عمدة القاري شرح صحيح البخاري

14 - (بابٌ صاحِبُ السِّلْعَةِ أحَقُّ بالسَّوْمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن صَاحب السّلْعَة، أَي: الْمَتَاع أَحَق بالسوم، بِفَتْح السِّين وَسُكُون الْوَاو، أَي: أَحَق بِذكر قدر الثّمن، وَتَقْدِيره يُقَال: سَام البَائِع السّلْعَة عرضهَا على البيع وَذكر ثمنهَا، وسامها المُشْتَرِي بِمَعْنى استامها سوما يَعْنِي: يسْأَل شراءها. وَقَالَ ابْن بطال: لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَإِن متولى السّلْعَة من مَالك أَو وَكيل أولى بالسوم من طَالب شِرَائهَا. وَبَعْضهمْ نقل كَلَام ابْن بطال هَذَا، ثمَّ قَالَ: لكنه لَيْسَ ذَلِك بِوَاجِب. انْتهى. قلت: لَا معنى لهَذَا الِاسْتِدْرَاك، لِأَن ابْن بطال قد صرح بالأولوية، وَهُوَ لَا يفهم مِنْهُ الْوُجُوب أصلا حَتَّى يُقَال: لَكِن كَذَا.

6012 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَارِثِ عنْ أبِي التَّيَّاحِ عَن أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا بَنِي النَّجَّارِ ثامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ وفِيهِ خِرَبٌ ونَخْلٌ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثامنوني) ، لِأَن مَعْنَاهُ قدرُوا لي ثمن حائطكم، أَي: قِيمَته. وثامنه بِكَذَا أَي قدر مَعَه الثّمن. وَعبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد، والتياح، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، واسْمه يزِيد بن حميد، والإسناد كُله بصريون، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب نبش قُبُور الْمُشْركين، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ مطولا: عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَارِث ... الخ، وَهَهُنَا أخرجه: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري عَن عبد الْوَارِث. وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. قَوْله: (يَا بني النجار) ، هم قَبيلَة من الْأَنْصَار. قَوْله: (بحائطكم) ، وَهَذَا الْحَائِط الَّذِي بنى فِيهِ مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَفِيه خرب) .

24 - (بابٌ كَمْ يَجُوزُ الخِيَارُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كم يجوز الْخِيَار؟ هَكَذَا هُوَ التَّقْدِير، لِأَن الْبَاب منون، وَلَكِن لَيْسَ فِي حَدِيثي الْبَاب بَيَان لذَلِك، قيل: لَعَلَّه أَخذ من عدم تحديده فِي الحَدِيث أَنه لَا يتَقَيَّد بل يعرض الْأَمر فِيهِ إِلَى الْحَاجة لتَفَاوت السّلع فِي ذَلِك. قلت: فعلى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يذكر فِي التَّرْجَمَة لَفْظَة: كم، الَّتِي هِيَ استفهامية بِمَعْنى: أَي عدد، ثمَّ معنى الْخِيَار. قَالَ ابْن الْأَثِير: الْخِيَار اسْم من الِاخْتِيَار، وَهُوَ طلب خير الْأَمريْنِ أما إِمْضَاء البيع أَو فَسخه، قَالَ بَعضهم: وَهُوَ خياران: خِيَار الْمجْلس وَخيَار الشَّرْط. قلت: قَالَ ابْن الْأَثِير الْخِيَار على ثَلَاثَة أضْرب: خِيَار الْمجْلس، وَخيَار الشَّرْط، وَخيَار النقيصة. وَبَين الْكل، فَقَالَ: وَأما خِيَار النقيصة فَإِن يظْهر بِالْمَبِيعِ عيب يُوجب الرَّد أَو يلْتَزم البَائِع فِيهِ شرطا لم يكن فِيهِ. انْتهى.

7012 - حدَّثنا صَدَقَةُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ نافِعا عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ المُتَبَايعَيْنِ بالخِيارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أوْ يَكُونُ البَيْعُ خِيَارا قَالَ نافِعٌ وَكَانَ ابنُ عُمَرَ إذَا اشْتَرَى شَيْئا يُعْجِبُهُ فارَقَ صاحِبَهُ. .

قد ذكرنَا الْآن أَنه لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث وَلَا فِي الَّذِي بعده بَيَان مِقْدَار مُدَّة الْخِيَار، وَلَيْسَ فيهمَا إلاَّ بَيَان ثُبُوت الْخِيَار. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون مُرَاد البُخَارِيّ بقوله: كم يجوز الْخِيَار؟ أَي: كم يُخَيّر أحد الْمُتَبَايعين الآخر مرّة؟ وَأَشَارَ إِلَى مَا فِي الطَّرِيق الْآتِيَة بعد ثَلَاثَة أَبْوَاب من زِيَادَة همام، ويختار ثَلَاث مرار، لكنه لما لم تكن الزِّيَادَة ثَابِتَة أبقى التَّرْجَمَة على

(11/225)


الِاسْتِفْهَام كعادته انْتهى. قلت: هَذَا الِاحْتِمَال الَّذِي ذكره لَا يساعد البُخَارِيّ فِي ذكره لَفْظَة: كم، لِأَن موضوعها للعدد وَالْعدَد فِي مُدَّة الْخِيَار لَا فِي تَخْيِير أحد الْمُتَبَايعين الآخر، وَلَيْسَ فِي حَدِيثي الْبَاب مَا يدل على هَذَا، وَقَوله: وَأَشَارَ إِلَى زِيَادَة همام لَا يُفِيد، لِأَنَّهُ يعْقد تَرْجَمَة ثمَّ يُشِير إِلَى مَا تتضمنه التَّرْجَمَة فِي بَاب آخر، وَهَذَا مِمَّا لَا يفِيدهُ.
وَرِجَال الحَدِيث كلهم ذكرُوا، وَصدقَة بالفتحات هُوَ ابْن الْفضل الْمروزِي من أَفْرَاده، وَمضى ذكره فِي: بَاب الْعلم بِاللَّيْلِ، وَعبد الْوَهَّاب هُوَ ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَابْن أبي عمر، كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَهَّاب. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن وَاصل بن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن الثَّقَفِيّ، وَعَن عَليّ بن حجر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن الْمُتَبَايعين بِالْخِيَارِ) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين على الأَصْل، وَحكى ابْن التِّين عَن الْقَابِسِيّ: أَن الْمُتَبَايعَانِ، قَالَ: وَهِي لُغَة. قلت: هَذِه لُغَة بلحارث بن كَعْب فِي إِجْرَاء الْمثنى بِالْألف دَائِما. وَفِي رِوَايَة أَيُّوب عَن نَافِع فِي البا الَّذِي يَلِيهِ: البيَّعان، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد ذكرنَا فِي: بَاب إِذا بَين البائعان، أَن البيع بِمَعْنى البَائِع كالضيق بِمَعْنى الضائق. قَوْله: (مَا لم يَتَفَرَّقَا) ، مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. قَوْله: (أَو يكون البيع خيارا) كلمة: إو، بِمَعْنى إلاَّ أَن، و: يكون، بِالنّصب أَرَادَ أَن يكون البيع بِخِيَار. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: مَعْنَاهُ أَن يخبر البَائِع المُشْتَرِي بعد إِيجَاب البيع، فَإِذا خَيره فَاخْتَارَ البيع فَلَيْسَ لَهُ بعد ذَلِك خِيَار فِي فسخ البيع، وَإِن لم يَتَفَرَّقَا. ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَكَذَا فسره الشَّافِعِي وَغَيره. قلت: وَمِمَّنْ فسره بذلك الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر فِي (الْأَشْرَاف) عَنْهُم، وَقَالَ شَيخنَا فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : وَفِي تَأْوِيل ذَلِك قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد: إلاَّ بيعا شَرط فِيهِ خِيَار الشَّرْط، فَلَا يَنْقَضِي الْخِيَار بِفِرَاق الْمجْلس، بل يَمْتَد إِلَى انْقِضَاء خِيَار الشَّرْط. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد: إلاَّ بيعا شَرط فِيهِ نفي خِيَار الْمجْلس، فَإِنَّهُ ينْعَقد فِي الْحَال وينقضي خِيَار الْمجْلس. قَالَ: وَهَذَا وَجه لِأَصْحَابِنَا، وَالصَّحِيح الَّذِي ذكره التِّرْمِذِيّ قلت: روى الطَّحَاوِيّ حَدِيث ابْن عمر هَذَا وَلَفظه: البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، أَو يَقُول أَحدهمَا لصَاحبه: اختر. وَرُبمَا قَالَ: أَو يكون بيع خِيَار، وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْمَعْنى: كل بيعين فَلَا بيع بَينهمَا حَاصِل إلاَّ فِي صُورَتَيْنِ إِحْدَاهمَا عِنْد التَّفَرُّق إِمَّا بالأقوال وَإِمَّا بالأبدان. وَالْأُخْرَى عِنْد وجود شَرط الْخِيَار لأحد الْمُتَبَايعين بِأَن يشْتَرط أَحدهمَا الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام أَو نَحْوهَا، وَإِلَى هَذَا ذهب اللَّيْث وَأَبُو ثَوْر. وَقَالَت طَائِفَة: معنى هَذَا الْكَلَام: أَن يَقُول أحد الْمُتَبَايعين بعد تَمام البيع لصَاحبه: إختر إِنْفَاذ البيع أَو فَسخه، فَإِن اخْتَار إِمْضَاء البيع تمّ البيع بَينهمَا، وَإِن لم يَتَفَرَّقَا، وَإِلَيْهِ ذهب الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَرُوِيَ ذَلِك عَن الشَّافِعِي، وَكَانَ أَحْمد يَقُول: هما بِالْخِيَارِ أبدا، قَالَا هَذَا القَوْل أَو لم يَقُولَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا بإبدانهما من مكانهما. قَوْله: (قَالَ نَافِع. .) إِلَى آخِره، هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا كَانَ ابْن عمر يُفَارق صَاحبه ليلزم العقد، وَقد ذكره مُسلم أَيْضا فَقَالَ: قَالَ نَافِع: فَكَانَ يَعْنِي ابْن عمر إِذا بَايع رجلا وَأَرَادَ أَن لَا يقيله قَامَ فَمشى هنيهة ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَذكره التِّرْمِذِيّ أَيْضا فَقَالَ: قَالَ أَي: نَافِع كَانَ ابْن عمر إِذا ابْتَاعَ بيعا وَهُوَ قَاعد قَامَ ليجب لَهُ.

8012 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حَدثنَا هَمَّامٌ عنْ قَتَادَةَ عنْ أبِي الخَلِيلِ عنْ عَبْدِ الله بنِ الحَارِثِ عنْ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ البَيِّعانِ بالخَيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا. .

قد ذكرنَا مَا يتَعَلَّق بالترجمة عَن قريب، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب إِذا بَين البائعان، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن صَالح أبي الْخَلِيل ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن حَفْص بن عمر بن الْحَارِث الْأَزْدِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، عَن همام بن يحيى الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ عَن قَتَادَة عَن أبي الْخَلِيل واسْمه صَالح بن أبي مَرْيَم.
قَوْله: (عَن أبي الْخَلِيل) ، وَفِي رِوَايَة شُعْبَة الَّتِي تَأتي بعد بَاب: (عَن قَتَادَة عَن صَالح أبي الْخَلِيل) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة سَمِعت أَبَا الْخَلِيل.
وزَاد أحمدُ قَالَ حدَّثنا بَهْزٌ قَالَ قَالَ هَمَّامٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لأبِي التَّيَّاحِ فَقَالَ كُنْتُ مَعَ أبِي الخَلِيلِ لما حدَّثهُ عَبْدُ الله بنُ الحَارِثِ بِهَذَا الحَدِيثِ

(11/226)


ذكر عَن أبي الْمَعَالِي أَحْمد بن يحيى بن هبة الله بن البيع: أَن أَحْمد هَذَا هُوَ ابْن حَنْبَل، وبهز، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وَفِي آخِره زَاي: ابْن رَاشد مر فِي: بَاب الْغسْل بالصاع، وَهَمَّام هُوَ ابْن يحيى، وَأَبُو التياح اسْمه يزِيد، وَقد مر عَن قريب، وَهَذَا الطَّرِيق وَصله أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن أبي جَعْفَر الدَّارمِيّ واسْمه: وَأحمد بن سعيد عَن بهز بِهِ.

34 - (بابٌ إذَا لَمْ يُوَقِّتْ فِي الخِيارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْخِيَار، وَلَكِن إِذا لم يؤقت البَائِع أَو المُشْتَرِي زَمَانا فِي الْخِيَار بِيَوْم أَو نَحوه هَل يجوز ذَلِك البيع؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي إِذا لم يُوَقت فِي البيع زمَان الْخِيَار بِمدَّة، هَل يكون ذَلِك البيع لَازِما فِي تِلْكَ الْحَال أَو جَائِزا؟ وَمعنى اللُّزُوم أَن لَا يَسعهُ الْفَسْخ، وَالْجَوَاز ضد ذَلِك. انْتهى. قلت: لم يذكر جَوَاب الِاسْتِفْهَام لما فِيهِ من الْخلاف.

