عمدة القاري شرح صحيح البخاري

85 - (بابٌ لَا يَبِيعُ عَلى بَيْعِ أخِيهِ ولاَ يَسُومُ علَى سَوْمِ أخِيهِ حتَّى يأذَنَ لَهُ أوْ يَتْرُكَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يَبِيع على بيع أَخِيه، وَهُوَ أَن يَقُول فِي زمن الْخِيَار: إفسخ بيعك وَأَنا أبيعك مثله، بِأَقَلّ مِنْهُ، وَيحرم أَيْضا الشِّرَاء بِأَن يَقُول للْبَائِع: إفسخ وَأَنا أَشْتَرِي بِأَكْثَرَ مِنْهُ. قَوْله: (وَلَا يسوم على سوم أَخِيه) ، وَهُوَ السّوم على السّوم، وَهُوَ أَن يتَّفق صَاحب السّلْعَة والراغب فِيهَا على البيع وَلم يعقداه، فَيَقُول آخر لصَاحِبهَا: أَنا أشتريها بِأَكْثَرَ، أَو للراغب: أَنا أبيعك خيرا مِنْهَا بأرخص، وَهَذَا حرَام بعد اسْتِقْرَار الثّمن، بِخِلَاف مَا يُبَاع فِيمَن يزِيد، فَإِنَّهُ قبل الِاسْتِقْرَار. وَقَوله: (لَا يَبِيع) ، نفي، وَكَذَلِكَ: (لَا يسوم) ويروى: (لَا يبع وَلَا يسم) ، بِصُورَة النَّهْي. قَوْله: (حَتَّى يَأْذَن لَهُ) أَي: حَتَّى يَأْذَن أَخُوهُ للْبَائِع بذلك، أَو يتْرك أَخُوهُ اتفاقه مَعَ البَائِع، وتقييده بِالْإِذْنِ أَو التّرْك يرجع إِلَى البيع والسوم جَمِيعًا. فَإِن قلت: لم يَقع ذكر السّوم فِي حَدِيثي الْبَاب؟ قلت: قد وَقع فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث، وَأَن يستام الرجل على سوم أَخِيه، أخرجه فِي الشُّرُوط من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَيْهِ، وَهَذَا لَهُ وَجه لِأَنَّهُ فِي كِتَابه أخرجه فِيهِ. فَإِن قلت: لم يذكر أَيْضا شَيْئا لقَوْله: (حَتَّى يَأْذَن لَهُ أَو يتْرك؟) قلت: ذكر هَذَا الْقَيْد فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق عبيد الله بن عمر عَن نَافِع فِي هَذَا الحَدِيث بِلَفْظ: (لَا يَبِيع الرجل على بيع أَخِيه، وَلَا يخْطب على خطْبَة أَخِيه إلاَّ أَن يَأْذَن لَهُ) . فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ، وَاكْتفى بِهِ، كَذَا قيل: وَلَكِن هَذَا بعيد من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه غير مَذْكُور فِي كِتَابه، وَالْإِشَارَة إِلَى مَا ذكر فِي كتاب غَيره بعيد. وَالْآخر: أَن الِاسْتِثْنَاء فِي الحَدِيث الْمَذْكُور يخْتَص بقوله: وَلَا يخْطب على خطْبَة أَخِيه، وَإِن كَانَ يحْتَمل أَن يكون اسْتثِْنَاء من الْحكمَيْنِ.

9312 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلى بَيْعِ أخِيهِ.

(11/257)


مطابقته للجزء الأول للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي أويس.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك فرقهما. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَإِسْحَاق ابْن مَنْصُور فِي النَّهْي عَن تلقي السّلع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن سُوَيْد بن سعيد. قَوْله: (لَا يَبِيع) ، كَذَا بِإِثْبَات الْيَاء عِنْد الْأَكْثَرين بِصُورَة النَّفْي، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لَا يبع) ، بِصِيغَة النَّهْي. قَوْله: (على بيع أَخِيه) ، وَفِي رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك بِلَفْظ: (على بيع بعضه) ، وتقييده بأَخيه يدل عى أَن ذَلِك يخْتَص بِالْمُسلمِ، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو عبيد بن جوَيْرِية من الشَّافِعِيَّة، وأصرح من ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (لَا يسوم الْمُسلم على الْمُسلم) ، وَعند الْجُمْهُور: لَا فرق فِي ذَلِك بَين الْمُسلم وَالْكَافِر، وَذكر الْأَخ خرج مخرج الْغَالِب فَلَا مَفْهُوم لَهُ. وَقَامَ الْإِجْمَاع على كَرَاهَة سوم الذِّمِّيّ على مثله، وَإِنَّمَا حرم بيع الْبَعْض على بعض لِأَنَّهُ يوغر الصُّدُور وَيُورث الشحناء، وَلِهَذَا لَو أذن لَهُ فِي ذَلِك ارْتَفع على الْأَصَح.

0412 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبدِ الله قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ نَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَبِيعَ حاضِرٌ لبادٍ ولاَ تَناجَشُوا ولاَ يَبِيع الرَّجُلُ عَلى بَيْعِ أخيهِ ولاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ ولاَ تَسْألُ المَرْأةُ طَلاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفأ مَا فِي إنَائهَا. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يَبِيع الرجل على بيع أَخِيه) . وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن عَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب وَابْن أبي عمر وَفِي الْبيُوع عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح فِي الْبيُوع بِبَعْضِه: (لَا تناجشوا) ، وَفِي النِّكَاح بِبَعْضِه: (لَا يخْطب أحدكُم على خطْبَة أَخِيه) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة بن سعيد وَأحمد بن منيع فِي الْبيُوع بِبَعْضِه: (لَا يَبِيع حَاضر لباد) ، وَفِي مَوضِع آخر مِنْهُ بِبَعْضِه: (لَا تناجشوا) وَفِي النِّكَاح بِبَعْضِه: (لَا يخْطب الرجل على خطْبَة أَخِيه وَلَا يَبِيع الرجل على بيع أَخِيه) ، وَفِيه عَن قُتَيْبَة وَحده بِبَعْضِه: (لَا تسْأَل الْمَرْأَة طَلَاق أُخْتهَا لتكفأ مَا فِي إناثها) . وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَسَعِيد بن عبد الرَّحْمَن بِتَمَامِهِ، وَلم يذكر السّوم. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن هِشَام بن عمار وَسَهل بن أبي سهل فِي النِّكَاح بِبَعْضِه: (لَا يخْطب الرجل على خطْبَة أَخِيه) وَفِي التِّجَارَات بِبَعْضِه: (لَا تناجشوا) ، وَفِيه عَن هِشَام بن عمار وَحده بِبَعْضِه: (لَا يَبِيع الرجل على بيع أَخِيه وَلَا يسوم على سوم أَخِيه) . وَفِيه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِبَعْضِه: (لَا يَبِيع حَاضر لباد) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لبادٍ) ، البادي: هُوَ الَّذِي يكون فِي الْبَادِيَة مَسْكَنه الْمضَارب والخيام، وَصُورَة البيع للبادي أَن يقدم غَرِيب من الْبَادِيَة بمتاع ليَبِيعهُ بِسعْر يَوْمه، فَيَقُول لَهُ بلدي: اتركه عِنْدِي لأبيعه لَك على التدريج بأغلى مِنْهُ، وَهَذَا فعل حرَام، لَكِن يَصح بَيْعه لِأَن النَّهْي رَاجع إِلَى أَمر خَارج عَن نفس العقد. وَقيل: أَن لَا يكون الْحَاضِر سمسارا للبدوي، وَحِينَئِذٍ يصير أَعم ويتناول البيع وَالشِّرَاء. قَوْله: (وَلَا تناجشوا) ، هَذَا عطف على مُقَدّر، لِأَنَّهُ لَا يَصح عطفه على قَوْله: (نهى) ، وَلَا على قَوْله: (أَن يَبِيع) ، وَالتَّقْدِير: نهى وَقَالَ: لَا تناجشوا، و: النجش، بِفَتْح النُّون وَالْجِيم وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، وَفِي (الْمغرب) : النجش بِفتْحَتَيْنِ، ويروى بِسُكُون الْجِيم، وَيُقَال: نجش ينجش نجشا من بَاب نصر ينصر، وَفِي (الزَّاهِر) : أصل النجش مدح الشَّيْء وإطراؤه، وَفِي (الغريبين) : النجش: تنفير النَّاس من الشَّيْء إِلَى غَيره. وَفِي (الْجَامِع) : أَصله من الختل، يُقَال: نجش الرجل إِذا ختل، وَيُقَال: أصل النجش الإثارة، وَسمي الناجش ناجشا لِأَنَّهُ يثير الرَّغْبَة فِي السّلْعَة وَيرْفَع ثمنهَا. قَوْله: (وَلَا يَبِيع الرجل على بيع أَخِيه) ، قد فسرناه عَن قريب. وَقَالَ ابْن قرقول: يَأْتِي كثير من الْأَحَادِيث على لفظ الْخَبَر، وَقد أَتَى بِلَفْظ النَّهْي وَكِلَاهُمَا صَحِيح، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: كثير من رِوَايَات هَذَا الحَدِيث: لَا يَبِيع، بِإِثْبَات الْيَاء وَالْفِعْل غير مجزوم، وَذَلِكَ لحن، وَإِن صحت الرِّوَايَة فَتكون: لَا، نَافِيَة وَقد أَعْطَاهَا معنى النَّهْي، لِأَنَّهُ إِذا نفى هَذَا البيع فَكَأَنَّهُ اسْتمرّ عَدمه، وَالْمرَاد

