عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 33 - (بابُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ
والإفْطَارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّوْم فِي السّفر وَحكم
الْإِفْطَار فِيهِ، هَل هما مباحان فِيهِ أَو الْمُكَلف
مُخَيّر فِيهِ سَوَاء فِي رَمَضَان أَو غَيره؟
1491 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ عنْ أبِي إسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ أنَّهُ سَمِعَ
ابنَ أبِي أوْفى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا
مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ
فَقَالَ لِرَجُلٍ انْزَلْ فاجْدَحْ لِي قَالَ يَا رسولَ
الله الشَّمْسَ قَالَ انْزِلْ فاجْدَح لي قَالَ يَا رسولَ
الله الشَّمسُ قَالَ انْزلْ فاجْدَحْ لِي فنَزَلَ فَجَدَحَ
لَهُ فَشَرِبَ ثُمَّ رَمَى بِيَدِهِ هَهُنَا ثُمَّ قَالَ
إذَا رأيْتُمُ اللَّيْلَ أقْبَلَ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ
أفْطَرَ الصَّائِمُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، كَانَ صَائِما فِي سَفَره هَذَا، وَهُوَ مُطَابق
للجزء الأول من التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عَليّ بن عبد الله بن
جَعْفَر الَّذِي يُقَال لَهُ ابْن الْمَدِينِيّ، وَقد
تكَرر ذكره. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث:
أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ واسْمه: سُلَيْمَان بن أبي
سُلَيْمَان، واسْمه: فَيْرُوز الشَّيْبَانِيّ نِسْبَة
إِلَى شَيبَان بن وَهل بن ثَعْلَبَة وشيبان فِي قبائل.
الرَّابِع: عبد الله بن أبي أوفى، واسْمه: عَلْقَمَة
الْأَسْلَمِيّ، وَهَذَا هُوَ أحد من رَوَاهُ أَبُو حنيفَة
الإِمَام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع فِي
مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه
بَصرِي وسُفْيَان مكي وَأَبُو إِسْحَاق كُوفِي. والْحَدِيث
من الرباعيات.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّوْم عَن مُسَدّد وَعَن أَحْمد بن يُونُس،
وَفِي الطَّلَاق عَن عَليّ بن عبد الله عَن جرير. وَأخرجه
مُسلم فِي الصَّوْم عَن يحيى بن يحيى عَن هشيم وَعَن أبي
بكر بن أبي شيبَة وَعَن أبي كَامِل الجحدري وَعَن ابْن أبي
عَمْرو عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبيد الله بن
معَاذ وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِيهِ عَن مُسَدّد بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كُنَّا
مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فِي شهر
رَمَضَان) ، قيل: يشبه أَن يكون سفر غَزْوَة الْفَتْح،
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ رِوَايَة هشيم عَن الشَّيْبَانِيّ
عِنْد مُسلم بِلَفْظ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فِي شهر رَمَضَان) وسفره صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي رَمَضَان منحصر فِي غَزْوَة بدر، وَفِي
غَزْوَة الْفَتْح، فَإِن ثَبت فَلم يشْهد ابْن الزبير ابْن
أبي أوفى بَدْرًا فتعينت غَزْوَة الْفَتْح، قَوْله:
(فَقَالَ الرجل) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَلَمَّا غَابَتْ
الشَّمْس قَالَ: يَا فلَان {إنزل فاجدح) . وَفِي رِوَايَة
للْبُخَارِيّ: (فَلَمَّا غربت) ، على مَا يَأْتِي، وَلَفظ:
غربت، يُفِيد معنى زَائِدا على معنى: غَابَتْ، وَالرجل فِي
رِوَايَة البُخَارِيّ، وَفُلَان فِي رِوَايَة مُسلم هُوَ:
بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) : وَجَاء فِي بعض طرق الحَدِيث أَنه بِلَال.
قلت: هَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، فَإِنَّهُ أخرج
الحَدِيث عَن مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ، وَفِيه: (فَقَالَ:
يَا بِلَال} انْزِلْ) إِلَى آخِره، وَوَقع فِي رِوَايَة
أَحْمد من رِوَايَة شُعْبَة عَن الشَّيْبَانِيّ: (فَدَعَا
صَاحب شرابه بشراب، فَقَالَ: لَو أمسيت) . قَوْله: (فاجدح
لي) ، إجدح بِكَسْر الْهمزَة أَمر من: جدحت السويق
واجتدحته، أَي: لتته، والمصدر: جدح، ومادته: جِيم ودال
وحاء مُهْملَة، والجدح أَن يُحَرك السويق بِالْمَاءِ فيخوض
حَتَّى يَسْتَوِي، وَكَذَلِكَ اللَّبن وَنَحْوه، والمجدح،
بِكَسْر الْمِيم: عود مجدح الرَّأْس تساط بِهِ
الْأَشْرِبَة، وَرُبمَا يكون لَهُ ثَلَاث شعب، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: إجدح يَعْنِي: احلب، ورد ذَلِك عِيَاض
وَغَيره، وَفِي (الْمُحكم) : المجدح خَشَبَة فِي رَأسهَا
خشبتان معترضتان، وَكلما خلط فقد جدح، وَعَن الْقَزاز:
هُوَ كالملعقة. وَفِي (الْمُنْتَهى) : شراب مجدوح
(11/42)
ومجدح أَي مخوض، والمجدح عود ذُو جَوَانِب،
وَقيل: هُوَ عود يعرض رَأسه، وَالْجمع مجاديح. قَوْله:
(الشَّمْس!) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف،
أَي: هَذِه الشَّمْس يَعْنِي مَا غربت الْآن، وَيجوز فِيهِ
النصب على معنى: انْظُر الشَّمْس، وَهَذَا ظن مِنْهُ أَن
الْفطر لَا يحل إلاَّ بعد ذَلِك، لما رأى من ضوء الشَّمْس
ساطعا، وَإِن كَانَ جرمها غَائِبا، يُؤَيّدهُ قَوْله: (إِن
عَلَيْك نَهَارا) ، وَهُوَ معنى: (لَو أمسيت) فِي رِوَايَة
أَحْمد، أَي: تَأَخَّرت حَتَّى يدْخل الْمسَاء، وتكريره
الْمُرَاجَعَة لغَلَبَة اعْتِقَاده أَن ذَلِك نَهَار يحرم
فِيهِ الْأكل مَعَ تجويزه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لم ينظر إِلَى ذَلِك الضَّوْء نظرا تَاما، فقصد
زِيَادَة الْإِعْلَام، فَأَعْرض، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
عَن الضَّوْء وَاعْتبر غيبوبة الشَّمْس، ثمَّ بيَّن مَا
يعتبره من لم يتَمَكَّن من رُؤْيَة جرم الشَّمْس، وَهُوَ
إقبال الظلمَة من الْمشرق، فَإِنَّهَا لَا تقبل مِنْهُ
إلاَّ وَقد سقط القرص، فَإِن قلت: الْمُرَاجَعَة معاندة،
وَلَا يَلِيق ذَلِك للصحابي؟ قلت: قد ذكرنَا أَنه ظن،
فَلَو تحقق أَن الشَّمْس غربت مَا توقف، وَإِنَّمَا توقف
احْتِيَاطًا واستكشافا عَن حكم الْمَسْأَلَة. وَقد اخْتلفت
الرِّوَايَات عَن الشَّيْبَانِيّ فِي ذَلِك، فَأكْثر مَا
وَقع فِيهَا أَن الْمُرَاجَعَة وَقعت ثَلَاثًا، وَفِي
بَعْضهَا مرَّتَيْنِ، وَفِي بَعْضهَا مرّة وَاحِدَة،
وَهُوَ مَحْمُول على أَن بعض الروَاة اختصر الْقِصَّة.
