكِن الْكسْوَة فِي هَذِه الْأمة
أهم، لِأَن الْأُمُور المتقادمة تتأكد حرمتهَا فِي
النُّفُوس، وَقد صَار ترك الْكسْوَة فِي الْعرف عضا فِي
الْإِسْلَام، وإضعافا لقلوب الْمُسلمين. وَقَالَ ابْن
بطال: مَا جعل فِي الْكَعْبَة وسبل لَهَا يجْرِي مجْرى
الْأَوْقَاف، فَلَا يجوز تَغْيِيره من وَجهه، وَفِي ذَلِك
تَعْظِيم الْإِسْلَام، وترهيب لِلْعَدو. وَفِي (شرح
التَّهْذِيب) : قَالَ صَاحب (التَّلْخِيص) : لَا يجوز بيع
أَسْتَار الْكَعْبَة المشرفة، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْفضل
بن عبد، لِأَنَّهُ لَا يجوز قطع أستارها وَلَا قطع شَيْء
من ذَلِك، وَلَا يجوز نَقله، وَلَا بَيْعه وَلَا
شِرَاؤُهُ. قَالَ: وَمن عمل شَيْئا من ذَلِك كَمَا
يَفْعَله الْعَامَّة، يشترونه من بني شيبَة، لزمَه رده
وَوَافَقَهُ على ذَلِك الرَّافِعِيّ، وَقَالَ ابْن
الصّلاح: الْأَمر فِيهَا إِلَى الإِمَام يصرفهُ فِي مصارف
بَيت المَال بيعا وَعَطَاء، وَاحْتج بِمَا ذكره
الْأَزْرَقِيّ: أَن عمر كَانَ ينْزع كسْوَة الْبَيْت كل
سنة، فَيقسمهَا على الْحَاج، وَعند الْأَزْرَقِيّ عَن ابْن
عَبَّاس وَعَائِشَة، أَنَّهُمَا قَالَا: وَلَا بَأْس أَن
يلبس كسوتها من صَارَت
(9/237)
إِلَيْهِ من حَائِض وجنب وَغَيرهمَا،
وَكَذَا قالته أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن ابْن أبي ليلى، وَسُئِلَ عَن رجل
سرق من الْكَعْبَة، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ قطع؟
وَيُقَال: الظَّاهِر جَوَاز قسْمَة الْكسْوَة العتيقة إِذْ
بَقَاؤُهَا تَعْرِيض لفسادها بِخِلَاف النَّقْدَيْنِ.
94 - (بابُ هَدْمِ الكَعْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر هدم الْكَعْبَة فِي آخر
الزَّمَان.
قالَتْ عَائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْزُو جَيْشٌ
الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ
هَذَا طرف من حَدِيث ذكره البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي
أَوَائِل الْبيُوع من طَرِيق نَافِع بن جُبَير عَن
عَائِشَة بِلَفْظ: (يَغْزُو جَيش الْكَعْبَة حَتَّى إِذا
كَانُوا ببيداء من الأَرْض خسف بأولهم وَآخرهمْ، ثمَّ
يبعثون على نياتهم) وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ،
إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (قَالَت عَائِشَة) ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين بِغَيْر وَاو، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر:
وَقَالَت، بِالْوَاو، ومطابقة هَذَا الْمُعَلق
للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن غَزْو الْكَعْبَة فِي هَذَا
مُقَدّمَة لهدمها، لِأَن غزوها يَقع مرَّتَيْنِ، فَفِي
الأولى: هلاكهم، وَفِي الثَّانِيَة: هدمها، ومقدمة
الشَّيْء تَابِعَة لَهُ. فَافْهَم.
