عمدة القاري شرح صحيح البخاري

6 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {وإذَا رَأوْا تِجَارَةً أوْ لَهْوا انْفَضُّوا إلَيْهَا} (الْجُمُعَة: 11) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سَبَب نزُول قَول الله عز وَجل: {وَإِذا رَأَوْا. .} (الْجُمُعَة: 01) . الْآيَة. وَقد ذكر هَذِه الْآيَة فِي أول كتاب الْبيُوع فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي قَول الله عز وَجل: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة ... } (الْجُمُعَة: 01) . الْآيَة. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى وَكَانَ قَصده من إِعَادَتهَا هُنَا إِشَارَة بِأَن التِّجَارَة، وَإِن كَانَت فِي نَفسهَا ممدوحة بِاعْتِبَار كَونهَا من المكاسب الْحَلَال، فَإِنَّهَا قد تذم إِذا مَا قدمت على مَا يجب تَقْدِيمه عَلَيْهَا، وَكَانَ من الْوَاجِب الْمُقدم عَلَيْهَا إثباتهم مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين كَانَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة إِلَى أَن يفرغ من الصَّلَاة، فَلَمَّا تفَرقُوا حِين أَقبلت العير، وَلم يبْق مَعَه غير اثْنَي عشر رجلا، أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وفيهَا عتب عَلَيْهِم، وإنكار، وَأخْبر بِأَن كَونهم مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ خيرا لَهُم من التِّجَارَة.

7 - (بابُ مَنْ لَمْ يُبَالِ مِنْ حَيْثُ كَسَبَ المَالَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من لم يبال من حَيْثُ كسب المَال، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى ذمّ من لم يبالِ فِي مكاسبه من أَيْن يكْسب.

9502 - حدَّثنا آدمُ قَالَ حَدثنَا ابنُ أبِي ذِئبٍ قَالَ حَدثنَا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهِ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يأتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ لاَ يُبَالِي المَرْءُ مَا أخذَ مِنْهُ أمِنَ الحَلالِ أم مِنَ الحَلالِ. (الحَدِيث 9502 طرفه فِي: 3802) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يُبَالِي الْمَرْء مَا أَخذ مِنْهُ: أَمن الْحَلَال أم من الْحَرَام؟) وآدَم هُوَ ابْن إِيَاس، وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا بن دِينَار.
قَوْله: (يَأْتِي على النَّاس) وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يزِيد عَن ابْن أبي ذِئْب بِسَنَدِهِ: (ليَأْتِيَن على النَّاس زمَان) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من وَجه آخر: (يَأْتِي على

(11/173)


النَّاس زمَان مَا يُبَالِي الرجل من أَيْن أَصَابَهُ المَال، من حل أَو حرَام) . وروى الْحَاكِم من حَدِيث الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: (يَأْتِي على النَّاس زمَان لَا يبْقى فِيهِ أحد إلاَّ أكل الرِّبَا، فَإِن لم يَأْكُلهُ أَصَابَهُ من غباره) . وَقَالَ: إِن صَحَّ سَماع الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة فَهَذَا حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا يكون لضعف الدّين وَعُمُوم الْفِتَن، وَقد قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا) . وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: (من بابت أكَّالاً من عمل الْحَلَال بَات وَالله عَنهُ راضٍ، وَأصْبح مغفورا لَهُ. وَطلب الْحَلَال فَرِيضَة على كل مُؤمن) . ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي (كتاب التَّرْغِيب والترهيب) من حَدِيث دَاوُد بن عَليّ بن عبد الله ابْن عَبَّاس عَن أَبِيه عَن جده ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا مُخْتَصرا. وَقَالَ ابْن التِّين: أخبر بِهَذَا تحذيرا، لِأَن فتْنَة المَال شَدِيدَة. وَقد دعِي أَبُو هُرَيْرَة إِلَى طَعَام، فَلَمَّا أكل لم ير نِكَاحا وَلَا ختانا وَلَا مولودا، قَالَ: مَا هَذَا؟ قيل خفضوا جَارِيَة. فَقَالَ: هَذَا طَعَام مَا كُنَّا نعرفه، ثمَّ قاءه، قَالَ: يُقَال: أول مَا ينتن من الْإِنْسَان بَطْنه، وروى أبان بن أبي عَيَّاش (عَن أنس قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! إجعلني مستجاب الدعْوَة. قَالَ: يَا أنس أطب كسبك تستجاب دعوتك. فَإِن الرجل ليرْفَع إِلَى فِيهِ اللُّقْمَة من حرَام فَلَا تستجاب لَهُ دَعوته أَرْبَعِينَ يَوْمًا.