قَوْله: (ثمَّ رمى بِيَدِهِ هَهُنَا) ، مَعْنَاهُ أَشَارَ
بِيَدِهِ إِلَى الْمشرق، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ
مُسلم، (ثمَّ قَالَ بِيَدِهِ: إِذا غَابَتْ الشَّمْس من
هَهُنَا، وَجَاء اللَّيْل من هَهُنَا فقد أفطر الصَّائِم)
. وَفِي لفظ لَهُ: (ثمَّ قَالَ: إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل
قد أقبل من هَهُنَا أَشَارَ بِيَدِهِ نَحْو الْمشرق فقد
أفطر الصَّائِم. قَوْله: (إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل أقبل
من هَهُنَا) أَي: من جِهَة الْمشرق. فَإِن قلت: مَا
الْحِكْمَة فِي قَوْله: (إِذا أقبل اللَّيْل من هَهُنَا؟)
. وَفِي لفظ مُسلم: (إِذا رَأَيْتُمْ اللَّيْل قد أقبل من
هَهُنَا؟ وَفِي لفظ التِّرْمِذِيّ، عَن عمر بن الْخطاب:
(إِذا أقبل اللَّيْل وَأدبر النَّهَار وغربت الشَّمْس فقد
أفطر) ، والإقبال والإدبار والغروب متلازمة لِأَنَّهُ لَا
يقبل اللَّيْل إلاَّ إِذا أدبر النَّهَار، وَلَا يدبر
النَّهَار إلاَّ إِذا غربت الشَّمْس. قلت: أجَاب القَاضِي
عِيَاض: بِأَنَّهُ قد لَا يتَّفق مُشَاهدَة عين الْغُرُوب،
ويشاهد هجوم الظلمَة حَتَّى يتَيَقَّن الْغُرُوب بذلك
فَيحل الْإِفْطَار. وَقَالَ شَيخنَا الظَّاهِر إِن أُرِيد
أحد هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة فَإِنَّهُ يعرف انْقِضَاء
النَّهَار بِرُؤْيَة بَعْضهَا، وَيُؤَيِّدهُ اقْتِصَاره
فِي حَدِيث ابْن أبي أوفى على إقبال اللَّيْل فَقَط، وَقد
يكون الْغَيْم فِي الْمشرق دون الْمغرب أَو عَكسه، وَقد
يُشَاهد مغيب الشَّمْس فَلَا يحْتَاج مَعَه إِلَى أَمر
آخر. قَوْله: (فقد أفطر الصَّائِم) أَي: دخل وَقت
الْإِفْطَار، لَا أَنه يصير مُفطرا بغيبوبة الشَّمْس،
وَإِن لم يتَنَاوَل مُفطرا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: الحَدِيث يدل على أَن الصَّوْم
فِي السّفر فِي رَمَضَان أفضل من الْإِفْطَار، وَذَلِكَ
لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ صَائِما
وَهُوَ فِي السّفر فِي شهر رَمَضَان. وَقد اخْتلفُوا فِي
هَذَا الْبَاب. فَمنهمْ من روى عَنهُ التَّخْيِير مِنْهُم:
ابْن عَبَّاس وَأنس وَأَبُو سعيد وَسَعِيد بن الْمسيب
وَعَطَاء وَسَعِيد بن جبر وَالْحسن وَالنَّخَعِيّ وَمُجاهد
وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث. وَذهب قوم إِلَى أَن
الْإِفْطَار أفضل، مِنْهُم: عمر بن عبد الْعَزِيز
وَالشعْبِيّ وَقَتَادَة وَمُحَمّد بن عَليّ وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قَالَت
الشَّافِعِيَّة: الْفطر أفضل فِي السّفر، وَقَالَ أَبُو
عمر: قَالَ الشَّافِعِي: هُوَ مُخَيّر وَلم يفصل،
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن علية، وَقَالَ القَاضِي: مَذْهَب
الشَّافِعِي أَن الصَّوْم أفضل. وَمِمَّنْ كَانَ لَا
يَصُوم فِي السّفر حُذَيْفَة. وَذهب قوم إِلَى أَن
الصَّوْم أفضل، وَبِه قَالَ الْأسود بن يزِيد وَأَبُو
حنيفَة وَأَصْحَابه. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي وَمَالك وَأَصْحَابه وَأَبُو ثَوْر، وَكَذَا
روى عَن عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَأنس بن مَالك،
وَرُوِيَ عَن عمر وَابْنه وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس:
إِن صَامَ فِي السّفر لم يجزه وَعَلِيهِ الْقَضَاء فِي
الْحَضَر، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قَالَ:
الصَّائِم فِي السّفر كالمفطر فِي الْحَضَر، وَبِه قَالَ
أهل الظَّاهِر. وَمِمَّنْ كَانَ يَصُوم فِي السّفر وَلَا
يفْطر عَائِشَة وَقيس بن عباد وَأَبُو الْأسود وَابْن
سِيرِين وَابْن عمر وَابْنه سَالم وَعَمْرو بن مَيْمُون
وَأَبُو وَائِل، وَقَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فِيمَا رَوَاهُ حَمَّاد بن يزِيد عَن أَيُّوب عَن
مُحَمَّد بن عُبَيْدَة عَنهُ: من أدْرك رَمَضَان وَهُوَ
مُقيم ثمَّ سَافر فقد لزمَه الصَّوْم، لِأَن الله تَعَالَى
قَالَ: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} (الْبَقَرَة:
581) . وَقَالَ أَبُو مجلز: لَا يُسَافر أحد فِي رَمَضَان،
فَإِن سَافر فليصم، وَقَالَ أَحْمد: يُبَاح لَهُ الْفطر،
فَإِن صَامَ كره وأجزأه، وَعنهُ: الْأَفْضَل الْفطر،
وَقَالَ أَحْمد: كَانَ عمر وَأَبُو هُرَيْرَة يأمران
بِالْإِعَادَةِ، يَعْنِي إِذا صَامَ. وَقَالَ
الْإِسْبِيجَابِيّ فِي (شرح مُخْتَصر الطَّحَاوِيّ) :
الْأَفْضَل أَن يَصُوم فِي السّفر إِذا لم يُضعفهُ
الصَّوْم، فَإِن أضعفه ولحقه مشقة بِالصَّوْمِ بِالْفطرِ
أفضل، فَإِن أفطر من غير مشقة لَا يَأْثَم، وَبِمَا
قُلْنَاهُ قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ. قَالَ النَّوَوِيّ:
هُوَ الْمَذْهَب.
(11/43)
وَعَن مُجَاهِد فِي رِوَايَة: أفضل
الْأَمريْنِ أيسرهما عَلَيْهِ، وَقيل: الصَّوْم وَالْفطر
سَوَاء وَهُوَ قَول للشَّافِعِيّ.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب تَعْجِيل الْفطر.
وَفِيه: بَيَان انْتِهَاء وَقت الصَّوْم، وَهُوَ أَمر مجمع
عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو عمر فِي (الاستذكار) : أجمع
الْعلمَاء على أَنه إِذا حلت صَلَاة الْمغرب فقد حل الْفطر
للصَّائِم فرضا وتطوعا. وَأَجْمعُوا على أَن صَلَاة
الْمغرب من صَلَاة اللَّيْل، وَالله، عز وَجل، قَالَ:
{ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} (الْبَقَرَة: 781) .
