عمدة القاري شرح صحيح البخاري

6 - (بابُ قَوْلِ الله تعَالى {أوْ صَدقَةٍ} (الْبَقَرَة: 691) . وَهْيَ إطْعَامُ سِتَّةِ مَساكِينَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير الصَّدَقَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو صَدَقَة} (الْبَقَرَة: 691) . لِأَنَّهَا مُبْهمَة. وفسرها بقوله: (وَهِي إطْعَام سِتَّة مَسَاكِين) .

5181 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدثنَا سَيْفٌ قَالَ حدَّثني مُجَاهِدٌ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي لَيْلَى قَالَ أنَّ كَعْبَ بنَ عَجْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ وقَفَ عَلَيَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالْحُدَيْبِيَّةِ ورَاسِي يَتَهَافَتُ قَمْلاً فَقَالَ يُؤْذِيكَ هَوَامُكَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فاحْلِقْ رَأسَكَ أوْ قالَ احْلِقْ قَالَ فِيَّ نَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أَذَى مِنْ رأسِهِ إِلَى آخِرهَا فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ أوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ أوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو تصدق بفرق بَين سِتَّة) فَإِنَّهُ تَفْسِير لقَوْله تَعَالَى: {أَو صَدَقَة} (الْبَقَرَة: 691) . فِي الْآيَة الْمَذْكُور، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وَقد تكَرر ذكره، وَسيف، بِلَفْظ الْآلَة القاطعة: ابْن سُلَيْمَان الْمَكِّيّ تقدم فِي أَبْوَاب الْقبْلَة.
قَوْله: (عَليّ) ، بتَشْديد الْيَاء الْمَفْتُوحَة، (وَرَسُول الله) ، بِالرَّفْع فَاعل: وقف، وَالْبَاء فِي: بِالْحُدَيْبِية، بِمَعْنى فِي ظرفية. قَوْله: (ورأسي يتهافت) جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَمعنى: يتهافت، بِالْفَاءِ يتساقط شَيْئا فَشَيْئًا، وَهُوَ مَأْخُوذ من: الهفت، بِسُكُون الْفَاء. وَفِي (الْمُحكم) : الهفت تساقط الشَّيْء قِطْعَة قِطْعَة كالثلج والرذاذ وَنَحْوهمَا، وتهافت الْفراش فِي النَّار تساقطه، وتهافت الْقَوْم تساقطوا موتا، وتهافتوا عَلَيْهِ: تتابعوا وانتصاب: قملاً، على التَّمْيِيز. قَوْله: (أَو احْلق) شكّ من الرَّاوِي ومفعوله مَحْذُوف. قَوْله: (فِي) ، بِكَسْر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء الْمَفْتُوحَة. قَوْله: (بفرق) ، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتحهَا: وَهُوَ مكيال مَعْرُوف بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ سِتَّة عشر رطلا.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: كَلَام الْعَرَب بِفَتْح الرَّاء، والمحدثون قد يسكنونه. وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي نجيح عِنْد أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهمَا: (وَالْفرق: ثَلَاثَة آصَع) . وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي قلَابَة عَن ابْن أبي ليلى: (وَأطْعم ثَلَاثَة آصَع من تمر على سِتَّة مَسَاكِين) ، وآصع، بِمد الْهمزَة وَضم الصَّاد: جمع صَاع على الْقلب، لِأَن الْقيَاس فِي جمعه: أصوع، بقصر الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد بعْدهَا واوا مَضْمُومَة. قَالَ الْجَوْهَرِي: وَإِن شِئْت أبدلت من الْوَاو المضمومة همزَة، فَقلت: أصؤع، وَحكى الْوَجْهَانِ كَذَلِك فِي آدور وآدر، جمع: دَار، وَذكر ابْن مكي فِي كتاب (تثقيف اللِّسَان) : أَن قَوْلهم: آصَع، بِالْمدِّ لحن من خطأ الْعَوام، وَأَن صَوَابه: آصوع، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا غلط مِنْهُ مَرْدُود وَذُهُول. قلت: الْقيَاس مَا ذكره ابْن مكي، وَأما الَّذِي ورد فَمَحْمُول على الْقلب، ووزنه على هَذَا: أعفل، فَافْهَم. وَفِي الصَّاع لُغَتَانِ: التَّذْكِير والتأنيث، حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِي وَغَيره.
قَوْله: (بَين سِتَّة) أَي بَين سِتَّة مَسَاكِين قَوْله: (أَو أنسك) على صِيغَة الْأَمر من نسك إِذا ذبح، وَهُوَ رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة غَيرهَا: (أَو نسك) ، بِلَفْظ الِاسْم وَالْأول هُوَ الْمُنَاسب لأخوته، أللهم إلاَّ أَن يُقَال: أَو أنسك بنسك، قَالَ الْكرْمَانِي: أَو هُوَ من بَاب:
(علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا)

