عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 15 - (بابُ إغلاقِ البَيْتِ ويُصَلِّي فِي
أيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شاءَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إغلاق بَاب الْكَعْبَة
الْبَيْت الْحَرَام، يُقَال: أغلقت الْبَاب فَهُوَ مغلق،
والأسم الغلق، وغلقت الْبَاب غلقا لُغَة رَدِيئَة، قَالَه
الْجَوْهَرِي، وغلَّقت الْأَبْوَاب شدد للكثرة. قَوْله:
(وَيُصلي) أَي: الدَّاخِل فِي الْبَيْت يُصَلِّي فِي أَي
نَاحيَة شَاءَ من نواحي الْبَيْت، وكل نَاحيَة من نواحي
الْبَيْت من دَاخله سَوَاء، كَمَا أَن كل نواحيه من خَارجه
فِي الصَّلَاة إِلَيْهِ سَوَاء. وَفِي (التَّوْضِيح) :
قَالَ الشَّافِعِي: من صلى فِي جَوف الْبَيْت مُسْتَقْبلا
حَائِطا من حيطانها فَصلَاته جَائِزَة، وَإِن صلى نَحْو
بَاب الْبَيْت وَكَانَ مغلقا، فَكَذَلِك وَإِن كَانَ
مَفْتُوحًا فباطلة، لِأَنَّهُ لم يسْتَقْبل شَيْئا
مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ اسْتدلَّ على ذَلِك بغلق بَاب
الْكَعْبَة حِين صلوا. وَقد يُقَال: إِنَّمَا أغلقه
لِكَثْرَة النَّاس عَلَيْهِ فصلوا بِصَلَاتِهِ، وَيكون
ذَلِك عِنْدهم من مَنَاسِك الْحَج، كَمَا فعل فِي صَلَاة
اللَّيْل حِين لم يخرج إِلَيْهِم خشيَة أَن يكْتب
عَلَيْهِم، وَمَتى فتح، وَكَانَت العتبة قدر ثُلثي ذِرَاع
صحت أَيْضا، وَلَا يرد عَلَيْهِ مَا إِذا انْهَدَمت وَصلى
كَمَا ألزمنا ابْن الْقصار بِهِ، لِأَنَّهُ صلى إِلَى
الْجِهَة. انْتهى. قَالَ النَّوَوِيّ: إِذا كَانَ الْبَاب
مسدودا أَو لَهُ عتبَة قدر ثُلثي ذِرَاع يجوز، هَذَا هُوَ
الصَّحِيح، وَفِي وَجه: يقدر بِذِرَاع، وَقيل: يَكْفِي
شخوصها، وَقيل: يشْتَرط قدر قامة طولا وعرضا، وَلَو وضع
بَين يَدَيْهِ مَتَاعا واستقبله لم يجزه. قلت: الصَّلَاة
فِي الْكَعْبَة جَائِزَة فَرضهَا ونفلها، وَهُوَ قَول
عَامَّة أهل الْعلم، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي. وَقَالَ
مَالك: لَا يصلى فِي الْبَيْت وَالْحجر فَرِيضَة وَلَا
رَكعَتَا الطّواف الواجبتان وَلَا الْوتر وَلَا رَكعَتَا
الْفجْر، وَغير ذَلِك، لَا بَأْس بِهِ، ذكره فِي ذخيرتهم.
وَذكر الْقُرْطُبِيّ فِي (تَفْسِيره) : عَن مَالك أَنه:
لَا يُصَلِّي الْفَرْض وَلَا السّنَن، وَيُصلي
التَّطَوُّع، فَإِن صلى فِيهِ مَكْتُوبَة
(9/242)
أعَاد فِي الْوَقْت كمن صلى إِلَى غير
الْقبْلَة بالإجتهاد. وَعند ابْن حبيب وَأصبغ: يُعِيد
أبدا، وَبقول مَالك قَالَ أَحْمد، وَقَالَ ابْن عبد الحكم:
لَا يُعِيد مُطلقًا، وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ منع
الْجَمِيع فِيهَا.
8951 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أبِيهِ
أنَّهُ قالَ دَخَلَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْبَيْتَ هُوَ وأسَامةُ بنُ زَيْدٍ وبِلالٌ وَعُثْمَانُ
بنُ طَلْحَةَ فأغْلَقُوا عليْهِمْ فلَمَّا فتَحُوا كُنْتُ
أوَّلَ منْ ولَجَ فلَقِيتُ بِلالاً فسَألْتُهُ هَلْ صَلَّى
فِيهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَعَمْ
بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِييْنِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أغلقوا عَلَيْهِم)
فَإِن قلت: من جملَة التَّرْجَمَة قَوْله: (وَيُصلي فِي
أَي نواحي الْبَيْت شَاءَ) ، وَهَذَا يدل على التَّخْيِير،
وَفِي الحَدِيث بَين اليمانيين، وَهُوَ يدل على
التَّعْيِين فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة. قلت: لم تكن
صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْموضع قصدا،
وَإِنَّمَا وَقع اتِّفَاقًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي
التَّخْيِير، وَلَئِن سلمنَا أَنه كَانَ قصدا، وَلَكِن لم
يكن قَصده تحتما وَإِنَّمَا كَانَ اخْتِيَارا لذَلِك
الْموضع لمزية فضلَة على غَيره، فَلَا يدل على
التَّعْيِين.
وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم. وَأخرجه مُسلم أَيْضا
فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة، وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دخل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْبَيْت) أَي: الْكَعْبَة، وَكَانَ ذَلِك
فِي عَام الْفَتْح، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة يُونُس بن
يزِيد عَن نَافِع عِنْد البُخَارِيّ، كَمَا فِي كتاب
الْجِهَاد. وَلَفظه: (أقبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَوْم الْفَتْح من أَعلَى مَكَّة على رَاحِلَته) ،
وَفِي رِوَايَة فليح عَن نَافِع فِي الْمَغَازِي: وَهُوَ
مردف أُسَامَة يَعْنِي ابْن زيد على الْقَصْوَاء، ثمَّ
اتفقَا، وَمَعَهُ بِلَال وَعُثْمَان بن طَلْحَة حَتَّى
أَنَاخَ فِي الْمَسْجِد، وَفِي رِوَايَة فليح: عِنْد
الْبَيْت، وَقَالَ لعُثْمَان: ائتنا بالمفتاح، فَجَاءَهُ
بالمفتاح فَفتح لَهُ الْبَاب فَدخل، وَفِي رِوَايَة مُسلم
وَعبد الرَّزَّاق من رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع: ثمَّ
دعى عُثْمَان بن طَلْحَة بالمفتاح فَذهب إِلَى أمه فَأَبت
أَن تعطيه، فَقَالَ: وَالله لتعطينه أَو لأخْرجَن هَذَا
السَّيْف من صلبي، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِك أَعطَتْهُ، فجَاء
إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفتح الْبَاب.