وَاخْتلفُوا فِي أَنه: هَل يجب تَيَقّن الْغُرُوب أم يجوز
الْفطر بِالِاجْتِهَادِ؟ وَقَالَ الرَّافِعِيّ: الْأَحْوَط
أَن لَا يَأْكُل إلاَّ بِيَقِين غرُوب الشَّمْس، لِأَن
الأَصْل بَقَاء النَّهَار فيستصحب إِلَى أَن يستيقن
خِلَافه. وَلَو اجْتهد وَغلب على ظَنّه دُخُول اللَّيْل
بورد وَغَيره فَفِي جَوَاز الْأَجَل وَجْهَان: أَحدهمَا،
وَبِه قَالَ الاستاذ أَبُو إِسْحَاق الإسفرائني: أَنه لَا
يجوز. وأصحهما: الْجَوَاز وَإِذا كَانَت الْبَلدة فِيهَا
أَمَاكِن مُرْتَفعَة وأماكن منخفضة فَهَل يتَوَقَّف فطر
سكان الْأَمَاكِن المنخفضة على تحقق غيبَة الشَّمْس عِنْد
سكان الْأَمَاكِن المرتفعة؟ الظَّاهِر اشْتِرَاط ذَلِك،
وَفِيه جَوَاز الاستفسار عَن الظَّوَاهِر لاحْتِمَال أَن
يكون المُرَاد إمرارها على ظواهرها.
وَفِيه: أَنه لَا يجب إمْسَاك جُزْء من اللَّيْل مُطلقًا
بل مَتى تحقق غرُوب الشَّمْس حل الْفطر.
وَفِيه: تذكير الْعَالم بِمَا يخْشَى أَن يكون نَسيَه.
وَفِيه: أَن الْأَمر الشَّرْعِيّ أبلغ من الْحسي، وَأَن
الْعقل لَا يقْضِي على الشَّرْع.
وَفِيه: أَن الْفطر على التَّمْر لَيْسَ بِوَاجِب،
وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحبّ، لَو تَركه جَازَ.
وَفِيه: إسراع النَّاس إِلَى إِنْكَار مَا يجهلون لما جهل
من الدَّلِيل الَّذِي عَلَيْهِ الشَّارِع، وَأَن الْجَاهِل
بالشَّيْء يَنْبَغِي أَن يسمح لَهُ فِيهِ الْمرة بعد
الْمرة وَالثَّالِثَة تكون فاصلة بَينه وَبَين معلمه،
كَمَا فعل الْخضر بمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَقَالَ:
{هَذَا فِرَاق بيني وَبَيْنك} (الْكَهْف: 87) .
تَابَعَهُ جَرِيرٌ وأبُو بَكْرِ بنُ عَيَّاشٍ عنِ
الشِّيْبَانِيِّ عنِ ابنِ أبِي أوْفَى قَالَ كُنْتُ مَعَ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ
يَعْنِي تَابع سُفْيَان جرير، بِفَتْح الْجِيم: ابْن عبد
الحميد، وَتَابعه أَيْضا أَبُو بكر بن عَيَّاش، بتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: ابْن سَالم
الْأَسدي الْكُوفِي الحناط، بالنُّون: المقرىء، وَقد
اخْتلف فِي اسْمه على أَقْوَال، فَقيل: مُحَمَّد، وَقيل:
عبد الله، وَقيل: سَالم، وَقيل غير ذَلِك إِلَى أَسمَاء
مُخْتَلفَة، وَالأَصَح أَن اسْمه كنيته، ومتابعة جرير
وَصلهَا فِي البُخَارِيّ فِي الطَّلَاق، ومتابعة أبي بكر
تَأتي مَوْصُولَة فِي: بَاب تَعْجِيل الْإِفْطَار،
وَالْمرَاد من الْمُتَابَعَة: الْمُتَابَعَة فِي أصل
الحَدِيث.
2491 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنْ
هِشَامٍ قَالَ حدَّثني أبِي عنْ عائِشَةَ أنَّ حَمْزَةَ بن
عَمْرٍ والأسْلَمِيَّ قَالَ يَا رسولَ الله إنِّي أسْرُدُ
الصَّوْمَ. (الحَدِيث 2491 طرفه فِي: 3491) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن سرد الصَّوْم
يتَنَاوَل الصَّوْم فِي السّفر أَيْضا كَمَا هُوَ الأَصْل
فِي الْحَضَر، وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: الأول:
عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن هِشَام وَهُوَ مُخْتَصر.
وَالثَّانِي: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن هِشَام
إِلَى آخِره، وَسَيَأْتِي عَن قريب.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد.
الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: هِشَام بن
عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن
الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
السَّادِس: حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ أَبُو صَالح،
وَقيل: أَبُو مُحَمَّد.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه:
رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: أَن الحَدِيث من
مُسْند عَائِشَة، وَهَذَا ظَاهر لِأَن الْحفاظ رَوَوْهُ
هَكَذَا: وَقَالَ عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عِنْد
النَّسَائِيّ، والدراوردي عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَيحيى بن
عبد الله بن سَالم عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ، ثَلَاثَتهمْ
عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة عَن حَمْزَة بن
عَمْرو، جَعَلُوهُ من مُسْند حَمْزَة، وَالْمَحْفُوظ أَنه
من مُسْند عَائِشَة. وحاء الحَدِيث من رِوَايَة حَمْزَة
أَيْضا، فأخرجها مُسلم من رِوَايَة عَمْرو بن الْحَارِث
عَن أبي الْأسود عَن عُرْوَة بن الزبير عَن أبي مراوح،
(عَن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ، أَنه قَالَ: يَا
رَسُول الله أجد بِي قُوَّة على الصّيام فِي السّفر، فَهَل
عَليّ جنَاح؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: هُوَ رخصَة من الله، فَمن أَخذ بهَا فَحسن، وَمن
أحب أَن يَصُوم فَلَا جنَاح عَلَيْهِ) . وَكَذَلِكَ
رَوَاهُ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم
(11/44)
التَّيْمِيّ عَن عُرْوَة، لكنه أسقط أَبَا
مراوح، وَالصَّوَاب إثْبَاته، وَهُوَ مَحْمُول على أَن
لعروة فِيهِ طَرِيقين: سَمعه من عَائِشَة، وسَمعه من أبي
مراوح عَن حَمْزَة.
ذكر مَعْنَاهُ: وَقَوله: (إِنِّي أسرد الصَّوْم) أَي:
أتابعه يَعْنِي: آتِي بِهِ متواليا، وَهُوَ من سرد يسْرد
من: بَاب نصر ينصر. وَقَالَ ابْن التِّين: وَضبط فِي بعض
الْأُمَّهَات بِضَم الْهمزَة، وَلَا وَجه لَهُ فِي
اللُّغَة إلاَّ أَن يُرِيد بِفَتْح السِّين وَتَشْديد
الرَّاء على التكثير. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا
التَّطْوِيل لِأَنَّهُ حِين قيل بِضَم الْهمزَة علم أَنه
من: بَاب التفعيل، تَقول: سرد يسْرد تسريدا، وَصِيغَة
الْمُتَكَلّم وَحده لَا تَجِيء إلاَّ بِضَم الْهمزَة،
قَالُوا: وَفِيه رد على من يرى أَن صَوْم الدَّهْر
مَكْرُوه لِأَنَّهُ أخبر بسرده، وَلم يُنكر عَلَيْهِ، بل
أقره وَأذن لَهُ فِي السّفر، فَفِي الْحَضَر أولى.
وَأجِيب: بِأَن التَّتَابُع يصدق بِدُونِ صَوْم الدَّهْر
فَلَا دلَالَة فِيهِ على الْكَرَاهَة. فَإِن قلت:
يُعَارضهُ نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن
عَمْرو بن الْعَاصِ. قلت: يحمل نَهْيه على ضعف عبد الله
عَن ذَلِك، وَحَمْزَة ذكر قُوَّة لم يذكرهَا غَيره.