قَوْله: (بِمَا تيَسّر) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَغَيره: (مِمَّا تيَسّر) ، وَأَصله

(10/154)


من مَا تيَسّر، فحذفت النُّون وأدغمت الْمِيم فِي الْمِيم أَي: مِمَّا تيَسّر من أَنْوَاع الْهَدْي.

7 - (بابٌ الإطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفَ صَاعٍ)

أَي: هَذَا بَاب، التَّنْوِين، يذكر فِيهِ الْإِطْعَام فِي الْفِدْيَة نصف صَاع، فالإطعام مُبْتَدأ، وَنصف صَاع خَبره أَي: نصف لكل مِسْكين. وَقَالَ بَعضهم: يُشِير بذلك إِلَى الرَّد على من فرق فِي ذَلِك بَين الْقَمْح وَغَيره. قلت: لَيْسَ فِيهِ إِشَارَة إِلَى ذَلِك. لِأَن قَوْله: (نصف صَاع) يُرَاد بِهِ نصف صَاع من قَمح، لِأَن نصف صَاع عِنْد الْإِطْلَاق ينْصَرف إِلَى الْقَمْح، وَلَا خلاف فِيهِ، وَيُؤَيّد هَذَا مَا فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث كَعْب أَيْضا: (أَو إطْعَام سِتَّة مَسَاكِين نصف صَاع نصف صَاع طَعَاما لكل مِسْكين) . فَقَوله: (طَعَاما) ، يبين أَن المُرَاد من نصف صَاع هُوَ الْقَمْح، وَبِه يفرق بَين الْقَمْح وَغَيره، وَيرد بِهَذَا على الْقَائِل الْمَذْكُور فِي قَوْله: يُشِير بذلك إِلَى الرَّد على من فرق بَين الْقَمْح وَغَيره.