(11/258)


من النَّهْي عَن الْفِعْل إِنَّمَا هُوَ طلب إعدامه أَو اسْتِبْقَاء عَدمه، فَكَانَ النَّهْي الْوَارِد من الْوَاجِب صدقه يُفِيد مَا يُرَاد من النَّهْي. قَوْله: (وَلَا يخْطب على خطْبَة أَخِيه) ، الْخطْبَة بِالْكَسْرِ: اسْم من خطب يخْطب من بَاب نصر ينصر، فَهُوَ خَاطب، وَأما الْخطْبَة بِالضَّمِّ فَهُوَ من القَوْل، وَالْكَلَام وَصورته أَن يخْطب الرجل الْمَرْأَة فتركن هِيَ إِلَيْهِ ويتفقا على صدَاق مَعْلُوم ويتراضيا، وَلم يبْق إلاَّ العقد فَيَجِيء آخر ويخطب وَيزِيد فِي الصَدَاق، وَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (وَلَا تسْأَل) ، بِالرَّفْع خبر بِمَعْنى النَّهْي، وبالكسر نهي حَقِيقِيّ، وَمَعْنَاهُ: نهي الْمَرْأَة الْأَجْنَبِيَّة أَن تسْأَل الزَّوْج طَلَاق زَوجته لينكحها وَيصير لَهَا من نَفَقَته ومعاشرته مَا كَانَ للمطلقة، فَعبر عَن ذَلِك بإكفاء مَا فِي الْإِنَاء إِذا كبته وكفأته، وأكفأته، إِذا أملته. وَقَالَ التَّيْمِيّ: هَذَا مثل لإمالة الضرة حق صاحبتها من زَوجهَا إِلَى نَفسهَا. قَوْله: (لتكفأ) بِفَتْح الْفَاء، كَذَا فِي رِوَايَة أبي الْحسن، وَقَالَ ابْن التِّين: وَهُوَ مَا سمعناه، وَوَقع فِي بعض رواياته كسر الْفَاء، وَقَالَ ابْن قرقول: ويروى، (لتكفىء وتستكفيء مَا فِي صحفتها) ، أَي: تقلبه لتفرغه من خير زَوجهَا لطلاقه إِيَّاهَا، وَقد تسهل الْهمزَة، وَذكر الْهَرَوِيّ الحَدِيث لتكتفي: تفتعل من كفأت، الْإِنَاء إِذا كببته ليفرغ مَا فِيهَا، وَقيل: صورته أَن يخْطب الرجل الْمَرْأَة وَله امْرَأَة، فتشترط عَلَيْهِ طَلَاق الأولى لتنفرد بِهِ. قَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بأختها غَيرهمَا، سَوَاء كَانَت أُخْتهَا فِي النّسَب أَو الْإِسْلَام أَو كَافِرَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: بيع الْحَاضِر للبادي إِنَّمَا نهى عَنهُ لِأَن فِيهِ التَّضْيِيق على النَّاس، وَأهل الْحَاضِرَة أفضل لإقامتهم الْجَمَاعَات وعلمهم وَغير ذَلِك. وَاخْتلف فِي أهل الْقرى: هَل هم مرادون بِهَذَا الحَدِيث؟ فَقَالَ مَالك: إِن كَانُوا يعْرفُونَ الْأَثْمَان فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن كَانُوا يشبهون أهل الْبَادِيَة فَلَا يُبَاع وَلَا يشار عَلَيْهِم، وَقَالَ شَيخنَا: لَا يلْزم من النَّهْي عَن البيع تَحْرِيم الْإِشَارَة عَلَيْهِ إِذا استشاره، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: وَقد أَمر بنصحه فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: وَهُوَ قَوْله: (إِذا استنصح أحدكُم أَخَاهُ فلينصح لَهُ) ، وَحكى الرَّافِعِيّ عَن أبي الطّيب وَأبي إِسْحَاق الْمروزِي: أَنه يجب عَلَيْهِ إرشاده إِلَيْهِ بذلاً للنصيحة. وَعَن أبي حَفْص بن الْوَكِيل: أَنه لَا يرشده توسعا على النَّاس، وَنقل مثله عَن مَالك، بل حكى ابْن الْعَرَبِيّ عَنهُ أَنه: لَو سَأَلَهُ عَن السّعر لَا يُخبرهُ بِهِ لحق أهل الْحَضَر، ثمَّ ظَاهر الحَدِيث تَحْرِيم بيع الْحَاضِر للبادي، سَوَاء كَانَ الحضري هُوَ الَّذِي التمس ذَلِك من البدوي أَو كَانَ البدوي هُوَ الَّذِي سَأَلَهُ الحضري فِي ذَلِك، وَجزم الرَّافِعِيّ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يحرم إِذا ابْتَدَأَ الحضري لسؤال ذَلِك، وَفِيه نظر لِخُرُوجِهِ عَن ظَاهر الحَدِيث، وخصص بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي تَحْرِيم بيع الْحَاضِر للبادي بِمَا إِذا تربص الْحَاضِر بسلعة البادي ليغالي فِي ثمنهَا، فَأَما إِذا بَاعهَا الحضري للبادي بِسعْر يَوْمه فَلَا بَأْس بِهِ. قلت: فِي التَّقْيِيد بذلك مُخَالفَة لظَاهِر الحَدِيث ولفهم رَاوِي الحَدِيث وَهُوَ ابْن عَبَّاس إِذا سُئِلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ: لَا يكون لَهُ سمسارا، فَلم يفرق بَين أَن يَبِيع لَهُ فِي ذَلِك الْيَوْم بِسعْر يَوْمه أَو يتربص بِهِ لِيَزْدَادَ ثمنه، وَظَاهر الحَدِيث أَيْضا تَحْرِيم بيع الْحَاضِر للبادي سَوَاء كَانَ البادي يُرِيد بَيْعه فِي يَوْمه أَو يُرِيد الْإِقَامَة والتربص بسلعته، وَحمل الرَّافِعِيّ النَّهْي على الصُّورَة الأولى فَقَالَ: فِيمَا إِذا قصد البدوي الْإِقَامَة فِي الْبَلَد ليَبِيعهُ على التدريج، فَسَأَلَهُ تفويضه إِلَيْهِ فَلَا بَأْس بِهِ، لِأَنَّهُ لم يضر بِالنَّاسِ وَلَا سَبِيل إِلَى منع الْمَالِك عَنهُ، لما فِيهِ من الْإِضْرَار لَهُ. وَفِي الحَدِيث حجَّة لمن ذهب إِلَى تَحْرِيم بيع الْحَاضِر للبادي، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَمن بعدهمْ، وَهُوَ قَول مَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَحكى مُجَاهِد جَوَازه، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَآخَرين، وَقَالُوا: إِن النَّهْي مَنْسُوخ، ثمَّ اخْتلفُوا: هَل يَقْتَضِي النَّهْي الْفساد أم لَا؟ فَذهب مَالك وَأحمد إِلَى أَنه لَا يَصح بيع الْحَاضِر للبادي، وَذهب الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور إِلَى أَنه يَصح وَإِن حرم تعاطيه. وَفِيه: حجَّة لمن ذهب إِلَى تَعْمِيم التَّحْرِيم فِي بيع الْحَاضِر للبادي، سَوَاء كَانَ الْبَلَد كَبِيرا بِحَيْثُ لَا يظْهر لنا خير الحضري مَتَاع البدوي فِيهِ تَأْثِير أَو صَغِير، أَو سَوَاء كَانَ مَتَاع البادي كثيرا أَو قَلِيلا لَا يُوسع على أهل الْبَلَد لَو بَاعه البادي بِنَفسِهِ، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك الْمَتَاع يعم وجوده أم يعز، وَسَوَاء رخص سعر ذَلِك الْمَتَاع أم غلى، وَحمل الْبَغَوِيّ فِي (التَّهْذِيب) النَّهْي فِيهِ على مَا تعم الْحَاجة إِلَيْهِ، سَوَاء فِيهِ المطعومات وَغَيرهَا كالصوف وَغَيره، أما مَا لَا تعم الْحَاجة إِلَيْهِ كالأشياء النادرة فَلَا يدْخل تَحت النَّهْي، وَفِيه نظر لَا يخفى، وَفِي (التَّوْضِيح) فَإِن فعل وَبَاعَ هَل يُؤَدب؟ قَالَ ابْن الْقَاسِم: نعم إعتاده، وَقَالَ ابْن وهب: يزْجر عَالما أَو جَاهِلا وَلَا يُؤَدب.
الثَّانِي من الْوُجُوه فِي النجش: وَلَا خِيَار فِيهِ إِذا وَقع خلافًا لمَالِك

(11/259)