3491 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوجَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أنَّ حَمْزَةَ بنَ عَمْرٍ والأسْلَمِيَّ
قَالَ لِلنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أأصُومُ فِي
السَّفَرِ وكانَ كَثِيرَ الصِّيامِ فَقَالَ إنْ شِئْتَ
فَصُمْ وإنْ شِئْتَ فأفْطِرْ. (انْظُر الحَدِيث 2491) .
هَذَا طَرِيق ثَان. قَوْله: (أأصوم؟) بهمزتين الأولى هِيَ
همزَة الِاسْتِفْهَام وَالْأُخْرَى همزَة الْمُتَكَلّم،
وكلتاهما مفتوحتان. قيل: لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيح بِأَنَّهُ
صَوْم رَمَضَان، فَلَا يكون فِيهِ حجَّة على منع صِيَام
رَمَضَان فِي السّفر. وَأجِيب: بِأَن فِي رِوَايَة أبي
مراوح فِي رِوَايَة مُسلم الَّتِي ذَكرنَاهَا إشعارا
بِأَنَّهُ سَأَلَ عَن صِيَام الْفَرِيضَة، لِأَن
الرُّخْصَة إِنَّمَا تطلق فِي مُقَابل مَا هُوَ وَاجِب،
وأصرح من ذَلِك وَأكْثر وضوحا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالْحَاكِم من طَرِيق مُحَمَّد بن حَمْزَة بن عَمْرو عَن
أَبِيه أَنه قَالَ: (يَا رَسُول الله! إِنِّي صَاحب ظهر
أعَالجهُ، أسافر عَلَيْهِ وأكريه، وَأَنه رُبمَا صادفني
هَذَا الشَّهْر يَعْنِي: شهر رَمَضَان وَأَنا أجد
الْقُوَّة وأجدني أَن أَصوم أَهْون عَليّ من أَن أؤخره،
فَيكون دينا عَليّ؟ فَقَالَ: أَي ذَلِك شِئْت يَا حَمْزَة)
.
43 - (بابٌ إذَا صامَ أيَّاما مِنْ رمَضَانَ ثُمَّ سافَرَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا صَامَ شخص أيامر من
رَمَضَان ثمَّ سَافر هَل يُبَاح لَهُ الْفطر أم لَا؟ وَلم
يذكر جَوَاب إِذا اكْتِفَاء بِمَا ذكره فِي الْبَاب،
تَقْدِيره: يُبَاح لَهُ الْفطر. وَقَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ
أَشَارَ إِلَى تَضْعِيف مَا روى عَن عَليّ بِإِسْنَاد
ضَعِيف أَن: من اسْتهلّ عَلَيْهِ رَمَضَان فِي الْحَضَر
ثمَّ سَافر بعد ذَلِك فَلَيْسَ لَهُ أَن يفْطر لقَوْله
تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه}
(الْبَقَرَة: 581) . انْتهى. قلت: قد مر مثل هَذَا
الْكَلَام من هَذَا الْقَائِل غير مرّة، وأجبنا عَن هَذَا
بِأَن الْإِشَارَة لَا تكون إلاَّ للحاضر، فَمن أَيْن علم
أَنه اطلع على هَذَا الحَدِيث حَتَّى أَشَارَ إِلَيْهِ؟
وَلَئِن سلمنَا اطِّلَاعه على هَذَا، فَكيف وَجه
الْإِشَارَة إِلَيْهِ؟
4491 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَن عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ
الله بنِ عُتْبَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ
إلَى مَكَّةَ فِي رمَضَانَ فصامَ حَتَّى بلَغَ الكَدِيدَ
أفْطَرَ فَأفْطر النَّاسُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَى مَكَّة فصَام أَيَّامًا ثمَّ
أفطر.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعبيد الله بن عبد الله
بِالتَّصْغِيرِ فِي الابْن وَالتَّكْبِير فِي الْأَب ابْن
عتبَة بن مَسْعُود، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي
الْمَغَازِي عَن مَحْمُود عَن عبد الرَّزَّاق وَعَن عبد
الله بن يُوسُف عَن اللَّيْث. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم
عَن يحيى بن يحيى وَابْن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم وَعَمْرو النَّاقِد، أربعتهم عَن سُفْيَان
بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق، وَعَن
قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث عَنهُ
بِهِ، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب، وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ.
(11/45)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرج إِلَى مَكَّة)
، كَانَ ذَلِك فِي غَزْوَة الْفَتْح، خرج يَوْم
الْأَرْبَعَاء بعد الْعَصْر لعشر مضين من رَمَضَان،
فَلَمَّا كَانَ بالصلصل، جبل عِنْد ذِي الحليفة، نَادَى
مناديه: من أحب أَن يفْطر فليفطر، وَمن أحب أَن يَصُوم
فليصم. فَلَمَّا بلغ الكديد أفطر بعد صَلَاة الْعَصْر على
رَاحِلَته ليراه النَّاس. قَوْله: (لعشر مضين من رَمَضَان)
رِوَايَة ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَن الزُّهْرِيّ،
وَوَقع فِي مُسلم من حَدِيث أبي سعيد اخْتِلَاف من الروَاة
فِي ضبط ذَلِك، وَالَّذِي اتّفق عَلَيْهِ أهل السّير أَنه
خرج فِي عَاشر رَمَضَان وَدخل مَكَّة لتسْع عشرَة خلت
مِنْهُ. قَوْله: (حَتَّى بلغ الكديد) وَفِي رِوَايَة عَن
ابْن عَبَّاس، ستأتي قَرِيبا، من وَجه آخر: (حَتَّى بلغ
عسفان) ، بدل الكديد، وَوَقع عِنْد مُسلم: (فَلَمَّا بلغ
كرَاع الغميم) ، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من
رِوَايَة الحكم عَن مقسم، (عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج فِي رَمَضَان فصَام حَتَّى
أَتَى قديدا، ثمَّ أَتَى بقدح من لبن فشربه فَأفْطر هُوَ
وَأَصْحَابه) . وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلفت
الرِّوَايَات فِي الْموضع الَّذِي أفطر صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِيهِ، وَالْكل فِي قَضِيَّة وَاحِدَة، وَكلهَا
مُتَقَارِبَة، والجميع من عمل عسفان. انْتهى. قلت: الكديد،
بِفَتْح الْكَاف وبدالين مهملتين أولاهما مَكْسُورَة
بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة: وَهُوَ مَوضِع بَينه
وَبَين الْمَدِينَة سبع مراحل أَو نَحْوهَا، وَبَينه
وَبَين مَكَّة نَحْو مرحلَتَيْنِ، وَهُوَ أقرب إِلَى
الْمَدِينَة من عسفان. وَقَالَ أَبُو عبيد: بَينه وَبَين
عسفان سِتَّة أَمْيَال، وَعُسْفَان على أَرْبَعَة برد من
مَكَّة، وبالكاديد عين جَارِيَة بهَا نخل كثير، وَذكر ابْن
قرقول: أَن بَين الكديد وَمَكَّة اثْنَان وَأَرْبَعُونَ
ميلًا. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَعُسْفَان قَرْيَة
جَامِعَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وكراع الغميم أَيْضا
مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، والكراع جَانب مستطيل من
الْحرَّة مشتبها بِالْكُرَاعِ، والغميم، بِفَتْح الْغَيْن
الْمُعْجَمَة: وادٍ بالحجاز. أما عسفان فبثمانية أَمْيَال
يُضَاف إِلَيْهَا هَذَا الكراع، قيل: جبل أسود مُتَّصِل
بِهِ، والكراع: كل أنف سَالَ من جبل أَو حرَّة، وقديد،
بِضَم الْقَاف: مَوضِع قريب من مَكَّة فَكَأَنَّهُ فِي
الأَصْل تَصْغِير: قد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: بَيَان صَرِيح أَنه، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، صَامَ فِي السّفر. وَفِيه: رد على من
لم يجوز الصَّوْم فِي السّفر. وَفِيه: بَيَان إِبَاحَة
الْإِفْطَار فِي السّفر. وَفِيه: دَلِيل على أَن للصَّائِم
فِي السّفر الْفطر بعد مُضِيّ بعض النَّهَار. وَفِيه: رد
لقَوْل من زعم أَن فطره بالكديد كَانَ فِي الْيَوْم
الَّذِي خرج فِيهِ من الْمَدِينَة، وَذهب الشَّافِعِي
إِلَى أَنه لَا يجوز الْفطر فِي ذَلِك الْيَوْم،
وَإِنَّمَا يجوز لمن طلع عَلَيْهِ الْفجْر فِي السّفر،
قَالَ أَبُو عمر: اخْتلفُوا فِي الَّذِي يخرج فِي سَفَره.