6181 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بن الأصْبَهَانِيِّ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَعْقِلٍ قَالَ جَلَسْتُ إلَى كَعْبٍ بنِ عُجْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فسَألْتُهُ عنِ الْفِدْيَةِ فَقَالَ نزَلَتْ فِيَّ خاصَّةٍ وَهْيَ لَكمْ عامَّةٍ حُمِلْتُ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ مَا كُنْتُ أُرى الوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أرَى أوْ مَا كُنْتُ أرَى الجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أرَى تَجِدُ شَاة فَقُلْتُ لاَ فَقَالَ صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لكل مِسْكين نصف صَاع) ، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَعبد الرَّحْمَن بن الْأَصْبَهَانِيّ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا وبالباء الْمُوَحدَة وَالْفَاء أَرْبَعَة أوجه: وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبد الله الْكُوفِي، وَأَصله من أَصْبَهَان، وَعبد الله ابْن معقل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف وباللام: ابْن مقرن، بِفَتْح الْقَاف وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة: التَّابِعِيّ الْكُوفِي، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر عَن عدي بن حَاتِم، مَاتَ سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ من الْهِجْرَة.
قَوْله: (جَلَست إِلَى كَعْب بن عجْرَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق غنْدر عَن شُعْبَة: (وَهُوَ فِي الْمَسْجِد) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد بن بهز: (قعدت إِلَى كَعْب بن عجْرَة فِي هَذَا الْمَسْجِد) ، وَزَاد فِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن قرم عَن ابْن الْأَصْبَهَانِيّ: (يَعْنِي مَسْجِد الْكُوفَة) ، وَمعنى: جَلَست إِلَى كَعْب، انْتهى جلوسي إِلَى كَعْب. قَوْله: (نزلت فيَّ) بِكَسْر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء أَي: نزلت الْآيَة المرخصة لحلق الرَّأْس، ومقصوده أَنه من بَاب خُصُوص السَّبَب وَعُمُوم اللَّفْظ. قَوْله: (حملت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (وَالْقمل يَتَنَاثَر) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (أُرى الوجع) ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظن. (وَأرى) الثَّانِي، بِفَتْح الْهمزَة بِمَعْنى أبْصر. قَوْله: (يبلغ بك) بِصِيغَة الْمُضَارع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي، وَعند غَيرهمَا: (بلغ بك) ، بِصِيغَة الْمَاضِي. قَوْله: (الْجهد) ، بِفَتْح الْجِيم: الْمَشَقَّة، وَفِيه شكّ من الرَّاوِي، هَل قَالَ: الوَجع أَو الجَهد؟ وَقَالَ النَّوَوِيّ: ضم الْجِيم لُغَة فِي الْمَشَقَّة أَيْضا. وَكَذَا حَكَاهُ عِيَاض عَن ابْن دُرَيْد. قَالَ صَاحب (الْعين) بِالضَّمِّ: الطَّاقَة، وبالفتح الْمَشَقَّة، فَتعين الْفَتْح هُنَا. قَوْله: (تَجِد شَاة؟) خطاب لكعب، وَالْمعْنَى: هَل تَجِد شَاة؟ قَوْله: (فَقلت: لَا) أَي: لَا أجد. قَوْله: (فَقَالَ: صم) أَي: فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ: صم، وَهُوَ أَمر من صَامَ يَصُوم. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْفَاء للتَّرْتِيب، وَلَكِن لفظ الْقُرْآن ورد على التَّخْيِير؟ قلت: التَّخْيِير إِنَّمَا هُوَ عِنْد وجود الشَّاة، وَأما عِنْد عدمهَا فَبين أحد الْأَمريْنِ لَا بَين الثَّلَاثَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: فَلَيْسَ المُرَاد أَن الصَّوْم لَا يجزىء إلاَّ لعادم الْهَدْي، بل هُوَ مَحْمُول على أَنه سَأَلَ عَن النّسك، فَإِن وجده أخبرهُ بِأَنَّهُ مُخَيّر بَين الثَّلَاث، وَإِن عَدمه فَهُوَ مُخَيّر بَين اثْنَيْنِ. قَوْله: (لكل مِسْكين نصف صَاع) أَي: من قَمح، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه فِي رِوَايَة أَحْمد عَن بهز عَن شُعْبَة: (نصف صَاع طَعَام) وأصرح مِنْهُ مَا رَوَاهُ بشر بن عمر عَن شُعْبَة: (نصف صَاع حِنْطَة) ، فَهَذَا يدل على صِحَة الْفرق بَين الْقَمْح وَغَيره. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن أَحْمد بن مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ عَن أبي الْوَلِيد، شيخ البُخَارِيّ فِيهِ: (لكل مِسْكين نصف صَاع تمر) . قلت: الْمَحْفُوظ عَن شُعْبَة أَنه قَالَ: فِي الحَدِيث (نصف صَاع من طَعَام) وَالِاخْتِلَاف عَلَيْهِ فِي كَونه تَمرا أَو غَيره، من تصرف الروَاة.

(10/155)