8 - (بابُ التِّجَارَةِ فِي البَرِّ وغَيْرِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِبَاحَة التِّجَارَة. قَوْله: (فِي الْبر) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء، وَقيل: بِفَتْح الْبَاء وبتشديد الزَّاي. قَالَ ابْن دُرَيْد: الْبر، مَتَاع الْبَيْت من الثِّيَاب خَاصَّة، وَعَن اللَّيْث: ضرب من الثِّيَاب، وَعَن الْجَوْهَرِي: هُوَ من الثِّيَاب أَمْتعَة الْبَزَّاز، والبزازة حرفته. وَقَالَ مُحَمَّد فِي (السّير الْكَبِير) : الْبَز عِنْد أهل الْكُوفَة ثِيَاب الْكَتَّان والقطن لَا ثِيَاب الصُّوف والخز. وَقيل: هِيَ السِّلَاح وَالثيَاب، وَقيل، بِضَم الْبَاء وَتَشْديد الرَّاء، قيل: الْأَكْثَر على أَنه بالزاي، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يَقْتَضِي تعْيين الْبر، بِضَم الْبَاء وَتَشْديد الرَّاء. وَالْأَقْرَب أَن يكون: بِفَتْح الْبَاء وَتَشْديد الرَّاء، لِأَنَّهُ أليق بمؤاخاة التَّرْجَمَة الَّتِي تَأتي بعْدهَا بِبَاب، وَهِي قَوْله: بَاب التِّجَارَة فِي الْبَحْر، وَإِلَى هَذَا مَال ابْن عَسَاكِر. قَوْله: (وَغَيره) ، لَيْسَ هَذَا اللَّفْظ بموجود فِي رِوَايَة الْأَكْثَر، وَإِنَّمَا هُوَ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وكريمة. قلت: على تَقْدِير وجود هَذِه اللَّفْظَة، الأصوب أَن: الْبَز، بالزاي، وَيكون الْمَعْنى: وَغير الْبَز من أَنْوَاع الْأَمْتِعَة.
وقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: {ورِجالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولاَ بَيْعٌ عنْ ذِكْرِ الله} (النُّور: 73) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على التِّجَارَة، تَقْدِيره: وَفِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {رجال لَا تُلْهِيهِمْ} (النُّور: 73) . وَأول الْآيَة: {فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه يسبح لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} (النُّور: 73) . قَرَأَ ابْن عَامر وَأَبُو بكر عَن عَاصِم بِفَتْح الْبَاء على مَا لم يسم فَاعله، ويسند إِلَى أحد الظروف الثَّلَاثَة، أَعنِي: {لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} (النُّور: 73) . وَرِجَال مَرْفُوع بِمَا دلّ عَلَيْهِ: يسبح، وَهُوَ: يسبح لَهُ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْر الْبَاء، جعلُوا التَّسْبِيح فعلا للرِّجَال، وَرِجَال فَاعل لقَوْله: يسبح فَإِن قيل: التِّجَارَة اسْم يَقع على البيع وَالشِّرَاء، فَمَا معنى ضم: ذكر البيع إِلَى التِّجَارَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قيل: التِّجَارَة فِي السّفر وَالْبيع فِي الْحَضَر، وَقيل: التِّجَارَة الشِّرَاء، وَأَيْضًا البيع فِي الإلهاء أَدخل لكثرته بِالنِّسْبَةِ إِلَى التِّجَارَة.
وَقَالَ قَتَادَةُ كانَ الْقَوْمُ يَتَبَايَعُونَ ويَتَّجِرُونَ ولَكِنَّهُمْ إذَا نابَهُمْ حقٌّ مِنْ حُقُوقِ الله لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ ولاَ بَيْعٌ عنْ ذِكْرِ الله حَتَّى يُؤَدُّوهُ إلَى الله
أَرَادَ بالقوم: الصَّحَابَة، فَإِنَّهُم كَانُوا فِي بيعهم وشرائهم إِذا سمعُوا إِقَامَة الصَّلَاة يتبادرون إِلَيْهَا لأَدَاء حُقُوق الله، وَيُؤَيّد هَذَا مَا أخرجه عبد الرَّزَّاق من كَلَام ابْن عمر، أَنه كَانَ فِي السُّوق فأقيمت الصَّلَاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا الْمَسْجِد، فَقَالَ ابْن عمر: فيهم نزلت، فَذكر الْآيَة، وَقَالَ ابْن بطال: وَرَأَيْت فِي تَفْسِير الْآيَة، قَالَ: كَانُوا حدادين وخرازين، فَكَانَ أحدهم إِذا رفع المطرقة أَو غرز الأشفى فَسمع الْأَذَان لم يخرج الأشفي من الغررة وَلم يُوقع المطرقة، وَرمى بهَا، وَقَامَ إِلَى الصَّلَاة. وَفِي الْآيَة نعت تجار الْأمة السالفة وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ من مُرَاعَاة حُقُوق الله تَعَالَى والمحافظة عَلَيْهَا والتزام ذكر الله فِي حَال

(11/174)


تجاراتهم وصبرهم على أَدَاء الْفَرَائِض وإقامتها، وخوفهم من سوء الْحساب وَالسُّؤَال يَوْم الْقِيَامَة.
0602

