عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 03 - (بابُ ذِكْرِ الخَيَّاطِ)
أَي: هَذَا بَاب مَا جَاءَ فِيهِ من ذكر الْخياط، وَهُوَ
بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف، ويلتبس هَذَا بالحناط، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَتَشْديد النُّون، وَهُوَ بياع الْحِنْطَة،
وبالخباط بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء
الْمُوَحدَة، وَهُوَ بياع الْخبط، مِنْهُم عِيسَى بن أبي
عِيسَى، كَانَ خباطا ثمَّ صَار حناطا.
2902 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْد الله بنِ أبي طلْحَةَ
أنَّهُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
يَقُولُ إنَّ خيَّاطا دَعا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ قَالَ أنسُ بنُ مالِكٍ فذَهَبْتُ
مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلَى ذَلِكَ
الطَّعَامِ فَقَرَّبَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم خُبْزا ومرَقا فِيهِ دُبَّاءٌ وقَدِيدٌ فَرَأيْتُ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ
منْ حَوَالَى الْقَصْعَةِ قَالَ فَلَمْ أزَلْ احبُّ
الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن خياطا) .
وَإِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة اسْمه: زيد بن سهل
الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس ابْن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن
قُتَيْبَة بن سعيد والقعنبي وَأبي نعيم وَإِسْمَاعِيل بن
أبي أويس. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَيْمُون الْخياط
وَفِي الشَّمَائِل عَن قُتَيْبَة، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ:
حسن صَحِيح.
والدباء، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة
(11/210)
وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة ممدودا،
وَهُوَ القرع. قَالَ ابْن ولاد: واحدته دباءة، وَفِي
(الْجَامِع) للقزاز: الدبا بِالْقصرِ لُغَة فِي القرع.
وَذكره ابْن سَيّده فِي الْمَمْدُود الَّذِي لَيْسَ بمقصور
من لَفظه، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : هُوَ القرع الْيَابِس
قلت: فِيهِ نظر، لِأَن القرع الْيَابِس لَا يطْبخ بِدَلِيل
حَدِيث الْبَاب، وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي (كتاب
النَّبَات) : الدُّبَّاء من اليقطين ينقرش وَلَا ينْهض،
كجنس الْبِطِّيخ والقثاء، وَقد روى عَن ابْن عَبَّاس: كل
ورقة اتسعت ورقت فَهِيَ يَقْطِين.
قَوْله: (خبْزًا) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ الْخبز الَّذِي
جَاءَ بِهِ الْخياط كَانَ من شعير، قَوْله: (ومرقا فِيهِ
دباء وقديدا) ، قَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَنه
صنع بذلك الْخبز والمرق ثريدا لقَوْله: (من حوالي
الْقَصعَة) ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أما تتبعه من حوالي
الْقَصعَة لِأَن الطَّعَام كَانَ مختلطا، فَكَانَ يَأْكُل
مَا يُعجبهُ مِنْهُ، وَهُوَ الدُّبَّاء، وَيتْرك مَا لَا
يُعجبهُ وَهُوَ القديد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْإِجَابَة إِلَى
الدعْوَة، وَقد اخْتلف فِيهَا. فَمنهمْ من أوجبهَا،
وَمِنْهُم من قَالَ: هِيَ سنة، وَمِنْهُم من قَالَ: هِيَ
مَنْدُوب إِلَيْهَا. وَفِيه: دلَالَة على تواضع النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أجَاب دَعْوَة الْخياط
وَشبهه. وَفِيه: فَضِيلَة أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
حَيْثُ بلغت محبته لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِلَى أَنه كَانَ يحب مَا أحبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
الْأَطْعِمَة. وَفِيه: دَلِيل على فَضِيلَة القرع على
غَيره، وَذكر أَصْحَابنَا أَن من قَالَ: كَانَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب القرع، فَقَالَ آخر: لَا أحب
القرع، يخْشَى عَلَيْهِ من الْكفْر. وَفِيه: مَا قَالَه
الْكرْمَانِي: إِن الصحفة الَّتِي قربت إِلَيْهِ كَانَت
لَهُ وَحده، فَإِذا كَانَت لَهُ وَلغيره فالمستحب أَن
يَأْكُل مِمَّا يَلِيهِ. وَفِيه: جَوَاز أكل الشريف طَعَام
الْخياط والصائغ وإجابته إِلَى دَعوته. وَفِيه: إِتْيَانه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منَازِل أَصْحَابه والائتمار
بأمرهم، وَقد قَالَ شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: {وَمَا أُرِيد أَن أخالفكم إِلَى مَا أنهاكم
عَنهُ إِن أُرِيد إلاَّ الْإِصْلَاح} (هود: 88) . فتأسى
بِهِ فِي الْإِجَابَة. وَفِيه: الْإِجَابَة إِلَى
الثَّرِيد، وَهُوَ خير الطَّعَام. قَالَ الْخطابِيّ:
وَفِيه: جَوَاز الْإِجَارَة على الْخياطَة ردا على من
أبطلها بعلة أَنَّهَا لَيست بأعيان مرئية وَلَا صِفَات
مَعْلُومَة، وَفِي صَنْعَة الْخياطَة معنى لَيْسَ فِي
سَائِر مَا ذكره البُخَارِيّ من ذكر الْقَيْن والصائغ
والنجار، لِأَن هَؤُلَاءِ الصناع إِنَّمَا تكون مِنْهُم
الصَّنْعَة الْمَحْضَة فِيمَا يستصنعه صَاحب الْحَدِيد
والخشب وَالْفِضَّة وَالذَّهَب، وَهِي أُمُور من صَنْعَة
يُوقف على حَدهَا وَلَا يخْتَلط بهَا غَيرهَا، والخياط
إِنَّمَا يخيط الثَّوْب فِي الْأَغْلَب بخيوط من عِنْده،
فَيجمع إِلَى الصَّنْعَة الْآلَة، وإحداهما مَعْنَاهَا
التِّجَارَة وَالْأُخْرَى الْإِجَارَة، وَحِصَّة
إِحْدَاهمَا لَا تتَمَيَّز من الْأُخْرَى، وَكَذَلِكَ
هَذَا فِي الخراز والصباغ إِذا كَانَ يخرز بخيوطه ويصبغ
هَذَا بصبغة على الْعَادة الْمُعْتَادَة فِيمَا بَين
الصناع، وَجَمِيع ذَلِك فَاسد فِي الْقيَاس إلاَّ أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجدهم على هَذِه
الْعَادة أول زمن الشَّرِيعَة فَلم يغيرها، إِذْ لَو
طولبوا بغَيْرهَا لشق عَلَيْهِم، فَصَارَ بمعزل من مَوضِع
الْقيَاس وَالْعَمَل بِهِ ماضٍ صَحِيح لما فِيهِ من
الإرفاق.
13 - (بابُ ذِكْرِ النَّسَّاجِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ مَا جَاءَ من ذكر النساج، بِفَتْح
النُّون وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره جِيم،
ويلتبس بالنساخ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة فِي آخِره.
3902 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
يَعْقُوبُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي حازمٍ قَالَ
سَمِعْتُ سَهْلَ بنَ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ جاءَتْ امْرأةٌ بِبُرْدَةٍ قَالَ أتدْرُونَ مَا
الْبُرْدَةُ فِقِيلَ لَهُ نَعَمْ هِيَ الشَّمْلَةُ
مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا قَالَتْ يَا رسولَ الله إِنِّي
نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أكْسُوكَهَا فأخَذَهَا النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتاجا إلَيْهَا فخَرَجَ
إلَيْنَا وَإِنَّهَا إزَارُهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ
القَوْمِ يَا رسولَ الله اكْسُنِيهَا فَقَالَ نَعمْ
فجَلَسَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المَجْلِسِ
ثُمَّ رَجعَ فَطوَاهَا ثُمَّ أرْسَلَ بِهَا إلَيْهِ
فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ مَا أحْسَنْتَ سألْتَها إيَّاهُ
{لقَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ لاَ يَرُدَّ سَائِلاً فَقَالَ
الرَّجُلُ وَالله مَا سألْتُهِ إلاَّ لِتَكُونَ كَفَنِي
يَوْمَ أمُوتُ قَالَ سَهْلٌ فَكَانَتْ كَفَنَهُ.
(11/211)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (منسوج)
وَفِي قَوْله: (إِنِّي نسجتها) ، والكلمتان تدلان على
النساج ضَرُورَة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب من استعد
الْكَفَن فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مسلمة عَن ابْن
أبي حَازِم عَن أَبِيه، (عَن سهل، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: أَن امْرَأَة جَاءَت إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، وَهَهُنَا قد أخرجه: عَن
يحيى بن بكير عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد
بن عبد الله بن عبد الْقَارِي، من قارة، أَصله مدنِي سكن
الْإسْكَنْدَريَّة عَن أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار
الْمَدِينِيّ الْقَاص من عباد أهل الْمَدِينَة، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (الْبردَة) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: كسَاء
مربع يلبسهَا الْأَعْرَاب، والشملة كسَاء يشْتَمل بِهِ.
قَوْله: (منسوج) ، ويروى: (منسوجة) ، وارتفاعها على أَنه
خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ منسوج. قَوْله: (فِي
حاشيتها) ، قَالَ الْجَوْهَرِي: حَاشِيَة الثَّوْب أحد
جوانبه. وَقَالَ الْقَزاز: حاشيتاه ناحيتاه الثَّانِيَة
فِي طرفها الهدب، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ من بَاب
الْقلب أَي: منسوج فِيهَا حاشيتها، وَكَذَا هُوَ فِيمَا
مضى من الْبَاب الْمَذْكُور. قَوْله: (مُحْتَاجا
إِلَيْهَا) ، بِالنّصب على الْحَال، وَهِي رِوَايَة
الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: مُحْتَاج، بِالرَّفْع
على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ مُحْتَاج
إِلَيْهِ. قَوْله: (ثمَّ رَجَعَ فطواها) يَعْنِي: رَجَعَ
إِلَى منزله بعد قِيَامه من مَجْلِسه. قَوْله: (مَا
أَحْسَنت) كلمة: مَا، نَافِيَة.
23 - (بابُ النَّجَّارِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي ذكر النجار،
بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْجِيم، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: بَاب النجارة، بِكَسْر النُّون وَتَخْفِيف
الْجِيم وَفِي آخرهَا هَاء، وَبِه ترْجم أَبُو نعيم فِي
(الْمُسْتَخْرج) : وَالْأول أشبه لبَقيَّة التراجم.
4902 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ العَزِيزِ عنْ أبِي حازِمٍ قَالَ أتَى رِجالٌ إِلَى
سَهْلِ بنِ سَعْدٍ يَسْألُونَهُ عنِ المِنْبَرِ فَقَالَ
بَعَثَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى فُلانَةَ
امْرَأةٍ قَدْ سَمَهَا سَهْلٌ أنْ مُرِي غُلامَكِ
النَّجَّارَ يَعْمَلُ لِي أعْوَادا أجْلِسُ عَلَيْهِنَّ
إذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ فأمَرَتْهُ يَعْملُهَا مِنْ
طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ثُمَّ جاءَ بِها فأرْسَلَتْ إلَى
رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَا فأمَرَ بِهَا
فَوُضِعَتْ فجَلَسَ عَلَيْهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (غلامك النجار) ،
والْحَدِيث قد مضى بأطول مِنْهُ فِي كتاب الْجُمُعَة فِي:
بَاب الْخطْبَة على الْمِنْبَر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ:
عَن قُتَيْبَة عَن يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي
حَازِم: أَن رجَالًا أَتَوا سهل بن سعد ... إِلَى آخِره.
وَأخرجه هُنَا: عَن قُتَيْبَة أَيْضا عَن عبد الْعَزِيز
هُوَ ابْن أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْمَذْكُور فِي
حَدِيث الْبَاب السَّابِق. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ مُسْتَوفى.
