عمدة القاري شرح صحيح البخاري

82 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا تَوَضَّأ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخرِهِ المَاءَ)

أَي: هَذَا بَاب فِيمَا جَاءَ من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا تَوَضَّأ ... إِلَى آخِره، وَهَذِه الْقطعَة من حَدِيث لم يوصلها البُخَارِيّ وأوصلها مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن رَافع، قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّزَّاق عَن همام، قَالَ: حَدثنَا معمر عَن قَتَادَة عَن همام بن مُنَبّه، قَالَ: حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة عَن مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر أَحَادِيث مِنْهَا، وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليستنشق بمنخريه من المَاء ثمَّ ليستنثر) ، وَفِي لفظ لَهُ من رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة: (يبلغ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِذا استجمر أحدكُم فليستجمر وترا، وَإِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليجعل فِي أَنفه مَاء ثمَّ ليستنثر) . قَوْله: (إِذا تَوَضَّأ) أَي: أحدكُم، كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (بمنخره) ، المنخر ثقب الْأنف، وَقد تكسر الْمِيم اتبَاعا للخاء.
ولَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّائِمِ وغَيْرِهِ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، أَي: لم يُمَيّز النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الحَدِيث الْمَذْكُور بَين الصَّائِم وَغَيره، بل ذكره على الْعُمُوم، وَلَو كَانَ بَينهمَا فرق لميزه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَكِن جَاءَ تَمْيِيز الصَّائِم من غَيره فِي الْمُبَالغَة فِي ذَلِك كَمَا ورد فِي حَدِيث عَاصِم بن لَقِيط بن صبره عَن أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: (بَالغ فِي الِاسْتِنْشَاق إلاَّ أَن تكون صَائِما) ، رَوَاهُ أَصْحَاب (السّنَن) وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره.
وَقَالَ الحَسَنُ لاَ بأسَ بالسَّعُوطِ لِلصَّائِمِ إنْ لَمْ يصِلْ إلَى حَلْقِهِ ويَكْتَحِلُ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن هِشَام عَنهُ نَحوه، والسعود بِفَتْح السِّين وَقد يرْوى بضَمهَا، هُوَ الدَّوَاء الَّذِي يصب فِي الْأنف. قَوْله: (إِن لم يصل) أَي: السعوط إِلَى حلقه، وَقيد بِهِ لِأَنَّهُ إِذا وصل إِلَى حلقه يضر صَوْمه وَيَقْضِي يَوْمًا. قَوْله: (ويكتحل) من كَلَام الْحسن، أَي: يكتحل الصَّائِم، يَعْنِي: يجوز للصَّائِم الاكتحال، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب مستقصىً.
وَقَالَ عَطَاءٌ إنْ تَمَضْمَضَ ثُمَّ أفْرَغَ مَا فِيهِ مِنَ المَاءِ لاَ يَضِيرُهُ إنْ لَمْ يَزْدَرِدْ رِيقَهُ وماذَا بَقِيَ فِي فِيهِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن الْمُبَارك عَن ابْن جريج عَنهُ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ عَن قريب عِنْد قَوْله: وَقَالَ عَطاء قَتَادَة: يبتلع رِيقه. قَوْله: (لَا يضيره) ، من ضاره يضيره ضيرا، بِمَعْنى: ضره، وَهُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: لَا يضرّهُ من ضره بِالتَّشْدِيدِ. قَوْله: (إِن لم يزدرد) أَي: لم يبلع رِيقه. قَوْله: (وماذا بَقِي فِي فِيهِ؟) أَي: فِي فَمه، وَهَذِه الْجُمْلَة وَقعت حَالا، وَقد ذكرنَا أَن فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (وَمَا بَقِي فِي فِيهِ) ، فكلمة: مَا، على رِوَايَة البُخَارِيّ مَوْصُولَة، وعَلى رِوَايَة: (مَاذَا بَقِي فِي فِيهِ) استفهامية، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأي شَيْء يبْقى فِي فِيهِ بعد أَن يمج المَاء إلاَّ أثر المَاء؟ فَإِذا بلع رِيقه لَا يضرّهُ، وَفِي نُسْخَة صَاحب (التَّلْوِيح) : بِخَطِّهِ: لَا يضيره، لِأَنَّهُ لم يزدرد رِيقه أَي: يبلع رِيقه.
ولاَ يَمْضَغُ العِلْكَ فانِ ازْدَرَدَ رِيقَ العِلْكِ لاَ أقُولُ إنَّهُ يُفْطِرُ ولاكِنْ يُنْهَى عَنْهُ فإنْ اسْتَنْثَرَ فدَخَلَ المَاءَ حَلْقَهُ لاَ بأسَ لأنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ
لَا يمضغ العلك بِكَلِمَة: لَا، رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: ويمضغ العلك، بِدُونِ كلمة لَا وَالْأول أولى، وَكَذَلِكَ أخرجه عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، قلت لعطاء: يمضغ الصَّائِم العلك؟ قَالَ: لَا. قلت: إِنَّه يمج ريق العلك وَلَا يزدرده وَلَا يمصه؟ قَالَ: نعم. وَقلت لَهُ: أيتسوك الصَّائِم؟ قَالَ: نعم. قلت: أيزدرد رِيقه؟ قَالَ: لَا. قلت: فَفعل أيضره؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن ينْهَى عَن ذَلِك، والعلك بِكَسْر

(11/21)


الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام، هُوَ الَّذِي يمضغ مثل المصطكى. وَقَالَ الشَّافِعِي: يكره لِأَنَّهُ يجفف الْفَم ويعطش، ون وصل مِنْهُ شَيْء إِلَى الْجوف بَطل الصَّوْم، وَكَرِهَهُ أَيْضا إِبْرَاهِيم وَالشعْبِيّ، وَفِي رِوَايَة جَابر عَنهُ: لَا بَأْس بِهِ للصَّائِم مَا لم يبلع رِيقه، وروى ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد عَن ابْن جريج عَن عَطاء إِنَّه سُئِلَ عَن مضغ العلك، فكرهه، وَقَالَ: هُوَ مؤداه، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: رخص مضغ العلك أَكثر الْعلمَاء إِن كَانَ لَا يتحلب مِنْهُ شَيْء، فَإِن تحلب فازدرده فالجمهور على أَنه يفْطر. قَوْله: (فان استنثر؟) أَصله من: نثر ينثر بِالْكَسْرِ، إِذا امتخط، واستنثر استفعل مِنْهُ، أَي: استنشق المَاء ثمَّ استخرج مَا فِي أنفقهُ فينثره، وَقيل: الاستنثار تَحْرِيك النثرة وَهِي طرف الْأنف. قَوْله: (لم يملك) أَي: لم يملك منع دُخُول المَاء فِي حلقه.

92 - (بابٌ إذَا جامَعَ فِي رَمَضَانَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا جَامع الصَّائِم فِي نَهَار رَمَضَان عَامِدًا وَجَبت عَلَيْهِ الْكَفَّارَة، وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف كَمَا قدرناه.
ويُذْكَرُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ منْ أفْطرَ يَوْما مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ولاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيامُ الدهْرِ وإنْ صامَهُ
أَشَارَ بقوله: يذكر، على صِيغَة الْمَجْهُول الَّتِي هِيَ صِيغَة التمريض إِلَى أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا لَيْسَ على شَرطه، ونبينه الْآن. قَوْله: (رَفعه) أَي: رفع أَبُو هُرَيْرَة حَدِيث: من أفطر يَوْمًا، وَمرَاده أَنه لَيْسَ بموقوف عَلَيْهِ، بل هُوَ مَرْفُوع إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَإِن قلت: كَيفَ يرجع الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي رَفعه إِلَى شَيْء مُتَأَخّر عَنهُ؟ قلت: رَفعه، جملَة حَالية مُتَأَخِّرَة رُتْبَة عَن مفعول مَا لم يسم فَاعله لقَوْله: يذكر، وَهُوَ قَوْله: من أفطر. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة: رَفعه، بِلَفْظ الإسم مَرْفُوعا بِأَنَّهُ مفعول: يذكر، وَحِينَئِذٍ يكون الحَدِيث يَعْنِي قَوْله: (من أفطر يَوْمًا) بَدَلا عَن الضَّمِير، يَعْنِي: الضَّمِير الَّذِي أضيف إِلَيْهِ لفظ الرّفْع كَمَا فِي قَوْله: (مَا متعت بِهِ سَمْعِي وبصري إلاَّ بِدُعَاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَإِن السّمع بدل عَن الضَّمِير جوز النُّحَاة مثله. قَوْله: (وَإِن صَامَهُ) أَي: وَإِن صَامَ الدَّهْر، وَهُوَ مَعْطُوف على مُقَدّر تَقْدِيره: إِن لم يصمه وَإِن صَامَهُ.
ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، فَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير، قَالَ: أخبرنَا شُعْبَة عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن عمَارَة بن عُمَيْر عَن ابْن مطوس عَن أَبِيه، قَالَ ابْن كثير: عَن أبي المطوس عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا فِي رَمَضَان فِي غير رخصَة رخصها الله لَهُ لم يقْض عَنهُ صِيَام الدَّهْر) . وَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن حَنْبَل، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن سعيد عَن سُفْيَان، قَالَ: حَدثنَا حبيب عَن عمَارَة عَن ابْن المطوس، قَالَ: فَلَقِيت ابْن المطوس فَحَدثني عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر مثل حَدِيث ابْن كثير، وَسليمَان، قَالَ أَبُو دَاوُد: اخْتلف على سُفْيَان وَشعْبَة عَنْهُمَا ابْن المطوس، وَأَبُو المطوس، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا بنْدَار حَدثنَا يحيى بن سعيد وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي، قَالَا: حَدثنَا سُفْيَان عَن حبيب بن أبي ثَابت حَدثنَا أَبُو المطوس عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير رخصَة وَلَا مرض لم يقْض عَنهُ صَوْم الدَّهْر كُله، وَإِن صَامَهُ) ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: أخبرنَا عَمْرو بن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم. قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن أبي المطوس عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير مرض وَلَا رخصَة لم يقضه صِيَام الدَّهْر كُله، وَإِن صَامَهُ) . وَقَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن بشار، قَالَ: حَدثنَا يحيى وَعبد الرَّحْمَن، قَالَا: حَدثنَا سُفْيَان ثمَّ ذكر كلمة مَعْنَاهَا عَن حبيب، قَالَ: حَدثنَا أَبُو المطوس عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير رخصَة وَلَا مرض لم يقْض عَنهُ صِيَام الدَّهْر وَإِن صَامَهُ) ، ثمَّ رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طرق كَثِيرَة. وَقَالَ ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد قَالَا: حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن ابْن المطوس عَن أَبِيه المطوس عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير رخصَة لم يجزه صِيَام الدَّهْر) .

(11/22)


ذكر بَيَان حَال هَذَا الحَدِيث قَالَ أَبُو دَاوُد: اخْتلف على سُفْيَان وَشعْبَة بن المطوس وَأَبُو المطوس، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة لَا نعرفه إِلَّا من هَذَا الْوَجْه. وَقَالَ شَيخنَا: يُرِيد الحَدِيث الْمَرْفُوع، وَمَعَ هَذَا فقد رُوِيَ مَرْفُوعا من غير طَرِيق أبي المطوس، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن أَحْمد بن سعيد الرهاوي حَدثنَا الْعَبَّاس بن عبيد الله حَدثنَا عمار بن مطر حَدثنَا قيس عَن عَمْرو بن مرّة عَن عبد الله بن الْحَارِث عَن عبد الله ابْن مَالك عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير مرض وَلَا رخصَة لم يقْض عَنهُ صِيَام وَإِن صَامَ الدَّهْر كُله) . قلت: عمار بن مطر هَالك، قَالَ أَبُو حَاتِم: كَانَ يكذب، وَقَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه بَوَاطِيلُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، وَقد رُوِيَ مَوْقُوفا على أبي هُرَيْرَة من غير طَرِيق أبي المطوس، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن زَكَرِيَّا بن يحيى عَن عَمْرو بن مُحَمَّد بن الْحسن عَن أَبِيه عَن شريك عَن الْعَلَاء بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان لم يقضه يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا) ، وَرَوَاهُ أَيْضا عَن هِلَال ابْن الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن عبيد الله بن عَمْرو عَن زيد بن أبي أنيسَة عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن عَليّ بن حُسَيْن. (عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رجلا أفطر فِي رَمَضَان، فَأتى أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ: لَا يقبل مِنْك صَوْم سنة) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي: البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: أَبُو المطوس اسْمه: يزِيد بن المطوس، لَا أعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ) : تفرد أَبُو المطوس بِهَذَا الحَدِيث وَلَا أَدْرِي سمع أَبوهُ من أبي هُرَيْرَة أم لَا؟ قلت: أَبُو المطوس، بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو الْمَفْتُوحَة وَآخره سين مُهْملَة: من أَفْرَاد الكنى، وَكَذَلِكَ أَبوهُ المطوس من أَفْرَاد الْأَسْمَاء. وَقد اخْتلف فِي اسْم أبي المطوس، فَقَالَ البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَابْن حبَان: اسْمه يزِيد. وَقَالَ يحيى بن معِين: اسْمه عبد الله، وَأَبُو دَاوُد قَالَ: لَا يُسمى، وَقد اخْتلف فِيهِ، فَقَالَ ابْن معِين: ثِقَة وَقَالَ ابْن حبَان: يروي عَن أَبِيه مَا لَا يُتَابع عَلَيْهِ، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بأفراده وَقَالَ صَاحب (الْمِيزَان) : ضَعِيف، قَالَ: وَلَا يعرف هُوَ وَلَا أَبوهُ. قلت: وَمَعَ هَذَا صحّح ابْن خُزَيْمَة هَذَا الحَدِيث وَرَوَاهُ من طَرِيق سُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة، كِلَاهُمَا عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن عمَارَة بن عُمَيْر عَن أبي المطوس عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة. . الحَدِيث، وَقَالَ مهنا: سَأَلت أَحْمد عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: يَقُولُونَ: عَن ابْن المطوس وَعَن أبي المطوس، وَبَعْضهمْ يَقُول: عَن حبيب عَن عمَارَة بن عُمَيْر عَن أبي المطوس، قَالَ: لَا أعرف المطوس وَلَا ابْن المطوس. قلت: أتعرف الحَدِيث من غير هَذَا الْوَجْه؟ قَالَ: لَا، وَكَذَا قَالَه أَبُو عَليّ الطوسي، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: يحمل أَن يكون لَو صَحَّ على التَّغْلِيظ، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ.
ذكر مَا رُوِيَ عَن غير أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الْبَاب: فَروِيَ عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان مُتَعَمدا فِي غير سَبِيل خرج من الْحَسَنَات كَيَوْم وَلدته أمه) . وَأخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَفِي سَنَده مُحَمَّد بن الْحَارِث، قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ هُوَ بِشَيْء، وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِثِقَة، وَعَن الفلاس: إِنَّه مَتْرُوك الحَدِيث، وَفِيه مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْبَيْلَمَانِي، قَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء. وَرُوِيَ عَن مصاد بن عقبَة عَن مقَاتل بن حبَان عَن عَمْرو بن مرّة عَن عبد الْوَارِث الْأنْصَارِيّ، قَالَ: سَمِعت أنس بن مَالك، يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أفطر يَوْمًا من شهر رَمَضَان من غير رخصَة وَلَا عذر كَانَ عَلَيْهِ أَن يَصُوم ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَمن أفطر يَوْمَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ أَن يَصُوم سِتِّينَ يَوْمًا، وَمن أفطر ثَلَاثَة أَيَّام كَانَ عَلَيْهِ تسعين يَوْمًا) . أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: لَا يثبت هَذَا الْإِسْنَاد، وَلَا يَصح عَن عَمْرو بن مرّة، وَأعله ابْن الْقطَّان بِعَبْد الْوَارِث. وَعَن ابْن معِين إِنَّه مَجْهُول. وَرُوِيَ عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة الْحَارِث بن عُبَيْدَة الكلَاعِي عَن مقَاتل بن سُلَيْمَان عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن جَابر بن عبد الله عَن النَّبِي،، قَالَ: (من أفطر يَوْمًا من شهر رَمَضَان فِي الْحَضَر فليهد بَدَنَة، فَإِن لم يجد فليطعم ثَلَاثِينَ صَاعا) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الْحَارِث بن عُبَيْدَة وَمُقَاتِل ضعيفان.
قَوْله: (من غير عذر وَلَا مرض) من ذكر الْخَاص بعد الْعَام، لِأَن الْمَرَض دَاخل فِي الْعذر، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (من غير رخصَة وَلَا مرض) ، وَهُوَ أَيْضا من هَذَا الْقَبِيل، لِأَن الْمَرَض دَاخل فِي الرُّخْصَة، ثمَّ إِنَّه أطلق الْإِفْطَار، فَلَا يَخْلُو إِمَّا

(11/23)


