عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 72 - (كتابُ المُحْصَرِ وجَزَاءِ
الصَّيْدِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب فِي بَيَان أَحْكَام الْمحصر
وَأَحْكَام جَزَاء الصَّيْد الَّذِي يتَعَرَّض إِلَيْهِ
الْمحرم، وَثبتت الْبَسْمَلَة لجَمِيع الروَاة، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر: أَبْوَاب، بِلَفْظ الْجمع وَفِي
رِوَايَة غَيره: بَاب، بِالْإِفْرَادِ.
وقَوْلِهِ تَعَالى: {فإنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الهَدْيِ ولاَ تَحْلِقُوا رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (الْبَقَرَة: 691) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (الْمحصر) ، أَي:
وَفِي بَيَان المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: {فَإِن أحصرتم
{ (الْبَقَرَة: 691) .
الْكَلَام هَهُنَا على أَنْوَاع:
الأول فِي معنى الْحصْر والإحصار. الْإِحْصَار: الْمَنْع
وَالْحَبْس عَن الْوَجْه الَّذِي يَقْصِدهُ، يُقَال: أحصره
الْمَرَض أَو السُّلْطَان إِذا مَنعه عَن مقْصده، فَهُوَ
محصر،، والحصر الْحَبْس، يُقَال: حصره إِذا حَبسه فَهُوَ
مَحْصُور، وَقَالَ القَاضِي إِسْمَاعِيل: الظَّاهِر أَن
الْإِحْصَار بِالْمرضِ والحصر بالعدو، وَمِنْه: فَلَمَّا
حصر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ
تَعَالَى: {فَإِن أحصرتم} (الْبَقَرَة: 691) . وَقَالَ
الْكسَائي: يُقَال من الْعَدو: حصر فَهُوَ مَحْصُور، وَمن
الْمَرَض: أحْصر فَهُوَ محصر، وَحكى عَن الْفراء أَنه
أجَاز كل وَاحِد مِنْهُمَا مَكَان الآخر، وَأنكر الْمبرد
والزجاج، وَقَالا: هما مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَعْنى، وَلَا
يُقَال فِي الْمَرَض: حصره، وَلَا فِي الْعَدو: أحصره،
وَإِنَّمَا هَذَا كَقَوْلِهِم حَبسه إِذا جعله فِي
الْحَبْس، وأحبسه أَي عرضه للحبس، وَقَتله أوقع بِهِ
الْقَتْل، وأقتله أَي عرضه للْقَتْل، وَكَذَلِكَ حصره:
حَبسه، وأحصره، عرضه للحصر.
النَّوْع الثَّانِي: فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة:
ذكرُوا أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي سنة سِتّ، أَي: عَام
الْحُدَيْبِيَة حِين حَال الْمُشْركُونَ بَين رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين الْوُصُول إِلَى الْبَيْت،
وَأنزل الله فِي ذَلِك سُورَة الْفَتْح بكمالها، وَأنزل
لَهُم رخصَة أَن يذبحوا مَا مَعَهم من الْهَدْي، وَكَانَ
سبعين بَدَنَة، وَأَن يتحللوا من إحرامهم، فَعِنْدَ ذَلِك
أَمرهم، عَلَيْهِ السَّلَام، أَن يذبحوا مَا مَعَهم من
الْهَدْي وَأَن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا، فَلم يَفْعَلُوا
انتظارا للنسخ، حَتَّى خرج فحلق رَأسه، فَفعل النَّاس،
وَكَانَ مِنْهُم من قصّ رَأسه وَلم يحلقه، فَلذَلِك قَالَ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (رحم الله المحلقين! قَالُوا:
والمقصرين يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ فِي الثَّالِثَة:
والمقصرين) ، وَقد كَانُوا اشْتَركُوا فِي هديهم ذَلِك كل
سَبْعَة فِي بَدَنَة، وَكَانُوا ألفا وَأَرْبَعمِائَة،
وَكَانَ منزلهم بِالْحُدَيْبِية خَارج الْحرم، وَقيل: بل
كَانُوا على طرف الْحلم.
النَّوْع الثَّالِث فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: قَوْله:
{فَإِن أحصرتم} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: منعتم عَن تَمام
الْحَج وَالْعمْرَة فحللتم: {فَمَا اسْتَيْسَرَ}
(الْبَقَرَة: 691) . أَي: فَعَلَيْكُم مَا اسْتَيْسَرَ {من
الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) . أَي: مَا تيَسّر مِنْهُ،
يُقَال: يسر الْأَمر واستيسر، كَمَا يُقَال: صَعب واستصعب.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْهَدْي جمع هَدِيَّة، كَمَا
يُقَال فِي جدية السرج جدي، وقرىء: من الْهَدْي،
بِالتَّشْدِيدِ جمع هَدِيَّة، كمطية ومطي، وَحَاصِل
الْمَعْنى: فَإِن منعتم من الْمُضِيّ إِلَى الْبَيْت
وَأَنْتُم محرمون بِحَجّ أَو عمْرَة فَعَلَيْكُم إِذا
أردتم التَّحَلُّل مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي من بعير
أَو بقرة أَو شَاة. قَوْله: {وَلَا تحلقوا رؤوسكم}
(الْبَقَرَة: 691) . عطف على قَوْله: {وَأَتمُّوا الْحَج
وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . وَلَيْسَ مَعْطُوفًا
على قَوْله: {فَإِن أحصرتم} (الْبَقَرَة: 691) . كَمَا
زَعمه ابْن جرير، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأَصْحَابه عَام الْحُدَيْبِيَة لما حصرهم كفار قُرَيْش
عَن الدُّخُول إِلَى الْحرم حَلقُوا وذبحوا هديهم خَارج
الْحرم، وَأما فِي حَال الْأَمْن والوصول إِلَى الْحرم
فَلَا يجوز الْحلق حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله، ويفرغ
الناسك من أَفعَال الْحَج وَالْعمْرَة إِن كَانَ قَارنا
أَو من فعل أَحدهمَا إِن كَانَ مُفردا أَو مُتَمَتِّعا.
النَّوْع الرَّابِع: اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي الْحصْر،
بِأَيّ شَيْء يكون، وَبِأَيِّ معنى يكون، فَقَالَ قوم وهم
عَطاء بن أبي رَبَاح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان
الثَّوْريّ: يكون الْحصْر بِكُل حَابِس من مرض أَو غَيره
من عَدو وَكسر وَذَهَاب نَفَقَة وَنَحْوهَا مِمَّا يمنعهُ
عَن الْمُضِيّ إِلَى الْبَيْت، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر. وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن
عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت. وَقَالَ
آخَرُونَ، وهم اللَّيْث بن سعد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وَإِسْحَاق: لَا يكون الْإِحْصَار إِلَّا بالعدو
فَقَط، وَلَا يكون بِالْمرضِ، وَهُوَ قَول عبد الله بن
عمر. وَقَالَ الْجَصَّاص فِي (كتاب الْأَحْكَام) وَقد
اخْتلف السّلف فِي حكم الْمحصر على ثَلَاثَة أنحاء، رُوِيَ
عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: الْعَدو وَالْمَرَض
سَوَاء، يبْعَث دَمًا، وَيحل بِهِ إِذا أنحر فِي الْحرم،
وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه. وَالثَّانِي: قَول
ابْن عمر إِن الْمَرِيض لَا يحل وَلَا يكون محصورا إِلَّا
بالعدو، وَهُوَ قَول
(10/140)
مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَالثَّالِث: قَول
ابْن الزبير وَعُرْوَة بن الزبير: إِن الْمَرَض والعدو
سَوَاء لَا يحل إِلَّا بِالطّوافِ، وَلَا نعلم لَهما
مُوَافقا من فُقَهَاء الْأَمْصَار. وَفِي (شرح
الْمُوَطَّأ) : مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ أَن الْمحصر
بِالْمرضِ لَا يحل دون الْبَيْت، وَسَوَاء عِنْد مَالك
شَرط عِنْد إِحْرَامه التَّحَلُّل للمرض أَو لم يشْتَرط.
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَهُ شَرطه. وَقَالَ أَبُو عمر:
الْإِحْصَار عِنْد أهل الْعلم على وُجُوه: مِنْهَا:
الْمحصر بالعدو. وَمِنْهَا: بالسلطان الجائر. وَمِنْهَا:
الْمَرَض وَشبهه. فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما:
من أحصره الْمَرَض فَلَا يحله إِلَّا الطّواف بِالْبَيْتِ،
وَمن حصر بعدو فَإِنَّهُ ينْحَر هَدْيه حَيْثُ حصر ويتحلل
وينصرف وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ إلاَّ أَن تكون ضَرُورَة
فيحج الْفَرِيضَة، وَلَا خلاف بَين الشَّافِعِي وَمَالك
وأصحابهما فِي ذَلِك. وَقَالَ ابْن وهب وَغَيره: كل من حبس
عَن الْحَج بَعْدَمَا يحرم بِمَرَض أَو حِصَار من الْعَدو
أَو خَافَ عَلَيْهِ الْهَلَاك فَهُوَ محصر، فَعَلَيهِ مَا
على الْمحصر، وَلَا يحل دون الْبَيْت، وَكَذَلِكَ من
أَصَابَهُ كسر وبطن متحرق. وَقَالَ مَالك: أهل مَكَّة فِي
ذَلِك كَأَهل الْآفَاق، لِأَن الْإِحْصَار عِنْده فِي
الْمَكِّيّ الْحَبْس عَن عَرَفَة خَاصَّة، قَالَ: فَإِن
احْتَاجَ الْمَرِيض إِلَى دَوَاء تداوى بِهِ وافتدى،
وَهُوَ على إِحْرَامه لَا يحل من شَيْء مِنْهُ حَتَّى يبرأ
من مَرضه، فَإِذا برىء من مَرضه مضى إِلَى الْبَيْت
فَطَافَ بِهِ سبعا وسعى بَين الصَّفَا والمروة وَحل من حجه
أَو عمرته. وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا كُله قَول
الشَّافِعِي أَيْضا. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله:
إِذا نحر الْمحصر هَدْيه هَل يحلق رَأسه أم لَا؟ فَقَالَ
قوم: لَيْسَ عَلَيْهِ أَن يحلق لِأَنَّهُ قد ذهب عَنهُ
النّسك كُله، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد. وَقَالَ
آخَرُونَ: بل يحلق فَإِن لم يحلق فَلَا شَيْء عَلَيْهِ،
وَهَذَا قَول أبي يُوسُف. وَقَالَ آخَرُونَ: يحلق وَيجب
عَلَيْهِ مَا يجب على الْحَاج والمعتمر، وَهُوَ قَول
مَالك.
النَّوْع الْخَامِس فِي الاحتجاجات فِي هَذَا الْبَاب:
احْتج الشَّافِعِي وَمن تَابعه فِي هَذَا الْبَاب بِمَا
رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله بن
يزِيد حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن
عَبَّاس وَابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس
وَابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس: لَا حصر
إلاَّ حصر الْعَدو، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي (مُسْنده)
عَن ابْن عَبَّاس: لَا حصر إلاَّ حصر الْعَدو. فَأَما من
أَصَابَهُ مرض أَو وجع أَو ضلال فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء.
قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن عمر وطاووس وَالزهْرِيّ وَزيد بن
أسلم نَحْو ذَلِك، وَاحْتج أَبُو حنيفَة وَمن تَابعه فِي
ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا يحيى بن
سعيد حَدثنَا حجاج الصَّواف عَن يحيى بن أبي كثير عَن
عِكْرِمَة عَن الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، قَالَ:
سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من
كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى، قَالَ:
فَذكرت ذَلِك لِابْنِ عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة، فَقَالَا:
صدق) . فقد أخرجه الْأَرْبَعَة من حَدِيث يحيى بن أبي كثير
بِهِ. وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَابْن مَاجَه: (من عرج
أَو كسر أَو مرض) ، فَذكر مَعْنَاهُ، وَرَوَاهُ عبد بن
حميد فِي (تَفْسِيره) ، ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَن ابْن
مَسْعُود وَابْن الزبير وعلقمة وَسَعِيد بن الْمسيب
وَعُرْوَة بن الزبير وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء
وَمُقَاتِل بن حبَان أَنهم قَالُوا: بالإحصار من عَدو أَو
مرض أَو كسر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْإِحْصَار من كل
شَيْء آذاه قلت: وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث حَكَاهُ
ابْن جرير وَغَيره، وَهُوَ أَنه: لَا حصر بعد النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
النَّوْع السَّادِس: فِي حكم الْهَدْي: فَقَالَ ابْن
عَبَّاس: من الْأزْوَاج الثَّمَانِية من الْإِبِل
وَالْبَقر والمعز والضأن. وَقَالَ الثَّوْريّ عَن حبيب عَن
سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى:
{فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) .