5902 - حدَّثنا خَلاَّدُ بنُ يَحْيَى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الوَاحِدِ بنُ أيْمَنَ عَن أَبِيه عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ
الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ امْرَأةً مِنَ
الأنْصَارِ قالَتْ لِرَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَا رسولَ الله ألاَ أجْعَلْ لَكَ شَيْئا تَقْعُدُ
عَلَيْهِ فإنَّ لِي غُلاما نجَّارا قَالَ إنْ شِئْتِ قَالَ
فَعَمِلَتْ لَهُ المِنْبَرَ فَلَمَّا كانَ يَوْمُ
الجُمُعَةِ قَعَدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى
المِنْبَرِ الَّذِي صُنِعَ فَصاحَتِ النخْلَةُ الَّتِي
كانَ يَخْطُبُ عنْدَهَا حَتَّى كادتْ أنْ تَنْشَقَّ
فنَزَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أخذَهَا
فَضَمَّهَا إلَيْهِ فَجَعَلَتْ تَئِنُّ أنينَ الصَّبِيِّ
الَّذِي يُسَكَّتُ حَتَّى اسْتَقَرَّتْ قَالَ بَكَتْ عَلى
مَا كانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (غُلَاما نجارا) ، وَقد
مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب
الْخطْبَة على الْمِنْبَر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن
سعيد بن أبي مَرْيَم عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي كثير
عَن يحيى بن سعيدابن أنس: أَنه سمع جَابر بن عبد الله،
قَالَ: كَانَ جذع يقوم عَلَيْهِ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا وضع لَهُ الْمِنْبَر سمعنَا
الْجذع مثل أصوات العشار حَتَّى نزل النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَوضع يَده عَلَيْهِ، وَهَهُنَا أخرجه: عَن
خَلاد، بِفَتْح الْخَاء
(11/212)
الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام، على وزن
فعال: ابْن يحيى بن صَفْوَان أبي مُحَمَّد السّلمِيّ
الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَعبد
الْوَاحِد ابْن أَيمن على وزن أفعل، ضد الْأَيْسَر
المَخْزُومِي الْمَكِّيّ، وَأَبوهُ أَيمن الحبشي مولى ابْن
أبي عَمْرو المَخْزُومِي الْمَكِّيّ وَأَبوهُ أَيمن الحبشي
مولى ابْن عمر المَخْزُومِي وَهُوَ من أَفْرَاد
البُخَارِيّ.
قَوْله: (النَّخْلَة) أَي: الْجذع. قَوْله: (يسكت) ، بِضَم
الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول من التسكيت. قَوْله:
(قَالَ: بَكت على مَا كَانَت) أَي: على فِرَاق مَا كَانَت
تسمع من الذّكر. فَإِن قلت: من فَاعل قَالَ؟ قلت: يحْتَمل
أَن يكون أحد الروَاة للْحَدِيث، وَلَكِن خرج وَكِيع فِي
رِوَايَته عَن عبد الْوَاحِد بن أَيمن بِأَنَّهُ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرجه ابْن أبي شيبَة وَأحمد
عَنهُ.
وَفِيه: فَضِيلَة الذّكر ومعجزة ظَاهِرَة للنَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: رد للقدرية، لِأَن الصياح
ضرب من الْكَلَام وهم لَا يجوزون الْكَلَام إلاَّ من ذِي
فَم ولسان، كَأَنَّهُمْ لم يسمعوا قَوْله تَعَالَى:
{وَقَالُوا لجلودهم لم شهدتم علينا ... } الْآيَة. وَفِيه:
أَن الْأَشْيَاء الَّتِي لَا روح لَهَا تعقل إلاَّ
أَنَّهَا لَا تَتَكَلَّم حَتَّى يُؤذن لَهَا.
33 - (بابُ شِرَاءِ الإمامِ الحَوَائِجَ بِنَفْسِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيمَا جَاءَ من شِرَاء الإِمَام
الْحَوَائِج بِنَفسِهِ، كَذَا هَذِه التَّرْجَمَة عَن أبي
ذَر عَن غير الْكشميهني، وَلَيْسَت هَذِه التَّرْجَمَة
مَوْجُودَة فِي رِوَايَة البَاقِينَ، وَرُوِيَ: بَاب
شِرَاء الْحَوَائِج بِنَفسِهِ، بِغَيْر ذكر لفظ: الإِمَام،
وَهُوَ أَعم. وَلَفظ: الْحَوَائِج، مَنْصُوب على المفعولية
عِنْد ذكر لفظ الإِمَام، وَعند سُقُوطه مجرور
بِالْإِضَافَة. وَفَائِدَة هَذِه التَّرْجَمَة دفع وهم من
يتَوَهَّم أَن تعَاطِي ذَلِك يقْدَح فِي الْمُرُوءَة.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب الْهِبَة،
وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
اشْتَرَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَمَلاً مِنْ
عُمَرَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب شِرَاء
الْإِبِل الهيم، يَأْتِي بعد بَاب، أَن شَاءَ الله
تَعَالَى، وَهَذَا التَّعْلِيق مَا ثَبت فِي كتاب إلاَّ
فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا جاءَ مُشْرِكٌ بِغَنَمٍ فاشْتَرى
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ شَاة
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي حَدِيث سَيَأْتِي
فِي أَوَاخِر الْبيُوع فِي: بَاب الشِّرَاء وَالْبيع مَعَ
الْمُشْركين.
واشْتَرَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ جابِرِ
بَعِيرا
هَذَا طرف من حَدِيث مَوْصُول يَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَهَذِه التَّعَالِيق تطابق التَّرْجَمَة بِلَا خلاف،
وفائدتها: بَيَان جَوَاز مُبَاشرَة الْكَبِير والشريف
وَالْحَاكِم شِرَاء الْحَوَائِج بِأَنْفسِهِم، وَإِن كَانَ
لَهُم من يكفيهم، إِذا فعل ذَلِك وَاحِد مِنْهُم لإِظْهَار
التَّوَاضُع والمسكنة والاقتداء بِالنَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وبمن بعده من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
وَالصَّالِحِينَ، وَكَانَ فعل النبيصلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بذلك للتشريع لأمته ولإظهار التَّوَاضُع.
6902 - حدَّثنا يُوسُفُ بنُ عِيسَى قَالَ حَدثنَا أبُو
مُعَاوِيَةَ قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ
الأسْوَدِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
قالَتِ اشْتَرَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ
يَهُودِيٍّ طَعَاما بِنَسِيئَةٍ ورَهَنَهُ دِرْعَهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مضى الحَدِيث فِي
أَوَائِل الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالنَّسِيئَةِ. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ:
عَن مُعلى بن أَسد عَن عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش ...
إِلَى آخِره. وَأخرجه هُنَا: عَن يُوسُف بن عِيسَى أبي
يَعْقُوب الْمروزِي عَن
(11/213)
أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم،
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي: الضَّرِير عَن
سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن
الْأسود بن يزِيد عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، وَقد مضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
43 - (بابُ شِرَاءِ الدَّوَابِّ والحَمِيرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شِرَاء الدَّوَابّ، وَهُوَ
جمع دَابَّة، وَقد عرف أَن الدَّابَّة فِي أصل الْوَضع لكل
مَا يدب على وَجه الأَرْض ثمَّ اسْتعْملت فِي الْعرف لكل
حَيَوَان يمشي على أَربع، وَهِي تتَنَاوَل الْحمير، وَذكر
الْحمير لَا فَائِدَة فِيهِ، حَتَّى أَن حَدِيثي الْبَاب
لَيْسَ فيهمَا ذكر حمير، وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ فِي
حَدِيثي الْبَاب ذكر الْحمير، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى
إلحاقها فِي الحكم بِالْإِبِلِ، لِأَن فِي الْبَاب:
إِنَّمَا فيهمَا ذكر بعير وجمل، وَلَا اخْتِصَاص فِي حكم
الْمَذْكُور بِدَابَّة دون دَابَّة، فَهَذَا وَجه
التَّرْجَمَة. انْتهى. قلت: ذكر كلَاما ثمَّ نقضه
بِنَفسِهِ، لِأَنَّهُ ذكر أَولا بطرِيق المساعدة
للْبُخَارِيّ بقوله: فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى إلحاقها،
أَي: إِلْحَاق الْحمير فِي الحكم بِالْإِبِلِ، ثمَّ قَالَ:
والاختصاص فِي الحكم الْمَذْكُور بِدَابَّة دون دَابَّة،
فَهَذَا ينْقض كَلَامه الأول على مَا لَا يخفى، على أَن
لقَائِل أَن يَقُول: مَا وَجه تَخْصِيص إِلْحَاق الْحمير
فِي الحكم بِالْإِبِلِ؟ فَإِن الحكم فِي الْبَقر وَالْغنم
كَذَلِك؟ وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: والحمر
بِضَمَّتَيْنِ، وَفِي رِوَايَة غَيره: الْحمير،
وَكِلَاهُمَا جمع، لِأَن الْحمار يجمع على: حمير وحمر
وأحمرة، وَيجمع الْحمر على: حمرات، جمع صِحَة.
وإذَا اشْتَرَى دَابَّةً أوْ جَمَلاً وهْوَ عَلَيْهِ هَلْ
يَكونُ ذَلِكَ قَبْضا قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ
هَذَا أَيْضا من جملَة التَّرْجَمَة. قَوْله: (أَو جملا)
لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَنَّهُ يدْخل فِي قَوْله: (دَابَّة)
أللهم إلاَّ أَن يُقَال: إِنَّمَا ذكر الْجمل على
الْخُصُوص لكَونه مَذْكُورا فِي حَدِيث الْبَاب، لِأَن
الشِّرَاء وَقع عَلَيْهِ. فِيهِ: قَوْله: (وَهُوَ
عَلَيْهِ) أَي: وَالْحَال أَن البَائِع عَلَيْهِ، أَي على
الْجمل، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي البَائِع عَلَيْهِ لَا
المُشْتَرِي. قلت: لاجاجة إِلَى قَوْله: لَا المُشْتَرِي،
لِأَن قَوْله: اشْترى، قرينَة على أَن البَائِع هُوَ
الَّذِي عَلَيْهِ، وَهَذِه الْقَرِينَة تجوزعود الضَّمِير
إِلَى البَائِع، وَإِن كَانَ غير مَذْكُور ظَاهرا. قَوْله:
(هَل يكون ذَلِك؟) أَي: الشِّرَاء الْمَذْكُور قبضا قبل
أَن ينزل البَائِع من دَابَّته الَّتِي بَاعهَا وَهُوَ
عَلَيْهَا، وَفِيه خلاف، فَلذَلِك لم يذكر جَوَاب
الِاسْتِفْهَام.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعُمَرَ يَعْنِيهِ
يَعْنِي جَمَلاً صَعْبا
هَذَا التَّعْلِيق سَيَأْتِي فِي كتاب الْهِبَة، إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
7902 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدثنَا
عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله عنْ وَهْبِ
بنِ كَيْسَانَ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزَاةٍ فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي
وَأعْيَا فأتَى عَلَيَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ جابرٌ فَقُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَا شَأنُكَ قُلْتُ
أبْطأ عَلَيَّ جَمَلِي وأعْيَا فَتَخَلَّفْتُ فَنَزَلَ
يَحْجِنُهُ بِمِحْجَنِهِ ثُمَّ قَالَ ارْكَبْ فَرَكِبْتُ
فَلَقَدْ رأيْتُهُ أكُفُّهُ عنْ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَزَوَّجْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ
بِكْرا أم ثِيبا قلْتُ بَلْ ثَيبا قَالَ أفَلاَ جَارِيةً
وتُلاَعِبُهَا تُلاَعِبُكَ قُلْتُ إنَّ لِي أخَوَاتٍ
فأحْبَبْتُ أنْ أتَزَوَّجَ امْرَأةً تَجْمَعُهُنَّ
وتَمْشُطُهُنَّ وتَقُومُ عَلَيْهِنَّ قَالَ أما إنَّكَ
قَادِمٌ فإذَا قَدِمْتَ فالْكَيْسَ الْكَيْسَ ثُمَّ قَالَ
أتَبِيعُ جَمَلَكَ قُلْتُ نَعَمْ فاشْتَرَاهُ مِنِّي
بِأوقِيَّةٍ ثُمَّ قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَبْلِي وقَدِمْتُ بالغَدَاة فجِئْنَا إِلَى
الْمَسْجِدِ فَوَجَدْتُهُ علَى بابِ الْمَسْجِدِ قَالَ
آلآنَ قَدِمْتَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فَدَعْ جَمَلَكَ
فادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ
فأمَرَ بِلالاً أنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً فَوَزَنَ لِي
بِلالٌ فأرْجَحَ فِي المِيزَانِ فانْطَلَقْتُ حَتَّى
ولَّيْتُ فَقَالَ ادْعُ لِي جابِرا
(11/214)
قُلْتُ الآنَ يَرُدُّ عَلَيَّ الجَمَلَ
ولَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أبْغَضَ إلَيَّ مِنْهُ قَالَ خُذْ
جَمَلَكَ ولَكَ ثَمَنُهُ الْكَيِّسَ الوَلَدُ كِنَأ عنِ
الْعَقْلِ. (انْظُر الحَدِيث 344 أَطْرَافه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي لفظ الْجمل، فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ
مكررا، والجمل من الدَّوَابّ. وَعبد الْوَهَّاب: ابْن عبد
الْمجِيد الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ وَعبيد الله: ابْن عمر،
ووهب بن كيسَان، بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة فِي آخِره نون: أَبُو نعيم
الْأَسدي.
وَهَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي نَحْو عشْرين
موضعا. وسنقف على كلهَا فِي موَاضعهَا. إِن شَاءَ الله
تَعَالَى، وَأخرجه فِي الشُّرُوط مطولا جدا. وَقَالَ
الْمزي: حَدِيث الْبَعِير مطول، وَمِنْهُم من اخْتَصَرَهُ.
وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق وهب بن كيسَان عَن جَابر،
وَمن طَرِيق الشّعبِيّ عَنهُ. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ بِأَلْفَاظ
مُخْتَلفَة وأسانيد مُتَغَايِرَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي غزَاة)
قَوْله: (فَأَبْطَأَ بِي جملي) قَالَ الْفراء: الْجمل زوج
النَّاقة، وَالْجمع جمال وأجمال وجمالات وجمائل، وَيُطلق
عَلَيْهِ الْبَعِير، لِأَن جَابِرا قَالَ فِي الحَدِيث،
فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: بِعته، يَعْنِي: بعيره، من
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واشترطت حملانه إِلَى
أَهله. وَقَالَ فِي آخِره: ترأني إِنَّمَا مَا كستك لأذهب
بجملك، خُذ جملك وثمنه فهما لَك. وَقَالَ أهل اللُّغَة:
الْبَعِير الْجمل البازل. وَقيل: الْجذع، وَقد يكون
للْأُنْثَى، وَيجمع على أَبْعِرَة وأباعر وأباعير وبعران
وبعران. قَوْله: (وأعيى) أَي: عجز عَن الذّهاب إِلَى
مقْصده لعيه وعجزه عَن الْمَشْي، يُقَال: عييت بأَمْري:
إِذا لم تهتد لوجهه، وأعياني هُوَ، وَيُقَال: أعيى فَهُوَ
معيي، وَلَا يُقَال: عيا. وأعياه الله، كِلَاهُمَا
بِالْألف يسْتَعْمل لَازِما ومتعديا. قَوْله: (فَأتى على
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة
الطَّحَاوِيّ: (فأدركه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) . وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ (فَمر النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَضَربهُ فَدَعَا لَهُ، فَسَار سيرا
لَيْسَ يسير مثله) . وَفِي رِوَايَة مُسلم (كَانَ يَعْنِي
جَابِرا يسير على جمل لَهُ قد أعي، فَأَرَادَ أَن يسيبه،
قَالَ: فلحقني النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدَعَا
لي، فَسَار سيرا لم يسر مثله) . قَوْله: (فَقَالَ جَابر) ،
قَالَ الْكرْمَانِي: جَابر لَيْسَ هُوَ فَاعل قَالَ، وَلَا
منادى، بل هُوَ خبر لمبتدأ مَحْذُوف، قلت: نعم: قَوْله:
لَيْسَ هُوَ فَاعل قَالَ، صَحِيح وَأما قَوْله: وَلَا
منادى، غير صَحِيح، بل هُوَ منادى تَقْدِيره: فَقَالَ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا جَابر، وَحذف
مِنْهُ حرف النداء، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة
الطَّحَاوِيّ، (فَقَالَ: فأدركه رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا شَأْنك يَا جَابر؟ فَقَالَ:
أعيى ناضحي يَا رَسُول الله! فَقَالَ: أَمَعَك شَيْء؟
فَأعْطَاهُ قَضِيبًا أَو عودا فنخسه أَو قَالَ: فَضَربهُ
بِهِ فَسَار مسيرَة لم يكن يسير مثلهَا) . وَذكر هُنَا:
الناضح، مَوضِع: الْبَعِير، و: الناضح، بالنُّون وَالضَّاد
الْمُعْجَمَة والحاء الْمُهْملَة: الْبَعِير الَّذِي يستقى
عَلَيْهِ، وَالْأُنْثَى ناضحة وسانية. قَوْله: (مَا
شَأْنك؟) أَي: مَا حالك؟ وَمَا جرى لَك حَتَّى تَأَخَّرت
عَن النَّاس؟ قَوْله: (فَنزل) أَي: نزل رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : فِيهِ
نزُول الشَّارِع لأَصْحَابه. قَوْله: (يحجنه) ، جملَة
وَقعت حَالا، وَهُوَ مضارع: حجن، بِالْحَاء الْمُهْملَة
وَالْجِيم وَالنُّون. يُقَال: حجنت الشَّيْء إِذا اجتذبته
بالمحجن إِلَى نَفسك، والمحجن، بِكَسْر الْمِيم عَصا فِي
رَأسه اعوجاج يلتقط بِهِ الرَّاكِب مَا سقط مِنْهُ.
قَوْله: (أكفه) ، أَي: أمْنَعهُ حَتَّى لَا يتَجَاوَز
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (تزوجت؟)
أَي: أتزوجت؟ وهمزة الِاسْتِفْهَام مقدرَة فِيهِ. قَوْله:
(بكرا أم ثَيِّبًا؟) أَي: أتزوجت بكرا أم تزوجت ثَيِّبًا
وَالثَّيِّب من لَيْسَ ببكر، وَيَقَع على الذّكر
وَالْأُنْثَى. يُقَال: رجل ثيب وَامْرَأَة ثيب، وَقد يُطلق
على الْمَرْأَة الْبَالِغَة وَإِن كَانَت بكرا مجَازًا أَو
اتساعا. وَالْمرَاد هَهُنَا: الْعَذْرَاء. قَوْله: (أَفلا
جَارِيَة؟) أَي: أَفلا تزوجت جَارِيَة؟ أَي: بكرا؟ قَوْله:
(تلاعبها وتلاعبك) ، وَفِي رِوَايَة: (قَالَ: فَأَيْنَ
أَنْت من الْعَذْرَاء ولعابها؟) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى:
(فَهَلا تزوجت بكرا تضاحكك وتضاحكها، وتلاعبها وتلاعبك؟)
وَقَالَ النَّوَوِيّ: أما قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (ولعابها) ، فَهُوَ بِكَسْر اللَّام، وَوَقع لبَعض
رُوَاة البُخَارِيّ بضَمهَا، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض:
وَأما الرِّوَايَة فِي كتاب مُسلم فبالكسر لَا غير، وَهُوَ
من: الملاعبة، مصدر: لاعب ملاعبة، كقاتل مقاتلة، قَالَ:
وَقد حمل جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين فِي شرح هَذَا الحَدِيث
قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تلاعبها) ، على
(11/215)
اللّعب الْمَعْرُوف، وَيُؤَيِّدهُ:
(تضاحكها وتضاحكك) ، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون من
اللعاب وَهُوَ: الرِّيق. قَوْله: (قلت: إِن لي إخوات)
وَفِي رِوَايَة لمُسلم (قلت لَهُ: إِن عبد الله هلك وَترك
تسع بَنَات أَو سبع بَنَات ... فَإِنِّي كرهت أَن آتيهن
أَو أجيئهن بمثلهن، فَأَحْبَبْت أَن أجيء بِامْرَأَة تقوم
عَلَيْهِم وتصلحهن. قَالَ: فَبَارك الله لَك، أَو قَالَ لي
خيرا) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم: (توفّي وَالِدي
أَو اسْتشْهد ولي أَخَوَات صغَار، فَكرِهت أَن أَتزوّج
إلَيْهِنَّ مِثْلهنَّ فَلَا تؤدبهن وَلَا تقوم
عَلَيْهِنَّ، فَتزوّجت ثَيِّبًا لتقوم عَلَيْهِنَّ
وتؤدبهن) . قَوْله: (وتمشطهن) ، من: مشطت الماشطة
الْمَرْأَة إِذا سرحت شعرهَا، وَهُوَ من بَاب نصر ينصر،
والمصدر الْمشْط، والمشاطة مَا سقط مِنْهُ. قَوْله: (أما
إِنَّك قادم) قَالَ الدَّاودِيّ: يحْتَمل أَن يكون إعلاما.
قَوْله: (فَإِذا قدمت) أَي: الْمَدِينَة. قَوْله: (فالكيس)
، جَوَاب: إِذا، وانتصابه بِفعل مُضْمر أَي: فَالْزَمْ
الْكيس، وَهُوَ بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة، وَاخْتلفُوا فِي
مَعْنَاهُ، فَقَالَ البُخَارِيّ: إِنَّه الْوَلَد. وَقَالَ
الْخطابِيّ: هَذَا مُشكل وَله وَجْهَان إِمَّا أَن يكون
حضه على طلب الْوَلَد، وَاسْتِعْمَال الْكيس والرفق فِيهِ،
إِذْ كَانَ جَابر لَا ولد لَهُ إِذْ ذَاك، أَو يكون أمره
بالتحفظ والتوقي عِنْد إِصَابَة أَهله مَخَافَة أَن تكون
حَائِضًا، فَيقدم عَلَيْهَا لطول الْغَيْبَة، وامتداد
الْعزبَة. والكيس: شدَّة الْمُحَافظَة على الشَّيْء.
وَقيل: الْكيس هُنَا الْجِمَاع. وَقيل: الْعقل، كَأَنَّهُ
جعل طلب الْوَلَد عقلا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْمرَاد
بِالْعقلِ حثه على ابْتِغَاء الْوَلَد. قَوْله: (أتبيع
جملَة؟ قلت: نعم) ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (بعنيه بوقية.