5951 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيّ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى
بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ الأخْنَسِ
قَالَ حدَّثني ابنُ أبي مُلَيْكَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كأنِّي بِهِ أسْوَدَ أفْحَجَ
يَقْلَعُهَا حَجَرا حَجَرا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عَمْرو، بِفَتْح
الْعين: ابْن عَليّ بن يحيى بن كثير أَبُو حَفْص
الْبَاهِلِيّ الصَّيْرَفِي. الثَّانِي: يحيى بن سعيد
الْقطَّان. الثَّالِث: عبيد الله بتصغير عبد بن
الْأَخْنَس، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَفتح النُّون وَفِي آخِره سين مُهْملَة:
أَبُو مَالك النَّخعِيّ. الرَّابِع: عبد الله بن أبي
مليكَة، بِضَم الْمِيم وَفتح اللَّام: هُوَ عبد الله ابْن
عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة، واسْمه زُهَيْر التَّيْمِيّ
الْأَحول، القَاضِي على عهد ابْن الزبير. الْخَامِس: عبد
الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه وَيحيى
بصريان وَعبيد الله بن الْأَخْنَس كُوفِي وَابْن أبي
مليكَة مكي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَأَنِّي بِهِ) ، الْكَلَام فِي
الضَّمِير فِي لفظ: بِهِ، يحْتَمل ثَلَاثَة أوجه: الأول:
أَن يعود إِلَى الْبَيْت، والقرينة الحالية تدل عَلَيْهِ،
أَي: كَأَنِّي ملتبس بِهِ. الثَّانِي: أَن يعود إِلَى
القالع بِالْقَرِينَةِ الحالية أَيْضا. الثَّالِث: مَا
قَالَه الطَّيِّبِيّ، وَهُوَ أَنه ضمير مُبْهَم يفسره مَا
بعده على أَنه تَمْيِيز، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فقضاهن سبع
سموات} (فصلت: 21) . فَإِن ضمير: هن، هُوَ الْمُبْهم
الْمُفَسّر: بِسبع سموات، وَهُوَ تَمْيِيز، وَهَذِه
الْأَوْجه صَحِيحَة مَاشِيَة على قَاعِدَة الْعَرَبيَّة،
فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير حذف، كَمَا قَالَ بَعضهم،
وَالَّذِي يظْهر أَن فِي الحَدِيث شَيْئا حذف، ثمَّ أكد
كَلَامه بقوله: وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ مَا وَقع فِي
حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي (غَرِيب
الحَدِيث) لأبي عُبَيْدَة من طَرِيق أبي الْعَالِيَة: (عَن
عَليّ، قَالَ: استكثروا من الطّواف بِهَذَا الْبَيْت، قبل
أَن يُحَال بَيْنكُم وَبَينه، فَكَأَنِّي بِرَجُل من
الْحَبَشَة أصلع أَو قَالَ: أصمع حمش السَّاقَيْن، قَاعد
عَلَيْهَا وَهِي تهدم) . وَرَوَاهُ الفاكهي من هَذَا
الْوَجْه، وَلَفظه: أصعل، بدل: أصلع، وَقَالَ: قَائِما
عَلَيْهَا يَهْدِمهَا بمسحاته، وَرَوَاهُ يحيى الْحمانِي
فِي مُسْنده من وَجه آخر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، مَرْفُوعا. انْتهى. قلت: إِنَّمَا يقدر الْحَذف فِي
مَوضِع يحْتَاج إِلَيْهِ للضَّرُورَة، وَلَا ضَرُورَة
هَهُنَا، ودعواه الظُّهُور غير ظَاهِرَة لِأَنَّهُ لَا
وَجه فِي تَقْدِير مَحْذُوف لَا حَاجَة إِلَيْهِ بِمَا
جَاءَ فِي أثر عَن صَحَابِيّ، وَلَا يُقَال الْأَحَادِيث
يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، لأَنا نقُول: هَذَا إِنَّمَا
يكون عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ، فَلَا احْتِيَاج
هَهُنَا إِلَى ذَلِك. قَوْله: (أسود) ، مَرْفُوع، وَفِي
رَفعه وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون مُبْتَدأ وَخَبره
قَوْله: (يقلعها) ، وَالْجُمْلَة حَال بِدُونِ الْوَاو،
وَهَذَا على تَقْدِير أَن يكون الضَّمِير فِي: بِهِ،