9012 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عَن نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيْعانِ بِالخِيارِ مَا لَمْ يتَفَرَّقا أوْ يَقُولُ أحَدُهُمَا لِصاحِبِهِ اخْتَرْ ورُبَّمَا قَالَ أوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيارٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي مُجَرّد ذكر الْخِيَار، وَلكنه عَن التَّوْقِيت سَاكِت، وَهُوَ وَجه آخر فِي حَدِيث ابْن عمر رَوَاهُ عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ إِلَى آخِره. وَأخرجه مُسلم أَيْضا من هَذَا الْوَجْه عَن أبي الرّبيع وَأبي كَامِل، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر الحَدِيث.
قَوْله: (أَو يَقُول أَحدهمَا) ، مَعْنَاهُ إِلَّا أَن يَقُول أحد البيعين لصَاحبه: إختر، بِلَفْظ الْأَمر من الِاخْتِيَار، وَلَفظ: يَقُول، مَنْصُوب: بِأَن، وَقَالَ بَعضهم: فِي إِثْبَات الْوَاو فِي: يَقُول، نظر لِأَنَّهُ مجزوم عطفا على قَوْله: (مَا لم يَتَفَرَّقَا) . قلت: ظن هَذَا أَن كلمة: أَو، للْعَطْف وَلَيْسَ كَذَلِك، بل بِمَعْنى: إلاَّ أَن، كَمَا ذكرنَا، وَلم ينْحَصر معنى: أَو، للْعَطْف بل تَأتي لأثني عشر معنى، كَمَا ذكره النُّحَاة، مِنْهَا أَنَّهَا تكون بِمَعْنى: إِلَى، وينتصب المضار بعْدهَا بِأَن مضمرة نَحْو: لألزمنك أَو تقضيني حَقي، وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل أَنه لم يكتف بِمَا تعسف فِي ظَنّه، ثمَّ وَجهه بقوله: فَلَعَلَّ الضمة أشبعت كَمَا أشبعت الْيَاء فِي قِرَاءَة من قَرَأَ: {إِنَّه من يَتَّقِي ويصبر} (يُونُس: 09) . وَترك الْمَعْنى الصَّحِيح وَذكره بِالِاحْتِمَالِ، فَقَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى: إلاَّ أَن. قَوْله: (أَو يكون بيع خِيَار) إلاَّ أَن يكون بيع خِيَار، يَعْنِي: بيع شَرط الْخِيَار فِيهِ، فَلَا يبطل بالتفرق.

44 - (بابٌ الْبَيِّعانِ بالخيارِ مَا لَمْ يتَفَرَّقا)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ البيعان بِالْخِيَارِ.
وبِه قَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
أَي: بِخِيَار البيعين مَا لم يَتَفَرَّقَا، قَالَ عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد مضى أَن ابْن عمر كَانَ إِذا اشْترى شَيْئا يُعجبهُ فَارق صَاحبه، وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق ابْن فُضَيْل عَن يحيى بن سعيد: وَكَانَ ابْن عمر إِذا ابْتَاعَ بيعا وَهُوَ قَاعد قَامَ ليجب لَهُ، وَقد ذكرنَا عَن مُسلم نَحوه.
وشُرَيْحٌ والشَّعْبِيُّ وطَاوُوسٌ وعَطَاءٌ وابنُ أبي مُلَيْكَةَ
وَشُرَيْح بِالرَّفْع عطف على قَوْله: ابْن عمر، وَمَا بعده عطف عَلَيْهِ، وَشُرَيْح بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن الْحَارِث الْكِنْدِيّ أَبُو أُميَّة الْكُوفِي، أدْرك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يلقه، استقضاه عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على الْكُوفَة وَأقرهُ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَأقَام على الْقَضَاء سِتِّينَ سنة، مَاتَ سنة ثَمَان وَسبعين، وَقيل: سنة ثَمَانِينَ. وَكَانَ لَهُ عشرُون وَمِائَة سنة، وَتَعْلِيق شُرَيْح وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن مُحَمَّد بن عَليّ: سَمِعت أَبَا الضُّحَى يحدث أَنه شهد شريحا واختصم إِلَيْهِ رجلَانِ اشْترى أَحدهمَا من الآخر دَارا بأَرْبعَة آلَاف، فأوجبها لَهُ، ثمَّ بدا لَهُ فِي بيعهَا قبل أَن يُفَارق صَاحبه، فَقَالَ: لَا حَاجَة لي فِيهَا، فَقَالَ البَائِع: قد بِعْتُك فأوجبت لَك، فاختصما إِلَى شُرَيْح، فَقَالَ: هُوَ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا. قَالَ مُحَمَّد: وَشهِدت

(11/227)


الشّعبِيّ قضى بذلك. قَوْله: (وَالشعْبِيّ) ، هُوَ عَامر بن شرَاحِيل، وَوصل تَعْلِيقه ابْن أبي شيبَة، فَقَالَ: حَدثنَا جرير عَن مُغيرَة عَن الشّعبِيّ، فِي رجل اشْترى من رجل برذونا، فَأَرَادَ أَن يرد قبل أَن يَتَفَرَّقَا، فَقضى الشّعبِيّ أَنه قد وَجب عَلَيْهِ، فَشهد عِنْده أَبُو الضُّحَى أَن شريحا أَتَى مثل ذَلِك فَرده على البَائِع، فَرجع الشّعبِيّ إِلَى قَول شُرَيْح. قَوْله: (وطاووس) هُوَ ابْن كيسَان الْيَمَان، وَوصل الشَّافِعِي فِي (الْأُم) تَعْلِيقه، فَقَالَ: أخبرنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه، قَالَ: خير رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رجلا بعد البيع، وَقَالَ: وَكَانَ أبي يحلف مَا الْخِيَار إلاَّ بعد البيع. قَوْله: (وَعَطَاء) هُوَ ابْن أبي رَبَاح الْمَكِّيّ، وَابْن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم: هُوَ عبد الله بن أبي مليكَة، وَوصل تعليقهما ابْن أبي شيبَة: عَن جرير عَن عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن ابْن أبي مليكَة وَعَطَاء، قَالَا: البيعان بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا عَن رضى.

0112 - حدَّثني إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا حَبَّانُ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ قَتادَةُ أَخْبرنِي عنْ صالحَ أبي الخليلِ عنْ عَبْدِ الله بنِ الحارِثِ قَالَ سَمِعْتُ حَكِيمَ بنَ حِزَامٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْبَيِّعانِ بالخِيَارِ مَا لَمْ يتَفَرَّقا فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِك لَهُما فِي بَيْعِهِمَا وإنْ كَذَبا وكتَما مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب إِذا بَين البيعان وَلم يكتما، وَنصحا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة ... إِلَى آخِره، وَأخرجه أَيْضا عَن قريب فِي: بَاب كم يجوز الْخِيَار: عَن حَفْص بن عمر عَن همام عَن قَتَادَة ... إِلَى آخِره. وَأخرجه هُنَا: عَن إِسْحَاق. قَالَ الغساني: لم أحد إِسْحَاق هَذَا مَنْسُوبا عِنْد أحد من رَوَاهُ (الْجَامِع) وَلَعَلَّه إِسْحَاق بن مَنْصُور، فقد روى مُسلم فِي (صَحِيحه) عَنهُ عَن حبَان بن هِلَال، وحبان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن هِلَال، وَقد مضى الْبَحْث فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب إِذا بَين البيعان.

1112 - حدَّثنا حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ المُتَبايِعَانِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما بالخِيارِ عَلَى صاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلاَّ بَيْعَ الخِيارِ. .

هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَولا من طَرِيق يحيى عَن نَافِع، ثمَّ من طَرِيق أَيُّوب عَن نَافِع، ثمَّ من طَرِيق اللَّيْث عَن نَافِع، على مَا يَأْتِي. وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم من هَذِه الطّرق. وَأخرجه ابْن جريج أَيْضا عَن نَافِع وَمن طَرِيق عبيد الله عَن نَافِع أَيْضا. وروى أَيْضا من طَرِيق الضَّحَّاك بن عُثْمَان عَن نَافِع، وروى إِسْمَاعِيل أَيْضا عَن نَافِع، وَإِسْمَاعِيل هَذَا: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الطرقي: وَأَظنهُ ابْن إِبْرَاهِيم بن عقبَة، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: هُوَ إِسْمَاعِيل بن أُميَّة بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ: وَأخرج من طَرِيقه النَّسَائِيّ، قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن حَرْب، حَدثنَا محيريز بن الوضاح عَن إِسْمَاعِيل عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُتَبَايعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا إلاَّ أَن يكون بيع دون خِيَار، فَإِذا كَانَ البيع عَن خِيَار فقد وَجب البيع.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (إلاَّ بيع الْخِيَار) فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَصَحهَا: أَنه اسْتَثْنَاهُ من أصل الحكم أَي: هما بِالْخِيَارِ إلاَّ بيعا جرى فِيهِ التخاير، وَهُوَ اخْتِيَار إِمْضَاء العقد، فَإِن العقد يلْزم بِهِ وَإِن لم يَتَفَرَّقَا بعد. وَالثَّانِي: أَن الِاسْتِثْنَاء من مَفْهُوم الْغَايَة أَي أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا إلاَّ بيعا شَرط فِيهِ خِيَار يَوْم مثلا، فَإِن الْخِيَار باقٍ بعد التَّفَرُّق إِلَى مُضِيّ الأمد الْمَشْرُوط. وَالثَّالِث: أَن مَعْنَاهُ إلاَّ البيع الَّذِي شَرط فِيهِ أَن لَا خِيَار لَهما فِي الْمجْلس، فَيلْزم البيع بِنَفس العقد، وَلَا يكون فِيهِ خِيَار أصلا. قلت: قد ذكرنَا هَذَا فِيمَا مضى عَن قريب بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة.

54 - (بابٌ إذَا خَيَّرَ أحَدُهُمَا صاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقدْ وجَبَ الْبَيْعُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا خير أحد المتابعين صَاحبه بعد البيع قبل التَّفَرُّق فقد وَجب البيع، أَي: لزم.

2112 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(11/228)


أَنه قَالَ إذَا تَبايَعَ الرَّجُلانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بالخِيار مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعا أوْ يُخَيِّرَ أحَدُهُمَا الآخَرَ فَتَبايَعَا علَى ذالِكَ فَقَد وجَبَ البَيْعُ وإنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أنْ يَتَبَايَعا ولَمْ يَتْرُكْ واحِدٌ مِنْهُمَا البَيْعَ فَقدْ وجَبَ الْبَيْعُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَن يُخَيّر أَحدهمَا الآخر فتبايعا على ذَلِك فقد وَجب البيع) .
وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْبيُوع عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن نَافِع ... إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ سندا ومتنا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الشُّرُوط. أخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات جَمِيعًا بِإِسْنَادِهِ الَّذِي قبله.
قَوْله: (إِذا تبَايع) ، تفَاعل وَبَاب التفاعل يَأْتِي بِمَعْنى المفاعلة (وَكَانَا جَمِيعًا) تَأْكِيد لما قبله. قَوْله: (أَو يخبر أَحدهمَا الآخر) قَالَ بَعضهم: يحبر بِإِسْكَان الرَّاء عطفا على قَوْله: (مَا لم يَتَفَرَّقَا) ، وَيحْتَمل نصب الرَّاء على أَن. أَو، بِمَعْنى: إلاَّ أَن. انْتهى. قلت: قد ذكرت عَن قريب أَن هَذَا الْقَائِل ظن أَن: أَو، حرف الْعَطف، وَلَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ بِمَعْنى إلاَّ. وتضمر: أَن، بعْدهَا، وَالْمعْنَى: إلاَّ أَن يُخَيّر أَحدهمَا الآخر. قَالَ النَّوَوِيّ: معنى أَو يُخَيّر أَحدهمَا الآخر، يَقُول لَهُ: إختر أَي: إِمْضَاء البيع، فَإِذا اخْتَار وَجب البيع، أَي: لزم وانبرم، فَإِن خير أَحدهمَا الآخر فَسكت لم يَنْقَطِع خِيَار السَّاكِت، وَفِي انْقِطَاع خِيَار الْقَائِل وَجْهَان لِأَصْحَابِنَا: أصَحهمَا الِانْقِطَاع، لظَاهِر لفظ الحَدِيث. وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا أوضح شَيْء فِي ثُبُوت خِيَار الْمجْلس، وَهُوَ مُبْطل لكل تَأْوِيل مُخَالف لظَاهِر الْأَحَادِيث، وَكَذَلِكَ قَوْله فِي آخِره: (وَإِن تفَرقا بعد أَن تبَايعا) فِيهِ الْبَيَان الْوَاضِح أَن التَّفَرُّق بِالْبدنِ هُوَ الْقَاطِع للخيار، وَلَو كَانَ مَعْنَاهُ التَّفَرُّق بالْقَوْل لخلا الحَدِيث عَن فَائِدَة. انْتهى. قلت: قَوْله: أوضح شَيْء فِي ثُبُوت خِيَار الْمجْلس فِيمَا إِذا أوجب أحد الْمُتَبَايعين، وَالْآخر مُخَيّر، إِن شَاءَ قبله وَإِن شَاءَ رده، وَأما إِذا حصل الْإِيجَاب وَالْقَبُول فِي الطَّرفَيْنِ فقد تمّ العقد، فَلَا خِيَار بعد ذَلِك إلاَّ بِشَرْط شَرط فِيهِ أَو خِيَار الْعَيْب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ حَدِيث سَمُرَة أخرجه النَّسَائِيّ وَلَفظه: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا وَيَأْخُذ كل وَاحِد مِنْهُمَا من البيع مَا هوى، ويتخيران ثَلَاث مَرَّات) . قَالَ الطَّحَاوِيّ: قَوْله فِي هَذَا الحَدِيث: (وَيَأْخُذ كل مِنْهُمَا مَا هوى) ، يدل على أَن الْخِيَار الَّذِي للمتبايعين إِنَّمَا هُوَ قبل انْعِقَاد البيع بَينهمَا، فَيكون العقد بَينه وَبَين صَاحبه فِيمَا يرضاه مِنْهُ لَا فِيمَا سواهُ مِمَّا لَا يرضاه، إِذْ لَا خلاف بَين الْقَائِلين فِي هَذَا الْبَاب بِأَن الِافْتِرَاق الْمَذْكُور فِي الحَدِيث هُوَ بعد البيع بالأبدان. أَنه لَيْسَ للْمُبْتَاع أَن يَأْخُذ مَا رَضِي بِهِ من الْمَبِيع وَيتْرك بَقِيَّته، وَإِنَّمَا لَهُ عِنْده أَن يَأْخُذهُ كُله أَو يَدعه كُله. انْتهى. قلت: فَدلَّ هَذَا أَن التَّفَرُّق بالْقَوْل لَا بالأبدان، وَقَول الْخطابِيّ: وَهُوَ مُبْطل لكل تَأْوِيل. . إِلَى آخِره، غير مُسلم، لِأَن التَّأْويلَيْنِ إِذا تقابلا وقف الحَدِيث، وَيعْمل بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَن تقاس الْعُقُود من البيع وَنَحْوهَا الَّتِي تكون بالمنافع كالإجارات، على مَا كَانَ يملك من الإبضاع، كالأنكحة، فَكَمَا لَا تشْتَرط فِيهَا الْفرْقَة بالأبدان بعد العقد، فَكَذَلِك لَا تشْتَرط فِي عُقُود البيع، وَالْجَامِع كَون كل مِنْهُمَا عقدا يتم بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُول. وَقَالَ مَالك: لَيْسَ لفرقتهما حد مَعْرُوف وَلَا وَقت مَعْلُوم، وَهَذِه جَهَالَة وقف البيع عَلَيْهَا، كَبيع الْمُلَامسَة والمنابذة، وكبيع بِخِيَار إِلَى أجل مَجْهُول، وَمَا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ فَاسد قطعا.