قلت: لَا، ثمَّ قَالَ: بعنيه، فَبِعْته بوقية، واستثبت
عَلَيْهِ حملانه إِلَى أَهلِي) وَفِي رِوَايَة لَهُ:
(أفتبيعنيه؟) فَاسْتَحْيَيْت، وَلم يكن لي نَاضِح غَيره،
قَالَ: قلت: نعم، فَبِعْته إِيَّاه على أَن لي فقار ظَهره
حَتَّى أبلغ الْمَدِينَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (قَالَ
لي: بِعني جملك هَذَا. قَالَ: قلت: لَا، بل هُوَ لَك يَا
رَسُول الله. قَالَ: لَا بِعَيْنِه، قَالَ قلت: فَإِن لرجل
على أُوقِيَّة ذهب، فَهُوَ لَك بهَا. قَالَ: قد أَخَذته،
فتبلغ عَلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَة) . قَوْله:
(فَاشْتَرَاهُ مني بأوقية) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الْقَاف
وتشديدالياء آخر الْحُرُوف، وَالْجمع يشدد ويخفف، مثل
أثافي وأثاف. وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ
وَغَيره: وقية، بِدُونِ الْهمزَة وَلَيْسَت بلغَة عالية،
وَكَانَت الوقية قَدِيما عبارَة عَن أَرْبَعِينَ درهما،
وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات هَهُنَا، فَفِي رِوَايَة أَنه
بَاعه بِخمْس أواقي وَزَاد فِي أُوقِيَّة، وَفِي بَعْضهَا
بأوقيتين وَدِرْهَم أَو دِرْهَمَيْنِ، وَفِي بَعْضهَا:
بأوقية ذهب، وَفِي رِوَايَة بأَرْبعَة دَنَانِير، وَفِي
الْأُخْرَى بأوقية، وَلم يقل: ذَهَبا وَلَا فضَّة، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: لَيْسَ لأوقية الذَّهَب وزن يحفظ، وَأما
أُوقِيَّة الْفضة فأربعون درهما. فَإِن قلت: مَا حكم
اخْتِلَاف هَذِه الرِّوَايَات وسببها؟ قلت: سَببهَا نقل
الحَدِيث على الْمَعْنى، وَقد تَجِد الحَدِيث الْوَاحِد قد
حدث بِهِ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة، أَو عِبَارَات مُتَقَارِبَة ترجع
إِلَى معنى وَاحِد. فَإِن قلت: كَيفَ التلفيق بَين هَذِه
الرِّوَايَات؟ قلت: إِمَّا ذكر الْأُوقِيَّة الْمُهْملَة
فيفسرها قَوْله: أُوقِيَّة ذهب، وَإِلَيْهِ يرجع اخْتِلَاف
الْأَلْفَاظ، إِذْ هِيَ فِي رِوَايَة سَالم بن أبي
الْجَعْد عَن جَابر يفسره بقوله: (إِن لرجل عَليّ
أُوقِيَّة ذهب، فَهُوَ لَك بهَا) . وَيكون قَوْله فِي
الرِّوَايَة الْأُخْرَى: (فَبِعْته مِنْهُ بِخمْس أواقي)
أَي: فضَّة صرف، أُوقِيَّة الذَّهَب حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ
أخبر مرّة عَمَّا وَقع بِهِ البيع من أُوقِيَّة الذَّهَب
أَولا، وَمرَّة عَمَّا كَانَ بِهِ الْقَضَاء من عدلها
فضَّة. وَالله أعلم. ويعضد هَذَا فِي آخر الحَدِيث فِي
رِوَايَة مُسلم: (خُذ حملك ودراهمك فَهُوَ لَك) وَفِي
رِوَايَة من قَالَ: مأتي دِرْهَم، لِأَنَّهُ خمس أواقي،
أَو يكون هَذَا كُله زِيَادَة على الْأُوقِيَّة كَمَا
قَالَ: (فَمَا زَالَ يزيدني) . وَأما ذكر الْأَرْبَعَة
الدَّنَانِير فموافقة لأوقية إِذْ قد يحْتَمل أَن يحْتَمل
أَن يكون وزان أُوقِيَّة الذَّهَب حِينَئِذٍ وزان
أَرْبَعَة دنانيرهم. لِأَن دنانيرهم مُخْتَلفَة،
وَكَذَلِكَ دراهمهم، وَلِأَن أُوقِيَّة الذَّهَب غير
مُحَققَة الْوَزْن، بِخِلَاف الْفضة. أَو يكون المُرَاد
بذلك أَنَّهَا صرف أَرْبَعِينَ درهما، فَأَرْبَعَة
دَنَانِير مُوَافقَة لأوقية الْفضة، إِذْ هِيَ صرفهَا،
ثمَّ قَالَ: أُوقِيَّة ذهب، لِأَنَّهُ أَخذ عَن
الْأُوقِيَّة عدلها من الذَّهَب الدَّنَانِير الْمَذْكُور،
أَو يكون ذكر الْأَرْبَعَة دَنَانِير فِي ابْتِدَاء
المماكسة، وانعقد البيع بأوقية. وَأما قَوْله: أوقيتان،
فَيحْتَمل أَن الْوَاحِدَة هِيَ الَّتِي وَقع بهَا البيع
وَالثَّانيَِة زَادهَا إِيَّاه. أَلا ترى كَيفَ قَالَ فِي
الرِّوَايَة الْأُخْرَى: وَزَادَنِي أُوقِيَّة. وَذكره
الدِّرْهَم وَالدِّرْهَمَيْنِ مُطَابق لقَوْله:
(وَزَادَنِي قيراطا) فِي بعض الرِّوَايَات. قَوْله: (فدع)
أَي: أترك. قَوْله: (فَادْخُلْ) ويروى: وادخل، بِالْوَاو.
قَوْله: (حَتَّى وليت) ، بِفَتْح اللَّام الْمُشَدّدَة
أَي: أَدْبَرت. قَوْله: (أدعُ) بِصِيغَة الْمُفْرد، ويروى:
ادعوا، بِصِيغَة الْجمع. قَوْله: (مِنْهُ) أَي: من رد
الْجمل. قَوْله: (الْكيس الْوَلَد) ، هَذَا تَفْسِير
البُخَارِيّ.
(11/216)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: ذكر
الْعَمَل الصَّالح ليَأْتِي بِالْأَمر على وَجهه، لَا
يُرِيد بِهِ فخرا. وَهَذَا فِي قَوْله: (كنت فِي غزَاة) ،
وَفِيه: تفقد الإِمَام أَو كَبِير الْقَوْم وَأَصْحَابه
وَذكرهمْ لَهُ مَا ينزل بهم عِنْد سُؤَاله، وَهَذَا فِي
قَوْله: (مَا شَأْنك؟) وَفِيه: توقير الصَّحَابِيّ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ وَاجِب بِلَا
شكّ، وَهَذَا فِي قَوْله: (أكفه عَن رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) وَفِيه: حض على تَزْوِيج الْبكر وفضيلة
تَزْوِيج الْأَبْكَار، وَهُوَ فِي قَوْله: (فَهَلا
جَارِيَة؟) وَفِيه: ملاعبة الرجل أَهله وملاطفته لَهَا
وَحسن الْعشْرَة، وَهُوَ فِي قَوْله: (تلاعبها وتلاعبك) ،
وَفِيه: فَضِيلَة جَابر وإيثاره مصلحَة أخواته على نَفسه،
وَهُوَ فِي قَوْله: (إِن لي أَخَوَات) . وَفِيه:
اسْتِحْبَاب رَكْعَتَيْنِ عِنْد الْقدوم من السّفر، وَهُوَ
فِي قَوْله: (فَادْخُلْ فصل رَكْعَتَيْنِ) . وَفِيه:
اسْتِحْبَاب إرجاح الْمِيزَان فِي وَفَاء الثّمن وَقَضَاء
الدُّيُون، وَهُوَ فِي قَوْله: (فأرجح فِي الْمِيزَان) .
وَفِيه: صِحَة التَّوْكِيل فِي الْوَزْن، وَلَكِن
الْوَكِيل لَا يرجح إلاَّ بِإِذن. وَفِيه: الزِّيَادَة فِي
الثّمن، وَمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ والكوفيين: أَن
الزِّيَادَة فِي الْمَبِيع من البَائِع، وَفِي الثّمن من
المُشْتَرِي، والحط مِنْهُ يجوز سَوَاء قبض الثّمن أم لَا،
بِحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهِي عِنْدهم
هبة مستأنفة. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: هبة، فَإِن وجد
بِالْمَبِيعِ عَيْبا رَجَعَ بِالثّمن وَالْهِبَة، وَعند
الْحَنَفِيَّة: الزِّيَادَة فِي الثّمن أَو الْحَط مِنْهُ
يلحقان بِأَصْل العقد، وَلَو بعد تَمام العقد، وَكَذَلِكَ
الزِّيَادَة فِي الْمَبِيع تصح وتلتحق بِأَصْل العقد،
وَيتَعَلَّق الِاسْتِحْقَاق بِكَلِمَة، أَي: بِكُل مَا
وَقع عَلَيْهِ فِي العقد من الثّمن وَالزِّيَادَة
عَلَيْهِ. وَفِيه: جَوَاز طلب البيع من الرجل سلْعَته
ابْتِدَاء، وَإِن لم يعرضهَا للْبيع.
53 - (بابُ الأسْوَاقِ الَّتِي كانَتْ فِي الجاهِلِيَّةِ
فَتَبَايَعَ بِهَا النَّاسُ فِي الإسْلاَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز التبايع فِي
الْأَسْوَاق الَّتِي كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة قبل
الْإِسْلَام، وقصده من وضع هَذِه التَّرْجَمَة الْإِشَارَة
إِلَى أَن مَوَاضِع الْمعاصِي وأفعال الْجَاهِلِيَّة لَا
يمْنَع من فعل الطَّاعَة فِيهَا.
8902 - حدَّثنا عَلِي بنُ عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا
سُفْيانُ عنْ عَمْرٍ وعنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُمَا قَالَ كانتْ عُكَاظٌ ومَجَنَّةٌ وذُو
المَجَازِ أسْوَاقا فِي الجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كانَ
الإسْلامُ تأثَّمُوا مِنَ التِّجارَةِ فِيهَا فأنْزَلَ
الله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ
قَرَأَ ابنُ عَبَّاسٍ كَذا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث
فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب التِّجَارَة أَيَّام المواسم
وَالْبيع فِي أسواق الْجَاهِلِيَّة. فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ عَن عُثْمَان بن الْهَيْثَم عَن ابْن جريج عَن
عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن عَبَّاس، وَهَهُنَا أخرجه: عَن
عَليّ بن عبد الله الَّذِي يُقَال لَهُ ابْن الْمَدِينِيّ
عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن
عَبَّاس، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (تأثموا) ، أَي: تحرجوا، من الْإِثْم، وَكفوا
عَنهُ يُقَال: تأثم فلَان إِذا فعل فعلا خرج بِهِ عَن
الْإِثْم، كَمَا يُقَال: تحرج إِذا فعل مَا يخرج بِهِ من
الْحَرج، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
63 - (بابُ شِرَاءِ الإبِلِ الْهِيمِ أوْ الأجْرَبِ
الْهَائِمِ المُخَالِفُ لِلْقَصْدِ فِي كُلِّ شَيْءٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شِرَاء الْإِبِل الهيم، و:
الهيم، بِكَسْر الْهَاء: جمع أهيم، والمؤنث، هيماء،
والأهيم العطشان الَّذِي لَا يرْوى، وَهُوَ من هامت
الدَّابَّة تهيم هيمانا بِالتَّحْرِيكِ، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير فِي حَدِيث الاسْتِسْقَاء: هامت دوابنا أَي:
عطشت. وَمِنْه حَدِيث ابْن عمر: (أَن رجلا بَاعه إبِلا
هيما) . أَي: مراضا جمع أهيم، وَهُوَ الَّذِي أَصَابَهُ
الهيام، والهيام: هُوَ دَاء يكسبها الْعَطش فتمص المَاء
مصا وَلَا تروى مِنْهُ، وَقَالَ ابْن سَيّده: الهيام
والهيام دَاء يُصِيب الْإِبِل عَن بعض الْمِيَاه بتهامة،
يُصِيبهَا مِنْهُ مثل الْحمى. وَقَالَ الهجري: الهيام دَاء
يُصِيبهَا عَن شرب النجل إِذا كثر طحلبه واكتنفت بِهِ
الذبان، جمع: ذُبَاب وَقَالَ الْفراء: والهيام الهيام
بِضَم الْهَاء وَكسرهَا. وَفِي (كتاب الْإِبِل) للنضر بن
شُمَيْل: وَأما الهيام فنحو الدوار، جُنُون يَأْخُذ
الْإِبِل حَتَّى تهْلك، وَفِي كتاب (خلق الْإِبِل)
للأصمعي: إِذا سخن جلد الْبَعِير وَله شَره للْمَاء وَنحل
جِسْمه فَذَلِك الهيام. وَقيل: الهيام دَاء يكون مَعَه
الجرب، وَلِهَذَا ترْجم البُخَارِيّ: شِرَاء الْإِبِل
الهيم والأجرب. وَأما معنى قَوْله تَعَالَى: {فشاربون شرب
الهيم} (الْوَاقِعَة: 55) . فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هيام
(11/217)
الأَرْض الهيام بِالْفَتْح تُرَاب يخالطه
رمل ينشف المَاء نشفا، وَفِي تَقْدِيره وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَن الهيم جمع هيام، جمع على فعل ثمَّ خفف
وَكسرت الْهَاء لأجل الْيَاء. وَالثَّانِي: أَن يذهب إِلَى
الْمَعْنى، وَأَن المُرَاد: الرمال الهيم، وَهِي الَّتِي
لَا تُروى. يُقَال: رمل أهيم. قَوْله: (أَو الأجرب) أَي:
أَو شِرَاء الأجرب من الْإِبِل. وَفِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ: والأجرب، بِدُونِ الْهمزَة. وَقَالَ بَعضهم:
وَهُوَ من عطف الْمُنْفَرد على الْجمع فِي الصّفة لِأَن
الْمَوْصُوف هُنَا الْإِبِل، وهم اسْم جنس صَالح للْجمع
والمفرد. قلت: قَالَ صَاحب (الْمُخَصّص) : الْإِبِل اسْم
وَاحِد لَيْسَ بِجمع وَلَا اسْم جمع، وَإِنَّمَا هُوَ دَال
عَلَيْهِ، وَجَمعهَا آبال. وَعَن سِيبَوَيْهٍ قَالُوا:
إبلان، لِأَنَّهُ اسْم لم يكسر عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا
يُرِيدُونَ قطيعين. قَوْله: (الهائم الْمُخَالف للقصد فِي
كل شَيْء) أَي: يهيم وَيذْهب على وَجهه. وَقَالَ ابْن
التِّين: وَلَيْسَ الهائم وَاحِد الهيم، فَانْظُر لم أَدخل
البُخَارِيّ هَذَا فِي تبويبه؟ وَأجِيب: عَن هَذَا: بِأَن
البُخَارِيّ لما رأى أَن الهيم من الْإِبِل كَالَّذي
قَالَه النَّضر بن شُمَيْل، شبهها بِالرجلِ الهائم من
الْعِشْق، فَقَالَ: الهائم الْمُخَالف للقصد فِي كل شَيْء،
فَكَذَلِك الْإِبِل الهيم تخَالف الْقَصْد فِي قِيَامهَا
وقعودها ودورها مَعَ الشَّمْس كالحرباء.
