عمدة القاري شرح صحيح البخاري

21 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {أنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسِبْتُمْ} (الْبَقَرَة: 762) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {أَنْفقُوا من طَيّبَات مَا كسبتم} (الْبَقَرَة: 762) . من حلالات كسبكم، وَعَن مُجَاهِد المُرَاد بهَا التِّجَارَة، وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّه وَقع فِي الأَصْل: كلوا، بدل: أَنْفقُوا، وَقَالَ: إِنَّه غلط. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَفِي بعض النّسخ: {كلوا من طَيّبَات مَا كسبتم} فَالْأول التِّلَاوَة، وَكَانَ الثَّانِي من طغيان الْقَلَم.

5602 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبِي وَائِلٍ عَن مَسْرُوقٍ عَن عائشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أنْفَقَتِ المَرْأةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مفْسِدَةٍ كانَ لَهَا أجْرُها بِما أنْفَقَتْ ولِزَوْجِهَا بِما كَسَبَ ولِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لاَ يَنْقُصْ بَعْضُهُمْ أجْرَ بَعْضٍ شيْئا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بِمَا كسب) ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب أجر الْمَرْأَة إِذا تَصَدَّقت، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من ثَلَاث طرق. الأول: عَن آدم عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور وَالْأَعْمَش عَن أبي وَائِل عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. الثَّانِي: عَن عمر بن حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق عَن مَسْرُوق عَنْهَا. وَالثَّالِث: عَن يحيى بن يحيى عَن

(11/179)


جرير عَن مَنْصُور عَن شَقِيق عَن مَسْرُوق عَنْهَا. وَهنا أخرجه: عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة أخي أبي بكر بن أبي شيبَة عَن جرير ابْن عبد الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن أبي وَائِل عَن شَقِيق عَن مَسْرُوق بن الأجدع عَنْهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (غير مفْسدَة) أَي: غير منفقة فِي وَجه لَا يحل.

6602 - حدَّثني يَحْيَى بنُ جَعْفَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عَن هَمَّامٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا أنفَقَتِ المَرْأةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عنْ غَيْرِ أمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أجْرِهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من كسب زَوجهَا) ، فَإِن كَسبه من التِّجَارَة وَغَيرهَا، وَهُوَ مَأْمُور بِأَن ينْفق من طَيّبَات مَا كسب. وَيحيى بن جَعْفَر بن أعين أَبُو زَكَرِيَّا البُخَارِيّ البيكندي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَعبد الرَّزَّاق ابْن همام الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ، وَمعمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد، وَهَمَّام بن مُنَبّه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن يحيى فِي النَّفَقَات. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ الْخلال، كلهم عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ.
قَوْله: (من غير أمره) أَي: من غير أَمر الزَّوْج. قَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ يكون لَهَا أجر وَهُوَ بِغَيْر أَمر الزَّوْج؟ فَأجَاب: بقوله: قد يكون بِإِذْنِهِ وَلَا يكون بأَمْره، ثمَّ قَالَ: قد تقدم أَنه لَا ينقص بَعضهم أجر بعض فَلم يكن لَهُ النّصْف؟ ثمَّ أجَاب بقوله: ذَلِك فِيمَا كَانَ بأَمْره أَو أجرهَا هُوَ نصف الْأجر وَلَا ينقص عَمَّا هُوَ أجره الَّذِي هُوَ النّصْف. وَقَالَ ابْن التِّين: الحديثان غير متناقضين، وَذَلِكَ أَن قَوْله: (لَهَا نصف أجره) ، يُرِيد أَن أجر الزَّوْج وَأجر مناولة الزَّوْجَة يَجْتَمِعَانِ فَيكون للزَّوْج النّصْف وللمرأة النّصْف، فَذَلِك النّصْف هُوَ أجرهَا كُله، وَالنّصف الَّذِي للزَّوْج هُوَ أجره كُله وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ هُوَ على الْمجَاز أَي أَنَّهُمَا سَوَاء فِي المثوبة كل وَاحِد مِنْهَا لَهُ أجر كَامِل وهما اثْنَان فكأنهما نِصْفَانِ، وَقيل: يحْتَمل أَن أجرهما مثلان، فَأشبه الشَّيْء المنقسم بنصفين.

31 - (بابُ مَنْ أحَبَّ الْبَسْطَ فِي الرِّزْقِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أحب الْبسط، أَي: التَّوَسُّع فِي الرزق، وَجَوَاب: من، مَحْذُوف، يَعْنِي: مَاذَا يفعل؟ وأوضحه فِي الحَدِيث بِأَن من أحب هَذَا فَليصل رَحمَه.

7602 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبِي يَعْقُوبَ الْكِرْمانيُّ قَالَ حَدثنَا حَسَّانُ قَالَ حدَّثنا يُونُسُ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدٌ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ منْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ أوْ يُنْسأ لَهُ فِي أثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يوضحها وَيبين جوانبها.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن أبي يَعْقُوب، واسْمه إِسْحَاق وكنية مُحَمَّد أَبُو عبد الله. الثَّانِي: حسان، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ: ابْن إِبْرَاهِيم أَبُو هِشَام الْعَنزي، بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالنُّون المفتوحتين، وبالزاي: قَاضِي كرمان، مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَله مائَة سنة. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع وَالْقَوْل. وَفِيه: أَن شَيْخه وَحسان كرمانيان، وكرمان صقع كَبِير بَين فَارس وسجستان ومكران، وَقَالَ النَّوَوِيّ: كرمان إسم لتِلْك الديار الَّتِي قصبتها برد سير وَقد غلب على برد سير حَتَّى كَانَت مقصد القوافل والملوك والعساكر. قلت: برد سير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الدَّال وَكسر السِّين المهملات وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء. وَقَالَ النَّوَوِيّ: كرمان، بِفَتْح الْكَاف. وَقَالَ الْكرْمَانِي الشَّارِح بِكَسْرِهَا، قَالَ: هُوَ بلدنا وَأهل الْبَلَد أعلم باسم بلدهم من غَيرهم، وهم متفقون على كسرهَا، وساعد بَعضهم النَّوَوِيّ فَقَالَ: لَعَلَّ الصَّوَاب فِيهَا فِي الأَصْل الْفَتْح ثمَّ كثر اسْتِعْمَالهَا بِالْكَسْرِ تغييرا من الْعَامَّة. قلت:

(11/180)


ضبط هَذَا بِالْوَجْهَيْنِ، وَلَكِن الَّذِي ذكره الْكرْمَانِي هُوَ الأصوب لِأَنَّهُ ادّعى اتِّفَاق أهل بَلَده على الْكسر، وَمَعَ هَذَا لَيْسَ هَذَا مَحل المناقشة، وَلَا يبْنى على الْكسر وَلَا على الْفَتْح حكم.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن حَرْمَلَة بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الزَّكَاة عَن أَحْمد بن صَالح وَيَعْقُوب بن كَعْب الْأَنْطَاكِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن يحيى بن الْوَزير.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من سره) أَي: من أفرحه. قَوْله: (أَن يبسط) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: سره، يبسط، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَو ينسأ) ، بِضَم الْيَاء وَسُكُون النُّون بعْدهَا سين مُهْملَة ثمَّ همزَة، أَي: يُؤَخر لَهُ، وَهُوَ من الإنساء وَهُوَ التَّأْخِير. قَوْله: (فِي أَثَره) أَي: فِي بَقِيَّة أثر عمره. قَالَ زُهَيْر:
(والمرء مَا عَاشَ مَمْدُود لَهُ أملٌ ... لَا يَنْتَهِي الْعَيْش حَتَّى يَنْتَهِي الْأَثر)

أَي: مَا بَقِي لَهُ من الْعُمر. قَوْله: (فَليصل رَحمَه) ، جَوَاب: من، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء.
وَاخْتلفُوا فِي الرَّحِم، فَقيل: كل ذِي رحم محرم. وَقيل: وَارِث. وَقيل: هُوَ الْقَرِيب، سَوَاء كَانَ محرما أَو غَيره، وَوصل الرَّحِم تشريك ذَوي الْقُرْبَى فِي الْخيرَات، وَهُوَ قد يكون بِالْمَالِ وبالخدمة وبالزيارة وَنَحْوهَا. وَقَالَ عِيَاض: لَا خلاف أَن صلَة الرَّحِم وَاجِبَة فِي الْجُمْلَة، وقطيعتها مَعْصِيّة كَبِيرَة، وَالْأَحَادِيث تشهد لهَذَا، وَلَكِن للصلة دَرَجَات بَعْضهَا أرفع من بعض، وَأَدْنَاهَا ترك المهاجرة وصلتها بالْكلَام وَلَو بِالسَّلَامِ، وَيخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف الْقُدْرَة وَالْحَاجة، فَمِنْهَا وَاجِب، وَمِنْهَا مُسْتَحبّ. وَلَو وصل بعض الصِّلَة وَلم يصل غايتها لَا يُسمى قَاطعا، وَلَو قصر عَمَّا يقدر عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَن يسم واصلاً.
وَفِي كتاب (التَّرْغِيب والترهيب) لِلْحَافِظِ أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ: روى من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إِنِّي رَأَيْت البارحة عجبا، رَأَيْت رجلا من أمتِي أَتَاهُ ملك الْمَوْت، عَلَيْهِ السَّلَام، ليقْبض روحه فَجَاءَهُ بر وَالِده فَرد ملك الْمَوْت عَنهُ) . الحَدِيث، وَقَالَ: هُوَ حسن جدا. وروى من حَدِيث دَاوُد ابْن المحبر عَن عباد عَن سهل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ابْن آدم {اتقِ رَبك، وبر والديك، وصل رَحِمك يمد لَك فِي عمرك وييسر لَك يَسُرك، ويجنب عسرك وييسر لَك فِي رزقك) . وَمن حَدِيث دَاوُد بن عدي بن عَليّ عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن صلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمر) . وَمن حَدِيث عبد الله بن الْجَعْد عَن ثَوْبَان قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يزِيد فِي الْعُمر إلاَّ بر الْوَالِدين، وَلَا يزِيد فِي الرزق إلاَّ صلَة الرَّحِم) . وَمن حَدِيث إِبْرَاهِيم السَّامِي عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن، أَخْبرنِي أبي عَن جدي (عَن عَليّ أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَوْله: {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} (الرَّعْد: 93) . فَقَالَ: هِيَ الصَّدَقَة على وَجههَا وبر الْوَالِدين واصطناع الْمَعْرُوف وصلَة الرَّحِم تحول الشَّقَاء سَعَادَة، وتزيد فِي الْعُمر وتقي مصَارِع السوء. (زَاد مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْعُكَّاشِي عَن الْأَوْزَاعِيّ: (يَا عَليّ} من كَانَت فِيهِ خصْلَة وَاحِدَة من هَذِه الْأَشْيَاء أعطَاهُ الله تَعَالَى ثَلَاث خِصَال) ، وروى عَن عمر وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَجَابِر بن عبد الله نَحوه. وَمن حَدِيث عِكْرِمَة بن إِبْرَاهِيم عَن زَائِدَة بن أبي الرقاد عَن مُوسَى بن الصَّباح عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (إِن الْإِنْسَان ليصل رَحمَه وَمَا بَقِي من عمره إلاَّ ثَلَاثَة أَيَّام فيزيد الله تَعَالَى فِي عمره ثَلَاثِينَ سنة، وَأَن الرجل ليقطع رَحمَه وَقد بَقِي من عمره ثَلَاثُونَ سنة فينقص الله تَعَالَى عمره حَتَّى لَا يبْقى فِيهِ إلاَّ ثَلَاثَة أَيَّام) . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا أعرفهُ إلاَّ بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَمن حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش (عَن دَاوُد بن عِيسَى، قَالَ: مَكْتُوب فِي التَّوْرَاة صلَة الرَّحِم وَحسن الْخلق وبر الْقَرَابَة تعمر الديار وتكثر الْأَمْوَال وتزيد فِي الْآجَال وَإِن كَانَ الْقَوْم كفَّارًا) . قَالَ أَبُو مُوسَى: يرْوى هَذَا من طَرِيق أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا عَن التَّوْرَاة.
قَالَ أَبُو الْفرج فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد فرغ من الْأَجَل والرزق؟ فَالْجَوَاب من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون المُرَاد بِالزِّيَادَةِ توسعة الرزق وَصِحَّة الْبدن، فَإِن الْغنى يُسمى حَيَاة، والفقر موتا. الثَّانِي: أَن يكْتب أجل العَبْد مائَة سنة وَيجْعَل تزكيته تعمير ثَمَانِينَ سنة، فَإِذا وصل رَحمَه زَاده الله فِي تزكيته فَعَاشَ عشْرين سنة أُخْرَى، قالهما ابْن قُتَيْبَة. الثَّالِث: أَن هَذَا التَّأْخِير فِي الأَصْل مِمَّا قد فرغ مِنْهُ لكنه علق الْأَنْعَام بِهِ بصلَة الرَّحِم، فَكَأَنَّهُ كتب أَن فلَانا يبْقى خمسين سنة، فَإِن وصل رَحمَه بَقِي سِتِّينَ سنة. الرَّابِع: أَن تكون هَذِه الزِّيَادَة فِي الْمَكْتُوب، والمكتوب غير الْمَعْلُوم فَمَا علمه الله تَعَالَى من نِهَايَة الْعُمر لَا يتَغَيَّر، وَمَا كتبه قد يمحى وَيثبت، وَقد