8 - (بابٌ النُّسُكُ شَاةٌ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن النّسك الْمَذْكُور فِي الْآيَة هُوَ شَاة، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ من طَرِيق الْمُغيرَة عَن مُجَاهِد فِي آخر هَذَا الحَدِيث: فَأنْزل الله تَعَالَى: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . والنسك شَاة. وَقَالَ أَبُو عمر: كل من ذكر النّسك فِي هَذَا الحَدِيث مُفَسرًا فَإِنَّمَا ذكرُوا شَاة، وَهُوَ أَمر لَا خلاف فِيهِ بَين الْعلمَاء. قَالَ بَعضهم: يُعَكر عَلَيْهِ مَا أخرجه أَبُو دَاوُد من طَرِيق نَافِع عَن رجل من الْأَنْصَار عَن كَعْب بن عجْرَة أَنه أصَاب أَذَى، فحلق، فَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يهدي بقرة. وروى الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق عبد الْوَهَّاب بن بخت عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، قَالَ: حلق كَعْب بن عجْرَة رَأسه، فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يفتدي فَافْتدى ببقرة) . وروى عبد بن حميد من طَرِيق أبي معشر عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، قَالَ: افتدى كَعْب من أَذَى كَانَ بِرَأْسِهِ، فحلقه ببقرة قلدها وأشعرها) . وروى سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق ابْن أبي ليلى عَن نَافِع عَن سُلَيْمَان بن يسَار، قيل لِابْنِ كَعْب بن عجْرَة: مَا صنع أَبوك حَيْثُ أَصَابَهُ الْأَذَى فِي رَأسه؟ قَالَ: ذبح بقرة. قلت: هَذَا كُله لَا يُسَاوِي مَا ثَبت فِي (الصَّحِيح) من أَن الَّذِي أَمر بِهِ كَعْب وَفعله فِي النّسك إِنَّمَا هُوَ شَاة، وَقد قَالَ شَيخنَا زين الدّين رَحمَه الله: لفظ الْبَقَرَة مُنكر شَاذ، وَقَالَ ابْن حزم: وَخبر كَعْب بن عجْرَة الصَّحِيح فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي ليلى، وَالْبَاقُونَ روايتهم مضطربة موهومة، فَوَجَبَ ترك مَا اضْطربَ فِيهِ وَالرُّجُوع إِلَى رِوَايَة عبد الرَّحْمَن الَّتِي لم تضطرب، وَلَو كَانَ مَا ذكر فِي هَذِه الْأَخْبَار عَن قضايا شَتَّى لوَجَبَ الْأَخْذ بجميعها وَضم بَعْضهَا ءلى بعض، وَلَا يُمكن هُنَا جمعهَا لِأَنَّهَا كلهَا فِي قصَّة وَاحِدَة فِي مقَام وَاحِد فِي رجل وَاحِد فِي وَقت وَاحِد، فَوَجَبَ أَخذ مَا رَوَاهُ أَبُو قلَابَة وَالشعْبِيّ عَن عبد الرَّحْمَن عَن كَعْب، لثقتهما، وَلِأَنَّهَا مبينَة لسَائِر الْأَحَادِيث.

7181 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ حَدثنَا رَوْحٌ قَالَ حدَّثنا شِبْلٌ عنِ ابنِ أبِي نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبي لَيْلَى عنْ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رآهُ وأنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ فَقال أيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ قَالَ نَعَمْ فأمَرَهُ أنْ يَحْلِقَ وهْوَ بِالْحُدَيْبِيَّةِ ولَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا وهُمْ عَلَى طَمَعٍ أنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ فأنْزَلَ الله الفِدْيَةَ فأمَرَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يُطْعِمَ فَرَقا بَيْنَ سَتَّةٍ أوْ يُهْدِي شَاةً أوْ يَصُومَ ثلاثَةَ أيَّامٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو يهدي شَاة) ، وَإِسْحَاق، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ ابْن مَنْصُور الكوسج، وَقيل: هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه وروح بن عبَادَة. وشبل، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عباد الْمَكِّيّ، وَابْن أبي نجيح: هُوَ عبد الله بن أبي نجيح الْمَكِّيّ.
قَوْله: (رَآهُ) أَي: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَعْب بن عجْرَة. قَوْله: (وَأَنه) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الْقمل، والسياق يدل عَلَيْهِ، قَالَه الْكرْمَانِي. وَقَالَ: إِمَّا يرجع إِلَى كَعْب، كَأَن نَفسه تسْقط مُبَالغَة فِي كَثْرَة الْقمل وَكَثْرَة الوجع والأذى، وَبَعْضهمْ جعل الضَّمِير فِي: يسْقط رَاجعا إِلَى الْقمل، وَأَنه مَحْذُوف وأكد كَلَامه بِمَا ثَبت كَذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات، يَعْنِي: (وَأَن كَعْبًا يسْقط الْقمل على وَجهه) ، وَله وَجه حسن دلّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة عَن مُحَمَّد بن معمر عَن روح بِلَفْظ: (رَآهُ وقمله يسْقط على وَجهه) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي حُذَيْفَة عَن شبْل: (رأى قملاً يتساقط على وَجهه) . قَوْله: (يسْقط) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن وَأبي ذَر: (ليسقط) بِزِيَادَة لَام التَّأْكِيد. قَوْله: (وَلم يتَبَيَّن لَهُم) ، أَي: لم يظْهر لمن كَانُوا فِي الْحُدَيْبِيَة مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد فِي ذَلِك الْوَقْت أَنهم يحلونَ بهَا. أَي: بِالْحُدَيْبِية، لأَنهم كَانُوا على طمع أَن يدخلُوا مَكَّة. قيل: هَذِه الزِّيَادَة ذكرهَا الرَّاوِي لبَيَان أَن الْحلق كَانَ لاستباحة مَحْظُور بِسَبَب الْأَذَى لَا لقصد التَّحَلُّل بالحصر. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: فِيهِ دَلِيل أَن من كَانَ على رَجَاء من الْوُصُول إِلَى الْبَيْت أَن عَلَيْهِ أَن يُقيم حَتَّى ييئس من الْوُصُول إِلَيْهِ فَيحل، وَاتَّفَقُوا على أَن من ييئس من الْوُصُول وَجَاز لَهُ أَن يحل فتمادى على إِحْرَامه ثمَّ أمكنه أَن يصل إِن عَلَيْهِ أَن يمْضِي إِلَى الْبَيْت ليتم نُسكه. قَوْله: (فَأنْزل الله الْفِدْيَة) ظَاهره