وَابْن حبيب، وَعَن مَالك إِنَّمَا لَهُ الْخِيَار إِذا علم. وَهُوَ عيب من الْعُيُوب كَمَا فِي الْمُصراة وَعَن ابْن حبيب: لَا خِيَار إِذا لم يكن للْبَائِع مواطأة. وَقَالَ أهل الظَّاهِر: البيع بَاطِل مَرْدُود على بَائِعه إِذا ثَبت ذَلِك عَلَيْهِ.
الثَّالِث: البيع على بيع أَخِيه، وَقد بَينا صورته فِي أول الْبَاب، وَهَذَا مَحَله عِنْد التراكن والاقتراب. فَأَما البيع وَالشِّرَاء فِيمَن يزِيد فَلَا بَأْس فِيهِ فِي الزِّيَادَة على زِيَادَة أَخِيه، وَذَلِكَ لما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَاعَ حلسا وَقَدحًا، وَقَالَ: من يَشْتَرِي هَذَا الحلس والقدح؟ فَقَالَ رجل: أخذتهما بدرهم، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من يزِيد على دِرْهَم؟ فَأعْطَاهُ رجل دِرْهَمَيْنِ، فباعهما مِنْهُ) . وَأخرجه بَقِيَّة الْأَرْبَعَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور أهل الْعلم، وَكره بعض أهل الْعلم الزِّيَادَة على زِيَادَة أَخِيه، وَلم يرَوا صِحَة هَذَا الحَدِيث، وَضَعفه الْأَزْدِيّ بالأخضر بن عجلَان فِي سَنَده، وَحجَّة الْجُمْهُور على تَقْدِير عدم الثُّبُوت أَنه لَو ساوم وَأَرَادَ شِرَاء سلْعَته وَأعْطى فِيهَا ثمنا لم يرض بِهِ صَاحب السّلْعَة وَلم يركن إِلَيْهِ ليَبِيعهُ فَإِنَّهُ يجوز لغيره طلب شِرَائهَا قطعا، وَلَا يَقُول أحد إِنَّه يحرم السّوم بعد ذَلِك قطعا، كالخطبة على خطْبَة أَخِيه إِذا رد الْخَاطِب الأول، لِأَنَّهُ لَا فرق بَين الْمَوْضِعَيْنِ، وَذكر التِّرْمِذِيّ عَن بعض أهل الْعلم جَوَاز ذَلِك، يَعْنِي: بيع من يزِيد فِي الْغَنَائِم والمواريث، قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الْبَاب وَاحِد وَالْمعْنَى مُشْتَرك لَا تخْتَص بِهِ غنيمَة وَلَا مِيرَاث. قلت: روى الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أبي جَعْفَر عَن زيد بن أسلم عَن ابْن عمر، قَالَ: (نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن بيع المزايدة، وَلَا يبع أحدكُم على بيع أَخِيه إلاَّ الْغَنَائِم والمواريث) . ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيقين آخَرين: أَحدهمَا عَن الْوَاقِدِيّ بِمثلِهِ، وَقَالَ شَيخنَا، رَحمَه الله: وَالظَّاهِر أَن الحَدِيث خرج على الْغَالِب وعَلى مَا كَانُوا يعتادون فِيهِ مزايدة وَهِي غَنَائِم والمواريث فَإِنَّهُ وَقع البيع فِي غَيرهمَا مزايدة، فَالْمَعْنى وَاحِد، كَمَا قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ.
الرَّابِع: لَا يخْطب على خطْبَة أَخِيه، هَذَا إِنَّمَا يحرم إِذا حصل التَّرَاضِي صَرِيحًا، فَإِن لم يُصَرح وَلَكِن جرى مَا يدل على التَّرَاضِي: كالمشاورة وَالسُّكُوت عِنْد الْخطْبَة، فَالْأَصَحّ أَن لَا تَحْرِيم. وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: لَا يحرم حَتَّى يرْضوا بِالزَّوْجِ وَيُسمى الْمهْر، وَاسْتدلَّ بفاطمة بنت قيس: خطبني أَبُو جهم وَمُعَاوِيَة، فَلم يُنكر الشَّارِع ذَلِك، بل خطبهَا لأسامة. وَقد يُقَال: لَعَلَّ الثَّانِي لم يعلم بِخطْبَة الأول، وَأما الشَّارِع فَأَشَارَ لأسامة لِأَنَّهُ خطب وَلم يعلم أَنَّهَا رضيت بِوَاحِد مِنْهُمَا، وَلَو أخْبرته لم يشر عَلَيْهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلف أَصْحَابنَا فِي التراكن، فَقيل: هُوَ مُجَرّد الرضى بِالزَّوْجِ والميل إِلَيْهِ، وَقيل: تَسْمِيَة الصَدَاق. وَزعم الطَّبَرِيّ أَن النَّهْي فِيهَا مَنْسُوخ بخطبته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَاطِمَة بنت قيس لأسامة.
الْخَامِس: لَا تسْأَل الْمَرْأَة ... إِلَى آخِره، وَقد ذَكرْنَاهُ.

95 - (بابُ بَيْعِ المُزَايَدَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع المزايدة، وَهِي على وزن مفاعلة، تَقْتَضِي التشارك فِي أصل الْفِعْل بَين اثْنَيْنِ، وَلم يُصَرح بالحكم اكْتِفَاء بِمَا ذكره فِي الْبَاب.
وَقَالَ عَطَاءٌ أدْرَكْتُ النَّاسَ لاَ يَرَوْنَ بَأْسا فِيمَنْ يَزِيدُ بِبَيْعِ المَغَانِمَ
هَذَا يُوضح مَا فِي التَّرْجَمَة من الْإِبْهَام، وَهُوَ وَجه مُطَابقَة الْأَثر بالترجمة أَيْضا، وَقد وصل هَذَا التَّعْلِيق أَبُو بكر ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَمَّن سمع مُجَاهدًا وَعَطَاء قَالَا: لَا بَأْس بِبيع من يزِيد، وَهَذَا أَعم من تَقْيِيد البُخَارِيّ بِبيع الْمَغَانِم، وَقد ذكرنَا فِي الْبَاب السَّابِق مَا فِيهِ الْكِفَايَة.

1412 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا الحُسَيْنُ المَكْتِبُ عنْ عَطَاءِ بنِ أبِي رباحٍ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رجُلاً أعْتَقَ غلاَما لَهُ عنْ دُبُرٍ فاحْتاجَ فأخذَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي فاشْتَراهُ نُعَيْمُ بنُ عَبْدِ الله بِكذَا وكَذَا فدَفَعَهُ إلَيْهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (من يَشْتَرِيهِ مني؟) فعرضه للزِّيَادَة ليستقصي فِيهِ للْمُفلس الَّذِي بَاعه عَلَيْهِ، وَبِهَذَا

(11/260)


يرد على الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي قَوْله: لَيْسَ فِي قصَّة الْمُدبر بيع المزايدة، فَإِن بيع المزايدة أَن يُعْطي بِهِ وَاحِد ثمنا؟ ثمَّ يُعْطي بِهِ غَيره زِيَادَة عَلَيْهَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد، الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك، الثَّالِث: الْحُسَيْن بن ذكْوَان الْمعلم الْمكتب، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من التكتيب، وَقَالَ الْكرْمَانِي: من الاكتاب، وَلَيْسَ كَذَلِك. الرَّابِع: عَطاء. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه وَعبد الله مروزيان وَأَن الْحُسَيْن بَصرِي وَعَطَاء مكي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاستقراض عَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم من طرق كَثِيرَة، وَأخرج من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر بن عبد الله أَن رجلا من الْأَنْصَار أعتق غُلَاما لَهُ عَن دبر لم يكن لَهُ مَال غَيره، فَبلغ ذَلِك النبيَّ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: (من يَشْتَرِيهِ مني؟ فَاشْتَرَاهُ نعيم بن عبد الله بثمانمائة دِرْهَم، فَدَفعهَا إِلَيْهِ) . قَالَ عَمْرو: سَمِعت جَابر بن عبد الله يَقُول: عبدا قبطيا، مَاتَ عَام أول، وَفِي لفظ لَهُ: فِي إِمَارَة ابْن الزبير. وَأخرجه أَبُو دَاوُد حَدثنَا أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا هشيم عَن عبد الملك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن سَلمَة بن كهيل عَن عَطاء عَن جَابر بن عبد الله: أَن رجلا اعْتِقْ غُلَاما لَهُ عَن دبر مِنْهُ وَلم يكن لَهُ مَال غَيره، فَأمر بِهِ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبيع بسبعمائة أَو تِسْعمائَة. وَفِي لفظ لَهُ، قَالَ، يَعْنِي النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنْت أَحَق بِثمنِهِ وَالله أغْنى عَنهُ) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر: أَن رجلا من الْأَنْصَار دبر غُلَاما لَهُ فَمَاتَ وَلم يتْرك مَالا غَيره، فَبَاعَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاشْتَرَاهُ نعيم ابْن النحام ... الحَدِيث. وَأخرجه النَّسَائِيّ من طرق كَثِيرَة، فَمن طَرِيق أبي الزبير عَن جَابر: أَن رجلا من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: أَبُو مَذْكُور أعتق غُلَاما لَهُ عَن دبر يُقَال لَهُ يَعْقُوب لم يكن لَهُ مَال غَيره، فَدَعَا بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: من يَشْتَرِيهِ؟ فَاشْتَرَاهُ نعيم بن عبد الله بثمانمائة دِرْهَم، فَدَفعهَا إِلَيْهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: دبر رجل منا غُلَاما، وَلم يكن لَهُ مَال غَيره، فَبَاعَهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاشْتَرَاهُ ابْن النحام، رجل من بني عدي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن رجلا) ، هَذَا الرجل من الْأَنْصَار، كَمَا قَالَ فِي رِوَايَة لمُسلم: (أعتق رجل من بني عذرة يُقَال لَهُ: أَبُو مَذْكُور) ، وَكَذَا وَقع بكنيته عِنْد مُسلم وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : فِي بَاب الكنى: أَبُو مَذْكُور الصَّحَابِيّ أعتق غُلَاما لَهُ عَن ذبر. قَوْله: (غُلَاما لَهُ) ، واسْمه يَعْقُوب، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن النَّسَائِيّ الْآن، وَكَذَا ذكره فِي رِوَايَة لمُسلم وَأبي دَاوُد. قَوْله: (عَن دبر) ، بِأَن قَالَ: أَنْت حر بعد موتِي. قَوْله: (نعيم بن عبد الله) ، نعيم، بِضَم النُّون تَصْغِير النعم ابْن عبد الله النحام، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الْحَاء الْمُهْملَة: الْعَدوي الْقرشِي، وَوصف بالنحام لِأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (دخلت الْجنَّة فَسمِعت نحمة نعيم فِيهَا) . والنَّحمة: السعلة، أسلم قَدِيما وَأقَام بِمَكَّة إِلَى قُبَيل الْفَتْح، وَكَانَ يمنعهُ قومه من الْهِجْرَة لشرفه فيهم، لِأَنَّهُ ان ينْفق عَلَيْهِم، فَقَالُوا: أقِم عندنَا على أَي دين شِئْت، وَلما قدم الْمَدِينَة اعتنقه رَسُول الله تصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَبله، وَاسْتشْهدَ يَوْم اليرموك سنة خمس عشرَة، وَقيل: اسْتشْهد يَوْم أجنادين فِي خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة ثَلَاث عشرَة، وَعرفت مِمَّا ذَكرْنَاهُ أَن النحام صفة لنعيم، وَوَقع للْبُخَارِيّ فِي: بَاب من رد أَمر السَّفِيه والضعيف الْعقل، عقيب: بَاب الاستقراض، فابتاعه مِنْهُ نعيم بن النحام، وَكَذَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: فَاشْتَرَاهُ نعيم بن النحام، وَكَذَا وَقع فِي (مُسْند) أَحْمد: وَالصَّوَاب: نعيم بن عبد الله، كَمَا وَقع هَهُنَا، وَفِي رِوَايَة مُسلم، وَزِيَادَة ابْن، خطأ من بعض الروَاة، فَإِن النحام صفة لنعيم لَا لأبيإ، كَمَا ذكرناوفي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ (فَمَاتَ وَلم يتركمالا غَيره) وَهَذَا مِمَّا نسب بِهِ سُفْيَان بن عُيَيْنَة إِلَى الْخَطَأ، أَعنِي: قَوْله: فَمَاتَ، وَلم يكن سَيّده مَاتَ، كَمَا هُوَ مُصَرح بِهِ فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَقد بَين الشَّافِعِي خطأ ابْن عُيَيْنَة فِيهَا بعد أَن رَوَاهُ عَنهُ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق شريك عَن سَلمَة بن كهيل عَن عَطاء وَأبي الزبير عَن جَابر: أَن رجلا مَاتَ وَترك مُدبرا ودينا، ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد أَجمعُوا على خطأ شريك فِي ذَلِك. وَقَالَ شَيخنَا: وَقد رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ وحسين الْمعلم وَعبد الْمجِيد بن سُهَيْل، كلهم عَن عَطاء، لم يذكر أحد مِنْهُم هَذِه اللَّفْظَة، بل صَرَّحُوا بِخِلَافِهَا، قَوْله: (بِكَذَا وَكَذَا) ، وَقد بَينه مُسلم فِي رِوَايَته: (بثمانمائة دِرْهَم) ، وَفِي