- 1602 حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَمْرُو بنُ دِينارٍ عنْ أبِي المِنْهَالِ قَالَ كنتُ أتَّجِرُ فِي الصَّرْفِ فَسألْتُ زَيْدَ بنَ أرْقَمَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ح وحدَّثني الفَضْلُ بنُ يَعْقُوبَ قَالَ حدَّثنا الحَجَّاجُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ أَخْبرنِي عَمْرُو بنُ دِينَارٍ وعامِرُ بنُ مُصْعَبٍ أنَّهُمَا سَمِعَا أبَا المِنْهَالِ يَقُولُ سألْتُ الْبَرَاءَ بنَ عازِبٍ وزَيْدَ بنَ أرْقَمَ عنِ الصَّرْفِ فَقالاَ كُنَّا تَاجِرَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسألْنَا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ الصَّرْفِ فَقَالَ إنْ كانَ يَدا بِيَدٍ فَلاَ بَأسَ وإنْ كانَ نَسَاءً فَلاَ يَصْلُحُ ... [/ نه

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كُنَّا تاجرين على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
ذكر رِجَاله وهم تِسْعَة، لِأَنَّهُ رُوِيَ من طَرِيقين: الأول: أَبُو عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بن مخلد. الثَّانِي: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الثَّالِث: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن دِينَار. الرَّابِع: أَبُو الْمنْهَال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفِي آخِره لَام: اسْمه عبد الرَّحْمَن بن مطعم، وَلَهُم أَبُو الْمنْهَال الآخر صَاحب أبي بَرزَة، واسْمه: سيار بن سَلامَة. الْخَامِس: الْفضل بن يَعْقُوب الرخامي. السَّادِس: الْحجَّاج بن مُحَمَّد الْأَعْوَر. السَّابِع: عَامر بن مُصعب، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة. الثَّامِن: الْبَراء بن عَازِب الْأنْصَارِيّ. التَّاسِع: زيد بن أَرقم الْأنْصَارِيّ الخزرجي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: السماع فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَبُو عَاصِم شَيْخه بَصرِي وَابْن جريج وَعَمْرو بن دِينَار مكيان وَأَبُو الْمنْهَال كُوفِي وَفضل بن يَعْقُوب شَيْخه بغددي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَالْحجاج بن مُحَمَّد أَصله ترمذي سكن المصيصة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن حَفْص بن عمر وَفِي هِجْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عَليّ بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعَن عبيد الله بن معَاذ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور، وَعَن إِبْرَاهِيم بن الْحسن وَعَن أَحْمد بن عبد الله وَذكر كلهم فِي حَدِيثهمْ زيد بن أَرقم سوى عَمْرو بن عَليّ.
قَوْله: (عَن الصّرْف) ، قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي عَن الذَّهَب وَالْفِضَّة. وَقَالَ الْخَلِيل: الصّرْف فضل الدِّرْهَم على الدِّرْهَم، وَمِنْه اشتق اسْم الصَّيْرَفِي لتصريفه بعض ذَلِك فِي بعض. قلت: الصّرْف من أَنْوَاع البيع، وَهُوَ بيع الثّمن بِالثّمن. قَوْله: (إِن كَانَ يدا بيد) ، يَعْنِي: متقابضين فِي الْمجْلس. قَوْله: (وَإِن كَانَ نسَاء) ، بِفَتْح النُّون وبالمد، وَهُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (نسيئا) ، بِفَتْح النُّون وَكسر السِّين وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا همزَة. وَفِي (الْمطَالع) : (وَإِن كَانَ نسيئا) على وزن: فعيل، وَعند الْأصيلِيّ: (نسَاء) ، مثل: فعال، وَكِلَاهُمَا صَحِيح بِمَعْنى التَّأَخُّر، والنسيء اسْم وضع مَوضِع الْمصدر الْحَقِيقِيّ، وَمثله: {إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر} (التَّوْبَة: 73) . يُقَال: أنسأت الشَّيْء إنساءً ونَساءً، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب مفصلا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

9 - (بابُ الخُرُوجِ فِي التِّجَارَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِبَاحَة الْخُرُوج فِي التِّجَارَة، وَكلمَة: فِي، هُنَا للتَّعْلِيل، أَي: لأجل التِّجَارَة، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لمسَّكم فِيمَا أَفَضْتُم} (الْأَنْفَال: 86) . وَفِي الحَدِيث: (إِن امْرَأَة دخلت النَّار فِي هرة حبستها) أَي: لأجل هرة.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: {فانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وابْتَغُوا منْ فَضْلِ الله} (الْجُمُعَة: 01) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطف على الْخُرُوج تَقْدِيره: وَفِي بَيَان المُرَاد فِي قَول الله، وَهُوَ إِبَاحَة الانتشار فِي الأَرْض، والابتغاء من فضل الله وَهُوَ الرزق، وَالْأَمر فِيهِ للْإِبَاحَة كَمَا فِي قَول الله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} (الْمَائِدَة: 2) .