(11/181)


كَانَ عمر بن الْخطاب يَقُول: إِن كنت كتبتني شقيا فامحني، وَمَا قَالَ: إِن كنت علمتني، لِأَن مَا علم وُقُوعه لَا بُد أَن يَقع. وَيبقى على هَذَا الْجَواب إِشْكَال، وَهُوَ أَن يُقَال: إِذا كَانَ المحتوم وَاقعا فَمَا الَّذِي الَّذِي أَفَادَهُ زِيَادَة الْمَكْتُوب ونقصانه؟ فَالْجَوَاب: أَن الْمُعَامَلَات على الظَّوَاهِر، والمعلوم الْبَاطِن خَفِي لَا يعلق عَلَيْهِ حكم، فَيجوز أَن يكون الْمَكْتُوب يزِيد وَينْقص ويمحى وَيثبت ليبلغ ذَلِك على لِسَان الشَّرْع إِلَى الْآدَمِيّ، فَيعلم فَضِيلَة الْبر وشؤم العقوق. وَيجوز أَن يكون هَذَا مِمَّا يتَعَلَّق بِالْمَلَائِكَةِ، عَلَيْهِم السَّلَام، فتؤمر بالإثبات والمحو، وَالْعلم الحتم لَا يطلعون عَلَيْهِ. وَمن هَذَا إرْسَال الرُّسُل إِلَى من لَا يُؤمن. الْخَامِس: أَن زِيَادَة الْأَجَل تكون بِالْبركَةِ فِيهِ وتوفيق صَاحبه لفعل الْخيرَات وبلوغ الْأَغْرَاض، فنال فِي قصر الْعُمر مَا يَنَالهُ غَيره فِي طويله. وَزعم عِيَاض أَن المُرَاد بذلك: بَقَاء ذكره الْجَمِيل بعد الْمَوْت على الْأَلْسِنَة، فَكَأَنَّهُ لم يمت، وَذكر الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ: أَن المُرَاد بذلك قلَّة الْمقَام فِي البرزخ.

41 - (بابُ شِرَاءِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنَّسِيئَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شِرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّسِيئَةِ بِفَتْح النُّون وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْهمزَة، وَهُوَ الْأَجَل وَفِي (الْمغرب) : يُقَال: بَعثه بنساء ونسيء وبالنسيئة، بِمَعْنى.

8602 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ ذَكَرْنا عِنْدَ إبْرَاهِيمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ فَقَالَ حدَّثني الأسْوَدُ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرَى طَعاما مِنْ يَهُودِيٍّ إلَى أجَلٍ ورَهَنَهُ دِرْعا مِنْ حَدِيدٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُعلى، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة: ابْن أَسد أَبُو الْهَيْثَم. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ. الْخَامِس: الْأسود بن يزِيد. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. القَوْل فِي موضِعين وَفِيه: أَن شَيْخه وَعبد الْوَاحِد بصريان، والبقية كوفيون. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد، وهم الْأَعْمَش وَإِبْرَاهِيم وَالْأسود. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن خَاله وَهُوَ إِبْرَاهِيم يروي عَن الْأسود وَهُوَ خَاله.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي أحد عشر موضعا فِي الْبيُوع وَفِي الاستقراض وَفِي الْجِهَاد عَن مُعلى بن أَسد، وَفِي السّلم عَن مُحَمَّد بن مَحْبُوب، وَفِي الشّركَة عَن مُسَدّد وَفِي الْبيُوع أَيْضا عَن يُوسُف بن عِيسَى وَعَن عمر بن حَفْص وَفِي السّلم أَيْضا عَن مُحَمَّد عَن يعلى بن عبيد وَفِي الرَّهْن عَن قُتَيْبَة وَفِي الْجِهَاد أَيْضا عَن مُحَمَّد بن كثير وَفِي الْمَغَازِي عَن قبيصَة بن عقبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعلي بن خشرم وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة أَيْضا وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن آدم وَعَن أَحْمد بن حَرْب. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي السّلم) ، أَي: السّلف وَلم يرد بِهِ السّلم الَّذِي هُوَ بيع الدّين بِالْعينِ، وَهُوَ أَن يُعْطي ذَهَبا أَو فضَّة فِي سلْعَة مَعْلُومَة إِلَى أمد مَعْلُوم. قَوْله: (اشْترى طَعَاما من يَهُودِيّ) ، وَاخْتلف فِي مِقْدَار مَا استدانه من الطَّعَام، فَفِي البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَة: (بِثَلَاثِينَ صَاعا من شعير) ، وَفِي أُخْرَى: (بِعشْرين) ، وَفِي (مُصَنف) عبد الرَّزَّاق: (بوسق شعير أَخذه لأَهله) ، وللبزار من طَرِيق ابْن عَبَّاس: (أَرْبَعِينَ صَاعا) . وَعند التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (رهن درعه بِعشْرين صَاعا من طَعَام أَخذه لأَهله) . وَعند ابْن أبي شيبَة: (أَخذهَا رزقا لِعِيَالِهِ) . وَعند النَّسَائِيّ: (بِثَلَاثِينَ صَاعا من شعير لأَهله) . وَفِي (مُسْند) الشَّافِعِي: (أَن الْيَهُودِيّ يكنى أَبَا الشحمة) ، وَفِي (التَّوْضِيح) : وَهَذَا الْيَهُودِيّ يُقَال لَهُ أَبُو الشَّحْم. قَالَه الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ فِي (مبهماته) : وَكَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث جَعْفَر بن أبي طَالب عَن أَبِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رهن درعا عِنْد أبي الشَّحْم الْيَهُودِيّ، رجل من بني طفر، فِي شعير. لكنه مُنْقَطع كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ، وَوَقع فِي رِوَايَة إِمَام الْحَرَمَيْنِ

(11/182)


تَسْمِيَته: بِأبي الشحمة، كَمَا ذكرنَا عَن (مُسْند) الإِمَام الشَّافِعِي. قَوْله: (وَرَهنه درعا من حَدِيد) ، الدرْع، بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة: هُوَ درع الْحَرْب، وَلِهَذَا قَيده بالحديد، لِأَن الْقَمِيص يُسمى درعا. وَقَالَ ابْن فَارس: درع الْحَدِيد مُؤَنّثَة، وَدرع الْمَرْأَة قميصها مُذَكّر.
فَإِن قلت: كَانَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دروع، فَأَي درع هَذِه؟ قلت: قَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي بكر التلمساني فِي كتاب (الْجَوْهَر) : إِن هَذِه الدرْع هِيَ ذَات الفضول. فَإِن قلت: مَا معنى اخْتِيَاره لرهن الدرْع؟ قلت: رهن مَا هُوَ أَشد حَاجَة إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَا وجد شَيْئا يرهنه غَيره. فَإِن قلت: مَا كَانَت ضَرُورَته إِلَى السّلف حَتَّى رهن عِنْد الْيَهُودِيّ درعه؟ قلت: قد مر أَنه أَخذه لأَهله وَرِزْقًا لِعِيَالِهِ، وَيحْتَمل أَنه فعل بَيَانا للْجُوَاز فَإِن قلت: قد ورد فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يدّخر لأَهله قوت سنة، فَكيف استلف مد الْيَهُودِيّ؟ قلت: قد يكون ذَلِك بعد فرَاغ قوت السّنة، وَقد يكون كَانَ يدّخر قوت السّنة لأَهله على تَقْدِير أَن لَا يرد عَلَيْهِ عَارض، وَقيل: إِنَّمَا أَخذ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الشّعير من الْيَهُودِيّ لضيف طرقه، ثمَّ فدَاه أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يرْهن عِنْد مياسير الصَّحَابَة؟ قلت: حَتَّى لَا يبْقى لأحد عَلَيْهِ منَّة لَو أَبرَأَهُ مِنْهُ. فَإِن قلت: الْمُعَامَلَة مَعَ من يظنّ أَن أَكثر مَاله حرَام مَمْنُوعَة، فَكيف عَامل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَ هَذَا الْيَهُودِيّ؟ وَقد أخبر الله تَعَالَى: أَنهم أكالون للسحت؟ قلت: هَذَا عِنْد التيقن أَن الْمَأْخُوذ مِنْهُ حرَام بِعَيْنِه، وَلم يكن ذَلِك على عهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خفِيا. وَمَعَ هَذَا إِن الْيَهُود كَانُوا باعة فِي الْمَدِينَة حِينَئِذٍ، وَكَانَت الْأَشْيَاء عِنْدهم مُمكنَة، وَكَانَ وقتا ضيقا وَرُبمَا لم يُوجد عِنْد غَيرهم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز البيع إِلَى أجل، ثمَّ هَل هُوَ رخصَة أَو عَزِيمَة؟ قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: جعلُوا الشِّرَاء إِلَى أجل رخصَة، وَهُوَ فِي الظَّاهِر عَزِيمَة، لِأَن الله تَعَالَى يَقُول فِي مُحكم كِتَابه: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه} (الْبَقَرَة: 282) . فأنزله أصلا فِي الدّين ورتب عَلَيْهِ كثيرا من الْأَحْكَام. وَفِيه: جَوَاز مُعَاملَة الْيَهُود وَإِن كَانُوا يَأْكُلُون أَمْوَال الرِّبَا، كَمَا أخبر الله عَنْهُم، وَلَكِن مُبَايَعَتهمْ وَأكل طعامهم مَأْذُون لنا فِيهِ بِإِبَاحَة الله، وَقد ساقاهم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على خَيْبَر. فَإِن قلت: النَّصَارَى كَذَلِك أم لَا؟ قلت: روى أَبُو الْحسن الطوسي فِي (أَحْكَامه) ، فَقَالَ: حَدثنَا عَليّ بن مُسلم الطوسي بِبَغْدَاد حَدثنَا مُحَمَّد ابْن يزِيد الوَاسِطِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر بن يزِيد عَن الرّبيع بن أنس (عَن أنس بن مَالك، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى حليق النَّصْرَانِي يبْعَث إِلَيْهِ بأثواب إِلَى الميسرة، قَالَ: فَأَتَيْته فَقلت: بَعَثَنِي إِلَيْك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تبْعَث إِلَيْهِ بأثواب إِلَى الميسرة. فَقَالَ: وَمَا الميسرة؟ وَمَتى الميسرة؟ مَا لمُحَمد ثاغية وَلَا راغية. فَأتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: كذب عَدو الله، أنَّا خير من بَايع، لِأَن يلبس أحدكُم ثوبا من رقاع شَتَّى خير لَهُ من أَن يَأْخُذ فِي أَمَانَته مَا لَيْسَ عِنْده) . وَفِيه: رهن فِي الْحَضَر، وَمنعه مُجَاهِد فِي الْحَضَر، وَقَالَ: إِنَّمَا ذكر الله الرَّهْن فِي السّفر، وَتَبعهُ دَاوُد، وَفعل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَالله تَعَالَى ذكر وَجها من وجوهه وَهُوَ: السّفر. وَفِيه: جَوَاز رهن السِّلَاح وَآلَة الْحَرْب فِي بلد الْجِهَاد عِنْد الْحَاجة إِلَى الطَّعَام، لِأَنَّهُ تعَارض حِينَئِذٍ أَمْرَانِ فَقدم الأهم مِنْهُمَا، لِأَن نَفَقَة الْأَهْل وَاجِبَة لَا بُد مِنْهَا، واتخاذ آلَة الْحَرْب من الْمصَالح لَا من الْوَاجِبَات، لِأَنَّهُ يُمكن الْجِهَاد بِدُونِ آلَة، فَقدم الأهم.