وَظهر من رِوَايَة فليح أَن فَاعل: فتح، هُوَ عُثْمَان
الْمَذْكُور، وَلَكِن روى الفاكهي من طَرِيق ضَعِيف عَن
ابْن عمر قَالَ: كَانَ بَنو أبي طَلْحَة يَزْعمُونَ أَنه
لَا يَسْتَطِيع أحد فتح الْكَعْبَة غَيرهم، فَأخذ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمِفْتَاح فَفَتحهَا
بِيَدِهِ، وَعُثْمَان الْمَذْكُور هُوَ عُثْمَان بن
طَلْحَة بن أبي طَلْحَة بن عبد الْعُزَّى بن عبد الدَّار
بن قصي بن كلاب، وَيُقَال لَهُ: الحَجبي، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَالْجِيم، ولآل بَيته الحجبة لحجبهم
الْكَعْبَة، ويعرفون الْآن بالشيبين نِسْبَة إِلَى شيبَة
بن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة، وَهُوَ ابْن عَم عُثْمَان
هَذَا لَا وَلَده، وَله أَيْضا صُحْبَة وَرِوَايَة، وَاسم
أم عُثْمَان الْمَذْكُور: سلافة، بِضَم السِّين
الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام وَفتح الْفَاء. قَوْله:
(هُوَ وَأُسَامَة) ، هُوَ: ضمير الْفَصْل يرجع إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَة أَنهم دخلُوا الْبَيْت مَعَ النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق آخر:
وَلم يدخلهَا مَعَهم أحد، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من
طَرِيق ابْن عدي عَن نَافِع: وَمَعَهُ الْفضل بن عَبَّاس
فيكونون أَرْبَعَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد فِي حَدِيث ابْن
عَبَّاس: حَدثنِي أخي الْفضل، وَكَانَ مَعَه حِين دَخلهَا،
أَنه لم يصلِّ فِي الْكَعْبَة. قَوْله: (فأغلقوا
عَلَيْهِم) ، أَي: الْبَاب، وَفِي رِوَايَة حسان بن
عَطِيَّة عَن نَافِع عِنْد أبي عوَانَة: من دَاخل، وَزَاد
يُونُس: فَمَكثَ نَهَارا طَويلا، وَفِي رِوَايَة فليح:
زَمَانا، بدل: نَهَارا. وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية عَن
نَافِع الَّتِي مَضَت فِي أَوَائِل الصَّلَاة فِي: بَاب
الصَّلَاة بَين السَّوَارِي: فَأطَال، وَفِي رِوَايَة
مُسلم من رِوَايَة ابْن عون عَن نَافِع: فَمَكثَ فِيهَا
مَلِيًّا وَله من عبيد الله عَن نَافِع، فأجافوا عَلَيْهِم
الْبَاب طَويلا، وَمن رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع،
(فَمَكثَ فِيهَا سَاعَة) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من
طَرِيق ابْن أبي مليكَة: (فَوجدت شَيْئا فَذَهَبت، ثمَّ
جِئْت سَرِيعا فَوجدت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
خَارِجا مِنْهَا) . فَإِن قلت: وَقع فِي (الْمُوَطَّأ)
فأغلقاها عَلَيْهِ، وَالضَّمِير لعُثْمَان وبلال، وَوَقع
فِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن عون عَن نَافِع: (فأجاف
عَلَيْهِم عُثْمَان الْبَاب. قلت: كَانَ عُثْمَان هُوَ
الْمُبَاشر لذَلِك لِأَنَّهُ من وظيفته، وَالظَّاهِر أَن
بِلَالًا كَانَ ساعده فِي ذَلِك، فأضيف إِلَيْهِ لكَونه
مساعدا. قَوْله: (فَلَمَّا فتحُوا كنت أول من ولج) ، أَي:
دخل، من الولوج، وَهُوَ الدُّخُول، وَفِي رِوَايَة فليح:
(ثمَّ خرج فابتدر النَّاس: الدُّخُول، فسبقتهم) . وَفِي
رِوَايَة أَيُّوب: (وَكنت رجلا
(9/243)
شَابًّا قَوِيا فبادرت النَّاس فبدرتهم) .
وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية: (كنت أول النَّاس ولج على إثره)
. وَفِي رِوَايَة ابْن عون: (فرقيت الدرجَة فَدخلت
الْبَيْت) ، وَفِي رِوَايَة مُجَاهِد الَّتِي مَضَت فِي:
بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من مقَام
إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) . فِي أَوَائِل كتاب
الصَّلَاة عَن ابْن عمر وَأَجد بِلَالًا قَائِما بَين
النَّاس، وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي كتاب مَكَّة أَن خَالِد
بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ على
الْبَاب يذب عَنهُ النَّاس، وَكَأَنَّهُ جَاءَ بَعْدَمَا
دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأغلق. قَوْله:
(فَلَقِيت بِلَالًا فَسَأَلته) . وَفِي رِوَايَة مَالك عَن
نَافِع الَّتِي مَضَت فِي: بَاب الصَّلَاة بَين
السَّوَارِي، فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة، فَسَأَلت
بِلَالًا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين خرج مَا صنع
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الحَدِيث. وَفِي
رِوَايَة جوَيْرِية وَيُونُس وَجُمْهُور أَصْحَاب نَافِع
فَسَأَلت بِلَالًا أَيْن صلى؟ اختصروا أول السُّؤَال،
وَثَبت فِي رِوَايَة سَالم الْمَذْكُور فِي حَدِيث الْبَاب
حَيْثُ قَالَ: هَل صلى فِيهِ؟ قَالَ: نعم. وَكَذَا فِي
رِوَايَة مُجَاهِد وَابْن أبي مليكَة عَن ابْن عمر، فَقلت:
أصلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْكَعْبَة؟
قَالَ: نعم، فَظهر أَنه استثبت أَولا: هَل صلى أم لَا؟
ثمَّ سَأَلَ عَن مَوضِع صلَاته من الْبَيْت، وَوَقع فِي
رِوَايَة يُونُس عَن ابْن شهَاب عِنْد مُسلم: فَأَخْبرنِي
بِلَال أَو عُثْمَان بن طَلْحَة، على الشَّك،
وَالْمَحْفُوظ أَنه سَأَلَ بِلَالًا، كَمَا فِي رِوَايَة
الْجُمْهُور، وَوَقع عِنْد أبي عوَانَة من طَرِيق
الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن ابْن عمر: أَنه سَأَلَ
بِلَالًا وَأُسَامَة بن زيد حِين خرجا: أَيْن صلى
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ؟ فَقَالَا: على
جِهَته، وَكَذَا أخرجه الْبَزَّار نَحوه، وَفِي رِوَايَة
أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي الشعْثَاء عَن ابْن
عمر، فَقَالَ: أَخْبرنِي أُسَامَة أَنه صلى فِيهِ هَهُنَا.
وَفِي رِوَايَة مُسلم وَالطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر
(فَقلت: أَيْن صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟)
فَقَالَ: فَإِن كَانَ مَحْفُوظًا حمل على أَنه ابْتَدَأَ
بِلَالًا بالسؤال، كَمَا تقدم تَفْصِيله، ثمَّ أَرَادَ
زِيَادَة الاستثباب فِي مَكَان الصَّلَاة، فَسَأَلَ
عُثْمَان أَيْضا وَأُسَامَة. فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا وَقد
أخرج مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، أَن أُسَامَة بن زيد أخبرهُ أَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصل فِيهِ، وَلكنه كبَّر فِي
نواحيه؟ قلت: وَجه الْجمع بَينهمَا أَن أُسَامَة حَيْثُ
أثبتها اعْتمد فِي ذَلِك على غَيره، وَحَيْثُ نفاها
أَرَادَ مَا فِي علمه لكَونه لم يرَ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، حِين صلى، وَجَوَاب آخر أَنه يحْتَمل أَن
يكون أُسَامَة غَابَ عَنهُ بعد دُخُوله لحَاجَة، فَلم
يشْهد صلَاته، وَبِه أجَاب الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَيدل
عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر من حَدِيث أُسَامَة
أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى صورا فِي
الْكَعْبَة، فَكنت آتيه بِمَاء فِي الدَّلْو يضْرب بِهِ
الصُّور، فقد أخبر أُسَامَة أَنه كَانَ يخرج لنقل المَاء،
وَكَانَ ذَلِك كُله يَوْم الْفَتْح، وَقَالَ ابْن حبَان
الْأَشْبَه عِنْدِي أَن يحمل الخبران على دخولين متغايرين:
أَحدهمَا يَوْم الْفَتْح وَصلى فِيهِ، وَالْآخر: فِي حجَّة
الْوَدَاع وَلم يصلِّ فِيهِ) من غير أَن يكون بَينهمَا
تضَاد، وَمِمَّا يرجح بِهِ إِثْبَات صلَاته، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْبَيْت على من نفاها كَثْرَة
الروَاة لَهَا، فَالَّذِينَ أثبتوها بِلَال وَعمر بن
الْخطاب وَعُثْمَان بن طَلْحَة وَشَيْبَة بن عُثْمَان،
وَالَّذين نفوها أُسَامَة وَالْفضل بن عَبَّاس وَعبد الله