وَقد بَيت الصَّوْم، فَقَالَ مَالك: عَلَيْهِ الْقَضَاء
وَلَا كَفَّارَة فِيهِ، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد والطبري وَالْأَوْزَاعِيّ،
وَللشَّافِعِيّ قَول آخر: أَنه يكفر إِن جَامع.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله والْكَدِيدُ ماءٌ بيْنَ عُسْفَانَ
وقُدِيدٍ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَنسبَة هَذَا
التَّفْسِير للْبُخَارِيّ وَقعت فِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي
مَوْصُولا من وَجه آخر فِي نفس الحَدِيث.
5491 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثني
يَحْيَى بنُ حَمْزَةَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ يَزِيدَ
بنِ جابِرٍ أنَّ إسْمَاعِيلَ بنَ عُبَيْدِ الله حَدَّثَهُ
عنْ أمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي بعْضَ أسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حارٍّ
حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلى رَأسِهِ مِنْ شِدَّةِ
الحَرِّ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ مَا كَانَ مِنَ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وابنِ رَوَاحَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن الصَّوْم
والإفطار فِي السّفر لَو لم يَكُونَا مباحين لما صَامَ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَابْن رَوَاحَة،
وَأفْطر الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد
وَقع على رَأس هَذَا الحَدِيث لفظ: بَاب كَذَا، مُجَردا
عَن تَرْجَمَة عِنْد الْأَكْثَرين، وَسقط من رِوَايَة
النَّسَفِيّ.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن يُوسُف
التنيسِي. الثَّانِي: يحيى بن حَمْزَة الدِّمَشْقِي، مَاتَ
سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: عبد
الرَّحْمَن بن يزِيد بن جَابر الشَّامي، مَاتَ سنة ثَلَاث
وَخمسين وَمِائَة.
(11/46)
الرَّابِع: إِسْمَاعِيل بن عبيد الله
مُصَغرًا، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة.
الْخَامِس: أم الدَّرْدَاء الصُّغْرَى، وَاسْمهَا: هجيمة،
وَهِي تابعية، وَأم الدَّرْدَاء الْكُبْرَى اسْمهَا: خيرة،
وَهِي صحابية، وكلتاهما زوجتا أبي الدَّرْدَاء، وَقَالَ
ابْن الْأَثِير: قد جعل ابْن مَنْدَه وَأَبُو نعيم كلتيهما
وَاحِدَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَقَالَ أَبُو مسْهر أَيْضا:
هما وَاحِدَة، وَهُوَ وهمٌ مِنْهُ، وَالصَّحِيح مَا
ذَكرْنَاهُ. السَّادِس: أَبُو الدَّرْدَاء، واسْمه
عُوَيْمِر بن مَالك الْأنْصَارِيّ الخزرجي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن
شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم
شَامِيُّونَ سوى شيخ البُخَارِيّ، وَقد دخل الشَّام.
وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصَّحَابِيّ وَالزَّوْجَة
عَن زَوجهَا، وَفِيه: عَن أم الدَّرْدَاء، وَفِي رِوَايَة
أبي دَاوُد من طَرِيق سعيد بن عبد الْعَزِيز عَن
إِسْمَاعِيل بن عبيد الله: حَدَّثتنِي أم الدَّرْدَاء.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّوْم عَن
دَاوُد بن رشيد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُؤَمل بن
الْفضل الْحَرَّانِي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض أَسْفَاره) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم
من طَرِيق سعيد بن عبد الْعَزِيز: (خرجنَا مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شهر رَمَضَان فِي حر
شَدِيد. .) الحَدِيث، وَفِي هَذِه الزِّيَادَة
فَائِدَتَانِ: أولاهما: أَن المُرَاد يتم بِهِ من
الِاسْتِدْلَال، وَالْأُخْرَى: يرد بهَا على ابْن حزم فِي
قَوْله: لَا حجَّة فِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء لاحْتِمَال
أَن يكون ذَلِك الصَّوْم تَطَوّعا، لَا يظنّ أَن هَذِه
السفرة سفرة الْفَتْح، لِأَن فِي هَذِه السفرة كَانَ عبد
الله بن رَوَاحَة مَعَه، وَقد اسْتشْهد هُوَ بمؤتة قبل
غَزْوَة الْفَتْح. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَيحْتَمل
أَن تكون هَذِه السفرة سفرة بدر لِأَن التِّرْمِذِيّ روى
عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، غزونا مَعَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي رَمَضَان يَوْم بدر،
وَالْفَتْح، قَالَ: وأفطرنا فيهمَا، وَالتِّرْمِذِيّ بوب
بَابَيْنِ: أَحدهمَا: فِي كَرَاهِيَة الصَّوْم فِي السّفر،
وَالْآخر: مَا جَاءَ فِي الرُّخْصَة فِي الصَّوْم فِي
السّفر. وَأخرج فِي الْبَاب الأول حَدِيث جَابر بن عبد
الله: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خرج
إِلَى مَكَّة عَام الْفَتْح فصَام حَتَّى بلغ كرَاع
الغميم، وَصَامَ النَّاس مَعَه، فَقيل لَهُ: إِن النَّاس
قد شقّ عَلَيْهِم الصّيام، وَإِن النَّاس ينظرُونَ فِيمَا
فعلت، فَدَعَا بقدح من مَاء بعد الْعَصْر، فَشرب وَالنَّاس
ينظرُونَ إِلَيْهِ فَأفْطر بَعضهم وَصَامَ بَعضهم،
فَبَلغهُ أَن نَاسا صَامُوا، فَقَالَ أُولَئِكَ العصاة) .
وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا. وَأخرج فِي الْبَاب
الثَّانِي حَدِيث عَائِشَة عَن حَمْزَة بن عَمْرو
الْأَسْلَمِيّ، وَقد مر فِيمَا مضى عَن قريب، وَقَالَ فِي
الْبَاب الأول: وَقَوله: (حِين بلغ، بلغه أَن نَاسا
صَامُوا: أُولَئِكَ العصاة) . فَوجه هَذَا إِذا لم يحْتَمل
قلبه قبُول رخصَة الله تَعَالَى، فَأَما من رأى الْفطر
مُبَاحا وَصَامَ وَقَوي على ذَلِك فَهُوَ أعجب إِلَيّ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ مَحْمُول على أَن من تضرر
بِالصَّوْمِ، أَو أَنهم أمروا بِالْفطرِ أمرا جَازِمًا
لمصْلحَة بَيَان جَوَازه، فخالفوا الْوَاجِب. قَالَ: وعَلى
التَّقْدِيرَيْنِ لَا يكون الصَّائِم الْيَوْم فِي السّفر
عَاصِيا إِذا لم يتَضَرَّر بِهِ. فَإِن قلت: كَيفَ صَامَ
بعض الصَّحَابَة؟ بل أفضلهم وَهُوَ أَبُو بكر وَعمر رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على مَا فِي حَدِيث أبي
هُرَيْرَة الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة
الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى عَن أبي سَلمَة عَنهُ، قَالَ:
(أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِطَعَام بمر
الظهْرَان، فَقَالَ لأبي بكر وَعمر: أدنيا فكلا، فَقَالَا:
إِنَّا صائمان. قَالَ: أرحِلُوا لصاحبيكم، إعملوا
لصاحبيكم) . انْتهى. بعد أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَهُم بالإفطار. قلت: لَيْسَ فِي حَدِيث جَابر أَنه أَمرهم
بالإفطار، وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْد من خرج من الْأَئِمَّة
السِّتَّة وَأَنَّهُمْ صَامُوا بعد إفطار النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَأما صَوْم أبي بكر وَعمر بمر
الظهْرَان فَهُوَ بعد عسفان وكراع الغميم، فَلَيْسَ فِيهِ
أَن هَذَا كَانَ فِي غَزْوَة الْفَتْح، هَذِه، وَإِن كَانَ
الظَّاهِر أَنه فِيهَا، فَإِنَّهُمَا فهما أَن فطره صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ترخصا ورفقا بهم، وظنا أَن بهما
قُوَّة على الصّيام، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَالله أعلم، حسم ذَلِك لِئَلَّا يَقْتَدِي بهما
أحد، فَأَمرهمَا بالإفطار.
63 - (بابُ قَولِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمَنْ
ظُلِّلَ عَلَيْهِ واشْتَدَّ الحَرُّ لَيْسَ مِنَ البِرِّ
الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم للرجل الَّذِي ظللوا عَلَيْهِ بِشَيْء
مِمَّا لَهُ ظلّ لشدَّة الْحر. قَوْله: (وَاشْتَدَّ الْحر)
، جملَة
(11/47)
فعلية وَقعت حَالا. قَوْله: (لَيْسَ من
الْبر) مقول القَوْل، وَلَفظ الحَدِيث يظْهر من هَذَا أَن
السَّبَب لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هَذَا هُوَ
الْمَشَقَّة) ، وَالْبر، بِكَسْر الْبَاء: الطَّاعَة،
يَعْنِي: لَيْسَ من الطَّاعَة وَالْعِبَادَة أَن تَصُومُوا
فِي حَالَة السّفر، وَالْبر أَيْضا الْإِحْسَان
وَالْخَيْر، وَمِنْه: بر الْوَالِدين، يُقَال: بر يبر
فَهُوَ بار، وَجمعه: بررة، وَجمع الْبر بِفَتْح الْبَاء:
أبرار، وَالْبر، بِالْفَتْح: الحيد وَالْخَيْر، وَمِنْه
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صلوا خلف كل بر
وَفَاجِر) . وَيَجِيء بِمَعْنى الْمَعْطُوف، وَفِي أَسمَاء
الله تَعَالَى: الْبر العطوف على عباده ببره ولطفه،
وَالْبر والبار بِمَعْنى، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي إسم الله
تَعَالَى: الْبر، دون: الْبَار، وَالْبر بِالْفَتْح أَيْضا
خلاف الْبَحْر، وَجمعه: برور، وَيُقَال: إِن كلمة: من، فِي
قَوْله: (لَيْسَ من الْبر) زَائِدَة أَي: لَيْسَ الْبر،
كَمَا فِي قَوْلهم: مَا جَاءَنِي من أحد. أَي: مَا
جَاءَنِي أحدٌ، وَلَا خلاف فِي زِيَادَة: من، فِي
النَّفْي، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْإِثْبَات،
فَأَجَازَهُ قوم وَمنعه آخَرُونَ.
6491 - حدَّثنا آدمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا
مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرحْمانِ الأنْصَارِي قَالَ
سَمِعْتُ محَمَّدَ بنَ عَمْرِو بنِ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ
عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهمْ
قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ
فَرَأى زِحاما ورَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ علَيْهِ فَقَالَ مَا
هَذا فقالُوا صائِمٌ فَقَالَ لَيْسَ مِنَ البِرِّ
الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة قِطْعَة
من الحَدِيث وَرِجَاله مَشْهُورُونَ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم من حَدِيث مُحَمَّد بن عَمْرو بن
الْحسن (عَن جَابر، قَالَ: كَانَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِي سفر. فَرَأى رجلا قد اجْتمع عَلَيْهِ
النَّاس وَقد ظلل عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَهُ؟ قَالُوا:
رجل صَائِم. فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لَيْسَ من الْبر أَن تَصُومُوا فِي السّفر) . وَفِي
لفظ لَهُ فِي آخِره، قَالَ شُعْبَة: وَكَانَ يبلغنِي عَن
يحيى بن أبي كثير أَنه كَانَ يزِيد فِي هَذَا الحَدِيث،
وَفِي هَذَا الْإِسْنَاد أَنه قَالَ: (عَلَيْكُم بِرُخْصَة
الله الَّذِي رخص لكم. قَالَ: فَلَمَّا سَأَلته لم يحفظه)
. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو
الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، يَعْنِي ابْن أسعد بن
زُرَارَة عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن الْحسن (عَن جَابر:
أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رأى رجلا يظلل
عَلَيْهِ والزحام عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَيْسَ من الْبر
الصّيام فِي السّفر) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَقَالَ:
أَخْبرنِي شُعَيْب بن شُعَيْب بن إِسْحَاق، قَالَ: حَدثنَا
عبد الْوَهَّاب بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا شُعَيْب عَن
الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: حَدثنِي يحيى بن أبي كثير، قَالَ:
أَخْبرنِي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: أَخْبرنِي
جَابر بن عبد الله (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مر بِرَجُل إِلَى ظلّ شَجَرَة يرش عَلَيْهِ المَاء،
قَالَ: مَا بَال صَاحبكُم هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُول الله
صَائِم. قَالَ: لَيْسَ من الْبر أَن تَصُومُوا فِي السّفر،
وَعَلَيْكُم بِرُخْصَة الله الَّتِي رخص لكم فاقبلوها) .
وَفِي الْبَاب عَن ابْن عمر رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من
رِوَايَة نَافِع عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (فيس من الْبر الصّيام فِي السّفر) ،
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن مصفي الْحِمصِي ...
إِلَى آخِره نَحوه، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث
كَعْب بن مَالك بن عَاصِم الْأَشْعَرِيّ أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَيْسَ من الْبر أَن
تَصُومُوا فِي السّفر) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن
مَاجَه وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) . وروى
الطَّحَاوِيّ أَيْضا، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن
النُّعْمَان، قَالَ: حَدثنَا الْحميدِي قَالَ: حَدثنَا
سُفْيَان، قَالَ: سَمِعت الزُّهْرِيّ يَقُول: أَخْبرنِي
صَفْوَان بن عبد الله ... الحَدِيث. قَالَ سُفْيَان: فَذكر
لي أَن الزُّهْرِيّ كَانَ يَقُول: وَلم أسمع أَنا مِنْهُ:
(لَيْسَ من أمبرا مصيام فِي امسفر) ، قَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ هِيَ لُغَة طَيء فَإِنَّهُم يبدلون
اللَّام ميما. وروى ابْن عدي من حَدِيث عَطاء عَن ابْن
عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لَيْسَ من الْبر الصَّوْم فِي السّفر) ، وَفِيه
مقَال. وروى ابْن عدي أَيْضا من حَدِيث مَيْمُون بن
مهْرَان عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: (لَيْسَ من الْبر الصَّوْم فِي السّفر) ،
وَفِيه مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْعُكَّاشِي، وَهُوَ مُنكر
الحَدِيث. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: ذهب قوم إِلَى هَذِه
الْأَحَادِيث، وَقَالُوا: الْإِفْطَار فِي شهر رَمَضَان
فِي السّفر أفضل من الصّيام قلت: أَرَادَ بالقوم
هَؤُلَاءِ: سعيد بن جُبَير وَابْن الْمسيب وَعمر بن عبد
الْعَزِيز وَالشعْبِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَقَتَادَة
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى
مَذَاهِب الْعلمَاء.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر) ، ظهر من رِوَايَة التِّرْمِذِيّ
عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر أَنَّهَا
(11/48)
غَزْوَة الْفَتْح لِأَنَّهُ صرح فِيهِ
بقوله: (خرج إِلَى مَكَّة عَام الْفَتْح) الحَدِيث.