2602 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلاَمٍ قَالَ أخبرنَا مَخْلَدُ بنُ يَزِيدَ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي عَطاءٌ عنْ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ أنَّ أَبَا مُوسَى الأشْعَرِيَّ اسْتَأذَنَ عَلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فلَمْ يُؤْذَنْ

(11/175)


لَهُ وكأنَّهُ كانَ مَشْغُولاً فرَجَعَ أبُو مُوسَى ففرَغَ عُمرُ فَقَالَ ألَمْ أسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ الله بنِ قَيْسٍ ائذِنُوا لَهُ قِيلَ قدْ رَجَعَ فَدَعاهُ فَقَالَ كُنَّا نُؤْمَرُ بِذَلِكَ فقالَ تَأتِيني عَلى ذَلِكَ بالْبَيِّنَةِ فانْطَلَقَ إلَى مَجْلِسِ الأنْصَارِ فسَألَهُمْ فقَالُوا لاَ يَشْهَدُ لَكَ عَلى هَذَا إلاَّ أصْغَرُنَا أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ فَذَهَبَ بأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فَقَالَ عُمَرُ أخْفَى عَلَيَّ مِنْ أمْرِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألْهَانِي الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ يَعْنِي الخُرُوجَ إلَى تِجارَةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ألهاني الصفق) . ومخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة الْحَرَّانِي، مر فِي آخر الصَّلَاة، وَابْن جريج عبد الْملك، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَعبيد بن أبي عُمَيْر مصغرين ابْن قَتَادَة أَبُو عَاصِم قَاضِي أهل مَكَّة، فَقَالَ مُسلم: ولد فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ البُخَارِيّ: رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَابْن جريج وَعَطَاء وَعبيد مكيون، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ اسْمه عبد الله بن قيس، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ اسْمه سعد بن مَالك، مَشْهُور باسمه وبكنيته.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم فِي الاسْتِئْذَان من طرق: أَحدهمَا: عَن ابْن جريج عَن عَطاء: (عَن عبيد بن عُمَيْر: أَن أَبَا مُوسَى اسْتَأْذن على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثَلَاثًا، فَكَأَنَّهُ وجده مَشْغُولًا فَرجع، فَقَالَ عمر: ألم تسمع صَوت عبد الله بن قيس؟ أيذنوا لَهُ، فدعي فَقَالَ: مَا حملك على مَا صنعت؟ قَالَ: إِنَّا كُنَّا نؤمر بِهَذَا، قَالَ: لتقيمن على هَذَا بَيِّنَة أَو لَأَفْعَلَنَّ. فَخرج فَانْطَلق إِلَى مجْلِس من الْأَنْصَار، فَقَالُوا: لَا يشْهد لَك على هَذَا إلاَّ أصغرنا. فَقَامَ أَبُو سعيد، فَقَالَ: كُنَّا نؤمر بِهَذَا. فَقَالَ عمر: أُخْفِي عَليّ من أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ ألهاني عَنهُ الصفق بالأسواق) . وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث أبي بردة (عَن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، قَالَ: جَاءَ أَبُو مُوسَى إِلَى عمر بن الْخطاب، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم، هَذَا عبد الله بن قيس فَلم يُؤذن لَهُ، فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم، هَذَا أَبُو مُوسَى، السَّلَام عَلَيْكُم، هَذَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، ثمَّ انْصَرف. فَقَالَ: ردوا عَليّ، فجَاء فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى مَا ردك؟ كُنَّا فِي شغل. قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: الاسْتِئْذَان ثَلَاثًا، فَإِن أذن لَك، وإلاَّ فَارْجِع. قَالَ: لتَأْتِيني على هَذَا بِبَيِّنَة وإلاَّ فعلت وَفعلت) الحَدِيث. وَفِي لفظ لَهُ: (قَالَ عمر: أقِم عَلَيْهِ الْبَيِّنَة وإلاَّ أوجعتك) . وَفِي لفظ لَهُ: (لأوجعن ظهرك وبطنك أَو لتَأْتِيني بِمن قَالَ يشْهد لَك على هَذَا) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الْأَدَب عَن يحيى بن حبيب وَفِي لَفْظَة: (فَقَالَ عمر لأبي مُوسَى: إِنِّي لم أتهمك، وَلَكِنِّي خشيت أَن يتقول النَّاس على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (اسْتَأْذن) أَي: طلب الْإِذْن على الدُّخُول على عمر. قَوْله: (فَلم يُؤذن لَهُ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (وَكَأَنَّهُ) أَي: وَكَأن عمر كَانَ مَشْغُولًا بِأَمْر من أُمُور الْمُسلمين. قَوْله: (إيذنوا لَهُ) . أَصله: إئذنوا لَهُ، بالهمزتين، فَلَمَّا ثقلتا قلبت الثَّانِيَة يَاء لكسرة مَا قبلهَا. قَوْله: (قيل: قد رَجَعَ) ، أَي: أَبُو مُوسَى. قَوْله: (فَدَعَاهُ) أَي: دَعَا عمر أَبَا مُوسَى. قَوْله: (فَقَالَ: كُنَّا نؤمر) فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَبعث عمر وَرَاءه فَحَضَرَ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ رجعت؟ فَقَالَ: كُنَّا نؤمر بذلك. أَي: بِالرُّجُوعِ حِين لم يُؤذن للمستأذن. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: قَالَ عمر تَأتِينِي، بِدُونِ لَام التَّأْكِيد، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لتَأْتِيني) بنُون التَّأْكِيد (على ذَلِك) على الْأَمر بِالرُّجُوعِ. قَوْله: (فَقَالُوا) ، أَي: الْأَنْصَار. قَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك الْأَنْصَار إنكارا على عمر، رَضِي الله عَنهُ، فِيمَا قَالَه إِنَّه حَدِيث مَشْهُور بَيْننَا، مَعْرُوف عندنَا، حَتَّى إِن أصغرنا يحفظه وسَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أُخْفِي عَليّ؟) الْهمزَة للاستفهام. و: على، بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (ألهاني الصفق) ، قَالَ الْمُهلب: ألهاني الصفق، من قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (الْجُمُعَة: 01) . فقرن التِّجَارَة باللهو فسماها عمر لهوا مجَازًا، أَرَادَ شغلهمْ بِالْبيعِ وَالشِّرَاء عَن مُلَازمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل أحيانه، حَتَّى حضر من هُوَ أَصْغَر مني مَا لم أحضرهُ من الْعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الاسْتِئْذَان لَا بُد مِنْهُ عِنْد الدُّخُول على من أَرَادَ، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تدْخلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتكُمْ حَتَّى تستأنسوا وتسلموا على أَهلهَا} (النُّور: 72) . الِاسْتِئْنَاس: هُوَ الاسْتِئْذَان، وَقَالَ بعض أهل الْعلم: الاسْتِئْذَان ثَلَاث مَرَّات مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنكُم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم ثَلَاث مَرَّات} (اللنور: 85) . قَالَ: يُرِيد ثَلَاث دفعات، قَالَ: فورد الْقُرْآن فِي المماليك وَالصبيان، وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَمِيع، وَقَالَ أَبُو عمر: هَذَا، وَإِن كَانَ