بن الْعَبَّاس، وَأما الْفضل فَلَيْسَ فِي الصَّحِيح أَنه
دخل مَعَهم، وَأما ابْن عَبَّاس فَإِنَّهُ أخبر عَن أَخِيه
الْفضل وَلم يدْخل مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، الْبَيْت. وَمن الْأَجْوِبَة أَن الْقَاعِدَة
تَقْدِيم الْمُثبت على النَّافِي. قَوْله: (بَين العمودين
اليمانيين) ، وَفِي رِوَايَة جوَيْرِية: (بَين العمودين
المقدمين) ، وَفِي رِوَايَة مَالك عَن نَافِع: (جعل عمودا
عَن يَمِينه وعمودا عَن يسَاره) . وَوَقع فِي رِوَايَة
فليح الْآتِيَة فِي الْمَغَازِي: (بَين ذَيْنك العمودين
المقدمين) ، وَكَانَ الْبَيْت على سِتَّة أعمدة، شطرين صلى
بَين العمودين من الشّطْر الْمُقدم وَجعل بَاب الْبَيْت
خلف ظَهره، وَقَالَ فِي آخر رِوَايَته: (وَعند الْمَكَان
الَّذِي صلى فِيهِ مرمرة حَمْرَاء) ، وكل هَذَا إِخْبَار
عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْبَيْت قبل أَن يهدم، ويبنى فِي
زمن ابْن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَوْله:
(اليمانيين) ، بتَخْفِيف الْيَاء لأَنهم جعلُوا الْألف بدل
إِحْدَى ياءي النِّسْبَة، وَجوز سِيبَوَيْهٍ التَّشْدِيد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مَشْرُوعِيَّة الدُّخُول
الْبَيْت بِدَلِيل دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن
مَعَه، ومشروعية الصَّلَاة فِيهِ، وَفِي (شرح الْمُهَذّب)
: يسْتَحبّ دُخُول الْكَعْبَة وَالصَّلَاة فِيهَا، وَأَقل
مَا يصلى رَكْعَتَيْنِ، زَاد فِي الْمَنَاسِك: جَافيا،
وروى الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من دخل الْبَيْت دخل فِي
حَسَنَة وَخرج من سَيِّئَة مغفورا لَهُ) . وَفِي سَنَده
عبد الله بن المؤمل وَفِيه مقَال، وَرَوَاهُ ابْن أبي
شيبَة فِي (مُصَنفه) وَجعله من قَول مُجَاهِد، وَحكى
الْقُرْطُبِيّ عَن بعض الْعلمَاء أَن دُخُول الْبَيْت من
مَنَاسِك الْحَج، ورده بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِنَّمَا دخله عَام الْفَتْح وَلم يكن حِينَئِذٍ
محرما، يسْتَحبّ للداخل أَن لَا يرفع بَصَره إِلَى السّقف
(9/244)
قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا: عجبا للمرء إِذا دخل الْكَعْبَة كَيفَ يرفع
بَصَره قبل السّقف، يدع ذَلِك إجلالاً لله تَعَالَى،
وإعظاما لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْكَعْبَة خلف بَصَره مَوضِع سُجُوده، حَتَّى خرج
مِنْهَا. قَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرطهمَا. وَقَالَ
ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: هَذَا حَدِيث مُنكر. وَفِي
(التلويج) وَقد أَسف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
دُخُولهَا. قَالَت عَائِشَة: (دخل عَليّ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ حَزِين، فَقلت: يَا رَسُول الله!
خرجت من عِنْدِي وَأَنت قرير الْعين طيب النَّفس، فَمَا
بالك؟ فَقَالَ: إِنِّي دخلت الْكَعْبَة، وودت أَنِّي لم
أكن فعلته إِنِّي أَخَاف أَن أكون قد أَتعبت أمتِي من
بعدِي) قلت: الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ، وَالْحَاكِم وَصَححهُ، وَابْن
خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا
الدُّخُول فِي حجَّته، وَلَا يُخَالف حَدِيث ابْن أبي أوفى
أَنه لم يدْخل، لِأَن حَدِيثه فِي الْعمرَة على مَا
رَوَاهُ مُسلم من حَدِيثه أَنه سُئِلَ: أَدخل النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عمرته الْبَيْت؟ فَقَالَ: لَا،
وَإِنَّمَا لم يدْخل فِي عمرته لما كَانَ فِي الْبَيْت من
الْأَصْنَام والصور، وَكَانَ إِذْ ذَاك لَا يتَمَكَّن من
إِزَالَتهَا بِخِلَاف عَام الْفَتْح، وَالله أعلم.
25 - (بابُ الصَّلاةِ فِي الكَعْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاة فِي
الْكَعْبَة.
9951 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرَنَا
عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مُوسى بنُ عُقْبَةَ عنْ نَافِعٍ
عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ
كانَ إذَا دَخَلَ الْكَعْبَةِ مَشَى قِبَلَ الوَجْهِ حِينَ
يَدْخُلُ ويجْعَلُ البابَ قِبَلَ الظُّهْرِ يَمْشي حَتَّى
يكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ
وَجْهِهِ قَرِيبا مِنْ ثَلاثِ أذْرُعٍ فيُصَلِّي
يَتَوَخَّى المَكَانَ الَّذِي أخْبَرَهُ بِلالٌ أنَّ رسولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ ولَيْسَ عَلى
أحَدٍ بأسٌ فِي أنْ يُصَلِّيَ فِي أيِّ نَوَاحِيَ البَيْتِ
شاءَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث قد مر فِي:
بَاب الصَّلَاة بَين السَّوَارِي فِي كتاب الصَّلَاة،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِبْرَاهِيم ابْن الْمُنْذر
عَن أبي ضَمرَة عَن مُوسَى بن عقبَة، وَهنا أخرجه عَن
أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى أبي الْعَبَّاس السمسار
الْمروزِي، وَقد مر فِي كتاب الْوضُوء عَن عبد الله هُوَ
ابْن الْمُبَارك الْمروزِي. قَوْله: (قبل الْوَجْه) ،
بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، بِمَعْنى
الْمُقَابل، قَوْله: (قَرِيبا) نصب على أَنه خبر، قَوْله:
يكون، واسْمه مَحْذُوف تَقْدِيره: حَتَّى يكون الْمِقْدَار
أَو الْمسَافَة قَرِيبا من ثَلَاثَة أَذْرع. قَوْله:
(يتوخى) ، جملَة وَقعت حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي:
فَيصَلي، وَهُوَ بتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة أَي:
يقْصد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
35 - (بابُ مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الكَعْبَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر من لم يدْخل الْكَعْبَة حِين حج،
وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الرَّد على من زعم أَن
دُخُول الْكَعْبَة من مَنَاسِك الْحَج، وَذكر فِي
الِاحْتِجَاج فِي ذَلِك فعل ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، لِأَنَّهُ أشهر من روى عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم دُخُول الْكَعْبَة، فَلَو كَانَ دُخُولهَا
عِنْده من الْمَنَاسِك، لما أخل بِهِ مَعَ كَثْرَة
أَتْبَاعه.
وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يحُجُّ
كَثِيرا ولاَ يَدْخُلُ
وصل هَذَا الْمُعَلق سُفْيَان الثَّوْريّ فِي (جَامعه)
رِوَايَة عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي عَنهُ عَن
حَنْظَلَة عَن طَاوُوس، قَالَ: كَانَ ابْن عمر يحجّ كثيرا
وَلَا يدْخل الْبَيْت. وَفِي (التَّلْوِيح) : هَذَا معَارض
لما ذكره البُخَارِيّ قبل: (كَانَ ابْن عمر إِذا دخل
الْكَعْبَة مَشى) الحَدِيث. قلت: لَا مُعَارضَة لِأَنَّهُ
يحمل على وَقت دون وَقت، وروى مُسلم عَن ابْن عَبَّاس:
إِنَّمَا أمرْتُم بِالطّوافِ وَلم تؤمروا بِدُخُولِهِ:
أَخْبرنِي أُسَامَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لما دخل الْبَيْت دَعَا فِي نواحيه كلهَا، وَلم
يصلِّ فِيهِ حَتَّى خرج، فَلَمَّا خرج ركع فِي قبل
الْبَيْت
(9/245)
رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ: هَذِه الْقبْلَة،
وَزَاد الْحَاكِم: قَالَ عَطاء لم يكن يُنْهِي عَن
دُخُوله، وَلَكِن سمعته يَقُول: أَخْبرنِي أُسَامَة، وَعند
ابْن أبي شيبَة: قَالَ ابْن عَبَّاس: يَا أَيهَا النَّاس!
إِن دخولكم الْبَيْت لَيْسَ من حَجكُمْ فِي شَيْء،
وَسَنَده صَحِيح، وَعَن إِبْرَاهِيم: إِن شَاءَ دخل وَإِن
شَاءَ لم يدْخل. وَقَالَ خَيْثَمَة: لَا يَضرك وَالله أَن
لَا تدخله.