قَالَ شَاة، وَكَذَا قَالَ عَطاء وَمُجاهد وطاووس وَأَبُو
الْعَالِيَة وَمُحَمّد بن الْحُسَيْن وَعبد الرَّحْمَن بن
الْقَاسِم وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَقَتَادَة
وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل بن حبَان مثل ذَلِك، وَهُوَ
مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة. وَقَالَ ابْن أبي
حَاتِم: حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج حَدثنَا أَبُو خَالِد
الْأَحْمَر عَن يحيى بن سعيد عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة
وَابْن عمر أَنَّهُمَا كَانَا لَا يريان مَا اسْتَيْسَرَ
من الْهَدْي إلاَّ من الْإِبِل وَالْبَقر وَقد رُوِيَ عَن
سَالم وَالقَاسِم وَعُرْوَة بن الزبير وَسَعِيد بن جُبَير
نَحْو ذَلِك، وَقيل: الظَّاهِر أَن مُسْتَند هَؤُلَاءِ
فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قصَّة الْحُدَيْبِيَة، فَإِنَّهُ
لم ينْقل عَن أحد مِنْهُم إِنَّه ذبح فِي تحلله ذَاك شَاة،
وَإِنَّمَا ذَبَحُوا الْإِبِل وَالْبَقر. فَفِي
(الصَّحِيحَيْنِ) : (عَن جَابر، قَالَ: أمرنَا رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نشترك فِي الْإِبِل
وَالْبَقر، كل سَبْعَة منَّا فِي بقرة) . وَقَالَ عبد
الرَّزَّاق: أخبرنَا معمر عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن
ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ من
الْهَدْي} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ: بِقدر يسارته.
وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس: إِن كَانَ مُوسِرًا
فَمن الْإِبِل، وإلاَّ فَمن الْبَقر، وإلاَّ فَمن الْغنم.
(10/141)
وَقَالَ عطَاءٌ الإحْصَارُ مِنْ كُلِّ
شَيءٍ بِحَسَبِهِ
هَذَا التَّعْلِيق عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، وَصله ابْن
أبي شيبَة حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن ابْن جريج عَن عَطاء،
قَالَ: لَا إحصار إلاَّ من مرض أَو عَدو أَو أَمر حَابِس.
قالَ أبُو عَبْدِ الله حَصُورا لاَ يَأتِي النِّسَاءَ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. وَكَانَ دأبه أَنه
إِذا ذكر: لفظا جَاءَ فِي الْقُرْآن من مَادَّة ذكر مَا
هُوَ بصدده، وَكَانَ الْمَذْكُور هُوَ لفظ الْمحصر فِي
التَّرْجَمَة، وَفِي الْآيَة لفظ: أحصرتم، وَذكر: حصورا،
الَّذِي جَاءَ فِي الْقُرْآن أَيْضا. وَهُوَ فِي قَوْله عز
وَجل: {إِن الله يبشرك بِيَحْيَى مُصدقا بِكَلِمَة من الله
وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} (آل
عمرَان: 93) . ثمَّ إِنَّه فسر الحصور بقوله: {لَا يَأْتِي
النِّسَاء} (آل عمرَان: 83) . وروى هَذَا التَّفْسِير ابْن
مَسْعُود. وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة
وَسَعِيد وَأبي الشعْثَاء وعطية الْعَوْفِيّ، وَعَن أبي
الْعَالِيَة وَالربيع بن أنس: هُوَ الَّذِي لَا يُولد
لَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاك: هُوَ الَّذِي لَا يُولد لَهُ
وَلَا مَال لَهُ. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي
حَدثنَا يحيى بن الْمُغيرَة أخبرنَا جرير عَن قَابُوس عَن
أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس فِي الحصور الَّذِي لَا ينزل
المَاء، وَقد روى ابْن أبي حَاتِم فِي هَذَا حَدِيثا
غَرِيبا. فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو جَعْفَر بن غَالب
الْبَغْدَادِيّ حَدثنِي سعيد بن سُلَيْمَان حَدثنَا عباد
يَعْنِي ابْن الْعَوام عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن
الْمسيب عَن ابْن الْعَاصِ لَا يدْرِي عبد الله أَو عَمْرو
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله:
{وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (آل عمرَان: 93) . قَالَ: ثمَّ
تنَاول شَيْئا من الأَرْض، فَقَالَ: كَانَ ذكره مثل هَذَا،
وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا
أَحْمد بن دَاوُد السجسْتانِي حَدثنَا سُوَيْد بن سعيد
حَدثنَا عَليّ بن مسْهر عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن
الْمسيب، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا
من عبد يلقى الله أَلا ذَا ذَنْب إِلَّا يحيى بن
زَكَرِيَّا فَإِن الله يَقُول: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا}
(آل عمرَان: 93) .) قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ ذكره مثل هدبة
الثَّوْب، وَأَشَارَ بأنمله وَذبح ذبحا) . وروى ابْن أبي
حَاتِم أَيْضا بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي هُرَيْرَة أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (كل ابْن آدم
يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عَلَيْهِ إِن شَاءَ أَو
يرحمه إلاَّ يحيى بن زَكَرِيَّا، عَلَيْهِمَا السَّلَام،
فَإِنَّهُ كَانَ {سيدا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا من
الصَّالِحين} (آل عمرَان: 93) . ثمَّ أَهْوى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قذاة من الأَرْض فَأَخذهَا،
وَقَالَ: كَانَ ذكره مثل هَذِه القذاة) . وَقَالَ القَاضِي
عِيَاض: إعلم أَن ثَنَاء الله تَعَالَى على يحيى بِأَنَّهُ
حصور لَيْسَ كَمَا قَالَه بَعضهم: إِنَّه كَانَ هيوبا أَو
لَا ذكر لَهُ، بل أنكر حذاق الْمُفَسّرين ونقاد الْعلمَاء،
وَقَالُوا: هَذَا نقيصة وعيب، وَلَا يَلِيق بالأنبياء،
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ
أَنه مَعْصُوم من الذُّنُوب، أَي: لَا يَأْتِيهَا
كَأَنَّهُ حصر عَنْهَا. وَقيل: مَانِعا نَفسه عَن
الشَّهَوَات، وَقيل: لَيست لَهُ شَهْوَة فِي النِّسَاء،
وَالْمَقْصُود أَنه مدح يحيى بِأَنَّهُ حصور لَيْسَ أَنه
لَا يَأْتِي النِّسَاء كَمَا قَالَه بَعضهم، بل مَعْنَاهُ:
أَنه مَعْصُوم عَن الْفَوَاحِش والقاذورات، وَلَا يمْنَع
ذَلِك من تَزْوِيجه بِالنسَاء الْحَلَال وغشيانهن
وإيلادهن، بل قد يفهم وجود النَّسْل من دُعَاء زَكَرِيَّا،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَيْثُ قَالَ: {هَب لي من
لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة} (آل عمرَان: 83) . كَأَنَّهُ
سَأَلَ ولدا لَهُ ذُرِّيَّة ونسل وعقب، وَالله تَعَالَى
أعلم.
1 - (بابٌ إذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أحْصر الْمُعْتَمِر،
وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد
على من قَالَ: إِن التَّحَلُّل بالإحصار يخْتَص بالحاج
بِخِلَاف الْمُعْتَمِر فَإِنَّهُ لَا يتَحَلَّل بذلك، بل
يسْتَمر على إِحْرَامه حَتَّى يطوف بِالْبَيْتِ، لِأَن
السّنة كلهَا وَقت للْعُمْرَة فَلَا يخْشَى فَوَاتهَا
بِخِلَاف الْحَج. رُوِيَ ذَلِك عَن مَالك، وَهُوَ محكي عَن
مُحَمَّد بن سِيرِين وَبَعض الظَّاهِرِيَّة، وَاحْتج لَهُم
إِسْمَاعِيل القَاضِي بِمَا أخرجه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن
أبي قلَابَة، قَالَ: خرجت مُعْتَمِرًا فَوَقَعت عَن
رَاحِلَتي فَانْكَسَرت، فَأرْسلت إِلَى ابْن عَبَّاس
وَابْن عمر، فَقَالَا: لَيْسَ لَهَا وَقت كَالْحَجِّ، يكون
على إِحْرَامه حَتَّى يصل إِلَى الْبَيْت، وَقَضِيَّة
الْحُدَيْبِيَة حجَّة تقضي عَلَيْهِم، وَالله أعلم.
382 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف أخبرنَا مَالك عَن
نَافِع أَن عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا حِين خرج
إِلَى مَكَّة مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَة قَالَ إِن صددت
عَن الْبَيْت صنعت كَمَا صنعنَا مَعَ
(10/142)
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فَأهل بِعُمْرَة من أجل أَن رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ أهل بِعُمْرَة
عَام الْحُدَيْبِيَة) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن
ابْن عمر صنع فِي عمرته كَمَا صنع رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَام الْحُدَيْبِيَة وَهِي
سنة سِتّ حِين صده الْمُشْركُونَ عَن إيصاله إِلَى
الْبَيْت فَإِنَّهُ تحلل وَنحر وَحلق كَمَا ذكرنَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن
عبد الله وفرقه وَأخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن
قُتَيْبَة وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى
قَوْله " عَن نَافِع أَن عبد الله ابْن عمر " الحَدِيث
فِيهِ اخْتِلَاف لِأَن هَذَا يدل على أَن نَافِعًا روى عَن
عبد الله بِغَيْر وَاسِطَة وَإسْنَاد الْحَدِيثين
الْمَذْكُورين فِي هَذَا الْبَاب عقيب هَذَا الْإِسْنَاد
أَولهمَا يدل على أَن نَافِعًا روى عَن سَالم وَعبيد الله
ابْني عبد الله بن عمر عَن أَبِيهِمَا فَذكر الحَدِيث
وَالثَّانِي يدل على أَن نَافِعًا روى عَن بعض بني عبد
الله فلأجل هَذَا الِاخْتِلَاف ذكر البُخَارِيّ الإسنادين
الْمَذْكُورين عقيب الْإِسْنَاد الأول على مَا يَأْتِي
بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله " مُعْتَمِرًا "
وَذكر فِي الْمُوَطَّأ من هَذَا الْوَجْه خرج إِلَى مَكَّة
يُرِيد الْحَج فَقَالَ إِن صددت فَذكره وَلَا اخْتِلَاف
فِيهِ فَإِنَّهُ خرج أَولا يُرِيد الْحَج فَلَمَّا ذكرُوا
لَهُ أَمر الْفِتْنَة أحرم بِالْعُمْرَةِ ثمَّ قَالَ مَا
شَأْنهمَا إِلَّا وَاحِد فأضاف إِلَيْهَا الْحَج فَصَارَ
قَارنا قَوْله " فِي الْفِتْنَة " أَرَادَ بهَا فتْنَة
الْحجَّاج حِين نزل ابْن الزبير لقتاله وَقد مر فِي بَاب
طواف الْقَارِن من طَرِيق اللَّيْث عَن نَافِع بِلَفْظ "
حِين نزل الْحجَّاج بِابْن الزبير " وَفِي لفظ مُسلم "
حِين نزل الْحجَّاج لقِتَال ابْن الزبير " قَوْله " إِن
صددت " أَي منعت وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول وَقَالَ
هَذَا الْكَلَام جَوَابا لقَوْل من قَالَه لَهُ أَنا
نَخَاف أَن يُحَال بَيْنك وَبَين الْبَيْت كَمَا أوضحته
الرِّوَايَة الَّتِي بعد هَذِه قَوْله " كَمَا صنعنَا مَعَ
رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
وَفِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة فَقَالَ " لقد كَانَ لكم
فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة إِذا أصنع كَمَا صنع "
وَزَاد فِي رِوَايَة اللَّيْث عَن نَافِع فِي بَاب طواف
الْقَارِن كَمَا صنع رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَوْله " فَأهل " أَي ابْن عمر
وَالْمرَاد أَنه رفع صَوته بالإهلال والتلبية قَوْله " من
أجل أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
" إِلَى آخِره ويروى " من أجل أَن رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَالَ النَّوَوِيّ
مَعْنَاهُ أَنه أَرَادَ إِن صددت عَن الْبَيْت وأحصرت
تحللت من الْعمرَة كَمَا تحلل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الْعمرَة وَقَالَ القَاضِي
عِيَاض يحْتَمل أَن المُرَاد أهل بِعُمْرَة كَمَا أهل
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
بِعُمْرَة وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ الْأَمريْنِ أَي من
الإهلال والإحلال وَهُوَ الْأَظْهر قَوْله " بِعُمْرَة "
زَاد فِي رِوَايَة جوَيْرِية " من ذِي الحليفة " وَفِي
رِوَايَة أَيُّوب الْمَاضِيَة " فَأهل بِعُمْرَة من
الدَّار " وَالْمرَاد بِالدَّار الْمنزل الَّذِي نزله
بِذِي الحليفة قيل يحْتَمل أَن يحمل على الدَّار الَّتِي
بِالْمَدِينَةِ (قلت) فعلى هَذَا التَّوْفِيق بَينهمَا
بِأَن يُقَال أَنه أهل بِالْعُمْرَةِ من دَاخل بَيته ثمَّ
أظهرها بعد أَن اسْتَقر بِذِي الحليفة -
7081 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أسْمَاءَ
قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عنْ نافِعٍ أنَّ عُبَيْدَ الله
بنَ عَبْدِ الله وسَالِمَ بنَ عَبْدِ الله قالَ أخْبَرَاهُ
أنَّهُمَا كَلَّما عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا لَيَالِيَ نَزَلَ الْجَيْشَ بِابْنِ
الزُّبَيْرِ فَقالاَ لاَ يَضُرُّكَ أنْ لاَ تَحُجَّ
الْعَامَ وإنَّا نَخَافُ أنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وبَيْنَ
الْبَيْتِ فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رسُولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ
فَنَحَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَدْيَهُ
وحَلَقَ رَأسَهُ واشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ
الْعُمْرَةَ إنْ شَاَءَ الله أنْطَلِقُ فإنْ خُلِّيَ
بَيْنِي وبَيْنَ البَيْتِ طُفْتُ وإنْ حِيلَ بَيْنِي
وبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وأنَا معَهُ فأهَلَّ بِالعُمْرَةِ مِنْ ذِي
الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ سارَ ساعَةً ثُمَّ قالَ إنَّمَا
شَأنُهُمَا وَاحِدٌ أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ
حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى
حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وأهْدَى وكانَ يَقُولُ لاَ يَحِلُّ
حَتَّى يَطُوفَ طَوافا واحِدا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَإِن حيل بيني
وَبَينه فعلت كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) ، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حل من
عمرته حَتَّى أَنه نحر هَدْيه وَحلق، فَدلَّ أَن
الْمُعْتَمِر إِذا أحْصر بِحل كَمَا يحل الْحَاج إِذا
أحْصر، وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي: بَاب طواف الْقَارِن
(10/143)
بأوضح مِنْهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ مُسْتَوفى.
وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أَسمَاء بن عبيد الضبعِي
الْبَصْرِيّ ابْن أخي جوَيْرِية بن أَسمَاء، وَجُوَيْرِية
تَصْغِير جَارِيَة بِالْجِيم، وَهُوَ من الْأَلْفَاظ
الْمُشْتَركَة بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء.
قَوْله: (أخبراه) أَي: عبيد الله وَسَالم ابْنا عبد الله
بن عمر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا بدل عبيد
الله: عبد الله مكبرا، وَهُوَ الْمُوَافق للرواية الَّتِي
بعده فِي بَاب النَّحْر قبل الْحلق وهما أَخَوان، والمصغر
أكبر مِنْهُ. قَوْله: (الْجَيْش) هُوَ جَيش الْحجَّاج بن
يُوسُف الثَّقَفِيّ، كَانَ نَائِب عبد الْملك بن مَرْوَان.
قَوْله: (أشهدكم أَنِّي قد أوجبت) ، أَي: ألزمت نَفسِي
ذَلِك، وَكَانَ أَرَادَ تَعْلِيم من يُرِيد الِاقْتِدَاء
بِهِ، وإلاَّ فالتلفظ لَيْسَ بِشَرْط. قَوْله: (إِن شَاءَ
الله) ، هَذَا تبرك وَلَيْسَ بتعليق، لِأَنَّهُ كَانَ
جازكا بِالْإِحْرَامِ بِقَرِينَة: (أشهدكم) ، وَيحْتَمل
أَن يكون مُنْقَطِعًا عَمَّا قبله، وَيكون ابْتِدَاء لشرط
وَالْجَزَاء: انْطلق. قَوْله: (إِن شَأْنهمَا وَاحِد) أَي:
أَن أَمر الْعمرَة وَالْحج وَاحِد فِي جَوَاز التَّحَلُّل
مِنْهُمَا بالإحصار. قَوْله: (طَوافا وَاحِدًا) . قَالَ
الْكرْمَانِي: أَي: لَا يحْتَاج الْقَارِن إِلَى طوافين،
بل يحل بِطواف وَاحِد. قلت: هَذَا التَّفْسِير لأجل نصْرَة
مذْهبه، وَقد قَامَت دَلَائِل أُخْرَى أَن الْقَارِن
يحْتَاج إِلَى طوافين وسعيين وتكلمنا فِي هَذَا الْبَاب
فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة،
فَلْينْظر فِيهِ هُنَاكَ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد: أَن الصَّحَابَة
كَانُوا يستعملون الْقيَاس ويحتجون بِهِ، وَأَن الْمحصر
بالعدو جَازَ لَهُ التَّحَلُّل سَوَاء كَانَ عَن حجَّة أَو
عمْرَة، وَأَنه ينْحَر هَدْيه ويحلق رَأسه أَو يقصر
مِنْهُ. وَفِيه: جَوَاز إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة،
لَكِن شَرطه عِنْد الْجُمْهُور أَن يكون قبل الشُّرُوع فِي
طواف الْعمرَة، وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ قبل مُضِيّ
أَرْبَعَة أَشْوَاط صَحَّ، وَعند الْمَالِكِيَّة بعد تَمام
الطّواف. وَنقل ابْن عبد الْبر أَن أَبَا ثَوْر شَذَّ
فَمنع إِدْخَال الْحَج على الْعمرَة، قِيَاسا على منع
إِدْخَال الْعمرَة على الْحَج. وَفِيه: أَن الْقَارِن
يهدي، وَقَالَ ابْن حزم: لَا هدي على الْقَارِن. وَفِيه:
جَوَاز الْخُرُوج إِلَى النّسك فِي الطَّرِيق المظنون
خَوفه إِذا رجى السَّلامَة، قَالَه أَبُو عمر بن عبد
الْبر، رَحمَه الله.
8081 - حدَّثني مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قالَ حَدثنَا
جُوَيْرِيَّةُ عنْ نافِعٍ أنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ الله
قَالَ لَهُ لَوْ أقَمْتَ بِهاذا..
هَذَا وَجه آخر فِي الحَدِيث السَّابِق أخرجه عَن مُوسَى
بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي عَن جوَيْرِية بن
أَسمَاء عَن نَافِع أَن بعض بني عبد الله، وَهُوَ إِمَّا
سَالم أَو عبد الله أَو عبيد الله أَبنَاء عبد الله بن عمر
بن الْخطاب.
قَوْله: (قَالَ لَهُ) ، أَي: قَالَ بعض بني عبد الله لعبد
الله بن عمر. قَوْله: (لَو أَقمت بِهَذَا) ، أَي: لَو
أَقمت بِهَذَا الْمَكَان أَو فِي هَذَا الْعَام،
وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِك حِين أَرَادَ عبد الله أَن
يعْتَمر، فَقَالُوا لَهُ: نَخَاف أَن يُحَال بَيْنك وَبَين
الْبَيْت، لِأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ السّنة نزُول
الْحجَّاج بالجيش على ابْن الزبير، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قلت: أَيْن جَوَاب لَو؟ قلت: مَحْذُوف تَقْدِيره:
لَو أَقمت فِي هَذِه السّنة لَكَانَ خيرا، أَو نَحْو
ذَلِك، وَيجوز أَن تكون: لَو، لِلتَّمَنِّي فَلَا تحْتَاج
إِلَى جَوَاب.
9081 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ
صالِحٍ قَالَ حَدثنَا مُعَاوِيَةُ بنُ سَلاَّمٍ قَالَ
حدَّثنا يَحْيَى بنُ أبِي كَثيرٍ عنْ عِكْرِمَةَ قَالَ
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قدْ
أُحْصِرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحَلَقَ
رَأسَهُ وجامَعَ نِسَاءَهُ ونَحَرَ هَدْيَهُ حَتَّى
اعْتَمَرَ عَاما قابِلاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ يدل على أَن
الْمُعْتَمِر يحصره، ذكر مُحَمَّد هَذَا غير مَنْسُوب فِي
جَمِيع الرِّوَايَات، وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ
الْحَاكِم: هُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وَفِي بعض
النّسخ: حَدثنَا مُحَمَّد هُوَ الذهلي، فَلذَلِك جزم
الْحَاكِم بِهِ، وَقَالَ أَبُو مَسْعُود، هُوَ مُحَمَّد بن
مُسلم بن واره، وَذكر الكلاباذي عَن ابْن أبي سعيد أَنه
أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن إِدْرِيس الرَّازِيّ، وَذكر أَنه
رَآهُ فِي أصل عَتيق، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون هُوَ
مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصغاني. وَيحيى بن صَالح أَبُو
زَكَرِيَّاء الْحِمصِي، وَمُعَاوِيَة ابْن سَلام،
بتَشْديد: الحبشي، مر فِي أَوَائِل الْكُسُوف. وَهَذَا
الحَدِيث فِيهِ حذف يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن السكن
فِي (كتاب الصَّحَابَة) ، قَالَ: حَدثنِي هَارُون بن
عِيسَى وَحدثنَا الصغاني هُوَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق أحد
شُيُوخ مُسلم حَدثنَا يحيى بن صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة بن
سَلام عَن يحيى ابْن أبي كثير قَالَ سَأَلت عِكْرِمَة
فَقَالَ: قَالَ عبد الله بن رَافع مولى أم سَلمَة: أَنا
سَأَلت الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ عَمَّن حبس
(10/144)
وَهُوَ محرم، فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من عرج أَو كسر أَو حبس فليجزىء
مثلهَا، وَهُوَ فِي حل، قَالَ: فَحدثت بِهِ أَبَا
هُرَيْرَة فَقَالَ: صدق، وحدثته ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: قد
حصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحلق وَنحر
هَدْيه وجامع نِسَاءَهُ حَتَّى اعْتَمر قَابلا) ، فَعرف
بِهَذَا الْمِقْدَار الَّذِي حذفه البُخَارِيّ من هَذَا
الحَدِيث، وَإِنَّمَا حذفه لِأَن هَذَا الزَّائِد لَيْسَ
على شَرطه، لِأَنَّهُ قد اخْتلف فِي حَدِيث الْحجَّاج بن
عَمْرو على يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة مَعَ كَون عبد
الله بن رَافع لَيْسَ من شَرط البُخَارِيّ، مَعَ أَن
الَّذِي حذفه لَيْسَ بَعيدا عَن الصِّحَّة، لِأَن عبد الله
بن رَافع ثِقَة، وَإِن لم يخرج لَهُ البُخَارِيّ. وَحَدِيث
الْحجَّاج بن عَمْرو هَذَا أخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا،
فَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد، قَالَ: حَدثنَا
يحيى عَن حجاج الصَّواف، قَالَ لي يحيى بن أبي كثير عَن
عِكْرِمَة، قَالَ: سَمِعت الْحجَّاج بن عَمْرو
الْأنْصَارِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ الْحَج
من قَابل، فَسَأَلت ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة عَن
ذَلِك؟ فَقَالَا: صدق) . وَفِي لفظ لَهُ: (من عرج أَو كسر
أَو مرض) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا إِسْحَاق بن
مَنْصُور أخبرنَا روح بن عبَادَة أخبرنَا حجاج الصَّواف
حَدثنَا يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة، قَالَ: حَدثنِي
الْحجَّاج بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من كسر أَو عرج فَقل حل وَعَلِيهِ حجَّة
أُخْرَى، فَذكرت ذَلِك لأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس،
فَقَالَا: صدق) . وَفِي لفظ: (من عرج أَو كسر أَو مرض) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن، وَقَالَ
النَّسَائِيّ: أخبرنَا أَحْمد بن مسْعدَة، قَالَ: حَدثنَا
سُفْيَان عَن الْحجَّاج الصَّواف عَن يحيى بن أبي كثير عَن
عِكْرِمَة عَن الْحجَّاج بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ أَنه سمع
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من عرج أَو
كسر فقد حل وَعَلِيهِ حجَّة أُخْرَى. فَسَأَلت ابْن
عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة عَن ذَلِك؟ فَقَالَا: صدق.