أَن يكون بجماع أَو غَيره نَاسِيا أَو عَامِدًا، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ الْإِفْطَار فِي الْأكل أَو الشّرْب عَامِدًا، وَإِمَّا نَاسِيا فقد ذكره فِيمَا مضى، وَأما بِالْجِمَاعِ فَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِك، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وبِهِ قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
أَي: وَبِمَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ، وَقد وَصله الْبَيْهَقِيّ رَاوِيا من طَرِيقين: أَحدهمَا: من رِوَايَة الْمُغيرَة بن عبد الله الْيَشْكُرِي، قَالَ: حدثت أَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان من غير عِلّة لم يجزه صِيَام الدَّهْر حَتَّى يلقى الله عز وَجل، فَإِن شَاءَ غفر لَهُ، وَإِن شَاءَ عذبه) ، والمغيرة هَذَا من ثِقَات التَّابِعين، أخرج لَهُ مُسلم وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، وَلكنه مُنْقَطع فَإِنَّهُ قَالَ: حدثت عَنهُ. وَالطَّرِيق الثَّانِي: من رِوَايَة أبي أُسَامَة عَن عبد الْملك، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة الثَّقَفِيّ عَن عرْفجَة، قَالَ: قَالَ عبد الله بن مَسْعُود: (من أفطر يَوْمًا من رَمَضَان مُتَعَمدا من غير عِلّة، ثمَّ قضى طول الدَّهْر لم يقبل مِنْهُ) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ: عبد الْملك هَذَا أَظُنهُ ابْن حُسَيْن النَّخعِيّ، لَيْسَ بِالْقَوِيّ. فَإِن قلت: كَيفَ قَالَ: وَبِه قَالَ ابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة رَفعه، وَابْن مَسْعُود وَقفه، فَكيف يكون ابْن مَسْعُود قَائِلا بِمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة؟ قلت: لم يثبت رَفعه عِنْد البُخَارِيّ، فَلذَلِك ذكره بِصِيغَة التمريض، وروى عَن أبي هُرَيْرَة بطرق مَوْقُوفا، وَقيل: فِيهِ ثَلَاث علل الإضطراب لِأَنَّهُ اخْتلف على حبيب بن أبي ثَابت اخْتِلَافا كثير. والجهالة بِحَال أبي المطوس وَالشَّكّ فِي سَماع أَبِيه من أبي هُرَيْرَة، وَهَذِه الثَّالِثَة تخْتَص بطريقة البُخَارِيّ فِي اشْتِرَاط اللِّقَاء.
وَقَالَ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ والشَّعْبِيُّ وابنُ جُبَيْرٍ وإبْرَاهِيمُ وقَتَادَةُ وحَمَّادٌ يَقْضِي يوْما مَكَانَهُ
أَي: قَالَ هَؤُلَاءِ فِيمَن أفطر فِي نَهَار رَمَضَان عَامِدًا أَن عَلَيْهِ الْقَضَاء فَقَط بِغَيْر كَفَّارَة، وَقَالَ ابْن بطال: نظرت أَقْوَال التَّابِعين الَّذين ذكرهم البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب فِي المصنفات فَلم أر قَوْلهم بِسُقُوط الْكَفَّارَة إلاَّ فِي الْفطر بِالْأَكْلِ لَا المجامعة، فَيحْتَمل أَن يكون عِنْدهم الْأكل وَالْجِمَاع سَوَاء فِي سُقُوط الْكَفَّارَة، إِذْ كل مَا أفسد الصّيام من أكل أَو شرب أَو جماع فاسم الْفطر يَقع عَلَيْهِ، وفاعله مفطر بذلك من صِيَامه، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يدع طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أَجلي) ، فَدخل أعظم الشَّهَوَات وَهِي شَهْوَة الْجِمَاع فِي ذَلِك. انْتهى. قلت: حُكيَ عَن الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَالزهْرِيّ وَابْن سِيرِين أَنه: لَا كَفَّارَة على الواطىء فِي نَهَار رَمَضَان، واعتبروه بِقَضَائِهِ. قَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ خَاص بذلك الرجل، يَعْنِي فِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة: (جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: هَلَكت. .) الحَدِيث على مَا يَأْتِي، وَقَالَ الْخطابِيّ: لم يحضر عَلَيْهِ برهَان. وَقَالَ قوم: هُوَ مَنْسُوخ وَلم يقم دَلِيل نسخه، وَعند الْجُمْهُور: يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة لحَدِيث أبي هُرَيْرَة على مَا نبينه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَالَّذين ذكرهم البُخَارِيّ سِتَّة من التَّابِعين، الأول: سعيد بن الْمسيب، فوصل أَثَره مُسَدّد وَغَيره فِي قصَّة المجامع قَالَ يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ ويستغفر الله تَعَالَى. الثَّانِي: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ، فوصل أَثَره ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا شريك عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ قَالَا: (يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ) . الثَّالِث: سعيد بن جُبَير، فوصل أَثَره ابْن أبي شيبَة أَيْضا: حَدثنَا عَبدة عَن سعيد عَن يعلى بن حَكِيم (عَن سعيد بن جُبَير فِي رجل أفطر يَوْمًا مُتَعَمدا، قَالَ: يسْتَغْفر الله من ذَلِك وَيَتُوب وَيَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ) . الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، فوصل أَثَره ابْن أبي شيبَة، وَقد مر الْآن مَعَ الشّعبِيّ. الْخَامِس: قَتَادَة فوصل أثر عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن، وَقَتَادَة فِي قصَّة المجامع فِي رَمَضَان. السَّادِس: حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، أحد من أَخذ عَنهُ الإِمَام أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فوصله عبد الرَّزَّاق عَن أبي حنيفَة عَنهُ.

5391 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُنِيرٍ قَالَ سَمِعَ يَزيدَ بنَ هَرُونَ قَالَ حدَّثنا يحْيَى هُوَ ابنُ سَعِيدٍ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ الْقَاسِمِ أخبرَهُ عنْ محَمَّدِ بنِ جَعْفَرَ بنِ الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ بنِ خُوَيْلِدٍ عنْ عَبَّادِ ابنِ عَبْدِ الله بنِ الزُّبَيرِ قَالَ أخبرَهُ أنَّهُ سَمِعَ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا تَقُولُ إنَّ رَجُلاً أتَى النبيَّ صلى الله

(11/24)


عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إنَّهُ احْتَرَقَ قَالَ مالَكَ قَالَ أصبْتُ أهْلِي فِي رَمَضَانَ فأُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِكْتَلٍ يُدْعَى الْعَرَقَ فَقَالَ أيْنَ الْمُحُتَرِقُ قَالَ أنَا قَالَ تَصَدَّقْ بِهَذَا. (الحَدِيث 5391 طرفه فِي: 2286) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أصبت أَهلِي فِي رَمَضَان) ، أَرَادَ أَنه جَامع فِي نَهَار رَمَضَان.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون: الزَّاهِد أَبُو عبد الرَّحْمَن. الثَّانِي: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن هَارُون أَبُو خَالِد. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: مُحَمَّد بن جَعْفَر. السَّادِس: عباد، بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّابِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْأَخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي وَأَنه من أَفْرَاده وَأَن يزِيد بن هَارُون واسطي والبقية مدنيون. وَفِيه: أَرْبَعَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد. وَيحيى وَعبد الرَّحْمَن تابعيان صغيران من طبقَة وَاحِدَة وفوقهما قَلِيلا مُحَمَّد بن جَعْفَر. وَأما ابْن عَمه عباد فَمن أوساط التَّابِعين.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن أبي الطَّاهِر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد وَعَن مُحَمَّد بن عَوْف. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحَارِث بن مِسْكين وَعَن عِيسَى بن حَمَّاد وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن يحيى بن حبيب.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (إِن رجلا) ، زعم ابْن بشكوال أَن هَذَا الرجل هُوَ سَلمَة صَخْر البياضي فِيمَا ذكره ابْن أبي شيبَة فِي (مُسْنده) ، وَعند ابْن الْجَارُود: سلمَان بن صَخْر، وَفِي (جَامع التِّرْمِذِيّ) : سَلمَة بن صَخْر، قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور حَدثنَا هَارُون بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا عَليّ بن الْمُبَارك حَدثنَا يحيى بن أبي كثير (حَدثنَا أَبُو سَلمَة: أَن سَلمَة بن صَخْر البياضي جعل امْرَأَته عَلَيْهِ كَظهر أمه حَتَّى يمْضِي رَمَضَان، فَلَمَّا مضى نصف رَمَضَان وَقع عَلَيْهَا لَيْلًا، فَأتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: أعتق رَقَبَة {قَالَ: لَا أَجدهَا. قَالَ: فَصم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، قَالَ لَا أَسْتَطِيع. قَالَ: أطْعم سِتِّينَ مِسْكينا، قَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لفروة بن عَمْرو: أعْطه ذَلِك الْعرق، وَهُوَ مكتل يَأْخُذ خَمْسَة عشر أَو سِتَّة عشر صَاعا) . وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) فَهَذَا غير مَا ذكره ابْن بشكوال فَينْظر، وَالله أعلم. قلت: لَا شكّ أَنه غير لِأَن ابْن بشكوال اسْتندَ إِلَى مَا أخرجه ابْن أبي شيبَة وَغَيره من طَرِيق سلمَان بن يسَار عَن سَلمَة بن صَخْر أَنه ظَاهر من امْرَأَته فِي رَمَضَان، وَأَنه وَطأهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حرر رَقَبَة. قلت: لَا أملك رَقَبَة غَيرهَا، وَضرب صفحة رقبته، قَالَ: فَصم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، قَالَ: وَهل أصبت الَّذِي أصبت إلاَّ من الصّيام؟ قَالَ: فأطعم سِتِّينَ مِسْكينا. قَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا لنا طَعَام} قَالَ: فَانْطَلق إِلَى صَاحب صَدَقَة بني زُرَيْق فليدفعها إِلَيْك. انْتهى. وَالظَّاهِر أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، فَإِن فِي قصَّة المجامع فِي حَدِيث الْبَاب أَنه كَانَ صَائِما. وَفِي قصَّة سَلمَة بن صَخْر أَن ذَلِك كَانَ لَيْلًا، كَمَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ الْمَذْكُورَة آنِفا فَافْتَرقَا، واجتماعهما فِي كَونهمَا من بني بياضة، وَفِي صفة الْكَفَّارَة وَكَونهَا مرتبَة، وَفِي كَون كل مِنْهُمَا كَانَ لَا يقدر على شَيْء من خصالها لَا يسْتَلْزم اتِّحَاد الْقصَّتَيْنِ. وَالله أعلم. قَوْله: (إِنَّه احْتَرَقَ) ، وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة أَنه عبر بقوله: (هَلَكت) ، وَرِوَايَة الاحتراق تفسر رِوَايَة الْهَلَاك، وَكَأَنَّهُ لما اعْتقد أَن مرتكب الْإِثْم يعذب بالنَّار أطلق على نَفسه أَنه احْتَرَقَ لذَلِك، أَو مُرَاده أَنه يَحْتَرِق بالنَّار يَوْم الْقِيَامَة، فَجعل المتوقع كالواقع، وَاسْتعْمل بدله لفظ الْمَاضِي أَو شبه مَا وَقع فِيهِ من الْجِمَاع فِي الصَّوْم بالاحتراق، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (جَاءَهُ رجل وَهُوَ ينتف شعره، ويدق صَدره، وَيَقُول: هلك الْأَبْعَد وأهلكت) وَفِي رِوَايَة (وَهُوَ يَدْعُو بِالْوَيْلِ) ، وَفِي رِوَايَة: (يلطم وَجهه) ، وَفِي رِوَايَة الْحجَّاج بن أَرْطَأَة: (يَدْعُو ويله) ، وَفِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ: (ويحثي على رَأسه التُّرَاب) . قَوْله: (قَالَ: مَالك؟) أَي: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا شَأْنك وَمَا جرى عَلَيْك؟ قَوْله: (أصبت أَهلِي فِي رَمَضَان) كِنَايَة عَن وَطئهَا، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (وَقعت على امْرَأَتي فِي رَمَضَان) . قَوْله: (فَأتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِضَم الْهمزَة وَكسر التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بمكتل) ، بِكَسْر الْمِيم: الزنبيل الْكَبِير، قيل: إِنَّه يسع خَمْسَة عشر صَاعا، كَانَ فِيهِ كتلاً من التَّمْر أَي: قطعا مجتمعة، وَيجمع على: مكاتل. وَقَالَ القَاضِي: المكتل

(11/25)


والقفة والزبيل سَوَاء، وَسمي الزبيل لحمل الزبل فِيهِ، قَالَه ابْن دُرَيْد، والزبيل، بِكَسْر الزَّاي وَيُقَال بِفَتْحِهَا، وَكِلَاهُمَا لُغَتَانِ وَفِي (الْمُحكم) الزبيل: الجراب، وَقيل: الْوِعَاء يحمل فِيهِ، والزبيل القفة، وَالْجمع: زبل وزبلان. وَفِي (الصِّحَاح) : الزبيل مَعْرُوف فَإِذا كَسرته شددته، فَقلت: زبيل، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب: فعليل، بِالْفَتْح وَجَاء فِيهِ لُغَة أُخْرَى وَهِي: زنبيل، بِكَسْر الزَّاي وَسُكُون النُّون، قَالَ بَعضهم: وَقد تُدْغَم النُّون فتشدد الْيَاء مَعَ بَقَاء وَزنه، وَجمعه على اللُّغَات الثَّلَاث: زنابيل. قلت: لَيْسَ جمعه على اللغتين الْأَوليين إلاَّ مَا نقلنا عَن (الْمُحكم) : وَأما: زنابيل، فَلَيْسَ إلاَّ جمع المشدد فَقَط. قَوْله: (يدعى الْعرق) ، ذكر أَبُو عمر أَنه بِفَتْح الرَّاء وَهُوَ الصَّوَاب عِنْد أهل اللُّغَة، قَالَ: وَأَكْثَرهم يَرْوُونَهُ بِسُكُون الرَّاء، وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لِابْنِ حبيب: رَوَاهُ مطرف عَن مَالك بتحريك الرَّاء، وَقَالَ ابْن التِّين فِي رِوَايَة أبي الْحسن بِسُكُون الرَّاء، وَرِوَايَة أبي ذَر بِفَتْحِهَا، وَأنكر بعض الْعلمَاء إسكان الرَّاء، وَفِي كتاب (الْعين) : الْعرق مِثَال شجر، والعرقات كل مضفور أَو مصطف، والعرق أَيْضا السَّقِيفَة من الخوص قبل أَن يَجْعَل مِنْهَا زنبيلاً، وَسمي: الزنبيل: عرقا لذَلِك، وَيُقَال: العرقة أَيْضا، وَعَن أبي عمر: والعرق أكبر من المكتل، والمكتل أكبر من القفة، والعرقة زنبيل من قد بلغه كلب ذكره فِي (الموعب) ، وَفِي (الْمُحكم) : الْعرق واحدته: عرقة، قَالَ أَحْمد بن عمرَان: الْعرق المكتل الْعَظِيم. قَوْله: (أَيْن المحترق؟) يدل على أَنه كَانَ عَامِدًا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْبتْ لَهُ حكم الْعمد، وَأثبت لَهُ هَذَا الْوَصْف إِشَارَة إِلَى أَنه لَو أصر غير ذَلِك لَاسْتَحَقَّ ذَلِك. قَوْله: (تصدق بِهَذَا) ، مُطلق، وَالْمرَاد تصدق على سِتِّينَ مِسْكينا، هَكَذَا رَوَاهُ مُخْتَصرا، وَرَوَاهُ مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن رمح بن المُهَاجر، قَالَ: أخبرنَا اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير عَن عباد بن عبد الله بن الزبير (عَن عَائِشَة، قَالَت: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: احترقت {قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لِمَ قَالَ: وطِئت امْرَأَتي فِي رَمَضَان نَهَارا. قَالَ: تصدق. قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْء، فَأمره أَن يجلس، فَجَاءَهُ عرقان فيهمَا طَعَام، فَأمره أَن يتَصَدَّق بهما) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (أَتَى رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَسْجِد فِي رَمَضَان، فَقَالَ: يَا رَسُول الله} احترقت احترقت؟ فَسَأَلَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا شَأْنك؟ فَقَالَ: أصبت أَهلِي {فَقَالَ: تصدق، فَقَالَ: وَالله يَا نَبِي الله مَا لي شَيْء، وَمَا أقدر عَلَيْهِ. قَالَ: إجلس، فَجَلَسَ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك أقبل رجل يَسُوق حمارا عَلَيْهِ طَعَام، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيْن المحترق آنِفا؟ فَقَامَ الرجل، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تصدق بِهَذَا، فَقَالَ: يَا رَسُول الله} أغيرنا؟ فوَاللَّه إِنَّا لجياع مَا لنا شَيْء. قَالَ: كلوه) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَمن الْحَدِيثين اللَّذين يأتيان بعده، وَغَيرهَا من الْأَحَادِيث الَّتِي فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ على أَنْوَاع: النَّوْع الأول: أَن قوما استدلوا بقوله: (تصدق بِهَذَا) على أَن الَّذِي يجب على من جَامع فِي نَهَار رَمَضَان عَامِدًا الصَّدَقَة لَا غير. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن هَؤُلَاءِ الْقَوْم هَكَذَا، وَلم يبين من هم. قلت: هم عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ، وَمَالك فِي رِوَايَة وَعبد الله بن رهم فَإِنَّهُم قَالُوا فِي هَذَا: تجب عَلَيْهِ الصَّدَقَة وَلَا تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِظَاهِر حَدِيث المحترق، وَأجِيب: بِأَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي يَأْتِي فِي الْكتاب زَاد فِيهِ: الْعتْق وَالصِّيَام، وَالْأَخْذ بِهِ أولى، لِأَن أَبَا هُرَيْرَة حفظ ذَلِك وَلم تحفظه عَائِشَة، وَيُقَال: إِنَّهَا لم تجب عَلَيْهِ فِي الْحَال لعَجزه عَن الْكل. وأخرت إِلَى زمن الميسرة. وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَمَا أمره بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ تَطَوّعا لِأَنَّهَا لم تكن وَاجِبَة عَلَيْهِ فِي الْحَال لعَجزه، وَلِهَذَا أجَاز صرفهَا إِلَى نَفسه وَعِيَاله، وَعَن أبي جَعْفَر الطَّبَرِيّ: أَن قِيَاس قَول أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَأبي ثَوْر: إِن الْكَفَّارَة دين عَلَيْهِ لَا تسْقط عَنهُ لعسرته، وَعَلِيهِ أَن يَأْتِي بهَا إِذا أيسر، كَسَائِر الْكَفَّارَات، وَعند الشَّافِعِيَّة: فِيهِ وَجْهَان، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن إِبَاحَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك الرجل أكل الْكَفَّارَة لعسرته رخصَة لَهُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْن شهَاب: وَلَو أَن رجلا فعل ذَلِك الْيَوْم لم يكن لَهُ بُد من التَّكْفِير، وَقيل: هُوَ مَنْسُوخ، وَقيل: هُوَ خَاص بذلك الرجل، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: خص هَذَا الرجل بِأَحْكَام ثَلَاثَة: بِجَوَاز الْإِطْعَام مَعَ الْقُدْرَة على الصّيام وَصَرفه على نَفسه، والاكتفاء بِخَمْسَة عشر صَاعا.
النَّوْع الثَّانِي: لَو أَنهم اخْتلفُوا فِي كمية هَذِه الصَّدَقَة، فَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك: إِن الْوَاجِب فِيهَا مد، وَهُوَ ربع صَاع لكل مِسْكين، وَهُوَ خَمْسَة عشر صَاعا، لما روى أَبُو دَاوُد من رِوَايَة هِشَام بن سعد عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: (فَأتي بعرق