(10/156)


أَن النُّزُول بعد الحكم. وَفِي رِوَايَة عبد الله بن معقل: أَن النُّزُول قبل الحكم. قَالَ عِيَاض: يحمل على أَنه حكم عَلَيْهِ بِالْكَفَّارَةِ بِوَحْي غير متلوٍ. ثمَّ نزل الْقُرْآن بِبَيَان ذَلِك. قَوْله: (أَن يطعم فرقا بَين سِتَّة) ، قد مر تَفْسِير الْفرق عَن قريب، أَي: أمره أَن يطعم من الطَّعَام قدر فرق مِنْهُ بَين سِتَّة مَسَاكِين. قَوْله: (أَو يهدي شَاة) أطلق على الْفِدْيَة بِالشَّاة اسْم الْهَدْي، وَبِه يرد على من منع ذَلِك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قد ذكرنَا فِي أول أَحَادِيث الْبَاب أحكاما كَثِيرَة من حَدِيث كَعْب، وَنَذْكُر هُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ، فَمن ذَلِك: مَا احْتج بِهِ مَالك فِي قَوْله: (وَلم يتَبَيَّن لَهُم) إِلَى آخِره، على وجوب الْكَفَّارَة على الْمَرْأَة تَقول فِي رَمَضَان، غَدا حيضتي. وعَلى الرجل يَقُول: غَدا يَوْم حماي، فيفطران ثمَّ ينْكَشف الْأَمر بالحمى وَالْحيض، كَمَا قَالَا إِن عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَة. لِأَن الَّذِي كَانَ فِي علم الله أَنهم يحلونَ بِالْحُدَيْبِية لم يسْقط عَن كَعْب الْكَفَّارَة الَّتِي وَجَبت عَلَيْهِ بِالْحلقِ قبل أَن ينْكَشف الْأَمر.
وَمِنْه: أَن قَوْله: (إحلق) ، يحْتَمل النّدب وَالْإِبَاحَة. قَالَ ابْن التِّين: وَهَذَا يدل على أَن إِزَالَة الْقمل عَن الرَّأْس مَمْنُوعَة، وَيجب بِهِ الْفِدْيَة، وَكَذَلِكَ الْجَسَد عِنْد مَالك. ثمَّ قَالَ: وَقَالَ الشَّافِعِي: أَخذ القملة من الْجَسَد مُبَاح، وَفِي أَخذهَا من الرَّأْس الْفِدْيَة لأجل ترفهه لَا لأجل القملة. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَهَذَا غَرِيب، فَإِن الشَّافِعِي قَالَ: من قتل قملة تصدق بلقمة، وَهُوَ على وَجه الِاسْتِحْبَاب.
وَمِنْه: أَن النّسك هَهُنَا شَاة، فَلَو تبرع بِأَكْثَرَ من هَذَا جَازَ.
وَمِنْه: أَن صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام لَا يجوز فِي أَيَّام التَّشْرِيق، وَبِه قَالَ عَطاء فِي رِوَايَة، وَسَعِيد بن جُبَير وطاووس وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَاللَّيْث بن سعد وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول عمر بن الْخطاب وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ أَبُو بكر الْجَصَّاص فِي (أَحْكَام الْقُرْآن) اخْتلف السّلف فِيمَن لم يجد الْهَدْي وَلم يصم الْأَيَّام الثَّلَاثَة قبل يَوْم النَّحْر، فَقَالَ عمر وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن جُبَير وَإِبْرَاهِيم وطاووس: لَا يجْزِيه إلاَّ الْهَدْي، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَقَالَ ابْن عمر وَعَائِشَة: يَصُوم أَيَّام منى، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب: يَصُوم بعد أَيَّام التَّشْرِيق، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي.