9602 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا هشامٌ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةُ عنْ أنَسٍ ح وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ حَوْشَبٍ قَالَ حدَّثنا أسْبَاطٌ أبُو الْيَسَعِ البَصْرِيُّ قَالَ حدَّينا هِشامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ عنْ قَتادَةَ عَنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ مَشَى إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخُبْزِ شَعِيرٍ وإهالَةٍ سَنِخَةٍ ولَقَدْ رَهَنَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دِرْعا لَهُ بِالمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وأخَذَ مِنْهُ شَعِيرا لأِهْلِهِ ولَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَا أمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صاَعُ بُرٍّ ولاَ صاعُ حَبٍّ وَإِن عِنْدَهُ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ. (الحَدِيث 9602 طرفه فِي: 8052) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة. وَأخرجه من طَرِيقين، وَمُسلم على لفظ اسْم الْفَاعِل من الْإِسْلَام، ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الفراهيدي القصاب، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي. وَمُحَمّد بن عبد الله بن حَوْشَب، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الشين

(11/183)


الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، مر فِي الصَّلَاة) . وأسباط، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وبالباء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره طاء مُهْملَة، وَأَبُو اليسع، كنية بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة، بِلَفْظ الْمُضَارع من: وسع يسع.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي خَمْسَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن رجال هَذَا الْإِسْنَاد كلهم بصريون. وَفِيه: أَن أسباطا هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع وَقد قيل إِن اسْم أَبِيه عبد الْوَاحِد. وَفِيه: أَن البُخَارِيّ قد سَاق هَذَا الحَدِيث هُنَا على لفظ أَسْبَاط وَسَاقه فِي الرَّهْن على لفظ مُسلم بن إِبْرَاهِيم مَعَ أَن طَرِيق مُسلم أَعلَى، وَذَلِكَ لِأَن أَبَا اليسع فِيهِ مقَال، فَاحْتَاجَ إِلَى ذكره عقيب من يعتضده ويتقوى بِهِ، وَلِأَن عَادَته غَالِبا أَن لَا يذكر الحَدِيث الْوَاحِد فِي موضِعين بِإِسْنَاد وَاحِد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إهالة) ، بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْهَاء، قَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ الألية. وَفِي (الْمُحكم) : الإهالة مَا أذيب من الشَّحْم، وَقيل: الإهالة الشَّحْم وَالزَّيْت، وَقيل: كل دهن أوتُدِمَ بِهِ إهالة، واستاهل أهل الإهالة. وَفِي كتاب (الواعي) : الإهالة مَا أذيب من شَحم الألية. وَفِي (الصِّحَاح) : الإهالة الودك. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: هُوَ الدسم إِذا جمد على رَأس المرقة. وَقَالَ الْخَلِيل: هِيَ الألية تقطع ثمَّ تذاب. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هِيَ الغلالة تكون من الدّهن على المرقة رقيقَة. قَوْله: (سنخة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر النُّون بعْدهَا خاء مُعْجمَة، وَهِي المتغيرة الرَّائِحَة من طول الزَّمَان، من قَوْلهم: سنخ الدّهن، بِكَسْر النُّون: تغير. وَرُوِيَ: زنخة بالزاي، يُقَال: سنخ وزنخ بِالسِّين وَالزَّاي أَيْضا. قَوْله: (لأَهله) ، يَعْنِي لأزواجه وَهن تسع، وَمِنْه يُؤْخَذ أَنه لَا بَأْس للرجل أَن يذكر عَن نَفسه أَنه لَيْسَ عِنْده مَا يقوته ويقوت عِيَاله على غير وَجه الشكاية والتسخط، بل على وَجه الِاقْتِدَاء بِهِ. قَوْله: (وَلَقَد سمعته يَقُول) قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (لقد سمعته) ، كَلَام قَتَادَة، وفاعل: يَقُول، أنس. وَقَالَ بَعضهم: وَلَقَد سمعته يَقُول: هُوَ كَلَام أنس، وَالضَّمِير فِي: سمعته، للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: قَالَ ذَلِك لما رهن الدرْع عِنْد الْيَهُودِيّ مظْهرا للسبب فِي شِرَائِهِ إِلَى أجل، وَوهم من زعم أَنه كَلَام قَتَادَة، وَجعل الضَّمِير فِي: سمعته، لأنس. لِأَنَّهُ إِخْرَاج للسياق عَن ظَاهره بِغَيْر دَلِيل. قلت: الْأَوْجه فِي حق النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا قَالَه الْكرْمَانِي، لِأَن فِي نِسْبَة ذَلِك أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نوع إِظْهَار بعض الشكوى وَإِظْهَار الْفَاقَة على سَبِيل الْمُبَالغَة، وَلَيْسَ ذَلِك يذكر فِي حَقه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَلَا صَاع حب) ، تَعْمِيم بعد تَخْصِيص. قَوْله: (لتسْع) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ اسْم إِن وَاللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد.
وَفِيه: بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من التقلل من الدُّنْيَا، وَذَلِكَ كُله بِاخْتِيَارِهِ وإلاَّ فقد أَتَاهُ الله مَفَاتِيح خَزَائِن الأَرْض فَردهَا تواضعا، وَرَضي بزِي الْمَسَاكِين ليَكُون أرفع لدرجته. وَقد قَالَ كليم الله مُوسَى: {إِنِّي لما أنزلت إِلَيّ من خير فَقير} (الْقَصَص: 42) . وَالْخَيْر كسرة من شعير اشتاقها واشتهاها. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَفِيه: رد على زفر وَالْأَوْزَاعِيّ: أَن الرَّهْن مَمْنُوع فِي السّلم. قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث إلاَّ الشِّرَاء بِالدّينِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يتَعَلَّق بالسلم فَكيف يَصح بِهِ الرَّد؟ وَكَأن صَاحب (التَّوْضِيح) ظن أَن فِيهِ شَيْئا من السّلم، وَالظَّاهِر أَنه ظن أَن قَول الْأَعْمَش فِي سَنَد الحَدِيث الْمَاضِي ذكرنَا عِنْد إِبْرَاهِيم الرَّهْن فِي السّلم أَنه السّلم الْمُتَعَارف، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل المُرَاد بِهِ السّلف كَمَا ذكرنَا. وَفِي الحَدِيث قبُول مَا تيَسّر، وَقد دعى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى خبز شعير وإهالة سنخة، فَأجَاب، أخرجه الْبَيْهَقِيّ عَن الْحسن مُرْسلا. وَفِيه: مُبَاشرَة الشريف والعالم شِرَاء الْحَوَائِج بِنَفسِهِ، وَإِن كَانَ لَهُ من يَكْفِيهِ، لِأَن جَمِيع الْمُؤمنِينَ كَانُوا حريصين على كِفَايَة أمره وَمَا يحْتَاج إِلَى التَّصَرُّف فِيهِ رَغْبَة مِنْهُم فِي رِضَاهُ وَطلب الْآخِرَة وَالثَّوَاب.

51 - (بابُ كَسْبِ الرَّجُلِ وعَمَلِهِ بِيَدِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل كسب الرجل وَعَمله بِيَدِهِ. قَوْله: (وَعَمله بِيَدِهِ) ، من عطف الْخَاص على الْعَام، لِأَن الْكسْب أَعم من أَن يكون بِعَمَل الْيَد أَو بغَيْرهَا.

0702 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني ابنُ وَهْب عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ حدَّثني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا اسْتُخْلِفَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَالَ لَقَدْ

(11/184)


عَلِمَ قَوْمِي أَن حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عنْ مَؤنَةِ أهْلِي وشُغِلْتُ بِأمْرِ المُسْلِمِينَ فسَيَأكُلُ آلُ أبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا المَالِ ويَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِنَ فِيهِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ مَا يدل على أَن كسب الرجل بِيَدِهِ أفضل، وَذَلِكَ أَن أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يحترف أَي يكْتَسب مَا يَكْفِي عِيَاله، ثمَّ لما شغل بِأَمْر الْمُسلمين حِين اسْتخْلف لم يكن يتفرغ للاحتراف بِيَدِهِ، فَصَارَ يحترف للْمُسلمين. وَأَنه يعْتَذر عَن تَركه الاحتراف لأَهله، فلولا أَن الْكسْب بِيَدِهِ لأَهله كَانَ أفضل لم يكن يتأسف بقوله: {فسيأكل آل أبي بكر من هَذَا المَال) ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى بَيت مَال الْمُسلمين.
وَهَذَا الحَدِيث مَوْقُوف، وَهُوَ مِمَّا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ. وَإِسْمَاعِيل ابْن عبد الله هُوَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَقد تكَرر ذكره، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن زيد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ الْمدنِي.
قَوْله: (إِن حرفتي) الحرفة والاحتراف: الْكسْب وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يتجر قبل استخلافه وَقد روى ابْن مَاجَه وَغَيره من حَدِيث أم سَلمَة أَن أَبَا بكر خرج تَاجِرًا إِلَى بصرى فِي عهد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وشغلت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (بِأَمْر الْمُسلمين) ، أَي: بِالنّظرِ فِي أُمُورهم لكَونه خَليفَة. قَوْله: (فسيأكل آل أبي بكر) يَعْنِي: نَفسه وَمن تلْزمهُ نَفَقَته، لِأَنَّهُ لما اشْتغل بِأَمْر الْمُسلمين احْتَاجَ إِلَى أَن يَأْكُل هُوَ وَأَهله من بَيت المَال. وَقَالَ ابْن التِّين: يُقَال: إِن أَبَا بكر ارتزق كل يَوْم شَاة، وَكَانَ شَأْن الْخَلِيفَة أَن يطعم من حَضَره قصعتين كل يَوْم غدْوَة وعشيا. وروى ابْن سعد بِإِسْنَاد مُرْسل بِرِجَال ثِقَات، قَالَ: (لما اسْتخْلف أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أصبح غاديا إِلَى السُّوق على رَأسه أَثوَاب يتجر بهَا، فَلَقِيَهُ عمر بن الْخطاب وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَقَالَا: كَيفَ تصنع هَذَا وَقد وليت أَمر الْمُسلمين؟ قَالَ: فَمن أَيْن أطْعم عيالي؟ قَالَا: نفرض لَك، ففرضوا لَهُ كل يَوْم شطر شَاة) .
وَفِي الطَّبَقَات: عَن حميد بن هِلَال: لما ولي أَبُو بكر، قَالَت الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: افرضوا للخليفة مَا يُغْنِيه. قَالُوا: نعم! برْدَاهُ إِذا أخلقهما وضعهما وَأخذ مثلهمَا، وظهره إِذا سَافر، وَنَفَقَته على أَهله كَمَا كَانَ ينْفق قبل أَن يسْتَخْلف. فَقَالَ أَبُو بكر: رضيت. وَعَن مَيْمُون قَالَ: لما اسْتخْلف أَبُو بكر جعلُوا لَهُ أَلفَيْنِ فَقَالَ: زيدوني فَإِن لي عيالا فزاروه خمس مائَة فَقَالَ أما أَن يكون أَلفَيْنِ فزادوه خمس مائَة أَو كَانَت أَلفَيْنِ وَخمْس مائَة فزاده خَمْسمِائَة، وَلما حضرت أَبَا بكر الْوَفَاة حسب مَا أنْفق من بَيت المَال فوجدوه سَبْعَة آلَاف دِرْهَم، فَأمر بِمَالِه غير الرباع، فَأدْخل فِي بَيت المَال، فَكَانَ أَكثر مِمَّا أنْفق. قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: فربح الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ وَمَا ربحوا على غَيره. وروى ابْن سعد وَابْن الْمُنْذر بِإِسْنَاد صَحِيح عَن مَسْرُوق (عَن عَائِشَة، قَالَت: لما مرض أَبُو بكر مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، قَالَ: انْظُرُوا مَا زَاد فِي مَالِي مُنْذُ دخلت الْإِمَارَة فَابْعَثُوا بِهِ إِلَى الْخَلِيفَة بعدِي. قَالَت: فَلَمَّا مَاتَ نَظرنَا فَإِذا عبد نوبي كَانَ يحمل صبيانه، وناضح كَانَ يسْقِي بستانا لَهُ، فَبَعَثنَا بهما إى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: رَحمَه الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده) . وَأخرج ابْن سعد من طَرِيق الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن عَائِشَة نَحوه، وَزَاد: أَن الْخَادِم كَانَ صيقلاً يعْمل سيوف الْمُسلمين ويخدم آل بكر وَمن طَرِيق ثَابت عَن أنس نَحوه. وَفِيه: وَقد كنت حَرِيصًا على أَن أوفر مَال الْمُسلمين، وَقد كنت أصبت من اللَّحْم وَاللَّبن. وَفِيه: وَمَا كَانَ عِنْده دِينَار وَلَا دِرْهَم. مَا كَانَ إلاَّ خَادِم ولقحة ومحلب.
قَوْله: (ويحترف للْمُسلمين) أَي: يتجر لَهُم حَتَّى يعود عَلَيْهِم من ربحه بِقدر مَا أكل، أَو أَكثر، وَلَيْسَ بِوَاجِب على الإِمَام أَن يتجر فِي مَال الْمُسلمين بِقدر مؤونته إلاَّ أَن يتَطَوَّع بذلك، كَمَا تطوع أَبُو بكر. قَوْله: (ويحترف) على صِيغَة الْمُضَارع الْغَائِب. رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (وأحترف) ، على صِيغَة الْمُتَكَلّم وَحده.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن أفضل الْكسْب مَا يكسبه الرجل بِيَدِهِ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث الْمِقْدَام عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا يدل على ذَلِك. وروى الْحَاكِم عَن أبي بردة يَعْنِي ابْن نيار: (سُئِلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي الْكسْب أطيب وَأفضل؟ قَالَ: عمل الرجل بِيَدِهِ، أَو كل عمل مبرور) . وَعَن الْبَراء بن عَازِب نَحوه. وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد، وَعَن رَافع بن خديج مثله، وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث عَائِشَة: (أَن أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: (إِن أطيب مَا أكلْتُم من كسبكم) . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: أصُول المكاسب

(11/185)


الزِّرَاعَة وَالتِّجَارَة والصناعة، وأيها أطيب؟ فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب للنَّاس، وأشبهها مَذْهَب الشَّافِعِي أَن التِّجَارَة أطيب، وَالْأَشْبَه عِنْدِي أَن الزِّرَاعَة أطيب لِأَنَّهَا أقرب إِلَى التَّوَكُّل. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَحَدِيث البُخَارِيّ صَرِيح فِي تَرْجِيح الزِّرَاعَة والصنعة لِكَوْنِهِمَا عمل يَده. لَكِن الزِّرَاعَة أفضلهما لعُمُوم النَّفْع بهَا للآدمي وَغَيره. وَعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهَا. وَفِيه: فَضِيلَة أبي بكر وزهده وورعه غَايَة الْوَرع. وَفِيه: أَن لِلْعَامِلِ أَن يَأْخُذ من عرض المَال الَّذِي يعْمل فِيهِ قدر عمالته إِذا لم يكن فَوْقه إِمَام يقطع لَهُ أُجْرَة مَعْلُومَة، وكل من يتَوَلَّى عملا من أَعمال الْمُسلمين يُعْطي لَهُ شَيْء من بَيت المَال لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى كِفَايَته وكفاية عِيَاله، لِأَنَّهُ إِن لم يُعْط لَهُ شَيْء لَا يرضى أَن يعْمل شَيْئا فتضيع أَحْوَال الْمُسلمين. وَعَن ذَلِك قَالَ أَصْحَابنَا: وَلَا بَأْس برزق القَاضِي، وَكَانَ شُرَيْح، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَأْخُذ على الْقَضَاء. ذكره البُخَارِيّ فِي: بَاب رزق الْحُكَّام والعاملين عَلَيْهَا، ثمَّ القَاضِي إِن كَانَ فَقِيرا فَالْأَفْضَل بل الْوَاجِب أَخذ كِفَايَته من بَيت المَال، وَإِن كَانَ غَنِيا فَالْأَفْضَل الِامْتِنَاع، رفقا بِبَيْت المَال. وَقيل: الْأَخْذ هُوَ الْأَصَح صِيَانة للْقَضَاء عَن الهوان، لِأَنَّهُ إِذا لم يَأْخُذ لم يلْتَفت إِلَى أُمُور الْقَضَاء كَمَا يَنْبَغِي لاعتماده على غناهُ، فَإِذا أَخذ يلْزمه حِينَئِذٍ إِقَامَة أُمُور الْقَضَاء.