9902 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ قَالَ قَالَ عَمْرٌ وَكَانَ هَهُنا رَجُلٌ
إسْمُهُ نَوَّاسٌ وكانَتْ عِنْدَهُ إبِلٌ هِيمٌ فَذَهَبَ
ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فاشْتَرَى
تِلْكَ الإبِلَ مِنُ شَرِيكٍ لَهُ فَجاءَ إلَيْهِ
شَرِيكُهُ فَقَالَ بِعْنَا تِلْكَ الإِبِلَ فَقَالَ
مِمَّنْ بِعْتَها قَالَ من شَيْخٍ كذَا وكَذا فَقَالَ
ويْحَكَ ذَاكَ وَالله ابنُ عُمَرَ فَجَاءَهُ فَقَالَ إنَّ
شَرِيكِي باعَكَ إبِلاً هِيما ولَمْ يعْرِفْكَ قَالَ
فاسْتَقْها قَالَ فَلَمَّا ذَهَبَ يَسْتَاقُها فَقال
دَعْها رَضِينا بِقَضَاءِ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لاَ عَدْوَى سَمِعَ سُفْيَانُ عَمْرا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ شِرَاء الْإِبِل
الهيم، وَهُوَ شِرَاء عبد الله بن عمر. وَهَذَا الحَدِيث
من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وعَلى هُوَ ابْن عبد الله،
الْمَعْرُوف بِابْن الْمدنِي وَفِي بعض النّسخ حَدثنَا
عَليّ بن عبد الله وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة،
وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار الْمَكِّيّ.
قَوْله: (كَانَ هَهُنَا) ، أَي: بِمَكَّة، وَفِي رِوَايَة
ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: من
أهل مَكَّة. قَوْله: (نواس) ، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد
الْوَاو، وَفِي آخِره نون، وَقَالَ ابْن قرقول: هَكَذَا
هُوَ عِنْد الْأصيلِيّ، والكافة، وَعند الْقَابِسِيّ
بِكَسْر النُّون وَتَخْفِيف الْوَاو، وَعند الْكشميهني:
(نواسي) ، بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد وياء النّسَب. قَوْله:
(فجَاء إِلَيْهِ) أَي: إِلَى نواس. قَوْله: (قَالَ: من
شيخ) . ويروى: (فَقَالَ: من شيخ) ، بِالْفَاءِ. قَوْله:
(وَيحك) كلمة: وَيْح، تقال لمن وَقع فِي هلكة لَا
يَسْتَحِقهَا، بِخِلَاف: ويل، فَإِنَّهَا للَّذي
يَسْتَحِقهَا وَذكر ابْن سَيّده أَنَّهَا كلمة تقال للرحمة
وَكَذَلِكَ وَقيل وَيْح تقبيح وَفِي الْجَامِع هُوَ مصدر
لافعل لَهُ وَفِي الصِّحَاح لَك أَن تَقول: ويحا لزيد.
وويح لزيد. وَلَك أَن تَقول: وَيحك وويح زيد. قَوْله:
(ذَاك) أَي: الرجل الَّذِي بعث الْإِبِل الهيم لَهُ وَالله
ابْن عمر. قَوْله: (وَلم يعرفك) ، بِفَتْح الْيَاء، ويروى
عَن الْمُسْتَمْلِي: (وَلم يعرفك) ، بِضَم الْيَاء: من
التَّعْرِيف، يَعْنِي: لم يعلمك بِأَنَّهَا هيم. قَوْله:
(فاستقها) ، بِصِيغَة الْأَمر. قَالَ الْكرْمَانِي من
السَّوق. قلت: لَا بل هُوَ أَمر من الاستياق، وَالْقَائِل
بِهِ هُوَ ابْن عمر، وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون قَالَه
مجمعا على رد الْمَبِيع أَو مختبرا هَل الرجل مسْقط لَهَا
أم لَا؟ . قَوْله: (فَلَمَّا ذهب) أَي: شريك نواس. قَوْله:
(يستاقها) جملَة حَالية. قَوْله: (فَقَالَ: دعها) ، أَي:
قَالَ ابْن عمر: دع الْإِبِل وَلَا تستقها. قَوْله: (لَا
عدوى) ، تَفْسِير لقَوْله: (رَضِينَا بِقَضَاء رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، يَعْنِي بِحكمِهِ
بِأَنَّهُ لَا عدوى، وَهُوَ اسْم من الإعداء، يُقَال:
أعداه الدَّاء يعديه إعداء. وَهُوَ أَن يُصِيبهُ مَا
بِصَاحِب الدَّاء، وَذَلِكَ أَن يكون بِبَعِير جرب مثلا
فيتقي مخالطته بِإِبِل أُخْرَى حذار أَن يتَعَدَّى مَا
بِهِ من الجرب إِلَيْهَا فيصيبها مَا أَصَابَهُ، وَقد
أبْطلهُ الشَّارِع بقوله: (لَا عدوى) ، يَعْنِي: لَيْسَ
الْأَمر كَذَلِك، وَإِنَّمَا الله، عز وَجل، هُوَ الَّذِي
يمرض وَينزل الدَّاء، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيث: (فَمن
أعدى الْبَعِير الأول؟) أَي: من أَيْن صَار فِيهِ الجرب؟
وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْعَدْوى مَا يعدى من جرب أَو
غَيره، وَهُوَ مجاوزته من صَاحبه إِلَى غَيره، والعدوى
أَيْضا طَلَبك إِلَى والٍ ليعديك على من ظلمك، أَي:
ينْتَقم مِنْهُ. وَقيل: معنى: لَا عدوى، هُنَا رضيت
بِهَذَا البيع على مَا فِيهِ من الْعَيْب، وَلَا أعدي على
البَائِع حَاكما. وَاخْتَارَ
(11/218)
ابْن التِّين هَذَا الْمَعْنى. وَقَالَ
الدَّاودِيّ معنى قَوْله: (لَا عدوى) النَّهْي عَن
الاعتداء وَالظُّلم. قلت: الحَدِيث يكون مَوْقُوفا على
اخْتِيَار ابْن التِّين، وَيكون من كَلَام ابْن عمر، وعَلى
مَا فسرنا أَولا يكون فِي حكم الْمَرْفُوع. قَوْله: (سمع
سُفْيَان عمرا) ، هَذَا قَول شيخ البُخَارِيّ عَليّ بن عبد
الله، أَي: سمع سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَمْرو بن دِينَار.
والْحَدِيث رَوَاهُ الْحميدِي فِي (مُسْنده) عَن سُفْيَان
قَالَ: حَدثنَا عَمْرو بِهِ.
وَفِي الحَدِيث: جَوَاز شِرَاء الْمَعِيب وَمنعه إِذا
كَانَ البَائِع قد عرف عَيبه ورضيه المُشْتَرِي، وَلَيْسَ
هَذَا من الْغِشّ. وَأما ابْن عمر فَرضِي بِالْعَيْبِ
وَالْتَزَمَهُ، فَصحت الصَّفْقَة فِيهِ. وَفِيه: تجنب ظلم
الصَّالح لقَوْله: (وَيحك ذَاك ابْن عمر) .
73 - (بابُ بَيْعِ السِّلاحِ فِي الفِتْنَةِ وغَيْرِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بيع السِّلَاح فِي أَيَّام
الْفِتْنَة: هَل يمْنَع أم لَا؟ وَأَيَّام الْفِتْنَة مَا
يَقع من الحروب بَين الْمُسلمين، وَلم يذكر الحكم على
عَادَته اكْتِفَاء بِمَا ذكره فِي الْبَاب من الحَدِيث
والأثر. قَوْله: (وَغَيرهَا) أَي: وَغير أَيَّام
الْفِتْنَة. وَالْحكم فِيهِ على التَّفْصِيل، وَهُوَ أَن
بيع السِّلَاح فِي أَيَّام الْفِتْنَة مَكْرُوه لِأَنَّهُ
إِعَانَة لمن اشْتَرَاهُ، وَهَذَا إِذا اشْتبهَ عَلَيْهِ
الْحَال، إِمَّا إِذا تحقق الْبَاغِي فَالْبيع لمن كَانَ
فِي الْجَانِب الَّذِي على الْحق، لَا بَأْس بِهِ، وَأما
البيع فِي غير أَيَّام الْفِتْنَة فَلَا يمْنَع لحَدِيث
الْبَاب، فَافْهَم.
وكَرِهَ عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ بَيْعَهُ فِي الفِتْنَةِ
أَي: كره بيع السِّلَاح فِي أَيَّام الْفِتْنَة. وَهَذَا
وَصله ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من طَرِيق أبي الْأَشْهب
عَن أبي رَجَاء عَن عمرَان، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) من وَجه آخر: عَن أبي رَجَاء عَن عمرَان
مَرْفُوعا، وَإِسْنَاده ضَعِيف.
0012 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ
يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عنِ ابنِ أفْلَحَ عنْ أبي مُحَمَّدٍ
مَوْلَى أبِي قَتَادَةَ عنْ أبِي قَتَادةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رسُولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عامَ حُنَيْنٍ فأعْطَاهُ يَعْنِي دِرْعا
فَبِعْتُ الدِّرْعَ فابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَقا فِي بَنِي
سَلِمَةَ فَإنَّهُ لأوَّلُ مَال تأثَّلْتُهُ فِي
الإسْلامِ. .
مطابقته للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله:
(وَغَيرهَا) أَي: وَغير الْفِتْنَة، فَإِن بيع أبي
قَتَادَة درعه كَانَ فِي غير أَيَّام الْفِتْنَة،
وَبِهَذَا يرد على الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي قَوْله: هَذَا
الحَدِيث لَيْسَ فِي شَيْء من تَرْجَمَة الْبَاب.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مسلمة
القعْنبِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: يحيى بن
سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: ابْن أَفْلح واسْمه: عمر
بن كثير ضد الْقَلِيل مولى أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ.
الْخَامِس: أَبُو مُحَمَّد، واسْمه نَافِع بن عَيَّاش
الْأَقْرَع، مولى أبي قَتَادَة. السَّادِس: أَبُو
قَتَادَة، واسْمه الْحَارِث بن ربعي الْأنْصَارِيّ.