(11/176)


لَهُ لهُ وَجه، وَلكنه غير مَعْرُوف عِنْد الْعلمَاء فِي تَفْسِير الْآيَة الْكَرِيمَة، وَالَّذِي عَلَيْهِ جمهورهم فِي قَوْله: (ثَلَاث مَرَّات) أَي: ثَلَاثَة أَوْقَات. وَيدل على صِحَة هَذَا القَوْل ذكره فِيهَا: {من قبل صَلَاة الْفجْر وَحين تضعون ثيابكم من الظهيرة وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء} (النُّور: 85) . ثمَّ السّنة أَن يسلم ويستأذن ثَلَاثًا ليجمع بَينهمَا.
وَاخْتلفُوا: هَل يسْتَحبّ تَقْدِيم السَّلَام ثمَّ الاسْتِئْذَان، أَو تَقْدِيم الاسْتِئْذَان ثمَّ السَّلَام؟ وَقد صَحَّ حديثان فِي تَقْدِيم السَّلَام، فَذهب جمَاعَة إِلَى قَوْله: السَّلَام عَلَيْكُم أَدخل، وَقيل: يقدم الاسْتِئْذَان.
وَفِيه: أَن الرجل الْعَالم قد يُوجد عِنْد من هُوَ دونه فِي الْعلم مَا لَيْسَ عِنْده إِذا كَانَ طَرِيق ذَلِك الْعلم السّمع، وَإِذا جَازَ ذَلِك على عمر فَمَا ظَنك بِغَيْرِهِ بعده، قَالَ ابْن مَسْعُود: لَو أَن علم عمر وضع فِي كفة وَوضع علم أَحيَاء أهل الأَرْض فِي كفة لرجح علم عمر عَلَيْهِم. وَفِيه: دلَالَة على أَن طلب الدُّنْيَا يمْنَع من استفادة الْعلم، وَكلما ازْدَادَ الْمَرْء طلبا لَهَا ازْدَادَ جهلا، وَقل علما. وَفِيه: طلب الدَّلِيل على مَا يُعَكر من الْأَقْوَال حَتَّى يثبت عِنْده. وَفِيه: الدّلَالَة على أَن قَول الصَّحَابِيّ: كُنَّا نؤمر بِكَذَا، مَحْمُول على الرّفْع.
ذكر الأسئلة والأجوبة مِنْهَا: أَن طلب عمر الْبَيِّنَة يدل على أَنه لَا يحْتَج بِخَبَر الْوَاحِد، وَزعم قوم أَن مَذْهَب عمر هَذَا، وَالْجَوَاب عَنهُ أَن عمر قد ثَبت عِنْده خبر الْوَاحِد، وقبوله وَالْحكم بِهِ، أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي نَشد النَّاس بمنى: من كَانَ عِنْده علم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الدِّيَة فليخبرنا؟ وَكَانَ رَأْيه أَن الْمَرْأَة لَا تَرث من دِيَة زَوجهَا، لِأَنَّهَا لَيست من عصبَة الَّذين يعْقلُونَ عَنهُ، فَقَامَ الضَّحَّاك بن سُفْيَان الْكلابِي فَقَالَ: كتب إِلَيّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن ورِّث امْرَأَة أَشْيَم من دِيَة زَوجهَا. وَكَذَلِكَ نَشد النَّاس فِي دِيَة الْجَنِين، فَقَالَ حمل بن النَّابِغَة: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى فِيهِ بغرة عبد أَو وليدة، فَقضى بِهِ عمر، وَلَا يشك ذُو لب وَمن لَهُ أقل منزلَة من الْعلم أَن مَوضِع أبي مُوسَى من الْإِسْلَام ومكانه من الْفِقْه وَالدّين أجل من أَن يرد خَبره، وَيقبل خبر الضَّحَّاك، وَحمل وَكِلَاهُمَا لَا يُقَاس بِهِ فِي حَال، وَقد قَالَ لَهُ عمر فِي (الْمُوَطَّأ) : إِنِّي لم أتهمك، فَدلَّ ذَلِك على اعْتِمَاد كَانَ من