1702 - حدَّثني محَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ قَالَ حَدثنَا سَعِيدٌ قَالَ حدَّثني أبُو الأسْوَدِ عنْ عُرْوَةَ قَالَ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا كانَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُمَّال أنْفُسِهِمْ وكانَ يَكونُ لَهُمْ أرْوَاحٌ فَقِيلَ لَهُمْ لَوِ اغْتَسَلْتُمْ. (انْظُر الحَدِيث 309) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عُمَّال أنفسهم) أَي: كَانُوا يكتسبون بِأَيْدِيهِم أَو بِالتِّجَارَة أَو بالزراعة، وأصل هَذَا الحَدِيث قد مر فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب وَقت الْجُمُعَة إِذا زَالَت الشَّمْس، فَلْينْظر فِيهِ. وَأعلم أَن فِي جَمِيع الرِّوَايَات: كَذَا حَدثنِي أَو حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا عبد الله بن يزِيد، إلاَّ فِي رِوَايَة أبي عَليّ بن شبويه عَن الْفربرِي عَن البُخَارِيّ: حَدثنَا عبد الله بن يزِيد، فعلى هَذَا قَوْله: حَدثنَا مُحَمَّد هُوَ البُخَارِيّ، وَعبد الله بن يزِيد هُوَ المقرىء، وَهُوَ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ. وَقد روى عَنهُ كثيرا. وَقد روى عَنهُ كثيرا، وَرُبمَا روى عَنهُ بِوَاسِطَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: مُحَمَّد، قَالَ الغساني: لَعَلَّه مُحَمَّد بن يحيى الذهلي. قلت: وَكَذَا قَالَ الْحَاكِم وَجزم بِهِ، فعلى هَذَا روى البُخَارِيّ عَنهُ عَن عبد الله بن يزِيد الَّذِي هُوَ شَيْخه بِوَاسِطَة مُحَمَّد الذهلي، وَسَعِيد هُوَ ابْن أبي أَيُّوب الْمصْرِيّ، وَقد مر فِي التَّهَجُّد، وَأَبُو الْأسود هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن يَتِيم عُرْوَة بن الزبير، وَقد مر فِي الْغسْل.
قَوْله: (عُمَّال أنفسهم) ، بِضَم الْعين وَتَشْديد الْمِيم: جمع عَامل. قَوْله: (وَكَانَ يكون لَهُم أَرْوَاح) وَجه هَذَا التَّرْكِيب أَن فِي: كَانَ، ضمير الشان، وَالْمرَاد، ماضٍ، وَذكر: يكون، بِلَفْظ الْمُضَارع استحضارا وَإِرَادَة الِاسْتِمْرَار، والأرواح جمع ريح، وَأَصله: روح، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، وأراح اللَّحْم أَي: أنتن، وَكَانُوا يعْملُونَ فيعرقون ويحضرون الْجُمُعَة، تفوح تِلْكَ الروايح عَنْهُم (فَقيل لَهُم: لَو اغتسلتم) وَجَوَاب: لَو، مَحْذُوف يَعْنِي: لَو اغتسلتم لذهبت عَنْكُم تِلْكَ الروائح الكريهة.
وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة من اختيارهم الْكسْب بِأَيْدِيهِم، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ من التَّوَاضُع.
رَوَاهُ هَمَّامٌ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور همام بن يحيى بن دِينَار الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير، وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ همام، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق هدبة عَنهُ بِلَفْظ: (كَانَ الْقَوْم خدام أنفسهم، فَكَانُوا يروحون إِلَى الْجُمُعَة فَأمروا أَن يغتسلوا) . وَبِهَذَا اللَّفْظ رَوَاهُ قُرَيْش بن أنس عَن هِشَام عِنْد ابْن خُزَيْمَة وَالْبَزَّار.

2702 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا عِيسَى بنُ يُونُس عنْ ثَوْر عنْ خالِدِ بنِ مَعْدَانَ عنِ المِقْدَامِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عَن رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا أكلَ أحَدٌ طعَاما قَطُّ خَيْرا مِنْ أنْ يأكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وإنَّ نَبِيَّ ا

(11/186)


لله دَاوُدَ عليْهِ السَّلامُ كانَ يأكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد التَّمِيمِي الْفراء أَبُو إِسْحَاق الرَّازِيّ، يعرف بالصغير. الثَّانِي: عِيسَى بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق، واسْمه: عَمْرو بن عبد الله الْهَمدَانِي. الثَّالِث: ثَوْر، بالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة الكلَاعِي، بِفَتْح الْكَاف وَتَخْفِيف اللَّام وبالعين الْمُهْملَة: الشَّامي الْحِمصِي الْحَافِظ، كَانَ قدريا فَأخْرج من حمص وأحرقوا دَاره بهَا. فارتحل إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَمَات بِهِ سنة خمسين وَمِائَة. الرَّابِع: خَالِد بن معدان، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة بعْدهَا دَال مُهْملَة وَبعد الْألف نون: الكلَاعِي أَبُو عبد الله، كَانَ يسبِّح فِي الْيَوْم أَرْبَعِينَ ألف تَسْبِيحَة. وَقَالَ: لقِيت من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبعين رجلا، مَاتَ بطرسوس سنة ثَلَاث أَو أَربع وَمِائَة. الْخَامِس: الْمِقْدَام، بِكَسْر الْمِيم ابْن معدي كرب الْكِنْدِيّ، مَاتَ سنة سبع وَثَمَانِينَ بحمص.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن شَيْخه رازي والبقية الثَّلَاثَة شَامِيُّونَ وحمصيون. وَفِيه: ادّعى الْإِسْمَاعِيلِيّ انْقِطَاعًا بَين خَالِد والمقدام، وَبَينهمَا جُبَير ابْن نفير يحْتَاج إِلَى تَحْرِير. وَفِيه: أَن الْمِقْدَام لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَآخر فِي الْأَطْعِمَة. وَفِيه: أَن ثَوْر بن يزِيد الْمَذْكُور من أَفْرَاد البُخَارِيّ. والْحَدِيث أَيْضا من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا أكل أحد) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (مَا أكل أحد من بني آدم) . قَوْله: (خيرا) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ صفة لقَوْله: طَعَاما، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. أَي: هُوَ خير. فَإِن قلت: مَا الْخَيْرِيَّة فِيهِ؟ قلت: لِأَن فِيهِ إِيصَال النَّفْع إِلَى الكاسب وَإِلَى غَيره، والسلامة عَن البطالة المؤدية إِلَى الفضول وَكسر النَّفس وَالتَّعَفُّف عَن ذل السُّؤَال. قَوْله: (من أَن يُؤْكَل) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة، أَي: من أكله. قَوْله: (من عمل يَده) ، بِالْإِفْرَادِ وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (من عمل يَدَيْهِ) ، بالتثنية. قَوْله: (فَإِن نَبِي الله) الْفَاء تصلح أَن تكون للتَّعْلِيل، ويروى: (وَإِن دَاوُد) ، بِالْوَاو وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (إِن نَبِي الله دَاوُد) بِلَا وَاو وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: من حَدِيث خَالِد بن معدان عَن الْمِقْدَام (مَا من كسب الرجل أطيب من عمل يَدَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة ابْن الْمُنْذر من هَذَا الْوَجْه: (مَا أكل رجل طَعَاما قطّ أحل من عمل يَدَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من حَدِيث عَائِشَة: (إِن أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه) .
فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَعْلِيله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (مَا أكل أحد طَعَاما قطّ خيرا من أَن يَأْكُل من عمل يَدَيْهِ؟) قلت: لِأَن ذكر الشَّيْء بدليله أوقع فِي نفس سامعه. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص دَاوُد بِالذكر؟ قلت: لِأَن اقْتِصَاره فِي أكله على مَا يعمله بِيَدِهِ لم يكن من الْحَاجة، لِأَنَّهُ كَانَ خَليفَة فِي الأَرْض، كَمَا ذكر الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن، وَإِنَّمَا قصد الْأكل من طَرِيق الْأَفْضَل، وَلِهَذَا أورد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قصَّته فِي مقَام الِاحْتِجَاج بهَا على مَا قدمه من أَن خير الْكسْب عمل الْيَد. وَقَالَ أَبُو الزَّاهِرِيَّة: كَانَ دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يعْمل القفاف وَيَأْكُل مِنْهَا. قلت: كَانَ يعْمل الدروع من الْحَدِيد بِنَصّ الْقُرْآن، وَكَانَ نَبينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْكُل من سَعْيه الَّذِي بَعثه الله عَلَيْهِ فِي الْقِتَال، وَكَانَ يعْمل طَعَامه بِيَدِهِ ليَأْكُل من عمل يَده، قيل لعَائِشَة: كَيفَ كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يعْمل فِي أَهله؟ قَالَت: كَانَ فِي مهنة أَهله، فَإِذا أُقِيمَت الصَّلَاة خرج إِلَيْهَا.

3702 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ مُوسَى قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعمرٌ عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ قَالَ حدَّثنا أبُو هُرَيْرَةَ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ لاَ يأكلُ إلاَّ مِنْ عَمَلِ يِدِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَيحيى بن مُوسَى بن عبد ربه أَبُو زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الحدائي الْبَلْخِي، يُقَال لَهُ: خت، وَكلهمْ قد ذكرُوا غير مرّة.
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَهُوَ طرف من حَدِيث سَيَأْتِي فِي تَرْجَمَة دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِخِلَاف الَّذِي

(11/187)


قبله، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ زِيَادَة وَهِي: خفف على دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْقِرَاءَة فَكَانَ يَأْمر بدوابه لتسرج، فَكَانَ يقْرَأ الْقُرْآن قبل أَن تسرج، وَأَنه كَانَ لَا يَأْكُل إلاَّ من عمل يَده.

4702 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيرٍ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أبي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَوْفٍ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهِ يقُولُ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَنْ يَحْتَطِبَ أحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِه خَيْرٌ مِنْ أنْ يَسْألَ أحدا فَيُعْطِيَهُ أوْ يَمْنَعَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الإحتطاب من كسب الرجل بِيَدِهِ وَمن عمله، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو عبيد مصغر العَبْد مولى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَيُقَال لَهُ أَيْضا: مولى ابْن أَزْهَر، وَقد مضى الحَدِيث فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب قَول الله: {لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا} (الْبَقَرَة: 372) . وَلَكِن أخرجه هُنَاكَ: من طَرِيق الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.

61 - (بابُ السُّهُولَةِ والسَّمَاحَةِ فِي الشِّرَاءِ والْبَيْعِ ومَنْ طَلَبَ حَقَّا فلْيَطْلُبْهُ فِي عَفَافٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِحْبَاب السهولة، وَهُوَ ضد الصعب وضد الْحزن، قَالَه ابْن الْأَثِير وَغَيره، والسماحة من سمح وأسمح إِذا جاد وَأعْطى عَن كرم وسخاء، قَالَه ابْن الْأَثِير. وَفِي (الْمغرب) : السَّمْح الْجُود. وَقَالَ بَعضهم: السهولة والسماحة متقاربان فِي الْمَعْنى. فعطف أَحدهمَا على الآخر من التَّأْكِيد اللَّفْظِيّ. قلت: قد عرفت أَنَّهُمَا متغايران فِي أصل الْوَضع فَلَا يَصح أَن يُقَال من التَّأْكِيد اللَّفْظِيّ. لِأَن التَّأْكِيد اللَّفْظِيّ أَن يكون الْمُؤَكّد والمؤكد لفظا وَاحِد من مَادَّة وَاحِدَة، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه. قَوْله: (وَمن طلب) كلمة: من، شَرْطِيَّة. وَقَوله: (فليطلبه) جَوَابه. قَوْله: (فِي عفاف) ، جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (فليطلبه) ، والعفاف، بِفَتْح الْعين. الْكَفّ عَمَّا لَا يحل. وروى التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر وَعَائِشَة مَرْفُوعا: (من طلب حَقًا فليطلبه فِي عفاف وافٍ أَو غير وافٍ) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (خُذ حَقك فِي عفاف وافٍ أَو غير وافٍ) . وَأخذ البُخَارِيّ هَذَا وَجعله جزأ من تَرْجَمَة الْبَاب.