(11/261)


رِوَايَة أبي دَاوُد: (بسبعمائة أَو تِسْعمائَة) . قَوْله: (فَدفعهُ إِلَيْهِ) ، أَي: فَدفع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثّمن الَّذِي بيع بِهِ الْمُدبر الْمَذْكُور إِلَيْهِ، أَي: إِلَى الرجل الْمَذْكُور، وَهُوَ نعيم بن عبد الله.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث جَابر، قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا الحَدِيث عِنْد بعض أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم: لم يرَوا بِبيع الْمُدبر بَأْسا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق، وَكره قوم من أهل الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بيع الْمُدبر، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ. وَفِي (التَّلْوِيح: اخْتلف الْعلمَاء هَل الْمُدبر يُبَاع أم لَا؟ فَذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَجَمَاعَة من أهل الْكُوفَة إِلَى أَنه لَيْسَ للسَّيِّد أَن يَبِيع مدبره، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَأهل الظَّاهِر، وَهُوَ قَول عَائِشَة وَمُجاهد وَالْحسن وطاووس، وَكَرِهَهُ ابْن عمر وَزيد بن ثَابت، وَمُحَمّد بن سِيرِين وَابْن الْمسيب وَالزهْرِيّ وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي ليلى وَاللَّيْث بن سعد، وَعَن الْأَوْزَاعِيّ لَا يُبَاع إلاَّ من رجل يُرِيد عتقه، وَجوز أَحْمد بَيْعه بِشَرْط أَن يكون على السَّيِّد دين، وَعَن مَالك يجوز بَيْعه عِنْد الْمَوْت، وَلَا يجوز فِي حَال الْحَيَاة، وَكَذَا ذكره ابْن الْجَوْزِيّ عَنهُ، وَحكى مَالك إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة على بيع الْمُدبر أَو هِبته.
وَعند أَئِمَّتنَا الْحَنَفِيَّة: الْمُدبر على نَوْعَيْنِ: مُدبر مُطلق: نَحْو مَا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ: إِذا مت فَأَنت حر أَو أَنْت حر يَوْم أَمُوت. أَو أَنْت حر عَن دبر مني، أَو أَنْت مُدبر، أَو دبرتك، فَحكم هَذَا أَنه: لَا يُبَاع وَلَا يُوهب ويستخدم ويؤجر وتوطؤ الْمُدبرَة وَتنْكح، وبموت الْمولى يعْتق الْمُدبر من ثلث مَاله، وَيسْعَى فِي ثُلثَيْهِ أَي: ثُلثي قِيمَته إِن كَانَ الْمولى فَقِيرا، وَلم يكن لَهُ مَال غَيره، وَيسْعَى فِي كل قِيمَته لَو كَانَ مديونا بدين مُسْتَغْرق جَمِيع مَاله.
النَّوْع الثَّانِي: مُدبر مُقَيّد نَحْو قَوْله: إِن مت من مرضِي هَذَا، أَو سَفَرِي هَذَا، فَأَنت حر، أَو قَالَ: إِن مت إِلَى عشر سِنِين أَو بعد موت، فلَان، وَيعتق إِن وجد الشَّرْط، وإلاَّ فَيجوز بَيْعه.
وَاحْتَجُّوا فِي عدم جَوَاز بيع الْمُدبر الْمُطلق بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة عُبَيْدَة بن حسان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُدبر لَا يُبَاع وَلَا يُوهب وَهُوَ حر من الثُّلُث) ، فَإِن قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسْندهُ غير عُبَيْدَة بن حسان، وَهُوَ ضَعِيف، وَإِنَّمَا هُوَ عَن ابْن عمر من قَوْله. وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا عَن عَليّ بن ظبْيَان، حَدثنَا عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا، وَغير ابْن ظبْيَان يرويهِ مَوْقُوفا، وَعلي بن ظبْيَان ضَعِيف. قلت: احْتج بِهَذَا الحَدِيث الْكَرْخِي والطَّحَاوِي والرازي وَغَيرهم، وهم أساطين فِي الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ: إِن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رد بيع الْمُدبرَة فِي مَلأ خير الْقُرُون، وهم حُضُور متوافرون، وَهُوَ إِجْمَاع مِنْهُم: أَن بيع الْمُدبر لَا يجوز.
وَالْجَوَاب عَن حَدِيث جَابر من وُجُوه. الأول: قَالَ ابْن بطال: لَا حجَّة فِيهِ، لِأَن فِي الحَدِيث أَن سَيّده كَانَ عَلَيْهِ دين فَثَبت أَن بَيْعه كَانَ لذَلِك. الثَّانِي: أَنَّهَا قَضِيَّة عين تحْتَمل التَّأْوِيل، وتأوله بعض الْمَالِكِيَّة على أَنه لم يكن لَهُ مَال غَيره، فَرد تصرفه. الثَّالِث: أَنه يحْتَمل أَنه بَاعَ منفعَته بِأَن أجره، وَالْإِجَارَة تسمى بيعا بلغَة أهل الْيمن، لِأَن فِيهَا بيع الْمَنْفَعَة. وَيُؤَيِّدهُ مَا ذكره ابْن حزم، فَقَالَ: وَرُوِيَ عَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا، أَنه بَاعَ خدمَة الْمُدبر، وَقَالَ ابْن سِيرِين: لَا بَأْس بِبيع خدمَة الْمُدبر، وَكَذَا قَالَه ابْن الْمسيب، وَذكر أَبُو الْوَلِيد عَن جَابر أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَاعَ خدمَة الْمُدبر. الرَّابِع: أَن سيد الْمُدبر الَّذِي بَاعه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ سَفِيها، فَلهَذَا تولى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَيْعه بِنَفسِهِ. وَبيع الْمُدبر عِنْد من يجوزه لَا يفْتَقر فِيهِ إِلَى بيع الإِمَام. الْخَامِس: يحْتَمل أَنه بَاعه فِي وَقت كَانَ يُبَاع الْحر الْمَدْيُون، كَمَا رُوِيَ أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَاعَ حرا بِدِينِهِ، ثمَّ نسخ بقوله تَعَالَى: {وَإِن كَانَ ذُو عسرة فنظرة إِلَى ميسرَة} (الْبَقَرَة: 082) .