للبيت، وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون ارتفاعه على أَنه خبر
مُبْتَدأ مَحْذُوف، على أَن يكون الضَّمِير للقالع،
وَالتَّقْدِير: كَأَنِّي بالقالع هُوَ أسود. وَقَوله:
(أفحج) ، خبر بعد خبر، وَيجوز
(9/238)
أَن يكون أسود أفحج، حَالين متداخلين أَو
مترادفتين من الضَّمِير فِي: بِهِ، ويروى أسود مَنْصُوبًا
على الذَّم أَو الِاخْتِصَاص، وَلَيْسَ من شَرط
الْمَنْصُوب على الِاخْتِصَاص أَن لَا يكون نكرَة، فَهَذَا
الزَّمَخْشَرِيّ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَائِما
بِالْقِسْطِ} (آل عمرَان: 81) . أَنه مَنْصُوب على
الِاخْتِصَاص، وَيجوز أَن يكون بَدَلا من الضَّمِير
الَّذِي فِي: بِهِ، وَيجوز إِبْدَال الْمظهر من الْمُضمر
الْغَائِب، نَحْو: ضَربته زيدا، قَوْله: (أفحج) ، على وزن:
أفعل، بفاء ثمَّ حاء مُهْملَة ثمَّ جِيم من الفحج، وَفِي
(الْمُنْتَهى) ؛ هُوَ تداني صُدُور الْقَدَمَيْنِ وتباعد
العقبين، وَقد فحج يفحج من بَاب علم يعلم، فَهُوَ أفحج،
ودابة فحجاء، وَهُوَ عيب فِي الْخَيل، والفحج،
بِالْكَسْرِ، مشْيَة الأفحج، وَقد فحج يفحج من بَاب ضرب
يضْرب، وفحج يفحج من بَاب، فتح يفتح، وَيُقَال: الفحج
بِالتَّحْرِيكِ: تبَاعد مَا بَين السَّاقَيْن، وَمن
الدَّوَابّ مَا بَين العرقوبين. وَفِي (الْمُحكم) : فحج
فحجا، وَعَن اللحياني فحجة أَيْضا. وَقَالَ الْهَرَوِيّ:
الفحج تبَاعد مَا بَين الفخذين. وَقَالَ ابْن دُرَيْد:
هُوَ تبَاعد مَا بَين الرجلَيْن، وَفِي (الْمُجْمل) : هُوَ
تبَاعد مَا بَين السَّاقَيْن فِي الْإِنْسَان
وَالدَّابَّة. قَوْله فِي حَدِيث عَليّ: أصلع، وَهُوَ
الَّذِي ذهب شعر مقدم رَأسه، والأصلع الصَّغِير الرَّأْس،
والأصمع الصَّغِير الْأُذُنَيْنِ. قَوْله: (حمش
السَّاقَيْن) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون
الْمِيم وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، أَي: دَقِيق. قَوْله:
(حجرا حجرا) ، نصب على الْحَال نَحْو: بوبته بَابا بَابا
أَي: مبوبا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو بدل من الضَّمِير
يَعْنِي الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي يقلعها.
6951 - حدَّثنا يَحْيى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ
المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ
الحَبَشَةِ.
(انْظُر الحَدِيث 1951) .
قد مضى هَذَا الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب قَول الله عز
وَجل: {جعل الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام}
(الْمَائِدَة: 79) . فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ عَن عَليّ
بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن زِيَاد بن سعد عَن
الزُّهْرِيّ، وَهَهُنَا رَوَاهُ عَن يحيى بن أبي بكير
المَخْزُومِي الْمصْرِيّ، عَن اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ،
عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن ابْن شهَاب، هُوَ
مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَالله أعلم.
05 - (بابُ مَا ذُكِرَ فِي الحَجَرِ الأسْوَدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ذكر فِي شَأْن الْحجر
الْأسود، وَهُوَ الَّذِي فِي ركن الْكَعْبَة الْقَرِيب
بِبَاب الْبَيْت من جَانب الشرق، وَيُقَال لَهُ: الرُّكْن
الْأسود، ارتفاعه من الأَرْض ذراعان وَثلثا ذِرَاع،
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: ارتفاعه من الأَرْض ثَلَاثَة أَذْرع
إلاَّ سبع أَصَابِع.