6702 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَيَّاشٍ قَالَ حدَّثنا أبُو غَسَّانَ محَمَّدُ بنُ مطَرِّفٍ قَالَ حدَّثني محَمَّدُ بنُ المُنْكَدِرِ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَحِمَ الله رَجُلاً سَمْحا إذَا باعَ واذا اشْتَرَى وإذَا اقْتَضَى.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي بن عَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: الْأَلْهَانِي الْحِمصِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، ومطرف بِالطَّاءِ الْمُهْملَة على صِيغَة اسْم الْفَاعِل من التطريف، والمنكدر على وزن اسْم الْفَاعِل من الانكدار.
والْحَدِيث أخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن عَمْرو بن عُثْمَان. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث زيد بن عَطاء عَن ابْن الْمُنْكَدر عَن جَابر، وَلَفظه: (غفر الله لرجل كَانَ قبلكُمْ، كَانَ سهلاً إِذا بَاعَ، سهلاً إِذا اشْترى. سهلاً أذا اقْتضى) . وَقَالَ:

(11/188)


حَدِيث حسن غَرِيب صَحِيح من هَذَا الْوَجْه.
قَوْله: (رحم الله) رجلا: يحْتَمل الدُّعَاء وَيحْتَمل الْخَبَر. قَالَ الدَّاودِيّ: وَالظَّاهِر أَنه دُعَاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ظَاهره الْإِخْبَار عَن حَال رجل كَانَ سَمحا. لَكِن قرينَة الِاسْتِقْبَال الْمُسْتَفَاد من إِذا تَجْعَلهُ دُعَاء، وَتَقْدِيره: رحم الله رجلا يكون سَمحا، وَقد يُسْتَفَاد الْعُمُوم من تَقْيِيده بِالشّرطِ، والسمح، بِسُكُون الْمِيم: الْجواد والمساهل والموافق على مَا طلب. قَوْله: (وَإِذا اقْتضى) أَي: إِذا طلب قَضَاء حَقه بسهولة. وَفِي رِوَايَة حَكَاهَا ابْن التِّين: (وَإِذا قضى) . أَي: إِذا أعظى الَّذِي عَلَيْهِ بسهولة بِغَيْر مطل) .
وروى التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِن الله يحب سمح البيع سمح الشِّرَاء سمح الْقَضَاء) . وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث عُثْمَان رَفعه: (أَدخل الله الْجنَّة رجلا كَانَ سهلاً مُشْتَريا وبائعا وقاضيا ومقتضيا) . وروى أَحْمد من حَدِيث عبد الله بن عمر وَنَحْوه. وَفِي الحَدِيث الحض على الْمُسَامحَة وَحسن الْمُعَامَلَة وَاسْتِعْمَال محَاسِن الْأَخْلَاق ومكارمها وَترك المشاحة فِي البيع، وَذَلِكَ سَبَب لوُجُود الْبركَة، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يحض أمته إلاَّ على مَا فِيهِ النَّفْع لَهُم دينا وَدُنْيا. وَأما فَضله فِي الْآخِرَة فقد دَعَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالرَّحْمَةِ والغفران لفَاعِله، فَمن أحب أَن تناله هَذِه الدعْوَة فليقتد بِهِ وليعمل بِهِ.
وَفِيه: ترك التَّضْيِيق على النَّاس فِي الْمُطَالبَة وَأخذ الْعَفو مِنْهُم. وَقَالَ ابْن حبيب: تسْتَحب السهولة فِي البيع وَالشِّرَاء وَلَيْسَ هِيَ تِلْكَ الْمُطَالبَة فِيهِ، إِنَّمَا هِيَ ترك المضاجرة وَنَحْوهَا.

71 - (بابُ منْ أنْظَرَ مُوسِرا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من أنظر مُوسِرًا، وَقد اخْتلفُوا فِي حد الْمُوسر، فَقيل: من عِنْده مُؤْنَته وَمؤنَة من تلْزمهُ نَفَقَته. وَقَالَ الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد وَإِسْحَاق: من عِنْده خَمْسُونَ درهما أَو قيمتهَا من الذَّهَب، فَهُوَ مُوسر. وَقَالَ الشَّافِعِي: قد يكون الشَّخْص بالدرهم غَنِيا يكسبه، وَقد يكون فَقِيرا بِالْألف مَعَ ضعفه فِي نَفسه وَكَثْرَة عِيَاله. وَقيل: الْمُوسر من يملك نِصَاب الزَّكَاة، وَقيل: من لَا يحل لَهُ الزَّكَاة. وَقيل: من يجد فَاضلا عَن ثَوْبه ومسكنه وخادمه وَدينه وقوت من يمونه، وَعند أَصْحَابنَا، على مَا ذكره صَاحب (الْمَبْسُوط) و (الْمُحِيط) : الْغَنِيّ على ثَلَاث مَرَاتِب: الْمرتبَة الأولى: الْغَنِيّ الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب الزَّكَاة. الْمرتبَة الثَّانِيَة: الْغَنِيّ الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب صَدَقَة الْفطر وَالْأُضْحِيَّة وحرمان الزَّكَاة، وَهُوَ أَن يملك مَا يفضل عَن حَوَائِجه الْأَصْلِيَّة مَا يبلغ قيمَة مِائَتي دِرْهَم، مثل دور لَا يسكنهَا وحوانيت يؤجرها وَنَحْو ذَلِك. والمرتبة الثَّالِثَة: فِي الْغنى غنى حُرْمَة السُّؤَال، قيل: مَا قِيمَته خَمْسُونَ درهما. وَقَالَ عَامَّة الْعلمَاء: إِن من ملك قوت يَوْمه وَمَا يستر بِهِ عَوْرَته يحرم عَلَيْهِ السُّؤَال، وَكَذَا الْفَقِير الْقوي المكتسب يحرم عَلَيْهِ السُّؤَال. قلت: هَذَا كُله فِي حق من يجوز لَهُ السُّؤَال وَأخذ الصَّدَقَة، وَمن لَا يجوز، وَأما هَهُنَا، أَعنِي فِي إنظار الْمُوسر، فالاعتماد على أَن الْمُوسر والمعسر يرجعان إِلَى الْعرف، فَمن كَانَ حَاله بِالنِّسْبَةِ إِلَى مثله يعد يسارا فَهُوَ مُوسر، وَكَذَا عَكسه فَافْهَم.

7702 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حَدثنَا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثنا مَنْصُورً أنَّ رِبْعِيَّ بنَ حِرَاشٍ قَالَ حدَّثَهُ أنَّ حُذَيْفَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ حدَّثَهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَلَقَّتِ المَلاَئِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ قالُوا أعَمِلْتَ مِنَ الخَيْرِ شَيْئا قَالَ كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أنْ يُنْظِرُوا ويَتَجَاوَزُوا عَنِ المُوسِرِ قَالَ قَالَ فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ. مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كنت آمُر فتياني أَن ينْظرُوا ويتجاوزوا عَن الْمُوسر) وَهَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي عَن الْمُوسر، وَهُوَ يُطَابق التَّرْجَمَة، وَوَقع فِي رِوَايَة البَاقِينَ: (أَن ينْظرُوا الْمُعسر، ويتجاوزوا عَن الْمُوسر، وَكَذَا أخرجه مُسلم عَن أَحْمد بن يُونُس شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور، فعلى هَذَا الحَدِيث لَا يُطَابق التَّرْجَمَة. وَقَالَ بَعضهم: وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَب فِي إِيرَاد التَّعَالِيق الْآتِيَة، لِأَن فِيهَا مَا يُطَابق التَّرْجَمَة. قلت: الأَصْل هُوَ الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبَاب

(11/189)


الْمسند على مَا هُوَ الْمَعْهُود فِي وَضعه، وَلَا يُقَال: وجد الْمُطَابقَة هُنَا، إلاَّ على رِوَايَة أبي ذَر والنسفي، وَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر شَيْء آخر. فَافْهَم.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس، هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس بن قيس أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي. الثَّانِي: زُهَيْر مصغر زهر ابْن مُعَاوِيَة أَبُو خَيْثَمَة الْجعْفِيّ. الثَّالِث: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر أَبُو عتاب السّلمِيّ. الرَّابِع: ربعي، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن حِرَاش، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء، وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، مر فِي: بَاب إِثْم من كذب، فِي كتاب الْعلم. الْخَامِس: حُذَيْفَة بن الْيَمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع مكررا. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم كوفيون. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور بِالنِّسْبَةِ إِلَى جده. وَفِيه: أَن حُذَيْفَة حَدثهُ وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق نعيم بن أبي هِنْد عَن ربعي: اجْتمع حُذَيْفَة وَأَبُو مَسْعُود فَقَالَ حُذَيْفَة: رجل لَقِي ربه ... فَذكر الحَدِيث، وَفِي آخِره: فَقَالَ أَبُو مَسْعُود: هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمثله رِوَايَة أبي عوَانَة عَن عبد الْملك عَن ربعي، كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْبَاب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر بني إِسْرَائِيل عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الاستقراض عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أَحْمد بن يُونُس بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر وَعَن عَليّ بن حجر وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي سعيد الْأَشَج. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن بشار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (تلقت) أَي: اسْتقْبل روح رجل عِنْد الْمَوْت، وَفِي رِوَايَة عبد الْملك بن عُمَيْر فِي ذكر بني إِسْرَائِيل: (أَن رجلا كَانَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ أَتَاهُ ملك الْمَوْت ليقْبض روحه) . قَوْله: (أعملت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، ويروى بِحَذْف همزَة الِاسْتِفْهَام، وَهِي مقدرَة فِيهِ. وَفِي رِوَايَة عبد الْملك الْمَذْكُورَة. فَقَالَ: (مَا أعلم شَيْئا غير أَنِّي) فَذكره، وَفِي رِوَايَة لمُسلم من طَرِيق شَقِيق عَن أبي مَسْعُود رَفعه: (حُوسِبَ رجل مِمَّن كَانَ قبلكُمْ فَلم يُوجد لَهُ من الْخَيْر شَيْء، إلاَّ أَنه كَانَ يخالط النَّاس، وَكَانَ مُوسِرًا، وَكَانَ يَأْمر غلمانه أَن يتجاوزوا عَن الْمُعسر. قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى: نَحن أَحَق بذلك مِنْهُ، تجاوزوا عَنهُ) . قَوْله: (فتياني) بِكَسْر الْفَاء: جمع فَتى، وَهُوَ الْخَادِم حرا كَانَ أَو مَمْلُوكا. وَقَوله: (أَن ينْظرُوا) ، بِضَم الْيَاء من الإنظار، وَهُوَ الْإِمْهَال. وَقد ذكرنَا أَن هَذَا رِوَايَة أبي ذَر والنسفي، وَرِوَايَة البَاقِينَ: (أَن ينْظرُوا الْمُعسر ويتجاوزوا عَن الْمُوسر) . وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْبَاب. قَوْله: (ويتجاوزوا) عَن الْمُوسر، والتجاوز الْمُسَامحَة فِي الِاقْتِضَاء والاستيفاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن صلَة: ينْظرُوا، مَحْذُوف وَهُوَ: عَن الْمُعسر. وَلَفظ: عَن الْمُوسر، يتَعَلَّق بالتجاوز، لَكِن البُخَارِيّ جعله مُتَعَلقا بذيل التَّرْجَمَة بالموسر، حَيْثُ قَالَ: بَاب من أنظر مُوسِرًا. انْتهى. قلت: لَو وقف الْكرْمَانِي على رِوَايَة أبي ذَر والنسفي الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي أول الْبَاب لما احْتَاجَ إِلَى هَذَا التَّكَلُّف.
وَفِيه: والْحَدِيث الَّذِي يَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ: أَن الرب، جلّ جَلَاله، يغْفر الذُّنُوب بِأَقَلّ حَسَنَة تُوجد للْعَبد، وَذَلِكَ وَالله أعلم إِذا حصلت النِّيَّة فِيهَا لله تَعَالَى، وَأَن يُرِيد بهَا وَجهه وابتغاء مرضاته، فَهُوَ أكْرم الأكرمين وَلَا يخيب عَبده من رَحمته، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا فيضاعفه لَهُ، وَله أجر كريم} (الْحَدِيد: 11) . وَفِيه: إِبَاحَة كسب العَبْد لقَوْله: (كنت آمُر فتياني) . وَفِيه: أَن العَبْد يُحَاسب عِنْد مَوته بعض الْحساب. وَفِيه: أَنه إِن أنظرهُ أَو وضع سَاغَ ذَلِك، وَهُوَ شرع من قبلنَا، وشرعنا لَا يُخَالِفهُ بل ندب إِلَيْهِ.
وَقَالَ أبُو مالِكٍ عنْ رِبْعِيٍّ: كُنْتُ أُيَسِّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وأنْظِرُ المُعْسِرَ
أَبُو مَالك اسْمه: سعد بن طَارق الْأَشْجَعِيّ الْكُوفِي، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن أبي سعيد الأشح: حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن أبي مَالك سعد بن طَارق عَن ربعي (عَن حُذَيْفَة، قَالَ: أُتِي الله بِعَبْد من عباده آتَاهُ الله مَالا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عملت فِي دَار الدُّنْيَا؟ قَالَ: وَلَا يكتمون الله حَدِيثا. قَالَ: يَا رب آتيتني مَالك، فَكنت أبايع النَّاس، وَكَانَ من خلقي الْجَوَاز، فَكنت أتيسر على الْمُوسر وَأنْظر الْمُعسر، فَقَالَ الله تَعَالَى: أَنا أَحَق بذامنك، تجاوزوا عَن عَبدِي) . قَالَ عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ وَأَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ: هَكَذَا سمعناه من فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (كنت أيسر) ، بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد السِّين:

(11/190)


من التَّيْسِير، من بَاب التفعيل، وَقيل: من أيسر يوسر إيسارا، وَلَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن الْقَاعِدَة الصرفية أَن يُقَال: أوسر. وَفِي (الْمطَالع) : أيسر على الْمُوسر أَي: أسامحه وأعامله بالمياسرة والمساهلة.
وتَابَعَهُ شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ المَلِكِ عنْ رِبْعِيٍّ
أَي: تَابع أَبَا مَالك شُعْبَة عَن عبد الْملك بن أبي عُمَيْر عَن ربعي بن حِرَاش عَن حُذَيْفَة، فِي قَوْله: (وَأنْظر الْمُعسر) ، هَذِه الْمُتَابَعَة رَوَاهَا البُخَارِيّ فِي الاستقراض بِسَنَدِهِ، فَقَالَ: حَدثنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة عَن عبد الْملك عَن ربعي (عَن حُذَيْفَة قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: مَاتَ رجل، فَقيل لَهُ: مَا عملت من الْخَيْر؟ قَالَ: كنت أبايع النَّاس فأتجوز عَن الْمُوسر وأخفف عَن الْمُعسر، فغفر لَهُ) . قَالَ أَبُو مَسْعُود: سمعته من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ أبُو عَوَانَةَ عنْ عَبْدِ المَلِكِ عنْ رِبْعِيٍّ: أنْظِرُ الْمُوسِرَ وأتَجَاوَزُ عنِ الْمُعْسِرِ
أَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي، هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي ذكر بني إِسْرَائِيل مطولا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة عَن عبد الْملك. وَقَالَ نعيم بن ابي هِنْد عَن ربعي فَأقبل من الْمُوسر وأتجاوز عَن الْمُعسر
نعيم، بِضَم النُّون ابْن أبي هِنْد الْأَشْجَعِيّ، وَهُوَ نعيم بن النُّعْمَان بن أَشْيَم وَهُوَ ابْن عَم سَالم بن أبي الْجَعْد وَابْن عَم أبي مَالك الْأَشْجَعِيّ، مَاتَ سنة عشر وَمِائَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم حَدثنَا عَليّ بن حجر وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، واللفظة لِابْنِ حجر، قَالَا: حَدثنَا جرير عَن الْمُغيرَة عَن نعيم بن أبي هِنْد (عَن ربعي بن حِرَاش قَالَ: اجْتمع حُذَيْفَة وَأَبُو مَسْعُود، قَالَ حُذَيْفَة: لَقِي رجل ربه، فَقَالَ: مَا عملت؟ قَالَ: مَا عملت من الْخَيْر إلاَّ أَنِّي كنت رجلا ذَا مَال، قَالَ: فَكنت أطلب بِهِ النَّاس، فَكنت أقبل الميسور، وأتجاوز عَن المعسور. قَالَ: تجاوزوا عَن عَبدِي. قَالَ أَبُو مَسْعُود: هَكَذَا سَمِعت رَسُول الله. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول.

81 - (بابُ مَنْ أنْظَرَ مُعْسِرا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من أنظر مُعسرا.

8702 - حدَّثنا هِشامُ بنُ عَمَّارٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ حَمْزَةَ قَالَ حدَّثنا الزُّبيْدِيُّ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فإذَا رَأى مُعْسِرا قَالَ لِفِتْيَانِهِ تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ الله أَن يتَجَاوَزَ عَنَّا فَتَجاوَزَ الله عَنْهُ. (الحَدِيث 8702 طرفه فِي: 0843) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِذا رأى مُعسرا قَالَ لفتيانه: تجاوزوا عَنهُ) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: هِشَام ابْن عمار بن نصير بن ميسرَة أبي الْوَلِيد السّلمِيّ، وَيُقَال: الظفري، مَاتَ فِي آخر الْمحرم سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. قَالَ البُخَارِيّ: أرَاهُ بِدِمَشْق. الثَّانِي: يحيى بن حَمْزَة الْحَضْرَمِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن قَاضِي دمشق، فل يزل قَاضِيا بهَا حَتَّى مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَة، وَكَانَ مولده سنة ثَلَاث وَمِائَة، رَحمَه الله. الثَّالِث: الزبيدِيّ، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: واسْمه مُحَمَّد بن الْوَلِيد بن عَامر أَبُو هُذَيْل. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَهُوَ وَاثْنَانِ بعده شَامِيُّونَ وَالزهْرِيّ وَعبيد الله مدنيان. وَفِيه: أَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ أَن عبيد الله بن عبد الله حَدثهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ذكر بني إِسْرَائِيل

(11/191)


عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن مَنْصُور بن أبي مُزَاحم وَمُحَمّد بن جَعْفَر الْوَركَانِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هِشَام بن عمار بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ تَاجر يداين النَّاس) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن رجلا لم يعْمل خيرا قطّ، وَكَانَ يداين النَّاس) . قَوْله: (تجاوزوا عَنهُ) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (فَيَقُول لرَسُوله: خُذ مَا يسر، واترك مَا عسر، وَتجَاوز) . وروى الْحَاكِم على شَرط مُسلم وَلَفظه: (خُذ مَا تيَسّر، واترك مَا تعسر، وَتجَاوز لَعَلَّ الله أَن يتَجَاوَز عَنَّا) . وَفِيه: (فَقَالَ الله تَعَالَى: قد تجاوزت عَنْك) . وروى مُسلم من حَدِيث حُسَيْن بن عَليّ عَن زَائِدَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن ربعي، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْيُسْر، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أنظر مُعسرا وَوضع لَهُ أظلهُ الله فِي ظلّ عَرْشه) . وروى ابْن أبي شيبَة عَن يُونُس بن مُحَمَّد عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن أبي جَعْفَر الخطمي عَن مُحَمَّد بن كَعْب عَن أبي قَتَادَة: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من نفس عَن غَرِيمه أَو محى عَنهُ كَانَ فِي ظلّ الْعَرْش يَوْم الْقِيَامَة.

91 - (بابٌ إذَا بَيَّنَ الْبَيْعَانِ ولَمْ يَكْتُما ونَصَحا)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: (إِذا بَين البَيِّعَان) أَي: إِذا أظهر البيعان مَا فِي الْمَبِيع من الْعَيْب، و: البيعان، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف تَثْنِيَة بيع، وَأَرَادَ بهما: البَائِع وَالْمُشْتَرِي، وإطلاقه على المُشْتَرِي بطرِيق التغليب. أَو هُوَ من بَاب إِطْلَاق الْمُشْتَرك وَإِرَادَة معنييه مَعًا، إِذْ البيع جَاءَ لمعنيين، وَفِيه خلاف. قَوْله: (وَلم يكتما) أَي: مَا فِي الْمَبِيع من الْعَيْب. قَوْله: (وَنصحا) ، من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا بَينا مَا فِيهِ وَلم يكتما بورك لَهما فِيهِ، أَو نَحْو ذَلِك، وَلم يذكرهُ البُخَارِيّ اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث على عَادَته.
ويُذْكَرُ عَنِ العَدَّاءِ بنِ خالِدٍ قَالَ كَتَبَ لِي النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ العَدَّاءِ بنِ خَالِدٍ بَيْعَ الْمُسْلمِ المُسْلِمَ لَا دَاءَ ولاَ خُبْثَةَ ولاَ غَائِلَةَ
مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (لَا دَاء وَلَا خبثة وَلَا غائلة) ، لِأَن نفي هَذِه الْأَشْيَاء بَيَان بِأَن الْمَبِيع سَالم عَنْهَا وَلَيْسَ فِيهَا كتمان شَيْء من ذَلِك، والعداء بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة وَفِي آخِره همزَة على وزن فعال، هُوَ ابْن هودة بن ربيعَة بن عَمْرو بن عَامر بن صعصعة العامري، أسلم بعد الْفَتْح صَحَابِيّ قَلِيل الحَدِيث وَكَانَ يسكن الْبَادِيَة، وَهَذَا التَّعْلِيق هَكَذَا وَقع، وَقد وَصله التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار، قَالَ: حَدثنَا عباد بن لَيْث صَاحب الكرابيس، قَالَ: حَدثنَا عبد الْمجِيد ابْن وهب، قَالَ: قَالَ لي العداء بن خَالِد بن هودة: أَلاَ أقرئك كتابا كتبه لي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: قلت: بلَى. فَأخْرج لي كتابا: (هَذَا مَا اشْترى العداء بن هودة من مُحَمَّد رَسُول الله، اشْترى مِنْهُ عبدا أَو أمة لَا دَاء وَلَا غائلة وَلَا خبثة، بيع الْمُسلم الْمُسلم) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث عباد بن لَيْث.
وَقد روى عَنهُ هَذَا الحَدِيث غير وَاحِد من أهل الحَدِيث. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عباد بن لَيْث. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه غَيرهم وَكلهمْ اتَّفقُوا على أَن البَائِع هُوَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْمُشْتَرِي العداء، وَهنا بِالْعَكْسِ، فَقيل: إِن الَّذِي وَقع هُنَا مقلوب، وَقيل: صَوَاب، وَهُوَ من الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، لِأَن اشْترى وَبَاعَ بِمَعْنى وَاحِد. وَلزِمَ من ذَلِك تَقْدِيم اسْم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على اسْم العداء. وَشَرحه ابْن الْعَرَبِيّ على مَا وَقع فِي التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: فِيهِ الْبدَاءَة باسم الْمَفْضُول فِي الشُّرُوط إِذا كَانَ هُوَ المُشْتَرِي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بيع الْمُسلم الْمُسلم) ، بيع الْمُسلم مَنْصُوب على أَنه مصدر من غير فعله، لِأَن معنى البيع وَالشِّرَاء متقاربان، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا بِنَزْع الْخَافِض، تَقْدِيره: كَبيع الْمُسلم، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ بيع الْمُسلم الْمُسلم، وَالْمُسلم الثَّانِي مَنْصُوب بِوُقُوع فعل البيع عَلَيْهِ. قَوْله: (لَا دَاء) أَي: لَا عيب. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي لَا دَاء فِي العَبْد من الأدواء الَّتِي يرد بهَا: كالجنون والجذام والبرص والسل والأوجاع المتقاربة. وَيُقَال: الدَّاء الْمَرَض، وَهُوَ الْمَشْهُور.