وَأخْبرنَا شُعَيْب بن يُوسُف النَّسَائِيّ وَأخْبرنَا
مُحَمَّد بن الْمثنى، قَالَا: حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن
حجاج الصَّواف عَن يحيى بن أبي كثير عَن عِكْرِمَة عَن
الْحجَّاج بن عَمْرو قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ الْحَج من
قَابل) . وَسَأَلنَا ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة
فَقَالَا: صدق وَقَالَ ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن
أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن سعيد وَابْن علية عَن
حجاج بن أبي عُثْمَان، قَالَ: حَدثنِي يحيى بن كثير.
قَالَ: حَدثنِي عِكْرِمَة، قَالَ: حَدثنِي الْحجَّاج بن
عَمْرو الْأنْصَارِيّ، قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من كسر أَو عرج فقد حل وَعَلِيهِ
حجَّة أُخْرَى فَحدث بِهِ ابْن عَبَّاس وَأَبا هُرَيْرَة،
فَقَالَا: صدق.
قَوْله: (قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس) ، ويروى: (فَقَالَ
ابْن عَبَّاس) . بفاء الْعَطف وَوَجهه أَن يكون عطفا على
مُقَدّر تَقْدِيره سَأَلته عَنهُ، فَقَالَ: قَوْله:
(حَتَّى اعْتَمر) ويروى: (ثمَّ اعْتَمر. قَوْله: (عَاما)
نصب على الظّرْف، (وقابلاً) صفته.
2 - (بابُ الإحْصَارِ فِي الحَجِّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْإِحْصَار فِي الْحَج.
قيل: أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى أَن الْإِحْصَار فِي عهد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا وَقع فِي
الْعمرَة، فقاس الْعلمَاء الْحَج على ذَلِك، وَهُوَ من
الْإِلْحَاق بِنَفْي الْفَارِق، وَهُوَ من أقوى الأقيسة.
قلت: لما بَين فِي الْبَاب السَّابِق الْإِحْصَار فِي
الْعمرَة، بَين عَقِيبه الْإِحْصَار فِي الْحَج، وَذكر فِي
كل مِنْهُمَا حَدِيثا، فَلَا حَاجَة إِلَى إِثْبَات حكم
الْإِحْصَار فِي الْحَج بِالْقِيَاسِ.
0181 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا
عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيَّ قَالَ
أخبرَنِي سَالِمٌ قَالَ كانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ ألَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ
رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنْ حُبِسَ أحَدُكُمْ
عنِ الحَجِّ طافَ بِالْبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ
ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَاما
قابِلاً فَيُهْدِي أوْ يَصُومَ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن حبس أحدكُم عَن
الْحَج) ، وَالْحَبْس عَن الْحَج هُوَ الْإِحْصَار فِيهِ،
وَأحمد بن مُحَمَّد بن مُوسَى أَبُو الْعَبَّاس، يُقَال
لَهُ: مرْدَوَيْه السمسار الْمروزِي، وَهُوَ من أَفْرَاد
البُخَارِيّ، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي،
وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم،
وَسَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ عَن أَحْمد عَن عَمْرو
(10/145)
ابْن السَّرْح والْحَارث بن مِسْكين
كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب قَوْله: (أَلَيْسَ حسبكم سنة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟) أَي: أَلَيْسَ
يكفيكم سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ لِأَن
معنى الْحسب الْكِفَايَة، وَمِنْه: حَسبنَا الله أَي:
كافينا، وحسبكم مَرْفُوع لِأَنَّهُ إسم: لَيْسَ، وسنَّة
رَسُول الله كَلَام إضافي مَنْصُوب على أَنه خبر: لَيْسَ،
وَقَالَ عِيَاض: ضَبطنَا سنة بِالنّصب على الإختصاص أَو
على إِضْمَار فعل، أَي: تمسكوا، وَشبهه. وَقَالَ
السُّهيْلي: من نصب سنة فَهُوَ بإضمار الْأَمر كَأَنَّهُ
قَالَ: إلزموا سنة نَبِيكُم. وَقَالَ بَعضهم: خبر: حسبكم،
فِي قَوْله: (طَاف بِالْبَيْتِ) . قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل
خبر لَيْسَ على وَجه نصب سنة على قَول عِيَاض والسهيلي.
قَوْله: (طَاف بِالْبَيْتِ) وَهُوَ أَيْضا سد مسد جَوَاب
الشَّرْط. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: إِذا كَانَ
محصرا فَكيف يطوف بِالْبَيْتِ؟ قلت: المُرَاد من قَوْله:
(ان حبس) الْحَبْس عَن الْوُقُوف بِعَرَفَة قلت: لَا
حَاجَة إِلَى هَذَا التَّقْدِير، لِأَن معنى: (طَاف
بِالْبَيْتِ) أَي: إِذا أمكنه ذَلِك، وَيدل عَلَيْهِ مَا
رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق: (إِن حبس أحدا مِنْكُم حَابِس عَن
الْبَيْت فَإِذا وصل إِلَيْهِ طَاف بِهِ) . قَوْله:
(وبالصفا والمروة) ، أَي: طَاف بهما، أَي: سعى بَين
الصَّفَا والمروة. قَوْله: (فيهدي) أَي: يذبح شَاة، إِذْ
التَّحَلُّل لَا يحصل إلاَّ بنية التَّحَلُّل وَالذّبْح
وَالْحلق، وَإِن لم يجد الْهَدْي يَصُوم بدله بِعَدَد
أَمْدَاد الطَّعَام الَّذِي يحصل من قِيمَته. قلت: هَكَذَا
ذكره الْكرْمَانِي، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَمن
تَابعه، فَإِن عِنْده حكم الْمَكِّيّ والغريب سَوَاء فِي
الْإِحْصَار، فيطوف وَيسْعَى وَيحل وَلَا عمْرَة عَلَيْهِ
على ظَاهر حَدِيث ابْن عمر، وأوجبها مَالك على الْمحصر
الْمَكِّيّ وعَلى من أنشأ من مَكَّة، وَعند أبي حنيفَة:
لَا يكون محصرا من بلغ مَكَّة، لِأَن الْمحصر عِنْده من
منع الْوُصُول إِلَى مَكَّة وحيل بَينه وَبَين الطّواف
وَالسَّعْي، فيفعل مَا فعل الشَّارِع من الْإِحْلَال من
مَوْضِعه، وَأما من بلغَهَا فَحكمه عِنْده كمن فَاتَهُ
الْحَج: يحل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل، وَلَا
هدي عَلَيْهِ لِأَن الْهَدْي لجبر مَا أدخلهُ على نَفسه،
وَمن حبس عَن الْحَج فَلم يدْخل على نَفسه نقصا. وَقَالَ
الزُّهْرِيّ: إِذا أحْصر الْمَكِّيّ فَلَا بُد لَهُ من
الْوُقُوف بِعَرَفَة، وَإِن تعسر بعشي. وَفِي حَدِيث ابْن
عمر رد عَلَيْهِ لِأَن الْمحصر لَو وقف بِعَرَفَة لم يكن
محصرا، ألاَ يرى قَول ابْن عمر: طَاف بِالْبَيْتِ وَبَين
الصَّفَا والمروة، وَلم يذكر الْوُقُوف بِعَرَفَة.
وَعَن عَبْدِ الله قَالَ أخبرَنَا مَعْمَرٌ عنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني سالِمٌ عنِ ابنِ عُمَرَ
نَحْوَهُ
عبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن
عبد الله بن الْمُبَارك حدث بِهِ تَارَة عَن يُونُس عَن
الزُّهْرِيّ، وَتارَة عَن معمر عَنهُ. فَإِن قلت: قَوْله:
وَعَن عبد الله، مَعْطُوف على: مَاذَا؟ قلت: قيل: إِنَّه
مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الأول، وَلَيْسَ هُوَ بمعلق
كَمَا ادَّعَاهُ بَعضهم. قلت: كَأَنَّهُ أَرَادَ
بِالْبَعْضِ الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَقد أخرج
التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع حَدثنَا
عبد الله بن الْمُبَارك أَخْبرنِي معمر عَن الزُّهْرِيّ
عَن سَالم عَن أَبِيه أَنه كَانَ يُنكر الِاشْتِرَاط فِي
الْحَج، وَيَقُول: أَلَيْسَ حسبكم سنة نَبِيكُم صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: يُرِيد بِهِ عدم الِاشْتِرَاط كَمَا
هُوَ مُبين عِنْد النَّسَائِيّ من رِوَايَة معمر عَن
الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه أَنه كَانَ يُنكر
الِاشْتِرَاط فِي الْحَج، وَيَقُول: أما حسبكم سنة
نَبِيكُم أَنه لم يشْتَرط؟ وَهَكَذَا رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ من هَذَا الْوَجْه بِلَفْظ: (أما حسبكم
سنة نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لم يشْتَرط؟)
فَإِن قلت: روى مُسلم من رِوَايَة رَبَاح بن أبي مَعْرُوف
عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن ابْن عَبَّاس (أَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لضباعة: حجي واشترطي أَن
محلي حَيْثُ حبستني) . وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَة أَيْضا،
فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن عباد بن
الْعَوام، وَأخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة ثَبت بن يزِيد
الْأَحول عَن هِلَال بن خباب، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن
زِيَاد بن أَيُّوب الْبَغْدَادِيّ: حَدثنَا عباد بن
الْعَوام عَن هِلَال بن خباب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن
عَبَّاس: (أَن ضباعة بنت الزبير أَتَت النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: يَا رَسُول الله! إِنِّي أُرِيد
الْحَج أفأشترط؟ قَالَ: نعم. قَالَت: كَيفَ أَقُول؟ قَالَ:
قولي لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك محلي من الأَرْض حَيْثُ
تحبسني) . وَأخرجه أَيْضا مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن
مَاجَه من رِوَايَة ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن طَاوُوس
وَعِكْرِمَة كِلَاهُمَا (عَن ابْن عَبَّاس: أَن ضباعة بنت
الزبير بن عبد الْمطلب أَتَت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت إِنِّي امْرَأَة ثَقيلَة،
فَإِنِّي أُرِيد الْحَج فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: أَهلِي
واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني) ، وَلما رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن جَابر وَأَسْمَاء
بنت أبي بكر وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
قلت: أما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من
رِوَايَة هِشَام الدستوَائي عَن جَابر أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لضباعة بنت الزبير: (حجي
واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني) . وَأما
(10/146)
حَدِيث أَسمَاء فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه على
الشَّك من رِوَايَة عُثْمَان بن حَكِيم عَن أبي بكر بن عبد
الله بن الزبير عَن جدته، قَالَ: لَا أَدْرِي أَسمَاء بنت
أبي بكر أَو سعدى بنت عَوْف، (أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم دخل على ضباعة بنت عبد الْمطلب فَقَالَ:
مَا يمنعك يَا عمتاه من الْحَج؟ فَقَالَت: أَنا امْرَأَة
سقيمة، وَأَنا أَخَاف الْحَبْس {قَالَ: فأحرمي واشترطي أَن
محلك حَيْثُ حبست) . وَهَكَذَا أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده)
وَالطَّبَرَانِيّ عَن جدته لم يسمهَا. وَأما حَدِيث
عَائِشَة فمتفق عَلَيْهِ على مَا يَجِيء إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
وَحَدِيث ضباعة لَهُ طرق: مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن
خُزَيْمَة من طَرِيق الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة يحيى بن
سعيد عَن سعيد بن الْمسيب (عَن ضباعة بنت الزبير، قَالَت:
قلت: يَا رَسُول الله} إِنِّي أُرِيد الْحَج فَكيف أهل
بِالْحَجِّ؟ قَالَ: قولي: أللهم إِنِّي أهل بِالْحَجِّ إِن
أَذِنت لي بِهِ، وأعنتني عَلَيْهِ، ويسرته لي، وَإِن
حبستني فعمرة، وَإِن حبستني عَنْهُمَا فمحلي حَيْثُ
حبستني) ، وضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب، وَهِي ابْنة
عَم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَقع عِنْد ابْن
مَاجَه: ضباعة بنت عبد الْمطلب، وَذَلِكَ نِسْبَة إِلَى
جدها، وَوَقع فِي (الْوَسِيط) للغزالي عِنْد ذكر هَذَا
الحَدِيث: أَنَّهَا ضباعة الأسْلَمِيَّة، وَهُوَ غلط،
وَإِنَّمَا هِيَ هاشمية.