0061 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا خالِدُ بنُ عَبْدِ
الله قَالَ حدَّثنا إسماعِيلُ بنُ أبي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ
الله بنِ أبِي أوْفَى اعْتَمَرَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَطَافَ بِالبَيْتِ وصَلى خَلْفَ المَقَامِ
رَكْعَتَيْنِ ومعَهُ منْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فقَالَ
لَهُ رجُلٌ أدَخَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْكَعْبَةَ قَالَ لَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله أَرْبَعَة،
وخَالِد بن عبد الله هُوَ الطَّحَّان الْبَصْرِيّ، وَهَذَا
الْإِسْنَاد نصفه بَصرِي وَنصفه كُوفِي.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
عَن جرير، وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد
الله بن نمير، وَعَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن مُسَدّد عَن خَالِد
وَعَن تَمِيم بن الْمُنْتَصر عَن إِسْحَاق بن يُوسُف عَن
شريك، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن
يحيى بن سعيد وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِيهِ عَن ابْن نمير.
قَوْله: (اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ،
المُرَاد بِهِ عمْرَة الْقَضَاء، فَكَانَت فِي سنة سبع من
الْهِجْرَة قبل فتح مَكَّة. قَوْله: (خلف الْمقَام) أَي:
مقَام إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَالْوَاو فِي (وَمَعَهُ) للْحَال. قَوْله: (أدَخَلَ؟)
الْهمزَة للاستفهام، وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ
الْعلمَاء: سَبَب ترك دُخُوله مَا كَانَ فِي الْبَيْت من
الْأَصْنَام والصور، وَلم يكن الْمُشْركُونَ يتركونه
ليغيرها، فَلَمَّا كَانَ الْفَتْح أمرنَا بِإِزَالَة
الصُّور ثمَّ دَخلهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: كَانَت
الْأَصْنَام ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ صنما، لأَنهم كَانُوا
يعظمون كل يَوْم صنما ويخصون أعظمها بصنمين، وروى الإِمَام
أَحْمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي (مُسْنده) (عَن
جَابر، قَالَ: كَانَ فِي الْكَعْبَة صور، فَأمر النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أَن يمحوها فَبل عمر ثوبا ومحاها بِهِ،
فَدَخلَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا فِيهَا شَيْء) .
45 - (بابُ مَنْ كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْكَعْبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ من كبر فِي نواحي الْكَعْبَة.
1061 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ
الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ قَالَ حدَّثنا عِكْرِمَةُ
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ
إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَّا قَدِمَ
أبَى أنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ فأمَرَ
بِهَا فَأُخْرِجَتْ فأخْرَجُوا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ
وإسْمَاعِيلَ فِي أيْدِيهِمَا الأزْلاَمُ فقالَ رَسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قاتَلَهُمُ الله أمَا وَالله
قَدْ عَلِمُوا أنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا فدَخَلَ
الْبَيْتَ فكَبَّرَ فِي نَوَاحِيِهِ ولَمْ يُصَلِّ فِيهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَكبر فِي نواحيه) ،
وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عمر، والمقعد
الْبَصْرِيّ وَعبد الْوَارِث بن سعيد، وَأَيوب
السّخْتِيَانِيّ، وَفِي (التَّوْضِيح) : والْحَدِيث من
أَفْرَاد البُخَارِيّ وَلَيْسَ كَذَلِك، بل أخرجه أَبُو
دَاوُد أَيْضا فِي الْحَج عَن أبي معمر بِهِ.
قَوْله: (لما قدم) أَي: مَكَّة. قَوْله: (أَبى أَن يدْخل
الْبَيْت) أَي: امْتنع عَن دُخُول الْبَيْت. قَوْله:
(وَفِيه) أَي: وَالْحَال أَن فِي الْبَيْت: (الْآلهَة)
أَي: الْأَصْنَام الَّتِي لأهل الْجَاهِلِيَّة، أطلق
عَلَيْهَا الْآلهَة بِاعْتِبَار مَا كَانُوا يَزْعمُونَ.
قَوْله: (فَأمر بهَا فأخرجت) وَفِي رِوَايَة: (تَأتي فِي
الْأَنْبِيَاء: (حَتَّى أَمر بهَا فمحيت) . قَوْله:
(فأخرجوا صُورَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا
السَّلَام) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ أَيْضا فِي بَاب:
{وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 521) .
دخل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْبَيْت فَوجدَ
فِيهِ صُورَة إِبْرَاهِيم وَصُورَة مَرْيَم، فَقَالَ: أما
هم فقد سمعُوا أَن الْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ
صُورَة، هَذَا إِبْرَاهِيم مُصَور، فَمَا باله يستقسم.
قَوْله: (الأزلام) جمع: زلم، وَهِي الأقلام.
وَقَالَ ابْن التِّين: الأزلام: القداح، وَهِي أَعْوَاد
نحتوها وَكَتَبُوا فِي إِحْدَاهَا: إفعل، وَفِي الآخر: لَا
تفعل، وَلَا شَيْء فِي الآخر فَإِذا أَرَادَ أحدهم سفرا
أَو حَاجَة أَلْقَاهَا، فَإِن خرج: إفعل، فعل، وَإِن خرج:
لَا تفعل، لم
(9/246)
يفعل، وَإِن خرج الآخر أعَاد الضَّرْب
حَتَّى يخرج لَهُ: إفعل، أَو: لَا تفعل. فَكَانَت سَبْعَة
على صفة وَاحِدَة مَكْتُوب عَلَيْهَا: لَا. نعم، مِنْهُم،
من غَيرهم، ملصق، الْعقل، فضل الْعقل، وَكَانَ بيد السادن
فَإِذا أَرَادوا خُرُوجًا أَو تزويجا أَو حَاجَة ضرب
السادن، فَإِن خرج: نعم، ذهب، فَإِن خرج: لَا، كف، وَإِن
شكوا فِي نسب أَتَوا بِهِ إِلَى الصَّنَم، فَضرب بِتِلْكَ
الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ: مِنْهُم، من غَيرهم، ملصق،
فَإِن خرج: مِنْهُم، كَانَ من أوسطهم نسبا، وَإِن خرج: من
غَيرهم، كَانَ حليفا، وَإِن خرج ملصق لم يكن لَهُ نسب
وَلَا حلف، وَإِذا جنى أحد جِنَايَة وَاخْتلفُوا على من
الْعقل، ضربوا فَإِن خرج: الْعقل، على من ضربه عَلَيْهِ
عقل وبرىء الْآخرُونَ، وَكَانُوا إِذا عقلوا الْعقل وَفضل
الشَّيْء مِنْهُ وَاخْتلفُوا فِيهِ أَتَوا السادن فَضرب،
فعلى من وَجب أَدَّاهُ، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَت
الْجَاهِلِيَّة يتخذون الأقلام ويكتبون على بَعْضهَا:
نهاني رَبِّي، وعَلى بَعْضهَا: أَمرنِي رَبِّي، وعَلى
بَعْضهَا، نعم، وعَلى بَعْضهَا: لَا، فَإِذا أَرَادَ أحدهم
سفرا أَو غَيره دفعوها إِلَى بَعضهم حَتَّى يقبضهَا، فَإِن
خرج الْقدح الَّذِي عَلَيْهِ: أَمرنِي رَبِّي، مضى، أَو:
نهاني، كف.
والاستقسام مَا قسم لَهُ من أَمر يزعمه، وَقيل: كَانَ إِذا
أَرَادَ أحدهم أمرا أَدخل يَده فِي الْوِعَاء الَّذِي
فِيهِ الأقلام فَأخْرج مِنْهَا زلما وَعمل بِمَا عَلَيْهِ،
وَقيل: الأزلام حَصى بيض كَانُوا يضْربُونَ بهَا،
والاستقسام استفعال من قسم الرزق والحاجات، وَذَلِكَ طلب
أحدهم بالأزلام على مَا قسم لَهُ فِي حَاجته الَّتِي
يلتمسها من نجاح أَو حرمَان، وأبطل الرب تَعَالَى ذَلِك،
وَأخْبر أَنه فسق لأَنهم كَانَ يستقسمون عِنْد ألهتهم
الَّتِي يعتقدونها، وَيَقُولُونَ: يَا إل هُنَا أخرج الْحق
فِي ذَلِك، ثمَّ يعْملُونَ بِمَا خرج فِيهِ، فَكَانَ ذَلِك
كفرا بِاللَّه تَعَالَى لإضافتهم مَا يكون من ذَلِك من
صَوَاب أَو خطأ إِلَى أَنه من قسم آلِهَتهم الَّتِي لَا
تضر وَلَا تَنْفَع، وَأخْبر الشَّارِع عَن إِبْرَاهِيم
وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام،
أَنَّهُمَا لم يَكُونَا يفوضان أمورهما إلاَّ إِلَى الله
الَّذِي لَا يخفى عَلَيْهِ علم مَا كَانَ، وَمَا هُوَ
كَائِن، لِأَن الْآلهَة لَا تضر وَلَا تَنْفَع، وَلذَلِك
قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لقد علمُوا أَنهم لم
يستقسما بهَا قطّ) . لأَنهم قد علمُوا أَن أباءهم أحدثوها،
وَكَانَ فيهم بَقِيَّة من دين إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِنْهَا: الْخِتَان، وَتَحْرِيم
ذَوَات الْمَحَارِم إلاَّ امْرَأَة الْأَب، وَالْجمع بَين
الْأُخْتَيْنِ.