(11/26)


قدر خَمْسَة عشر صَاعا) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: (فَأتي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمكتل فِيهِ خَمْسَة عشر صَاعا من تمر) ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا ثمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، قَالَ فِيهِ: (بمكتل فِيهِ خَمْسَة عشر صَاعا من تمر) ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من رِوَايَة روح عَن مُحَمَّد ابْن أبي حَفْصَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد قَالَ وَفِيه: بزبيل وَهُوَ المكتل فِيهِ خَمْسَة عشر صَاعا أَحْسبهُ تَمرا. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ هِقْل بن زِيَاد، والوليد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَظَاهره يدل على أَن قدر خَمْسَة عشر صَاعا يَكْفِي لِلْكَفَّارَةِ عَن شخص وَاحِد لكل مِسْكين مد، قَالَ: وَقد جعله الشَّافِعِي أصلا لمذهبه فِي أَكثر الْمَوَاضِع الَّتِي يجب فِيهَا الْإِطْعَام، وَعِنْدنَا: الْوَاجِب لكل مِسْكين نصف صَاع من بر أَو صَاع من تمر، كَمَا فِي كَفَّارَة الظِّهَار، لما روى الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن عَبَّاس: (يطعم كل يَوْم مِسْكينا نصف صَاع من بر) وَعَن عَائِشَة فِي هَذِه الْقِصَّة: (أُتِي بعرق فِيهِ عشرُون صَاعا) ذكره السفاقسي فِي (شرح البُخَارِيّ) ويروى: (مَا بَين خَمْسَة عشر صَاعا إِلَى عشْرين) ، وَفِي (صَحِيح مُسلم) : فَأمره أَن يجلس، فجَاء عرقان فيهمَا طَعَام فَأمره أَن يتَصَدَّق بِهِ، فَإِذا كَانَ الْعرق خَمْسَة عشر صَاعا، فالعرقان ثَلَاثُونَ صَاعا على سِتِّينَ مِسْكينا لكل مِسْكين نصف صَاع. وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي بعض طرق عَائِشَة عِنْد مُسلم: فَجَاءَهُ عرقان، وَالْمَشْهُور فِي غَيرهَا: عرق، وَرجحه الْبَيْهَقِيّ، وَجمع غَيره بَينهمَا بِتَعَدُّد الْوَاقِعَة. وَقَالَ: الَّذِي يظْهر أَن التَّمْر كَانَ قدر عرق، لكنه كَانَ فِي عرقين فِي حَال التحميل على الدَّابَّة ليَكُون أسهل فِي الْحمل، فَيحْتَمل أَن الْآتِي بِهِ لما وصل أفرغ أَحدهمَا فِي الآخر، فَمن قَالَ: عرقان، أَرَادَ ابْتِدَاء الْحَال، وَمن قَالَ: عرق، أَرَادَ مَا آل إِلَيْهِ. قلت: كَون الْمَشْهُور فِي غير طرق عَائِشَة عرقا لَا يسْتَلْزم رد مَا رُوِيَ فِي بعض طرق عَائِشَة: أَنه عرقان، وَمن أَيْن تَرْجِيح رِوَايَة غير مُسلم على رِوَايَة مُسلم؟ فَهَذَا مُجَرّد دَعْوَى لتمشية مذْهبه. وَقَول من يَدعِي تعدد الْوَاقِعَة غير صَحِيح، لِأَن مخرج الحَدِيث وَاحِد، وَالْأَصْل عدم التَّعَدُّد. وَقَول هَذَا الْقَائِل: وَالَّذِي يظْهر ... إِلَى آخِره، سَاقِط جدا وَتَأْويل فَاسد، فَمن أَيْن هَذَا الظُّهُور الَّذِي يذكرهُ بِغَيْر أصل وَلَا دَلِيل من نفس الْكَلَام وَلَا قرينَة من الْخَارِج؟ وَإِنَّمَا هُوَ من آثَار أريحية التعصب نصْرَة لما ذهب إِلَيْهِ، وَالْحق أَحَق أَن يتبع، وَالله ولي الْعِصْمَة.
النَّوْع الثَّالِث: احْتج بِهِ الشَّافِعِي وَدَاوُد وَأهل الظَّاهِر على أَنه: لَا يلْزم فِي الْجِمَاع على الرجل وَالْمَرْأَة إلاَّ كَفَّارَة وَاحِدَة، إِذْ لم يذكر لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم الْمَرْأَة، وَهُوَ مَوضِع الْبَيَان، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأَبُو ثَوْر: تجب الْكَفَّارَة على الْمَرْأَة أَيْضا إِن طاوعته، وَقَالَ القَاضِي: وَسوى الْأَوْزَاعِيّ بَين المكرهة والطائعة على مذْهبه، وَقَالَ مَالك، فِي الْمَشْهُور من مذْهبه فِي المكرهة: يكفر عَنْهَا بِغَيْر الصَّوْم. وَقَالَ سَحْنُون: لَا شَيْء عَلَيْهَا، وَلَا عَلَيْهِ لَهَا، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَلم يخْتَلف مَذْهَبنَا فِي قَضَاء المركهة والنائمة إلاَّ مَا ذكره ابْن الْقصار عَن القَاضِي إِسْمَاعِيل عَن مَالك أَنه لَا غسل على الْمَوْطُوءَة نَائِمَة وَلَا مُكْرَهَة إلاَّ أَن تلتذ قَالَ ابْن قصار: فَتبين من هَذَا أَنَّهَا غير مفطرة، وَقَالَ القَاضِي: وظاهرة أَنه لَا قَضَاء على المكرهة إِلَّا أَن تلتذ، وَلَا على النائمة لِأَنَّهَا كالمحتلمة، وَهُوَ قَول أبي ثَوْر فِي النائمة والمكرهة.
وَاخْتلف فِي وجوب الْكَفَّارَة على الْمُكْره على الوطىء لغيره. على هَذَا، وَحكى ابْن الْقصار عَن أبي حنيفَة: لَا يلْزم الْمُكْره عَن نَفسه وَلَا على من أكرهه، وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع) : وَأما على الْمَرْأَة فَتجب عَلَيْهَا أَيْضا الْكَفَّارَة إِذا كَانَت مطاوعة، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: فِي قَول: لَا يجب عَلَيْهَا أصلا، وَفِي قَول: يجب عَلَيْهَا ويتحملها الزَّوْج. وَأما الْجَواب عَن قَوْلهم: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يذكر حكم الْمَرْأَة وَهُوَ مَوضِع الْبَيَان، أَن الْمَرْأَة لَعَلَّهَا كَانَت مُكْرَهَة أَو ناسية لصومها، أَو من يُبَاح لَهَا الْفطر ذَلِك الْيَوْم لعذر الْمَرَض أَو السّفر أَو الصغر أَو الْجُنُون أَو الْكفْر أَو الْحيض أَو طَهَارَتهَا من حَيْضهَا فِي أثْنَاء النَّهَار.
النَّوْع الرَّابِع: فِي أَن الْوَاجِب إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا خلافًا لما رُوِيَ عَن الْحسن أَنه رأى أَن يطعم أَرْبَعِينَ مِسْكينا عشْرين صَاعا، حَكَاهُ ابْن التِّين عَنهُ، وحكوا عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: يجْزِيه أَن يدْفع طَعَام سِتِّينَ مِسْكينا إِلَى مِسْكين وَاحِد. قَالُوا: والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. قلت: الَّذِي حكى مَذْهَب أبي حنيفَة لم يعرف مذْهبه فِيهِ، وَحكي من غير معرفَة، ومذهبه أَنه إِذا دفع إِلَى مِسْكين وَاحِد فِي شَهْرَيْن يجوز، فَلَا يكون الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، لِأَن الْمَقْصُود سد خلة الْمُحْتَاج، وَالْحَاجة تتجدد بتجدد الْأَيَّام فَكَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي كمسكين آخر حَتَّى لَو أعْطى مِسْكينا وَاحِدًا كُله فِي يَوْم وَاحِد لَا يَصح إلاَّ عَن يَوْمه، ذَلِك، لِأَن الْوَاجِب

(11/27)


عَلَيْهِ التَّفْرِيق وَلم يُوجد، ثمَّ الشَّرْط فِي الْإِطْعَام غداآن إِن وعشاآن، أَو غداء وعشاء فِي يَوْم وَاحِد.
النَّوْع الْخَامِس: فِي أَن التَّرْتِيب فِي الْكَفَّارَة وَاجِب، فَتَحْرِير رَقَبَة أَولا فَإِن لم يُوجد فَصِيَام شَهْرَيْن وَإِن لم يسْتَطع الصَّوْم فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا، بِدَلِيل عطف بعض الْجمل على الْبَعْض بِالْفَاءِ الْمرتبَة المعقبة كَمَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَابْن حبيب من الْمَالِكِيَّة، وَذهب مَالك وَأَصْحَابه إِلَى التَّخْيِير لقَوْله فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (صم شَهْرَيْن أَو أطْعم) ، فخيره: بِأَو، الَّتِي موضوعها التَّخْيِير، وَعَن ابْن الْقَاسِم: لَا يعرف مَالك غير الْإِطْعَام، وَذكر مقلدوه حجَجًا لذَلِك كَثِيرَة لَا تقاوم مَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث من وجوب التَّرْتِيب واستحبابه، وَزعم بَعضهم أَن الْكَفَّارَة تخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات قَالَ ابْن التِّين: وَإِلَيْهِ ذهب الْمُتَأَخّرُونَ من أَصْحَابنَا، فوقت المجاعة الْإِطْعَام أولى، وَإِن كَانَ خصبا فالعتق أولى، وَأمر بعض الْمُفْتِينَ أهل الْغنى الْوَاسِع بِالصَّوْمِ لمشقته عَلَيْهِ، وَعَن أبي ليلى هُوَ مُخَيّر فِي الْعتْق وَالصِّيَام، فَإِن لم يقدر عَلَيْهِمَا أطْعم، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن جرير، قَالَا: وَلَا سَبِيل إِلَى الْإِطْعَام إلاَّ عِنْد الْعَجز عَن الْعتْق أَو الصّيام. وَقَالَ ابْن قدامَة: الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك أَحْمد أَن كَفَّارَة الْوَطْء فِي رَمَضَان ككفارة الظِّهَار فِي التَّرْتِيب: الْعتْق إِن أمكن، فَإِن عجز انْتقل إِلَى الصّيام، فَإِن عجز انْتقل إِلَى الْإِطْعَام، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَنَّهَا على التَّخْيِير بَين الْعتْق وَالصِّيَام وَالْإِطْعَام، وبأيها كفر أَجزَأَهُ، وَهُوَ رِوَايَة عَن مَالك، فَإِن عجز عَن هَذِه الْأَشْيَاء سَقَطت الْكَفَّارَة عَنهُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما رأى عجز الْأَعرَابِي عَنْهَا قَالَ: (أطْعمهُ أهلك) وَلم يَأْمُرهُ بكفارة أُخْرَى، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ، وَعَن الزُّهْرِيّ: لَا بُد من التَّكْفِير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْأَنْوَاع.
النَّوْع السَّادِس فِي أَن إِطْلَاق الرَّقَبَة فِي الحَدِيث يدل على جَوَاز الْمسلمَة والكافرة، وَالذكر وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِير وَالْكَبِير، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَجعلُوا هَذَا كالظهار مستدلين بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن سَالم عَن مُجَاهِد (عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الَّذِي أفطر فِي رَمَضَان يَوْمًا بكفارة الظِّهَار) ، وَإِطْلَاق الحَدِيث أَيْضا يَقْتَضِي جَوَاز الرَّقَبَة المعيبة، وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد وَمَالك وَأحمد وَالشَّافِعِيّ شرطُوا الْإِيمَان فِي إِجْزَاء الرَّقَبَة، بِدَلِيل تقييدها فِي كَفَّارَة الْقَتْل، وَهِي مَسْأَلَة حمل الْمُطلق على الْمُقَيد، وَقَالَ عَطاء: إِن لم يجد رقبه أهْدى بَدَنَة، فَإِن لم يجد فبقرة، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَنَحْوه عَن الْحسن.
النَّوْع السَّابِع: فِي أَن التَّتَابُع فِي صَوْم الشَّهْرَيْنِ شَرط بِالنَّصِّ بِشَرْط أَن لَا يكون فيهمَا رَمَضَان، وَأَيَّام منهية، وَهِي: يَوْم الْفطر وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق، وَهُوَ قَول كَافَّة الْعلمَاء إلاَّ ابْن أبي ليلى، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يجب التَّتَابُع فِي الصّيام، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ.
النَّوْع الثَّامِن: اخْتلف الْفُقَهَاء فِي قَضَاء ذَلِك الْيَوْم مَعَ الْكَفَّارَة، فَقَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَأَبُو ثَوْر وَأحمد وَإِسْحَاق: عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِن كفر بِالْعِتْقِ وَالْإِطْعَام صَامَ يَوْمًا مَكَان ذَلِك الْيَوْم الَّذِي أفطر، وَإِن صَامَ شَهْرَيْن مُتَتَابعين دخل فيهمَا قَضَاء ذَلِك الْيَوْم، وَقَالَ قوم: لَيْسَ فِي الْكَفَّارَة صِيَام ذَلِك الْيَوْم، قَالَ أَبُو عمر: لِأَنَّهُ لم يرد فِي حَدِيث عَائِشَة وَلَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي نقل الْحفاظ للْأَخْبَار الَّتِي لَا عِلّة فِيهَا ذكر الْقَضَاء، وَإِنَّمَا فِيهَا الْكَفَّارَة. قلت: جَاءَ فِي خبر أبي هُرَيْرَة وَغَيره: الْقَضَاء، وروى ابْن مَاجَه عَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن عبد الله بن وهب عَن عبد الْجَبَّار بن عمر عَن يحيى بن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، أَي: بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: هَلَكت، وَقد تقدم قبله، ثمَّ قَالَ: (ويصوم يَوْمًا مَا مَكَانَهُ) .
النَّوْع التَّاسِع: أَجمعُوا على أَن من وطىء فِي رَمَضَان فِي يَوْم آخر أَن عَلَيْهِ كَفَّارَة أُخْرَى، وَأَجْمعُوا أَنه لَيْسَ على من وطىء مرَارًا فِي يَوْم وَاحِد إلاَّ كَفَّارَة وَاحِدَة، فَإِن وطىء فِي يَوْم من رَمَضَان وَلم يكفر حَتَّى وطىء فِي يَوْم آخر، فَذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: أَن عَلَيْهِ لكل يَوْم كَفَّارَة، كفر أم لَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: عَلَيْهِ كَفَّارَة وَاحِدَة إِذا وطىء قبل أَن يكفر وَقَالَ الثَّوْريّ: أحب إِلَيّ أَن يكفر عَن كل يَوْم، وَأَرْجُو أَن يجْزِيه كَفَّارَة وَاحِدَة مَا لم يكفر.
النَّوْع الْعَاشِر: فِي حَدِيث الْبَاب دلَالَة على التَّمْلِيك الضمني من قَوْله: (تصدق بِهَذَا) ، قَالَ صَاحب الْمُفْهم: يلْزم مِنْهُ أَن يكون قد ملكه إِيَّاه ليتصدق بِهِ عَن كَفَّارَته، قَالَ: وَيكون هَذَا كَقَوْل الْقَائِل: أعتقت عَبدِي عَن فلَان، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن سبقية الْملك عِنْد قوم، قَالَ: وأباه أَصْحَابنَا مَعَ الِاتِّفَاق على أَن الْوَلَاء للْمُعْتق فِيهِ، وَأَن الْكَفَّارَة تسْقط بذلك.