7951 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ أخبرنَا
سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عابِسِ بنِ
رَبِيعَةَ عنْ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ
جاءَ إلَى الحَجَرِ الأسْوَدِ فقَبَّلَهُ فَقَالَ إنِّي
أعلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ ولاَ تَنْفَعُ ولَوْلاَ
أنِّي رأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُقَبِّلُكَ
مَا قَبَّلْتُكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الَّذِي عِنْده على
شَرطه هَذَا الحَدِيث، وإلاَّ فَفِيهِ وَردت أَحَادِيث
كَثِيرَة صَحِيحَة وضعيفة على مَا سنذكر شَيْئا من ذَلِك.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن كثير ضد
الْقَلِيل أَبُو عبد الله الْعَبدَرِي، مر فِي كتاب
الْعلم. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث:
سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم بن يزِيد
النَّخعِيّ. الْخَامِس: عَابس، بِالْعينِ الْمُهْملَة
وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة وَفِي آخِره سين مُهْملَة:
ابْن ربيعَة، بِفَتْح الرَّاء: النَّخعِيّ. السَّادِس: عمر
بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع. والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي والبقية
كلهم كوفيون. قَوْله: (عَن إِبْرَاهِيم) هُوَ النَّخعِيّ،
وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن إِبْرَاهِيم ابْن عبد
الْأَعْلَى عَن سُوَيْد بن غَفلَة عَن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
(9/239)
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج
عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة، وَمُحَمّد بن
عبد الله بن نمير وَزُهَيْر بن حَرْب أربعتهم عَن أبي
مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فِيهِ عَن هناد عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ. وَقَالَ: حسن
صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَنِّي أعلم أَنَّك حجر لَا تضر
وَلَا تَنْفَع) ، تكلم الشارحون فِي مُرَاد عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، بِهَذَا الْكَلَام، فَقَالَ مُحَمَّد
بن جرير الطَّبَرِيّ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن النَّاس
كَانُوا حَدِيثي عهد بِعبَادة الْأَصْنَام، فخشي عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يظنّ الْجُهَّال بِأَن
استلام الْحجر، هُوَ مثل مَا كَانَت الْعَرَب تَفْعَلهُ،
فَأَرَادَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يعلم أَن
استلامه لَا يقْصد بِهِ إلاَّ تَعْظِيم الله، عز وَجل،
وَالْوُقُوف عِنْد أَمر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَأَن ذَلِك من شَعَائِر الْحَج الَّتِي أَمر الله
بتعظيمها، وَأَن استلامه مُخَالف لفعل الْجَاهِلِيَّة فِي
عِبَادَتهم الْأَصْنَام، لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ
أَنَّهَا تقربهم إِلَى الله زلفى، فنبه عمر على مُخَالفَة
هَذَا الِاعْتِقَاد، وَأَنه لَا يَنْبَغِي أَن يعبد إلاَّ
من يملك الضَّرَر والنفع، وَهُوَ الله جلّ جَلَاله،
وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: أَن قَول عمر لذَلِك طلب
مِنْهُ للآثار وَبحث عَنْهَا وَعَن مَعَانِيهَا. قَالَ:
وَلما رأى أَن الْحجر يسْتَلم وَلَا يعلم لَهُ سَبَب يظْهر
للحس، وَلَا من جِهَة الْعقل، ترك فِيهِ الرَّأْي
وَالْقِيَاس، وَصَارَ إِلَى مَحْض الِاتِّبَاع، كَمَا صنع
فِي الرمل. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِي حَدِيث عمر من
الْفِقْه أَن مُتَابعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَاجِبَة وَإِن لم يُوقف فِيهَا على علل مَعْلُومَة
وَأَسْبَاب معقولة، وَأَن أعيانها حجَّة على من بلغته
وَإِن لم يفقه مَعَانِيهَا، وَمن الْمَعْلُوم أَن تَقْبِيل
الْحجر إكرام وإعظام لحقه. قَالَ: وفضَّل الله بعض
الْأَحْجَار على بعض، كَمَا فضل بعضَ الْبِقَاع على بعض،
وَبَعض اللَّيَالِي وَالْأَيَّام على بعض. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: الْحِكْمَة فِي كَون الرُّكْن الَّذِي فِيهِ
الْحجر الْأسود يجمع فِيهِ بَين التَّقْبِيل والاستلام،
كَونه على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم، وَفِيه الْحجر الْأسود،
وَأَن الرُّكْن الْيَمَانِيّ اقْتصر فِيهِ على الاستلام
لكَونه على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم وَلم يقبَّل، وَإِن
الرُّكْنَيْنِ الغربيين لَا يقبلان وَلَا يستلمان لفقد
الْأَمريْنِ الْمَذْكُورين فيهمَا. قَوْله: (وَلَا تضر
وَلَا تَنْفَع) يَعْنِي إلاَّ بِإِذن الله، وروى الْحَاكِم
من حَدِيث أبي سعيد: (حجَجنَا مَعَ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فَلَمَّا دخل الطّواف اسْتقْبل الْحجر،
فَقَالَ: إِنِّي أعلم أَنَّك حجر لَا تضر وَلَا تَنْفَع،
وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قبَّلك مَا قبلتك، ثمَّ قبله، فَقَالَ عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّه يضر وينفع. قَالَ: بِمَ؟
قَالَ: بِكِتَاب الله تَعَالَى. عز وَجل {وَإِذ أَخذ رَبك
من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أَنفسكُم
أَلَسْت بربكم؟ قَالُوا: بلَى} (الْأَعْرَاف: 271) .