قَوْله: (ورجلاً قد ظلل عَلَيْهِ) وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) : وَالرجل المجهود فِي الصَّوْم هُنَا، قيل:
هُوَ أَبُو إِسْرَائِيل، ذكر الْخَطِيب فِي كتاب
(المبهمات) : (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَآهُ
يهادي بَين ابنيه، وَقد ظلّ عَلَيْهِ، فَسَأَلَ عَنهُ،
فَقَالُوا: نذر أَن يمشي إِلَى بَيت الله الْحَرَام،
فَقَالَ: إِن الله لَغَنِيّ عَن تَعْذِيب هَذَا نَفسه،
مروه فليمش وليركب) . وَفِي مُسْند أَحْمد مَا يشْعر
بِأَنَّهُ غير المظلل عَلَيْهِ، وَهُوَ: (أَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دخل الْمَسْجِد وَأَبُو
إِسْرَائِيل يُصَلِّي، فَقيل للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: هُوَ ذَا يَا رَسُول الله، لَا يقْعد وَلَا يكلم
النَّاس وَلَا يستظل وَلَا يفْطر، فَقَالَ: ليقعد وليتكلم
وليستظل وليفطر) . وَقَالَ بَعضهم: زعم مغلطاي أَنه أَبُو
إِسْرَائِيل، وعزى ذَلِك (بمبهمات الْخَطِيب) ، وَلم يقل
الْخَطِيب ذَلِك فِي هَذِه الْقِصَّة، ثمَّ أَطَالَ
الْكَلَام بِمَا لَا يفِيدهُ، فَكيف يَقُول: زعم مغلطاي،
وَهُوَ لم يزْعم ذَلِك؟ وَإِنَّمَا قَالَ: قيل: هُوَ أَبُو
إِسْرَائِيل، ثمَّ قَالَ أَيْضا: وَفِي (مُسْند) أَحْمد
مَا يشْعر أَنه غَيره، وَبَين ذَلِك، فَهَذَا مُجَرّد
تشنيع عَلَيْهِ مَعَ ترك محَاسِن الْأَدَب فِي ذكره
بِصَرِيح اسْمه، وَلَيْسَ هَذَا من دأب الْعلمَاء. وَقَالَ
صَاحب (التَّوْضِيح) عِنْدَمَا ينْقل عَنهُ شَيْئا، قَالَ
شَيخنَا عَلَاء الدّين. قَوْله: (قد ظلل عَلَيْهِ) على
صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: فَقَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا للرجل؟) يَعْنِي:
مَا شَأْنه؟ وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (مَا بَال
صَاحبكُم هَذَا؟) قَوْله: (لَيْسَ من الْبر الصَّوْم فِي
السّفر) ، قد مر تَفْسِير الْبر آنِفا، وَتمسك بعض أهل
الظَّاهِر بِهَذَا، وَقَالَ: إِذا لم يكن من الْبر فَهُوَ
من الْإِثْم، فَدلَّ أَن صَوْم رَمَضَان لَا يجزىء فِي
السّفر. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: هَذَا الحَدِيث خرج لَفظه
على شخص معِين، وَهُوَ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث،
وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ الْبر أَن يبلغ الْإِنْسَان بِنَفسِهِ
هَذَا الْمبلغ، وَالله قد رخص فِي الْفطر، وَالدَّلِيل على
صِحَة هَذَا التَّأْوِيل صَوْمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي السّفر فِي شدَّة الْحر، وَلَو كَانَ إِثْمًا لَكَانَ
أبعد النَّاس مِنْهُ، أَو يُقَال: لَيْسَ هُوَ أبر الْبر،
لِأَنَّهُ قد يكون الْإِفْطَار أبر مِنْهُ للقوة فِي
الْحَج وَالْجهَاد وشبههما. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَي:
لَيْسَ من الْبر الْوَاجِب.
قيل: هَذَا التَّأْوِيل إِنَّمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من قطع
الحَدِيث عَن سَببه وَحمله على عُمُومه، وَأما من حمله على
الْقَاعِدَة الشَّرْعِيَّة فِي رفع مَا لَا يُطَاق عَن
هَذِه الْأمة. فبأن للْمَرِيض الْمُقِيم وَمن أجهده
الصَّوْم أَن يفْطر، فَإِن خَافَ على نَفسه التّلف من
الصَّوْم عصى بصومه، وعَلى هَذَا يحمل قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (أُولَئِكَ العصاة) ، وَأما من كَانَ على
غير حَال المظلل عَلَيْهِ فَحكمه مَا تقدم من التَّخْيِير،
وَبِهَذَا يرْتَفع التَّعَارُض، وتجتمع الْأَدِلَّة وَلَا
يحْتَاج إِلَى فرض نسخ، إِذْ لَا تعَارض. فَإِن قلت: روى
النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي أُميَّة الضمرِي فِيهِ:
(فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله
وضع عَن الْمُسَافِر الصّيام وَنصف الصَّلَاة) ، وروى
أَيْضا من حَدِيث (عبد الله بن الشخير، قَالَ: كنت
مُسَافِرًا فَأتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهُوَ يَأْكُل وَأَنا صَائِم، فَقَالَ: هَلُمَّ! فَقلت:
إِنِّي صَائِم. قَالَ: أَتَدْرِي مَا وضع الله، عز وَجل،
عَن الْمُسَافِر؟ قلت: وَمَا وضع الله عَن الْمُسَافِر؟
قَالَ: الصَّوْم وَشطر الصَّلَاة. قلت: يجوز أَن يكون
ذَلِك الصّيام الَّذِي وَضعه عَنهُ هُوَ الصّيام الَّذِي
لَا يكون لَهُ مِنْهُ بُد فِي تِلْكَ الْأَيَّام، كَمَا
لَا بُد للمقيم من ذَلِك.