06 - (بابُ النَّجْشِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم النجش، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم وَفتحهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي قَوْله: (وَلَا تتناجشوا) فِي: بَاب لَا يَبِيع على بيع أَخِيه.
ومَنْ قَالَ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ الْبَيْعُ

(11/262)


أَي: وَبَاب فِي بَيَان من قَالَ: لَا يجوز، عطفا على: بَاب النجش وَقَوله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى البيع الَّذِي وَقع بالنجش، وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَنقل ابْن الْمُنْذر عَن طَائِفَة من أهل الحَدِيث فَسَاد ذَلِك البيع، وَهُوَ قَول أهل الظَّاهِر، وَرِوَايَة عَن مَالك، وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْحَنَابِلَة: إِذا كَانَ ذَلِك بمواطأة البَائِع وصنيعه، وَالْمَشْهُور عِنْد الْمَالِكِيَّة فِي مثل ذَلِك ثُبُوت الْخِيَار، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيّ قِيَاسا على الْمُصراة، وَالأَصَح عِنْدهم صِحَة البيع مَعَ الْإِثْم، وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة.
وَقَالَ ابنُ أبِي أوْفَى النَّاجِشُ آكِلُ رِبا خائِنٌ
ابْن أبي أوفى هُوَ عبد الله بن أبي أوفى، وَاسم أبي أوفى: عَلْقَمَة بن خَالِد بن الْحَارِث أَبُو إِبْرَاهِيم، وَقيل: أَبُو مُحَمَّد، وَقيل: أَبُو مُعَاوِيَة، أَخُو زيد بن أبي أوفى، لَهما ولأبيهما صُحْبَة، وَهُوَ من جملَة من رَآهُ أَبُو حنيفَة، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْكُوفَةِ، وَهَذَا طرف من حَدِيث أوردهُ البُخَارِيّ فِي الشَّهَادَات فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا} (آل عمرَان: 77) . ثمَّ سَاق فِيهِ من طَرِيق يزِيد بن هَارُون عَن السكْسكِي عَن عبد الله بن أبي أوفى، قَالَ: أَقَامَ رجل سلْعَته فَحلف بِاللَّه لقد أعطي بهَا مَا لم يُعْط، فَنزلت. قَالَ ابْن أبي أوفى: الناجش آكل رَبًّا خائن، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن ابْن أبي أوفى مَرْفُوعا، لَكِن قَالَ: مَلْعُون، بدل: خائن. قَوْله: (الناجش) ، اسْم فَاعل من نجش، وَقد مر تَفْسِيره. قَوْله: (آكل رَبًّا) . قَالَ الْكرْمَانِي: أَي كآكل الرِّبَا، قلت: مُرَاده الْمُبَالغَة فِي كَونه عَاصِيا مَعَ علمه بِالنَّهْي، كَمَا أَن آكل الرِّبَا عاصٍ مَعَ علمه بِحرْمَة الرِّبَا، ويروى: آكل الرِّبَا بِالْألف وَاللَّام. قَوْله: (خائن) ، خبر بعد خبر، وخيانته فِي كَونه غاشا خادعا.
وهْوَ خِدَاعٌ باطِلٌ لاَ يَحِلُّ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ أَي: النجش خداع أَي: مخادعة لِأَنَّهُ مشارك لمن يزِيد فِي السّلْعَة، وَهُوَ لَا يُرِيد أَن يَشْتَرِيهَا بغرور الْغَيْر وخداعه. قَوْله: (بَاطِل) غير حق لَا يُفِيد شَيْئا أصلا لَا يحل فعله.
قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الخَدِيعَةُ فِي النَّارِ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من حَدِيث قيس بن سعد بن عبَادَة: لَوْلَا أَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الْمَكْر والخديعة فِي النَّار لَكُنْت من أمكر النَّاس) ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ. قَوْله: (الخديعة فِي النَّار) أَي: صَاحب الخديعة فِي النَّار، وَيحْتَمل أَن يكون فعيلاً بِمَعْنى الْفَاعِل، وَالتَّاء للْمُبَالَغَة نَحْو: رجل عَلامَة.
ومنْ عَمَلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنا فَهْوَ رَدٌّ
أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من عمل) الحَدِيث، وَهَذَا يَأْتِي مَوْصُولا من حَدِيث عَائِشَة فِي كتاب الصُّلْح. قَوْله: (أمرنَا) ، أَي: شرعنا الَّذِي نَحن عَلَيْهِ. قَوْله: (فَهُوَ رد) أَي: مَرْدُود عَلَيْهِ فَلَا يقبل مِنْهُ.

2412 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدثنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ النَّجْشِ. (الحَدِيث 2412 طرفه فِي: 3696) .

قد مر تَفْسِير النجش وَمَا فِيهِ من أَقْوَال الْعلمَاء، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي ترك الْحِيَل عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن مُصعب بن عبد الله الزبيرِي وَأبي حذافة أَحْمد بن إِسْمَاعِيل، قَالَ أَبُو عمر: رَوَاهُ أَبُو سعيد إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد قَاضِي الْمَدَائِن عَن يحيى بن مُوسَى الْبَلْخِي أَنبأَنَا عبد الله بن نَافِع عَن مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التَّخْيِير، والتخيير أَن يمدح الرجل السّلْعَة بِمَا لَيْسَ فِيهَا، هَكَذَا قَالَ التَّخْيِير، وَفَسرهُ، وَلم يُتَابع على هَذَا اللَّفْظ، وَالْمَعْرُوف النجش.

16 - (بابُ بَيْعِ الْغَرَرِ وحَبْلِ الْحَبَلَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْغرَر، وَبَيَان حكم بيع حَبل الحبلة. (الْغرَر) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وبراءين أولاهما مَفْتُوحَة

(11/263)


وَهُوَ فِي الأَصْل الْخطر، من: غر يغر، بِالْكَسْرِ، والخطر هُوَ الَّذِي لَا يدْرِي أَيكُون أم لَا. وَقَالَ ابْن عَرَفَة: الْغرَر هُوَ مَا كَانَ ظَاهره يغر وباطنه مَجْهُول، وَمِنْه سمي الشَّيْطَان: غرُورًا، لِأَنَّهُ يحمل على محاب النَّفس، ووراء ذَلِك مَا يسوء، قَالَ: والغرور مَا رَأَيْت لَهُ ظَاهر تحبه وباطنه مَكْرُوه أَو مَجْهُول. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: بيع الْغرَر مَا يكون على غير عُهْدَة ولاثقة. قَالَ: وَيدخل فِيهَا الْبيُوع الَّتِي لَا يُحِيط بكنهها الْمُتَبَايعَانِ. وَقَالَ صَاحب (الْمَشَارِق) : بيع الْغرَر بيع المخاطرة، وَهُوَ الْجَهْل بِالثّمن أَو الْمُثمن أَو سَلَامَته أَو أَجله.
وَقَالَ أَبُو عمر: بيع يجمع وُجُوهًا كَثِيرَة. مِنْهَا: الْمَجْهُول كُله فِي الثّمن أَو الْمُثمن إِذا لم يُوقف على حَقِيقَة جملَته. وَمِنْهَا: بيع الْآبِق والجمل الشارد وَالْحِيتَان فِي الآجام والطائر غير الدَّاجِن، قَالَ: والقمار كُله من بيع الْغرَر، وَحكى التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي أَن بيع السّمك فِي المَاء من بُيُوع الْغرَر وَبيع الطير فِي السَّمَاء وَالْعَبْد الْآبِق وَقَالَ شَيخنَا مَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الشَّافِعِي من أَن بيع السّمك فِي المَاء من بُيُوع الْغرَر، وَهُوَ فِيمَا إِذا كَانَ السّمك فِي مَاء كثير بِحَيْثُ لَا يُمكن تَحْصِيله مِنْهُ، وَكَذَا إِذا كَانَ يُمكن تَحْصِيله، وَلَكِن بِمَشَقَّة شَدِيدَة. وَأما إِذا كَانَ فِي مَاء يسير بِحَيْثُ يُمكن تَحْصِيله مِنْهُ بِغَيْر مشقة فَإِنَّهُ يَصح، لِأَنَّهُ مَقْدُور على تَحْصِيله وتسليمه، وَهَذَا كُله إِذا كَانَ مرئيا فِي المَاء الْقَلِيل بِأَن يكون المَاء صافيا، فَأَما إِذا لم يكن مرئيا بِأَن يكون كدرا فَإِنَّهُ لَا يَصح بِلَا خلاف، كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ والرافعي، قلت: بيع الْآبِق يَصح إِذا كَانَ البَائِع وَالْمُشْتَرِي يعرفان مَوْضِعه، كَذَا قَالَه أَصْحَابنَا. وَقَالَ شَيخنَا: يدْخل فِي بيع الطير فِي السَّمَاء بيع حمام البرج فِي حَال طيرانه، وَإِن جرت عَادَته بِالرُّجُوعِ لِأَنَّهُ يجوز أَن لَا يرجع، وَذهب بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي إِلَى صِحَة البيع لجَرَيَان الْعَادة بِرُجُوعِهِ. وَأما إِذا كَانَ فِي البرج فَحكمه حكم بيع السّمك فِي المَاء الْيَسِير، فَإِن كَانَ فِيهِ كوىً مَفْتُوحَة لَا يُؤمن خُرُوجه لم يَصح، وَإِن لم يُمكنهُ الْخُرُوج، وَلَكِن كَانَ البرج كَبِيرا بِحَيْثُ يحصل التَّعَب وَالْمَشَقَّة فِي تَحْصِيله لم يَصح أَيْضا. قَالَ: وَفرق الْأَصْحَاب بَين بيع الْحمام فِي حَال غيبته عَن البرج، وَبَين بيع النَّحْل فِي حَال غيبته عَن الكوارة، فصححوا الْمَنْع فِي حمام البرج وصححوا الصِّحَّة فِي بيع النَّحْل، وَالْفرق بَينهمَا أَن الطير تعترضه الْجَوَارِح فِي خُرُوجه بِخِلَاف النَّحْل، وَقيد ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب صِحَة بيع النَّحْل فِيمَا إِذا كَانَت أم النَّحْل فِي الكوارة، فَإِذا لم تكن لَا يَصح.
فَإِن قلت: لم يذكر فِي الْبَاب بيع الْغرَر صَرِيحًا وَذكره فِي التَّرْجَمَة لماذا؟ قلت: لما كَانَ فِي حَدِيث الْبَاب النَّهْي عَن بيع حَبل الحبلة، وَهُوَ نوع من أَنْوَاع بيع الْغرَر، ذكر الْغرَر الَّذِي هُوَ عَام، ثمَّ عطف عَلَيْهِ حَبل الحبلة من عطف الْخَاص على الْعَام، لينبه بذلك على أَن أَنْوَاع الْغرَر كَثِيرَة، وَإِن لم يذكر مِنْهَا إلاَّ حَبل الحبلة من بَاب التَّنْبِيه بِنَوْع مَمْنُوع مَخْصُوص مَعْلُول بعلة على كل نوع تُوجد فِيهِ تِلْكَ الْعلَّة.
وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة فِي النَّهْي عَن بيع الْغرَر. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن بيع الْحَصَاة، وَعَن بيع الْغرَر) ، وَأخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث نَافِع عَنهُ، قَالَ: (نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن بيع الْغرَر) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث عَطاء عَنهُ، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْغرَر) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد، أخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث شهر بن حَوْشَب عَنهُ، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شِرَاء مَا فِي بطُون الْأَنْعَام حَتَّى تضع، وَعَما فِي ضروعها إلاَّ بكيل، وَعَن شِرَاء العَبْد وَهُوَ آبق، وَعَن شِرَاء الْمَغَانِم حَتَّى تقسم، وَعَن شِرَاء الصَّدقَات حَتَّى تقبض، وَعَن ضَرْبَة القانص) . وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَبُو دَاوُد وَفِيه قد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْمُضْطَر وَبيع الْغرَر وَبيع التمرة قبل أَن تدْرك. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن مَسْعُود أخرجه أَحْمد عَنهُ. قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تشتروا السّمك فِي المَاء فَإِنَّهُ غرر) . وَمِنْهَا: حَدِيث عمرَان بن الْحصين، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه ابْن أبي عَاصِم فِي كتاب الْبيُوع: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نهى عَن بيع مَا فِي ضروع الْمَاشِيَة قبل أَن تحلب، وَعَن بيع الْجَنِين فِي بطُون الْأَنْعَام، وَعَن بيع السّمك فِي المَاء، وَعَن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة وَعَن بيع الْغرَر) .
93 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر رَضِي