(11/28)


03 - (بابٌ إِذا جامَعَ فِي رَمَضَانَ ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَيءٌ فتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فلْيُكَفِّرْ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا جَامع الصَّائِم فِي نَهَار رَمَضَان عَامِدًا، وَالْحَال أَنه لم يكن لَهُ شَيْء يعْتق بِهِ، وَلَا شَيْء يطعم بِهِ، وَلَا لَهُ قدرَة يَسْتَطِيع الصّيام بهَا، ثمَّ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِقدر مَا يجْزِيه، فليكفر بِهِ لِأَنَّهُ صَار واجدا بِهِ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْإِعْسَار لَا يسْقط الْكَفَّارَة عَن ذمَّته.

6391 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبً عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرنِي حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ جاءَهُ رجُلٌ فَقَالَ يَا رسولَ الله هَلَكْتُ قَالَ مالَكَ قَالَ وقَعْتُ علَى امْرَأتِي وَأَنا صَائِمٌ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَلْ تَجِدُ رَقبَةً تُعْتِقُهَا قَالَ لاَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتتابِعَيْنِ قَالَ لاَ فَقال فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينا قَالَ لاَ قَالَ فمَكَثَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرً والْعَرَقُ المِكْتَلُ قَالَ أيْنَ السَّائِلُ فَقَالَ أَنا قَالَ خُذْهَا فَتَصَدَّقَ بِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ الله فَوالله مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا يُرِيدُ الحرَّتَيْنِ أهْلُ بَيْتٍ أفْقَرُ مِنْ أهْلِ بَيْتِي فَضَحِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ أطْعِمْهُ أهْلَكَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن قَوْله: (وَقعت على امْرَأَتي وَأَنا صَائِم) عبارَة عَن الْجِمَاع.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب، وَحميد بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْمدنِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن الرَّاوِي عَن الزُّهْرِيّ هُوَ شُعَيْب، وَالزهْرِيّ هُوَ الرَّاوِي عَن حميد، وروى مَا ينيف على أَرْبَعِينَ نفسا عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد عَن أبي هُرَيْرَة وهم: ابْن عُيَيْنَة وَاللَّيْث وَمعمر وَمَنْصُور عِنْد الشَّيْخَيْنِ، وَالْأَوْزَاعِيّ وَشُعَيْب وَإِبْرَاهِيم بن سعد عِنْد البُخَارِيّ، وَمَالك، وَابْن جريج عِنْد مُسلم، وَيحيى بن سعيد وعراك بن مَالك عِنْد النَّسَائِيّ، وَعبد الْجَبَّار بن عمر عِنْد أبي عوَانَة، والجوزقي وَعبد الرَّحْمَن بن مُسَافر عِنْد الطَّحَاوِيّ، وَعقيل عِنْد ابْن خُزَيْمَة، وَابْن أبي حَفْصَة عِنْد أَحْمد وَيُونُس وحجاج بن أَرْطَأَة وَصَالح بن أبي الْأَخْضَر عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، وَمُحَمّد بن إِسْحَاق عِنْد الْبَزَّار، والنعمان بن رَاشد عِنْد الطَّحَاوِيّ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب وَعبد الرَّحْمَن بن نمر وَأَبُو وأويس وَعبد الْجَبَّار بن عمر الْأَيْلِي وَعبيد الله بن عمر، وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة وَمُحَمّد بن أبي عَتيق ومُوسَى بن عقبَة وَعبد الله بن عِيسَى وَإِسْحَاق بن يحيى العوصي وَهَبَّار بن عقيل وثابت بن ثَوْبَان وقرة بن عبد الرَّحْمَن وَزَمعَة بن صَالح وفخر السقاء والوليد بن مُحَمَّد وَشُعَيْب بن خَالِد ونوح بن أبي مَرْيَم وَعبد الله بن أبي بكر وفليح بن سُلَيْمَان وَعَمْرو بن عُثْمَان المَخْزُومِي وَيزِيد بن عِيَاض وشبل بن عباد. وَقد رَوَاهُ هِشَام بن سعد عَن الزُّهْرِيّ فَخَالف الْجَمَاعَة فِي إِسْنَاده، فَرَوَاهُ: عَنهُ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَزَاد فِيهِ: (وصم يَوْمًا مَكَانَهُ) ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَسكت عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو عوَانَة الاسفرائني: غلط فِيهِ هِشَام بن سعد، وَقد رَوَاهُ أَيْضا عبد الْجَبَّار ابْن عمر الْأَيْلِي بِإِسْنَاد آخر رَوَاهُ عَن يحيى بن سعيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة عبد الْجَبَّار بن عمر عَن يحيى بن سعيد وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ: عبد الْجَبَّار، لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقد ورد من حَدِيث مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة مُخْتَصرا، وَمن حَدِيث مُحَمَّد بن كَعْب عَن أبي هُرَيْرَة

(11/29)


رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ وَضعفهمَا. وَفِيه: أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: وَفِي رِوَايَة ابْن جريج عِنْد مُسلم، وَعقيل عِنْد ابْن خُزَيْمَة، وَأبي أويس عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ التَّصْرِيح بِالتَّحْدِيثِ بَين حميد وَأبي هُرَيْرَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الإدب عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن مُحَمَّد بن مقَاتل وَعَن القعْنبِي وَفِي النَّفَقَات عَن أَحْمد بن يُونُس وَفِي النذور عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي الصَّوْم أَيْضا عَن عُثْمَان وَفِي الْمُحَاربين عَن قُتَيْبَة وَفِي الْهِبَة وَالنُّذُور أَيْضا عَن مُحَمَّد بن مَحْبُوب. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر ابْن حَرْب وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَعَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَمُحَمّد بن رمح وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبد بن حميد وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن إِسْحَاق وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد وَمُحَمّد وَعِيسَى وَعَن القعْنبِي بِهِ وَعَن الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن نصر بن عَليّ وَأبي عمار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن مُحَمَّد ابْن مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن مُحَمَّد بن نصر وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعَن الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن أبي الْأسود وَإِسْحَاق بن مُضر وَفِي الشُّرُوط عَن هَارُون بن عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) ، قد مر غيرَة أَن أصل: بَيْنَمَا، بَين فأشبعت فَتْحة النُّون وَصَارَ: بَينا، ثمَّ زيدت فِيهِ: الْمِيم، فَصَارَ: بَيْنَمَا، ويضاف إِلَى جملَة إسمية وفعلية، وَيحْتَاج إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، والأفصح فِي جوابها أَن لَا يكون فِيهِ إِذْ وَإِذا، وَلَكِن يَجِيء بِهَذَا كثيرا هُنَا كَذَلِك، وَهُوَ قَوْله: (إِذْ جَاءَهُ رجل) وَقَالَ بَعضهم: وَمن خَاصَّة: بَيْنَمَا، أَنَّهَا تتلقى بإذ، وبإذا حَيْثُ تَجِيء للمفاجأة، بِخِلَاف: بَينا، فَلَا تتلقى بِوَاحِدَة مِنْهُمَا، وَقد ورد فِي هَذَا الحَدِيث كَذَلِك. قلت: هَذَا تصرف فِي الْعَرَبيَّة من عِنْده، وَلَيْسَ مَا قَالَه بِصَحِيح، وَقد ذكرُوا أَن كلا مِنْهُمَا يتلَقَّى بِوَاحِدَة مِنْهُمَا، غير أَن الْأَفْصَح كَمَا ذكرنَا أَن لَا يتلقيا بهما، وَقد ورد فِي الحَدِيث: بإذ، فِي الأول وَفِي الثَّانِي بِدُونِ إِذْ، وَإِذا على الأَصْل الَّذِي هُوَ الْأَفْصَح، فَأَي شَيْء دَعْوَى الخصوصية فِي بَيْنَمَا بإذ وَإِذا ونفيها فِي بَينا؟ وَلم يقل بِهَذَا أحد؟ قَوْله: (عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ حسن الْأَدَب فِي التَّعْبِير، كَمَا تشعر العندية بالتعظيم بِخِلَاف مَا لَو قَالَ: مَعَ. قلت: لَفْظَة: عِنْد، موضوعها الحضرة وَمن أَيْن الْإِشْعَار فِيهِ بالتعظيم؟ قَوْله: (إِذا جَاءَ رجل) ، قد مر الْكَلَام فِيهِ فِي حَدِيث عَائِشَة.، قَوْله: (هَلَكت) ، وَفِي حَدِيث عَائِشَة: (احترقت) كَمَا مر، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (مَا أُراني إلاَّ قد هَلَكت) ، وَقد رُوِيَ فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: (هَلَكت وأهلكت) ، قَالَ الْخطابِيّ: وَهَذِه اللَّفْظَة غير مَوْجُودَة فِي شَيْء من رِوَايَة هَذَا الحَدِيث، قَالَ: وَأَصْحَاب سُفْيَان لم يرووها عَنهُ إِنَّمَا ذكرُوا قَوْله: (هَلَكت) ، حسب، قَالَ: غير أَن بعض أَصْحَابنَا حَدثنِي أَن الْمُعَلَّى بن مَنْصُور روى هَذَا الحَدِيث عَن سُفْيَان، فَذكر هَذَا الْحَرْف فِيهِ وَهُوَ غير مَحْفُوظ، والمعلى لَيْسَ بذلك فِي الْحِفْظ والإتقان. انْتهى. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِن هَذِه اللَّفْظَة لَا يرضاها أَصْحَاب الحَدِيث، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِن هَذِه اللَّفْظَة لَيست مَحْفُوظَة عِنْد الْحفاظ الْأَثْبَات.
وَقَالَ شَيخنَا زيد الدّين، رَحمَه الله: وَردت هَذِه اللَّفْظَة مُسندَة من طرق ثَلَاثَة: أَحدهَا: الَّذِي ذكره الْخطابِيّ، وَقد رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة أبي ثَوْر، قَالَ: حَدثنَا مُعلى بن مَنْصُور حَدثنَا سُفْيَان بن عينة، فَذكره الدَّارَقُطْنِيّ، تفرد بِهِ أَبُو ثَوْر عَن مُعلى بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة، بقوله: (وأهلكت) ، قَالَ: وهم ثِقَات. الطَّرِيق الثَّانِي: من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَقد رَوَاهَا الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ، ثمَّ نقل عَن الْحَاكِم أَنه ضعف هَذِه اللَّفْظَة، وَحملهَا على أَنَّهَا أدخلت على مُحَمَّد بن الْمسيب الأرغياني، ثمَّ اسْتدلَّ على ذَلِك. وَالطَّرِيق الثَّالِث: من رِوَايَة عقيل عَن الزُّهْرِيّ، رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ فِي غير السّنَن، وَقَالَ: حَدثنَا النَّيْسَابُورِي حَدثنَا مُحَمَّد بن عَزِيز حَدثنِي سَلامَة بن روح عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ، فَذكره، وَقد تكلم فِي سَماع مُحَمَّد بن عَزِيز من سَلامَة، وَفِي سَماع سَلامَة من عقيل، وَتكلم فيهمَا: أما مُحَمَّد بن عَزِيز فضعفه النَّسَائِيّ مرّة، وَقَالَ مرّة: لَا بَأْس بِهِ، وَأما سَلامَة فَقَالَ أَبُو زرْعَة: ضَعِيف مُنكر، وأجود طرق هَذِه اللَّفْظَة طَرِيق الْمُعَلَّى بن مَنْصُور، على أَن الْمُعَلَّى وَإِن اتّفق الشَّيْخَانِ على إِخْرَاج حَدِيثه فقد تَركه أَحْمد، وَقَالَ: لم أكتب عَنهُ، كَانَ يحدث بِمَا وَافق الرَّأْي، وَكَانَ كل يَوْم يخطىء فِي حديثين أَو ثَلَاثَة. قلت: هُوَ من أَصْحَاب أبي حنيفَة

(11/30)


وَوَثَّقَهُ يحيى بن معِين، وَقَالَ يَعْقُوب بن شيبَة: ثِقَة، فِيمَا تفرد بِهِ وشورك فِيهِ، متقن صَدُوق فَقِيه مَأْمُون. وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة صَاحب سنة وَكَانَ نبيلاً، طلبوه للْقَضَاء غير مرّة فَأبى. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ صَدُوقًا صَاحب حَدِيث ورأي وَفقه، مَاتَ سنة أحد عشرَة وَمِائَتَيْنِ.
قَوْله: (قَالَ: مَالك؟) بِفَتْح اللَّام وَهُوَ اسْتِفْهَام عَن حَاله، وَفِي رِوَايَة عقيل: (وَيحك {مَا شَأْنك؟) وَلابْن أبي حَفْصَة: (وَمَا الَّذِي أهْلكك وَمَا ذَاك؟) وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ: (وَيحك} مَا صنعت؟) أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (وَمَا الَّذِي أهْلكك؟) وَكَذَا فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ. قَوْله: (وَقعت على امْرَأَتي) وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: (أصبت أَهلِي) ، وَفِي حَدِيث عَائِشَة: (وطِئت امْرَأَتي) . قَوْله: (وَأَنا صَائِم) جملَة وَقعت حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي وَقعت. فَإِن قلت: من أَيْن يعلم أَنه كَانَ صَائِما فِي رَمَضَان حَتَّى يَتَرَتَّب عَلَيْهِ وجوب الْكَفَّارَة؟ قلت: وَقع فِي أول هَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة مَالك وَابْن جريج (أَن رجلا أفطر فِي رَمَضَان) الحَدِيث، وَوَقع أَيْضا فِي رِوَايَة عبد الْجَبَّار بن عمر: (وَقعت على أَهلِي الْيَوْم، وَذَلِكَ فِي رَمَضَان) . وَفِي رِوَايَة سَاق مُسلم إسنادها وسَاق أَبُو عوَانَة فِي (مستخرجه) متنها أَنه قَالَ: (أفطرت فِي رَمَضَان) ، وَبِهَذَا يرد على الْقُرْطُبِيّ فِي دَعْوَاهُ تعدد الْقِصَّة، لِأَن مخرج الحَدِيث وَاحِد، والقصة وَاحِدَة، وَوَقع فِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب عَن سعيد بن مَنْصُور: (أصبت امْرَأَتي ظهرا فِي رَمَضَان) ، وبتعيين رَمَضَان، يفهم الْفرق فِي وجوب كَفَّارَة الْجِمَاع فِي الصَّوْم بَين رَمَضَان وَغَيره من الْوَاجِبَات كالنذر، وَبَعض الْمَالِكِيَّة أوجبوا الْكَفَّارَة على من أفسد صَوْمه مُطلقًا، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث، ورد عَلَيْهِم بِالَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (هَل تَجِد رَقَبَة تعتقها؟) وَفِي رِوَايَة مَنْصُور: (أتجد مَا تحرر رَقَبَة) . وَفِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (أتستطيع أَن تعْتق رَقَبَة؟) وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد وَالْأَوْزَاعِيّ: (فَقَالَ: أعتق رَقَبَة) . وَزَاد فِي رِوَايَة عَن أبي هُرَيْرَة: (فَقَالَ: بئس مَا صنعت {أعتق رَقَبَة) . وَفِي حَدِيث عبد الله بن عمر، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) : (جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي أفطرت يَوْمًا من رَمَضَان، فَقَالَ: من غير عذر وَلَا سقم؟ قَالَ: نعم. قَالَ: بئس مَا صنعت. قَالَ: أجل، مَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: أعتق رَقَبَة) . قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: قَالَ الرجل: لَا أجد رَقَبَة، وَفِي رِوَايَة ابْن مُسَافر: (فَقَالَ: لَا وَالله يَا رَسُول الله) . وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: (لَيْسَ عِنْدِي) ، وَفِي حَدِيث ابْن عمر: (فَقَالَ: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا ملكت رَقَبَة قطّ) . قَوْله: (فَهَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن؟) قَالَ الْقُرْطُبِيّ أَي: تقوى وتقدر؟ وَفِي حَدِيث سعد: (قَالَ: لَا أقدر) وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق: (وَهل لقِيت مَا لقِيت إلاَّ من الصّيام؟) وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق هَذِه تَقْتَضِي أَن عدم استطاعته شدَّة شبقه وَعدم صبره عَن الوقاع، فَهَل يكون ذَلِك عذرا فِي الِانْتِقَال عَن الصَّوْم إِلَى الْإِطْعَام حَتَّى يعد صَاحبه غير مستطيع للصَّوْم أم لَا؟ وَالصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة اعْتِبَار ذَلِك، فيسوغ لَهُ الِانْتِقَال إِلَى الْإِطْعَام، ويلتحق بِهِ من يجد رَقَبَة، وَهُوَ غير مستغنٍ عَنْهَا، فَإِنَّهُ يسوغ لَهُ الِانْتِقَال إِلَى الصَّوْم مَعَ وجودهَا لكَونه فِي حكم غير الْوَاجِد. انْتهى. قلت: فِي هَذَا كُله نظر لِأَن الشَّارِع رتب هَذِه الْخِصَال بِالْفَاءِ الَّتِي هِيَ للتَّرْتِيب والتعقيب، فَكيف ينْقض هَذَا؟ قَوْله: (مُتَتَابعين) فِيهِ اشْتِرَاط التَّتَابُع، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (فَهَل تَجِد إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا) . وَزَاد فِي رِوَايَة ابْن مُسَافر: (يَا رَسُول الله. .) وَوَقع فِي رِوَايَة سُفْيَان: (هَل تَسْتَطِيع إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا؟) وَوَقع فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد وعراق بن مَالك: (فأطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا أجد) ، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (أفتستطيع أَن تطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟ قَالَ: لَا) . وَذكر الْحَاجة، وَفِي حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: (وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ مَا أشْبع أَهلِي} ) وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: أضَاف الْإِطْعَام الَّذِي هُوَ مصدر أطْعم إِلَى سِتِّينَ، فَلَا يكون ذَلِك مَوْجُودا فِي حق من أطْعم سِتَّة مَسَاكِين عشرَة أَيَّام مثلا، وَمن أجَاز ذَلِك فَكَأَنَّهُ استنبط من النَّص معنى يعود عَلَيْهِ بالإبطال، وَالْمَشْهُور عَن الْحَنَفِيَّة الْإِجْزَاء حَتَّى لَو أطْعم الْجَمِيع مِسْكينا وَاحِدًا فِي سِتِّينَ يَوْمًا كفى. قلت: هَؤُلَاءِ الَّذين يشتغلون بالحنفية يحفظون شَيْئا وتغيب عَنْهُم أَشْيَاء، أَفلا يعلمُونَ أَن المُرَاد هَهُنَا سد خلة الْفَقِير؟ فَإِذا وجد ذَلِك مَعَ مُرَاعَاة معنى السِّتين، فَلَا طعن فِيهِ، ثمَّ المُرَاد من الْإِطْعَام الْإِعْطَاء لَهُم بِحَيْثُ يتمكنون من الْأكل، وَلَيْسَ المُرَاد حَقِيقَة الْإِطْعَام من وضع المطعوم فِي فَم الْآكِل. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي هَذِه الْخِصَال الثَّلَاثَة وَمَا الْمُنَاسبَة بَينهمَا؟ قلت: الَّذِي انتهك حُرْمَة الصَّوْم بِالْجِمَاعِ عمدا فِي نَهَار رَمَضَان، فقد أهلك نَفسه بالمعصية، فَنَاسَبَ أَن يعْتق رَقَبَة فيفدي نَفسه، بهَا، وَثَبت فِي (الصَّحِيح) (أَن من أعتق رَقَبَة أعتق الله بِكُل عُضْو