ولطائف إِسْنَاده: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه:
ثَلَاثَة من التَّابِعين على نسق وَاحِد أَوَّلهمْ يحيى.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْخمس عَن القعْنبِي، وَفِي الْمَغَازِي عَن
عبد الله بن ابْن يُوسُف وَفِي الْأَحْكَام عَن قُتَيْبَة
عَن لَيْث بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن
قُتَيْبَة بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى عَن هشيم وَعَن أبي
الطَّاهِر عَن ابْن وهب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْجِهَاد عَن القعْنبِي بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
السّير عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ وَعَن ابْن
أبي عمر، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْجِهَاد عَن مُحَمَّد
بن الصَّباح عَن سُفْيَان بِبَعْضِه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام حنين) ، وَكَانَ عَام الحنين
فِي السّنة الثَّامِنَة من الْهِجْرَة، وحنين وَاد بَينه
وَبَين مَكَّة ثَلَاثَة أَمْيَال، وَهَذَا الحَدِيث وَقع
هُنَا مُخْتَصرا. وَقَالَ الْخطابِيّ: سقط من الحَدِيث
شَيْء لَا يتم الْكَلَام إلاَّ بِهِ، وَهُوَ أَنه يَعْنِي:
أَبَا قَتَادَة قتل رجلا من الْكفَّار، فَأعْطَاهُ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سلبه. وَكَانَ الدرْع
من سلبه، ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين: بِأَنَّهُ تعسف فِي
الرَّد على البُخَارِيّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ
جَوَاز بيع الدرْع، فَذكر مَوْضِعه من الحَدِيث وَحذف
سائره، وَهَكَذَا يفعل كثيرا. قَوْله: (فَأعْطَاهُ) أَي:
فَأعْطى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبَا
قَتَادَة، وَكَانَ مُقْتَضى الْحَال أَن يَقُول:
فَأَعْطَانِي، وَلكنه من بَاب الِالْتِفَات، وَكَانَ
الدرْع من سلب كَافِر قَتله أَبُو قَتَادَة، وَالَّذِي شهد
لَهُ
(11/219)
بِالْقَتْلِ الْأسود بن خُزَاعَة، وَعبيد
الله بن أنيس، قَالَه الْمُنْذِرِيّ. قَوْله: (فابتعت
بِهِ) أَي: اشْتريت بِهِ أَي: بِثمن الدرْع. قَوْله:
(مخرفا) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة
وَفتح الرَّاء بعْدهَا فَاء: وَهُوَ الْبُسْتَان، وبكسر
الْمِيم، الْوِعَاء الَّذِي يجمع فِيهِ الثِّمَار. وَقيل:
الْحَائِط من النّخل يخرف فِيهِ الرطب أَي: يجتنى، وَقيل
للنخلة: مخرف، وللطريق: مخرف. وَفِي (الْمُحكم) المخرف:
الْقطعَة الصَّغِيرَة من النّخل سِتّ أَو سبع يشترى بهَا
الرجل للخرفة. قَوْله: (فِي بني سَلمَة) ، بِكَسْر اللَّام
بطن من الْأَنْصَار. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن
المخرف (لأوّل مَال) ، بِفَتْح اللَّام للتَّأْكِيد.
قَوْله: (تأثلته) أَي: جمعته، وَهُوَ من بَاب التفعل فِيهِ
معنى التَّكَلُّف، مَأْخُوذ من الأثلة وَهُوَ الأَصْل أَي:
اتخذته أصلا لِلْمَالِ، ومادته همزَة وثاء مُثَلّثَة
وَلَام، يُقَال: مَال مؤثل، ومجد مؤثل: أَي مَجْمُوع ذُو
أصل.
83 - (بابٌ فِي الْعَطَّارِ وبَيْعِ المِسْكِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي الْعَطَّار، على وزن: فعال،
بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ الَّذِي يَبِيع الْعطر، وَهُوَ
الطّيب. قَوْله: (وَبيع الْمسك) عطف على مَا قبله.
1012 - حدَّثني مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا أبُو بُرْدَةَ بنُ عَبْدِ
الله قَالَ سَمِعْتُ أبَا بُرْدَةَ بنَ أبِي مُوسَى عنْ
أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ
والجَلِيسِ السُّوءِ كمَثَلِ صاحِبِ المِسْكِ وكِيرِ
الحَدَّادِ لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صاحِبِ المِسْكِ إمَّا
تَشْتَرِيهِ أوْ تَجِدُ رِيحَهُ وكِيرُ الحَدَّادِ
يُحْرِقُ بَدَنَكَ أوْ ثَوْبَكَ أوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحا
خَبِيثَةً. (الحَدِيث 1012 طرفه فِي: 4355) .
مطابقته للتَّرْجَمَة للجزء الثَّانِي مِنْهَا وَهُوَ: بيع
الْمسك. وَقَالَ بَعضهم: وَبيع الْمسك لَيْسَ فِي حَدِيث
الْبَاب سوى ذكر الْمسك، وَكَأَنَّهُ ألحق الْعَطَّار بِهِ
لاشْتِرَاكهمَا فِي الرَّائِحَة الطّيبَة. قلت: صَاحب
الْمسك أَعم من أَن يكون حامله أَو بَائِعه، وَلَكِن
الْقَرِينَة الحالية تدل على أَن المُرَاد مِنْهُ بَائِعه،
فَتَقَع الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة. وَأما أَنه
ذكر الْعَطَّار، وَإِن لم يكن لَهُ ذكر فِي الحَدِيث،
فَلِأَنَّهُ قَالَ: وَبيع الْمسك، وَهُوَ يسْتَلْزم
البَائِع، وبائع الْمسك يُسمى: الْعَطَّار. وَإِن كَانَ
يَبِيع غير الْمسك من أَنْوَاع الطّيب.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
الْمنْقري التَّبُوذَكِي. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن
زِيَاد الْعَبْدي. الثَّالِث: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة: واسْمه بريد مصغر الْبرد بن عبد الله بن أبي
بردة بن أبي مُوسَى. الرَّابِع: أَبُو بردة، بِالضَّمِّ
أَيْضا: واسْمه عَامر بن أبي مُوسَى. الْخَامِس: أَبوهُ،
أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه: عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه بصريان
والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب وَعَن
الْجد، على مَا لَا يخفى.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي كريب. وَأخرجه مُسلم
فِي الْأَدَب عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة، وَعَن أبي كريب
عَن أبي أُسَامَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مثل الجليس) ، الجليس على وزن:
فعيل، هُوَ الَّذِي يُجَالس الرجل. يُقَال: جالسته فَهُوَ
جليسي وجلسي. قَوْله: (كير الْحداد) ، بِكَسْر الْكَاف
وَسُكُون الْيَاء، هُوَ زق أَو جلد غليظ ينْفخ بِهِ
النَّار، وَفِي رِوَايَة أُسَامَة: (كحامل الْمسك ونافخ
الْكِير) . وَفِي الْكَلَام لف وَنشر، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الْمُشبه بِهِ الْكِير أَو صَاحب الْكِير
لاحْتِمَال عطف الْكِير على الصاحب وعَلى الْمسك فَأجَاب
بِأَن ظَاهر اللَّفْظ أَنه الْكِير، وَالْمُنَاسِب للتشبيه
أَنه صَاحبه. قَوْله: (لَا يعدمك) ، بِفَتْح الْيَاء وَفتح
الدَّال من: عدمت الشَّيْء بِالْكَسْرِ، أعدمه أَي: فقدته.
وَقَالَ ابْن التِّين: وَضبط فِي البُخَارِيّ، بِضَم
الْيَاء وَكسر الدَّال من عدمت الشَّيْء بِالْكَسْرِ
أعدمه، وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ يعدوك. قلت: هُوَ رِوَايَة أبي
ذَر، فَيكون من الإعدام، وفاعل: (لَا يعدمك) ، قَوْله:
(تشتريه) ، وَأَصله: أَن تشتريه، وَكلمَة: إِمَّا،
زَائِدَة، وَيجوز أَن يكون الْفَاعِل مَا يدل عَلَيْهِ
إِمَّا أَي: لَا يعدمك أحد الْأَمريْنِ. قَوْله:
(11/220)
(وَأما تشتريه أَو تَجِد رِيحه) وَفِي
رِوَايَة أبي أُسَامَة: (إِمَّا أَن يجديك، وَإِمَّا أَن
تبْتَاع مِنْهُ) . وَرِوَايَة عبد الْوَاحِد أرجح لِأَن:
الإجداء وَهُوَ الْإِعْطَاء. لَا يتَعَيَّن بِخِلَاف
الرَّائِحَة، فَإِنَّهَا لَازِمَة سَوَاء وجد البيع أَو لم
يُوجد. قَوْله: (وكير الْحداد) إِلَى آخِره، وَفِي
رِوَايَة أبي أُسَامَة: (ونافخ الْكِير، إِمَّا أَن يحرق
ثِيَابك) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: النَّهْي عَن مجالسة من
يتَأَذَّى بمجالسته، كالمغتاب والخائض فِي الْبَاطِل،
وَالنَّدْب إِلَيّ من ينَال بمجالسته الْخَيْر من ذكر الله
وَتعلم الْعلم وأفعال الْبر كلهَا. وَفِي الحَدِيث:
(الْمَرْء على دين خَلِيله، فَلْينْظر أحدكُم من يخالل) .
وَفِيه: دَلِيل على إِبَاحَة المقايسات فِي الدّين، قَالَه
ابْن حبَان عِنْد ذكر هَذَا الحَدِيث. وَفِيه: جَوَاز ضرب
الْأَمْثَال. وَفِيه: دَلِيل على طَهَارَة الْمسك. وَفِي
(صَحِيح مُسلم) : عَن أبي سعيد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمسك أطيب الطّيب) . وَفِي
كتاب (الْأَشْرَاف) : روينَا عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِسَنَد جيد أَنه كَانَ لَهُ مسك يتطيب
بِهِ، وعَلى هَذَا جلّ الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَغَيرهم،
وَهُوَ قَول عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر
وَأنس وسلمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَمُحَمّد بن
سِيرِين وَسَعِيد بن الْمسيب وَجَابِر بن زيد
وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَاللَّيْث وَأحمد وَإِسْحَاق.
وَخَالف فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَذكر ابْن أبي شيبَة، قَالَ
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا تحنطوني بِهِ،
وَكَرِهَهُ. وَكَذَا عمر ابْن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء
وَالْحسن وَمُجاهد وَالضَّحَّاك، وَقَالَ أَكْثَرهم: لَا
يصلح للحي وَلَا للْمَيت، لِأَنَّهُ ميتَة، وَهُوَ عِنْدهم
بِمَنْزِلَة مَا أبين من الْحَيَوَان. قَالَ ابْن
الْمُنْذر: لَا يَصح ذَلِك إلاَّ عَن عَطاء. قلت: روى ابْن
أبي شيبَة عَن عَطاء من طَرِيق جَيِّدَة أَنه سُئِلَ: أطيب
الْمَيِّت بالمسك؟ قَالَ: نعم، أوليس الَّذِي تخمرون بِهِ
الْمسك؟ فَهُوَ خلاف مَا قَالَه ابْن الْمُنْذر عَنهُ،
وَقَوْلهمْ: إِنَّه بِمَنْزِلَة مَا أبين من الْحَيَوَان،
قِيَاس غير صَحِيح، لِأَن مَا قطع من الْحَيّ يجْرِي فِيهِ
الدَّم، وَهَذَا لَيْسَ سَبِيل نافجة الْمسك لِأَنَّهَا
تسْقط عِنْد الاحتكاك كسقوط الشعرة. وَقَالَ أَبُو الْفضل
عِيَاض: وَقع الْإِجْمَاع على طَهَارَته وَجَوَاز
اسْتِعْمَاله. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْمسك حَلَال
بِالْإِجْمَاع بِحل اسْتِعْمَاله للرِّجَال وَالنِّسَاء،
وَيُقَال: انقرض الْخلاف الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَاسْتقر
الْإِجْمَاع على طَهَارَته، وَجَوَاز بَيْعه. وَقَالَ
الْمُهلب: أصل الْمسك التَّحْرِيم لِأَنَّهُ دم، فَلَمَّا
تغير عَن الْحَالة الْمَكْرُوهَة من الدَّم، وَهِي الزهم،
وفاح الرَّائِحَة، صَار حَلَالا بِطيب الرَّائِحَة،
وانتقلت حَاله كَالْخمرِ تتخل فَتحل بعد أَن كَانَت
حَرَامًا بانتقال الْحَال. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : نقل
أَصْحَابنَا عَن الشِّيعَة فِيهِ مذهبا بَاطِلا، وَهُوَ
مُسْتَثْنى من الْقَاعِدَة الْمَعْرُوفَة: أَن مَا أبين من
حَيّ فَهُوَ ميت أَو يُقَال: هُوَ فِي معنى الْجَنِين
وَالْبيض وَاللَّبن، وَذكر المَسْعُودِيّ فِي (مروج
الذَّهَب) : أَنه تدفع مواد الدَّم إِلَى سرة الغزال،
فَإِذا استحكم لون الدَّم فِيهَا ونضح آذاه ذَلِك وحكه.