قَوْله: (قَاتلهم الله) أَي: لعنهم الله. قَالَ
التَّيْمِيّ: يَعْنِي قَاتل الله الْمُشْركين الَّذين
صوروا صُورَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام، ونسبوا إِلَيْهِمَا الضَّرْب
بِالْقداحِ، وَكَانَا بريئين من ذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ
شَيْء أحدثه الْكفَّار الَّذين غيروا دين إِبْرَاهِيم،
عَلَيْهِ السَّلَام، وأحدثوا أحداثا. قَوْله: (أما وَالله)
. وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: أم وَالله، وَحذف الْألف
مِنْهُ للتَّخْفِيف، وَكلمَة: أما، لافتتاح الْكَلَام.
قَوْله: (قد علمُوا) ويروى: (لقد علمُوا) ، بِزِيَادَة
اللَّام لزِيَادَة التَّأْكِيد، قيل: وَجه ذَلِك أَنهم
كَانُوا يعلمُونَ إسم أول من أحدث الاستقسام بالأزلام،
وَهُوَ عَمْرو بن لحي، فَكَانَت نسبتهم الاستقسام بالأزلام
إِلَى إِبْرَاهِيم وَولده إِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا
السَّلَام، افتراء عَلَيْهِمَا. قَوْله: (لم يستقسما) أَي:
إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة
وَالسَّلَام. قَوْله: (بهَا) ، أَي: بالأزلام، ويروى:
بهما، مثنى، وَهُوَ بِاعْتِبَار أَن الأزلام على
نَوْعَيْنِ: خير وَشر، وَقد ذكرنَا أَن الاستقسام طلب
الْقسم، يَعْنِي: طلب معرفَة مَا قسم لَهُ وَمَا لم يقسم
لَهُ بالأزلام، وَكَذَا معرفَة مَا أَمر بِهِ وَمَا نهي
عَنهُ، وَقيل: هُوَ قسمهم الْجَزُور على الْأَنْصِبَاء
الْمَعْلُومَة. قَوْله: (فَدخل الْبَيْت) أَي: فَدخل
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَعْبَة، (فَكبر فِي
نواحيه) أَي: فِي جَوَانِب الْبَيْت: (وَلم يصل فِيهِ)
صَلَاة. فَهَذَا ابْن عَبَّاس نفى الصَّلَاة وَأثبت
التَّكْبِير، وبلال أثبت الصَّلَاة وَلم يتَعَرَّض
للتكبير، وَقد ذكرنَا وَجه ذَلِك مستقصىً فِي: بَاب إغلاق
الْبَيْت، وَهَذَا البُخَارِيّ صحّح حَدِيث ابْن عَبَّاس
مَعَ كَونه يرى تَقْدِيم حَدِيث بِلَال فِي إِثْبَات
الصَّلَاة. فَإِن قلت: كَيفَ وَجه هَذَا يُصَحِّحهُ
ويتركه؟ قلت: لم يتْرك لَا حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَلَا
حَدِيث بِلَال، وَترْجم هُنَا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس لأجل
الزِّيَادَة فِيهِ، وَهُوَ التَّكْبِير فِي نواحي
الْبَيْت، وَلكنه قدم حَدِيث ابْن عَبَّاس لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه لم يكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَوْمئِذٍ، وَإِنَّا أسْند نفي الصَّلَاة تَارَة
لأسامة وَتارَة لِأَخِيهِ الْفضل، مَعَ أَنه لم يثبت كَون
الْفضل مَعَهم إِلَّا فِي رِوَايَة شَاذَّة. وَالْوَجْه
الآخر: إِن قَول الْمُثبت يرحج لِأَن فِيهِ زِيَادَة
الْعلم، وَالله تَعَالَى أعلم.
55 - (بابٌ كَيفَ كانَ بَدْءُ الرَّمَلِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كَيْفيَّة ابْتِدَاء
مَشْرُوعِيَّة الرمل فِي الطّواف، والرمل، بِفَتْح الرَّاء
وَالْمِيم: هُوَ سرعَة الْمَشْي مَعَ تقَارب
(9/247)
فِي الخطوة. وَفِي (الْمُحكم) : رمل يرمل
رملاً ورملاً: إِذا مَشى دون الْعَدو. قَالَ الْقَزاز:
هُوَ الْعَدو الشَّديد. وَفِي الجمهرة: شَبيه بالهرولة
وَفِي (الصِّحَاح) : هُوَ الهرولة، وَفِي (المغيث) هُوَ
الخبب، وَقيل: هُوَ أَن يهز مَنْكِبه وَلَا يسْرع الْعَدو،
وَفِي (كتاب المسالك) لِابْنِ الْعَرَبِيّ: هُوَ مَأْخُوذ
من التحرك، وَهُوَ أَن يُحَرك الْمَاشِي مَنْكِبَيْه
لشدَّة الْحَرَكَة فِي مَشْيه.
2061 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا
حَمَّادٌ هُوَ ابنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عَنْ سَعيدِ بنِ
جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
قَالَ قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وأصْحَابُهُ فَقَالَ المُشْرِكُونَ إنَّهُ يَقْدَمُ
عَلَيْكُم وقَدْ وهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ فأمَرَهُمُ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَرْمُلُوا
الأشْوَاطَ الثَّلاثَةَ وأنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ
الرُّكْنَيْنِ ولَمْ يَمْنَعْهُ أنْ يأمُرَهُمْ أنْ
يَرْمُلُوا الأشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الإبْقَاءُ
عَلَيْهِمْ.
(الحَدِيث 2061 طرفه فِي: 6524) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهِ
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر القادمين مَعَه إِلَى
مَكَّة أَن يرملوا، وَكَانَ هَذَا هُوَ ابْتِدَاء
مَشْرُوعِيَّة الرمل، وَرِجَاله قد تكرروا.
وَأعَاد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْمَغَازِي عَن
سُلَيْمَان بن حَرْب أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج
أَيْضا عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
مُحَمَّد بن سُلَيْمَان لوبن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قدم رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه) أَي: مَكَّة. قَوْله:
(فَقَالَ الْمُشْركُونَ إِنَّه يقدم عَلَيْكُم) بِفَتْح
الدَّال، وَالضَّمِير فِي: أَنه، يرجع إِلَى رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي: وهنهم، لأَصْحَابه، وَله
وَجه آخر يَأْتِي بَيَانه عَن قريب، وَفِي لفظ مُسلم:
(فَقَالَ الْمُشْركُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذين زعمتم أَن
الْحمى وهنتهم، هَؤُلَاءِ أجلد من كَذَا وَكَذَا) . وَفِي
لفظ للْبُخَارِيّ: (وَالْمُشْرِكُونَ من جبل قعيقعان) ،
وَفِي لفظ لمُسلم: (وَكَانُوا يحسدونه) ، وَفِي لفظ:
(وَكَانَ أهل مَكَّة قوما حسدا) ، وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ: (يقدم عَلَيْكُم قوم عُرَاة، فَأطلع
الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا قَالُوا،
فَأَمرهمْ أَن يرملوا وَأَن يمشوا) . وَفِي رِوَايَة ابْن
مَاجَه: (قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه حِين
أَرَادوا دُخُول مَكَّة فِي عمرته بعد الْحُدَيْبِيَة: إِن
قومكم غَدا سيرونكم، فليرونكم جلدا. فَلَمَّا دخلُوا
الْمَسْجِد الْحَرَام استلموا الرُّكْن ورملوا وَهُوَ
مَعَهم) ، وللطبراني عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ:
من شَاءَ فليرمل وَمن شَاءَ فَلَا يرمل، إِنَّمَا أَمر
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالرمل ليرى
الْمُشْركُونَ قوته، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي
(تهذيبه) : لما اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بلغه أَن أهل مَكَّة يَقُولُونَ: إِن بِأَصْحَابِهِ
هزالًا. فَقَالَ لَهُم حِين قدم: شدوا مآزركم وأعضادكم،
وارملوا حَتَّى يَقُول قومكم: إِن بكم قُوَّة، قَالَ ثمَّ
حج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يرمل،
قَالُوا: وَإِنَّمَا رمل فِي عمْرَة الْعقبَة، وَفِي
إِسْنَاده حجاج بن أَرْطَاة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد:
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه اعتمروا من
جعرانة، يَعْنِي فِي عمْرَة الْقَضَاء، فرملوا بِالْبَيْتِ
وَجعلُوا أرديتهم تَحت آباطهم، ثمَّ قدموها على عواتقهم
الْيُسْرَى، وَفِي لفظ: (كَانُوا إِذا بلغُوا الرُّكْن
الْيَمَانِيّ وتغيبوا من قُرَيْش مَشوا، ثمَّ إِذا اطلعوا
عَلَيْهِم يرملون، تَقول قُرَيْش: كَأَنَّهُمْ الغزلان) .