(11/31)


مِنْهَا عضوا من النَّار) . وَأما الصّيام فمناسبته ظَاهِرَة لِأَنَّهُ كالمقاصة بِجِنْس الْجِنَايَة، وَأما كَونه شَهْرَيْن فَلِأَنَّهُ لما أَمر بمصابرة النَّفس فِي حفظ كل يَوْم من شهر رَمَضَان على الْوَلَاء، فَلَمَّا أفسد مِنْهُ يَوْمًا كَانَ كمن أفسد الشَّهْر كُله من حَيْثُ إِنَّه عبَادَة وَاحِدَة بالنوع، فكلف بشهرين مضاعفة على سَبِيل الْمُقَابلَة لنقيض قَصده. وَأما الْإِطْعَام فمناسبته ظَاهِرَة، لِأَن مُقَابلَة كل يَوْم بإطعام مِسْكين، ثمَّ إِن هَذِه الْخِصَال جَامِعَة لاشتمالها على حق الله تَعَالَى وَهُوَ الصَّوْم، وَحقّ الْأَحْرَار بِالْإِطْعَامِ وَحقّ الأرقاء بِالْإِعْتَاقِ وَحقّ الْجَانِي بِثَوَاب الِامْتِثَال. قَوْله: (فَمَكثَ) بِالْمِيم وَفتح الْكَاف وَضمّهَا وبالثاء الْمُثَلَّثَة. وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من وَجْهَيْن عَن أبي الْيَمَان: أَحدهمَا: (مكث) مثل مَا هُوَ هُنَا. وَالْآخر: (فَسكت) ، من السُّكُوت وَفِي رِوَايَة أبي عُيَيْنَة (فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجلس فَجَلَسَ) . قَوْله: (فَبينا نَحن على ذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (فَبَيْنَمَا هُوَ جَالس كَذَلِك) ، قيل: يحْتَمل أَن يكون سَبَب أمره بِالْجُلُوسِ لانتظار مَا يُوحى إِلَيْهِ فِي حَقه، وَيحْتَمل أَنه كَانَ عرف أَنه سيؤتى بِشَيْء يُعينهُ بِهِ. قَوْله: (أُتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، كَذَا هُوَ على بِنَاء الْمَجْهُول عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة: (إِذْ أُتِي) وَهُوَ جَوَاب قَوْله: بَينا، وَقد مر فِي قَوْله: (بَيْنَمَا نَحن جُلُوس) أَن بَعضهم قَالَ: إِن بَينا لَا يتلَقَّى بإذ وَلَا بإذا، وَهَهُنَا فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة جَاءَ بإذ، وَهُوَ يرد مَا قَالَه، فَكَأَنَّهُ ذهل عَن هَذَا، والآتي من هُوَ لم يدر، وَقَالَ بَعضهم: والآتي الْمَذْكُور لم يسم. قلت: فِي أَيْن ذكر الْآتِي حَتَّى قَالَ: لم يسم؟ لَكِن وَقع فِي الْكَفَّارَات على مَا سَيَأْتِي فِي رِوَايَة معمر: (فجَاء رجل من الْأَنْصَار) ، وَهُوَ أَيْضا غير مَعْلُوم. فَإِن قلت: عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق دَاوُد بن أبي هِنْد عَن سعيد بن الْمسيب مُرْسلا، (فَأتى رجل من ثَقِيف) . قلت: رِوَايَة الصَّحِيح أصح، وَيُمكن أَن يحمل على أَنه كَانَ حليفا للْأَنْصَار، فَأطلق عَلَيْهِ الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ بَعضهم: أَو إِطْلَاق الْأنْصَارِيّ، بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ. قلت: لَا وَجه لذَلِك لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن يُطلق على كل من كَانَ من أَي قَبيلَة كَانَ أَنْصَارِيًّا بِهَذَا الْمَعْنى، وَلم يقل بِهِ أحد. قَوْله: (بعرق) ، قد مر تَفْسِيره عَن قريب مُسْتَوفى. قَوْله: (والمكتل) تَفْسِير الْعرق وَقد مر تَفْسِير المكتل أَيْضا وَفِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَابْن خُزَيْمَة (المكتل الضخم) فَإِن قلت تَفْسِير الْعرق بالمكتل مِمَّن؟ قلت: الظَّاهِر أَنه من الصَّحَابِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون من الروَاة، قيل: فِي رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة مَا يشْعر بِأَنَّهُ الزُّهْرِيّ، وَفِي رِوَايَة مَنْصُور فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا: وَهُوَ بَاب المجامع فِي رَمَضَان فَأتي بعرق فِيهِ تمر، وَهُوَ الزبيل، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (فَأتي بزبيل) ، وَقد مر تَفْسِير الزبيل أَيْضا مُسْتَوفى. قَوْله: (أَيْن السَّائِل؟) قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم يكن لذَلِك الرجل سُؤال، بل كَانَ لَهُ مُجَرّد إِخْبَار بِأَنَّهُ هلك، فَمَا وَجه إِطْلَاق لفظ السَّائِل عَلَيْهِ؟ قلت: كَلَامه مُتَضَمّن للسؤال أَي: هَلَكت، فَمَا مُقْتَضَاهُ وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ؟ فَإِن قلت: لم يبين فِي هَذَا الحَدِيث مِقْدَار مَا فِي المكتل من التَّمْر؟ قلت: وَقع فِي رِوَايَة ابْن أبي حَفْصَة: (فِيهِ خَمْسَة عشر صَاعا) ، وَفِي رِوَايَة مُؤَمل عَن سُفْيَان: (فِيهِ خَمْسَة عشر أَو نَحْو ذَلِك) ، وَفِي رِوَايَة مهْرَان بن أبي عمر عَن الثَّوْريّ عِنْد ابْن خُزَيْمَة: (فِيهِ خَمْسَة عشر أَو عشرُون) وَكَذَا هُوَ عِنْد مَالك، وَفِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ الْجَزْم بِعشْرين صَاعا، وَوَقع فِي حَدِيث عَائِشَة عِنْد ابْن خُزَيْمَة: (فَأتي بعرق فِيهِ عشرُون صَاعا) ، وَقَالَ بَعضهم: من قَالَ: عشرُون، أَرَادَ أصل مَا كَانَ فِيهِ، وَمن قَالَ: خَمْسَة عشر، أَرَادَ قدر مَا تقع بِهِ الْكَفَّارَة، وَيبين ذَلِك حَدِيث عَليّ عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ: (يطعم سِتِّينَ مِسْكينا لكل مِسْكين مد) وَفِيه: (فَأتي بِخَمْسَة عشر صَاعا، فَقَالَ: أطْعمهُ سِتِّينَ مِسْكينا) . وَكَذَا فِي رِوَايَة حجاج عَن الزُّهْرِيّ عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: وَفِيه رد على الْكُوفِيّين فِي قَوْلهم: إِن واجبه من الْقَمْح ثَلَاثُونَ صَاعا، وَمن غَيره سِتُّونَ صَاعا، وعَلى أَشهب فِي قَوْله: لَو غدَّاهم أَو عشَّاهم كفى لصدق الْإِطْعَام، وَلقَوْل الْحسن: يطعم أَرْبَعِينَ مِسْكينا عشْرين صَاعا، وَلقَوْل عَطاء: إِن أفطر بِالْأَكْلِ أطْعم عشْرين صَاعا، أَو بِالْجِمَاعِ أطْعم خَمْسَة عشر، وَفِيه رد على الْجَوْهَرِي حَيْثُ قَالَ فِي (الصِّحَاح) : المكتل تشبه الزبيل، يسع خَمْسَة عشر صَاعا لِأَنَّهُ لَا حصر فِي ذَلِك. انْتهى. قلت: لَيْت شعري كَيفَ فِيهِ رد على الْكُوفِيّين وهم قد احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسلم: (فَجَاءَهُ عرقان فيهمَا طَعَام) ، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن مَا فِي العرقين يكون ثَلَاثِينَ صَاعا، فَيعْطى لكل مِسْكين نصف صَاع، بل الرَّد على أئمتهم حَيْثُ احْتَجُّوا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بالروايات المضطربة، وَفِي بَعْضهَا الشَّك، فالعجب

(11/32)


مِنْهُ أَن يرد على الْكُوفِيّين مَعَ علمه أَن احتجاجهم قوي صَحِيح، وأعجب مِنْهُ أَنه قَالَ فِي رِوَايَة مُسلم هَذِه: وَوَجهه أَن كَانَ مَحْفُوظًا، وَقد ردينا عَلَيْهِ مَا قَالَه فِيمَا مضى عَن قريب، وَكَذَلِكَ قَوْله: وَفِيه رد على الْجَوْهَرِي، غير صَحِيح، لِأَنَّهُ لم يحصر مَا قَالَه فِي ذَلِك: غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه نقل أحد الْمعَانِي الَّتِي قَالُوا فِي المكتل وَسكت عَلَيْهِ. قَوْله: (فَتصدق بِهِ) وَزَاد ابْن إِسْحَاق: (فَتصدق عَن نَفسك) ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مَنْصُور فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ بِلَفْظ: (أطْعم هَذَا عَنْك) . قَوْله: (أعَلَى أفقر منى؟) أَي: أَتصدق بِهِ على شخص أفقر منى؟ وَفِي حَدِيث ابْن عمر، أخرجه الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) (إِلَى من أدفعه؟ قَالَ: إِلَى أفقر من تعلم) وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد: (أَعلَى أفقر من أَهلِي؟) وَلابْن مُسَافر: (أَعلَى أهل بَيت أفقر منى؟) وَالْأَوْزَاعِيّ: (أَعلَى غير أَهلِي؟) ولمنصور: (أَعلَى أحْوج منا؟) وَلابْن إِسْحَاق (وَهل الصَّدَقَة إلاَّ لي وَعلي؟) . قَوْله: (فوَاللَّه مَا بَين لابتيها) اللابتان، بِالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة ثمَّ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق: عبارَة عَن حرتين تكتنفان الْمَدِينَة، وَهِي تَثْنِيَة: لابة، والحرة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء: الأَرْض ذَات حِجَارَة سود. قَوْله: (يُرِيد الحرتين) ، من كَلَام بعض رُوَاته، وَوَقع فِي حَدِيث ابْن عمر الْمَذْكُور: (مَا بَين حرتيها) وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ الْآتِي فِي الْأَدَب: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا بَين طنبي الْمَدِينَة) وَهُوَ تَثْنِيَة: طُنب، بِضَم الطَّاء الْمُهْملَة وَالنُّون: أحد أطناب الْخَيْمَة، واستعاره للطرف. قَوْله: (أهل بَيت أفقر من أهل بيتى) لفظ: أهل، مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْم: مَا، النافية. و: أفقر، مَنْصُوب لِأَنَّهُ خَبَرهَا، وَيجوز رَفعه على لُغَة تَمِيم، وَفِي رِوَايَة يُونُس: (أفقر مني وَمن أهل بَيْتِي؟) وَفِي رِوَايَة عقيل: (مَا أحد أَحَق بِهِ من أَهلِي، مَا أحد أحْوج إِلَيْهِ مني) وَفِي مُرْسل سعيد من رِوَايَة دَاوُد عَنهُ: (وَالله مَا لِعِيَالِي من طَعَام) . وَفِي حَدِيث عِنْد ابْن خُزَيْمَة: (مَا لنا عشَاء لَيْلَة) . قَوْله: (فَضَحِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت أنيابه) ، وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق: (حَتَّى بَدَت نواجده) ، وَلأبي قُرَّة فِي (السّنَن) عَن ابْن جريج: (حَتَّى بَدَت ثناياه) ، قيل: لَعَلَّهَا تَصْحِيف من أنيابه، فَإِن الثنايا تتبين بالتبسم غَالِبا، وَظَاهر السِّيَاق إِرَادَة الزِّيَادَة على التبسم، وَيحمل مَا ورد فِي صفته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ضحكه كَانَ تبسما غَالب أَحْوَاله، وَقيل: كَانَ لَا يضْحك إلاَّ فِي أَمر يتَعَلَّق بِالآخِرَة، فَإِن كَانَ فِي أَمر الدُّنْيَا لم يزدْ على التبسم. وَقيل: إِن سَبَب ضحكه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ من تبَاين حَال الرجل، حَيْثُ جَاءَ خَائفًا على نَفسه رَاغِبًا فِي فداها مهما أمكنه، فَلَمَّا وجد الرُّخْصَة طمع أَن يَأْكُل مَا أعْطِيه فِي الْكَفَّارَة. وَقيل: ضحك من حَال الرجل فِي مقاطع كَلَامه وَحسن تَأتيه وتلطفه فِي الْخطاب وَحسن توسله فِي توصله إِلَى مَقْصُوده. قَوْله: (ثمَّ قَالَ: أطْعمهُ أهلك) وَفِي رِوَايَة لِابْنِ عُيَيْنَة فِي الْكَفَّارَات: (أطْعمهُ عِيَالك) . وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن سعد: (فَأنْتم إِذا) ، وَقدم ذَلِك على ذكر الضحك، وَفِي رِوَايَة أبي قُرَّة عَن ابْن جريج: (ثمَّ قَالَ: كُله) ، وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: (خُذْهَا وَكلهَا وأنفقها على عِيَالك) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قد ذكرنَا فِي الْبَاب الَّذِي قبله مَا يتَعَلَّق بِهِ وَبِغَيْرِهِ من الْأَحْكَام، فلنذكر هُنَا مَا لم نذمر هُنَاكَ. فَفِيهِ: أَن من جَاءَ مستفتيا فِيمَا فِيهِ الِاجْتِهَاد دون الْحُدُود المحدودة أَنه لَا يلْزمه تَعْزِير وَلَا عُقُوبَة كَمَا لم يُعَاقب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْأَعرَابِي على هتك حُرْمَة الشَّهْر، قَالَه عِيَاض: قَالَ: لِأَن فِي مَجِيئه واستفتائه ظُهُور تَوْبَته وإقلاعه، قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَو عُوقِبَ كل من جَاءَ بجيئه لم يستفت أحد غَالِبا عَن نازلة مَخَافَة الْعقُوبَة، بِخِلَاف مَا فِيهِ حد مَحْدُود، وَقد بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي كتاب الْمُحَاربين: بَاب من أصَاب ذَنبا دون الْحَد، فَأخْبر الإِمَام فَلَا عُقُوبَة عَلَيْهِ، بعد أَن جَاءَ مستفتيا. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: مستعتبا، ثمَّ قَالَ البُخَارِيّ: وَقَالَ ابْن جريج: وَلم يُعَاقب الَّذِي جَامع فِي رَمَضَان. فَإِن قلت: وَقع فِي (شرح السّنة) لِلْبَغوِيِّ: أَن من جَامع مُتَعَمدا فِي رَمَضَان فسد صَوْمه. وَعَلِيهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة، وَيُعَزر على سوء صَنِيعه. قلت: هُوَ مَحْمُول على من لم يَقع مِنْهُ مَا وَقع من صَاحب هَذِه الْقِصَّة من النَّدَم وَالتَّوْبَة.
وَفِيه: أَن الْكَفَّارَة مرتبَة ككفارة الظِّهَار، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء إلاَّ أَن مَالك بن أنس زعم أَنه مُخَيّر بَين عتق الرَّقَبَة وَصَوْم شَهْرَيْن وَالْإِطْعَام، وَحكي عَنهُ أَنه قَالَ: الْإِطْعَام أحب إِلَيّ من الْعتْق، وَوَقع فِي (الْمُدَوَّنَة) : وَلَا يعرف مَالك غير الْإِطْعَام وَلَا يَأْخُذ بِعِتْق وَلَا صِيَام. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَهِي معضلة لَا يَهْتَدِي إِلَى توجيهها مَعَ مصادمة الحَدِيث الثَّابِت، غير أَن بعض الْمُحَقِّقين من أَصْحَابه حل هَذَا اللَّفْظ وتأوله على الِاسْتِحْبَاب فِي تَقْدِيم الطَّعَام على غَيره من الْخِصَال، وَذكر أَصْحَابه فِي هَذَا