(11/264)


الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن بيع حَبل الحبلة) مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة بل هِيَ جُزْء من الحَدِيث والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع أَيْضا عَن القعْنبِي عَن مَالك وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك وَلَيْسَ التَّفْسِير فِي حَدِيث القعْنبِي قَوْله " حَبل الحبلة " بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة فيهمَا وَحكى النَّوَوِيّ إسكان الْبَاء فِي الأول وَهُوَ غلط وَالصَّوَاب الْفَتْح وحبل الحبلة أَن تنْتج النَّاقة مَا فِي بَطنهَا وينتج الَّذِي فِي بَطنهَا فسر ذَلِك نَافِع وَذكر ابْن السّكيت وَأَبُو عبيد أَن الْحَبل مُخْتَصّ بالآدميات وَإِنَّمَا يُقَال فِي غَيْرهنَّ الْحمل قَالَ ابْن السّكيت إِلَّا فِي حَدِيث نهى عَن بيع حَبل الحبلة وَذَلِكَ أَن تكون الْإِبِل حوامل فيبيع حَبل ذَلِك الْحَبل وَفِي الْمُحكم كل ذَات ظفر حُبْلَى قَالَ الشَّاعِر
(أَو ذيخة حُبْلَى مجح مقرب ... )
(قلت) الذيخ بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف ذكر الضباع وَالْأُنْثَى ذيخة قَوْله مجح بِضَم الْمِيم وَكسر الْجِيم وَفِي آخِره حاء مُهْملَة مُشَدّدَة قَالَ أَبُو زيد قيس كلهَا تَقول لكل سَبْعَة إِذا حملت فأقربت وَعظم بَطنهَا قد أجحت فَهِيَ مجح والمقرب بِكَسْر الرَّاء إِذا قربت وِلَادَتهَا وَقَالَ ابْن دُرَيْد يُقَال لكل أُنْثَى من الْإِنْس وَغَيرهم حبلت وَكَذَا ذكره الْهَرَوِيّ والأخفش فِي نوادرهما وَفِي الْجَامِع امْرَأَة حُبْلَى وسنور حُبْلَى وَأنْشد
(إِن فِي دَارنَا ثَلَاث حبالى ... فوددنا لَو قد وضعن جَمِيعًا)

(جارتي ثمَّ هرتي ثمَّ شاتي ... فَإِذا مَا وضعن كن ربيعا)

(جارتي للمخيض والهر للفار ... وشاتي إِذا اشْتهيت مجيعا)
وَحَكَاهُ فِي الموعب عَن صَاحب الْعين وَالْكسَائِيّ وَهَذَا يرد قَول النَّوَوِيّ اتّفق أهل اللُّغَة أَن الْحَبل مُخْتَصّ بالآدميات وَفِي الغريبين أَن الْحَبل يُرَاد بِهِ مَا فِي بطُون النوق أدخلت فِيهَا الْهَاء للْمُبَالَغَة كَمَا تَقول نكحة وسخرة وَقَالَ صَاحب مجمع الغرائب لَيْسَ الْهَاء فِي الحبلة على قِيَاس نكحة وَلَا مُبَالغَة هَهُنَا فِي الْمَعْنى وَلَعَلَّ الْهَرَوِيّ طلب لزِيَادَة الْهَاء وَجها فَأطلق ذَلِك من غير تثبت وَفِي الْمغرب حَبل الحبلة مصدر حبلت الْمَرْأَة وَإِنَّمَا أدخلت التَّاء لإشعار الْأُنُوثَة لِأَن مَعْنَاهُ أَن يَبِيع مَا سَوف تحمله الْجَنِين إِن كَانَ أُنْثَى وَقَالَ بَعضهم الحبلة جمع حابل مثل ظلمَة وظالم وكتبة وَكَاتب وَالْهَاء للْمُبَالَغَة قلت لَيْسَ كَذَلِك وَقد قَالَ ابْن الْأَثِير الحبلة بِالتَّحْرِيكِ مصدر سمي بِهِ الْمَحْمُول كَمَا سمي بِالْحملِ وَإِنَّمَا دخلت عَلَيْهِ التَّاء للإشعار بِمَعْنى الْأُنُوثَة فِيهِ فالحبل الأول يرد بِهِ مَا فِي بطُون النوق من الْحمل وَالثَّانِي حَبل الَّذِي فِي بطُون النوق. (وَيُسْتَفَاد مِنْهُ) أَنه من بيع الْغرَر فَلَا يجوز قَالَ النَّوَوِيّ النَّهْي عَن بيع الْغرَر أصل من أصُول البيع فَيدْخل تَحْتَهُ مسَائِل كَثِيرَة جدا قلت وَقد ذكرنَا أنواعا من ذَلِك عَن قريب قَالَ وَمن بُيُوع الْغرَر مَا اعتاده النَّاس من الاستجرار من الْأَسْوَاق بالأوراق مثلا فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَن الثّمن لَيْسَ حَاضرا فَيكون من المعاطاة وَلم تُوجد صِيغَة يَصح بهَا العقد قلت هَذَا الَّذِي ذكره لَا يعْمل بِهِ لِأَن فِيهِ مشقة كَثِيرَة على النَّاس وَحُضُور الثّمن لَيْسَ بِشَرْط لصِحَّة العقد وَبيع المعاطاة صَحِيح وَجَمِيع النَّاس الْيَوْم فِي الْأَسْوَاق بالمعاطاة يَأْتِي رجل إِلَى بَايع فيشتري مِنْهُ جملَة قماش بِثمن معِين فَيدْفَع الثّمن وَيَأْخُذ الْمَبِيع من غير أَن يُوجد لفظ بِعْت واشتريت فَإِذا حكمنَا بِفساد هَذَا العقد يحصل فَسَاد كثير فِي معاملات النَّاس وروى الطَّبَرِيّ عَن ابْن سِيرِين بِإِسْنَاد صَحِيح قَالَ لَا أعلم بِبيع الْغرَر بَأْسا وَقَالَ ابْن بطال لَعَلَّه لم يبلغهُ النَّهْي وَإِلَّا فَكل مَا يُمكن أَن يُوجد وَأَن لَا يُوجد لم يَصح وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ لَا يَصح غَالِبا فَإِن كَانَ يَصح غَالِبا كالثمرة فِي أول بَدو صَلَاحهَا أَو كَانَ يَسِيرا تبعا كالحمل مَعَ الْحَامِل جَازَ لقلَّة الْغرَر وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَ ابْن سِيرِين لَكِن يمْنَع من ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَنهُ أَنه قَالَ لَا بَأْس بِبيع العَبْد الْآبِق إِذا كَانَ علمهما فِيهِ وَاحِد فَهَذَا يدل على أَنه بيع الْغرَر إِن سلم فِي الْمَآل
(وَكَانَ بيعا يتبايعه أهل الْجَاهِلِيَّة كَانَ الرجل يبْتَاع الْجَزُور إِلَى أَن تنْتج النَّاقة ثمَّ تنْتج الَّتِي فِي بَطنهَا) أَي كَانَ بيع حَبل الحبلة بيعا يتبايعه أهل الْجَاهِلِيَّة قَوْله " كَانَ الرجل " إِلَى آخِره بَيَان لقَوْله وَكَانَ بيعا قَوْله " يبْتَاع