قَوْله: (قد وهنهم) ويروى (وَقد وهنهم) بواو الْعَطف، وحرف
التَّقْرِيب، وَالْجُمْلَة حَالية، وَهَذَا بِحرف الْعَطف
وبحذفها رِوَايَة ابْن السكن. وَقَالَ ابْن قرقول:
رِوَايَة الكافة بِالْفَاءِ، وَهُوَ الصَّوَاب يَعْنِي:
وَفد بِمَعْنى الْجَمَاعَة القادمين، فعلى هَذَا يكون
ارتفاعه على أَنه فَاعل. قَوْله: (يقدم) ، وَيكون قَوْله
وهنهم فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا تكون صفة لوفد، وعَلى
هَذَا يكون الضَّمِير فِي قَوْله (إِنَّه يقدم) ، ضمير
الشان، وعَلى رِوَايَة ابْن السكن: يرجع إِلَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذكرنَا عَن قريب، ويروى:
وهنهم، بِالتَّشْدِيدِ من التوهين. وَقَوله: (حمى يثرب)
بِالرَّفْع فَاعله، والوهن الضعْف، يُقَال: وَهن يهن مثل:
وعد، ووهن ورم، والواهن الضَّعِيف فِي قوته لَا بَطش
عِنْده، وَعَن صَاحب (الْعين) : الوهن الضعْف فِي الْعَمَل
وَالْأَمر، وَكَذَلِكَ فِي الْعظم، وهَنَ الشَّيْء وأوهنه،
والوهن بِفَتْح الْهَاء لُغَة فِي الوهن بالتسكين، وَرجل
واهن فِي الْأَمر وَالْعَمَل، وموهون فِي الْعظم وَالْبدن،
وَعَن ابْن دُرَيْد: وَهن يوهن. قَوْله: (يثرب) اسْم
مَدِينَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
الْجَاهِلِيَّة. قَوْله: (أَن يرملوا) ، بِضَم الْمِيم
أَي: وَأَن يرملوا، و: أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير:
يَأْمُرهُم بالرمل. قَوْله: (الأشواط) جمع شوط، بِفَتْح
الشين وَهُوَ الطلق، وَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلهم: جرى
الْفرس شوطا إِذا بلغ مجْرَاه، ثمَّ عَاد، فَكل من أَتَى
موضعا ثمَّ انْصَرف عَنهُ فَهُوَ شوط، وَالْمرَاد هَهُنَا:
الطوفة حول الْكَعْبَة، وانتصاب الأشواط على الظّرْف.
قَوْله: (وَأَن يمشوا) ، عطف على قَوْله: (أَن يرملوا) .
قَوْله: (مَا بَين الرُّكْنَيْنِ) أَي: اليمانيين. قَوْله:
(إلاَّ الْإِبْقَاء) ، بِكَسْر الْهمزَة وبالباء
الْمُوَحدَة وَالْقَاف، وَهُوَ الرِّفْق
(9/248)
والشفقة، أَي: لم يمنعهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم من أَمرهم بالرمل فِي الْكل إلاَّ الرِّفْق بهم،
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: روينَاهُ بِالرَّفْع على أَنه
فَاعل يمنعهُم، وَيجوز النصب على أَن يكون مَفْعُولا من
أَجله.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الرمل فِي الطّواف.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ: هَل هُوَ سنة من سنَن الْحَج
لَا يجوز تَركهَا؟ أَو لَيْسَ بِسنة لِأَنَّهُ كَانَ
لعِلَّة وَقد زَالَت، فَمن شَاءَ فعله اخْتِيَارا؟ فَروِيَ
عَن عمر وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر: أَنه سنة، وَهُوَ
قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ
آخَرُونَ: لَيْسَ بِسنة، فَمن شَاءَ فعله وَمن شَاءَ
تَركه، روى ذَلِك عَن جمَاعَة من التَّابِعين مِنْهُم
طَاوُوس وَعَطَاء وَالْحسن وَالقَاسِم وَسَالم، وَرُوِيَ
ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَجُمْهُور الْعلمَاء، على أَن
الرمل من الْحجر إِلَى الْحجر، وَفِي (التَّوْضِيح) : ثمَّ
الْجُمْهُور على أَنه يستوعب الْبَيْت بالرمل، وَفِي قَول:
لَا يرمل بَين الرُّكْنَيْنِ اليمانيين، وَالْمَرْأَة لَا
ترمل بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ يقْدَح فِي السّتْر
وَلَيْسَت من أهل الْجلد وَلَا تهرول أَيْضا بَين الصَّفَا
والمروة فِي السَّعْي، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن ابْن عمر
وَعَائِشَة وَجَمَاعَة، فَإِن ترك الرمل فِي الطّواف
والهرولة فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ ذكر
وَهُوَ قريب، فَمرَّة قَالَ مَالك: يُعِيد، وَمرَّة قَالَ:
لَا يُعِيد، وَبِه قَالَ ابْن الْقَاسِم، وَاخْتلف أَيْضا
هَل عَلَيْهِ دم أم لَا. وَفِيه: جَوَاز تَسْمِيَة الطوفة
شوطا. وَنقل عَن الشَّافِعِي كَرَاهَته. وَفِي (الْأُم) :
قَالَ الشَّافِعِي: لَا يُقَال شوط وَلَا دور، وَعَن
مُجَاهِد: لَا تَقولُوا شوطا وَلَا شوطين، وَلَكِن
قُولُوا: دورا اودورين. وَفِيه: مَا يُؤْخَذ جَوَاز
إِظْهَار الْقُوَّة بالعدة وَالسِّلَاح وَنَحْو ذَلِك
للْكفَّار إرهابا لَهُم، وَلَا يعد ذَلِك من الرِّيَاء.
وَفِيه: جَوَاز المعاريض بِالْفِعْلِ، كَمَا يجوز
بالْقَوْل، وَرُبمَا يكون بِالْفِعْلِ أولى.
65 - (بابُ اسْتِلاَمِ الحَجَرِ الأسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ
مَكَّةَ أوَّلَ مَا يَطُوفُ ويَرْمُلُ ثَلاثا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان استلام الْحجر الْأسود،
والاستلام هُوَ الْمسْح بِالْيَدِ، مُشْتَقّ من السَّلَام
الَّذِي هُوَ التَّحِيَّة. وَقيل: من السَّلَام بِكَسْر
السِّين، وَهُوَ الْحِجَارَة. وَقَالَ ابْن سيدة: اسْتَلم
الْحجر واستلأمه، بِالْهَمْزَةِ، أَي: قبله أَو اعتنقه،
وَلَيْسَ أَصله الْهَمْز، وَيُقَال استلمت الْحجر إِذْ
لمسته. كَمَا يُقَال: اكتحلت من الكهل، وَفِي (الْجَامِع)
وَقيل: هُوَ استفعل من اللأمة، واللأمة هِيَ الدرْع
وَالسِّلَاح وَإِنَّمَا يلبس اللامة ليمتنع بهَا من
الْأَعْدَاء، فَكَانَ هَذَا إِذا لمس الْحجر فقد تحصن من
الْعَذَاب. قَوْله: (أول) ، مَنْصُوب على الظّرْف، ظرف
للاستلام. قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث مَرَّات.