وَذَلِكَ أَن الله لما خلق آدم مسح يَده على ظَهره فقررهم
بِأَنَّهُ الرب، وَأَنَّهُمْ العبيد وَأخذ عهودهم
ومواثيقهم، وَكتب ذَلِك فِي رق، وَكَانَ لهَذَا الْحجر
عينان ولسان، فَقَالَ: إفتح، فَفتح فَاه فألقمه ذَلِك
الرّقّ، فَقَالَ: أشهد لمن وافاك بالموافاة يَوْم
الْقِيَامَة، وَأَنِّي أشهد لسمعت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: يُؤْتى يَوْم الْقِيَامَة
بِالْحجرِ الْأسود وَله لِسَان دلق يشْهد لمن يستلمه
بِالتَّوْحِيدِ، فَهُوَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يضر
وينفع. فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أعوذ
بِاللَّه من قوم لست فيهم يَا أَبَا الْحسن) . وَفِي
سَنَده أَبُو هَارُون، عمَارَة بن جُوَيْن ضَعِيف،
وَرَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ أَيْضا فِي (تَارِيخ مَكَّة)
وَفِي لَفظه: (أعوذ بِاللَّه أَن أعيش فِي قوم لست فيهم) .
وَمن الْحِكْمَة فِي تَقْبِيل الْحجر الْأسود غير مَا ذكر
عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر أَنه من أَحْجَار الْجنَّة على،
مَا يَأْتِي، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فالتقبيل ارتياح إِلَى
الْجنَّة وآثارها. وَمِنْهَا: (أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أخبر أَنه يَمِين الله فِي الأَرْض) ،
رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي (غَرِيب الحَدِيث) . وَفِي
(فَضَائِل مَكَّة) للجندي من حَدِيث ابْن جريج عَن
مُحَمَّد بن عباد بن جَعْفَر عَن ابْن عَبَّاس: (إِن هَذَا
الرُّكْن الْأسود هُوَ يَمِين الله فِي الأَرْض، يُصَافح
بِهِ عباده مصافحة الرجل أَخَاهُ) . وَمن حَدِيث الحكم بن
أبان عَن عِكْرِمَة عَنهُ زِيَادَة: (فَمن لم يدْرك بيعَة
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ اسْتَلم
الْحجر فقد بَايع الله وَرَسُوله) . وَفِي (سنَن ابْن
مَاجَه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من فاوض الْحجر الْأسود
فَكَأَنَّمَا يفاوض يَد الرَّحْمَن) . وَقَالَ الْمُحب
الطَّبَرِيّ: وَالْمعْنَى فِي كَونه يَمِين الله، وَالله
أعلم، أَن كل ملك إِذا قدم عَلَيْهِ قبلت يَمِينه، وَلما
كَانَ الْحَاج والمعتمر أول مَا يقدمان يسن لَهما تقبيله،
فَنزل منزلَة يَمِين الْملك، وَيَده، وَللَّه الْمثل
الْأَعْلَى، وَلذَلِك من صافحه كَانَ لَهُ عِنْد الله عهد،
كَمَا أَن الْملك يُعْطي الْعَهْد بالمصافحة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن تَقْبِيل الْحجر
الْأسود سنة، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: الْعَمَل على هَذَا
عِنْد أهل الْعلم يستحبون
(9/240)
تَقْبِيل الْحجر، فَإِن لم يُمكنهُ وَلم
يصل إِلَيْهِ اسْتَلم بِيَدِهِ، وَقيل يَده، وَإِن كَانَ
لم يصل إِلَيْهِ استقبله إِذا حَاذَى بِهِ وَكبر، وَهُوَ
قَول الشَّافِعِي انْتهى. وَخَالف مَالك فِي تَقْبِيل
الْيَد، فَقَالَ: يستلمه وَلَا يقبل يَده، وَهُوَ أحد
الْقَوْلَيْنِ عَنهُ، وَالْجُمْهُور على أَنه يستلمه ثمَّ
يقبل يَده، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأبي
هُرَيْرَة وَأبي سعيد وَجَابِر وَعَطَاء بن أبي رَبَاح
وَابْن أبي مليكَة وَعِكْرِمَة بن خَالِد وَسَعِيد بن
جُبَير وَمُجاهد وَعَمْرو بن دِينَار، وَهُوَ قَول أبي
حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وروى