64 - (بابٌ إذَا كانَ الْبَائِعُ بالخِيَارِ هَلْ يَجُوزُ الْبَيْعُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا كَانَ البَائِع بِالْخِيَارِ هَل يجوز البيع أَي: هَل يكون العقد جَائِزا حِينَئِذٍ أم لَازِما؟ وَلم يذكر الْجَواب اكْتِفَاء بِمَا فِي الحَدِيث، وَهُوَ قَوْله: (لَا بيع بَينهمَا) أَي: بَين الْمُتَبَايعين مَا داما فِي الْمجْلس، سَوَاء كَانَ البَائِع بِالْخِيَارِ أَو المُشْتَرِي إلاَّ بيع الْخِيَار إِذا شَرط فِيهِ. فَإِن قلت: كَيفَ خص البَائِع بِالْخِيَارِ إِذا كَانَ المُشْتَرِي كَذَلِك أَيْضا قلت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الرَّد على من حصر الْخِيَار فِي المُشْتَرِي دون البَائِع، فَإِن الحَدِيث سوى بَينهمَا فِي ذَلِك.

3112 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حَدثنَا سُفْيَانُ عنْ عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كُلُّ بَيِّعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يتفَرَّقَا إلاَّ بَيْعَ الخِيَارِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا بيع بَينهمَا) ، أَي: لَا بيع لَازِما حَتَّى يَتَفَرَّقَا إلاَّ بيع الْخِيَار يَعْنِي: فَيلْزم باشتراطه كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَاعْترض ابْن التِّين:

(11/229)


على هَذَا التَّبْوِيب، فَقَالَ: لَو يَأْتِ فِيهِ هُنَا بِمَا يدل على خِيَار البَائِع وَحده. قلت: قَوْله: (كل بيعين لَا بيع بَينهمَا) أَعم من أَن يكون الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ غير لَازم إلاَّ إِذا شَرط الْخِيَار، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، نَص عَلَيْهِ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) . والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع وَفِي الشُّرُوط عَن عبد الحميد بن مُحَمَّد الْحَرَّانِي، وَقد مر وَجه الِاسْتِثْنَاء عَن قريب.

4112 - حدَّثني إسْحَاقُ قَالَ حدَّثنا حَبَّانُ قَالَ حَدثنَا هَمَّامٌ قَالَ حَدثنَا قَتادة عنْ أبِي الخَلِيلِ عنْ عَبْدِ الله بن الحارِثِ عنْ حَكِيمُ بنِ حِزَامٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْبَيِّعانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. .

هَذَا الحَدِيث قد مر غير مرّة فِي كتاب الْبيُوع وَإِسْحَاق هُوَ ابْن مَنْصُور، وحبان، بِالْفَتْح: هُوَ ابْن هِلَال، وَأَبُو الْخَلِيل هُوَ صَالح بن أبي مَرْيَم. قَوْله: (حَدثنِي) ، وَفِي بعض النّسخ بِصِيغَة الْجمع، وَهُوَ الْأَكْثَر. قَوْله: (مَا لم يَتَفَرَّقَا) هُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (حَتَّى يَتَفَرَّقَا) .
قَالَ هَمَّامٌ وجَدْتُ فِي كِتَابِي يَخْتَارُ ثَلاثَ مِرَارٍ فإنْ صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِك لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وإنْ كَذَبا وكَتَما فعَسَى أنْ يَرْبَحَا رِبْحا ويُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا

همام هُوَ ابْن يحيى. قَوْله: (وجدت فِي كتابي) ، يَعْنِي الْمَحْفُوظ هُوَ الَّذِي رويته، لَكِن الْمَوْجُود فِي كتابي (بِخِيَار) مُنْكرا بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَهُوَ مَكْتُوب ثَلَاث مَرَّات، وَفِي بَعْضهَا بإضافته إِلَى (ثَلَاث مرار) وَفِي بَعْضهَا (يخْتَار) بِلَفْظ الْفِعْل، وَحِينَئِذٍ يحْتَمل أَن يكون: ثَلَاث مرار، ومتعلقا بقوله: يخْتَار، وَقَالَ ابْن التِّين: وَقَول همام ... إِلَى آخِره، غير مَحْفُوظ، والرواة على خِلَافه. وَإِذا خَالف الْوَاحِد الروَاة جَمِيعًا لم يقبل قَوْله، سِيمَا أَنه وجده فِي كِتَابه، وَرُبمَا أَدخل على الرجل فِي كتبه إِذا لم يكن شَدِيد الضَّبْط. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: إِن هماما تفرد بذلك عَن أَصْحَاب قَتَادَة، وَوَقع فِي رِوَايَة أَحْمد عَن عُثْمَان عَن همام، قَالَ: وجدت فِي كتابي: الْخِيَار ثَلَاث مرار، وَلم يُصَرح همام عَمَّن حَدثهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَة. قلت: فَرجع الْأَمر إِلَى مَا قَالَه ابْن التِّين. قَوْله: (فَإِن صدقا) إِلَى آخِره، من تَتِمَّة حَدِيث حَكِيم بن حزَام، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: (صدقا) إِلَى آخِره، هَل هُوَ دَاخل تَحت الْمَوْجُود فِي كِتَابه أَو هُوَ مَرْوِيّ من الْحِفْظ مُتَعَلق بِمَا قبله؟ قلت: يحتملهما، وَالظَّاهِر هُوَ الثَّانِي. قلت: لَا شكّ أَنه من جملَة حَدِيث حَكِيم، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَقَوله: (قَالَ همام) ، إِلَى قَوْله (مرَارًا) معترض فِي أثْنَاء حَدِيث حَكِيم، وَقد مر حَدِيثه فِي: بَاب إِذا بَين البيعان، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.
قَالَ وحدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ حدَّثنا أبُو التَّيَّاحِ أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الله بنَ الحَارِثِ يُحَدِّثُ بِهَذَا الحَدِيثِ عنْ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ حبَان بن هِلَال الْمَذْكُور: وَحدثنَا همام بن يحيى الْمَذْكُور حَدثنَا أَبُو التياح يزِيد بن حميد ... إِلَى آخِره. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لم قَالَ هَهُنَا: حَدثنَا، وَقَالَ فِيمَا قبله: قَالَ همام؟ قلت: الثَّانِي: فِيمَا سمع مِنْهُ فِي مقَام النَّقْل والتحمل، وَالْأول فِي مقَام المذاكرة والمحاورة. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي جزمه بذلك نظر، وَالَّذِي يظْهر أَنه من حَدِيث سَاقه بِالْإِسْنَادِ عبر بقوله: حَدثنَا، وَحَيْثُ ذكر كَلَام همام عبر عَنهُ بقوله: قَالَ: انْتهى. قلت: الْكرْمَانِي لم يجْزم بِمَا قَالَه، والجزم بالشَّيْء الْقطع بِهِ، وَقَوله: وَالَّذِي يظْهر ... إِلَى آخِره، هُوَ حَاصِل كَلَام الْكرْمَانِي على مَا لَا يخفى. وَالله أعلم.

74 - (بابٌ إذَا اشْتَرَى شَيئا فَوَهَبَ مِنْ ساعَتِهِ قِبْلَ أنْ يَتَفَرَّقَا ولَمْ يُنْكِر البَائِعُ عَلى المُشْتَرِي أوِاشْتَري عَبْدا فأعْتَقَهُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اشْترى ... إِلَى آخِره أَي: إِذا اشْترى شخص شَيْئا فوهبه من سَاعَته، يَعْنِي: على الْفَوْر، قبل أَن يَتَفَرَّقَا، وَالْحَال أَن البَائِع لم يُنكر على المُشْتَرِي. قَوْله: (أَو اشْترى عبدا فَأعْتقهُ) قبل أَن يَتَفَرَّقَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا مِمَّا ثَبت

(11/230)


بِالْقِيَاسِ على الْهِبَة الثَّابِتَة بِالْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا لم يذكر جَوَاب إِذا لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ. فَإِن الْمَالِكِيَّة وَالْحَنَفِيَّة جعلُوا الْقَبْض فِي جَمِيع الْأَشْيَاء بِالتَّخْلِيَةِ، وَعند الشَّافِعِيَّة والحنابلة: تَكْفِي التَّخْلِيَة، فِي الدّور وَالْعَقار دون المنقولات.
وَقَالَ طاوُوسٌ فِيمَنْ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ عَلَى الرِّضا ثُمَّ باعَهَا وَجَبَتْ لَهُ والرِّبْحُ لَهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، تظهر بِالتَّأَمُّلِ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق سعيد بن مَنْصُور وَعبد الرَّزَّاق من طَرِيق ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه نَحوه، وَزَاد عبد الرَّزَّاق: وَعَن معمر عَن أَيُّوب بن سِيرِين: إِذا بِعْت شَيْئا على الرضى، قَالَ: الْخِيَار لَهما حَتَّى يَتَفَرَّقَا، عَن رضى، قَوْله: (على الرضى) ، أَي: على شَرط أَنه لَو رَضِي بِهِ أجَاز العقد. قَوْله: (وَجَبت) أَي: الْمُبَايعَة أَو السّلْعَة، قَالَه الْكرْمَانِي قلت: رُجُوع الضَّمِير الَّذِي فِي: وَجَبت، إِلَى السّلْعَة ظَاهر، وَأما رُجُوعه إِلَى الْمُبَايعَة فبالقرينة الدَّالَّة عَلَيْهِ.

6112 - قَالَ أبُو عَبْدِ الله وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خَالِدٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سالِمِ بنِ عَبْدِ الله عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ بِعْتُ مِنْ أمِيرِ الْمُؤْمِنِينِ عُثْمَانَ مَالا بِالْوَادِي بمالٍ لَهُ بِخَيْبَرَ

(11/231)