(11/265)


الْجَزُور " بِفَتْح الْجِيم وَهُوَ وَاحِد الْإِبِل يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى (فَإِن قلت) ذكر الْجَزُور قيد أم لَا قلت لَا لِأَن حكم غير الْجَزُور مثل حكمه وَإِنَّمَا هُوَ مِثَال وَقَالَ بَعضهم يحْتَمل أَن يكون قيدا قلت هَذَا احْتِمَال غير ناشيء عَن دَلِيل فَلَا يعْتَبر بِهِ وَإِنَّمَا مثل بِهِ لِكَثْرَة الْجَزُور عِنْدهم قَوْله " إِلَى أَن تنْتج النَّاقة " بِضَم أَوله وَفتح ثالثه أَي تَلد ولدا وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول والناقة مَرْفُوع بِإِسْنَاد تنْتج إِلَيْهَا قَالَ الْجَوْهَرِي نتجت النَّاقة على مَا لم يسم فَاعله تنْتج نتاجا وَقد نتجها أَهلهَا نجا إِذا توَلّوا نتاجها بِمَنْزِلَة الْقَابِلَة للْمَرْأَة فَهِيَ منتوجة ونتجت الْفرس إِذا حَان نتاجها وَقَالَ يَعْقُوب إِذا استبان حملهَا وَكَذَلِكَ النَّاقة فَهِيَ نتوج وَلَا يُقَال منتج وَأَتَتْ النَّاقة على منتجها أَي الْوَقْت الَّذِي تنْتج فِيهِ وَهُوَ مفعل بِكَسْر الْعين وَيُقَال للشاتين إِذا كَانَتَا سنا وَاحِدًا هما نتيجة وغنم فلَان نتاج أَي فِي سنّ وَاحِدَة وَحكى الْأَخْفَش نتج وأنتج بِمَعْنى وَجَاء فِي الحَدِيث فأنتج هَذَانِ وَولد هَذَا وَقد أنكرهُ بَعضهم يَعْنِي أَن الصَّوَاب كَونه ثلاثيا قلت هَذَا فِي حَدِيث الْأَقْرَع والأبرص قَوْله " ثمَّ تنْتج الَّتِي فِي بَطنهَا " أَي ثمَّ تعيش المولودة حَتَّى تكبر ثمَّ تَلد قيل هَذَا زَائِد على رِوَايَة عبد الله بن عمر فَإِنَّهُ اقْتصر على قَوْله ثمَّ تحمل الَّتِي فِي بَطنهَا وَرِوَايَة جوَيْرِية أخصر مِنْهَا وَلَفظه أَن تنْتج النَّاقة مَا فِي بَطنهَا وبظاهر هَذِه الرِّوَايَة قَالَ سعيد بن الْمسيب فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ مَالك وَقَالَ بِهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاعَة وَهُوَ أَن يَبِيع بِثمن إِلَى أَن تَلد النَّاقة وَقَالَ آخَرُونَ أَن يَبِيع بِثمن إِلَى أَن تحمل الدَّابَّة وتلد وَتحمل وَلَدهَا وَلم يشترطوا وضع حمل الْوَلَد وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو عبيد وَأحمد واسحق وَابْن حبيب الْمَالِكِي وَأكْثر أهل اللُّغَة هُوَ بيع ولد نتاج الدَّابَّة وَالْمَنْع فِي هَذَا أَنه بيع مَعْدُوم ومجهول وَغير مَقْدُور على تَسْلِيمه. ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله " وَكَانَ بيعا " إِلَى آخِره هَكَذَا وَقع فِي الْمُوَطَّأ تَفْسِيرا مُتَّصِلا بِالْحَدِيثِ وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ هُوَ مدرج يَعْنِي أَن التَّفْسِير من كَلَام نَافِع وَقَالَ الْخَطِيب تَفْسِير حَبل الحبلة لَيْسَ من كَلَام عبد الله بن عمر إِنَّمَا هُوَ من كَلَام نَافِع أدرج فِي الحَدِيث ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق أبي سَلمَة التَّبُوذَكِي حَدثنَا جوَيْرِية عَن نَافِع عَن عبد الله أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يبتاعون الْجَزُور إِلَى حَبل الحبلة وَأَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عَن ذَلِك وَقد أخرجه مُسلم من رِوَايَة اللَّيْث وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أَيُّوب كِلَاهُمَا عَن نَافِع بِدُونِ التَّفْسِير وَأخرجه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر بِدُونِ التَّفْسِير أَيْضا وَالله أعلم
26 - (بابُ بَيْعِ المُلامَسَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْمُلَامسَة، وَهِي مفاعلة من اللَّمْس، وَقد علم أَن بَاب المفاعلة لمشاركة اثْنَيْنِ فِي أصل الْفِعْل. وَفِي (الْمغرب) : الْمُلَامسَة واللماس أَن يَقُول لصَاحبه: إِذا لمست ثَوْبك ولمست ثوبي فقد وَجب البيع. وَعَن أبي حنيفَة: هِيَ أَن يَقُول: أبيعك هَذَا الْمَتَاع بِكَذَا، فَإِذا لمستك وَجب البيع، أَو يَقُول المُشْتَرِي كَذَلِك، وَيُقَال: الْمُلَامسَة أَن يلمس ثوبا مطويا ثمَّ يَشْتَرِيهِ على أَن لَا خِيَار لَهُ إِذا رَآهُ، أَو يَقُول: إِذا لمسته فقد بعتكه أَو يَبِيعهُ شَيْئا على أَنه مَتى لمسه فقد لزم البيع، وَعَن الزُّهْرِيّ: الْمُلَامسَة لمس الرجل ثوب الآخر بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ، أَو النَّهَار، وَلَا يقلبه إلاَّ بذلك، وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: الْمُلَامسَة أَن يَقُول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك، وَلَا ينظر وَاحِد مِنْهُمَا ثوب الآخر، وَلَكِن بلمسه لمسا. وَيُقَال: اخْتلف الْعلمَاء فِي تَفْسِير الْمُلَامسَة على ثَلَاث صور هِيَ أوجه للشَّافِعِيَّة. أَصَحهَا: أَن يَأْتِي بِثَوْب مطوي أَو فِي ظلمَة فيلمسه المستام، فَيَقُول لَهُ صَاحب الثَّوْب، بعتكه بِكَذَا بِشَرْط أَن يقوم لمسك مقَام نظرك، وَلَا خِيَار لَك إِذا رَأَيْته. الثَّانِي: أَن يجعلا نفس اللَّمْس بيعا بِغَيْر صِيغَة زَائِدَة. الثَّالِث: أَن يجعلا للمس شرطا فِي قطع خِيَار الْمجْلس، وَغَيره وَالْبيع على التأويلات كلهَا بَاطِل.
وَقَالَ أنسٌ نَهَى عنهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: نهى عَن بيع الْمُلَامسَة، وَبِهَذَا اتَّضَح حكم التَّرْجَمَة لِأَنَّهَا على إِطْلَاقهَا تحْتَمل الْمَنْع، وتحتمل الْجَوَاز، وَهُوَ تَعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب بيع المخاصرة، عَن أنس: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المحاقلة والمخاصرة وَالْمُلَامَسَة والمنابذة والمزابنة. والمخاصرة: بيع الثِّمَار خصرا لم يبد صَلَاحهَا.

(11/266)