وَقد ضعف بعض لمالكية أَحَادِيث الِاشْتِرَاط فِي الْحَج،
فَحكى القَاضِي عِيَاض عَن الْأصيلِيّ قَالَ: لَا يثبت
عِنْدِي فِي الِاشْتِرَاط إِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: قَالَ
النَّسَائِيّ: لَا أعلم سَنَده عَن الزُّهْرِيّ غير معمر،
وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: وَمَا قَالَه
الْأصيلِيّ غلط فَاحش، فقد ثَبت وَصَحَّ من حَدِيث
عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَغَيرهمَا على مَا مر.
وَاخْتلفُوا فِي مَشْرُوعِيَّة الِاشْتِرَاط، فَقيل:
وَاجِب لظَاهِر الْأَمر، وَهُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة.
وَقيل: مُسْتَحبّ وَهُوَ قَول أَحْمد، وَغلط من حكى
الْإِنْكَار عَنهُ. وَقيل: جَائِز، وَهُوَ الْمَشْهُور
عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَقطع بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد.
وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ضباعة بنت الزبير، قَالَ:
وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم، يرَوْنَ
الِاشْتِرَاط فِي الْحَج، وَيَقُولُونَ: إِن اشْترط لغَرَض
لَهُ كَمَرَض أَو عذر فَلهُ أَن يحل وَيخرج من إِحْرَامه،
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقيل: هُوَ
قَول جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ
قَالَ بِهِ عمر بن الْخطاب وَعلي بن أبي طَالب وَعبد الله
بن مَسْعُود وعمار بن يَاسر وَعَائِشَة وَأم سَلمَة
وَجَمَاعَة من التَّابِعين، وَذهب بعض التَّابِعين وَمَالك
وَأَبُو حنيفَة إِلَى أَنه: لَا يَصح الِاشْتِرَاط، وحملوا
الحَدِيث على أَنه قَضِيَّة عين، وَأَن ذَلِك مَخْصُوص
بضباعة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَلم يَرَ بعض أهل الْعلم
الِاشْتِرَاط فِي الْحَج. وَقَالُوا: إِن اشْترط فَلَيْسَ
لَهُ أَن يخرج من إِحْرَامه فيرونه كمن لم يشْتَرط. قلت:
حكى الْخطابِيّ ثمَّ الرَّوْيَانِيّ من الشَّافِعِيَّة
الْخُصُوص بضباعة، وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن
مَعْنَاهُ: محلي حَيْثُ حَبَسَنِي الْمَوْت، أَي: إِذا
أدركتني الْوَفَاة انْقَطع إحرامي. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
إِنَّه ظَاهر الْفساد وَلم يبين وَجهه. وَالله أعلم.
3 - (بابُ النَّحْرِ قَبْلَ الحَلْقِ فِي الحَصْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز النَّحْر قبل الْحلق
فِي حَال الْحصْر، وَلم يشر إِلَى بَيَان الحكم فِي
التَّرْجَمَة اكْتِفَاء بِحَدِيث الْبَاب، فَإِنَّهُ يدل
على جَوَاز النَّحْر قبل الْحلق فِي حَالَة الْإِحْصَار.
1181 - حدَّثنا مَحْمودٌ قالَ حَدثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيَّ عنْ عُرْوَةَ
عَنِ المِسْوَرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحَرَ قَبْلَ أنْ يَحْلِق
وأمَرَ أصْحَابَهُ بِذالِكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، ومحمود هُوَ ابْن غيلَان
أَبُو أَحْمد الْعَدوي الْمروزِي، وَمعمر، بِفَتْح
الميمين: هُوَ ابْن رَاشد، والمسور، بِكَسْر الْمِيم
وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وبالراء: ابْن
مخرمَة بن نَوْفَل الْقرشِي الزُّهْرِيّ أَبُو عبد
الرَّحْمَن، لَهُ ولأبيه صُحْبَة، مَاتَ سنة أَربع
وَسِتِّينَ وَصلى عَلَيْهِ ابْن الزبير بالحجون.
وَهَذَا الحَدِيث طرف من حَدِيث طَوِيل أخرجه البُخَارِيّ
فِي الشُّرُوط على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى،
وَلَفظه فِي أَوَاخِر الحَدِيث: (فَلَمَّا فرغ من قَضِيَّة
الْكتاب، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لأَصْحَابه: قومُوا فَانْحَرُوا، ثمَّ احْلقُوا) الحَدِيث.
وَفِيه: أَن نحر الْمحصر قبل الْحلق يجوز، والْحَدِيث
حجَّة على مَالك فِي قَوْله: إِنَّه لَا هدي على الْمحصر.
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قَالَ تَعَالَى: {وَلَا
تحلقوا رؤوسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} (الْبَقَرَة:
691) . وَالْخطاب للمحصرين، وَمُقْتَضَاهُ أَن الْحلق لَا
يقدم على النَّحْر فِي مَحَله. قلت: بُلُوغ الْهَدْي
الْمحل إمَّا زَمَانا أَو مَكَانا لَا يسْتَلْزم نَحره،
وَمحل هدي
(10/147)
الْمحصر هُوَ حَيْثُ أحْصر فقد بلغ مَحَله،
وَثَبت أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، تحلل بِالْحُدَيْبِية
وَنحر بهَا، وَهِي من الْحل لَا من الْحرم. قلت: مَذْهَب
أبي حنيفَة: أَن دم الْإِحْصَار يتوقت بِالْحرم وَهُوَ
الْمَكَان لَا بِيَوْم النَّحْر، وَهُوَ الزَّمَان
لإِطْلَاق النَّص وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يتَوَقَّف
بِالزَّمَانِ وَالْمَكَان كَمَا فِي الْحلق، وَهَذَا
الْخلاف فِي الْمحصر بِالْحَجِّ وَأما دم الْمحصر
بِالْعُمْرَةِ فَلَا يتوقت بِالزَّمَانِ بِلَا خلاف
بَينهم، وبالهدي لَا يتَحَلَّل الْمحصر عِنْد أبي يُوسُف،
وَلَا بُد لَهُ من الْحلق بعد النَّحْر لِأَنَّهُ إِن عجر
عَن أَدَاء الْمَنَاسِك لم يعجز عَن الْحلق، وَقَالَ أَبُو
حنيفَة وَمُحَمّد: يتَحَلَّل بِالذبْحِ لإِطْلَاق النَّص.
2181 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرحِيمِ قَالَ
أخبرنَا أبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بنُ الوَلِيدِ عنْ عُمْرَ بنِ
مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ قَالَ وحدَّثَ نافِعٌ أنَّ عَبْدَ
الله وسَالِما كَلَّمَا عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مُعْتَمِرِينَ فَحال كُفَّارُ
قُرَيْشٍ دُونَ البَيْتِ فنَحَرَ رسُولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بُدْنَهُ وحَلَقَ رَأسَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَنحر رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بدنه وَحلق رَأسه) ، والْحَدِيث قد
مضى بأتم مِنْهُ فِي: بَاب إِذا أحْصر الْمُعْتَمِر، قبل
هَذَا الْبَاب بِبَاب، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحِيم أَبُو
يحيى كَانَ يُقَال لَهُ: صَاعِقَة صَاحب السابري، وَهُوَ
من أَفْرَاده وشجاع ابْن الْوَلِيد بن قيس الْكُوفِي سكن
بَغْدَاد، وَعمر بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن
الْخطاب، مر فِي: بَاب من لم يتَطَوَّع فِي السّفر، وَعبد
الله هُوَ ابْن عبد الله بن عمر. قَوْله: (بدنه) ، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة جمع: بَدَنَة.
4 - (بابُ منْ قَالَ لَيْسَ عَلىَ الْمُحْصَرِ بَدَلٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ: لَيْسَ على
الْمحصر، بدل، أَي: عوض، أَي: قَضَاء لما أحْصر فِيهِ من
حج أَو عمْرَة.
وَقَالَ رَوْحٌ عنِ ابنِ نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إنَّما الْبَدَلُ
عَلَى منْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ فأمَّا منْ
حَبَسَهُ عُذْرٌ أوْ غيْرُ ذَلِكَ فإنَّهُ يَحِلُّ ولاَ
يَرْجِعُ وإنْ كانَ معَهُ هِدْيٌ وهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ
إنْ كانَ لاَ يَسْتَطيعُ أنْ يَبعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّمَا الْبَدَل على
من نقص حجه) ، وروح، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْوَاو:
ابْن عبَادَة، بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء
الْمُوَحدَة، وشبل، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة: ابْن
عباد، بِفَتْح الْعين: الْمَكِّيّ تلميذ ابْن كثير فِي
الْقِرَاءَة، وَكَانَ قدريا، وَابْن أبي نجيح هُوَ عبد
الله بن أبي نجيح، بِفَتْح النُّون، وَقد مر غير مرّة.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي
(تَفْسِيره) عَن روح بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَهُوَ مَوْقُوف
على ابْن عَبَّاس.
قَوْله: (بالتلذذ) أَي: بِالْجِمَاعِ. قَوْله: (عذر) ،
بِضَم الْعين وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة، هَكَذَا وَقع
فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: عَدو
من الْعَدَاوَة، قَالَ الْكرْمَانِي: الْعذر الْوَصْف
الطارىء على الْمُكَلف الْمُنَاسب للتسهيل عَلَيْهِ،
وَلَعَلَّه أَرَادَ بِهِ هَهُنَا نوعا مِنْهُ كالمرض
ليَصِح عطف (أَو غير ذَلِك) ، عَلَيْهِ نَحْو نفاد
نَفَقَته أَو سرقتها. قَوْله: (وَلَا يرجع) أَي: وَلَا
يقْضِي، وَهَذَا فِي النَّفْل، إِذْ الْفَرِيضَة بَاقِيَة
فِي ذمَّته كَمَا كَانَت، وَعَلِيهِ أَن يرجع لأَجلهَا فِي
سنة أُخْرَى، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس نَحْو هَذَا،
رَوَاهُ ابْن جرير من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ،
وَفِيه: (فَإِن كَانَت حجَّة الْإِسْلَام فَعَلَيهِ
قَضَاؤُهَا، وَإِن كَانَت غير الْفَرِيضَة فَلَا قَضَاء
عَلَيْهِ) . قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا الْفرق
بَين حج النَّفْل الَّذِي يفْسد بِالْجِمَاعِ، فَإِنَّهُ
يجب قَضَاؤُهُ، وَالنَّفْل الَّذِي يفوت عَنهُ بِسَبَب
الْإِحْصَار؟ قلت: ذَلِك بتقصير، وَهَذَا بِدُونِ
تَقْصِيره، وَعند أبي حنيفَة: إِذا تحلل الْمحصر لزمَه
الْقَضَاء سَوَاء كَانَ نفلا أَو فرضا، وَهَذِه مَسْأَلَة
اخْتِلَاف بَين الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ. فَقَالَ
الْجُمْهُور: يذبح الْمحصر الْهَدْي حَيْثُ يحل، سَوَاء
كَانَ فِي الْحل أَو الْحرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا
يذبحه إِلَّا
(10/148)
فِي الْحرم، وَفصل الْآخرُونَ كَمَا قَالَه
ابْن عَبَّاس هُنَا. فَإِن قلت: مَا سَبَب الِاخْتِلَاف
فِي ذَلِك؟ قلت: منشأ الِاخْتِلَاف فِيهِ هَل نحر النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَدْي بِالْحُدَيْبِية فِي
الْحل أَو فِي الْحرم؟ وَكَانَ عَطاء يَقُول: لم ينْحَر
يَوْم الْحُدَيْبِيَة إلاَّ فِي الْحرم، وَوَافَقَهُ ابْن
إِسْحَاق، وَقَالَ غَيره من أهل الْمَغَازِي: إِنَّمَا نحر
فِي الْحل وَأَبُو حنيفَة أَخذ بقول عَطاء، وَفِي
(الاستذكار) : قَالَ عَطاء وَابْن إِسْحَاق: لم ينْحَر صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم هَدْيه يَوْم الْحُدَيْبِيَة إلاَّ
فِي الْحرم.