(11/33)


وُجُوهًا كَثِيرَة كلهَا لَا تقاوم مَا ورد فِي الحَدِيث من تَقْدِيم الْعتْق على الصّيام، ثمَّ الْإِطْعَام.
وَفِيه: أَن الْكَفَّارَة بالخصال الثَّلَاث على التَّرْتِيب الْمَذْكُور، قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَقله من أَمر بعد عَدمه إِلَى أَمر آخر، وَلَيْسَ هَذَا شَأْن التَّخْيِير. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: ترَتّب الثَّانِي بِالْفَاءِ على فقد الأول، ثمَّ الثَّالِث بِالْفَاءِ على فقد الثَّانِي، يدل على عدم التَّخْيِير، مَعَ كَونهَا فِي معرض الْبَيَان وَجَوَاب السُّؤَال، فَينزل منزلَة الشَّرْط الْمُحكم. وَقيل: سلك الْجُمْهُور فِي ذَلِك مَسْلَك التَّرْجِيح بِأَن الَّذين رووا التَّرْتِيب عَن الزُّهْرِيّ أَكثر مِمَّن روى التَّخْيِير، وَاعْترض ابْن التِّين بِأَن الَّذين رووا التَّرْتِيب ابْن عُيَيْنَة وَمعمر وَالْأَوْزَاعِيّ، وَالَّذين رووا التَّخْيِير مَالك وَابْن جريج وفليح بن سُلَيْمَان وَعمر بن عُثْمَان المَخْزُومِي، وَأجِيب: بِأَن الَّذين رووا التَّرْتِيب عَن الزُّهْرِيّ ثَلَاثُونَ نفسا أَو أَكثر، وَرجح التَّرْتِيب أَيْضا بِأَن رَاوِيه حكى لفظ الْقِصَّة على وَجههَا فمعه زِيَادَة علم من صُورَة الْوَاقِعَة، وراوي التَّخْيِير حكى لفظ رَاوِي الحَدِيث، فَدلَّ على أَنه من تصرف بعض الروَاة إِمَّا لقصد الِاخْتِصَار أَو لغير ذَلِك، ويترجح التَّرْتِيب أَيْضا بِأَنَّهُ أحوط. وَحمل الْمُهلب والقرطبي الْأَمر على التَّعَدُّد، وَهُوَ بعيد، لِأَن الْقِصَّة وَاحِدَة وَالْأَصْل عدم التَّعَدُّد، وَحمل بَعضهم التَّرْتِيب على الْأَوْلَوِيَّة والتخيير على الْجَوَاز.
وَفِيه: إِعَانَة الْمُعسر فِي الْكَفَّارَة، وَعَلِيهِ بوب البُخَارِيّ فِي النذور. وَفِيه: إِعْطَاء الْقَرِيب من الْكَفَّارَة، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ البُخَارِيّ فِي النذور. وَفِيه: إِعْطَاء الْقَرِيب من الْكَفَّارَة وَبَوَّبَ عَلَيْهِ البُخَارِيّ أَيْضا. وَفِيه: أَن الْهِبَة وَالصَّدَََقَة لَا يحْتَاج فيهمَا إِلَى الْقبُول بِاللَّفْظِ بل الْقَبْض كَاف، وَعَلِيهِ بوب البُخَارِيّ أَيْضا. وَفِيه: أَن الْكَفَّارَة لَا تجب إلاَّ بعد نَفَقَة من تجب عَلَيْهِ، وَقد بوب عَلَيْهِ البُخَارِيّ أَيْضا فِي النَّفَقَات. وَفِيه: جَوَاز الْمُبَالغَة فِي الضحك عِنْد التَّعَجُّب لقَوْله: (حَتَّى بَدَت أنيابه) . وَفِيه: جَوَاز قَول الرجل فِي الْجَواب: وَيحك، أَو: وَيلك. وَفِيه: جَوَاز الْحلف بِاللَّه وَصِفَاته، وَإِن لم يسْتَحْلف كَمَا فِي البُخَارِيّ. وَغَيره، (وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ) ، وَفِي رِوَايَة لَهُ: (وَالله مَا بَين لابتيها) إِلَى آخِره. وَفِيه: أَن القَوْل قَول الْفَقِير أَو الْمِسْكِين وَجَوَاز عطائه مِمَّا يسْتَحقّهُ الْفُقَرَاء لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يكلفه الْبَيِّنَة حِين ادّعى أَنه مَا بَين لابتي الْمَدِينَة أهل بَيت أحْوج مِنْهُم؟ وَفِيه: جَوَاز الْحلف على غَلَبَة الظَّن، وَإِن لم يعلم ذَلِك بالدلائل القطعية، لحلف الْمَذْكُور أَنه لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ أحْوج مِنْهُم مَعَ جَوَاز أَن يكون بِالْمَدِينَةِ أحْوج مِنْهُم لِكَثْرَة الْفُقَرَاء فِيهَا، وَلم يُنكر عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: اسْتِعْمَال الْكِنَايَة فِيمَا يستقبح طهوره بِصَرِيح لَفظه، لقَوْله: (وَقعت أَو أصبت) فَإِن قلت: ورد فِي بعض طرقه: (وطِئت؟) قلت: هَذَا من تصرف الروَاة. وَفِيه: الرِّفْق بالمتعلم والتلطف فِي التَّعْلِيم والتأليف على الدّين، والندم على الْمعْصِيَة واستشعار الْخَوْف. وَفِيه: الْجُلُوس فِي الْمَسْجِد لغير الصَّلَاة من الْمصَالح الدِّينِيَّة: كنشر الْعلم. وَفِيه: التعاون على الْعِبَادَة. وَفِيه: السَّعْي على خلاص الْمُسلم. وَفِيه: إِعْطَاء الْوَاحِد فَوق حَاجته الراهنة. وَفِيه: إِعْطَاء الْكَفَّارَة لأهل بَيت وَاحِد.

13 - (بابُ المُجامِعِ فِي رَمَضَانَ هَلْ يُطْعِمُ أهْلَهُ مِنَ الكَفَّارَةِ إذَا كانُوا مَحَاوِيجَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّائِم المجامع فِي رَمَضَان: هَل يطعم أَهله الْكَفَّارَة إِذا كَانُوا محاويج أم لَا؟ وَلم يذكر جَوَاب الِاسْتِفْهَام اكْتِفَاء بِمَا ذكر من متن الحَدِيث، والمحاويج قَالَ المطرزي فِي (الْمغرب) : هم المحتاجون، عَامي قلت: يحْتَمل أَن يكون جمع: محواج، وَهُوَ كثير الْحَاجة، صِيغ على وزن اسْم الْآلَة للْمُبَالَغَة.

7391 - حدَّثنا عُثْمانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا جَريرٌ عَن منْصُورٍ عنِ الزُّهْرِيَّ عنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ رَجُلٌ إلَى النبيِّ فَقَالَ إنَّ الآخِرَ وقعَ عَلَى امْرَأتِهِ فِي رمَضَانَ فَقَالَ أتَجِدُ مَا تُحَرِّرُ رقَبةً قَالَ لاَ قَالَ أفَتَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَ لاَ قَالَ أفَتَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينا قَالَ لاَ قَالَ فأُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَقٍ

(11/34)


فِيهِ تَمْرٌ وهُوَ الزَّبِيلُ قَالَ أطْعِمْ هَذَا عَنْكَ قَالَ عَلَى أحْوَجِ مِنَّا مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أهْلُ بَيْتٍ أحْوَجُ مِنَّا قَالَ فأطْعِمْهُ أهْلَكَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأطعمه أهلك) ، وَجَرِير هُوَ: بِفَتْح الْجِيم: ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَقد ذكرُوا غير مرّة. قَوْله: (عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين من أَصْحَاب مَنْصُور عَنهُ، وَخَالفهُ مهْرَان بن أبي عمر فَرَوَاهُ عَن الثَّوْريّ بِالْإِسْنَادِ عَن سعيد بن الْمسيب بدل حميد بن عبد الرَّحْمَن، أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَهُوَ شَاذ، وَالْمَحْفُوظ هُوَ الأول. قَوْله: (إِن الآخر) فِيهِ قصر الْهمزَة ومدها بعْدهَا خاء مُعْجمَة مَكْسُورَة، وَهُوَ من يكون آخر الْقَوْم، وَقيل: هُوَ الْمُدبر المتخلف، وَقيل: الأرذل، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن الْأَبْعَد، على الذَّم. قَوْله: (رَقَبَة) بِالنّصب، قيل: إِنَّه بدل من لَفْظَة مَا تحرر قلت: بل هُوَ مَنْصُوب على أَنه مفعول: تحرر، فَافْهَم، وَبَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ قد مرت فِيمَا مضى مستوفاة. وَالله أعلم.

23 - (بابُ الحِجَامَةِ والْقَيءِ لِلْصَّائِمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَحْكَام الْحجامَة والقيء هَل يرخصان للصَّائِم أَو لَا؟ وَإِنَّمَا أطلق وَلم يذكر الحكم لمَكَان الْخلاف فِيهِ، وَلَكِن الْآثَار الَّتِي أوردهَا فِي هَذَا الْبَاب تشعر بِأَنَّهُ عدم الْإِفْطَار بهما. وَقَالَ بَعضهم: بَاب الْحجامَة والقيء للصَّائِم، أَي: هَل يفسدان هما أَو أَحدهمَا الصَّوْم؟ قلت: اللَّام فِي قَوْله: (للصَّائِم) ، تمنع هَذَا التَّقْدِير الَّذِي قدره، وَلَا يخفى ذَلِك على من لَهُ أدنى ذوق من أَحْوَال التَّرْكِيب، قيل: جمع بَين الْقَيْء والحجامة مَعَ تغايرهما، وعادته تَفْرِيق التراجم إِذا نظمهما خبر وَاحِد فضلا عَن خبرين، وَإِنَّمَا صنع ذَلِك لِاتِّحَاد مأخذهما، لِأَنَّهُمَا إِخْرَاج، والإخراج لَا يَقْتَضِي الْإِفْطَار.
وَقَالَ لِي يَحْيَى بنُ صَالِحٍ حدَّثنا مُعَاوِيَةُ بنُ سَلاَّم قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ عُمَرَ بنِ الحَكَمَ بن ثَوْبانَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يقُولُ إذَا قاءَ فَلاَ يُفْطِرُ إنَّمَا يُخْرجُ ولاَ يُولِجُ عَادَة البُخَارِيّ إِذا أسْند شَيْئا من الْمَوْقُوفَات يَأْتِي بِهَذِهِ الصِّيغَة، وَيحيى بن صَالح أَبُو زَكَرِيَّا الوحاظي الْحِمصِي وَمُعَاوِيَة ابْن سَلام، بتَشْديد اللَّام، مر فِي كتاب الْكُسُوف، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير، وَعمر بن الحكم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف المفتوحتين: ابْن ثَوْبَان، بالثاء الْمُثَلَّثَة: الْحِجَازِي أَبُو حَفْص الْمدنِي.
قَوْله: (إِذا قاء) أَي الصَّائِم: قَوْله: (وَإِنَّمَا يخرج) ، من الْخُرُوج. قَوْله: (وَلَا يولج) ، من الْإِيلَاج، أَي: لَا يدْخل، الْمَعْنى: أَن الصَّوْم لَا ينْقض إِلَّا بِشَيْء يدْخل، وَلَا ينْقض بِشَيْء يخرج. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني أَنه يخرج وَلَا يولج، أَي: أَن الْقَيْء يخرج وَلَا يدْخل، وَهَذَا الْحصْر منقوض بالمني، فَإِنَّهُ مِمَّا يخرج وَهُوَ مُوجب للْقَضَاء وَالْكَفَّارَة.
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَرْبَعَة مَرْفُوعا من حَدِيث هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ذرعه الْقَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء، وَمن استقاء عمدا فليقض) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي هُرَيْرَة حَدِيث حسن غَرِيب لَا نعرفه من حَدِيث هِشَام عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إلاَّ من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس، قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من غَيره وَجهه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يَصح إِسْنَاده. وَقَالَ البُخَارِيّ: لم يَصح، وَإِنَّمَا يرْوى عَن عبد الله بن سعيد المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، وَعبد الله ضَعِيف، وَرَوَاهُ الدَّارمِيّ من طَرِيق عِيسَى ابْن يُونُس، وَنقل عَن عِيسَى أَنه قَالَ: زعم أهل الْبَصْرَة أَن هشاما وهم فِيهِ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعت أَحْمد يَقُول: لَيْسَ من ذَا شَيْء. وَقَالَ الْخطابِيّ: يُرِيد أَنه غير مَحْفُوظ، وَقَالَ ابْن بطال: تفرد بِهِ عِيسَى وَهُوَ ثِقَة إلاَّ أَن أهل الحَدِيث أنكروه عَلَيْهِ، وَوهم عِنْدهم فِيهِ. وَقَالَ أَبُو عَليّ الطوسي: هُوَ حَدِيث غَرِيب، وَالصَّحِيح رِوَايَة أبي الدَّرْدَاء وثوبان وفضالة بن عبيد: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قاء فَأفْطر) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث أبي الدَّرْدَاء أصح شَيْء فِي الْقَيْء والرعاف.
قلت: حَدِيث أبي الدَّرْدَاء رَوَاهُ الْأَرْبَعَة وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، قَالَ: حَدثنَا أبي عَن حُسَيْن

(11/35)