(11/192)


وَعين فعله وَاو بِدَلِيل قَوْلهم فِي الْجمع: أدواء. يُقَال: دَاء الرجل وَأَدَاء وأدأته، يتَعَدَّى وَلَا يتَعَدَّى، وَقيل: لَا دَاء يَكْتُمهُ البَائِع، وإلاَّ فَلَو كَانَ بِالْعَبدِ دَاء وَبَينه البَائِع لَكَانَ من بيع الْمُسلم للْمُسلمِ. قَوْله: (وَلَا خبثة) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَقَالَ ابْن التِّين: ضبطناه فِي أَكثر الْكتب بِضَم الْخَاء، وَكَذَلِكَ سمعناه. وَضبط فِي بَعْضهَا بِالْكَسْرِ، وَقَالَ الْخطابِيّ: خبثة، على وزن: خيرة. قيل: أَرَادَ بهَا الْحَرَام كَمَا عبر عَن الْحَلَال بالطيب، قَالَ تَعَالَى: {وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} (الْأَعْرَاف: 751) . والخبثة نوع من أَنْوَاع الْخبث أَرَادَ أَنه عبد رَقِيق لَا أَنه من قوم لَا يحل سَبْيهمْ. وَقيل: المُرَاد الْأَخْلَاق الخبيثة كالإباق. قَوْله: (وَلَا غائلة) ، بالغين الْمُعْجَمَة أَي: وَلَا فجور. وَقيل: المُرَاد بالأباق. وَقَالَ ابْن بطال: هُوَ من قَوْلهم: اغتالني فلَان إِذا احتال بحيلة يتْلف بهَا مَالِي. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الدَّاء مَا كَانَ فِي الْخلق بِالْفَتْح، والخبثة مَا كَانَ فِي الْخلق بِالضَّمِّ، والغائلة سكُوت البَائِع عَمَّا يعلم من مَكْرُوه فِي الْمَبِيع. وَيُقَال: الدَّاء الْعَيْب الْمُوجب للخيار، والخبثة أَن يكون محرما والغائلة مَا فِيهِ هَلَاك مَال المُشْتَرِي كَكَوْنِهِ آبقا. وَقيل: الغائلة الْخِيَانَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ على وَجه تَخْرِيج التِّرْمِذِيّ وَغَيره، ذكر ابْن الْعَرَبِيّ فِيهِ ثَمَان فَوَائِد: الأولى: الْبدَاءَة باسم النَّاقِص قبل الْكَامِل فِي الشُّرُوط، والأدنى قبل الْأَعْلَى، وَقد ذَكرْنَاهُ. الثَّانِيَة: فِي كتب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك لَهُ وَهُوَ مِمَّن يُؤمن عَهده وَلَا يجوز أبدا عَلَيْهِ نقضه لتعليم الْأمة، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ هُوَ يَفْعَله فَكيف غَيره؟ الثَّالِثَة: أَن ذَلِك على الِاسْتِحْبَاب، لِأَنَّهُ بَاعَ وابتاع من الْيَهُودِيّ من غير إِشْهَاد، وَلَو كَانَ أمرا مَفْرُوضًا لقام بِهِ قبل الْخلق، وَفِيه نظر، لِأَن ابتياعه من الْيَهُودِيّ كَانَ بِرَهْنٍ. الرَّابِعَة: أَنه يكْتب اسْم الرجل وَاسم أَبِيه وجده حَتَّى ينتهى إِلَى جد يَقع بِهِ التَّعْرِيف، ويرتفع الِاشْتِرَاك الْمُوجب للإشكال عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ. انْتهى. هَذَا إِنَّمَا يَتَأَتَّى إِذا كَانَ الرجل غير مَعْرُوف، أما إِذا كَانَ مَعْرُوفا فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر أَبِيه، وَإِن لم يكن مَعْرُوفا وَكَانَ أَبوهُ مَعْرُوفا لم يحْتَج إِلَى ذكر الْجد، كَمَا جَاءَ فِي البُخَارِيّ من غير ذكر جد العداء. الْخَامِسَة: لَا يحْتَاج إِلَى ذكر النّسَب إلاَّ إِذا أَفَادَ تعريفا أَو رفع إشْكَالًا. السَّادِسَة: أَنه كرر الشِّرَاء، لِأَنَّهُ لما كَانَت الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى الْمَكْتُوب ذكر الشِّرَاء فِي القَوْل الْمَنْقُول. السَّابِعَة: قَالَ عبد، وَلم يصفه وَلَا ذكر الثّمن وَلَا قَبضه وَلَا قبض المُشْتَرِي. قلت: إِذا كَانَ الْمَبِيع حَاضرا فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا، وَالثمن أَيْضا إِذا كَانَ حَاضرا فَلَا يحْتَاج إِلَى ذكره وَلَا إِلَى معرفَة قدره. الثَّامِنَة: قَوْله: (بيع الْمُسلم الْمُسلم) ، ليبين أَن الشِّرَاء وَالْبيع وَاحِد، وَقد فرق أَبُو حنيفَة بَينهم، وَجعل لكل وَاحِد حدا مُنْفَردا. وَقَالَ غَيره: فِيهِ تولي الرجل البيع بِنَفسِهِ، وَكَذَا فِي حَدِيث الْيَهُودِيّ، وَكَرِهَهُ بَعضهم لِئَلَّا يسامح ذُو الْمنزلَة فَيكون نقصا من أجره، وَجَاز ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعصمته فِي نَفسه.
وَفِيه: صِحَة اشْتِرَاط سَلامَة الْمَبِيع من سَائِر الْعُيُوب لِأَنَّهَا نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي فتعم. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة كِتَابَة الشُّرُوط، وَهُوَ مُسْتَحبّ قطعا، وَهُوَ أَمر زَائِد على الْإِشْهَاد. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة ذكر الْمَفْعُول وَهُوَ قَوْله: (الْمُسلم) ، مَعَ أَنه لَو كَانَ المُشْتَرِي ذِمِّيا لم يجز غشه، وَلَا أَن يكتم عَنهُ عَيْبا يُعلمهُ؟ قلت: فَائِدَة ذَلِك أَن الْمُسلم أنصح للْمُسلمِ مِنْهُ للذِّمِّيّ لما بَينهمَا من علاقَة الْإِسْلَام، وغشه لَهُ أفحش من غشه للذِّمِّيّ.
وَقَالَ قَتادَةُ الغائِلةُ الزِّنَا والسَّرِقَةُ والإباقُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن مَنْدَه من طَرِيق الْأَصْمَعِي عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَنهُ، وَفِي (الْمطَالع) : الظَّاهِر أَن تَفْسِير قَتَادَة يرجع إِلَى الخبثة والغائلة مَعًا.
وقِيلَ لإبْرَاهِيمَ إنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمَّى آرِيَّ خُرَاسانَ وسِجِسْتَانَ فَيَقُولُ جاءَ أمْسِ مِنْ خرَاسَانَ جاءَ الْيَوْمَ مِنْ سِجِسْتَانَ فَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة تدل على نفي التَّدْلِيس والتغرير، وَهَذِه الصُّورَة الَّتِي ذكرت لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ فِيهَا تَدْلِيس على المُشْتَرِي، فَلذَلِك كرهه إِبْرَاهِيم كَرَاهِيَة شَدِيدَة.
قَوْله: (النخاسين) ، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر السِّين الْمُهْملَة: جمع النخاس، وَهُوَ الدَّلال فِي الدَّوَابّ. قَوْله: (آري خُرَاسَان وسجستان) ، (الأري، بِضَم الْهمزَة الممدودة

(11/193)


الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء اخر الْحُرُوف هُوَ معلف الدَّابَّة قَالَه الْخَلِيل وَقَالَ التيمى مربط الدَّابَّة وَقَالَ الأصمى هُوَ حَبل يدْفن فِي الأَرْض ويبرز طرفه ترْبط بِهِ الدَّابَّة واصلة من الْحَبْس والاقامة من قَوْلهم تارى بِالْمَكَانِ اذا قَامَ بِهِ وَقَالَ ابْن قرقول الارى كذاقيده جلّ الروَاة وَوَقع للمروزي أرى بِفَتْح الْهمزَة وَالرَّاء على مِثَال دعى وَلَيْسَ بِشَيْء وَوَقع لأبي زيد أرى بِضَم الْهمزَة وَهُوَ أَيْضا تَصْحِيف وَقَالَ بَعضهم وَوَقع لأبي ذَر الْهَرَوِيّ بِضَم الْهمزَة أَي أَظن قلت قَوْله أَظن غلط لِأَن الْمَنْقُول عَن أبي زيد هُوَ مَا نَقله عَنهُ ابْن قرقول ثمَّ قَالَ أَنه تَصْحِيف وَلَيْسَ الْمَعْنى أَن أَبَا ذَر قَالَ أَظن أَنه كَذَلِك يَعْنِي مثل مَا قَالَ الْمروزِي وَقَالَ ابْن السّكيت مِمَّا تضعه الْعَامَّة فِي غير مَوْضِعه قَوْلهم للمعلف آرى وَإِنَّمَا هُوَ محبس الدَّابَّة وَهِي الأوارى والأواخى وأحدها أرى وأخى وَعَن الشّعبِيّ وَزيد بن وهب وَغَيرهمَا أَمر سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَبَا الْهياج الْأَسدي والسائب بن الْأَقْرَع أَن يقسما للنَّاس يَعْنِي الْكُوفَة واحتطوا من وَرَاء السِّهَام فَكَانَ الْمُسلمُونَ يعلفون إبلهم ودوابهم فِي ذَلِك الْموضع حول الْمَسْجِد فَسَموهُ الآرى (قلت) وَقد اضْطَرَبَتْ الروَاة فِيهَا اضطرابا شَدِيدا حَتَّى قَالَ بَعضهم قرى خُرَاسَان مَوضِع آرى خُرَاسَان بِضَم الْقَاف جمع قَرْيَة وَالَّذِي عَلَيْهِ الِاعْتِمَاد مَا قَالَه التَّيْمِيّ وَهُوَ الاصطبل وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ قيل لَهُ إِن نَاسا من النخاسين وَأَصْحَاب الدَّوَابّ يُسمى أحدهم بإصطبل دوابه خُرَاسَان وسجستان ثمَّ يَأْتِي السُّوق فَيَقُول جَاءَت من خُرَاسَان وسجستان قَالَ فكره ذَلِك إِبْرَاهِيم وَسبب كَرَاهَته لما فِيهِ من الْغِشّ والتدليس على المُشْتَرِي ليظن أَنَّهَا طرية الجلب وَرَوَاهُ دعْلج عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن زيد حَدثنَا سعيد بن قيس حَدثنَا هشيم وَلَفظه أَن بعض النخاسين يُسمى أرية خُرَاسَان وسجستان (ح) وخراسان بِضَم الْخَاء الإقليم الْمَعْرُوف مَوضِع الْكثير من عُلَمَاء الْمُسلمين وسجستان بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَالْجِيم وَسُكُون السِّين الثَّانِيَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق اسْم للديار الَّتِي قصبتها زرنج بِفَتْح الزَّاي وَالرَّاء وَسُكُون النُّون وبالجيم وَهَذِه المملكة خلف كرمان بمسيرة مائَة فَرسَخ وَهِي إِلَى نَاحيَة الْهِنْد وَيُقَال لَهُ السجز بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وبالزاي
(وَقَالَ عقبَة بن عَامر لَا يحل لامريء يَبِيع سلْعَة يعلم أَن بهَا دَاء إِلَّا أخبرهُ) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعقبَة بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف ابْن عَامر الْجُهَنِيّ الشريف الفصيح الفرضي الشَّاعِر شهد فتح الشَّام وَهُوَ كَانَ الْبَرِيد إِلَى عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِفَتْح دمشق وَوصل الْمَدِينَة فِي سَبْعَة أَيَّام وَرجع مِنْهَا إِلَى الشَّام فِي يَوْمَيْنِ وَنصف بدعائه عِنْد قبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي تقريب طَرِيقه مَاتَ بِمصْر أوليا سنة ثَمَان وَخمسين وَقد مر ذكره فِي الصَّلَاة وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن ماجة قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا وهب بن جرير حَدثنَا أبي سَمِعت يحيى بن أَيُّوب يحدث عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عبد الرَّحْمَن بن شماسَة عَن عقبَة بن عَامر سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " الْمُسلم أَخُو الْمُسلم وَلَا يحل لمُسلم بَاعَ من أَخِيه بيعا وَبِه عيب إِلَّا بَينه لَهُ " وَرَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم أَيْضا من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن شماسَة بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْمِيم وَبعد الْألف سين مُهْملَة قَوْله " إِلَّا أخبرهُ " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " إِلَّا أخبر بِهِ " وروى ابْن ماجة أَيْضا من حَدِيث مَكْحُول وَسليمَان بن مُوسَى عَن وَاثِلَة سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول من بَاعَ بيعا لم يُبينهُ لم يزل فِي مقت الله وَلم تزل الْمَلَائِكَة تلعنه ".
31 - (حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن صَالح أبي الْخَلِيل عَن عبد الله بن الْحَارِث رَفعه إِلَى حَكِيم بن حزَام رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا أَو قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا فَإِن صدقا وَبينا بورك لَهما فِي بيعهمَا وَإِن كتما وكذبا محقت بركَة بيعهمَا) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَإِن صدقا وَبينا إِلَى آخِره " (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول سُلَيْمَان بن حَرْب أَبُو أَيُّوب -

(11/194)