فلَمَّا تَبايَعْنَا رَجَعْتُ عَلَى عَقِبَي حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْتِهِ خَشْيَةَ أنْ يُرَاددَّنِي الْبَيْعَ وكانَتِ السُّنَّةُ أنَّ المُتَبَايِعيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقا قَالَ عَبْدُ الله فلَمَّا وجَبَ بَيْعِي وبيْعُهُ رأيْتُ أنِّي قدْ غَبَنْتُهِ بِأنِّي سُقْتُهُ إلَى أرْضِ ثَمُودٍ بِثَلاَثِ لَيالٍ وساقَنِي إلَى المَدِينَةِ بِثَلاثِ لَيالٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن للبايعين التَّصَرُّف على حسب إرادتهما قبل التَّفَرُّق إجَازَة وفسخا.
قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (وَقَالَ اللَّيْث) أَي: ابْن سعد الْمصْرِيّ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن مُسَافر الفهمي الْمصْرِيّ وإليها عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي عمرَان: حَدثنَا الرَّمَادِي، قَالَ: وَأَخْبرنِي يَعْقُوب بن سُفْيَان قَالَ: وأنبأنا الْقَاسِم حَدثنَا ابْن زَنْجوَيْه، قَالُوا: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا اللَّيْث حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بِهَذَا. وَقَالَ أَبُو نعيم: ذكره البُخَارِيّ فَقَالَ: وَقَالَ اللَّيْث، وَلم يذكر من دونه. وَقد دلّ على أَن الحَدِيث لأبي صَالح، وَأَبُو صَالح لَيْسَ من شَرطه. قَوْله: (مَالا) أَي: أَرضًا أَو عقارا. قَوْله: (بالوادي) ، قَالَ الْكرْمَانِي: اللَّام للْعهد، وَهُوَ عبارَة عَن وَاد مَعْهُود عِنْدهم: وَقيل: هُوَ وَادي الْقرى قلت: وَادي الْقرى من أَعمال الْمَدِينَة. قَوْله: (بِخَيْبَر) ، وَهُوَ بَلْدَة عنزة فِي جِهَة الشمَال والشروق عَن الْمَدِينَة على نَحْو سِتّ مراحل، وخيبر بلغَة الْيَهُود حصن. قَوْله: (فَلَمَّا تبايعنا رجعت على عَقبي) وَفِي رِوَايَة أَيُّوب بن سُوَيْد: (طفقت أنكص على عَقبي الْقَهْقَرَى) ، وعقبي، بِلَفْظ الْمُفْرد والمثنى. قَوْله: (خشيَة أَن يرادني) خشيَة مَنْصُوب على أَنه مفعول لَهُ، وَمعنى: أَن يرادني: أَن يطْلب اسْتِرْدَاده مني، وَهُوَ بتَشْديد الدَّال، وَأَصله: يرادني. قَوْله: (وَكَانَت السّنة أَن الْمُتَبَايعين بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا) ، أَرَادَ أَن هَذَا هُوَ السَّبَب فِي خُرُوجه من بَيت عُثْمَان، وَأَنه فعل ذَلِك ليجب البيع وَلَا يبْقى خِيَار فِي فَسخه قلت: قَوْله: وَكَانَت السّنة، تدل على أَنه كَانَ هَكَذَا فِي أول الْأَمر، وَعَن هَذَا قَالَ ابْن بطال: وَكَانَت السّنة تدل على أَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْأَمر، فَأَما فِي الزَّمن الَّذِي فعل ابْن عمر ذَلِك، فَكَانَ التَّفَرُّق بالأبدان متروكا، فَلذَلِك فعله ابْن عمر، لِأَنَّهُ كَانَ شَدِيد الإتباع، وَاعْترض بَعضهم على هَذَا بقوله، وَقد وَقع فِي رِوَايَة أَيُّوب بن سُوَيْد: كُنَّا إِذا تبايعنا كَانَ كل وَاحِد منا بِالْخِيَارِ مَا لم يتفرق الْمُتَبَايعَانِ، فتبايعت أَنا وَعُثْمَان، فساق الْقِصَّة، قَالَ: وفيهَا إِشْعَار باستمرار ذَلِك. انْتهى. قلت: القَوْل فِيهِ مثل مَا قَالَ ابْن بطال فِي حَدِيث الْبَاب، وَقَوله: وفيهَا إِشْعَار باستمرار ذَلِك، غير مسلَّم، لِأَن هَذِه دَعْوَى بِلَا برهَان. على أَنا نقُول: ذكر ابْن رشد فِي (الْمُقدمَات) لَهُ: أَن عُثْمَان قَالَ لِابْنِ عمر: لَيست السّنة بافتراق الْأَبدَان، قد انتسخ ذَلِك، وَقد اعْترض عَلَيْهِ بَعضهم بقوله: هَذِه الزِّيَادَة لم أر لَهَا إِسْنَادًا. قلت: لَا يلْزم من عدم رُؤْيَته إِسْنَاده عدم رُؤْيَة قَائِله أَو غَيره، فَهَذَا لَا يشفي العليل وَلَا يرْوى الغليل. قَوْله: (قَالَ عبد الله) ، يَعْنِي ابْن عمر. قَوْله: (إِلَى أَرض ثَمُود) ، وهم قَبيلَة من الْعَرَب الأولى، وهم قوم صَالح، عَلَيْهِ السَّلَام، يصرف وَلَا يصرف، وأرضهم قريبَة من تَبُوك، وَحَاصِل الْمَعْنى أَنه يبيِّن وَجه غبنه عُثْمَان بقوله: سقته، يَعْنِي: زِدْت الْمسَافَة الَّتِي كَانَت بَينه وَبَين أرضه الَّتِي صَارَت إِلَيْهِ على الْمسَافَة الَّتِي كَانَت بَينه وَبَين أرضه الَّتِي بَاعهَا بِثَلَاث لَيَال، وَأَنه نقص الْمسَافَة الَّتِي بيني وَبَين أرضي الَّتِي أَخَذتهَا عَن الْمسَافَة الَّتِي كَانَت بيني وَبَين الأَرْض الَّتِي بعتها بِثَلَاث لَيَال، وَإِنَّمَا قَالَ: إِلَى الْمَدِينَة، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا كَانَا بهَا، فَرَأى ابْن عمر الْغِبْطَة فِي الْقرب من الْمَدِينَة، فَلذَلِك قَالَ: رَأَيْت قد غبنته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ احْتج بِهِ من قَالَ: إِن الِافْتِرَاق بالْكلَام. وَقَالُوا: لَو كَانَ معنى الحَدِيث التَّفَرُّق بالأبدان لَكَانَ المُرَاد مِنْهُ الحض وَالنَّدْب إِلَى حسن الْمُعَامَلَة من الْمُسلم للْمُسلمِ، ألاَ ترى إِلَى قَول ابْن عمر: وَكَانَت السّنة أَن الْمُتَبَايعين بِالْخِيَارِ؟ قَالَ ذَلِك لما ذكرنَا. وَقَالَ ابْن التِّين: وَذكر عبد الْملك أَن فِي بعض الرِّوَايَات: وَكَانَت السّنة يَوْمئِذٍ. قَالَ: وَلَو كَانَ على الْإِلْزَام لقَالَ: كَانَت السّنة، وَتَكون إِلَى يَوْم الدّين. قَالَ ابْن بطال: حكى ابْن عمر أَن النَّاس كَانُوا يلتزمون حِينَئِذٍ النّدب لِأَنَّهُ كَانَ زمن مكارمة، وَأَن الْوَقْت الَّذِي حكى فِيهِ التَّفَرُّق بالأبدان كَانَ التَّفَرُّق بالأبدان متروكا، وَلَو كَانَ على الْوُجُوب مَا قَالَ: وَكَانَت السّنة، فَلذَلِك جَازَ أَن يرجع على عقبه، لِأَنَّهُ فهم أَن المُرَاد بذلك الحض وَالنَّدْب، لَا سِيمَا هُوَ الَّذِي حضر فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هِبته الْبكر لَهُ بِحَضْرَة البَائِع قبل التَّفَرُّق. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: روينَا عَن ابْن عمر مَا يدل على أَن رَأْيه كَانَ فِي الْفرْقَة بِخِلَاف مَا ذهب إِلَيْهِ من قَالَ: إِن البيع لَا يتم إلاَّ بهَا، وَهُوَ مَا حَدثنَا سُلَيْمَان بن شُعَيْب حَدثنَا بشر بن بكر حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ حَدثنِي الزُّهْرِيّ عَن

(11/232)


حَمْزَة بن عبد الله، أَن عبد الله بن عمر قَالَ: مَا أدْركْت الصَّفْقَة حَيا فَهُوَ من مَال الْمُبْتَاع. قَالَ ابْن حزم: صَحَّ هَذَا عَن ابْن عمر، وَلَا يعلم لَهُ مُخَالف من الصَّحَابَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: يَعْنِي فِي السّلْعَة تتْلف عِنْد البَائِع قبل أَن يقبضهَا المُشْتَرِي بعد تَمام البيع. قَالَ ابْن الْمُنْذر: هِيَ من مَال المُشْتَرِي، لِأَنَّهُ لَو كَانَ عبدا فَأعْتقهُ المُشْتَرِي كَانَ عتقه جَائِزا، وَلَو أعْتقهُ البَائِع لم يجز عتقه. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا ابْن عمر يذهب فِيمَا أدْركْت الصَّفْقَة حَيا فَهَلَك بعْدهَا أَنه من مَال المُشْتَرِي، فَدلَّ ذَلِك أَنه كَانَ يرى أَن البيع يتم بالأقوال قبل الْفرْقَة الَّتِي تكون بعد ذَلِك، وَأَن الْمَبِيع ينْتَقل من ملك البَائِع إِلَى ملك الْمُبْتَاع حَتَّى يهْلك من مَاله إِن هلك. وَفِيه: جَوَاز بيع الأَرْض بِالْأَرْضِ. وَفِيه: جَوَاز بيع الْعين الغائبة على الصّفة، وَفِيه خلاف سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِيه: أَن الْغبن لَا يرد بِهِ البيع.

84 - (بابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الخِدَاعِ فِي البَيْعِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهَة الخداع فِي البيع، وَلَكِن الخداع لَا ينْسَخ بِهِ البيع، وَفِيه خلاف نذكرهُ عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

7112 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله ابنِ دِينارٍ عنْ عَبْدِ الله ابنِ عُمَر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رجُلاً ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لاَ خِلابةَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الخداع لَو لم يكن مَكْرُوها لما قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لذَلِك المخدوع: إِذا بَايَعت فَقل: لَا خلابة، أَي: لَا خديعة، على مَا يَجِيء تَفْسِيرهَا كَمَا يَنْبَغِي عَن قريب.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي تِلْكَ الْحِيَل عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن رجلا) ، وَهُوَ حبَان بن منقذ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، ومنقذ اسْم فَاعل من الإنقاذ وَهُوَ التخليص: الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ الْأنْصَارِيّ الْمَازِني، شهد أحدا وَمَا بعْدهَا، وَمَات فِي زمن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد شج فِي بعض مغازيه مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِحجر بِبَعْض الْحُصُون، فأصابته فِي رَأسه مأمومة فَتغير بهَا لِسَانه وعقله، لكنه لم يخرج عَن التَّمْيِيز، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن رجلا من الْأَنْصَار كَانَت بِلِسَانِهِ لوثة، وَكَانَ لَا يزَال يغبن فِي الْبيُوع، فَذكر ذَلِك للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِذا بِعْت فَقل: لَا خلابة، مرَّتَيْنِ. وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق: وحَدثني مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان، قَالَ: هُوَ جدي منقذ بن عَمْرو، وَكَانَ رجلا قد أَصَابَته آمة فِي رَأسه فَكسرت لِسَانه ونازعته عقله، وَكَانَ لَا يدع التِّجَارَة، وَكَانَ لَا يزَال يغبن، وَفِيه: وَكَانَ عمر عمرا طَويلا عَاشَ ثَلَاثِينَ وَمِائَة سنة. وَفِي لفظ عَن ابْن عمر: كَانَ حبَان بن منقذ رجلا ضَعِيفا. وَكَانَ قد سقع فِي رَأسه مأمومة فَجعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهُ الْخِيَار فِيمَا يَشْتَرِي ثَلَاثًا، وَكَانَ قد ثقل لِسَانه، فَكنت أسمعهُ يَقُول: لَا حذابة لَا حذابة، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَكَانَ ضَرِير الْبَصَر. وَفِي الطَّبَرَانِيّ: لما عمي قَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذَلِك. وَقَالَ ابْن قرقول: إِن هَذَا الرجل كَانَ ألثغ وَلَا يُعْطِيهِ لِسَانه إِخْرَاج الْكَلَام، وَكَانَ ينْطق يَا بِاثْنَتَيْنِ من تَحت، أَو ذالاً مُعْجمَة. قَوْله: (ذكر للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق: (فَشكى إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا يلقى من الْغبن) . قَوْله: (لَا خلابة) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف اللَّام، أَي: لَا خديعة. يُقَال: خلبة يخلبه خلبا وخلابة وخالبة، وَرجل خالب وخلاب وخلبوت وخلبوب: خداع، الْأَخِيرَة عَن كرَاع، يَعْنِي: خلبوب، بالبائين الموحدتين. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: خداع كَذَّاب، وَامْرَأَة خلبوت على مِثَال جبروت، وخلوب وخالبة وخلابة. وَفِي (الْمُنْتَهى) : الخلب الْقطع والخديعة بِاللِّسَانِ، خلبه يخلبه من بَاب نَصره ينصره، وخلبه يخلبه من بَاب ضربه يضْربهُ، واختلبه اختلابا، والخلوب الخادع، والخلابة الخداعة من النِّسَاء، وَعَن أبي جَعْفَر عَن بعض شُيُوخه: لَا خِيَانَة، بالنُّون وَهُوَ تَصْحِيف.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَهُوَ على وُجُوه: الأول: مَذْهَب الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة: على أَن الْعين غير لَازم فَلَا خِيَار للمغبون سَوَاء قل الْغبن أَو كثر، وَهُوَ الْأَصَح من روايتي مَالك. وَقَالَ البغداديون من أَصْحَابه: للمغبون الْخِيَار بِشَرْط أَن يبلغ الْغبن ثلث

(11/233)