3061 - حدَّثنا أصْبَغُ بنُ الفَرَجِ قَالَ أخْبَرَنِي
ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ سالِمٍ عنْ
أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ رَأيْتُ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إذَا
اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأسْوَدَ أوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ
ثَلاثَةَ أطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا لِأَن مَعْنَاهُ معنى
التَّرْجَمَة سَوَاء، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب
الْمصْرِيّ، وَيُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب
هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَسَالم بن عبد الله
بن عمر يروي عَن أَبِيه عبد الله.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن أبي الظَّاهِر.
وحرملة، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر
وَسليمَان بن دَاوُد، كلهم عَن ابْن وهب بِهِ.
قَوْله: (إِذا اسْتَلم) ظرف لَا شَرط، وَبدل عَن قَوْله:
(حِين يقدم) . قَوْله: (أول) ، نصب على الظّرْف مُضَاف
إِلَى كلمة: مَا، المصدرية. قَوْله: (يخب) فِي مَحل النصب
على أَنه مفعول ثَان لقَوْله: (رَأَيْت) ، وَهُوَ بِفَتْح
يَاء المضارعة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد
الْبَاء الْمُوَحدَة: من الخبب، وَهُوَ ضرب من الْعَدو.
وَقيل: خب الْفرس إِذا نقل أيامنه وإياسره جَمِيعًا.
وَقيل: هُوَ أَن يراوح بَين يَدَيْهِ، وَقيل: الخبب
السرعة، وَقد خبت الدَّابَّة تخب خببا وخبيبا وأخبت وَقد
أخبها ذكره ابْن سَيّده. وَفِي (الْمُنْتَهى) يُقَال: خب
خبيبا وأخبه صَاحبه إخبابا. وَفِي (الجمهرة) وأخببته أَنا،
وَفِي الْكِفَايَة لأبي إِسْحَاق الأجداني: إِذا ارْتَفع
سير الْبَعِير حَتَّى يكون عدوا يراوح بَين يَدَيْهِ،
فَذَلِك الخبب. قَوْله: (ثَلَاثَة) ، وَإِن كَانَ مُبْهما،
لَكِن الْمَقْصُود مِنْهُ الثَّلَاثَة الأول. قَوْله: (من
السَّبع) أَي: الطوفات السَّبع، ويروى: السَّبْعَة،
بِاعْتِبَار الأطواف. وَقَالَت النُّحَاة: إِذا كَانَ
الْمُمَيز غير مَذْكُور جَازَ فِي الْعدَد التَّذْكِير
والتأنيث.
(9/249)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: إِن سنة
الدَّاخِل إِلَى الْمَسْجِد الْحَرَام أَن يبْدَأ
بِالْحجرِ الْأسود فيقبله، ثمَّ الخبب، إِنَّمَا يشرع فِي
طواف يعقبه سعي وَيتَصَوَّر ذَلِك فِي طواف الْقدوم
والإفاضة، وَلَا يتَصَوَّر فِي طواف الْوَدَاع لِأَن شَرطه
أَن يكون قد طَاف طواف الْإِفَاضَة، فعلى هَذَا القَوْل
إِذا طَاف للقدوم، وَفِي نِيَّته أَن يسْعَى بعده اسْتحبَّ
الرمل فِيهِ، وَإِن لم يكن هَذَا فِي نِيَّته لم يرمل فِي
طواف الْإِفَاضَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وثمة قَول آخر،
وَهُوَ أَنه يرمل فِي طواف الْقدوم سَوَاء أَرَادَ
السَّعْي بعده أم لَا، وروى الْحَاكِم عَن عَطاء عَن أبي
سعيد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرمل فِي
السَّبع الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ، وَقَالَ عَطاء: لَا رمل
فِيهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: يفهم مِنْهُ أَن
الرمل إِنَّمَا هُوَ فِي جَمِيع المطاف، وَمن الحَدِيث
الأول حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (وليمشوا بَين الرُّكْنَيْنِ)
أَنه فِي بعضه. قلت: قَالَ النَّوَوِيّ، ذَلِك مَنْسُوخ
لِأَنَّهُ كَانَ فِي عمْرَة الْقَضَاء سنة سبع، قبل
الْفَتْح، وَكَانَ بِالْمُسْلِمين ضعف فِي أبدانهم،
وَإِنَّمَا رملوا إِظْهَارًا للقوة والاحتياج إِلَيْهِ
كَانَ فِي غير الرُّكْنَيْنِ اليمانيين، لِأَن الْمُشْركين
كَانُوا جُلُوسًا فِي الْحجر وَلَا يرونهم من هذَيْن
الرُّكْنَيْنِ، ويرونهم فِيمَا سواهُمَا، فَلَمَّا حج
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة الْوَدَاع سنة
عشر رمل من الْحجر إِلَى الْحجر، فَوَجَبَ الْأَمر
بالمتأخر.
75 - (بابُ الرَّمَلِ فِي الحَجِّ والْعُمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة الرمل فِي بعض
الطّواف، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الَّذِي عَلَيْهِ
الْجُمْهُور هَذَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ روى عَن ابْن
عَبَّاس أَنه: لَيْسَ بِسنة، من شَاءَ رمل وَمن شَاءَ لم
يرمل.
4061 - حدَّثني مُحَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا سُرَيْحُ بنُ
النُّعْمَانِ قَالَ حَدثنَا فُلَيْحٌ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَعَى النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلاَثَةَ أشْوَاطٍ ومَشَى
أرْبَعَةً فِي الحَجِّ والْعُمْرَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي الْحَج
وَالْعمْرَة) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد، ذكر غير
مَنْسُوب وَذكر فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: الأول: قَول
الْحَاكِم هُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي. الثَّانِي: هُوَ
مُحَمَّد بن رَافع حَكَاهُ الجياني. الثَّالِث: مُحَمَّد
بن سَلام حَكَاهُ أَبُو عَليّ ابْن السكن. الرَّابِع:
مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير حَكَاهُ أَبُو نعيم فِي
(مستخرجه) قيل: الصَّوَاب أَنه ابْن سَلام، كَمَا نسبه
أَبُو ذَر، وَحَكَاهُ ابْن السكن. لَا يُقَال إِنَّه
اشْتِبَاه يقْدَح، لأَنا نقُول: إِنَّه روى عَنْهُم، فَلَا
بَأْس بِهَذَا الِاشْتِبَاه فَلَا قدح. الثَّانِي: سُرَيج،
بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره جِيم ابْن النُّعْمَان
الْجَوْهَرِي الْبَغْدَادِيّ. الثَّالِث: فليح، بِضَم
الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف،
وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان، وَقد مر فِي
أول كتاب الْعلم. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر.
الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه:
أَن شيخ شَيْخه شَيْخه أَيْضا لِأَنَّهُ روى عَن سُرَيج
أَيْضا. وَقد قيل: إِن المُرَاد من قَوْله: حَدثنِي
مُحَمَّد هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، فعلى هَذَا يكون رَاوِيا
عَن شَيْخه سُرَيج بن النُّعْمَان. وَفِيه: أَن فليحا
اسْمه عبد الْملك وَغلب عَلَيْهِ لقبه فليح، وكنيته أَبُو
يحيى وَهُوَ مدنِي.
قَوْله: (سعي) أَي: رمل فِي الطوفات الثَّلَاث الأول.
قَوْله: (فِي الْحَج) أَي: فِي حجَّة الْوَدَاع. قَوْله:
(وَالْعمْرَة) وَهِي عمْرَة الْقَضِيَّة، لِأَن
الْحُدَيْبِيَة لم يُمكن فِيهَا من الطّواف، والجعرانة لم
يكن ابْن عمر مَعَه فِيهَا، وَلِهَذَا أنكرها.
تابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني كَثِيرُ بنُ فَرْقَدٍ
عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: تَابع سريجا الليثُ بن سعد، وَهَذِه الْمُتَابَعَة
رَوَاهَا النَّسَائِيّ من طَرِيق شُعَيْب بن اللَّيْث عَن
أَبِيه فَذكره، وَرَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق يحيى
بن بكير عَن اللَّيْث، قَالَ: حَدثنِي ... فَذكره بِلَفْظ:
أَن عبد الله بن عمر كَانَ يخب فِي طَوَافه حِين يقدم فِي
حج أَو عمْرَة ثَلَاثًا وَيَمْشي أَرْبعا، قَالَ: وَكَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك.