وَمِنْه: أَن السّنة مبينَة لمجمل الْكتاب لإِطْلَاق الْفِدْيَة فِي الْقُرْآن وتقييدها بِالسنةِ.
وَمِنْه: تلطف الْكَبِير بِأَصْحَابِهِ وعنايته بأحوالهم وتفقده لَهُم، وَإِذا رأى بِبَعْض أَصْحَابه ضَرَرا سَأَلَ عَنهُ وأرشده إِلَى الْمخْرج عَنهُ.
وَمِنْه: أَن بعض الْمَالِكِيَّة استنبطوا مِنْهُ إِيجَاب الْفِدْيَة على من تعمد حلق رَأسه بِغَيْر عذر، فَإِن إِيجَابهَا على الْمَعْذُور من بَاب التَّنْبِيه بالأدنى على الْأَعْلَى، لَكِن لَا يلْزم من ذَلِك التَّسْوِيَة بَين الْمَعْذُور وَغَيره، وَمن ثمَّة قَالَ الشَّافِعِي: وَجُمْهُور الْعلمَاء لَا يتَخَيَّر الْعَامِد، بل يلْزمه الدَّم، وَخَالف فِي ذَلِك أَكثر الْمَالِكِيَّة، وَاحْتج لَهُم الْقُرْطُبِيّ، بقوله فِي حَدِيث كَعْب: (أَو اذْبَحْ نسكا) . قَالَ: فَهَذَا يدل على أَنه لَيْسَ بِهَدي. قَالَ: فعلى هَذَا يجوز أَن يذبحها حَيْثُ شَاءَ، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا دلَالَة فِيهِ، إِذْ لَا يلْزم من تَسْمِيَتهَا نسكا أَو نسيكة أَن لَا تسمى هَديا؟ أَو لَا يعْطى حكم الْهَدْي؟ وَقد وَقع تَسْمِيَتهَا: هَديا، فِي هَذَا الْبَاب حَيْثُ قَالَ: (وَيهْدِي شَاة) ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (واهدِ هَديا) ، وَفِي رِوَايَة للطبراني: (هَل لَك هدي؟ قلت: لَا أجد) ، وَهَذَا يدل على أَن ذَلِك من تصرف الروَاة، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي رِوَايَة مُسلم: (أَو اذْبَحْ شَاة) .

8181 - وعَنْ محَمَّدِ بنِ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا ورْقَاءُ عنِ ابنِ أبِي نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي لَيْلَى عنْ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رآهُ وقَمْلُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ مثْلَهُ..
ظَاهره التَّعْلِيق وَلكنه عطف على روح، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن إِسْحَاق رَوَاهُ عَن روح، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، وَكَذَا وَقع فِي تَفْسِير إِسْحَاق، وورقاء هُوَ ابْن عمر بن كُلَيْب أَبُو بشر الْيَشْكُرِي، وَيُقَال: الشَّيْبَانِيّ، أَصله من خوارزم، وَيُقَال:

(10/157)


من الْكُوفَة نزل الْمَدَائِن، وَقد مر فِي الْوضُوء، وَفِي الأَصْل الورقاء تَأْنِيث الأورق. قَوْله: (وقمله) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (مثله) أَي: مثل الحَدِيث الْمَذْكُور.