الْحَاكِم من حَدِيث جَابر: (بَدَأَ بِالْحجرِ الْأسود
فاستلمه، وفاضت عَيناهُ بالبكاء وَقَبله، وَوضع يَده
عَلَيْهِ وَمسح بهما وَجهه) . وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث
ابْن عَبَّاس عَنهُ أَنه قبله ثَلَاثًا. وَعند الْحَاكِم:
وَسجد عَلَيْهِ، وَصحح إِسْنَاده، وَفِيه كَرَاهَة
تَقْبِيل مَا لم يرد الشَّرْع بتقبيله من الْأَحْجَار
وَغَيرهَا. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَأما قَول
الشَّافِعِي: وَمهما قبل من الْبَيْت فَحسن، فَإِنَّهُ لم
يرد بالْحسنِ مَشْرُوعِيَّة ذَلِك، بل أَرَادَ إِبَاحَة
ذَلِك، والمباح من جملَة الْحسن، كَمَا ذكره الأصوليون.
قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَقَالَ أَيْضا: وَأما تَقْبِيل
الْأَمَاكِن الشَّرِيفَة على قصد التَّبَرُّك، وَكَذَلِكَ
تَقْبِيل أَيدي الصَّالِحين وأرجلهم فَهُوَ حسن مَحْمُود
بِاعْتِبَار الْقَصْد وَالنِّيَّة، وَقد سَأَلَ أَبُو
هُرَيْرَة الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يكْشف
لَهُ الْمَكَان الَّذِي قبله، رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ سرته، فَقبله تبركا بآثاره
وَذريته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد كَانَ ثَابت
الْبنانِيّ لَا يدع يَد أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
حَتَّى يقبلهَا، وَيَقُول: يَد مست يَد رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أَيْضا: وَأَخْبرنِي
الْحَافِظ أَبُو سعيد ابْن العلائي قَالَ: رَأَيْت فِي
كَلَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي جُزْء قديم عَلَيْهِ خطّ
ابْن نَاصِر وَغَيره من الْحفاظ، أَن الإِمَام أَحْمد
سُئِلَ عَن تَقْبِيل قبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وتقبيل منبره، فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، قَالَ:
فأريناه للشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية فَصَارَ يتعجب
من ذَلِك، وَيَقُول: عجبت أَحْمد عِنْدِي جليل يَقُوله؟
هَذَا كَلَامه أَو معنى كَلَامه؟ وَقَالَ: وَأي عجب فِي
ذَلِك وَقد روينَا عَن الإِمَام أَحْمد أَنه غسل قَمِيصًا
للشَّافِعِيّ وَشرب المَاء الَّذِي غسله بِهِ، وَإِذا
كَانَ هَذَا تَعْظِيمه لأهل الْعلم فَكيف بمقادير
الصَّحَابَة؟ وَكَيف بآثار الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم
الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ وَلَقَد أحسن مَجْنُون ليلى حَيْثُ
يَقُول:
(أَمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذَا الْجِدَار وَذَا
الْجِدَار)
(وَمَا حب الدَّار شغفن قلبِي ... وَلَكِن حبُّ من سكن
الديارا)
وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَيُمكن أَن يستنبط من
تَقْبِيل الْحجر واستلام الْأَركان جَوَاز تَقْبِيل مَا
فِي تقبيله تَعْظِيم الله تَعَالَى، فَإِنَّهُ إِن لم يرد
فِيهِ خبر بالندب لم يرد بِالْكَرَاهَةِ. قَالَ: وَقد
رَأَيْت فِي بعض تعاليق جدي مُحَمَّد بن أبي بكر، عَن
الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن أبي الصَّيف: أَن
بَعضهم كَانَ إِذا رأى الْمَصَاحِف قبلهَا، وَإِذا رأى
أَجزَاء الحَدِيث قبلهَا، وَإِذا رأى قُبُور الصَّالِحين
قبلهَا، قَالَ: وَلَا يبعد هَذَا، وَالله أعلم فِي كل مَا
فِيهِ تَعْظِيم لله تَعَالَى.