وَقَالَ مالِكٌ وغَيْرَهُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ ويَحْلِقُ فِي
أيِّ مَوْضِعٍ كانَ ولاَ قَضاءَ عَلَيْهِ لأنَّ النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأصْحَابَهُ بالْحُدَيْبِيَّةِ
نَحَرُوا وحلَقُوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ
وقَبْلَ أنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ
يُذْكَرْ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَرَ
أحَدا أنْ يَقْضُوا شَيْئا ولاَ يَعُودُوا لَهُ
والْحُدَيْبِيَّةُ خارِجُ الحَرَمِ
الَّذِي قَالَ مَالك مَذْكُور فِي (موطئِهِ) وَلَفظه:
(أَنه بلغه أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حل
هُوَ وَأَصْحَابه بِالْحُدَيْبِية فنحروا الْهَدْي وحلقوا
رؤوسهم وحلوا من كل شَيْء قبل أَن يطوفوا بِالْبَيْتِ،
وَقبل أَن يصل إِلَيْهِ الْهَدْي) . ثمَّ لم نعلم أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أحدا من
أَصْحَابه وَلَا مِمَّن كَانَ مَعَه أَن يقضوا شَيْئا،
وَلَا أَن يعودوا لشَيْء. قَوْله: (وَغَيره) أَي غير
مَالك، قَالَ بَعضهم: الَّذِي يظْهر لي أَنه عَنى بِهِ
الشَّافِعِي لِأَن قَوْله فِي آخِره: (وَالْحُدَيْبِيَة
خَارج الْحرم) هُوَ كَلَام الشَّافِعِي فِي (الام) .
انْتهى. قلت: قَوْله: (وَالْحُدَيْبِيَة خَارج الْحرم) لَا
يدل على أَن المُرَاد من الْغَيْر هُوَ الشَّافِعِي، لِأَن
الشَّافِعِي نقل عَنهُ أَيْضا أَن بعض الْحُدَيْبِيَة فِي
الْحل وَبَعضهَا فِي الْحرم، فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَيفَ
يجوز أَن يتْرك الْموضع الَّذِي من الْحرم من
الْحُدَيْبِيَة وينحر فِي الْحل، وَالْحَال أَن بُلُوغ
الْكَعْبَة صفة للهدي فِي قَوْله تَعَالَى: {هَديا بَالغ
الْكَعْبَة} (الْمَائِدَة: 59) . وَقد قَالَ ابْن أبي
شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن أبي
عُمَيْس عَن عَطاء قَالَ: كَانَ منزل النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة فِي الْحرم، فَإِذا
كَانَ منزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحرم
كَيفَ ينْحَر هَدْيه فِي الْحل؟ وَهَذَا محَال. قَوْله:
(فِي أَي مَوضِع كَانَ) ، ويروى: (فِي أَي الْمَوَاضِع) .
وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَانَ أَي: الْحصْر لَا الْحلق؟
قلت: إِنَّمَا فسر بِهَذَا لأجل مذْهبه وَلَيْسَ كَذَلِك،
بل الضَّمِير فِي: كَانَ، يرجع إِلَى الْحلق الَّذِي يدل
عَلَيْهِ. قَوْله: (ويحلق) . قَوْله: (وَلَا يعودوا لَهُ)
كلمة: لَا، زَائِدَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {مَا مَنعك أَن
لَا تسْجد} (الْأَعْرَاف: 21) . قَوْله: (وَالْحُدَيْبِيَة
خَارج الْحرم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذِه الْجُمْلَة
يحْتَمل أَن تكون من تَتِمَّة كَلَام مَالك، وَأَن تكون من
كَلَام البُخَارِيّ، وغرضه الرَّد على من قَالَ؛ لَا يجوز
النَّحْر حَيْثُ أحْصر، بل يجب الْبَعْث إِلَى الْحرم،
فَلَمَّا ألزموا بنحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أجابوا بِأَن الْحُدَيْبِيَة إِنَّمَا هِيَ من الْحرم،
فَرد ذَلِك عَلَيْهِم. انْتهى. قلت: هَذِه الْجُمْلَة،
سَوَاء كَانَت من كَلَام مَالك أَو من كَلَام البُخَارِيّ،
لَا تدل على غَرَضه، لِأَن كَون الْحُدَيْبِيَة خَارج
الْحرم لَيْسَ مجمعا عَلَيْهِ، وَقد روى الطَّحَاوِيّ من
حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة (عَن الْمسور: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بِالْحُدَيْبِية خباؤه
فِي الْحل وَمُصَلَّاهُ فِي الْحرم) . وَلَا يجوز فِي قَول
أحد من الْعلمَاء لمن قدر على دُخُول شَيْء من الْحرم أَن
ينْحَر هَدْيه دون الْحرم، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث
يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير عَن
مَرْوَان والمسور بن مخرمَة، قَالَا: (خرج رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم زمن الْحُدَيْبِيَة فِي بضع عشرَة
مائَة من أَصْحَابه) الحَدِيث بِطُولِهِ، وَفِيه: (وَكَانَ
مضطربه فِي الْحل وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحرم) . انْتهى.
قلت: المضطرب هُوَ الْبناء الَّذِي يضْرب ويقام على أوتاد
مَضْرُوبَة فِي الأَرْض، والخباء بِكَسْر الْخَاء: بَيت من
صوف أَو وبر، وَالْجمع: أخبية، وَإِذا كَانَ من شعر يُسمى:
بَيْتا.
3181 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ
نافًعٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرا
فِي الفِتْنَةِ إنْ صُدِدْتُ عنِ الْبَيْتِ صنَعْنا كَما
صَنَعْنَا معَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأهَلَّ
بِعُمْرَةٍ مِنْ أجْلِ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كانَ أهَلَّ بِعُمْرَة عامَ الحُدَيْبِيَّةِ ثُمَّ
أنَّ عَبْدَ الله
(10/149)
ابنَ عُمَرَ نظَرَ فِي أمْرِهِ فَقَالَ مَا
أمْرُهُمَا إلاَّ وَاحدٌ فالْتَفَتَ إلَى أصْحَابِهِ
فَقَالَ مَا أمْرُهُمَا إلاَّ وَاحِدٌ أشْهِدُكُمْ أنَّي
قَدْ أوْجَبْتُ الحَجُ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ طافَ
لَهُمَا طَوافا واحِدا ورَأى أنَّ ذَلِكَ مُجْزِيا عَنْهُ
وأهْدَى..
قيل: مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ لَيْسَ
فِي لَفظه مَا يدل على التَّرْجَمَة. قلت: لما كَانَت
قصَّة صده، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْحُدَيْبِية
مَشْهُورَة وَأَنَّهُمْ لم يؤمروا بِالْقضَاءِ فِي ذَلِك
علم من ذَلِك أَن الْبَدَل لَا يلْزم الْمحصر، وَهَذَا
الْقدر كَاف فِي الْمُطَابقَة. وَهَذَا الحَدِيث وَمَا
فِيهِ من المباحث قد مرا فِي: بَاب إِذا أحْصر
الْمُعْتَمِر.
قَوْله: (ثمَّ طَاف لَهما) أَي: لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة.
قَوْله: (مجزئا عَنهُ) ، بِضَم الْمِيم: من الْإِجْزَاء
وَهُوَ الْأَدَاء الْكَافِي لسُقُوط التَّعَبُّد، ومجزئا
بِالنّصب رِوَايَة كَرِيمَة، وَوَجهه أَن يكون خبر كَانَ
محذوفا، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر وَغَيره: (مجزىء) ،
بِالرَّفْع على أَنه خبر: أَن، وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي
عِنْدِي أَن النصب من خطأ الْكَاتِب، فَإِن أَصْحَاب
(الْمُوَطَّأ) اتَّفقُوا على رِوَايَته بِالرَّفْع على
الصَّوَاب. قلت: نِسْبَة الْكَاتِب إِلَى الْخَطَأ خطأ،
وَإِنَّمَا يكون خطأ لَو لم يكن لَهُ وَجه فِي
الْعَرَبيَّة، واتفاق أَصْحَاب (الْمُوَطَّأ) على الرّفْع
لَا يسْتَلْزم كَون النصب خطأ، على أَن دَعْوَى اتِّفَاقهم
على الرّفْع لَا دَلِيل لَهَا.
5 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضا أوْ بِهِ أذَىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ
صِيَامٍ أوْ صَدَقَةِ أوْ نُسُكٍ} .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} (الْبَقَرَة: 691) . وَهَذِه
قِطْعَة من آيَة أَولهَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَتمُّوا
الْحَج وَالْعمْرَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم} (الْبَقَرَة:
691) . وَآخِرهَا: {وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب}
(الْبَقَرَة: 691) . وتشتمل على أَحْكَام شَتَّى. مِنْهَا:
قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ
أَذَى من رَأسه ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك}
(الْبَقَرَة: 691) . فَإِن هَذِه نزلت فِي كَعْب بن عجْرَة
لما حمل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقمل
يَتَنَاثَر فِي وَجهه، على مَا يَجِيء بَيَانه عَن قريب،
إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} (الْبَقَرَة: 691) .
أَي: من كَانَ بِهِ مرض يحوجه إِلَى الْحلق {أَو بِهِ
أَذَى من الْحلق} (الْبَقَرَة: 691) . وَهُوَ الْقمل
والجراحة. قَوْله: {ففدية} (الْبَقَرَة: 691) . أَي:
فَعَلَيهِ إِذا حلق فديَة من صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام، أَو
صَدَقَة على سِتَّة مَسَاكِين لكل مِسْكين نصف صَاع من بر.
قَوْله: {أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . جمع نسيكة، وَهِي
الذَّبِيحَة، أَعْلَاهَا بَدَنَة، وأوسطها بقرة،
وَأَدْنَاهَا شَاة. وَهل هِيَ على التَّخْيِير أَو لَا؟
فِيهِ خلاف، يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وهْوَ مُخَيَّرٌ وأمَّا الصَّوْمُ فَثَلاَثَةُ أيَّامٍ
الضَّمِير أَعنِي قَوْله: (هُوَ) يرجع إِلَى كل وَاحِد من
الْمَرِيض وَمن بِهِ أَذَى فِي رَأسه. قَوْله: (مُخَيّر)
يَعْنِي: بَين الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، فِي
الْآيَة الْمَذْكُورَة وَهِي: صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام،
وَالصَّدَََقَة على سِتَّة مَسَاكِين، وَذبح شَاة. قَوْله:
(وَأما الصَّوْم) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين.
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (وَأما الصّيام) ، على لفظ مَا
جَاءَ فِي الْقُرْآن وَكلمَة: إِمَّا تفصيلية تَقْتَضِي
القسيم وَهُوَ مَحْذُوف تَقْدِيره: وَأما الصَّدَقَة
فَهِيَ إطهام سِتَّة مَسَاكِين، وَأما النّسك فأقله شَاة.
4181 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفُ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ حُمَيْدِ بنِ قَيْسٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ عَبْدِ
الرَّحْمانِ بنِ أبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بنِ عُجْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنْ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَالَ لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ
قَالَ نَعَمْ يَا رسولَ الله فَقَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم احْلِقْ رَأسَكَ وصُمْ ثلاثَةَ أيَّامٍ أوْ
أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أوِ انْسُكُ بِشَاةٍ. .
مطابقته لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة ظَاهِرَة، وَحميد مصغر
الْحَمد بن قيس أَبُو صَفْوَان مولى عبد الله بن الزبير
الْأَعْرَج الْقَارِي، مَاتَ فِي خلَافَة السفاح، وَكَعب
بن عجْرَة، بِضَم الْعين، وَقد مر فِي كتاب الصَّلَاة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي
الْحَج عَن أبي نعيم وَعَن أبي الْوَلِيد وَعَن إِسْحَاق
وَعَن مُحَمَّد بن يُوسُف، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَة وَمَعَ
عبد الله
(10/150)
ابْن يُوسُف خَمْسَة أخرج عَنْهُم فِي
الْحَج على التوالي، وَأخرجه أَيْضا فِي الطِّبّ عَن
قبيصَة وَعَن أبي عبد الله، وَفِي الْمَغَازِي عَن أبي عبد
الله أَيْضا، وَفِي النذور عَن أَحْمد بن يُونُس، وَفِي
الْمَغَازِي أَيْضا عَن الْحسن بن خلف وَعَن سُلَيْمَان بن
حَرْب، وَفِي الطِّبّ أَيْضا عَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم
فِي الْحَج عَن عبيد الله بن عمر القواريري وَأبي الرّبيع
الزهْرَانِي وَعَن عَليّ بن حجر وَزُهَيْر ابْن حَرْب
وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى
وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن ابْن أبي عمر
وَعَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ أَيْضا
عَن وهب بن بَقِيَّة وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن
مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعَن قُتَيْبَة وَعَن القعْنبِي عَن
مَالك وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن عمر، وَفِي
التَّفْسِير عَن عَليّ بن حجر فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن مُحَمَّد ابْن سَلمَة
والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى،
وَفِيه وَفِي التَّفْسِير عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه
ابْن مَاجَه من رِوَايَة أُسَامَة بن زيد عَن مُحَمَّد بن
كَعْب الْقرظِيّ عَن كَعْب بن عجْرَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ.