الْمعلم عَن يحيى بن أبي كثير عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ عَن يعِيش بن الْوَلِيد عَن أَبِيه عَن معدان بن طَلْحَة (عَن أبي الدَّرْدَاء أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قاء فَأفْطر، قَالَ: فَلَقِيت ثَوْبَان فِي مَسْجِد دمشق، قلت: إِن أَبَا الدَّرْدَاء أَخْبرنِي أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قاء فَأفْطر، فَقَالَ: صدق، أَنا صببت لَهُ وضوءه) . ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَذهب قوم إِلَى أَن الصَّائِم إِذا قاء أفطر، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِهَذَا الحَدِيث. قلت: أَرَادَ بالقوم: عَطاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبا ثَوْر. ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ فَقَالُوا: إِن استقاء أفطر، وَإِن ذرعه الْقَيْء أَي: سبقه وَغلب عَلَيْهِ وَلم يفْطر، وَأَرَادَ بالآخرين: الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وعلقمة وَالثَّوْري وَأَبا حنيفَة وَأَصْحَابه ومالكا وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، ويروى ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد قَامَ الْإِجْمَاع على أَن من ذرعه الْقَيْء لَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على أَن الاستقاء مفطر، وَنقل الْعَبدَرِي عَن أَحْمد أَنه قَالَ: من تقيأ فَاحِشا أفطر، وَقَالَ اللَّيْث وَالثَّوْري وَالْأَرْبَعَة بِالْقضَاءِ، وَعَلِيهِ الْجُمْهُور، وَعَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس: أَنه لَا يفْطر، وَلَكِن فِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس: أَنه إِذا تقيأ أفطر، وَنقل ابْن التِّين عَن طَاوُوس عدم الْقَضَاء، قَالَ: وَبِه قَالَ ابْن بكير، وَقَالَ ابْن حبيب: لَا قَضَاء عَلَيْهِ فِي التَّطَوُّع دون الْفَرْض، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو ثَوْر: عَلَيْهِ الْقَضَاء وَالْكَفَّارَة مثل كَفَّارَة الْأكل عَامِدًا فِي رَمَضَان، وَهُوَ قَول عَطاء، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أبي الدَّرْدَاء الْمَذْكُور الَّذِي أخرجه ابْن حبَان وَالْحَاكِم أَيْضا فِي (صَحِيحَيْهِمَا) وَأجَاب أَبُو عمر: أَنه لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قد يجوز أَن يكون قَوْله: (فَأفْطر) أَي: ضعف فَأفْطر، وَيجوز هَذَا فِي اللُّغَة يَعْنِي: يجوز هَذَا التَّقْدِير فِي اللُّغَة، لتضمن مثل ذَلِك لعلم السَّامع بِهِ كَمَا فِي حَدِيث فضَالة، وَلَكِنِّي قئت فضعفت عَن الصّيام فأفطرت، وَلَيْسَ فِيهِ أَن الْقَيْء كَانَ مُفطرا. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: معنى هَذَا الحَدِيث أَن انبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصبح صَائِما مُتَطَوعا فقاء فضعف فَأفْطر لذَلِك، هَكَذَا رُوِيَ فِي بعض الحَدِيث مُفَسرًا، وَأجَاب الْبَيْهَقِيّ بِأَن هَذَا الحَدِيث مُخْتَلف فِي إِسْنَاده فَإِن صَحَّ فَمَحْمُول على الْعَامِد، وَكَأَنَّهُ كَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُتَطَوعا بصومه.
وَحَدِيث فضَالة رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ حَدثنَا ربيع الْمُؤَذّن، قَالَ: حَدثنَا أَسد قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة، قَالَ: حَدثنَا يزِيد بن أبي حبيب، قَالَ: حَدثنَا أَبُو مَرْزُوق عَن حَنش عَن فضَالة بن عبيد، قَالَ: دعى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشراب فَقَالَ لَهُ: ألم تصبح صَائِما يَا رَسُول الله؟ قَالَ: بلَى، وَلَكِن قئت) . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا، وَأَبُو مَرْزُوق اسْمه: حبيب بن الشَّهِيد، وَقيل: زَمعَة بن سليم، قَالَ الْعجلِيّ: مصري تَابِعِيّ ثِقَة، وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وحنش هُوَ ابْن عبد الله الصَّنْعَانِيّ، صنعاء دمشق، روى لَهُ الْجَمَاعَة غير البُخَارِيّ فَإِن قلت: ابْن لَهِيعَة فِيهِ مقَال؟ قلت: الطَّحَاوِيّ أخرجه من أَربع طرق: الأول: مَا ذَكرْنَاهُ الَّذِي فِيهِ ابْن لَهِيعَة والبقية عَن أبي بكرَة عَن روح وَعَن مُحَمَّد بن خُزَيْمَة عَن حجاج وَعَن حُسَيْن بن نصر عَن يحيى بن حسان، قَالُوا: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن أبي مَرْزُوق عَن حَنش عَن فضَالة. . إِلَى آخِره، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عِنْد أهل الْعلم على حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الصَّائِم إِذا ذرعه الْقَيْء فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَإِذا استقاء عمدا فليقض، وَبِه يَقُول الشَّافِعِي وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ قَول كل من يحفظ عَنهُ الْعلم، قَالَ: وَبِه أَقْوَال. قَالَ أَصْحَابنَا: وَيَسْتَوِي فِيهِ ملْء الْفَم وَمَا دونه لإِطْلَاق حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَرْفُوع، فَإِن عَاد وَكَانَ ملْء الْفَم لَا يفْسد صَوْمه عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد، قَالَ فِي (الْمُحِيط) : وَهُوَ الصَّحِيح، وَذكر فَتى (قاضيخان) عَن مُحَمَّد وجده، وَعند أبي يُوسُف يفْسد وَإِن أَعَادَهُ، وَكَانَ أقل من ملْء الْفَم يفْسد عِنْد مُحَمَّد وَزفر، وَهَذَا إِذا تقيأ مرّة أَو طَعَاما أَو مَاء، فَإِن تقيأ ملْء فِيهِ بلغما لَا يفْسد عِنْدهمَا، خلافًا لأبي يُوسُف.
ويُذْكَرُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ يُفْطِرُ
يذكر على صِيغَة الْمَجْهُول عَلامَة التمريض، يَعْنِي: إِذا قاء الصَّائِم يفْطر، يَعْنِي: ينْتَقض صَوْمه، ذكره الْحَازِمِي عَنهُ رِوَايَة عَن بَعضهم، وَيُمكن الْجمع بَين قوليه بِأَن قَوْله: لَا يفْطر، يحمل على مَا فصل فِي حَدِيثه الْمَرْفُوع، وَيحمل قَوْله: أَنه يفْطر، على مَا إِذا تعمد الْقَيْء.
والأوَّلُ أصَحُّ

(11/36)


أَي: عدم الْإِفْطَار أصح. قَالَ: الْكرْمَانِي أَو الإيناد الأول؟ قلت: هُوَ قَوْله: وَقَالَ لي يحيى بن صَالح: حَدثنَا مُعَاوِيَة بن سَلام ... إِلَى آخِره.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ وعِكْرِمَةُ الْفِطْرُ مِمَّا دخَلَ ولَيْسَ مِمَّا خَرَجَ
هَذَانِ التعليقان رَوَاهُمَا ابْن أبي شيبَة. فَالْأول: قَالَ: حَدثنَا وَكِيع عَن الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس فِي الْحجامَة للصَّائِم، فَقَالَ: الْفطر مِمَّا يدْخل وَلَيْسَ مِمَّا يخرج. وَالثَّانِي: رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن حُصَيْن عَن عِكْرِمَة مثله.
وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا يَحْتَجِمُ وهْوَ صَائِمٌ ثُمَّ تَرَكَهُ فَكانَ يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه احْتجم وَهُوَ صَائِم، ثمَّ ترك ذَلِك فَكَانَ إِذا صَامَ لم يحتجم حَتَّى يفْطر، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا ابْن علية عَن أَيُّوب عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ ... فَذكره، وَحدثنَا وَكِيع عَن هِشَام بن الْغَاز، وَحدثنَا ابْن إِدْرِيس عَن يزِيد عَن عبد الله عَن نَافِع بِزِيَادَة، فَلَا أَدْرِي لأي شَيْء تَركه كرهه أَو للضعف؟ وروى عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه: وَكَانَ ابْن عمر كثير الِاحْتِيَاط، فَكَأَنَّهُ ترك الْحجامَة نَهَارا لذَلِك.
واحْتَجَمَ أبُو مُوسَى لَيْلاً
أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، اسْمه: عبد الله بن قيس، هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن أبي عدي عَن حميد عَن بكير بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن أبي الْعَالِيَة، قَالَ: دخلت على أبي مُوسَى وَهُوَ أَمِير الْبَصْرَة ممسيا فَوَجَدته يَأْكُل تَمرا وكامخا وَقد احْتجم، فَقلت لَهُ: أَلا تحتجم بنهار؟ قَالَ: أتأمرني أَن أهريق دمي وَأَنا صَائِم؟
ويُذْكَرُ عنْ سَعْدٍ وزَيْدِ بنِ أرْقَمَ وأُمِّ سَلَمَةَ احْتَجَمُوا صِياما
سعد هُوَ ابْن أبي وَقاص أحد الْعشْرَة، وَزيد بن أَرقم بن زيد الْأنْصَارِيّ الخزرجي، وَأم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ، وَاسْمهَا هِنْد بنت أبي أُميَّة. قَوْله: (صياما) أَي: صَائِمين، نصب على الْحَال، وَإِنَّمَا ذكر هَذَا بِصِيغَة التمريض لسَبَب يظْهر بالتخريح. أما أثر سعد فوصله مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن ابْن شهَاب: أَن سعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن عمر كَانَا يحتجمان وهما صائمان، وَهَذَا مُنْقَطع عَن سعد، لَكِن ذكره أَبُو عمر من وَجه آخر عَن عَامر بن سعد عَن أَبِيه. وَأما أثر زيد بن أَرقم فوصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن يُونُس بن عبد الله الْجرْمِي عَن دِينَار، حجمت زيد بن أَرقم، ودينار هُوَ الْحجام مولى جرم، بِفَتْح الْجِيم: لَا يعرف إلاَّ فِي هَذَا الْأَثر. وَقَالَ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ: لَا يَصح حَدِيثه. وَأما أثر أم سَلمَة فوصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الثَّوْريّ أَيْضا عَن فرات عَن مولى أم سَلمَة: أَنه رأى أم سَلمَة تحتجم وَهِي صَائِمَة، وفرات هُوَ ابْن أبي عبد الرَّحْمَن ثِقَة، وَلَكِن مولى أم سَلمَة مَجْهُول الْحَال.
وَقَالَ بُكيرٌ عنْ أُمَّ عَلقَمَةَ كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عائِشَةَ فَلا تَنْهَى
بكير، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن الأشح، وَاسم أم عَلْقَمَة مرْجَانَة سَمَّاهَا البُخَارِيّ، وَذكرهَا ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي تَارِيخه من طَرِيق مخرمَة بن بكير عَن أم عَلْقَمَة قَالَ: كُنَّا نحتجم عِنْد عَائِشَة وَنحن صِيَام، وَبَنُو أخي عَائِشَة فَلَا تنهاهم. قَوْله: (فَلَا تنْهى) ، بِفَتْح التَّاء المثناء من فَوق، وَسُكُون النُّون أَي: فَلَا تنْهى عَائِشَة عَن الاحتجام. ويروى: (فَلَا تُنْهَى) ، بِضَم النُّون الأولى الَّتِي للمتكلم مَعَ الْغَيْر، وَسُكُون الثَّانِيَة على صِيغَة الْمَجْهُول.
ويُرْوَى عنِ الحَسَنِ عنْ غَيْرِ واحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَرْفُوعا فَقَالَ أفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ
أَي: ويروى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَقَالَ) بِالْفَاءِ، ويروى: قَالَ، بِدُونِ الْفَاء، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنه روى عَن الْحسن عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وهم أَبُو هُرَيْرَة وثوبان وَمَعْقِل بن يسَار وَعلي بن أبي طَالب وَأُسَامَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
أما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ

(11/37)


النَّسَائِيّ قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن بشار، قَالَ: حَدثنَا عبد الْوَهَّاب عَن يُونُس عَن الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ،. ثمَّ قَالَ: النَّسَائِيّ، ذكر اخْتِلَاف الناقلين لخَبر أبي هُرَيْرَة فِيهِ، ثمَّ روى من حَدِيث أبي عَمْرو عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، ثمَّ قَالَ: وَقفه إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، ثمَّ روى من حَدِيث الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق آخر من حَدِيث شَقِيق بن ثَوْر عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: يُقَال: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، أما أَنا فَلَو احتجمت مَا باليت، أَبُو هُرَيْرَة يَقُول هَذَا) . ثمَّ روى من حَدِيث عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَفِي لفظ عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة، وَلم يسمعهُ مِنْهُ، قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَفِي لفظ عَن عَطاء عَن رجل عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) .
وَأما حَدِيث: ثَوْبَان فَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: روى حَدِيث (أفطر الحاجم والمحجوم) ، قَتَادَة عَن الْحسن عَن ثَوْبَان، وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة أبي قلَابَة أَن أَبَا أَسمَاء الرحي حَدثهُ: أَن ثَوْبَان مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبرهُ أَنه سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) . وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ.
وَأما حَدِيث معقل بن يسَار فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة سُلَيْمَان بن معَاذ، (عَن عَطاء بن السَّائِب، قَالَ: شهد عِنْدِي نفر من أهل الْبَصْرَة مِنْهُم الْحسن عَن معقل بن يسَار، أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى رجلا يحتجم وَهُوَ صَائِم، فَقَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) .
وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة سعد بن أبي عرُوبَة عَن مطر عَن الْحسن عَن عَليّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) .
وَأما حَدِيث أُسَامَة بن زيد فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة أَشْعَث بن عبد الْملك عَن الْحسن عَن أُسَامَة بن زيد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، قَالَ النَّسَائِيّ: وَلم يُتَابع أشعثَ أحدٌ علمناه على رِوَايَته. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: قد تَابعه عَلَيْهِ يُونُس بن عبيد، إلاَّ أَنه من رِوَايَة عبيد الله بن تَمام عَن يُونُس، رَوَاهُ الْبَزَّار فِي (زيادات الْمسند) وَقَالَ: وَعبيد الله هَذَا فَغير حَافظ. انْتهى.
وَقد اخْتلف فِيهِ على الْحسن، فَقيل عَنهُ هَكَذَا، وَقيل: عَنهُ عَن ثَوْبَان، وَقيل: عَنهُ عَن عَليّ، وَقيل: عَنهُ عَن معقل بن يسَار، وَقيل: عَن معقل بن سِنَان، وَقيل: عَنهُ عَن أبي هُرَيْرَة، وَقيل: عَنهُ عَن سَمُرَة. قَالَ شَيخنَا: وَيُمكن أَن يكون لَيْسَ باخْتلَاف، فقد رُوِيَ عَن الْحسن عَن رجال ذَوي عدد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ أَن بعض من سمي من الصَّحَابَة لم يسمع مِنْهُ الْحسن، مِنْهُم: عَليّ وثوبان وَأَبُو هُرَيْرَة على مَا قيل، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: حَدِيث أُسَامَة وَمَعْقِل بن سِنَان وَأبي هُرَيْرَة معلولة كلهَا، لَا يثبت مِنْهَا شَيْء من جِهَة النَّقْل.
وَاعْلَم أَنه قد رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب عَن رَافع بن خديج عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَتفرد بِهِ، وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وروى عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ قَالَ: لَا أعلم فِي الحاجم والمحجوم حَدِيثا أصح من هَذَا. وَأخرجه الْبَزَّار فِي (زيادات الْمسند) من طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن معمر، وَقَالَ: لَا نعلم يرْوى عَن رَافع عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ من هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَقَالَ أَحْمد: تفرد بِهِ معمر، وَرُوِيَ أَيْضا عَن شَدَّاد بن أَوْس رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي قلَابَة عَن أبي الْأَشْعَث (عَن شَدَّاد بن أَوْس، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، أَتَى عليَّ رجل بِالبَقِيعِ وَهُوَ آخذ بيَدي لثماني عشر خلت من رَمَضَان، فَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة لَيْث عَن عَطاء عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَلَيْث هُوَ ابْن سليم مُخْتَلف فِيهِ، وَعَن ابْن عَبَّاس رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة قبيصَة بن عقبَة، حَدثنَا مطر عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا، قَالَ: وَرَوَاهُ غير وَاحِد عَن مطر عَن عَطاء مُرْسلا، وَعَن أبي مُوسَى رَوَاهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي رَافع، قَالَ: دخلت على أبي مُوسَى. . الحَدِيث، وَفِيه: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَعَن بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة شهر عَن بِلَال عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَعَن ابْن عمر رَوَاهُ ابْن عدي من رِوَايَة نَافِع عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) . وَعَن ابْن مَسْعُود رَوَاهُ الْعقيلِيّ فِي (الضُّعَفَاء) من رِوَايَة الْأسود عَنهُ، قَالَ: (مر بِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رجلَيْنِ يحجم أَحدهمَا الآخر،

(11/38)