5061 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ أخبرَنا
مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ قَالَ أخبرَنِي زَيْدُ بنُ أسْلَم
(9/250)
َ عَنْ أبيهِ أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لِلرُّكْنِ أمَا وَالله
إنِّي لأَعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ ولاَ تَنْفَعُ
وَلَوْلا أنِّي رأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ فاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ
فَمَا لَنَا ولِلرَّمْلِ إنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ
المُشْرِكِينَ وقَدْ أهْلَكَهُمْ الله ثُمَّ قَالَ شَيءٌ
صَنَعَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلاَ نُحِبُّ
أنْ نَتْرُكَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن
أبي كثير الْأنْصَارِيّ وَزيد بن أسلم أَبُو أُسَامَة يروي
عَن أَبِيه أسلم مولى عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، يكنى أَبَا خَالِد، كَانَ من سبي الْيمن، مَاتَ
وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة وَمِائَة سنة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أَحْمد بن سِنَان
عَن يزِيد بن هَارُون. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن هَارُون بن
سعيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عِيسَى بن
إِبْرَاهِيم الغافقي.
قَوْله: (قَالَ للركن) أَي: للحجر الْأسود خاطبه بذلك
ليسمع الْحَاضِرُونَ. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) أَي: بعد
استلامه. قَوْله: (مَا لنا وللرمل) ، ويروى: والرمل،
بِغَيْر لَام، وَالنّصب فِيهِ على الْأَفْصَح. وَفِي
رِوَايَة أبي دَاوُد من طَرِيق هِشَام بن سعيد عَن زيد بن
أسلم: (فيمَ الرمل والكشف عَن المناكب؟) الحَدِيث. قَوْله:
(إِنَّمَا كُنَّا راءينا) من المراءاة، أَي: أردنَا أَن
نظهر الْقُوَّة للْمُشْرِكين بالرمل ليعلموا أَنا لَا نعجز
عَن مقاومتهم، وَلَا نضعف عَن محاربتهم، وَقد أهلكهم الله
تَعَالَى فَمَا لنا حَاجَة الْيَوْم إِلَى ذَلِك؟ وَقَالَ
عِيَاض: راءينا، بِوَزْن: فاعلنا، من الرُّؤْيَة أَي:
أريناهم بذلك أَنا أقوياء. وَقَالَ ابْن مَالك: من
الرِّيَاء، أَي: أظهرنَا الْقُوَّة وَنحن ضعفاء وَلِهَذَا
روى: رايينا، بياءين حملا لَهُ على الرِّيَاء. قلت:
الَّذِي قَالَه ابْن مَالك هُوَ على مَنْهَج الصَّوَاب دون
مَا قَالَه عِيَاض يظْهر بِالتَّأَمُّلِ. قَوْله: (وَقد
أهلكهم الله) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (شي صنعه
النَّبِي) ، ارْتِفَاع: شَيْء، على أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف أَي: هَذَا شَيْء صنعه رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: لَا يجوز أَن يكون: شَيْء
مُبْتَدأ؟ وَقَوله: (فَلَا نخب) خَبره؟ قلت: شَرط
الْمُبْتَدَأ الَّذِي يتَضَمَّن من معنى الشَّرْط أَن لَا
يكون معينا نَحْو: كل رجل يأتيني فَلهُ دِرْهَم، وَهَذَا
شَيْء معِين، أللهم، إلاَّ أَن يُقَال: الْمَعْنى: كل
شَيْء صنعه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا
صنعه لإِظْهَار الْجلد وَالْقُوَّة للْمُشْرِكين، فَلَمَّا
أهلكهم الله لَا حَاجَة بِهِ، ثمَّ استدرك فَقَالَ: لما
فعله رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا نحب أَن
نتركه اتبَاعا لَهُ. قَالَ الْخطابِيّ: كَانَ عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، طلوبا للآثار، بحوثا عَنْهَا وَعَن
مَعَانِيهَا لما رأى الْحجر يسْتَلم وَلَا يعلم فِيهِ
سَببا يظْهر للحس، أَو يتَبَيَّن فِي الْعقل، ترك فِيهِ
الرَّأْي وَصَارَ إِلَى الِاتِّبَاع، وَلما رأى الرمل قد
ارْتَفع سَببه الَّذِي كَانَ قد أحدث من أَجله فِي
الزَّمَان الأول هَمَّ بِتَرْكِهِ، ثمَّ لَاذَ بِاتِّبَاع
السّنة متبركا بِهِ، وَقد يحدث شَيْء من أَمر الدّين
بِسَبَب من الْأَسْبَاب فيزول ذَلِك السَّبَب وَلَا يَزُول
حكمه، كالعرايا والاغتسال للْجُمُعَة. وَقَالَ
الطَّبَرِيّ: ثَبت أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
رمل فِي حجَّته وَلَا مُشْرك يَوْمئِذٍ يرَاهُ، فَعلم أَنه
من مَنَاسِك الْحَج، غير أَنا لَا نرى على من ترك عَامِدًا
وَلَا سَاهِيا قَضَاء وَلَا فديَة، لِأَن من تَركه
فَلَيْسَ بتارك الْعَمَل، وَإِنَّمَا هُوَ تَارِك لهيئته
وَصفته كالتلبية الَّتِي فِيهَا رفع الصَّوْت، فَإِن خفص
صَوته بهَا كَانَ غير مضيع لَهَا وَلَا تاركها، وَإِنَّمَا
ضيع صفة من صفاتها وَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دَلِيل على أَن أَفعَال
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على الْوُجُوب حَتَّى
يقوم دَلِيل على خِلَافه. وَفِيه: أَن فِي الشَّرْع مَا
هُوَ تعبد مَحْض وَمَا هُوَ مَعْقُول الْمَعْنى. وَفِيه:
دَلِيل على غَايَة اتِّبَاع عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، للآثار، وَفِيه: دَلِيل على أَن الرمل لَا يتْرك،
وَلَكِن إِن تَركه لَا يُوجب شَيْئا. وَفِي (التَّوْضِيح)
: قَامَ الْإِجْمَاع على أَنه لَا رمل على من أحرم
بِالْحَجِّ من مَكَّة من غير أَهلهَا، وَاخْتلفُوا فِي أهل
مَكَّة: هَل عَلَيْهِم رمل؟ فَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، لَا يرَاهُ عَلَيْهِم، وَبِه قَالَ
أَحْمد واستحبه مَالك وَالشَّافِعِيّ للمكي.
6061 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عَن
عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا قالَ مَا تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ هاذَيْنِ
الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلاَ رَخاءٍ مُنْذُ رأيْتُ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَلِمُهُمَا قُلْتُ
لِنَافِعٍ أكانَ ابنُ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ
قَالَ إنَّمَا كانَ يَمْشِي لِيَكُونَ أيْسَرَ
لاِسْتِلامِهِ.
(الحَدِيث 6061 طرفه فِي: 1161) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ إِن نَافِعًا لما
سُئِلَ، أَكَانَ ابْن عمر يمشي بَين الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ:
(إِنَّمَا كَانَ يمشي ليَكُون إيسر
(9/251)
لاستلامه) ، فَيدل على أَن الْبَاقِي من الْبَيْت كَانَ
بِخِلَاف الْمَشْي وَهُوَ الرمل، فَهَذَا يرد على
الْإِسْمَاعِيلِيّ، قَوْله: لَيْسَ هَذَا الحَدِيث من
هَذَا الْبَاب فِي شَيْء وَيحيى هُوَ الْقطَّان، وَعبيد
الله هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَبُو عُثْمَان الْقرشِي
الْعَدوي الْمدنِي. وَقد تكَرر ذكره.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْحَج عَن زُهَيْر بن
حَرْب وَمُحَمّد ابْن الْمثنى وَعبيد الله بن سعيد بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (هذَيْن الرُّكْنَيْنِ) أَي: اليمانيين دون
غَيرهمَا، فَكَانَ يرمل فِي غَيرهمَا. قَوْله: (قلت لنافع)
، الْقَائِل هُوَ: عبيد الله الرَّاوِي. قَوْله:
(أَكَانَ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (إِنَّمَا
كَانَ يمشي) أَي: لَا يرمل. (ليَكُون أيسر) أَي: أرْفق
ليقوى على الاستلام عِنْد الازدحام، وَالله أعلم
بِالصَّوَابِ. |