عمر، وَطلب الْبَيِّنَة فِي ذَلِك الْوَقْت لِمَعْنى الله أعلم بِهِ. وَقد يحْتَمل أَن يكون عمر عِنْده فِي ذَلِك الْحِين من لَيست لَهُ صُحْبَة من أهل الْعرَاق أَو الشَّام وَلم يتَمَكَّن من الْإِيمَان فِي قُلُوبهم لقرب عَهدهم بِالْإِسْلَامِ، فخشي عَلَيْهِم أَن يختلقوا الْكَذِب على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد الرَّغْبَة أَو الرهبة.
وَمِنْهَا: أَن قَول عمر: (ألهاني الصفق بالأسواق) يدل على أَنه كَانَ يقل المجالسة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا لم يكن لائقا بِحقِّهِ. وَالْجَوَاب: أَن هَذَا القَوْل من عمر على معنى الذَّم لنَفسِهِ، وحاشاه أَن يقل من مُجَالَسَته وملازمته، وَقد كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مَا يَقُول: فعلت أَنا وَأَبُو بكر وَعمر، وَكنت أَنا وَأَبُو بكر وَعمر، ومكانهما مِنْهُ عَال، وَكَانَ خُرُوجه فِي بعض الْأَوْقَات إِلَى الْأَسْوَاق للكفاف، وَكَانَ من أزهد النَّاس لِأَنَّهُ وجد فَترك.
وَمِنْهَا: مَا قيل: إِن عمر قَالَ لأبي مُوسَى: أقِم الْبَيِّنَة وإلاَّ أوجعتك. وَفِي رِوَايَة: (فوَاللَّه لأوجعن ظهرك وبطنك) ، وَفِي رِوَايَة: (لأجعلنك نكالاً) ، فَمَا معنى هَذَا؟ وَأَبُو مُوسَى كَانَ عِنْده أَمينا. وَلِهَذَا اسْتَعْملهُ وَبَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا ساعيا وعاملاً على بعض الصَّدقَات، وَهَذِه منزلَة رفيعة فِي الثِّقَة وَالْأَمَانَة؟ وَأجِيب: بِأَن هَذَا كُله مَحْمُول على أَن تَقْدِيره: لَأَفْعَلَنَّ بك هَذَا الْوَعيد إِن بَان أَنَّك تَعَمّدت كذبا.

01 - (بابُ التِّجارَةِ فِي البَحْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِبَاحَة التِّجَارَة فِي ركُوب الْبَحْر.
وَقَالَ مَطَرٌ لاَ بَأسَ بِهِ ومَا ذَكَرَهُ الله فِي القُرْآنِ إلاَّ بِحَقٍّ ثُمَّ تَلاَ {وتَرَي الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
مطر هَذَا هُوَ الْوراق الْبَصْرِيّ، وَهُوَ مطر بن طهْمَان أَبُو رَجَاء الْخُرَاسَانِي، سكن الْبَصْرَة وَكَانَ يكْتب الْمَصَاحِف، فَلذَلِك قيل لَهُ: الوارق روى عَن أنس، وَيُقَال: مُرْسل ضعفه يحيى بن سعيد فِي حَدِيثه عَن عَطاء، وَكَذَا روى عَن ابْن معِين، وَعنهُ صَالح، وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات، روى لَهُ البُخَارِيّ فِي كتاب (الْأَفْعَال) وروى لَهُ الْبَاقُونَ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَنه مطر بن الْفضل الْمروزِي شيخ البُخَارِيّ، وَوَصفه الْمزي وَالشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي وَغَيرهمَا بِأَنَّهُ الْوراق، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ

(11/177)