الواشحي. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: قَتَادَة بن دعامة. الرَّابِع: صَالح بن أبي مَرْيَم أَبُو الْخَلِيل الضبعِي. الْخَامِس: عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب أَبُو مُحَمَّد الْهَاشِمِي. السَّادِس: حَكِيم، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الْكَاف: ابْن حزَام، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وخفة الزَّاي: الْأَسدي، وَقد مر فِي الزَّكَاة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشعْبَة واسطي وَقَتَادَة وَصَالح بصريان وَعبد الله بن الْحَارِث مدنِي. تحول إِلَى الْبَصْرَة. وَفِيه: قَتَادَة عَن صَالح، وَفِي رِوَايَة تَأتي بعد بَابَيْنِ: عَن قَتَادَة، قَالَ: سَمِعت أَبَا الْخَلِيل يحدث عَن عبد الله بن الْحَارِث. وَفِيه: رَفعه إِلَى حَكِيم، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك ليشْمل سَمَاعه عَنهُ بالواسطة وبدونها. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين الأول: قَتَادَة، وَالثَّانِي: صَالح، وَالثَّالِث: عبد الله بن الْحَارِث، وَهُوَ مَعْدُود فِي التَّابِعين، ومذكور فِي الصَّحَابَة لِأَنَّهُ ولد فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأتى بِهِ فحنكه وَلم ينْسب فِي شَيْء من طرق حَدِيثه فِي الصَّحِيح، لَكِن وَقع لِأَحْمَد من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة عَن عبد الله بن الْحَارِث الْهَاشِمِي، وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة والإسماعيلي عَنهُ من وَجه آخر عَن شُعْبَة، فَقَالَ: عَن قَتَادَة سَمِعت أَبَا الْخَلِيل يحدث عَن عبد الله بن الْحَارِث بن نَوْفَل، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَحَدِيث آخر عَن الْعَبَّاس فِي قصَّة أبي طَالب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن بدل بن المحبر وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب فرقهما، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة، وَفِي حَدِيث بهز وحبان عَن همام، وحَدثني أَبُو التياح عَن عبد الله بن الْحَارِث بِهَذَا وَعَن حَفْص بن عَمْرو عَن إِسْحَاق بن حبَان عَن همام بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن أبي مُوسَى عَن يحيى وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن همام بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن ابْن بشار عَن يحيى بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الشُّرُوط عَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى بِهِ وَعَن أبي الْأَشْعَث عَن سعيد عَن قَتَادَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (البيعان) ، هَكَذَا هُوَ فِي سَائِر طَرِيق الحَدِيث وَفِي بَعْضهَا: (الْمُتَبَايعَانِ) ، قَالَ شَيخنَا: وَلم أرَ فِي شَيْء من طرقه: البائعان، وَإِن كَانَ لفظ البَائِع أشهر وأغلب من البيع، وَإِنَّمَا استعملوا ذَلِك بِالْقصرِ والإدغام من الْفِعْل الثلاثي المعتل الْعين فِي أَلْفَاظ محصورة: كطيب وميت وكيس وريض ولين وهين، واستعملوا فِي: بَاعَ الْأَمريْنِ، فَقَالُوا: بَائِع وبيِّع. قَوْله: (مَا لم يَتَفَرَّقَا) هُوَ كَذَلِك فِي أَكثر الرِّوَايَات بِتَقْدِيم التَّاء وبالتشديد، وَعند مُسلم: مَا لم يفترقا، بِتَقْدِيم الْفَاء وبالتخفيف، وَقد فرق بَينهمَا بعض أهل اللُّغَة عَن ثَعْلَب أَنه سُئِلَ: هَل يتفرقان ويفترقان وَاحِد أم غيران؟ فَقَالَ: أخبرنَا ابْن الْأَعرَابِي عَن الْمفضل قَالَ يفترقان بالْكلَام، ويتفرقان بالأبدان. انْتهى. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: هَذَا يُؤَيّد مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور من أَن المُرَاد هُنَا التَّفَرُّق بالأبدان. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَالَّذِي نَقله الْمفضل أَو نقل عَنهُ من الْفرق بَين التفعل والافتعال لَا يشْهد لَهُ الْقُرْآن، وَلَا يعضده الِاشْتِقَاق، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب} (الْبَيِّنَة: 4) . فَذكر التَّفَرُّق فِيمَا ذكر فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الافتعال فِي قَوْله: (افْتَرَقت الْيَهُود وَالنَّصَارَى على ثِنْتَيْنِ وَسبعين فرقة وَسَتَفْتَرِقُ أمتِي على ثَلَاث وَسبعين فرقة) . قَوْله: (فَإِن صدقا) أَي: فَإِن صدق كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْإِخْبَار عَمَّا يتَعَلَّق بِهِ من: الثّمن وَوصف الْمَبِيع وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (وَبينا) أَي: وَبَين كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه مَا يحْتَاج إِلَى بَيَانه من عيب وَنَحْوه فِي السّلْعَة أَو السّلْعَة أَو الثّمن. قَوْله: (بورك لَهما فِي بيعهمَا) أَي: كثر نفع الْمَبِيع وَالثمن. قَوْله: (وَإِن كتما) أَي: وَإِن كتم البَائِع عيب السّلْعَة وَالْمُشْتَرِي عيب الثّمن. قَوْله: (وكذبا) أَي: وَكذب البَائِع فِي وصف سلْعَته وَالْمُشْتَرِي فِي وصف ثمنه. قَوْله: (محقت) من المحق وَهُوَ النُّقْصَان، وَذَهَاب الْبركَة. وَقيل: هُوَ أَن يذهب الشَّيْء كُله حَتَّى لَا يرى مِنْهُ أثر. وَمِنْه: {ويمحق الله الرِّبَا} (الْبَقَرَة: 672) . أَي: يستأصله وَيذْهب ببركته وَيهْلك المَال الَّذِي يدْخل فِيهِ، وَالْمرَاد: يمحق بركَة البيع مَا يَقْصِدهُ التَّاجِر من الزِّيَادَة والنماء، فيعامل بنقيض مَا قَصده، وعلق الشَّارِع حُصُول الْبركَة لَهما بِشَرْط الصدْق والتبيين، والمحقَ إِن وجد ضدهما، وَهُوَ الكتم وَالْكذب، وَهل تحصل الْبركَة لأَحَدهمَا إِذا وجد مِنْهُ الْمَشْرُوط دون الآخر؟ ظَاهر الحَدِيث يَقْتَضِيهِ، وَلَكِن يحْتَمل أَن يعود شُؤْم أَحدهمَا على الآخر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ اخْتلف الْعلمَاء فِي تَأْوِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا لم يَتَفَرَّقَا) ، فَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالثَّوْري فِي رِوَايَة،

(11/195)


وَرَبِيعَة وَمَالك وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن: المُرَاد بالتفرق فِيهِ هُوَ التَّفَرُّق بالأقوال، فَإِذا قَالَ البَائِع: بِعْت، وَقَالَ المُشْتَرِي: قبلت أَو اشْتريت فقد تفَرقا وَلَا يبْقى لَهما بعد ذَلِك خِيَار، وَيتم بِهِ البيع وَلَا يقدر المُشْتَرِي على رد الْمَبِيع إلاَّ بِخِيَار الرُّؤْيَة أَو خِيَار الْعَيْب أَو خِيَار الشَّرْط. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَعِيسَى بن أبان وَآخَرُونَ: التَّفْرِقَة الَّتِي تقطع الْخِيَار هِيَ الِافْتِرَاق بالأبدان بعد المخاطبة بِالْبيعِ قبل قبُول الآخر، وَذَلِكَ أَن الرجل إِذا قَالَ لآخر: قد بِعْتُك عَبدِي بِأَلف دِرْهَم، فللمخاطب بذلك القَوْل أَن يقبل مَا لم يُفَارق صَاحبه، فَإِذا افْتَرقَا لم يكن لَهُ بعد ذَلِك أَن يقبل. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَالزهْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَابْن أبي ذِئْب وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَابْن أبي مليكَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَهِشَام بن يُوسُف وَابْنه عبد الرَّحْمَن وَعبيد الله بن الْحسن القَاضِي وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَأَبُو سُلَيْمَان وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَأهل الظَّاهِر: الْفرْقَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث هِيَ التَّفَرُّق بالأبدان، فَلَا يتم البيع حَتَّى يُوجد التَّفَرُّق بالأبدان، وَالْحَاصِل من ذَلِك أَن أَصْحَابنَا قَالُوا: إِن العقد يتم بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُول وَيدخل الْمَبِيع فِي ملك المُشْتَرِي، وَإِثْبَات خِيَار الْمجْلس لأَحَدهمَا يسْتَلْزم إبِْطَال حق الآخر، فَيَنْتَفِي بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا ضَرَر وَلَا ضرار فِي الْإِسْلَام) ، والْحَدِيث مَحْمُول على خِيَار الْقبُول، فَإِنَّهُ إِذا أوجب أَحدهمَا فَلِكُل مِنْهُمَا الْخِيَار مَا داما فِي الْمجْلس، وَلم يأخذا فِي عمل آخر، وَفِي لَفْظَة إِشَارَة إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمَا متبايعان حَالَة البيع حَقِيقَة وَمَا بعده أَو قبله مجَاز، أَو بعد العقد خِيَار الْمجْلس غير ثَابت لقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الدّين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم} (النِّسَاء: 92) . فأباح الْأكل بِوُجُود التَّرَاضِي عَن التِّجَارَة، فَالْبيع تِجَارَة، فَدلَّ على نفي الْخِيَار وَصِحَّة وُقُوع البيع للْمُشْتَرِي بِنَفس العقد، وَجَوَاز تصرفه فِيهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْفوا بِالْعُقُودِ} (الْمَائِدَة: 1) . وَهَذَا عقد يلْزم الْوَفَاء بِظَاهِر الْآيَة، وَفِي إِثْبَات الْخِيَار نفي لُزُوم الْوَفَاء بِهِ، وَفِي الحَدِيث مَا يدل على أَن نصيحة الْمُسلم وَاجِبَة، وَهَذَا هُوَ الأَصْل فِي هَذَا الْبَاب، وَقد كَانَ سيد الْخلق يَأْخُذهَا فِي الْبيعَة على النَّاس كَمَا يَأْخُذ عَلَيْهِم الْفَرَائِض، قَالَ جرير: (بَايَعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على السّمع وَالطَّاعَة، فَشرط عَليّ النصح لكل مُسلم) وَصَحَّ أَنه قَالَ: (لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ) ، فَحرم بِهَذَا غش الْمُؤمن وخديعته، وَالله أعلم.

02 - (بابُ بَيْعِ الْخِلْطِ مِنَ التَّمْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان بيع الْخَلْط من التَّمْر. الْخَلْط، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة: التَّمْر الْمُجْتَمع على أَنْوَاع مُتَفَرِّقَة. وَقَالَ الْأَصْمَعِي، هُوَ كل لون من التَّمْر لَا يعرف اسْمه، وَقيل: هُوَ نوع رَدِيء، وَقيل: هُوَ الْمُخْتَلط. وَعَن الْمُطَرز: هُوَ نخل الدقل، يَعْنِي: تمر الدوم، كَذَا ذكره عِيَاض، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الدوم: ضخام الشّجر، وَقيل: هُوَ شجر الْمقل، وَقَالَ ابْن قرقول: هُوَ تمر من تمر النّخل رَدِيء يَابِس، وَكلمَة: من، فِي قَوْله: من التَّمْر، بَيَانِيَّة.

0802 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ يَحْيَى عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا نُرْزَقُ تَمْرَ الجَمْعِ وهْوَ الخِلْطُ مِنَ التَّمْرِ وكُنَّا نَبِيعُ صَاعَيْنِ بِصاعٍ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ صَاعَيْنِ بِصاعٍ ولاَ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكُنَّا نبيع الصاعين بِصَاع) ، يَعْنِي: من تمر الْجمع، وَالْجمع، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم، وَهُوَ كل لون من النخيل لَا يعرف اسْمه، وَفِي (الْمغرب) : الْجمع الدقل، لِأَنَّهُ يجمع من خمسين نَخْلَة، وَقد نهى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن بيع هَذَا بقوله: (لَا صَاعَيْنِ بِصَاع) يَعْنِي: لَا تَبِيعُوا الصاعين بِصَاع، لِأَن التَّمْر كُله جنس وَاحِد رديئه، وجيده فَلَا يجوز التَّفَاضُل فِي شَيْء مِنْهُ على مَا سَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ مفصلا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة كلهم ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان بن يحيى التَّمِيمِي النَّحْوِيّ، أَصله بَصرِي سكن الْكُوفَة وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير، وَأَبُو سَلمَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن، وَأَبُو سعيد هُوَ الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واسْمه: سعد بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن

(11/196)


إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَعَن هِشَام بن عَفَّان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن أبي كريب.
وَفقه الْبَاب: أَن التَّمْر كُله جنس وَاحِد لَا يجوز التَّفَاضُل فِيهِ؟ فَإِن قلت: قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: لَا رَبًّا إلاَّ فِي النَّسِيئَة، قلت: قد ثَبت رُجُوعه عَنهُ، وَذكر الْأَثْرَم فِي (سنَنه) : قلت لأبي عبد الله: التَّمْر بِالتَّمْرِ وزنا بِوَزْن. قَالَ: لَا، وَلَكِن كَيْلا بكيل، إِنَّمَا أصل التَّمْر الْكَيْل. قلت لأبي عبد الله: صَاع تمر بِصَاع وَاحِد. وَأحد التمرين يدْخل فِي الْمِكْيَال أَكثر، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ صَاع بِصَاع، أَي: جَائِز. انْتهى. قلت: وَيدخل فِي معنى التَّمْر جَمِيع الطَّعَام، فَلَا يجوز فِي الْجِنْس الْوَاحِد مِنْهُ التَّفَاضُل، وَلَا النِّسَاء بِالْإِجْمَاع، فَإِذا كَانَا جِنْسَيْنِ كحنطة وشعير جَازَ التَّفَاضُل، وَاشْترط الْحُلُول، وَسَيَجِيءُ الْبَحْث فِيهِ عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (وَلَا دِرْهَمَيْنِ بدرهم) أَي: وَلَا تَبِيعُوا بدرهم. . يُؤَيّد الحَدِيث الآخر: (الذَّهَب بِالذَّهَب مثلا بِمثل) إِلَى أَن قَالَ: وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ ... حَتَّى عدد النسئة.