الْقيمَة وَإِن كَانَ دونه فَلَا، هَكَذَا حَده أَبُو بكر وَابْن أبي مُوسَى من الْحَنَابِلَة، وَقيل: السُّدس، وَعَن دَاوُد: العقد بَاطِل، وَعَن مَالك: إِن كَانَا عارفين بِتِلْكَ السّلْعَة وسعرها وَقت البيع لم يفْسخ البيع، كثيرا كَانَ الْغبن أَو قَلِيلا، فَإِن كَانَ أَحدهمَا غير عَارِف بذلك فسخ البيع ألاَّ أَن يُرِيد أَن يمضيه، وَلم يحد مَالك حدا، وَأثبت هَؤُلَاءِ خِيَار الْغبن بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور.
وَأجَاب الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وَجُمْهُور الْعلمَاء عَن الحَدِيث بِأَنَّهَا وَاقعَة عين وحكاية حَال، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ يَنْبَغِي أَن يُقَال: إِنَّه كُله مَخْصُوص بِصَاحِبِهِ، لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره فَإِن كَانَ يخدع فِي الْبيُوع فَيحْتَمل أَن الخديعة كَانَت فِي الْعَيْب أَو فِي الْعين أَو فِي الْكَذِب أَو فِي الْغبن فِي الثّمن، وَلَيْسَت قَضِيَّة عَامَّة، فَتحمل على الْعُمُوم، وَإِنَّمَا هِيَ خَاصَّة فِي عين وحكاية حَال، فَلَا يَصح دَعْوَى الْعُمُوم فِيهَا عِنْد أحد. ثمَّ أورد ابْن الْعَرَبِيّ على نَفسه قَول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق ابْن أبي لَهِيعَة: حَدثنَا حبَان بن وَاسع عَن طَلْحَة بن يزِيد بن ركَانَة أَنه كلم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِي الْبيُوع، فَقَالَ: مَا أجد لكم شَيْئا أوسع مِمَّا جعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحبان ابْن منقذ ... فَذكر الحَدِيث، فَلم يَجْعَل عمر خَاصّا بِهِ. ثمَّ أجَاب عَنهُ بِضعْف الحَدِيث من أجل ابْن لَهِيعَة. انْتهى. وَقَالَ الْجُمْهُور أَيْضا: لَو كَانَ الْغبن مثبتا للخيار لما احْتَاجَ إِلَى اشْتِرَاط الْخِيَار، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي بعض طرق الحَدِيث أَنه اشْترط الْخِيَار ثَلَاثًا، وَلَا احْتَاجَ أَيْضا إِلَى قَوْله: لَا خلابة.
الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، على حجر السَّفِيه الَّذِي لَا يحسن التَّصَرُّف، وَوجه ذَلِك أَنه لما طلب أَهله إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الْحجر عَلَيْهِ، دَعَاهُ فَنَهَاهُ عَن البيع، وَهَذَا هوالحجر، وَهُوَ: الْمَنْع: قُلْنَا: هَذَا نهي خَاص بِهِ لضعف عقله، وَلَا يسري هَذَا فِي الْحجر على الْحر الْعَاقِل الْبَالِغ، لِأَن فِي حَقه إهدار الْآدَمِيَّة. وَقد روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس أَن رجلا كَانَ فِي عقدته ضعف، وَكَانَ يُبَايع، وَأَن أَهله أَتَوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: يَا رَسُول الله! أحجر عَلَيْهِ. فَدَعَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنَهَاهُ، قَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي لَا أَصْبِر عَن البيع، فَقَالَ: إِذا بَايَعت فَقل: هَا وَلَا خلابة. وَرَوَاهُ بَقِيَّة أَصْحَاب السّنَن، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا الرجل الْمُبْهم هُوَ حبَان بن منقذ. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هُوَ منقذ بن عَمْرو، وَالْأول أرجح. قَوْله: (فِي عقدته ضعف) أَرَادَت ضعف الْعقل وعقدة الرجل مَا عقد عَلَيْهِ ضَمِيره وَنِيَّته، أَي: عزم عَلَيْهِ ونواه.
الثَّالِث: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو حنيفَة إِلَى أَن ضَعِيف الْعقل لَا يحْجر عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لما قَالَ لَهُ: إِنَّه لَا يصبر على البيع أذن لَهُ فِيهِ بِالصّفةِ الَّتِي ذكرهَا، فَهَذَا دَال على عدم الْحجر.
الرَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ ابْن حزم على أَنه يتَعَيَّن فِي اللَّفْظ الْمُوجب للخيار ذكر الخلابة دون غَيره من الْأَلْفَاظ، فَلَو كَانَ: لَا خديعة أَو: غش أَو: لَا كيد أَو: لَا مكر أَو: لَا عيب أَو: لَا ضَرَر أَو: لَا دَاء، أَو: لَا غائلة أَو: لَا خبث أَو: على السَّلامَة أَو نَحْو هَذَا، لم يكن لَهُ الْخِيَار المجعول لمن قَالَ: لَا خلابة، إلاَّ أَن يكون فِي لِسَانه خلل يعجز عَن اللَّفْظ بهَا، فَيَكْفِي أَن يَأْتِي بِمَا يقدر عَلَيْهِ من هَذَا للفظ، كَمَا كَانَ يفعل هَذَا الرجل الْمَذْكُور من قَوْله: لَا خيابة، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، أَو: لَا خذابة بِالذَّالِ، على اخْتِلَاف الرِّوَايَتَيْنِ. وَكَذَلِكَ إِن لم يكن يحسن الْعَرَبيَّة فَقَالَ مَعْنَاهَا بِاللِّسَانِ الَّذِي يُحسنهُ، فَإِنَّهُ يثبت لَهُ الْخِيَار. وَقَالَ بَعضهم: وَمن أسهل مَا يرد بِهِ عَلَيْهِ أَنه ثَبت فِي (صَحِيح) مُسلم أَنه كَانَ يَقُول: لَا خيابة، بالتحتانية بدل اللَّام، وبالذال الْمُعْجَمَة بدل اللَّام أَيْضا، وَكَأَنَّهُ كَانَ لَا يفصح باللاَّم للثغة لِسَانه، وَمَعَ ذَلِك لم يتَغَيَّر الحكم فِي حَقه عِنْد أحد من الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا يشْهدُونَ لَهُ بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعله بِالْخِيَارِ، فَدلَّ على أَنهم اكتفوا فِي ذَلِك بِالْمَعْنَى. انْتهى. قلت: هَذَا عَجِيب، وَكَيف يكون هَذَا أسهل مَا يرد بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَائِل بِمَا ذكره هَذَا الْقَائِل عِنْد الْعَجز، وَكَلَامه عِنْد الْقُدْرَة.
الْخَامِس: قَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ على أَن أمد خِيَار الشَّرْط ثَلَاثَة أَيَّام من غير زِيَادَة، لِأَنَّهُ حكم ورد على خلاف الأَصْل، فَيقْتَصر بِهِ على أقْصَى مَا ورد فِيهِ، وَيُؤَيِّدهُ جعل الْخِيَار فِي الْمُصراة ثَلَاثَة أَيَّام. وَاعْتِبَار الثَّلَاث فِي غير مَوضِع. انْتهى.
قلت: هَذَا الْبَاب فِيهِ اخْتِلَاف الْفُقَهَاء. فَقَالَت: طَائِفَة: البيع بِشَرْط الْخِيَار جَائِز، وَالشّرط لَازم إِلَى الأمد الَّذِي اشْترط إِلَيْهِ الْخِيَار، وَهَذَا قَول ابْن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذر. وَقَالَ اللَّيْث: يجوز الْخِيَار إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام فَأَقل. وَقَالَ عبيد الله بن الْحسن: لَا يُعجبنِي شَرط الْخِيَار الطَّوِيل إلاَّ أَن الْخِيَار للْمُشْتَرِي مَا رَضِي البَائِع. وَقَالَ ابْن شبْرمَة وَالثَّوْري: لَا يجوز البيع إِذا شَرط فِيهِ الْخِيَار للْبَائِع أَو لَهما. وَقَالَ سُفْيَان: البيع فَاسد بذلك، فَإِن شَرط الْخِيَار للْمُشْتَرِي عشرَة أَيَّام أَو أَكثر جَازَ. وَقَالَ مَالك: يجوز شَرط الْخِيَار فِي بيع الثَّوْب الْيَوْم واليومين، وَالْجَارِيَة إِلَى خَمْسَة أَيَّام، وَالْجُمُعَة، وَالدَّابَّة تركب

(11/234)


الْيَوْم وَشبهه ويسار عَلَيْهَا الْبَرِيد وَنَحْوه، وَفِي الدَّار الشَّهْر ليختبر ويشاور فِيهَا. وَلَا فرق بَين شَرط الْخِيَار للْبَائِع وَالْمُشْتَرِي. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يجوز أَن يشْتَرط شهرا أَو أَكثر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَزفر: الْخِيَار فِي البيع ثَلَاثَة أَيَّام، وَلَا يجوز الزِّيَادَة عَلَيْهَا، فَإِن زَاد فسد البيع، وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن شبْرمَة. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : وَيجوز شَرط خِيَار ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْبيُوع الَّتِي لَا رَبًّا فِيهَا، فَأَما الْبيُوع الَّتِي فِيهَا رَبًّا، وَهِي: الصّرْف وَبيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ ... فَلَا يجوز فِيهَا شَرط الْخِيَار، فَإِنَّهُ لَا يجوز أَن يَتَفَرَّقَا قبل تَمام البيع. وروى ابْن مَاجَه بِسَنَد جيد حسن من حَدِيث يُونُس بن بكير عَن ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي نَافِع (عَن ابْن عمر، قَالَ: سَمِعت رجلا من الْأَنْصَار يشكو إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه يغبن فِي الْبيُوع، فَقَالَ: إِذا بَايَعت فَقل: لَا خلابة، ثمَّ أَنْت بِالْخِيَارِ فِي كل سلْعَة ابتعتها ثَلَاث لَيَال) . وَلما رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) بِسَنَد صَحِيح إِلَى ابْن إِسْحَاق جعله عَن منقذ بن عَمْرو. وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن مُحَمَّد بن يحيى بن حبَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمنقذ بن عَمْرو: (قل لَا خلابة إِذا بِعْت بيعا، فَأَنت بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا) . وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) من حَدِيث أبان ابْن أبي عَيَّاش: (عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رجلا اشْترى من رجل بَعِيرًا وَاشْترط عَلَيْهِ الْخِيَار أَرْبَعَة أَيَّام، فَأبْطل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، البيع، وَقَالَ: الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام) . وَذكره عبد الْحق فِي أَحْكَامه من جِهَة عبد الرَّزَّاق، وَأعله بِابْن أبي عَيَّاش. وَقَالَ: إِنَّه لَا يحْتَج بحَديثه مَعَ أَنه كَانَ رجلا صَالحا. وروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه عَن أَحْمد بن عبد الله بن ميسرَة. حَدثنَا أَبُو عَلْقَمَة حَدثنَا نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام) . وَأحمد بن عبد الله بن ميسرَة إِن كَانَ هُوَ الْحَرَّانِي فَهُوَ مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن حبَان: ثمَّ التَّقْدِير بِالثلَاثِ خرج مخرج الْغَالِب، لِأَن النّظر يحصل فِيهَا غَالِبا، وَهَذَا لَا يمْنَع من الزِّيَادَة عِنْد الْحَاجة، كَمَا قدرت حِجَارَة الِاسْتِنْجَاء بِالثلَاثِ، ثمَّ تجب الزِّيَادَة عِنْد الْحَاجة، وَالله أعلم.

94 - (بابُ مَا ذُكِرَ فِي الأسْوَاقِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ذكر فِي الْأَسْوَاق، وَهُوَ جمع: سوق، وَهِي مَوضِع الْبياعَات، وَهِي مُؤَنّثَة وَقد تذكر.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَوْفٍ لَمَّا قَدِمْنا المَدِينَةَ قُلْتُ هَلْ مِنْ سُوقٍ فيهِ تِجَارَةٌ قَالَ سوقُ قَيْنُقاعَ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (سوق بني قينقاع) ، وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث أنس، أخرجه مَوْصُولا، قَالَ: لما قدم عبد الرَّحْمَن ابْن عَوْف الْمَدِينَة ... الحَدِيث، وَقد ذكره فِي أول كتاب الْبيُوع، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ بِذكر الْأَسْوَاق إِبَاحَة المتاجر وَدخُول الْأَسْوَاق للأشراف والفضلاء. فَإِن قلت: روى أَحْمد وَالْبَزَّار وَالْحَاكِم، وَصَححهُ من حَدِيث جُبَير بن مطعم: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: أحب الْبِقَاع إِلَى الله تَعَالَى الْمَسَاجِد، وَأبْغض الْبِقَاع إِلَى الله تَعَالَى الْأَسْوَاق) . وَأخرجه ابْن حبَان وَالْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر، نَحوه. قلت: هَذَا لم يثبت على شَرطه من أَنَّهَا شَرّ الْبِقَاع، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى هَذَا، وَلَكِن لَا يعلم إلاَّ من الْخَارِج. وَقَالَ ابْن بطال: وَهَذَا أخرج على الْغَالِب، وَالْأَقْرَب سوق يذكر الله فِيهَا أَكثر من كثير من الْمَسَاجِد.
وَقَالَ أنسٌ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ دُلُّونِي عَلى السُّوقِ
هَذَا أَيْضا فِي نفس حَدِيث أنس الْمَذْكُور فِي أول كتاب الْبيُوع.
وَقَالَ عُمَرُ ألْهانِي الصَّفْقُ بِالأسْواقِ
هَذَا التَّعْلِيق أَيْضا وَصله البُخَارِيّ فِي أثْنَاء حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي: بَاب الْخُرُوج فِي التِّجَارَة فِي كتاب الْبيُوع.

8112 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ الصَّبَّاحِ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ زَكَرِيَّا عنْ مُحَمَّدِ بنِ سُوقَةَ عنْ نافِعِ ابنِ جُبَيْر بنِ مُطْعمٍ قَالَ حدَّثَتْنِي عائشةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ

(11/235)