وَحده، مطرف، مَوضِع: مطر، وَلَيْسَ بِصَحِيح وَهُوَ محرف.
قَوْله: (لَا بَأْس بِهِ) أَي: بركوب الْبَحْر، يدل عَلَيْهِ لفظ التِّجَارَة فِي الْبَحْر لِأَنَّهَا لَا تكون إلاَّ بالركوب. قَوْله: (وَمَا ذكره الله) أَي: مَا ذكر الله ركُوب الْبَحْر فِي الْقُرْآن إلاَّ بِحَق، وَالْكَلَام فِي هَذَا الضَّمِير مثل الْكَلَام فِيمَا قبله، وَلما رأى مطر أَن الْآيَة سيقت فِي مَوضِع الامتنان اسْتدلَّ بِهِ على الْإِبَاحَة، واستدلاله حسن لِأَنَّهُ تَعَالَى جعل الْبَحْر لِعِبَادِهِ لابتغاء فَضله من نعمه الَّتِي عَددهَا لَهُم، وأراهم فِي ذَلِك عَظِيم قدرته، وسخر الرِّيَاح باختلافها لحملهم وترددهم، وَهَذَا من عَظِيم آيَاته، ونبههم على شكره عَلَيْهَا بقوله: {من فَضله ولعلكم تشكرون} (فاطر: 21) . وَهَذِه الْآيَة فِي سُورَة فاطر، وَأما الَّتِي فِي النَّحْل وَهِي: {وَترى الْفلك مواخر فِيهِ ولتبتغوا} (النَّحْل: 41) . بِالْوَاو، وَهَذَا يرد قَول من زعم منع ركُوبه فِي أبان ركُوبه، وَهُوَ قَول يرْوى عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلما كتب إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ يسْأَله عَن الْبَحْر، فَقَالَ: خلق عَظِيم يركبه خلق ضَعِيف دود على عود، فَكتب إِلَيْهِ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن لَا يركبه أحد طول حَيَاته، فَلَمَّا كَانَ بعد عمر لم يزل يركب حَتَّى كَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز، فَاتبع فِيهِ رَأْي عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ منع عمر لشدَّة شفقته على الْمُسلمين، وَأما إِذا كَانَ أبان هيجانه وارتجاجه فالأمة مجمعة على أَنه لَا يجوز ركُوبه، لِأَنَّهُ تعرض للهلاك، وَقد نهى الله عباده عَن ذَلِك. بقوله تَعَالَى: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} (الْبَقَرَة: 591) . وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم إِن الله كَانَ بكم رحِيما} (النِّسَاء: 92) .
والْفُلْكُ: السُّفُنُ، الوَاحِدُ والجَمْعُ سَوَاءٌ
الظَّاهِر أَنه من كَلَام البُخَارِيّ: يَعْنِي: أَن المُرَاد من الْفلك فِي الْآيَة: السفن، أَرَادَ أَنه الْجمع بِدَلِيل قَوْله: {مواخر} (النَّحْل: 41) . والسفن بِضَم السِّين وَالْفَاء: جمع سفينة. قَالَ ابْن سَيّده: سميت سفينة لِأَنَّهَا تسفن وَجه المَاء. أَي: تقشره، فعيلة بِمَعْنى فاعلة، وَالْجمع: سفائن وسفن وسفين. قَوْله: (الْوَاحِد وَالْجمع سَوَاء) يَعْنِي: فِي الْفلك، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فِي الْفلك المشحون} (الشُّعَرَاء: 911، يس: 14) . وَقَوله: {حَتَّى إِذا كُنْتُم فِي الْفلك وجرين بهم} (يُونُس: 22) . فَذكره فِي الْإِفْرَاد وَالْجمع بِلَفْظ وَاحِد. وَقَالَ بَعضهم: وَقيل: إِن الْفلك بِالضَّمِّ والإسكان جمع فلك بِفتْحَتَيْنِ، مثل: أَسد وَأسد. قلت: هَذَا الْوَجْه غير صَحِيح، وَإِنَّمَا الَّذِي يُقَال: إِن صمة فَاء: فلك، إِذا قوبلت بِضَم همزَة أَسد الَّذِي هُوَ جمع يُقَال جمع، وَإِذا قوبلت بِضَم قَاف: قفل، يكون مُفردا.
وَقَالَ مُجِاهِدٌ تَمْخُرُ السُّفُنُ الرِّيحَ ولاَ تَمْخُرُ الرِّيحَ مِنَ السُّفُنِ إلاَّ الْفُلْكُ العِظَامُ
قَالَ ابْن التِّين: يُرِيد أَن السفن تمخر من الرّيح، إِن صغرت. أَي: تصوت، وَالرِّيح لَا تمخر، أَي: لَا تصوت من كبار الْفلك لِأَنَّهَا إِذا كَانَت عَظِيمَة صوتت الرّيح. وَقَالَ عِيَاض: ضَبطه الْأَكْثَر بِنصب السفن، وَعَكسه الْأصيلِيّ، وَقيل: ضبط الْأصيلِيّ هُوَ الصَّوَاب، وَهُوَ ظَاهر الْقُرْآن، إِذْ جعل الْفِعْل للسفينة، فَقَالَ: {مواخير فِيهِ} ، وَقيل: ضبط الْأَكْثَر هُوَ الصَّوَاب بِنَاء على أَن الرّيح الْفَاعِل، وَهِي الَّتِي تصرف السَّفِينَة فِي الإقبال والإدبار. قَوْله: (تمخر) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة، أَي: تشق، يُقَال: مخرت السَّفِينَة إِذا شقَّتْ المَاء بِصَوْت. وَقيل: المخر الصَّوْت نَفسه. قَوْله: (من السفن) صفة لشَيْء مَحْذُوف أَي: لَا تمخر الرّيح شَيْء من السفن إِلَّا الْفلك الْعِظَام، وَهُوَ بِالرَّفْع بدل عَن شَيْء، وَيجوز فِيهِ النصب، ومواخر جمع ماخرة، وَمعنى مواخر: جواري، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: سواق.