وَفِيه: فِي قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
التَّسْلِيم للشارع فِي أُمُور الدّين وَحسن الإتباع
فِيمَا لم يكْشف عَن مَعَانِيهَا. وَقَالَ الْخطابِيّ:
فِيهِ: تَسْلِيم الْحِكْمَة وَترك طلب الْعِلَل وَحسن
الإتباع فِيمَا لم يكْشف لنا عَنهُ من الْمَعْنى، وَأُمُور
الشَّرِيعَة على ضَرْبَيْنِ: مَا كشف عَن علته وَمَا لم
يكْشف، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّسْلِيم.
وَفِيه: قَاعِدَة عَظِيمَة فِي اتِّبَاع النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيمَا يَفْعَله وَلَو لم يعلم
الْحِكْمَة فِيهِ. وَفِيه: دفع مَا وَقع لبَعض الْجُهَّال
من أَن فِي الْحجر الْأسود خاصية ترجع إِلَى ذَاته.
وَفِيه: بَيَان السّنَن بالْقَوْل وَالْفِعْل. وَفِيه: أَن
للْإِمَام إِذا خشِي على أحد من فعله فَسَادًا اعْتِقَاده
أَن يُبَادر إِلَى بَيَان الْأَمر ويوضح ذَلِك.
فَائِدَة: روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي
الْحجر الْأسود: (وَإنَّهُ ليَبْعَثهُ الله تَعَالَى يَوْم
الْقِيَامَة، لَهُ عينان يبصر بهما، ولسان ينْطق بِهِ
يشْهد على من استلمه بِحَق) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه
أَيْضا، وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وروى الْحَاكِم فِي
(الْمُسْتَدْرك) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْأَوْسَط)
من حَدِيث عبد الله ابْن عَمْرو: أَن رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يُؤْتى الرُّكْن يَوْم
الْقِيَامَة أعظم من أبي قبيس، لَهُ لِسَان وشفتان
يتَكَلَّم عَمَّن استلمه بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ يَمِين الله
الَّتِي يُصَافح بهَا خلقه) . قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح.
وَفِيه: جَوَاز كَلَام الجمادات، وَمِنْه تَسْبِيح
الْحَصَى وَكَلَام الْحجر وَوُجُود اللِّسَان والعينين
للحجر الْأسود هَل يخلقه الله تَعَالَى فِيهِ يَوْم
الْقِيَامَة أَو هُوَ مَوْجُود فِيهِ قبل ذَلِك؟
وَإِنَّمَا هُوَ أَمر خَفِي غامض يحْتَمل الْأَمريْنِ.
وَفِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
الْمَوْقُوف عَلَيْهِ أَن هَذَا الْوَصْف كَانَ مَوْجُودا
لَهُ من يَوْم {لست بربكم} (الْأَعْرَاف: 271) . قَوْله:
(يشْهد على من استلمه) ، على: هُنَا بِمَعْنى: اللَّام،
وَقد ورد فِي رِوَايَة الأحمد والدارمي فِي مسنديهما يشْهد
لمن استلمه بِحَق وَكَذَلِكَ
(9/241)
فِي (صَحِيح ابْن حبَان) . وَقَوله: (بِحَق) ، يحْتَمل أَن
يتَعَلَّق بقوله: يشْهد، وَيحْتَمل أَن يتَعَلَّق بقوله:
استلمه، وروى معمر عَن رجل عَن الْمنْهَال ابْن عَمْرو عَن
مُجَاهِد أَنه قَالَ: يَأْتِي الْحجر وَالْمقَام يَوْم
الْقِيَامَة كل وَاحِد مِنْهُمَا مثل أحد، فيناديان
بِأَعْلَى صوتهما يَشْهَدَانِ لمن وافاهما بِالْوَفَاءِ،
وَعَن أنس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: الرُّكْن وَالْمقَام ياقوتتان من يَوَاقِيت
الْجنَّة. قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَعَن
ابْن عمر قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: (الرُّكْن وَالْمقَام ياقوتتان من يَوَاقِيت
الْجنَّة طمس الله نورهما، وَلَوْلَا ذَلِك لأضاء مَا بَين
الْمشرق وَالْمغْرب) . أخرجه الْحَاكِم، وَأخرجه
الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد على شَرط مُسلم، وَزَاد: (وَلَوْلَا
مَا مسهما من خَطَايَا بني آدم، مَا مسهما من ذِي عاهة
إلاَّ شفي، وَمَا على الأَرْض من الْجنَّة غَيره) . وَعَن
ابْن عَبَّاس رَفعه: (لَوْلَا مَا طبع الله الرُّكْن من
أنجاس الْجَاهِلِيَّة وأرجاسها وأيدي الظلمَة
وَالْأَئِمَّة لاستشفي بِهِ من كل عاهة، ولألقاه الله
كَهَيْئَته يَوْم خلقه تَعَالَى، وَإِنَّمَا غَيره الله
تَعَالَى بِالسَّوَادِ لِئَلَّا ينظر أهل الدُّنْيَا إِلَى
زِينَة الْجنَّة، وَأَنه لياقوتة من ياقوت الْجنَّة
بَيْضَاء، وَضعه لآدَم حَيْثُ أنزلهُ فِي مَوضِع
الْكَعْبَة، وَالْأَرْض يَوْمئِذٍ طَاهِرَة لم يعْمل
فِيهَا شَيْء من الْمعاصِي، وَلَيْسَ لَهَا أهل ينجسونها،
وَوضع لَهَا صفا من الْمَلَائِكَة على أَطْرَاف الْحرم
يحرسونه من جَان الأَرْض، وسكانها يَوْمئِذٍ الْجِنّ،
وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَهُم أَن ينْظرُوا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ
شَيْء من الْجنَّة، وَمن نظر إِلَى الْجنَّة دَخلهَا فهم
على أَطْرَاف الْحرم حَيْثُ أَعْلَامه ليَوْم يحدقون بِهِ
من كل جَانب، بَينه وَبَين الْحرم، وروى الطَّبَرَانِيّ
عَن عَائِشَة: (اسْتَمْتعُوا من هَذَا الْحجر الْأسود قبل
أَن يرفع فَإِنَّهُ خرج من الْجنَّة، وَأَنه لَا يَنْبَغِي
لشَيْء خرج من الْجنَّة أَن لَا يرجع إِلَيْهَا قبل يَوْم
الْقِيَامَة) . وَفِي رِوَايَة الجندي عَن مُجَاهِد:
الرُّكْن من الْجنَّة وَلَو لم يكن مِنْهَا لفني. وَعند
الجندي عَن سعيد بن الْمسيب: (الرُّكْن وَالْمقَام حجران
من حِجَارَة الْجنَّة) .
أُخْرَى: كَانَ أَبُو طَاهِر القرمطي من الباطنية وَقَالَ
بِسوء رَأْيه: هَذَا الْحجر مغنطيس بني آدم، فجَاء إِلَى
مَكَّة وَقلع الْبَاب وأصعد رجلا من أَصْحَابه ليقطع
الْمِيزَاب، فتردى على رَأسه إِلَى جَهَنَّم وَبئسَ المآب،
وَأخذ أسلاب مَكَّة والحاج وَألقى الْقَتْلَى فِي بِئْر
زَمْزَم فَهَلَك تَحت الْحجر من مَكَّة إِلَى الْكُوفَة
أَرْبَعُونَ جملا، فعلقه لعنة الله عَلَيْهِ على الأسطوانة
السَّابِعَة من جَامع الْكُوفَة من الْجَانِب الغربي ظنا
مِنْهُ أَن الْحَج ينْتَقل إِلَى الْكُوفَة، قَالَ ابْن
دحْيَة: ثمَّ حمل الْحجر إِلَى هجر سنة سبع عشرَة
وثلاثمائة، وَبَقِي عِنْد القرامطة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين
سنة إلاَّ شهرا، ثمَّ رد لخمس خلون من ذِي الْحجَّة سنة
تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة، وَكَانَ يحكم التركي بذل
لَهُم فِي دِرْهَم خمسين ألف دِينَار، فَمَا فعلوا
وَقَالُوا: أخذناه بِأَمْر وَلَا نرده إلاَّ بِأَمْر
وَقيل: إِن القرمطي بَاعَ الْحجر من الْخَلِيفَة المقتدر
بِثَلَاثِينَ ألف دِينَار، ثمَّ أرسل الْحجر إِلَى مَكَّة
على قعُود أعجف، فسمن تَحْتَهُ وَزَاد حسنه إِلَى مَكَّة،
شرفها الله تَعَالَى. |