فإذَا كانُوا بِبَيْداءَ مِنَ الأرْضِ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ قالَتْ قُلْتُ يَا رَسُول الله كَيْفَ يَا رسولَ الله كَيْفَ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ وفِيهِمْ أسْواقُهمْ ومَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ يُخْسَفُ بِأوَّلِهِم وآخِرِهِم ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَفِيهِمْ أسواقهم) ، حَيْثُ ذكر هَذَا اللَّفْظ فِي الحَدِيث.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الصَّباح، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، قد مر فِي: بَاب من اسْتَوَى قَاعِدا فِي صلَاته. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا أَبُو زِيَاد الْأَسدي مَوْلَاهُم الخلقاني، قَالَ البُخَارِيّ: جَاءَ نعيه إِلَى أَهله سنة أَربع وَسبعين وَمِائَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن سوقة، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالقاف: أَبُو بكر الغنوي، مر فِي كتاب الْعِيد. الرَّابِع: نَافِع بن جُبَير مصغر الْجَبْر ضد الْكسر ابْن مطعم، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من الْإِطْعَام، مر فِي: بَاب الرجل يُوصي بِصَاحِبِهِ. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن شَيْخه بغدادي أَصله هروي نزل بَغْدَاد، وَأَن إِسْمَاعِيل وَمُحَمّد بن سوقة كوفيان، وَأَن نَافِعًا مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية، فَإِن مُحَمَّد بن سوقة من صغَار التَّابِعين وَكَانَ ثِقَة عابدا صَالحا وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَحَدِيث آخر تقدم فِي الْعِيدَيْنِ. وَفِيه: أَن نَافِعًا هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ عَن عَائِشَة سوى هَذَا الحَدِيث، وَوَقع فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن بكار عَن إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا عَن مُحَمَّد بن سوقة: سَمِعت نَافِع بن جُبَير.
أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَفِيه: حَدَّثتنِي عَائِشَة، هَكَذَا قَالَ إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا عَن مُحَمَّد بن سوقة، وَخَالفهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فَقَالَ: عَن مُحَمَّد بن سوقة عَن نَافِع بن جُبَير عَن أم سَلمَة أخرجه التِّرْمِذِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون نَافِع بن جُبَير سَمعه مِنْهُمَا، فَإِن رِوَايَته عَن عَائِشَة أتم من رِوَايَته عَن أم سَلمَة. وَأخرجه مُسلم من وَجه آخر عَن عَائِشَة: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة حَدثنَا يُونُس بن مُحَمَّد حَدثنَا الْقَاسِم ابْن الْفضل الْحَرَّانِي عَن مُحَمَّد بن زِيَاد (عَن عبد الله بن الزبير: أَن عَائِشَة قَالَت: عَبث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنَامه، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله {صنعت شَيْئا فِي مَنَامك لم تكن تَفْعَلهُ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْعجب أَن نَاسا من أمتِي يؤمُّونَ بِالْبَيْتِ بِرَجُل من قُرَيْش قد لَجأ بِالْبَيْتِ حَتَّى إِذا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ خسف بهم، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله} إِن الطَّرِيق قد يجمع النَّاس. قَالَ: نعم فيهم المستبصر والمخبور وَابْن السَّبِيل، يهْلكُونَ مهْلكا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ مصَادر شَتَّى يَبْعَثهُم الله على نياتهم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يَغْزُو جَيش الْكَعْبَة) أَي: يقْصد عَسْكَر من العساكر تخريب الْكَعْبَة. قَوْله: (ببيداء من الأَرْض) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (بِالْبَيْدَاءِ) ، وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن أبي جَعْفَر الباقر، قَالَ: (هِيَ بيداء الْمَدِينَة) ، وَهِي بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ممدودة، وَهِي فِي الأَصْل الْمَفَازَة الَّتِي لَا شَيْء فِيهَا، وَهِي فِي هَذَا الحَدِيث اسْم مَوضِع مَخْصُوص بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. قَوْله: (يخسف بأولهم وَآخرهمْ) ، وَزَاد التِّرْمِذِيّ فِي حَدِيث صَفِيَّة: (وَلم ينج أوسطهم) ، وَفِي مُسلم أَيْضا فِي حَدِيث حَفْصَة: (فَلَا يبْقى إلاَّ الشريد الَّذِي يخبر عَنْهُم) . قَوْله: (وَفِيهِمْ أسواقهم) ، جملَة حَالية، وَهُوَ جمع: سوق، وَالتَّقْدِير أهل أسواقهم الَّذين يبيعون ويشترون كَمَا فِي المدن. وَفِي (مستخرج) أبي نعيم: (وَفِيهِمْ أَشْرَافهم) ، بالشين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وَالْفَاء، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن بكار عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: (وَفِيه سواهُم) ، وَقَالَ: وَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (وَفِيهِمْ أسواقهم) وَلَيْسَ هَذَا الْحَرْف فِي حديثنا وأظن أَن أسواقهم تَصْحِيف فَإِن الْكَلَام فِي الْخَسْف بِالنَّاسِ لَا بالأسواق وَقَالَ بَعضهم بل لفظ: سواهُم، تَصْحِيف فَإِنَّهُ بِمَعْنى قَوْله: وَمن لَيْسَ مِنْهُم، فَيلْزم مِنْهُ التّكْرَار بِخِلَاف رِوَايَة البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. نعم أقرب الرِّوَايَات إِلَى الصَّوَاب رِوَايَة أبي نعيم. انْتهى. قلت: لَا نسلم لُزُوم التّكْرَار، لِأَن معنى: أسواقهم: أهل أسواقهم، كَمَا ذكرنَا، وَالْمرَاد بقوله: وَمن لَيْسَ مِنْهُم: الضُّعَفَاء وَالْأسَارَى الَّذين لَا يقصدون التخريب، وَلَا نسلم أَيْضا أَن أقرب الرِّوَايَات إِلَى الصَّوَاب رِوَايَة أبي نعيم، لِأَن أَشْرَافهم هم عُظَمَاء الْجَيْش الَّذِي يقصدون التخريب، وَرِوَايَة البُخَارِيّ على حَالهَا صَحِيحَة على التَّفْسِير الَّذِي ذكرنَا. وَقَوله: بل لفظ سواهُم تَصْحِيف، غير صَحِيح، لِأَن مَعْنَاهُ: وَفِي الْجَيْش الَّذين يقصدون التخريب سواهُم مِمَّن لَا يقْصد وَلَا يقدر. قَوْله: (قَالَ: يخسف بأولهم وَآخرهمْ) أَي: قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي جَوَاب عَائِشَة: يخسف بأولهم وَآخرهمْ، يَعْنِي: كلهم، هَذَا الَّذِي يفهم مِنْهُ بِحَسب الْعرف، قَالَ الْكرْمَانِي: لم يعلم

(11/236)


مِنْهُ الْعُمُوم إِذْ حكم الْوسط غير مَذْكُور، وَالْجَوَاب مَا قُلْنَا، أَو نقُول: إِن الْوسط آخر بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأول، وَأول بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآخر، على أَنا قد ذكرنَا الْآن أَن فِي رِوَايَة صَفِيَّة: (وَلم ينج أوسطهم) ، وَهَذَا يُغني عَن تكلّف الْجَواب. قَوْله: (ثمَّ يبعثون على نياتهم) ، أَي: يخسف بِالْكُلِّ لشؤم الأشرار، ثمَّ أَنه تَعَالَى يبْعَث لكل مِنْهُم فِي الْحَشْر بِحَسب قَصده إِن خيرا فَخير، وَإِن شرا فشر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: يُسْتَفَاد مِنْهُ قطعا قصد هَذَا الْجَيْش تخريب الْكَعْبَة، ثمَّ خسفهم بِالْبَيْدَاءِ وَعدم وصولهم إِلَى الْكَعْبَة لإخبار لمخبر الصَّادِق بذلك، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْجَيْش الَّذِي يخسف بهم هم الَّذين يهدمون الْكَعْبَة فينتقم مِنْهُم فيخسف بهم. رد عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن فِي بعض طرق الحَدِيث عِنْد مُسلم: (أَن نَاسا من أمتِي) ، وَالَّذين يهدمونها من كفار الْحَبَشَة، وَالْآخر: أَن مُقْتَضى كَلَامه: يخسف بهم، بعد الْهدم وَلَيْسَ كَذَلِك، بل خسفهم قبل الْوُصُول إِلَى مَكَّة فضلا عَن هدمها. وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن من كثَّر سَواد قوم فِي مَعْصِيّة وفتنة أَن الْعقُوبَة تلْزمهُ مَعَهم إِذا لم يَكُونُوا مغلوبين على ذَلِك. وَمن ذَلِك: أَن مَالِكًا استنبط من هَذَا أَن من وجد مَعَ قوم يشربون الْخمر وَهُوَ لَا يشرب أَنه يُعَاقب، وَاعْترض عَلَيْهِ بَعضهم بِأَن الْعقُوبَة الَّتِي فِي الحَدِيث هِيَ الهجمة السماوية، فَلَا يُقَاس عَلَيْهَا الْعُقُوبَات الشَّرْعِيَّة، وَفِيه: نظر، لِأَن الْعُقُوبَات الشَّرْعِيَّة أَيْضا بالأمور السماوية، وَمن ذَلِك: أَن الْأَعْمَال تعْتَبر بنية الْعَامِل والشارع أَيْضا، قَالَ: (وَلكُل امرىء مَا نوى) ، وَمن ذَلِك وجوب التحذير من مصاحبة أهل الظُّلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلاَّ لمن اضطُرَّ. فَإِن قلت: مَا تَقول فِي مصاحبة التَّاجِر لأهل الْفِتْنَة؟ هَل هِيَ إِعَانَة لَهُم على ظلمهم أَو هِيَ من ضرورات البشرية؟ قلت: ظَاهر الحَدِيث يدل على الثَّانِي. وَالله أعلم. فَإِن قلت: مَا ذَنْب من أكره على الْخُرُوج أَو من جمعه وإياهم الطَّرِيق؟ قلت: إِن عَائِشَة لما سَأَلت وَأم سَلمَة أَيْضا سَأَلت، (قَالَت: فَقلت: يَا رَسُول الله! فَكيف بِمن كَانَ كَارِهًا؟) رَوَاهُ مُسلم، أجَاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: (يبعثون على نياتهم بهَا، فماتوا حِين حضرت آجالهم، ويبعثون على نياتهم.

9112 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ عَن أبِي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلاةُ أحَدِكُمْ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي سوقِهِ وبَيْتِهِ بِضْعا وعِشْرِينَ درَجةً وذَلِكَ بأنَّهُ إذَا تَوَضَّأ فأحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ أتَى المَسْجِدَ لاَ يُريدُ إلاَّ الصلاةَ لاَ يَنْهَزُهُ إلاَّ الصَّلاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلاَّ رُفِعَ بِهَا درَجةً أَو حَطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئةٌ والمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلى أحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ اللَّهُمَّ صَلِّي علَيهِ أللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ وَقَالَ أحدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا كانَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي سوقه) ، وَالْغَرَض من إِيرَاد هَذَا الحَدِيث هُنَا ذكر السُّوق وَجَوَاز الصَّلَاة فِيهِ مَعَ أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْجَمَاعَة فِي: بَاب فضل الْجَمَاعَة، عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش، قَالَ: سَمِعت أَبَا صَالح، يَقُول: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث. وَهنا أخرجه: عَن قُتَيْبَة عَن سعيد عَن جرير بن عبد الحميد عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات السمان عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (لَا ينهزه) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون النُّون وَكسر الْهَاء بعْدهَا زَاي: أَي ينهضه وزنا وَمعنى، وَهَذِه الْجُمْلَة كالبيان للجملة السَّابِقَة عَلَيْهَا. قَوْله: (أللهم صل عَلَيْهِ) ، أَي: يَقُول: اللَّهُمَّ صل عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضا بَيَان لقَوْله: (تصلي) وَكَذَلِكَ قَوْله: (أللهم ارحمه) لقَوْله: (أللهم صل عَلَيْهِ) ، وَكَذَا قَوْله: (مَا لم يؤذِ فِيهِ) مَا لم يحدث فِيهِ، وَمَعْنَاهُ: مَا لم يؤذ أحدكُم الْمَلَائِكَة نَتن الْحَدث.

0212 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إياسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السَّوقِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا أَبَا القَاسِمُ فالْتَفَتَ إلَيهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(11/237)