73 - (بَاب لم يعب أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بَعضهم بَعْضًا فِي الصَّوْم والإفطار)
أَي هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لم يعب ... ألى آخِره أَرَادَ
يَعْنِي فِي الْأَسْفَار
54 - (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن حميد
الطَّوِيل عَن أنس بن مَالك قَالَ كُنَّا نسافر مَعَ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلم يعب
الصَّائِم على الْمُفطر وَلَا الْمُفطر على الصَّائِم)
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنَّهَا بعض متن
الحَدِيث. وَأخرجه مُسلم قَالَ حَدثنَا يحيى بن يحيى قَالَ
أخبرنَا أَبُو خَيْثَمَة " عَن حميد قَالَ سُئِلَ أنس عَن
صَوْم رَمَضَان فِي السّفر فَقَالَ سافرنا مَعَ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي رَمَضَان
فَلم يعب الصَّائِم على الْمُفطر وَلَا الْمُفطر على
الصَّائِم " وَحدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة قَالَ
حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر " عَن حميد قَالَ خرجت
فَصمت فَقَالُوا لي أعد " (فَإِن قلت) أَن أنسا أَخْبرنِي
" أَن أَصْحَاب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - كَانُوا يسافرون فَلَا يعيب الصَّائِم على
الْمُفطر وَلَا الْمُفطر على الصَّائِم فَلَقِيت ابْن أبي
مليكَة فَأَخْبرنِي عَن عَائِشَة بِمثلِهِ " وروى مُسلم
أَيْضا " عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَجَابِر بن عبد الله
قَالَا سافرنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - فيصوم الصَّائِم وَيفْطر الْمُفطر فَلَا يعيب
بَعضهم على بعض "
(11/49)
وَفِي لفظ لَهُ عَن أبي سعيد مطولا وَفِيه
" فَقَالَ إِنَّكُم مصبحوا عَدوكُمْ وَالْفطر أنوى لكم
فأفطروا وَكَانَت عَزِيمَة فأفطرنا ثمَّ لقد رَأَيْتنَا
نَصُوم مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - بعد ذَلِك فِي السّفر ". وَقَوله " لقد
رَأَيْتنَا " أَي رَأَيْت أَنْفُسنَا وَهَذَا الحَدِيث
حجَّة على من زعم أَن الصَّائِم فِي السّفر لَا يجْزِيه
صَوْمه لِأَن تَركهم لإنكار الصَّوْم وَالْفطر يدل على أَن
ذَلِك عِنْدهم من الْمُتَعَارف الْمَشْهُور الَّذِي تجب
الْحجَّة بِهِ -
83 - (بابُ منْ أفْطَرَ فِي السَّفَرِ لِيَرَاهُ الناسُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَأْن الَّذِي أفطر فِي السّفر
ليراه النَّاس فيقتدوا بِهِ، ويفطرون بفطره، وَيفهم مِنْهُ
أَن أَفضَلِيَّة الْفطر لَا تخْتَص بِمن تعرض لَهُ
الْمَشَقَّة إِذا صَامَ، أَو بِمن يخْشَى الْعجب، والرياء،
أَو بِمن يظنّ بِهِ أَنه رغب عَن الرُّخْصَة. بل إِذا رأى
من يَقْتَدِي بِهِ أفطر يفْطر هُوَ أَيْضا، وَذَلِكَ لِأَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أفطر فِي
السّفر ليراه النَّاس فيقتدوا بِهِ، ويفطرون، لِأَن
الصّيام كَانَ أضرهم، فَأَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الرِّفْق بهم والتيسير عَلَيْهِم أخذا بقوله تَعَالَى:
{يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر}
(الْبَقَرَة: 581) . فَأخْبر الله تَعَالَى أَن
الْإِفْطَار فِي السّفر أَرَادَهُ للتيسير على عباده، فَمن
اخْتَار رخصَة الله فَأفْطر فِي سَفَره أَو مَرضه لم يكن
معنفا، وَمن اخْتَار الصَّوْم وَهُوَ يسير عَلَيْهِ فَهُوَ
أفضل لوُرُود الْأَخْبَار بصومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي السّفر.
8491 - حدَّثنا موسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو
عَوَانَةَ عنْ مَنْصُورٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طَاوُوسٍ عنِ
ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ خرَجَ
رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ المَدِينَةِ
إلَى مَكَّةَ فصَامَ حَتَّى بلَغَ عُسْفَانَ ثُمَّ دَعا
بِماءٍ فرَفَعَهُ إلَى يَدَيْهِ لِيُرِيهِ النَّاسَ
فأفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ وذَلِكَ فِي رَمضَانَ
فَكَانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ قَد صامَ رسُولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وأفْطرَ فَمَنْ شَاءَ صامَ ومَنْ شاءَ
أفْطَرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ دَعَا بِمَاء
فرفعه إِلَى يَدَيْهِ ليريه النَّاس فَأفْطر) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو
عوَانَة، بِالْفَتْح: الوضاح الْيَشْكُرِي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَربع مَوَاضِع، وَفِيه:
القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَأَن
أَبَا عوَانَة واسطي وَأَن منصورا كُوفِي وَأَن مُجَاهدًا
مكي وَأَن طاووسا يماني. وَفِيه: مُجَاهِد عَن طَاوُوس من
رِوَايَة الأقران. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن
التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: عَن مُجَاهِد عَن
طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس وَأخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق
شُعْبَة عَن مَنْصُور، فَلم يذكر طاووسا فِي الْإِسْنَاد،
وَكَذَا أخرجه من طَرِيق الحكم عَن مُجَاهِد عَن ابْن
عَبَّاس، وَالْوَجْه فِيهِ أَن مُجَاهدًا أَخذه أَولا عَن
طَاوُوس ثمَّ لَقِي ابْن عَبَّاس فَأَخذه عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عَليّ بن عبد الله، وَأخرجه
مُسلم فِي الصَّوْم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن قدامَة عَن
جرير بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن رَافع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عسفان) ، قد مر تَفْسِيره عَن
قريب. قَوْله: (فرفعه إِلَى يَدَيْهِ) أَي: رفع المَاء
إِلَى غَايَة طول يَدَيْهِ، وَهُوَ حَال. أَو فِيهِ تضمين
أَي: انْتهى الرّفْع إِلَى أقْصَى غايتها. وَقَالَ بَعضهم:
فرفعه إِلَى يَدَيْهِ كَذَا فِي الْأُصُول الَّتِي وقفت
عَلَيْهَا من البُخَارِيّ، وَهُوَ مُشكل لِأَن الرّفْع
إِنَّمَا يكون بِالْيَدِ، ثمَّ نقل مَا قَالَه
الْكرْمَانِي وَهُوَ مَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ قَالَ: وَقد
وَقع عِنْد أبي دَاوُد عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة
بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور فِي البُخَارِيّ: (فرفعه إِلَى
فِيهِ) . وَهَذَا أوضح، وَلَعَلَّ الْكَلِمَة تَصْحِيف.
انْتهى. قلت: لَا إِشْكَال هَهُنَا أصلا وَلَا تَصْحِيف.
وَهَذَا وهم فَاسد، وَذَلِكَ لِأَن المُرَاد من الرّفْع
هَهُنَا هُوَ أَن يرفعهُ جدا طول يَدَيْهِ حَتَّى يَعْلُو
إِلَى فَوق ليراه النَّاس، وَلَيْسَ المُرَاد مُجَرّد
الرّفْع بِالْيَدِ من الأَرْض، أَو من يَد الْأَكْبَر،
لِأَنَّهُ بِمُجَرَّد الرّفْع لَا يرَاهُ النَّاس. قَوْله:
(ليراه النَّاس) ، بِرَفْع: النَّاس، لِأَنَّهُ فَاعل:
يرى، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ مَفْعُوله، وَهَكَذَا
هُوَ
(11/50)
فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي: (ليريه النَّاس) ، وَاللَّام فِيهِ
للتَّعْلِيل فِي الْوَجْهَيْنِ. و: النَّاس، مَنْصُوب
لِأَنَّهُ مفعول ثانٍ لِأَن: ليريه، بِضَم الْيَاء من
الإراءة وَهِي تستدعي مفعولين كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
وقصة هَذَا الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج
إِلَى مَكَّة عَام الْفَتْح فِي رَمَضَان، فصَام النَّاس،
فَقيل لَهُ: إِن النَّاس قد شقّ عَلَيْهِم الصَّوْم،
وَإِنَّمَا ينتظرون إِلَى فعلك. فَدَعَا بقدح من مَاء،
فرفعه حَتَّى ينظر النَّاس إِلَيْهِ فيقتدوا بِهِ فِي
الْإِفْطَار، لِأَن الصّيام أضرّ بهم، فَأَرَادَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّيْسِير عَلَيْهِم،
وَكَانَ لَا يُؤمن عَلَيْهِم الضعْف والوهن فِي حربهم حِين
لِقَاء عدوهم. |