فَيفزع حِينَئِذٍ إِلَى أحد الصخور والأحجار الحارة من حر
الشَّمْس، فيجت بهَا ملتذا بذلك، فينفجر حِينَئِذٍ وتسيل
على تِلْكَ الْأَحْجَار كانفجار الْجراح والدمل، ويجد
بِخُرُوجِهِ لَذَّة، فَإِذا فرغ مَا فِي نافجته اندمل
حِينَئِذٍ ثمَّ اندفعت إِلَيْهِ مواد من الدَّم تَجْتَمِع
ثَانِيَة، فَيخرج رجال نبت يقصدون تِلْكَ الْحِجَارَة
وَالْجِبَال فيجدونه قد جف بعد إحكام الْموَاد ونضج
الطبيعة وجففته الشَّمْس وَأثر فِيهِ الْهوى، فيودعونه فِي
نوافج مَعَهم قد أخذوها من غزلان اصطادوها، معدة مَعَهم،
ولغزاله نابان صغيران محدودا الْأَعْلَى، مِنْهَا مدلًى
على أَسْنَانه السُّفْلى، ويداه قصيرتان وَرجلَاهُ
طويلتان، وَرُبمَا رَمَوْهَا بِالسِّهَامِ فيصرعونها
ويقطعون عَنْهَا نوافجها وَالدَّم فِي سررها خام لم ينضج،
وطري لم يدْرك، فَيكون لرائحته سهولة، فَيبقى زَمَانا
حَتَّى تَزُول عَنهُ تِلْكَ الروائح السهلة الكريهة،
وتكتسب موادا من الْهوى، وَتصير مسكا.
93 - (بابُ ذِكْرِ الحجَّامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِيمَا جَاءَ من ذكر الْحجام، وَلما ذكر
فِي: بَاب مُوكل الرِّبَا، النَّهْي عَن ثمن الدَّم
الَّذِي هُوَ الْحجامَة، وَظَاهره التَّحْرِيم. عقد هَذَا
الْبَاب هُنَا وَفِيه حديثان يدلان على جَوَاز الْحجامَة،
وَأخذ الْأُجْرَة، فذكرهما ليدل على أَن النَّهْي
الْمَذْكُور فِيهِ إِمَّا مَنْسُوخ كَمَا ذهب إِلَيْهِ
الْبَعْض وَإِمَّا أَنه مَحْمُول على التَّنْزِيه، كَمَا
ذهب إِلَيْهِ آخَرُونَ، وَهَذَا الَّذِي يذكر هَهُنَا هُوَ
الْوَجْه، لَا مَا ذكره بَعضهم مِمَّا لَا طائل تَحْتَهُ.
2012 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله
(11/221)
تَعَالَى عنهُ قَالَ حَجَمَ أبُو طَيْبَةَ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ لَهُ بِصَاعٍ
مِنْ تَمْرٍ وأمَرَ أهْلَهُ أنْ يُخَفِّفُوا مِنْ
خَرَاجِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهِ أَن
أَبَا طيبَة حجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فيطلق عَلَيْهِ أَنه حجام. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع أَيْضا عَن
القعْنبِي. وَأَبُو طيبَة، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة، قيل: إسمه دِينَار. وَقيل: نَافِع، وَقيل:
ميسرَة. وَقَالَ ابْن الْحذاء: عَاشَ مائَة وَثَلَاثًا
وَأَرْبَعين سنة. وَهُوَ مولى محيصة، بِضَم الْمِيم وَفتح
الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وبالصاد الْمُهْملَة: ابْن مَسْعُود الْأنْصَارِيّ،
وَأَهله هم بَنو بياضة.
قَوْله: (من خراجه) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة،
وَهُوَ مَا يقرره السَّيِّد على عَبده أَن يُؤَدِّيه
إِلَيْهِ كل يَوْم.
وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز الْحجامَة وَجَوَاز أَخذ
الْأُجْرَة عَلَيْهَا. وَفِيه: دَلِيل على إِبَاحَة مقاطعة
الْمولى عَبده على خراج مَعْلُوم مياومة أَو مشاهرة.
وَفِيه: جَوَاز وضع الضريبة عَنهُ وَالتَّخْفِيف عَلَيْهِ،
وَرُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَهُ:
كم ضريبتك؟ فَقَالَ: ثَلَاثَة آصَع، فَوضع عَنهُ صَاعا،
وَإِنَّمَا أضيف الْوَضع إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ هُوَ
الْآمِر بِهِ، وَهَذَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فَقَالَ:
حَدثنَا فَهد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو غَسَّان، قَالَ:
حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي بشر عَن سُلَيْمَان بن قيس
عَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا
أَبَا طيبَة فحجمه، فَسَأَلَهُ: (كم ضريبتك؟) فَقَالَ:
ثَلَاثَة آصَع. فَوضع عَنهُ صَاعا) وَأخرجه أَبُو يعلى فِي
(مُسْنده) بِإِسْنَادِهِ إِلَى جَابر وَلَفظه: قَالَ: (بعث
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى أبي طيبَة
فحجمه) إِلَى آخِره نَحوه، وَأَبُو بشر اسْمه جَعْفَر بن
إِيَاس الْيَشْكُرِي، وَعلل بَعضهم الحَدِيث بِأَنَّهُ لم
يسمع من سُلَيْمَان بن قيس، وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من
حَدِيث أبي جميلَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
قَالَ: (احْتجم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَأعْطى أجره) ، وَلَو كَانَ بِهِ بَأْس لم يُعْطه.
وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَأَبُو جميلَة
اسْمه ميسرَة، وَثَّقَهُ ابْن حبَان. فَإِن قلت: روى
الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي عَن ابْن أبي
فديك عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن
ابْن شهَاب عَن حرَام بن سعد بن محيصة، أحد بني حَارِثَة
عَن أَبِيه، (أَنه سَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، عَن كسب الْحجام؟ فَنَهَاهُ أَن يَأْكُل من كَسبه،
ثمَّ عَاد فَنَهَاهُ، ثمَّ عَاد فَنَهَاهُ، فَلم يزل
يُرَاجِعهُ حَتَّى قَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أعلف كَسبه ناضحك وأطعمه رقيقك) . قلت:
فِي إِبَاحَته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يطعمهُ
الرَّقِيق والناضح دَلِيل على أَنه لَيْسَ بِحرَام، أَلا
ترى أَن المَال الْحَرَام الَّذِي لَا يحل للرجل لَا يحل
لَهُ أَيْضا أَن يطعمهُ رَقِيقه وَلَا نَاضِحَهُ؟ لِأَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قد قَالَ فِي
الرَّقِيق: (أطعموهم مِمَّا تَأْكُلُونَ) . فَلَمَّا ثَبت
إِبَاحَة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لمحيصة أَن
يعلف ذَلِك نَاضِحَهُ وَيطْعم رَقِيقه من كسب حجامه، دلّ
ذَلِك على نسخ مَا تقدم من نَهْيه عَن ذَلِك، وَثَبت حل
ذَلِك لَهُ وَلغيره، قَالَه الطَّحَاوِيّ ثمَّ قَالَ:
وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا
الله تَعَالَى.
3012 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ هُوَ ابنُ
عَبْدِ الله قَالَ حَدثنَا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ احْتَجَمَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأعْطَى الَّذِي حَجَمَهُ
ولَوْ كانَ حَرَاما لَمْ يُعْطِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن قَوْله: (حجمه)
يَقْتَضِي الْحجام، وخَالِد بن عبد الله هُوَ: الطَّحَّان
الوَاسِطِيّ، وخَالِد الثَّانِي هُوَ خَالِد بن مهْرَان
الْحذاء الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِجَارَة عَن
مُسَدّد عَن يزِيد بن زُرَيْع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْبيُوع عَن مُسَدّد بِهِ.
قَوْله: (أعْطى الَّذِي حجمه) لم يذكر الْمَفْعُول
الثَّانِي، وَهُوَ نَحْو: شَيْئا أَو صَاعا من تمر،
بِقَرِينَة الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (وَلَو كَانَ) ،
أَي: الَّذِي أعطَاهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
لَهُ حَرَامًا لم يُعْطه، وَهَذَا نَص فِي إِبَاحَة أجر
الْحجام.
وَفِيه: اسْتِعْمَال الأحير من غير تَسْمِيَة أحره وإعطاؤه
قدرهَا، وَأكْثر، قَالَه الدَّاودِيّ، وَلَعَلَّ محمل
الحَدِيث أَنهم كَانُوا يعلمُونَ مقدارها، فَدَخَلُوا على
الْعَادة.
(11/222)
04 - (بابُ التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ
لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ والنِّساءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم التِّجَارَة فِي الشَّيْء
الَّذِي يكره لبسه للرِّجَال وَالنِّسَاء، وَالْمرَاد من
قَوْله: لبسه يَعْنِي: إستعماله، وَيذكر اللّبْس وَيُرَاد
بِهِ الِاسْتِعْمَال. كَمَا فِي حَدِيث أنس: (فَقُمْت
إِلَى حَصِير لنا قد اسودَّ من طول مَا لبس) . أَي: من طول
مَا اسْتعْمل، وَالَّذِي يكره اسْتِعْمَاله للرِّجَال
وَالنِّسَاء مثل النمرقة الَّتِي فِيهَا تصاوير، فَإِن
اسْتِعْمَالهَا يكره للرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا،
وَبِهَذَا ينْدَفع اعْتِرَاض من قَالَ: جعل البُخَارِيّ
هَذِه التَّرْجَمَة فيمَ يكره لبسه للرِّجَال وَالنِّسَاء،
وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، شفقها خمرًا بَين
الفواطم، وَكَانَ على زَيْنَب بنت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم حلَّة سيراء، فَإِنَّمَا الْمَعْنى: من لَا
خلاق لَهُ من الرِّجَال، فَأَما النِّسَاء فَلَا. فَإِن
أَرَادَ شِرَاء مَا فِيهِ تصاوير فَحَدِيث عمر لَا يدْخل
فِي هَذِه التَّرْجَمَة. انْتهى. قلت: بل يدْخل، لِأَن
التَّرْجَمَة لَهَا جزآن: أَحدهمَا: قَوْله للرِّجَال،
وَالْآخر: قَوْله للنِّسَاء، فَحَدِيث عمر يدْخل فِي
الْجُزْء الأول، وَحَدِيث عَائِشَة يدْخل فِي الْجُزْء
الثَّانِي إِن كَانَ اللّبْس على مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ.
وَإِن جَعَلْنَاهُ بِمَعْنى: الِاسْتِعْمَال، كَمَا
ذَكرْنَاهُ، يدْخل فِي الجزأين جَمِيعًا. فَافْهَم.
فَإِنَّهُ مَوضِع تعسف فِيهِ الشُّرَّاح، وَهَذَا الَّذِي
ذكرته فتح لي من الْأَنْوَار الإل هية والفيوض الربانية.
4012 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حَدثنَا أَبُو بكرِ بنُ حَفْصٍ عنْ سالِمِ بنِ عَبْدِ الله
ابْن عُمَرَ عنْ أبِيه قَالَ أرسَلَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
بِحُلَّةِ حَرِيرٍ أوْ سِيَرَاءَ فَرَآهَا عَلَيْهِ
فَقَالَ إنِّي لَمْ أُرْسلِ بِهَا إلَيْكَ لِتَلْبَسها
إنَّمَا يَلْبَسُها منْ لَا خَلاَقَ لَهُ إنَّمَا بَعثْتُ
إلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِها يَعْنِي تَبِيعُها. .
مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة، وَقد ذَكرْنَاهُ
الْآن. وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَأَبُو بكر بن حَفْص هُوَ
عبد الله بن حَفْص ابْن عمر بن سعد بن أبي وَقاص
الزُّهْرِيّ، مر فِي أول الْغسْل.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة، فَفِي لفظ:
(إِنِّي لم أبْعث لَهَا لتلبسها وَلَكِن بعثن إِلَيْك بهَا
لتصيب بهَا) ، وَفِي لفظ: (تبيعها وتصيب بهَا حاجتم) ،
وَفِي لفظ: (إِنَّمَا بعثت بهَا إِلَيْك لتستمتع بهَا) ،
وَفِي لفظ: (إِنَّمَا بعث بهَا إِلَيْك لتنتفع بهَا، وَلم
أبْعث إِلَيْك لتلبسها) . وَفِي لفظ: (إِنَّمَا بعث بهَا
إِلَيْك لتصيب بهَا مَالا.)
قَوْله: (بحلة) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، وَهِي
وَاحِدَة الْحلَل، وَهِي برود الْيمن، وَلَا تسمى حلَّة،
إلاَّ أَن تكون ثَوْبَيْنِ من جنس وَاحِد. قَوْله:
(أوسيراء) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء
آخر الْحُرُوف وبالمد، وَهُوَ برد فِيهِ خطوط صفر، وَقيل:
هِيَ المضلعة بالحرير، وَقيل: إِنَّهَا حَرِير مَحْض.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ نوع من الْبرد يخالطه حَرِير
كالسيور، فَهُوَ فعلاء من السّير: الْقد، هَكَذَا يرْوى
على الصّفة، وَقَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين: إِنَّمَا هُوَ
حلَّة سيراء على الْإِضَافَة، وَاحْتج بِأَن سِيبَوَيْهٍ،
قَالَ: لم يَأْتِ فعلاء صفة لَكِن اسْما، وَقد مر فِي كتاب
الْجُمُعَة حَدِيث عمر بأطول من هَذَا من وَجه آخر.
5012 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنِ الْقاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عَن
عائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
أنَّها أخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةَ فِيها
تَصَاوِيرُ فَلَمَّا رَآها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قامَ عَلَى الْبابِ فَلَمْ يَدْخلْهُ فعَرَفْتُ فِي
وجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله أتُوبُ
إلَى الله وإلَى رسولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ماذَا
أذْنَبْتُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا
بالُ هاذِهِ النُّمْرُقَةِ قلْتُ اشْتَرَيْتُها لَكَ
لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وتَوَسَّدَها فَقَالَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ أصْحَابَ هَذِه الصُّوَرِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ فَيُقالُ لَهُمْ أحْيُوا مَا
خَلَقْتُمْ وَقَالَ إنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ
الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ المَلائِكَة. .
وَجه الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة قد مر فِي أول
الْبَاب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الاشتراء أَعم من
التِّجَارَة، فَكيف يدل على الْخَاص الَّذِي هُوَ
التِّجَارَة الَّتِي عقد عَلَيْهَا الْبَاب؟ فَأجَاب:
بِأَن حُرْمَة الْجُزْء مستلزمة لحُرْمَة الْكل، وَهُوَ من
بَاب إِطْلَاق الْكل
(11/223)
وَإِرَادَة الْجُزْء.
وَرِجَاله مَشْهُورُونَ مذكورون غير مرّة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن
إِسْمَاعِيل بن عبد الله وَفِي اللبَاس عَن القعْنبِي،
وَفِي اللبَاس أَيْضا عَن حجاج بن منهال، وَفِي بَدْء
الْخلق عَن مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام عَن مخلد هُوَ ابْن
يزِيد، وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن يحيى بن يحيى عَن
مَالك بِهِ وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبد
الْوَارِث بن عبد الصَّمد وَعَن قُتَيْبَة بن سعيد وَعَن
مُحَمَّد بن رمح وَعَن هَارُون بن سعيد وَعَن أبي بكر بن
إِسْحَاق.
قَوْله: (نمرقة) ، بِضَم النُّون وَالرَّاء، ضَبطه ابْن
السّكيت هَكَذَا، وضبطها أَيْضا بِكَسْر النُّون وَالرَّاء
وَبِغير هَاء، وَجَمعهَا: نمارق. وَقَالَ ابْن التِّين:
ضبطناها فِي الْكتب بِفَتْح النُّون وَضم الرَّاء. وَقَالَ
عِيَاض وَغَيره: هِيَ وسَادَة، وَقيل: مرفقة، وَقيل: هِيَ
الْمجَالِس، وَلَعَلَّه يَعْنِي: الطنافس. وَفِي
(الْمُحكم) : النمرق والنمرقة، قد قيل: هِيَ الَّتِي
يلبسهَا الرجل. وَفِي (الْجَامِع) : النمرق تجْعَل تَحت
الرحل. وَفِي (الصِّحَاح) : النمرقة وسَادَة صَغِيرَة،
وَرُبمَا سموا الطنفسة الَّتِي تَحت الرحل نمرقة. قَوْله:
(الصُّور) ، بِضَم الصَّاد وَفتح الْوَاو جمع: صُورَة.
الصُّورَة ترد فِي كَلَام الْعَرَب على ظَاهرهَا وعَلى
معنى حَقِيقَة الشَّيْء وهيئته، وعَلى معنى صفته. يُقَال:
صُورَة الْفِعْل كَذَا وَكَذَا، أَي هَيئته، وَصُورَة
الْأَمر كَذَا وَكَذَا: أَي صفته. قَوْله: (أحيوا) ،
بِفَتْح الْهمزَة أَمر تعجيز من الْإِحْيَاء. قَوْله: (مَا
خلقْتُمْ) ، أَي: صورتم كصورة الْحَيَوَان. قَوْله: (لَا
تدخله الْمَلَائِكَة) أَي: غير الْحفظَة. وَقيل:
مَلَائِكَة الْوَحْي. وَأما الْحفظَة فَلَا تُفَارِقهُ
إلاَّ عِنْد الْجِمَاع والخلاء، كَمَا أخرجه ابْن عدي
وَضَعفه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَهُوَ على وُجُوه: الأول: أَن
بيع الثِّيَاب الَّتِي فِيهَا الصُّور الْمَكْرُوهَة،
فَظَاهر حَدِيث عَائِشَة أَن بيعهَا لَا يجوز، لَكِن قد
جَاءَت آثَار مَرْفُوعَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم تدل على جَوَاز بيع مَا تمتهن فِيهَا الصُّورَة،
مِنْهَا: ستر عَائِشَة فِيهِ تصاوير فهتكه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَجَعَلته قطعتين، فاتكأ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على إِحْدَاهمَا، رَوَاهُ وَكِيع عَن أُسَامَة بن
زيد عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه عَنْهَا،
فَإِذا تَعَارَضَت الْآثَار فَالْأَصْل الْإِبَاحَة حَتَّى
برد الْحَظْر، وَيحْتَمل أَن يكون معنى حَدِيث عَائِشَة
فِي النمرقة لَو لم يُعَارضهُ غَيره مَحْمُولا على
الْكَرَاهَة دون التَّحْرِيم، بِدَلِيل أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لم يفْسخ البيع فِي النمرقة الَّتِي
اشترتها عَائِشَة؟
الثَّانِي: أَن تَصْوِير الْحَيَوَان حرَام، وَاخْتلفُوا
فِي هَذَا الْبَاب، فَقَالَ قوم من أهل الحَدِيث
وَطَائِفَة من الظَّاهِرِيَّة: التَّصْوِير حرَام سَوَاء
فِي ذَلِك ظَاهر حَدِيث عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَشد النَّاس عذَابا يَوْم
الْقِيَامَة المصورون) . رَوَاهُ مُسلم وَغَيره، وَقَالَ
الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث: كل صُورَة لَا
تشبه صُورَة الْحَيَوَان كصور الشّجر وَالْحجر والجبل
وَنَحْو ذَلِك، فَلَا بَأْس بهَا. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك
بِمَا رَوَاهُ مُسلم: قَالَ: قَرَأت على نصر بن عَليّ
الْجَهْضَمِي عَن عبد الْأَعْلَى، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن
إِسْحَاق (عَن سعيد بن أبي الْحسن، قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى
ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: إِنِّي رجل أصور هَذِه الصُّور،
فافتني فِيهَا، فَقَالَ: ادنُ مني ثمَّ قَالَ: أدن مني،
فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى وضع يَده على رَأسه. قَالَ: أنبئك
بِمَا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: كل
مُصَور فِي النَّار يَجْعَل لَهُ بِكُل صُورَة صورها نفسا
فيعذبه فِي جَهَنَّم وَقَالَ: إِن كنت لَا بُد فَاعِلا
فَاصْنَعْ الشّجر وَمَا لَا نفس لَهُ) . فَأقر بِهِ نصر بن
عَليّ. وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من
حَدِيث مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (اسْتَأْذن
جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، على رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أَدخل فَقَالَ: كَيفَ أَدخل وَفِي
بَيْتك ستر فِيهِ تماثيل خيل وَرِجَال؟ فإمَّا أَن تقطع
رؤوسها وَإِمَّا أَن تجعلها بساطا، فَإنَّا معشر
الْمَلَائِكَة لَا ندخل بَيْتا فِيهِ تماثيل) . قَالَ
الطَّحَاوِيّ: فَلَمَّا أبيحت التماثيل بعد قطع رؤوسها
الَّذِي لَو قطع من ذِي الرّوح لم يبْق، دلّ ذَلِك على
إِبَاحَة تَصْوِير مَا لَا روح لَهُ، وعَلى خُرُوج مَا لَا
روح لمثله من الصُّور مِمَّا قد نهى عَنهُ فِي الْآثَار.
الثَّالِث: فِيهِ أَن الْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ
صُورَة، وَقد مر عَن قريب أَن المُرَاد من الْمَلَائِكَة
غير الْحفظَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: أما الْمَلَائِكَة
الَّذين لَا يدْخلُونَ بَيْتا فِيهِ كلب أَو صُورَة فهم
مَلَائِكَة يطوفون بِالرَّحْمَةِ وَالِاسْتِغْفَار.
وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا لَا تدخل الْمَلَائِكَة
بَيْتا فِيهِ كلب أَو صُورَة مِمَّا يحرم اقتناؤه من
الْكلاب والصور، فَأَما مَا لَيْسَ بِحرَام من كلب
الصَّيْد وَالزَّرْع والماشية وَالصُّورَة الَّتِي تمتهن
فِي الْبسَاط والوسادة وَغَيرهمَا فَلَا يمْنَع دُخُول
الْمَلَائِكَة بِسَبَبِهِ، وَأَشَارَ القَاضِي إِلَى نَحْو
مَا قَالَ الْخطابِيّ، وَالْأَظْهَر أَنه عَام فِي كل كلب
وكل صُورَة، وَأَنَّهُمْ يمْنَعُونَ من الْجَمِيع
لإِطْلَاق الْأَحَادِيث. قَالَه النَّوَوِيّ. وَقَالَ
أَيْضا: وَلِأَن الْجَرّ وَالَّذِي كَانَت فِي بَيت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت
(11/224)
السرير كَانَ لَهُ فِيهِ عذر ظَاهر، فَإِنَّهُ لم يعلم
بِهِ، وَمَعَ هَذَا امْتنع جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام،
من دُخُول الْبَيْت، وَعلل بالجرو، فَلَو كَانَ الْعذر فِي
وجود الصُّورَة وَالْكَلب لَا يمنعهُم، لم يمْتَنع
جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام. انْتهى. الْعلم وَعَدَمه
لَا يُؤثر فِي هَذَا الْأَمر، وَالْعلَّة فِي امتناعهم عَن
الدُّخُول وجود الصُّورَة وَالْكَلب مُطلقًا. وَالله أعلم. |