9 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {فَلاَ رَفَثَ} )

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الحَدِيث فِي الرَّفَث فِي قَول الله تَعَالَى: {فَمن فرض فِيهِنَّ الْحَج فَلَا رفص وَلَا فسوق وَلَا جِدَال فِي الْحَج} (الْبَقَرَة: 791) .

9181 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شعْبَةُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ حَجَّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلم يرْفث) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: سُلَيْمَان بن حَرْب، ضد الصُّلْح أَبُو أَيُّوب الواشجي، وواشج حَيّ من الأزد قَاضِي مَكَّة. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر أَبُو غياث. الرَّابِع: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي، الْأَشْجَعِيّ، واسْمه سلمَان مولى عزة الأشجعية. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشعْبَة واسطي وَمَنْصُور وَأَبُو حَازِم كوفيان، وَعلل بَعضهم هَذَا الْإِسْنَاد بالاختلاف على مَنْصُور لِأَن الْبَيْهَقِيّ أوردهُ من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مَنْصُور عَن هِلَال بن يسَاف عَن أبي حَازِم، زَاد فِيهِ رجلا، وَأجِيب: بِأَن منصورا صرح بِسَمَاعِهِ لَهُ من أبي حَازِم الْمَذْكُور فِي رِوَايَة صَحِيحَة حَيْثُ قَالَ: عَن مَنْصُور سَمِعت أَبَا حَازِم، وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون مَنْصُور قد سَمعه أَولا من هِلَال عَن أبي حَازِم، ثمَّ لَقِي أَبَا حَازِم فَسَمعهُ مِنْهُ، فَحدث بِهِ على الْوَجْهَيْنِ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى وَزُهَيْر بن حَرْب وَعَن سعيد بن مَنْصُور وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن ابْن الْمثنى عَن غنْدر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي عمار الْمروزِي، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من حج هَذَا الْبَيْت) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة جرير عَن مَنْصُور: (من أَتَى هَذَا الْبَيْت) . قيل: هُوَ أَعم من قَوْله: (من حج) . قلت: لفظ: حج، مَعْنَاهُ قصد وَهُوَ أَيْضا أَعم من أَن يكون لِلْحَجِّ أَو الْعمرَة. قَوْله: (هَذَا الْبَيْت) يدل على أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا قَالَه وَهُوَ فِي مَكَّة، لِأَن: بِهَذَا، يشار إِلَى الْحَاضِر. قَوْله: (فَلم يرْفث) ، بِضَم الْفَاء وَكسرهَا وَفتحهَا، وَالْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة وَعند أهل اللُّغَة: يرْفث، بِضَم الْفَاء من بَاب: نصر ينصر، وَيَرْفث بِكَسْر الْفَاء حَكَاهُ صَاحب (الْمَشَارِق) ، فَيكون من بَاب: ضرب يضْرب، وَيَرْفث بِفَتْح الْفَاء يكون من بَاب: علم يعلم، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: يرْفث، بِضَم الْيَاء وَكسر الْفَاء من: أرفث. حَكَاهُ ابْن الْقُوطِيَّة وَابْن طريف فِي (الْأَفْعَال) ، على أَنه جَاءَ على فعل وأفعل، والرفث، بِفَتْح الْفَاء الِاسْم، وَأَصله ذكر بِإِسْكَان الْفَاء، والرفث يُطلق وَيُرَاد بِهِ الْجِمَاع، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور فِي قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} (الْبَقَرَة: 781) . وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الْفُحْش، وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ ذكر الْجِمَاع، وَقيل: المُرَاد بِهِ ذَلِك مَعَ النِّسَاء لَا مطلقه، وَقد اخْتلف فِي المُرَاد بالرفث فِي الحَدِيث على هَذِه الْأَقْوَال: قَالَ الْأَزْهَرِي: هِيَ كلمة جَامِعَة لكل مَا يُرِيد الرجل من الْمَرْأَة، وَالْفَاء فِي: (فَلم يرْفث) ، عطف على الشَّرْط، أَعنِي قَوْله: (من حج) ، وَجَوَابه قَوْله: (رَجَعَ) ، أَي: رَجَعَ إِلَى بَلَده. قَوْله: (وَلم يفسق) ، من الفسوق وَهُوَ الْخُرُوج عَن حُدُود الشَّرِيعَة، وَأَصله الْخُرُوج، يُقَال: فسقت الْخَشَبَة عَن مَكَانهَا إِذا زَالَت، فالفاسق خَارج عَن الطَّاعَة، وَقيل: لم يفسق أَي لم يذبح لغير الله تَعَالَى على الْخلاف فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رفث وَلَا فسوق} (الْبَقَرَة: 791) . وَقيل الْفسق مَا ؤصابه من محارم الله وَقيل قَول الزُّور قيل السباب (فَإِن قلت)
لم يذكر فِيهِ الْجِدَال مَعَ أَنه مَذْكُور فِي الْقُرْآن. قلت: لِأَن المجادلة ارْتَفَعت بَين الْعَرَب وقريش فِي مَوضِع الْوُقُوف