فَقَالَ إنَّمَا دَعَوْتُ هذَا فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَمُّوا باسْمي وَلَا تكَنَّوْا بِكُنْيَتِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي السُّوق) . وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن حَفْص بن عمر، وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي هَذَا الْبَاب مِنْهُم عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. أخرج حَدِيثه أَبُو دَاوُد حَدثنَا عُثْمَان وَأَبُو بكر ابْنا أبي شيبَة قَالَا: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن فطر بن خَليفَة عَن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة، قَالَ: (قَالَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قلت: يَا رَسُول الله! إِن ولد لي بعْدك ولد أؤسميه بِاسْمِك وأكنيه بكنيتك؟ قَالَ: نعم) . قَالَ عَليّ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن ابْن بشار عَن يحيى بن سعيد عَن فطر بن خَليفَة ... إِلَى آخِره نَحوه، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا أَبُو أُميَّة قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن قادم، قَالَ: حَدثنَا فطر عَن الْمُنْذر الثَّوْريّ عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله إِن ولد لي ابْن أُسَمِّيهِ بِاسْمِك وأكنيه بكنيتك؟ قَالَ: نعم. وَكَانَت رخصَة من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) . ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَذهب قوم إِلَى أَنه لَا بَأْس بِأَن تكنى الرِّجَال بِأبي الْقَاسِم، وَأَن يتسمى مَعَ ذَلِك بِمُحَمد، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِهَذَا الحَدِيث.
قلت: أَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة ومالكا وَأحمد فِي رِوَايَة، فَإِنَّهُم قَالُوا: لَا بَأْس للرجل أَن يجمع بَين التكني بِأبي الْقَاسِم والتسمي بِمُحَمد، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور. وَأجِيب عَن حَدِيث الْبَاب بأجوبة: الأول: أَنه مَنْسُوخ وَالثَّانِي: أَنه نهي تَنْزِيه. وَالثَّالِث: أَن النَّهْي عَن التكني بِأبي الْقَاسِم يخْتَص بِمن اسْمه مُحَمَّدًا وَأحمد، وَلَا بَأْس بهَا لمن لم يكن اسْمه ذَلِك.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَكَانَ فِي زمن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة قد كَانُوا متسمين بِمُحَمد مكتنين بِأبي الْقَاسِم، مِنْهُم: مُحَمَّد بن طَلْحَة، وَمُحَمّد بن الْأَشْعَث، وَمُحَمّد بن أبي حُذَيْفَة قلت: مُحَمَّد بن طَلْحَة هُوَ مُحَمَّد بن طَلْحَة بن عبد الله، وَذكره ابْن الْأَثِير فِي الصَّحَابَة، وَقَالَ: حمله أَبوهُ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمسح رَأسه وَسَماهُ مُحَمَّدًا، وَكَانَ يكنى أَبَا الْقَاسِم، وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا يلقب بالسجاد لِكَثْرَة صلَاته وَشدَّة اجْتِهَاده فِي الْعِبَادَة، قتل يَوْم الْجمل مَعَ أَبِيه سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ هَوَاهُ مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إلاَّ أَنه أطَاع أَبَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ عَليّ قَالَ: هَذَا السَّجَّاد قَتله بر أَبِيه. وَمُحَمّد بن الْأَشْعَث بن قيس الْكِنْدِيّ قيل: إِنَّه ولد على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أَبُو نعيم: لَا تصح لَهُ صُحْبَة، وروى عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَمُحَمّد بن أبي حُذَيْفَة بن عتبَة ابْن ربيعَة بن عبد شمس بن عبد منَاف الْقرشِي العبشمي، كنيته أَبُو الْقَاسِم، ولد بِأَرْض الْحَبَشَة على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن خَال مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، وَلما قتل أَبوهُ أَبُو حُذَيْفَة أَخذه عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وكفله إِلَى أَن كبر، ثمَّ سَار إِلَى مصر فَصَارَ من أَشد النَّاس على عُثْمَان، وَقَالَ أَبُو نعيم: هُوَ أحد من دخل على عُثْمَان حِين حوصر فَقتل، وَلما استولى مُعَاوِيَة على مصر أَخذه وحبسه فهرب من السجْن، فظفر بِهِ رشد بن مولى مُعَاوِيَة فَقتله. قلت: وَمن جملَة من تسمى بِمُحَمد وتكنى بِأبي الْقَاسِم من أَبنَاء وُجُوه الصَّحَابَة: مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي طَالب، وَمُحَمّد بن سعيد بن أبي وَقاص، وَمُحَمّد بن حَاطِب، وَمُحَمّد بن الْمُنْتَشِر ذكرهم الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) فِي: بَاب من رخص فِي الْجمع بَين التسمي بِمُحَمد والتكني بِأبي الْقَاسِم. وَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالشَّافِعِيّ: لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يتكنى بِأبي الْقَاسِم كَانَ اسْمه مُحَمَّدًا أَو لم يكن. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَمذهب الشَّافِعِي وَأهل الظَّاهِر أَنه لَا يحل التكني بِأبي الْقَاسِم لأحد أصلا، سَوَاء كَانَ اسْمه مُحَمَّدًا أم لم يكن لظَاهِر الحَدِيث أَي: حَدِيث الْبَاب وَهُوَ حَدِيث أنس الْمَذْكُور. وَقَالَ أَحْمد وَطَائِفَة من الظَّاهِرِيَّة: لَا يَنْبَغِي لأحد اسْمه مُحَمَّد أَن يتكنى بِأبي الْقَاسِم، وَلَا بَأْس لمن لم يكن اسْمه مُحَمَّدًا أَن يكنى بِأبي الْقَاسِم، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (تسموا باسمي وَلَا تكنوا بكنيتي) ، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بأسانيد مُخْتَلفَة، وألفاظ مُتَغَايِرَة، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث جَابر نَحوه، وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا، وروى مُحَمَّد بن عجلَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: (لَا تجمعُوا بَين اسْمِي وكنيتي، أَنا أَبُو الْقَاسِم الله يُعْطي وَأَنا أقسم) . وروى مُسلم عَن عبد الرَّحْمَن عَن أبي زرْعَة عَنهُ: (من تسمى باسمي فَلَا يتكنَّ بكنيتي، وَمن تكنَّ بكنيتي فَلَا يتسمَّ باسمي) . وروى ابْن أبي ليلى من حَدِيث أم حَفْصَة بنت عبيد عَن عَمها الْبَراء بن عَازِب: (من تسمى باسمي فَلَا يتكنَّ بكنيتي) . وَفِي لفظ: (لَا تجمعُوا بَين كنيتي وإسمي) .
قَوْله: (سموا) . أَمر من: سمى يُسَمِّي تَسْمِيَة. قَوْله: (وَلَا تكنوا) ، قَالَ ابْن التِّين: ضبط فِي أَكثر الْكتب بِفَتْح التَّاء وَضم النُّون الْمُشَدّدَة،

(11/238)


وَفِي بَعْضهَا: بِضَم التَّاء وَالنُّون، وَفِي بَعْضهَا: بِفَتْح التَّاء وَالنُّون مُشَدّدَة مَفْتُوحَة على حذف إِحْدَى التَّاءَيْنِ. قلت: لِأَن أَصله: لَا تتكنوا.

1212 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدثنَا زُهَيْرٌ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ دعَا رجُلٌ بالْبَقِيعِ يَا أَبَا القَاسِمِ فالْتَفَتَ إلَيْهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَمْ أعْنِكَ قَالَ سَمُّوا باسمي ولاَ تكْتَنْوا بِكُنْيَتِي. .

هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة السَّابِق، وَقَالَ ابْن التِّين: لَيْسَ هَذَا الحَدِيث مِمَّا يدْخل فِي هَذَا التَّبْوِيب، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذكر السُّوق. وَقَالَ بَعضهم: وَفَائِدَة إِيرَاد الطَّرِيق الثَّانِيَة. قَوْله: (فِيهَا: إِنَّه كَانَ بِالبَقِيعِ) ، فَأَشَارَ إِلَى أَن المُرَاد بِالسوقِ فِي الرِّوَايَة الأولى السُّوق الَّذِي كَانَ بِالبَقِيعِ. انْتهى. قلت: هَذَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل على أَن المُرَاد مَا ذكره، وَالْبَقِيع فِي الأَصْل من الأَرْض الْمَكَان المتسع، وَلَا يُسمى بقيعا إلاَّ وَفِيه شجر أَو أُصُولهَا. وبقيع الْغَرْقَد: مَوضِع بِظَاهِر الْمَدِينَة فِيهِ قُبُور أَهلهَا، كَانَ بِهِ شجر الْغَرْقَد، فَذهب وَبَقِي اسْمه، وَفَائِدَة إِيرَاد هَذَا الطَّرِيق، وَإِن لم يكن فِيهِ ذكر السُّوق، التَّنْبِيه على أَنه رَوَاهُ من طَرِيقين، فالمطابقة للتَّرْجَمَة فِي الطَّرِيق الأولى ظَاهِرَة، وَأما الطَّرِيق الثَّانِيَة فَفِي الْحَقِيقَة تبع للطريق الأول، فَيدْخل فِي حكمه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا وَجه تعلقه بالترجمة؟ قلت: كَانَ فِي البقيع سوق فِي ذَلِك الْوَقْت. قلت: هَذَا يحْتَاج إِلَى الدَّلِيل كَمَا ذَكرْنَاهُ عِنْد قَول بَعضهم، وَالظَّاهِر أَنه أَخذ مَا قَالَه الْكرْمَانِي وَمَالك بن إِسْمَاعِيل بن زِيَاد أَبُو غَسَّان النَّهْدِيّ الْكُوفِي، وَزُهَيْر هُوَ ابْن مُعَاوِيَة قَوْله: (لم أعنِكَ) أَي: لم أقصدك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْأَمر للْوُجُوب أَولا وَالنَّهْي للتَّحْرِيم آخرا. قلت: قد ذكرنَا جَوَابه عَن قريب.

2212 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفيَانُ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبِي يَزِيدَ عنْ نافِعِ بنِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ الدَّوْسِي رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ خَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي طائِفَةِ النَّهَارِ لاَ يُكَلِّمُنِي ولاَ أكَلِّمِهُ حَتَّى أَتَى سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ فجَلَسَ بِفَناءِ بَيْتِ فاطِمَةَ فَقَالَ أثمَّ لُكَعُ أثَمَّ لُكَعُ فَحَبَسَتْهُ شَيْئا فَظَنَنْتُ أنَّهَا تُلْبِسُهُ سِخابا أَو تُغَسِّلُهُ فَجاءَ يَشْتَدُّ حَتَّى عانَقَهُ وقَبَّلَهُ وَقَالَ أللَّهُمَ أحْبِبْهُ وأحبَّ منْ يحِبُّهُ. (الحَدِيث 2212 طرفه فِي: 4885) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى أَتَى سوق بني قينقاع) . وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبيد الله ابْن أبي يزِيد من الزِّيَادَة قد مر فِي: بَاب وضع المَاء عِنْد الْخَلَاء.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي للباس عَن اسحاق بن ابراهيم الْحَنْظَلِي وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أَحْمد بن حَنْبَل عَنهُ بِبَعْضِه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب عَن حُسَيْن بن حَرْب. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن أَحْمد بن عَبدة عَن سُفْيَان نَحوه مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن عبيد الله) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن سُفْيَان حَدثنِي عبيد الله. قَوْله: (نَافِع بن جُبَير) ، هُوَ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث الأول، وَلَيْسَ لَهُ عَن أبي هُرَيْرَة فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث. قَوْله: (الدوسي) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالسين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى أبي هُرَيْرَة إِلَى دوس بن عدنان بن عبد الله، قَبيلَة فِي الأزد. قَوْله: (فِي طَائِفَة النَّهَار) أَي: فِي قِطْعَة مِنْهُ. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا: فِي صائفة النَّهَار، أَي: حر النَّهَار، يُقَال: يَوْم صَائِف: أَي حَار. قلت: هَذَا هُوَ الْأَوْجه. قَوْله: (لَا يكلمني وَلَا ُأكَلِّمهُ) ، أما من جَانب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَعَلَّهُ كَانَ مَشْغُول الْفِكر بِوَحْي أَو غَيره، وَأما من جَانب أبي هُرَيْرَة فللتوقير، وَكَانَ ذَلِك شَأْن الصَّحَابَة إِذا لم يرَوا مِنْهُ نشاطا. قَوْله: (فَجَلَسَ بِفنَاء بَيت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا) الفناء، بِكَسْر الْفَاء بعْدهَا نون ممدودة: اسْم للموضع المتسع الَّذِي أَمَام الْبَيْت. وَقَالَ الدَّاودِيّ: سقط بعض الحَدِيث عَن النافل، وَإِنَّمَا أَدخل حَدِيث فِي حَدِيث، إِذْ لَيْسَ بَيت فَاطِمَة فِي سوق بني قينقاع، إِنَّمَا بَيتهَا بَين بيُوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قيل: لَيْسَ فِيهِ إِدْخَال حَدِيث فِي حَدِيث، وَلَكِن فِيهِ بعض سقط، وَرِوَايَة مُسلم تبينه، وَلَفظه عَن سُفْيَان: حَتَّى جَاءَ سوق بني قينقاع ثمَّ

(11/239)