فاغتاب أَحدهمَا وَلم يُنكر عَلَيْهِ الآخر، فَقَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) . وَعَن جَابر رَوَاهُ الْبَزَّار من رِوَايَة عَطاء عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) . وَعَن سَمُرَة أَيْضا من رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) . وَعَن أبي زيد الْأنْصَارِيّ رَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث أبي قلَابَة عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَعَن أبي الدَّرْدَاء ذكره النَّسَائِيّ عِنْد ذكر طرق حَدِيث عَائِشَة فِي الِاخْتِلَاف على لَيْث، وَلما روى الطَّحَاوِيّ حَدِيث أبي رَافع وَعَائِشَة وثوبان وَشَدَّاد بن أَوْس وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالَ: فَذهب قوم إِلَى أَن الْحجامَة تفطر الصَّائِم حاجما كَانَ أَو محجوما، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِهَذِهِ الْآثَار أَي: أَحَادِيث هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين. قلت: أَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: عَطاء بن أبي رَبَاح وَالْأَوْزَاعِيّ ومسروقا وَمُحَمّد بن سِيرِين وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق، فَإِنَّهُم قَالُوا: الْحجامَة لَا تفطر مُطلقًا. ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: لَا تفطر الْحجامَة حاجما أَو محجوما. قلت: أَرَادَ بهم: عَطاء بن يسَار وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَعِكْرِمَة وَزيد بن أسلم وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ وَأَبا الْعَالِيَة وَأَبا حنيفَة وَأَبا يُوسُف ومحمدا ومالكا وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه إلاَّ ابْن الْمُنْذر فَإِنَّهُم قَالُوا: الْحجامَة لَا تفطر، ثمَّ قَالَ: وَمِمَّنْ روينَا عَنهُ ذَلِك من الصَّحَابَة سعد بن أبي وَقاص وَالْحُسَيْن بن عَليّ وَعبد الله بن مَسْعُود وَابْن زيد وَابْن عَبَّاس وَزيد بن أَرقم وَعبد الله بن عمر وَأنس بن مَالك وَعَائِشَة وَأم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ثمَّ أجَاب الطَّحَاوِيّ عَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بِأَنَّهُ: لَيْسَ فِيهَا مَا يدل على أَن الْفطر الْمَذْكُور فِيهَا كَانَ لأجل الْحجامَة، بل إِنَّمَا ذَلِك كَانَ لِمَعْنى آخر، وَهُوَ: أَن الحاجم والمحجوم كَانَا يغتابان رجلا، فَلذَلِك قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِي، رَحمَه الله، فَحمل: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، بالغيبة على سُقُوط أجر الصَّوْم، وَجعل نَظِير ذَلِك أَن بعض الصَّحَابَة قَالَ للمتكلم يَوْم الْجُمُعَة: لَا جُمُعَة لَك، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: صدق، وَلم يَأْمُرهُ بِالْإِعَادَةِ، فَدلَّ على أَن ذَلِك مَحْمُول على إِسْقَاط الْأجر. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَلَيْسَ إفطارهما ذَلِك كالإفطار بِالْأَكْلِ وَالشرب وَالْجِمَاع، وَلَكِن حَبط أجرهما باغتيابهما، فصارا بذلك كالمفطرين، لَا أَنه إفطار يُوجب عَلَيْهِمَا الْقَضَاء، وَهَذَا كَمَا قيل: الْكَذِب يفْطر الصَّائِم، لَيْسَ يُرَاد بِهِ الْفطر الَّذِي يُوجب الْقَضَاء، إِنَّمَا هُوَ على حبوط الْأجر. قَالَ: وَهَذَا كَمَا يَقُول: فسق الْقَائِم، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه فسق لأجل قِيَامه، وَلكنه فسق لِمَعْنى آخر غير الْقيام، ثمَّ روى بِإِسْنَادِهِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: إِنَّا كرهنا الْحجامَة للصَّائِم من أحل الضعْف، وروى أَيْضا عَن حميد قَالَ سَأَلَ ثَابتا الْبنانِيّ أنس بن مَالك هَل كُنْتُم تَكْرَهُونَ الْحجامَة للصَّائِم؟ قَالَ: لَا إِلَّا من أجل الضعْف وَرُوِيَ أَيْضا عَن جَابر بن أبي جَعْفَر وَسَالم عَن سعيد ومغيرة عَن إِبْرَاهِيم وَلَيْث عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِنَّمَا كرهت الْحجامَة للصَّائِم مَخَافَة الضعْف. انْتهى.
وَقد ذكرت وُجُوه أُخْرَى. مِنْهَا مَا قيل: إِن فِيهَا التَّعَرُّض للإفطار، أما المحجوم فللضعف وَأما الحاجم فَلِأَنَّهُ لَا يُؤمن أَن يصل إِلَى جَوْفه من طعم الدَّم، وَهَذَا كَمَا يُقَال للرجل يتَعَرَّض للهلاك: قد هلك فلَان، وَإِن كَانَ سالما، وَكَقَوْلِه: من جعل قَاضِيا فقد ذبح بِغَيْر سكين، يُرِيد أَنه قد تعرض للذبح لَا أَنه ذبح حَقِيقَة. وَمِنْهَا مَا قيل: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بهما مسَاء، فَقَالَ: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، فَكَأَنَّهُ عُذْرهمَا بِهَذَا، أَو كَانَا أمسيا ودخلا فِي وَقت الْإِفْطَار، قَالَه الْخطابِيّ. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن هَذَا على التَّغْلِيظ لَهما، كَقَوْلِه: (من صَامَ الدَّهْر لَا صَامَ وَلَا أفطر) . وَمِنْهَا مَا قيل: إِن مَعْنَاهُ: جَازَ لَهما أَن يفطرا كَقَوْلِه: أحصد الزَّرْع، إِذا حَان أَن يحصد. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن أَحَادِيث الحاجم والمحجوم مَنْسُوخَة بِحَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي يَأْتِي عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ لِي عَيَّاش قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الأعْلَى قَالَ حدَّثنا يُونُس عنِ الحَسَنِ مِثْلَهُ قِيلَ لَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نَعَمْ ثُمَّ قَالَ الله أعلم
عَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: ابْن الْوَلِيد الرقام الْقطَّان، أَبُو الْوَلِيد الْبَصْرِيّ، وَعبد الْأَعْلَى ابْن عبد الْأَعْلَى الشَّامي الْقرشِي الْبَصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ بن عبيد بن دِينَار الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ، يروي عَن الْحسن الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ والإسناد كُله بصريون.
قَوْله: (مثله) ، أَي: مثل مَا ذكر من (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه، قَالَ: حَدثنِي عَيَّاش ... فَذكره. قَوْله: (قيل لَهُ) أَي: الْحسن (عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) الَّذِي تحدث بِهِ من أفطر

(11/39)


الحاجم والمحجوم؟ ، قَالَ: نعم من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَشَارَ بقوله: (الله أعلم) إِلَى أَنه ترددا فِي ذَلِك وَلم يجْزم بِالرَّفْع. وَقَالَ الْكرْمَانِي: (وَالله أعلم) ، يسْتَعْمل فِي مقَام التَّرَدُّد، وَلَفظ: نعم، حَيْثُ قَالَ أَولا يدل على الْجَزْم. ثمَّ قَالَ: قلت: جزم حَيْثُ سَمعه مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَيْثُ كَانَ خبر الْوَاحِد غير مُفِيد لليقين أظهر التَّرَدُّد فِيهِ، أَو حصل لَهُ بعد الْجَزْم تردد، أَو لَا يلْزم أَن يكون اسْتِعْمَاله للتردد. وَالله أعلم. وَقَالَ بَعضهم: وَحمل الْكرْمَانِي مَا جزمه على وثوقه بِخَبَر من أخبر بِهِ، وتردده لكَونه خبر وَاحِد فَلَا يُفِيد الْيَقِين، وَهُوَ حمل فِي غَايَة الْبعد. انْتهى. قلت: استبعاده فِي غَايَة الْبعد، لِأَن من سمع خَبرا مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من رُوَاة ثِقَات يجْزم بِصِحَّتِهِ، ثمَّ إِنَّه إِذا نظر إِلَى كَونه أَنه خبر وَاحِد وَأَنه لَا يُفِيد الْيَقِين يحصل لَهُ التَّرَدُّد بِلَا شكّ، وَقد أجَاب الْكرْمَانِي بِثَلَاثَة أجوبة، فجَاء هَذَا الْقَائِل واستبعد أحد الْأَجْوِبَة من غير بَيَان وَجه الْبعد، وَسكت عَن الآخرين.

8391 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتَجَمَ وهْوَ مُحرِمٌ واحْتَجَمَ وهْوَ صَائِمٌ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا، فمعلى، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة، مر فِي الْحيض، ووهيب تَصْغِير وهب مر غير مرّة، وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ كَذَلِك.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبد الْوَارِث وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد مُتَّصِلا، ومرسلاً من غير ذكر ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ مُرْسلا من رِوَايَة إِسْمَاعِيل ابْن علية وَمعمر عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة، وَمن رِوَايَة جَعْفَر بن ربيعَة عَن عِكْرِمَة مُرْسلا، وروى التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة مقسم (عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم فِيمَا بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وَهُوَ محرم صَائِم) . وَرَوَاهُ من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ عَن حبيب بن الشَّهِيد عَن مَيْمُون بن مهْرَان (عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم وَهُوَ صَائِم) . وَقَالَ: هدا حَدِيث حسن غَرِيب، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد التِّرْمِذِيّ وَزَاد: وَهُوَ محرم، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث مُنكر لَا أعلم أحدا رَوَاهُ عَن حبيب غير الْأنْصَارِيّ، وَلَعَلَّه أَرَادَ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تزوج مَيْمُونَة.
وَقَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي سعيد وَجَابِر وَأنس قلت: وَعَن ابْن عمر أَيْضا وَعَائِشَة ومعاذ وَأبي مُوسَى. أما حَدِيث أبي سعيد فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي المتَوَكل (عَن أبي سعيد، قَالَ: رخص رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الْقبْلَة للصَّائِم والحجامة) . وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة أبي الزبير عَنهُ: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم وَهُوَ صَائِم) . وَأما حَدِيث أنس فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة ثَابت عَنهُ وَفِيه: (ثمَّ رخص النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد فِي الْحجامَة للصَّائِم) . وَأما حَدِيث ابْن عمر فَرَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة نَافِع عَنهُ قَالَ: (احْتجم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ صَائِم محرم، وَأعْطى الْحجام أجره) . وَأما حَدِيث عَائِشَة فَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَنْهَا: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم وَهُوَ صَائِم) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث بَاطِل، وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز ضَعِيف. وَأما حَدِيث معَاذ فَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (الضُّعَفَاء) من حَدِيث جُبَير بن نفير عَنهُ (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم وَهُوَ صَائِم) . وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي (الْعِلَل) عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول وَهُوَ مُحَمَّد بن سَلمَة فِي الحَدِيث الَّذِي يرويهِ عَن زِيَاد بن أبي مَرْيَم أَنه دخل على أبي مُوسَى وَهُوَ يحتجم وَهُوَ صَائِم، وَقد مر حَدِيث أبي مُوسَى فِي هَذَا الْبَاب، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة. وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن أَحَادِيث: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، مَنْسُوخَة.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: حَدِيث ابْن عَبَّاس نَاسخ، لِأَن فِي حَدِيث شَدَّاد بن أَوْس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي عَام الْفَتْح فِي رَمَضَان لرجل كَانَ يحتجم: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَالْفَتْح كَانَ فِي سنة ثَمَان. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع فِي سنة عشر فَهُوَ مُتَأَخّر ينْسَخ الْمُتَقَدّم، فَإِن ابْن عَبَّاس لم يصحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ محرم إلاَّ فِي حجَّة الْإِسْلَام، وَفِي حجَّة الْفَتْح لم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرما، وَقد أَشَارَ الإِمَام الشَّافِعِي إِلَى هَذَا. وَمِمَّا يُصَرح فِيهِ بالنسخ حَدِيث أنس بن مَالك، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ: حَدثنَا عمر بن مُحَمَّد بن الْقَاسِم النَّيْسَابُورِي، حَدثنَا مُحَمَّد بن خَالِد بن زيد الرَّاسِبِي حَدثنَا

(11/40)


مَسْعُود بن جويرة: حَدثنَا الْمعَافي بن عمرَان عَن ياسين الزيات عَن يزِيد الرقاشِي (عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم وَهُوَ صَائِم بَعْدَمَا قَالَ: أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَهَذَا صَرِيح بانتساخ حَدِيث: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وَاعْترض ابْن خُزَيْمَة بِأَن فِي هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث الْبَاب أَنه كَانَ صَائِما محرما. قَالَ: وَلم يكن قطّ محرما مُقيما بِبَلَدِهِ، إِنَّمَا كَانَ محرما وَهُوَ مُسَافر، وللمسافر إِن كَانَ نَاوِيا للصَّوْم فَمضى عَلَيْهِ بعض النَّهَار وَهُوَ صَائِم، الْأكل وَالشرب على الصَّحِيح، فَإِذا جَازَ لَهُ ذَلِك جَازَ لَهُ أَن يحتجم وَهُوَ مُسَافر. قَالَ: وَلَيْسَ فِي خبر ابْن عَبَّاس مَا يدل على إفطار المحجوم، فضلا عَن الحاجم. وَأجِيب: بِأَن الحَدِيث مَا ورد هَكَذَا إلاَّ لفائدة، فَالظَّاهِر أَنه وجدت مِنْهُ الْحجامَة وَهُوَ صَائِم لم يتَحَلَّل من صَوْمه، وَاسْتمرّ. وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ حَدِيث (أفطر الحاجم والمحجوم) ، بِلَا ريب فِيهِ، لَكِن وجدنَا من حَدِيث أبي سعيد (أرخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محرما فِي الْحجامَة للصَّائِم) ، وَإِسْنَاده صَحِيح، فَوَجَبَ الْأَخْذ بِهِ لِأَن الرُّخْصَة إِنَّمَا تكون بعد الْعَزِيمَة، فَدلَّ على نسخ الْفطر بالحجامة سَوَاء كَانَ حاجما أَو محجوما، وَقد مر حَدِيث أبي سعيد عَن قريب.

9391 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ احْتَجَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ صَائِمٌ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: اسْمه عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد، وَعبد الْوَارِث ابْن سعيد التَّمِيمِي الْعَنْبَري مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَهَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من عشر طرق، وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث ... إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنَا الْحسن حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة، فَلم يذكر ابْن عَبَّاس. وَاخْتلف على حَمَّاد بن زيد فِي وَصله وإرساله، وَقد بَين ذَلِك النَّسَائِيّ، وَقَالَ مهنا: سَأَلت أَحْمد عَن هَذَا الحَدِيث؟ فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ صَائِم، إِنَّمَا هُوَ: وَهُوَ محرم، ثمَّ سَاق من طرق ابْن عَبَّاس، لَكِن لَيْسَ فِيهَا طَرِيق أَيُّوب هَذِه، والْحَدِيث صَحِيح لَا شكّ فِيهِ، وروى ابْن سعد فِي كِتَابه: عَن هَاشم بن الْقَاسِم عَن شُعْبَة عَن الْحَاكِم (عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، احْتجم بالقاحة وَهُوَ صَائِم) . قلت: القاحة، بِالْقَافِ والحاء الْمُهْملَة: على ثَلَاثَة مراحل من الْمَدِينَة قبل السقيا بِنَحْوِ ميل.

0491 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إياسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ ثَابتا الْبُنَانيَّ يَسْألُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ قَالَ لاَ إلاَّ مِنْ أجْلِ الضَّعْفِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد مروا غير مرّة.
قَوْله: (الْبنانِيّ) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنونين الأولى مَفْتُوحَة وَالثَّانيَِة مَكْسُورَة، نِسْبَة إِلَى بنانة وهم ولد سعد بن لؤَي. قَوْله: (يسْأَل) على صُورَة الْمُضَارع الْمَبْنِيّ للْفَاعِل، وَهُوَ رِوَايَة أبي الْوَقْت وَهَذَا غلط، لِأَن شُعْبَة مَا حضر سُؤال ثَابت عَن أنس، وَقد سقط مِنْهُ: رجل، بَين شُعْبَة وثابت، فَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق جَعْفَر بن مُحَمَّد القلانسي وَأبي قرصافة مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب وَإِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن بن يزِيد، كلهم عَن آدم ابْن أبي إِيَاس شيخ البُخَارِيّ فِيهِ مقَال عَن شُعْبَة عَن حميد، قَالَ: سَمِعت ثَابتا وَهُوَ يسْأَل أنس بن مَالك، فَذكر الحَدِيث، وَأَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبَيْهَقِيّ إِلَى أَن الرِّوَايَة الَّتِي وَقعت للْبُخَارِيّ خطأ، وَأَنه سقط مِنْهُ: حميد قلت: الْخَطَأ من غير البُخَارِيّ لِأَنَّهُ كَانَ يعلم أَن شُعْبَة لم يحضر سُؤال ثَابت عَن أنس وَلَا أدْرك أنسا، وَأكْثر أصُول البُخَارِيّ سَمِعت ثَابتا الْبنانِيّ قَالَ: سَأَلَ أنس بن مَالك.
وزَادَ شَبابَةُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
شَبابَة بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وبالباءين الموحدتين أولاهما خَفِيفَة: وَهُوَ ابْن سوار الْفَزارِيّ مَوْلَاهُم أَبُو عَمْرو الْمَدَائِنِي، أَصله من خُرَاسَان. وَيُقَال: اسْمه مَرْوَان، وَإِنَّمَا غلب عَلَيْهِ شَبابَة، وَهَذِه الزِّيَادَة أخرجهَا ابْن مَنْدَه فِي (غرائب شُعْبَة) فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد

(11/41)


بن أَحْمد بن حَاتِم حَدثنَا عبد الله بن روح حَدثنَا شَبابَة حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن أبي المتَوَكل عَن أبي سعيد، وَبِه: عَن شَبابَة عَن شُعْبَة عَن حميد عَن أنس نَحوه، وَهَذَا يُؤَكد صِحَة اعْتِرَاض الْإِسْمَاعِيلِيّ وَمن تبعه، ويشعر بِأَن الْخلَل لَيْسَ من البُخَارِيّ، إِذْ لَو كَانَ إِسْنَاد شَبابَة عِنْده مُخَالفا لإسناد آدم لِبَنِيهِ، وَالله أعلم.