ذكر اخْتِلَاف أَلْفَاظه: قد مَضَت رِوَايَة البُخَارِيّ:
(لَعَلَّك أذاك هوامك؟) وَفِي لفظ: (تؤذيك هوامك؟) وَفِي
لفظ مُسلم: (أتؤذيك هوَام رَأسك؟) . وَفِي لفظ أبي دَاوُد:
(قد أذاك هوَام رَأسك؟) . وَفِي لفظ: (أصابني هوَام فِي
رَأْسِي وَأَنا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَام الْحُدَيْبِيَة حَتَّى تخوفت على بَصرِي) ، وَلَفظ
التِّرْمِذِيّ: (أتؤذيك هوامك هَذِه؟) . وَلَفظ
النَّسَائِيّ: (أتؤذيك هوامك؟) وَفِي لفظ أَحْمد: (تؤذيك
هوَام رَأسك؟) وَفِي لفظ لَهُ: (فَأرْسل إِلَيّ فدعاني،
فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: لقد أَصَابَك بلَاء وَنحن لَا
نشعر، أدعوا إِلَى الْحجام، فحلقني) . وَمن لَفظه: (وَقع
الْقمل فِي رَأْسِي ولحيتي حَتَّى حاجبي وشاربي) ، وَفِي
لفظ للْبُخَارِيّ (وقف عَليّ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بِالْحُدَيْبِية ورأسي يتهافت قملاً) .
وَفِي لفظ: (وَالْقمل يتهافت لماء جمعه وَفِي لفظ (فَقل
رَأسه ولحيته) وَفِي لفظ يَتَنَاثَر على وَجْهي) ، وَفِي
لفظ: (رَآهُ وقمله يسْقط على وَجهه) ، ولفط مُسلم رَأسه
يتهافت قملاً وَفِي لفظ النَّسَائِيّ: (وَالْقمل
يَتَنَاثَر على وَجْهي أَو حاجبي) ، وَفِي لفظ: (ورأسي
يتهافت قملاً) . وَفِي لفظ للطبراني (مر بِي وَعلي وفرة من
أصل كل شَعْرَة إِلَى فرعها قمل وصيبان) ، وَفِي لفظ:
(حَتَّى تخوفت على بَصرِي، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة)
. وَفِي لفظ للطبري: (فحك رَأْسِي بإصبعه فانتثر مِنْهُ
الْقمل) ، وَفِي لفظ فِي (مقامات التَّنْزِيل) : (فَوَقع
الْقمل فِي رَأْسِي ولحيي حَتَّى وَقع فِي حاجبي) ، وَلَفظ
البُخَارِيّ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: (أحلق رَأسك وصم)
إِلَى آخِره، وَفِي لفظ لَهُ: (فَأمره أَن يحلق وَهُوَ
بِالْحُدَيْبِية) ، وَفِي لفظ: (فَدَعَا الحلاق فحلقه ثمَّ
أَمرنِي بِالْفِدَاءِ) ، وَفِي لفظ: (فَاحْلِقْ وصم
ثَلَاثَة أَيَّام) ، وَفِي لفظ مُسلم: (فَاحْلِقْ رَأسك
وَأطْعم فرقا بَين سِتَّة مَسَاكِين) وَفِي لفظ: (إحلق
ثمَّ اذْبَحْ شَاة نسكا) ، وَفِي لفظ: (فَدَعَا الحلاف
فحلق رَأسه) ، وَفِي لفظ أبي دَاوُد: (فدعاني رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لي: احْلق رَأسك وصم
ثَلَاثَة أَيَّام) ، وَفِي لفظ لِلتِّرْمِذِي: (إحلق
وَأطْعم فرقا) ، وَفِي لفظ للنسائي: (فَاحْلِقْ رَأسك
وانسك نسيكة) ، وَفِي لفظ ابْن مَاجَه: (أَمرنِي النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين آذَانِي الْقمل أَن أحلق
رَأْسِي وَأَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام) . وَفِي لفظ للطبراني:
(إحلق واهد هَديا) ، وَفِي لفظ لَهُ: (اهد بقرة وأشعرها
وقلدها فَافْتدى ببقرة) ، وَفِي لفظ: (مر بِهِ فَأمره أَن
يحلق، وجاءه الْوَحْي فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
إِن شِئْت فَصم ثَلَاثَة أَيَّام) . وَفِي لفظ: (أنسك مَا
تيَسّر) . وَفِي لفظ: (أَو إذبح ذَبِيحَة) . وَفِي لفظ:
(فَاحْلِقْ أَو جزه إِن شِئْت وَأطْعم سِتَّة مَسَاكِين) .
وروى الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) من رِوَايَة
الْمُغيرَة بن صقْلَابٍ، قَالَ: حَدثنَا عمر بن قيس
الْمَكِّيّ عَن عَطاء (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما
نزلنَا الْحُدَيْبِيَة جَاءَ كَعْب بن عجْرَة، تنثر هوَام
رَأسه على جَبهته، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! هَذَا الْقمل
قد أكلني، قَالَ: إحلق وافده. قَالَ: فحلق كَعْب وَنحر
بقرة، فَأنْزل الله عز وَجل فِي ذَلِك الْوَقْت: {فَمن
كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو بِهِ أَذَى من رَأسه}
(الْبَقَرَة: 691) . قَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الصّيام ثَلَاثَة أَيَّام
والنسك شَاة وَالصَّدَََقَة الْفرق بَين سِتَّة مَسَاكِين
لكل مِسْكين مدَّان) . وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه
الله: هَذَا حَدِيث شَاذ مُنكر، وَعمر بن قيس هُوَ
الْمَعْرُوف بِسَنَد مُنكر الحَدِيث، وَلم ينْقل أَن ابْن
عَبَّاس كَانَ فِي عمر الْحُدَيْبِيَة وَقَالَ
الشَّافِعِي: إِن ابْن عَبَّاس لم يكن مَعَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِحْرَام إلاَّ فِي حجَّة
الْوَدَاع، وَمن الْمُنكر قَوْله: (وَنحر بقرة) ، فَفِي
(الصَّحِيح) (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
لَهُ: أتجد شَاة؟ قَالَ: لَا، وَإنَّهُ أَمر بِالصَّوْمِ
أَو الْإِطْعَام) . انْتهى. قلت: الحَدِيث يدل على أَن
ابْن عَبَّاس
(10/151)
كَانَ مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فِي عمْرَة الْحُدَيْبِيَة، وَالشَّافِعِيّ
يَنْفِي، والمثبت مقدم. وَأما نحر الْبَقَرَة فقد رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ أَيْضا كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَعَلَّك آذَاك؟) وَفِي لفظ لَهُ:
(حملت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي
لفظ: (وقف عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِالْحُدَيْبِية) . وَفِي لفظ: (إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم رَآهُ وَأَنه يسْقط على وَجهه) ، وَفِي لفظ: (مرَّ
بِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي لفظ
لمُسلم: (قَالَ: فَأَتَيْته، قَالَ: أدنه) . وَفِي لفظ
لَهُ: (مر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ
بِالْحُدَيْبِية قبل أَن يدْخل مَكَّة وَهُوَ محرم) .
فَإِن قلت: مَا الْجمع بَين اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات
والقصة وَاحِدَة؟ قلت: لَا تعَارض فِي شَيْء من ذَلِك، أما
لفظ: (لَعَلَّك آذَاك؟) فساكت عَن قيد، وَأما بَقِيَّة
الْأَلْفَاظ فوجهها أَنه مر بِهِ وَهُوَ محرم فِي أول
الْأَمر وَسَأَلَهُ عَن ذَلِك، ثمَّ حمل إِلَيْهِ ثَانِيًا
بإرساله إِلَيْهِ، وَأما إِتْيَانه فَبعد الْإِرْسَال،
وَأما رَأَيْته إِيَّاه فَلَا بُد مِنْهَا فِي الْكل.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي قَوْله: (لَعَلَّك آذَاك
هوامك؟) هَذَا سُؤال عَن تَحْقِيق الْعلَّة الَّتِي
يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الحكم، فَلَمَّا أخبرهُ بالمشقة
الَّتِي نالته أمره بِالْحلقِ، والهوام، بتَشْديد الْمِيم:
جمع هَامة وَهِي مَا تدب من الأحناش، وَالْمرَاد بهَا ملا
يلازم جَسَد الْإِنْسَان غَالِبا إِذا طَال عَهده
بالتنظيف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَا يَقع هَذَا الإسم
إلاَّ على الْمخوف من الأحناش، وَالْمرَاد بهَا الْقمل،
لِأَنَّهُ يهم على الرَّأْس أَي: يدب قلت: إِنَّمَا قَالَ:
وَالْمرَاد بهَا الْقمل، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُور فِي
كثير من الرِّوَايَات. قَوْله: (إحلق رَأسك) ، أمره
بِالْحلقِ وَهُوَ إِزَالَة شعر الرَّأْس، أَعم من أَن يكون
بالوسى وبالمقص أَو بالنورة أَو غير ذَلِك. قَوْله: (أَو
أطْعم سِتَّة مَسَاكِين) لَيْسَ فِيهِ بَيَان قدر
الْإِطْعَام، وَسَيَأْتِي الْبَيَان فِيهِ عَن قريب.
قَوْله: (أَو أنسك بِشَاة) ، هَكَذَا وَقعت رِوَايَة
الْأَكْثَرين: بِشَاة، بِالْبَاء، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (أَو أنسك شَاة) ، بِغَيْر بَاء، وعَلى الأول
تَقْدِيره: تقرب بِشَاة، فَلذَلِك عداهُ بِالْبَاء، وعَلى
الثَّانِي تَقْدِيره: إذبح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْأَحْكَام: مِنْهَا:
جَوَاز الْحلق للْمحرمِ للْحَاجة مَعَ الْكَفَّارَة
الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة الْكَرِيمَة، وَفِي الحَدِيث
الْمَذْكُور، وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: أَنه لَيْسَ فِيهِ تعرض لغير حلق الرَّأْس من
سَائِر شُعُور الْجَسَد، وَقد أوجب الْعلمَاء الْفِدْيَة
بحلق سَائِر شُعُور الْبدن لِأَنَّهَا فِي معنى حلق
الرَّأْس إلاَّ دَاوُد الظَّاهِرِيّ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا
تجب الْفِدْيَة إلاَّ بحلق الرَّأْس فَقَط، وَحكى
الرَّافِعِيّ عَن الْمحَامِلِي: أَن فِي رِوَايَة عَن
مَالك لَا تتَعَلَّق الْفِدْيَة بِشعر الْبدن.
وَمِنْهَا: أَنه أَمر بحلق شعر نَفسه، فَلَو حلق الْمحرم
شعر حَلَال فَلَا فديَة على وَاحِد مِنْهُمَا عِنْد مَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَحكى عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ:
لَيْسَ للْمحرمِ أَن يحلق شعر الْحَلَال، فَإِن فعل
فَعَلَيهِ صَدَقَة.
وَمِنْهَا: أَنه إِذا حلق رَأسه أَو لبس أَو تطيب عَامِدًا
من غير ضَرُورَة، فقد حكى ابْن عبد الْبر فِي (الاستذكار)
عَن أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما، وَأَبُو ثَوْر:
أَن عَلَيْهِ دَمًا لَا غير، وَأَنه لَا يُخَيّر إلاَّ فِي
الضَّرُورَة، وَقَالَ مَالك: بئس مَا فعل وَعَلِيهِ
الْفِدْيَة، وَهُوَ مُخَيّر فِيهَا. وَقَالَ شَيخنَا زين
الدّين: وَمَا حَكَاهُ عَن الشَّافِعِي وَأَصْحَابه لَيْسَ
بجيد، بل الْمَعْرُوف عَنْهُم وجوب الْفِدْيَة، كَمَا جزم
بِهِ الرَّافِعِيّ، كَمَا أوجبوا الْكَفَّارَة فِي
الْيَمين الْغمُوس، بل أولى بِالْوُجُوب.
وَمِنْهَا: أَنه أطلق الْحلق لكعب بن عجْرَة وَلَكِن
لضرورته، ولغير الضَّرُورَة لَا يجوز للْمحرمِ حَتَّى إِذا
حلق من غير ضَرُورَة يلْزمه الْفِدْيَة، سَوَاء كَانَ
عَامِدًا أَو نَاسِيا أَو عَالما أَو جَاهِلا، وَذهب
إِسْحَاق وَدَاوُد إِلَى أَنه: لَا شَيْء على النَّاسِي.