3602 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ هُرْمُزَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بِنِي إسْرَائِيلَ خَرَجَ فِي البَحْرِ فَقضَى حاجَتَهُ وساقَ الحَدِيثَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خرج فِي الْبَحْر) ، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن ركُوب الْبَحْر لم يزل متعارفا مألوفا من قديم الزَّمَان، وَأَيْضًا إِن شرع من قبلنَا شرع لنا مَا لم يقص الله على إِنْكَاره، وَهَذَا الحَدِيث طرف من حَدِيث سَاقه بِتَمَامِهِ فِي كتاب الْكفَالَة على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَمضى أَيْضا فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب مَا يسْتَخْرج من الْبَحْر، وَذكره هُنَاكَ بقوله: وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر ابْن ربيعَة ... إِلَى آخِره، بِصُورَة التَّعْلِيق هُنَاكَ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

(11/178)


حدَّثني عَبْدُ الله بنُ صَالِحٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ بِهاذا
صرح بِهَذَا وصل الْمُعَلق الْمَذْكُور بقوله، وَقَالَ اللَّيْث: وَهَذَا لم يَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات فِي الصَّحِيح، وَإِنَّمَا وَقع ذكره فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَأبي الْوَقْت.

11 - (بابٌ {وإذَا رَأوْوا تِجارَةً أوْ لَهْوا انْفَضُّوا إلَيْهَا} وقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولاَ بَيْعٌ عنْ ذِكْرِ الله} .)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة} (الْجُمُعَة: 11) . إِلَى قَوْله: {عَن ذكر الله} (النُّور: 73) . وَالْآيَة الأولى مر ذكرهَا عَن قريب بقوله بَاب قَول الله عز وَجل {وَإِذا رأو تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} ثمَّ ذكر حَدِيث جَابر، وَالْآيَة الثَّانِيَة ذكرهَا فِي أول بَاب التِّجَارَة فِي الْبر، وَإِنَّمَا أعادهما فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي لَا غير. قيل: لم يدر مَا فَائِدَة الْإِعَادَة وَقيل: ذكرهَا هُنَا لمنطوقها، وَهُوَ الذَّم، وَذكرهَا فِيمَا مضى لمفهومها، وَهُوَ تَخْصِيص ذمها بِحَالَة اشْتغل بهَا عَن الصَّلَاة وَالْخطْبَة.
وَقَالَ قَتادَةُ كانَ القَوْمُ يتَّجِرُونَ ولَكِنَّهُمْ كانُوا إِذا نابَهُمْ حقٌّ مِنْ حُقُوقِ الله لَمْ تُلْهِهِمْ تِجارَةٌ ولاَ بَيْعٌ عنْ ذِكْرِ الله حتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى الله
هَذَا أَيْضا ذكره فِي: بَاب تِجَارَة الْبر، وَأَعَادَهُ هُنَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.

4602 - حدَّثني مُحَمَّدٌ قَالَ حدَّثني محَمَّدُ بنُ فُضَيْلٍ عنْ حُصَيْنٍ عنْ سالِمِ بنِ أبِي الجَعْدِ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أقْبلَتْ عِيرٌ ونَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجُمُعَةَ فانْفَضَّ النَّاسُ إلاَّ اثنيْ عَشَرَ رَجُلاً فنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وإذَا رَأوْا تِجَارَةً أوْ لَهْوا انْفَضُّوا إلَيْهَا وتَرَكُوكَ قائِما.
هَذَا أَيْضا ذكره فِي: بَاب قَول الله عز وَجل: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة} (الْجُمُعَة: 11) . فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن طلق بن غَنَّام عَن زَائِدَة عَن حُصَيْن عَن سَالم ... إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا: عَن مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام البيكندي، نَص عَلَيْهِ الحافظان الدمياطي والمزي عَن مُحَمَّد ابْن فُضَيْل مصغر الْفضل بن غَزوَان الضَّبِّيّ الْكُوفِي عَن حُصَيْن، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة. وَتقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ هُنَا أَيْضا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي لَا غير. وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ ذكر هَذِه المقامات كلهَا هَهُنَا، وحذفها فِيمَا مضى.