انْصَرف حَتَّى أَتَى فنَاء فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَأخرجه الْحميدِي فِي (مُسْنده) عَن سُفْيَان، فَقَالَ فِيهِ: حَتَّى إِذا أَتَى فنَاء بَيت عَائِشَة فَجَلَسَ فِيهِ. وَالْأول أرجح. قَوْله: (فَقَالَ أَثم لكع؟) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَرَادَ بِهِ الْحسن، وَقيل: الْحُسَيْن على مَا سَيَأْتِي، والهمزة فِي: إِثْم؟ للاستفهام، و: ثمَّ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد وَهُوَ ظرف لَا يتَصَرَّف، فَلذَلِك غلط من أعربه مَفْعُولا لرأيت فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت} (الْإِنْسَان: 02) . ولكع، بِضَم اللاَّم وَفتح الْكَاف وبالعين الْمُهْملَة. قَالَ الْأَصْمَعِي: الكلع العيس الَّذِي لَا يتَّجه لنظر وَلَا لغيره، مَأْخُوذ من الملاكيع، وَهُوَ الَّذِي يخرج مَعَ السلا من الْبَطن. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: القَوْل قَول الْأَصْمَعِي، أَلا ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِلْحسنِ وَهُوَ صَغِير: أَيْن لكع؟ أَرَادَ أَنه لصغره لَا يتَّجه لمنطق وَلَا مَا يصلحه، وَلم يرد أَنه لئيم وَلَا عبد، وَعلم مِنْهُ أَن اللَّئِيم يُسمى لكعا أَيْضا، وَكَذَلِكَ العَبْد يُسمى بِهِ. وَفِي (التَّلْوِيح) الْأَشْبَه والأجود أَن يحمل الحَدِيث على مَا قَالَه بِلَال بن جرير الخطفي، وَسُئِلَ عَن اللكع؟ فَقَالَ: فِي لغتنا هُوَ الصَّغِير. قَالَ الْهَرَوِيّ: وَإِلَى هَذَا ذهب الْحسن، إِذا قَالَ الْإِنْسَان: لَا يكع، يُرِيد: يَا صَغِير وَيُقَال للْمَرْأَة: لكيعة ولكعاء ولكاع وملكعانة، ذكره فِي (الموعب) . وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: لَا يُقَال ملكعانة إلاَّ فِي النداء، وَعَن ابْن يزِيد، اللكع الغلو، وَالْأُنْثَى لكعة. وَفِي (الْمُحكم) : اللكع الْمهْر. وَفِي (الْجَامِع) : أصل اللكع من اللكع وَلَكِن قلب. قَوْله: (فحسبته شَيْئا) أَي: فحبست فَاطِمَة الْحسن، أَي: منعته من الْمُبَادرَة إِلَى الْخُرُوج إِلَيْهِ قَلِيلا. قَوْله: (فَظَنَنْت) ، قَائِله أَبُو هُرَيْرَة. (أَنَّهَا) ، أَي: أَن فَاطِمَة (تلبسه) بِضَم التَّاء من الإلباس أَي: تلبس الصَّغِير (سخابا) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وبالخاء الْمُعْجَمَة الْخَفِيفَة وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة، قَالَ الْخطابِيّ: هِيَ قلادة تتَّخذ من طيب لَيْسَ فِيهَا ذهب وَلَا فضَّة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: من قرنفل. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: هِيَ قلادة من خيط فِيهَا خرز تلبسه الصّبيان والجواري، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن ابْن أبي عمر أحد رُوَاة هَذَا الحَدِيث قَالَ: السخاب شَيْء يعْمل من الحنظل كالقميص والوشاح. قَوْله: (أَو تغسله) بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي رِوَايَة الْحميدِي: (وتغسله) بِالْوَاو. قَوْله: (فجَاء يشْتَد) أَي: يسْرع فِي الْمَشْي، وَفِي رِوَايَة عمر بن مُوسَى عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فجَاء الْحسن أَو الْحُسَيْن) ، وَقد أخرجه مُسلم عَن ابْن أبي عمر، فَقَالَ فِي رِوَايَته: (أثَمَّ لُكَّعْ؟) يَعْنِي: حسنا، وَكَذَا قَالَ الْحميدِي فِي (مُسْنده) ، وَسَيَأْتِي فِي اللبَاس من طَرِيق وَرْقَاء عَن عبيد الله بن أبي يزِيد بِلَفْظ: (فَقَالَ: أَيْن لكع؟ أدع لي الْحسن بن عَليّ، فَقَامَ الْحسن بن عَليّ يمشي) . قَوْله: (حَتَّى عانقه) ، وَفِي رِوَايَة وَرْقَاء عَن عبيد الله بن أبي يزِيد بِلَفْظ: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ هَكَذَا) ، أَي: مدها. فَقَالَ الْحسن بِيَدِهِ هَكَذَا، فَالْتَزمهُ قَوْله: (أللهم أحبه) ، بِلَفْظ الدُّعَاء وبالإدغام، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: أحببه، بفك الْإِدْغَام، وَزَاد مُسلم عَن ابْن أبي عمر: (فَقَالَ: أللهم إِنِّي أحبه فَأَحبهُ) . قَوْله: (وَأحب) أَمر أَيْضا. وَقَوله: (من يُحِبهُ) ، فِي مَحل النصب مَفْعُوله.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: بَيَان مَا كَانَ الصَّحَابَة عَلَيْهِ من توقير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمَشْي مَعَه. وَفِيه: مَا كَانَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ من التَّوَاضُع من الدُّخُول فِي السُّوق وَالْجُلُوس بِفنَاء الدَّار وَرَحمته الصَّغِير والمزاح مَعَه، وَقَالَ السُّهيْلي: وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمزح وَلَا يَقُول إلاَّ حَقًا، وَهَهُنَا أَرَادَ تشبيهه بالفلو وَالْمهْر، لِأَنَّهُ طِفْل، وَإِذا قصد بالْكلَام التَّشْبِيه لم يكن إلاَّ صدقا. وَفِيه: جَوَاز المعانقة وفيهَا خلاف، فَقَالَ مُحَمَّد بن سِيرِين وَعبد الله بن عون وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد: المعانقة مَكْرُوهَة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا سُوَيْد، قَالَ: أخبرنَا عبد الله، قَالَ: أخبرنَا حَنْظَلَة بن عبيد الله (عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رجل: يَا رَسُول الله! الرجل منا يلقى أَخَاهُ أَو صديقه، أفينحني لَهُ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: أفيلتزمه ويقبله؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أفيأخذ بِيَدِهِ ويصافحه؟ قَالَ: نعم) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. وَقَالَ الشّعبِيّ وَأَبُو مجلز: لَاحق بن حميد وَعَمْرو بن مَيْمُون وَالْأسود بن هِلَال وَأَبُو يُوسُف: لَا بَأْس بالمعانقة. وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا فَهد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء، وَقَالَ: حَدثنَا أَسد بن عَمْرو عَن مجَالد بن سعيد عَن عَامر عَن عبد الله بن جَعْفَر عَن أَبِيه قَالَ: لما قدمنَا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عِنْد النَّجَاشِيّ تَلقانِي فاعتنقني، وَرِجَاله ثِقَات، ومجالد بن سعيد وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ، وروى لَهُ الْأَرْبَعَة، وروى الطَّحَاوِيّ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة أَنهم كَانُوا يتعانقون، قَالَ: فَدلَّ ذَلِك على أَن مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِبَاحَة المعانقة كَانَ مُتَأَخِّرًا عَمَّا رُوِيَ عَنهُ من النَّهْي عَن ذَلِك، وَفِي (التَّلْوِيح) : معانقته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِلْحسنِ إِبَاحَة ذَلِك،

(11/240)


وَأما معانقة الرجل للرجل فاستحبها سُفْيَان وكرهها مَالك، قَالَ: هِيَ بِدعَة، وتناظر مَالك وسُفْيَان فِي ذَلِك فاحتج سُفْيَان بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك بِجَعْفَر، قَالَ مَالك: هُوَ خَاص لَهُ، فَقَالَ: مَا يَخُصُّهُ بِغَيْر ذَلِك؟ فَسكت مَالك. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : الْخلاف فِي المعانقة فِي إِزَار وَاحِد، وَأما إِذا كَانَ على المعانق قَمِيص أَو جُبَّة لَا بَأْس بِاتِّفَاق أَصْحَابنَا، وَهُوَ الصَّحِيح. وَفِيه: جَوَاز التَّقْبِيل، قَالَ الْفَقِيه أَبُو اللَّيْث فِي (شرح الْجَامِع الصَّغِير) الْقبْلَة على خَمْسَة أوجه: قبْلَة تَحِيَّة، وقبلة شَفَقَة، وقبلة رَحْمَة. وقبلة شَهْوَة، وقبلة مَوَدَّة. فَأَما قبْلَة التَّحِيَّة فكالمؤمنَيْن يقبل بعضهما بَعْضًا على الْيَد، وقبلة الشَّفَقَة قبْلَة الْوَلَد لوالده أَو لوالدته، وقبلة الرَّحْمَة قبْلَة الْوَالِد لوَلَده والوالدة لولدها على الخد، وقبلة الشَّهْوَة قبْلَة الزَّوْج لزوجته على الْفَم، وقبلة الْمَوَدَّة قبْلَة الْأَخ وَالْأُخْت على الخد، وَزَاد بَعضهم من أَصْحَابنَا: قبْلَة ديانَة، وَهِي الْقبْلَة على الْحجر الْأسود، وَقد وَردت أَحَادِيث وآثار كَثِيرَة فِي جَوَاز التَّقْبِيل، وَلَكِن مَحل ذَلِك إِذا كَانَ على وَجه المبرة وَالْإِكْرَام، وَأما إِذا كَانَ على وَجه الشَّهْوَة فَلَا يجوز إلاَّ فِي حق الزَّوْجَيْنِ، وَأما المصافحة فَلَا بَأْس بهَا بِلَا خلاف لِأَنَّهَا سنة قديمَة، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من حَدِيث حُذَيْفَة ابْن الْيَمَان عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: (إِن الْمُؤمن إِذا لَقِي الْمُؤمن فَسلم عَلَيْهِ وَأخذ بِيَدِهِ فصافحه تناثرت خطاياهما كَمَا يَتَنَاثَر ورق الشّجر) .
قَالَ سُفْيانُ قَالَ عُبَيْدُ الله أخبرَنِي أنَّهُ رَأى نافِعَ بنَ جُبَيْرٍ أوْتَرَ بِرَكْعَةٍ
هَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعبيد الله هُوَ ابْن أبي يزِيد الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وَقد تقدم الرَّاوِي على قَوْله: أَخْبرنِي أَنه، وَهَذَا لَا يضر، وَفَائِدَة إِيرَاد هَذِه الزِّيَادَة التَّنْبِيه على لَقِي عبيد الله لنافع بن جُبَير، فَلَا تضر العنعنة فِي الطَّرِيق الْمَوْصُول، لِأَن مَا ثَبت لقاؤه لمن حدث عَنهُ وَلم يكن مدلسا حملت عنعنته على السماع اتِّفَاقًا. وَإِنَّمَا الْخلاف فِي المدلس أَو فِيمَن لم يثبت لقِيه لمن روى عَنهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا وَجه ذكر الْوتر فِي هَذَا الْبَاب؟ ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ لما روى عَن نَافِع انتهز الفرصة لبَيَان من ثَبت مِنْهُ مِمَّا اخْتلف فِي جَوَازه. انْتهى. قلت: لَا وَجه لما ذكره أصلا. وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ.
74 - (حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر قَالَ حَدثنَا أَبُو ضَمرَة قَالَ حَدثنَا مُوسَى عَن نَافِع قَالَ حَدثنَا ابْن عمر أَنهم كَانُوا يشْتَرونَ الطَّعَام من الركْبَان على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيبعث عَلَيْهِم من يمنعهُم أَن يبيعوه حَيْثُ اشتروه حَتَّى ينقلوه حَيْثُ يُبَاع الطَّعَام قَالَ وَحدثنَا ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ نهى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَن يُبَاع الطَّعَام إِذا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه) قيل لَيْسَ لذكر هَذَا الحَدِيث هَهُنَا وَجه (قلت) يُمكن أَن يُؤْخَذ وَجه الْمُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث وَبَين التَّرْجَمَة من لفظ الركْبَان لِأَن الشِّرَاء مِنْهُم يكون باستقبال النَّاس إيَّاهُم فِي مَوضِع وَهَذَا الْموضع يُطلق عَلَيْهِ السُّوق لِأَن السُّوق فِي اللُّغَة مَوضِع الْبياعَات وَهَذَا وَإِن كَانَ فِيهِ نوع تعسف فيستأنس بِهِ فِي وَجه الْمُطَابقَة فَافْهَم وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر على لفظ اسْم الْفَاعِل من الْإِنْذَار أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي الْمدنِي وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَأَبُو ضَمرَة بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم وبالراء اسْمه أنس بن عِيَاض وَقد مر فِي بَاب التبرز فِي الْبيُوت ومُوسَى بن عقبَة بِالْقَافِ ابْن أبي عَيَّاش الْمدنِي مولى الزبير بن الْعَوام مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة والإسناد كُله مدنيون والْحَدِيث الْمَذْكُور من أَفْرَاده وَحَدِيث بيع الطَّعَام قبل الْقَبْض أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بأسانيد مُخْتَلفَة وألفاظ متباينة قَوْله " من الركْبَان " وهم الْجَمَاعَة من أَصْحَاب الْإِبِل فِي السّفر وَهُوَ جمع رَاكب وَهُوَ فِي الأَصْل يُطلق على رَاكب الْإِبِل خَاصَّة ثمَّ اتَّسع فِيهِ فَأطلق على كل من ركب دَابَّة قَوْله " على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَي على زَمَنه قَوْله " فيبعث " أَي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " من يمنعهُم " فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول يبْعَث قَوْله " أَن يبيعوه " أَي بِأَن يبيعوه فكلمة أَن مَصْدَرِيَّة أَي من البيع فِي مَكَان اشتروه حَتَّى ينقلوه ويبيعوه حَيْثُ يُبَاع الطَّعَام فِي الْأَسْوَاق لِأَن الْقَبْض شَرط وبالنقل الْمَذْكُور يحصل الْقَبْض وَوجه نَهْيه عَن بيع مَا يشترى من الركْبَان إِلَّا بعد التَّحْوِيل إِلَى مَوضِع يُرِيد أَن يَبِيع فِيهِ الرِّفْق بِالنَّاسِ وَلذَلِك ورد النَّهْي عَن تلقي

(11/241)


الركْبَان لِأَن فِيهِ ضَرَرا لغَيرهم من حَيْثُ السّعر فَلذَلِك أَمرهم بِالنَّقْلِ عِنْد تلقي الركْبَان ليوسعوا على أهل الْأَسْوَاق قَوْله " ثمَّ قَالَ " أَي ثمَّ قَالَ نَافِع وَحدثنَا عبد الله بن عمر وَهَذَا دَاخل فِي الْإِسْنَاد الأول قَوْله " حَتَّى يَسْتَوْفِيه " أَي يقبضهُ وَفِي رِوَايَة مُسلم " حَتَّى يكتاله " وَالْقَبْض والاستيفاء سَوَاء وَالَّذِي يُسْتَفَاد من الحَدِيث أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع الطَّعَام إِلَّا بعد الْقَبْض وَهَذَا الْبَاب فِيهِ خلاف قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي شرح مُسلم اخْتلف النَّاس فِي جَوَاز بيع المشتريات قبل قبضهَا فَمَنعه الشَّافِعِي فِي كل شَيْء وَانْفَرَدَ عُثْمَان التَّيْمِيّ فَأَجَازَهُ فِي كل شَيْء وَمنعه أَبُو حنيفَة فِي كل شَيْء إِلَّا الْعقار وَمَا لَا ينْقل وَمنعه آخَرُونَ فِي سَائِر المكيلات والموزونات وَمنعه مَالك فِي سَائِر المكيلات والموزونات إِذا كَانَت طَعَاما وَقَالَ ابْن قدامَة فِي الْمُغنِي وَمن اشْترى مَا يحْتَاج إِلَى الْقَبْض لم يجز بَيْعه حَتَّى يقبضهُ وَلَا أرى بَين أهل الْعلم فِيهِ خلافًا إِلَّا مَا حكى عَن عُثْمَان التَّيْمِيّ أَنه قَالَ لَا بَأْس بِبيع كل شَيْء قبل قَبضه وَقَالَ ابْن عبد الْبر هَذَا قَول مَرْدُود بِالسنةِ وَأما غير ذَلِك فَيجوز بَيْعه قبل قَبضه فِي أظهر الرِّوَايَتَيْنِ وَنَحْوه قَول مَالك وَابْن الْمُنْذر انْتهى وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح وَالثَّوْري وَابْن عُيَيْنَة وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد وَمَالك فِي رِوَايَة وَأحمد فِي رِوَايَة وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد النَّهْي الَّذِي ورد فِي البيع قبل الْقَبْض قد وَقع على الطَّعَام وَغَيره وَهُوَ مَذْهَب ابْن عَبَّاس أَيْضا وَلَكِن أَبُو حنيفَة قَالَ لَا بَأْس بِبيع الدّور وَالْأَرضين قبل الْقَبْض لِأَنَّهَا لَا تنقل وَلَا تحول وَقَالَ الشَّافِعِي هُوَ فِي كل مَبِيع عقارا أَو غَيره وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن الْحسن وَهُوَ مَذْهَب جَابر أَيْضا -