(10/158)


بِعَرَفَة والمزدلفة، فَأسْلمت قُرَيْش وَارْتَفَعت المجادلة، ووقف الْكل بِعَرَفَة. قَوْله: (كَمَا وَلدته أمه) ، الْجَار وَالْمَجْرُور حَال، أَي مشابها لنَفسِهِ فِي الْبَرَاءَة عَن الذُّنُوب فِي يَوْم الْولادَة، أَو يكون معنى: رَجَعَ، صَار والظرف خَبره، وَقَوله فِي الحَدِيث الْآتِي: (كَيَوْم) بِالْفَتْح وَالْكَسْر جَائِز، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه) ، وَمعنى اللَّفْظَيْنِ قريب، وَظَاهره الصَّغَائِر والكبائر. وَقَالَ صَاحب (الْمُفْهم) : هَذَا يتَضَمَّن غفران الصَّغَائِر والكبائر والتبعات، وَيُقَال: هَذَا فِيمَا يتَعَلَّق بِحَق الله، لِأَن مظالم النَّاس تحْتَاج إِلَى استرضاء الْخُصُوم. فَإِن قلت: العَبْد مَأْمُور باجتناب مَا ذكر فِي كل الْحَالَات، فَمَا معنى تَخْصِيص حَالَة الْحَج؟ قلت: لِأَن ذَلِك مَعَ الْحَج أسمج وأقبح، كلبس الْحَرِير فِي الصَّلَاة.

01 - (بابُ قَولِ الله عزَّ وجلَّ {ولاَ فُسُوقَ ولاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ} (الْبَقَرَة: 791) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي الحَدِيث فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَلَا فسوق} (الْبَقَرَة: 791) .

0281 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ عنْ مَنْصُورِ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَم يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسقْ رَجَعَ كَيَومَ ولَدَتْهُ أُمُّهُ..
هَذَا بِعَيْنِه هُوَ الحَدِيث السَّابِق قبل هَذَا الْبَاب غير أَنه أخرج ذَاك: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور، وَهَذَا أخرجه: عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور إِلَى آخِره، وَغير أَن هُنَاكَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهنا: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَغير أَن هُنَاكَ: كَمَا وَلدته أمه، وَهنا: كَيَوْم وَلدته أمه. فَإِن قلت: من أَيْن قلت: إِن سُفْيَان فِي الْإِسْنَاد هُوَ الثَّوْريّ؟ وَقد أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مَنْصُور؟ قلت: نَص الْبَيْهَقِيّ على أَن سُفْيَان فِي رِوَايَة البُخَارِيّ هُوَ الثَّوْريّ، لِأَنَّهُ رَوَاهُ عَن أبي الْحسن بن بَشرَان عَن أبي الْحسن عَليّ بن بكر الْمصْرِيّ عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي مَرْيَم عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور، فَذكر الحَدِيث وَقَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (الصَّحِيح) عَن الْفرْيَابِيّ، وَكَذَا قَالَه أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ، فَإِذا كَانَ كَمَا نصا عَلَيْهِ فسفيان هُوَ الثَّوْريّ، قَالَه صَاحب (التَّلْوِيح) وَالله أعلم.