وَمِنْهَا: أَنه قدم الْحلق على الصَّوْم وَالْإِطْعَام،
وَفِي الْآيَة قدم الصَّوْم، فَهَل يفهم مِنْهُ وجوب
التَّرْتِيب أَو المُرَاد الْأَفْضَلِيَّة فِيمَا قدم فِي
الْآيَة والْحَدِيث؟ وَالْجَوَاب أَن الحَدِيث اخْتلفت
أَلْفَاظه فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، فَفِي حَدِيث
الْبَاب قدم الْحلق، وَفِي الحَدِيث الآخر قدم الصَّوْم،
حَيْثُ قَالَ: (صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو تصدق بفرق بَين
سِتَّة مَسَاكِين أَو أنسك مَا تيَسّر) . وَهَذَا مُوَافق
لِلْآيَةِ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (قَالَ أَيُّوب: فَلَا
أَدْرِي بِأَيّ ذَلِك بَدَأَ) . وَفِي رِوَايَة لَهُ:
(إذبح شَاة نسكا أَو صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو أطْعم. .)
الحَدِيث، وعَلى هَذَا فَلَا فضل فِي تَقْدِيم أحد
الْأَنْوَاع على بَعْضهَا من هَذَا الحَدِيث، لَكِن قد
يسْتَدلّ بِتَقْدِيم الشَّاة فِي الْكَفَّارَة الْمرتبَة
على أَفضَلِيَّة تَقْدِيم الذّبْح فِي غير الْمرتبَة.
وَمِنْهَا: أَنه خَيره بَين الصَّوْم وَالْإِطْعَام
وَالذّبْح، وَقَالَ أَبُو عمر: عَامَّة الْآثَار عَن كَعْب
وَردت بِلَفْظ التَّخْيِير، وَهُوَ نَص الْقُرْآن
الْعَظِيم، وَعَلِيهِ مضى عمل الْعلمَاء فِي كل
الْأَمْصَار، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم
فِي (تَفْسِيره) عَن أبي سعيد الْأَشَج: حَدثنَا حَفْص
(10/152)
الْمحَاربي عَن لَيْث عَن مُجَاهِد عَن
ابْن عَبَّاس فِي قَوْله عز وَجل: {ففدية من صِيَام أَو
صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ إِذا كَانَ
أَو، أَو بأية أخذت أجزأك. قَالَ: وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد
وَعِكْرِمَة وَعَطَاء وطاووس والجنيد وَحميد الْأَعْرَج
وَالنَّخَعِيّ وَالضَّحَّاك نَحْو ذَاك، وَذهب أَبُو
حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر إِلَى أَن
التَّخْيِير لَا يكون إلاَّ فِي الضَّرُورَة، فَإِن فعل
ذَلِك من غير ضَرُورَة فَعَلَيهِ دم، وَفِي (صَحِيح مُسلم)
رِوَايَة عبد الْكَرِيم صَرِيحَة فِي التَّخْيِير حَيْثُ
قَالَ: أَي ذَلِك فعلت أجزأك {كَذَا رِوَايَة أبي دَاوُد
الَّتِي فِيهَا: إِن شِئْت وَإِن شِئْت، ووافقها رِوَايَة
عبد الْوَارِث عَن أبي نجيح، أخرجهَا مُسَدّد فِي
(مُسْنده) وَمن طَرِيقه الطَّبَرَانِيّ، لَكِن رِوَايَة
عبد الله بن مُغفل الَّتِي تَأتي عَن قريب تَقْتَضِي أَن
التَّخْيِير إِنَّمَا هُوَ بَين الْإِطْعَام وَالصِّيَام
لمن لم يجد النّسك. وَلَفظه، (قَالَ: أتجد شَاة؟ قَالَ:
لَا، قَالَ: فَصم أَو أطْعم) . وَلأبي دَاوُد فِي رِوَايَة
أُخْرَى: (أَمَعَك دم؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِن شِئْت
فَصم) ، وَنَحْوه: للطبراني من طَرِيق عَطاء عَن كَعْب،
وَوَافَقَهُمْ أَبُو الزبير عَن مُجَاهِد عِنْد
الطَّبَرَانِيّ، وَزَاد بعد قَول: (مَا أجد هَديا. قَالَ:
فأطعم} قَالَ: مَا أجد؟ قَالَ: صم) ، وَلِهَذَا قَالَ
أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) : فِيهِ دَلِيل على أَن من
وجد نسكا لَا يَصُوم، يَعْنِي وَلَا يطعم، لَكِن لَا أعرف
من قَالَ بذلك من الْعلمَاء إلاَّ مَا رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ وَغَيره عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: النّسك
شَاة، فَإِن لم يجد قومت الشَّاة دَرَاهِم، وَالدَّرَاهِم
طَعَاما فَتصدق بِهِ، أَو صَامَ لكل نصف صَاع يَوْمًا.
أخرجه من طَرِيق الْأَعْمَش عَنهُ، قَالَ: فَذَكرته
لإِبْرَاهِيم، فَقَالَ: سَمِعت عَلْقَمَة مثله،
فَحِينَئِذٍ يحْتَاج إِلَى الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ،
وَقد جمع بَينهمَا بأوجه: مِنْهَا مَا قَالَ: أَبُو عمر:
إِن فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى تَرْجِيح التَّرْتِيب لَا
لإيجابه، وَمِنْهَا مَا قَالَ النَّوَوِيّ: لَيْسَ
المُرَاد أَن الصّيام أَو الْإِطْعَام لَا يجزىء إلاَّ
لفاقد الْهَدْي، بل المُرَاد بِهِ أَنه استخبره: هَل مَعَه
هدي أَو لَا؟ فَإِن كَانَ واجده أعلمهُ أَنه مُخَيّر بَينه
وَبَين الصّيام وَالْإِطْعَام، وَإِن لم يجده أعلمهُ أَنه
مُخَيّر بَينهمَا. وَمِنْهَا مَا قَالَه بَعضهم: يحْتَمل
أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أذن لَهُ
فِي حلق رَأسه بِسَبَب أَذَى أفتاه بِأَن يكفر بِالذبْحِ
على سَبِيل الإجتهاد مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو
بِوَحْي غير متلوٍّ، فَلَمَّا أعلمهُ أَنه لَا يجد نزلت
الْآيَة بالتخيير بَين الذّبْح وَالْإِطْعَام وَالصِّيَام،
فخيره حِينَئِذٍ بَين الصّيام وَالْإِطْعَام لعلمه
بِأَنَّهُ لَا ذبح مَعَه، فصَام لكَونه لم يكن مَعَه مَا
يطعمهُ، ويوضح ذَلِك رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث عبد الله
ابْن مُغفل حَيْثُ قَالَ: (أتجد شَاة؟ قَالَ: لَا، فَنزلت
هَذِه الْآيَة: {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك}
(الْبَقَرَة: 691) . فَقَالَ: صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو
أطْعم) . وَفِي رِوَايَة عَطاء الْخُرَاسَانِي، قَالَ: (صم
ثَلَاثَة أَيَّام أَو أطْعم سِتَّة مَسَاكِين. قَالَ: وَكن
قد علم أَنه لَيْسَ عِنْدِي مَا أنسك بِهِ) . وَنَحْوه فِي
رِوَايَة مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ عَن كَعْب. فَإِن
قلت: سِيَاق الْآيَة يشْعر بِأَن يقدم الصّيام على غَيره؟
قلت: لَيْسَ ذَلِك لكَونه أفضل فِي هَذَا الْمقَام من
غَيره، بل السرّ فِيهِ أَن الصَّحَابَة الَّذين خوطبوا
شفاها بذلك كَانَ أَكْثَرهم يقدر على الصّيام أَكثر مِمَّا
يقدر على الذّبْح وَالْإِطْعَام.
وَمِنْهَا: أَن الصَّوْم ثَلَاثَة أَيَّام، وَقَالَ ابْن
جرير: حَدثنَا ابْن أبي عمرَان حَدثنَا عبد الله بن معَاذ
عَن أَبِيه عَن أَشْعَث عَن الْحسن فِي قَوْله: {ففدية من
صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ:
إِذا كَانَ بالمحرم أَذَى من رَأسه حلق وافتدى بِأَيّ
هَذِه الثَّلَاثَة شَاءَ، وَالصِّيَام عشرَة أَيَّام،
وَالصَّدَََقَة على عشرَة مَسَاكِين لكل مِسْكين مكوكان
مكوك من تمر ومكوك من بر، والنسك شَاة، وَقَالَ قَتَادَة
عَن الْحسن وَعِكْرِمَة. فِي قَوْله: {ففدية من صِيَام أَو
صَدَقَة أَو نسك} (الْبَقَرَة: 691) . قَالَ: إطْعَام
عشرَة مَسَاكِين، وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) :
وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ من سعيد بن جُبَير وعلقمة وَالْحسن
وَعِكْرِمَة قَولَانِ غَرِيبَانِ فيهمَا نظر، لِأَنَّهُ قد
ثبتَتْ السّنة فِي حَدِيث كَعْب بن عجْرَة: (فَصِيَام
ثَلَاثَة أَيَّام لَا عشرَة، وَقَالَ أَبُو عمر فِي
(الاستذكار) : رُوِيَ عَن الْحسن وَعِكْرِمَة وَنَافِع
صَوْم عشرَة أَيَّام، قَالَ: وَلم يتابعهم أحد من
الْعلمَاء على ذَلِك.
وَمِنْهَا: أَن الْإِطْعَام لسِتَّة مَسَاكِين، وَلَا
يجزىء أقل من سِتَّة، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَحكى عَن
أبي حنيفَة أَنه: يجوز أَن يدْفع إِلَى مِسْكين وَاحِد،
وَالْوَاجِب فِي الْإِطْعَام لكل لمسكين نصف صَاع من أَي
شَيْء كَانَ الْمخْرج فِي الْكَفَّارَة قمحا أَو شَعِيرًا
أَو تَمرا، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق
وَأبي ثَوْر وَدَاوُد، وَحكي عَن الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة
تَخْصِيص ذَلِك بالقمح، وَأَن الْوَاجِب من الشّعير
وَالتَّمْر صَاع لكل مِسْكين. وَحكى ابْن عبد الْبر عَن
أبي حنيفَة وَأَصْحَابه كَقَوْل مَالك وَالشَّافِعِيّ،
وَعند أَحْمد فِي رِوَايَة: إِن الْوَاجِب فِي الْإِطْعَام
لكل مِسْكين مدَّ من قَمح أَو مدان من تمر أَو شعير.
(10/153)
وَمِنْهَا: مَا احْتج بِعُمُوم الحَدِيث مَالك على أَن
الْفِدْيَة يَفْعَلهَا حَيْثُ شَاءَ، سَوَاء فِي ذَلِك
الصّيام وَالْإِطْعَام وَالْكَفَّارَة، لِأَنَّهُ لم يعين
لَهُ موضعا للذبح أَو الْإِطْعَام، وَلَا يجوز تَأَخّر
الْبَيَان عَن وَقت الْبَيَان، وَقد اتّفق الْعلمَاء فِي
الصَّوْم أَن لَهُ أَن يَفْعَله حَيْثُ شَاءَ لَا يخْتَص
ذَلِك بِمَكَّة وَلَا بِالْحرم، وَأما النّسك
وَالْإِطْعَام فجوزهما مَالك أَيْضا كَالصَّوْمِ، وخصص
الشَّافِعِي ذَلِك بِمَكَّة أَو بِالْحرم، وَاخْتلف فِيهِ
قَول أبي حنيفَة، فَقَالَ مرّة: يخْتَص بذلك الدَّم دون
الْإِطْعَام، وَقَالَ مرّة: يختصان جَمِيعًا بذلك، وَقَالَ
هشيم: أخبرنَا لَيْث عَن طَاوُوس أَنه كَانَ يَقُول: مَا
كَانَ من دم أَو إطْعَام فبمكة، وَمَا كَانَ من صِيَام
فَحَيْثُ شَاءَ. وَكَذَا قَالَ عَطاء وَمُجاهد وَالْحسن.
وَمِنْهَا: مَا قَالَ شَيخنَا زين الدّين: يسْتَثْنى من
عُمُوم التَّخْيِير فِي كَفَّارَة الأذي حكم العَبْد إِذا
احْتَاجَ إِلَى الْحلق، فَإِن فَرْضه الصَّوْم على
الْجَدِيد سَوَاء أحرم بِغَيْر إِذن سَيّده أَو
بِإِذْنِهِ، فَإِن الْكَفَّارَة لَا تجب على السَّيِّد
كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ، وَلَو ملكه السَّيِّد لم
يملكهُ على الْجَدِيد، وعَلى الْقَدِيم يملكهُ. |