4412 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عفَيْرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخبرنِي عامِرُ بنُ سعْدٍ أنَّ أبَا سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أخْبَرَهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنِ المُنَابَذَةِ وهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بالْبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أنْ يُقَلِّبَهُ أوْ يَنْظُرَ إلَيْهِ ونَهَى عَنِ المُلاَمَسَةِ والمُلاَمَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَنهى عَن الْمُلَامسَة) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَسَعِيد بن عفير: هُوَ سعيد بن كثير بن عفير: بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء: الْمصْرِيّ، وَعقيل: بِضَم الْعين ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وعامر بن سعد بن أبي وَقاص، مر فِي الْإِيمَان، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ اسْمه سعد بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن أبي الطَّاهِر وحرملة بن يحيى وَعَن عَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن صَالح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى والْحَارث بن مِسْكين، وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْمُنَابذَة) ، مفاعلة من النبذ، وَقد ذكرنَا أَن المفاعلة تستدعي الْفِعْل من الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يُوجد هَذَا إلاَّ فِيمَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق عَطاء بن ميناء عَن أبي هُرَيْرَة. أما الْمُلَامسَة فَأن يلمس كل وَاحِد مِنْهُمَا ثوب صَاحبه بِغَيْر تَأمل. والمنابذة: أَن ينْبذ كل وَاحِد مِنْهُمَا ثَوْبه إِلَى الآخر لم ينظر وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى ثوب صَاحبه، وَقيل: أَن يَجْعَل النبذ نفس البيع، وَهُوَ تَأْوِيل الشَّافِعِي. وَقيل: يَقُول: بِعْتُك، فَإِذا انبذته إِلَيْك فقد انْقَطع الْخِيَار، وَلُزُوم البيع. وَقيل: المُرَاد نبذ الْحَصَى، ونبذ الْحَصَاة أَن يَقُول: بِعْتُك من هَذِه الأثواب مَا وَقعت عَلَيْهِ الْحَصَاة الَّتِي أرميها، أَو: بِعْتُك من هَذِه الأَرْض من هُنَا إِلَى مَا انْتَهَت إِلَيْهِ الْحَصَاة، أَو يَقُول: بِعْتُك ولي الْخِيَار إِلَى أَن أرمي هَذِه الْحَصَاة، أَو يجعلا نفس الرَّمْي بالحصاة بيعا، مَعْنَاهُ: أَن يَقُول: إِذا رميت هَذَا الثَّوْب بالحصاة فَهُوَ بيع مِنْك بِكَذَا. وَهَذَانِ البيعان أَعنِي: الْمُلَامسَة والمنابذة عِنْد جمَاعَة الْعلمَاء من بيع الْغرَر والقمار لِأَنَّهُ إِذا لم يتَأَمَّل مَا اشْتَرَاهُ وَلَا علم صفته يكون مغرورا، وَمن هَذَا بيع الشَّيْء الْغَائِب على الصّفة فَإِن وجد كَمَا وصف لزم المُشْتَرِي وَلَا خِيَار لَهُ إِذا رَآهُ، وَإِن كَانَ على غير الصّفة فَلهُ الْخِيَار، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن سِيرِين وَأَيوب والْحَارث العكلي وَالْحكم وَحَمَّاد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: يجوز بيع الْغَائِب على الصّفة وَغير الصّفة، وَللْمُشْتَرِي خِيَار الرُّؤْيَة، وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَكْحُول وَالْأَوْزَاعِيّ وسُفْيَان، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَأَنَّهُمْ استندوا إِلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن أبي هُرَيْرَة يرفعهُ: (من اشْترى شَيْئا لم يره فَلهُ الْخِيَار) . قلت: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن داهر بن نوح: حَدثنَا عمر بن إِبْرَاهِيم بن خَالِد الْكرْدِي حَدثنَا وهيب الْيَشْكُرِي عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى شَيْئا لم يره فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذا رَآهُ) ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: عمر بن إِبْرَاهِيم هَذَا يُقَال لَهُ الْكرْدِي، يضع الْأَحَادِيث، وَهَذَا بَاطِل لَا يَصح لم يروه غَيره، وَإِنَّمَا يرْوى عَن ابْن سِيرِين من قَوْله: (قلت) روى الطَّحَاوِيّ عَن عَلْقَمَة بن أبي وَقاص أَن طَلْحَة اشْترى من عُثْمَان بن عَفَّان مَالا، فَقيل لعُثْمَان: إِنَّك قد غبنت! فَقَالَ عُثْمَان: لي الْخِيَار، لِأَنِّي بِعْت مَا لم أره. وَقَالَ طَلْحَة: لِأَنِّي اشْتريت مَا لم أره، فحكَّما بَينهمَا جُبَير بن مطعم، فَقضى أَن الْخِيَار لطلْحَة وَلَا خِيَار لعُثْمَان.

5412 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَبدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ محَمَّدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ نُهِيَ عنْ لِبْسَتَيْنِ أنْ يَحْتَبيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ ثُمَّ يَرْفَعُهُ عَلى مَنْكِبِهِ وعنْ بَيْعَتَيْنِ اللِّمَاسِ والنِّبَاذِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والنباذ) ، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب مَا يستر من الْعَوْرَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن قبيصَة عَن عقبَة عَن سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيعَتَيْنِ، عَن

(11/267)


اللماس والنباذ، وَأَن يشْتَمل الصماء، وَأَن يحتبي الرجل فِي ثوب وَاحِد) . وَأخرجه هُنَا: عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة. وَقد أخرج البُخَارِيّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة من طرق، وَلم يذكر فِي شَيْء مِنْهَا تَفْسِير الْمُنَابذَة وَالْمُلَامَسَة. وَوَقع فِي تفسيرهما فِي (صَحِيح مُسلم) وَالنَّسَائِيّ، وَظَاهر الطّرق كلهَا أَن التَّفْسِير من الحَدِيث الْمَرْفُوع، لَكِن وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ مَا يشْعر بِأَنَّهُ من كَلَام من دون النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظه: وَزعم أَن الْمُلَامسَة أَن يَقُول ... إِلَى آخِره فَالْأَقْرَب أَن يكون ذَلِك من الصَّحَابِيّ لبعد أَن يعبر الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظ وَزعم، ولوقوع التَّفْسِير فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ من قَوْله أَيْضا: (نهى عَن لبستين) اقْتصر على لبسة وَاحِدَة، قَالَ الْكرْمَانِي: اختصر الحَدِيث. وَالنَّوْع الثَّانِي هُوَ اشْتِمَال الصماء، وَقد تَركه لشهرته. قلت: مَا يُعجبنِي هَذَا الْجَواب، وَلَيْسَ الْموضع مِمَّا يقبل الِاخْتِصَار، لِأَن الْمَذْكُور فِيهِ شَيْئَانِ، فَكيف يتْرك أَحدهمَا اختصارا لشهرته؟ فلقائل أَن يَقُول: لِمَ ترك النَّوْع الأول وَهُوَ أشهر من النَّوْع الثَّانِي؟ وَأَيْضًا مَا غَرَضه من هَذَا الِاخْتِصَار هُنَا؟ نعم، يُوجد الِاخْتِصَار لغَرَض صَحِيح فِيمَا يكون غير مخل، وَالَّذِي يظْهر لي أَنه من أحد الروَاة، وأعجب من هَذَا قَول بَعضهم، وَقد وَقع بَيَان الثَّانِيَة عِنْد أَحْمد فِي طَرِيق هِشَام عَن مُحَمَّد بن سِيرِين، وَلَفظه: (أَن يحتبي الرجل فِي ثوب وَاحِد لَيْسَ على فرجه مِنْهُ شَيْء، وَأَن يرتدي فِي ثوب يرفع طَرفَيْهِ على عَاتِقه) . وَقد مضى تَفْسِير هَذِه الْأَلْفَاظ فِي كتاب الصَّلَاة، والاحتباء أَن يجمع بَين ظَهره وساقيه بعمامته.

36 - (بابُ بَيْعِ المُنَابَذَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْمُنَابذَة.
وَقَالَ أنسٌ نَهَى عَنْهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: نهى عَن بيع الْمُنَابذَة، النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب بيع المخاصرة، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول: بَاب بيع الْمُلَامسَة.

6412 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ محَمَّدِ بنِ يَحْيَى بنِ حَبَّانَ وعَنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنِ المُلامَسَةِ والمُنَابَذَةِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والمنابذة) ، هَذَا طَرِيق آخر عَن أبي هُرَيْرَة عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك عَن مُحَمَّد ابْن يحيى بن حبَان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَعَن أبي الزِّنَاد عَن عبد الله بن ذكْوَان عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج.
قَوْله: (عَن الْأَعْرَج) مُتَعَلق بِمُحَمد وبأبي الزِّنَاد، لِأَن مَالِكًا يروي عَنْهُمَا وهما يرويان عَن الْأَعْرَج.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن مُحَمَّد بن سَلمَة، والْحَارث بن مِسْكين كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك.

7412 - حدَّثنا عَبَّاسُ بنُ الوَلِيدِ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ حَدثنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عَطاءِ بنِ يَزِيدَ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ لِبْسَتَيْنِ وعنْ بَيْعَتَيْنِ المُلاَمَسَةِ والمُنَابَذَةِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والمنابذة) ، وَعَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن الْوَلِيد الرقام الْبَصْرِيّ، وَعبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى الشَّامي الْبَصْرِيّ، وَمعمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم، وَعَطَاء بن يزِيد من الزِّيَادَة أَبُو يزِيد اللَّيْثِيّ، وَيُقَال: الجندعي، من أهل الْمَدِينَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن عَليّ ابْن عبيد الله عَن سُفْيَان، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَأبي الطَّاهِر بن السَّرْح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن الْحسن بن عَليّ عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَعَن الْحُسَيْن ابْن حُرَيْث بِالنَّهْي عَن لبستين فِي الزِّينَة، وَالنَّهْي عَن بيعَتَيْنِ فِي الْبيُوع، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن أبي بكر

(11/268)


ابْن أبي شيبَة، وَسَهل بن أبي سهل الرَّازِيّ، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِالنَّهْي عَن بيعَتَيْنِ فِي اللبَاس عَن أبي بكر، وَحده بِالنَّهْي عَن اللبستين.

46 - (بابُ النَّهْيِ لِلْبَائِعِ أنْ لاَ يُحَفَّلَ الأبلَ والْبَقَرَ والْغَنَمُ وكُلَّ مَحْفَلَةٍ والمُصْرَاةُ الَّتِي صُرَّىَ لَبَنُهَا وحُقِنَ فِيهِ وجُمِعَ فَلَمْ يُحْلَبْ أيَّاما وأصْلُ التَّصْرِيَةِ حَبْسُ المَاءِ يُقالُ مِنْهُ صَرَّيْتُ الماءَ إذَا حَبَسْتَهُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي للْبَائِع أَن لَا يحفل، بِضَم الْيَاء وَتَشْديد الْفَاء: من التحفيل، وَفِي (الْمُحكم) : حفل اللَّبن فِي الضَّرع يحفل حفلاً وحفولاً، وتحفل واحتفل وَاجْتمعَ، وحفله هُوَ وحفله، وضرع حافل، وَالْجمع حفل، وناقة حافلة وحفول، والتحفيل التجميع، قَالَ أَبُو عبيد: سميت بذلك لِأَن اللَّبن يكثر فِي ضرْعهَا، وكل شَيْء كثرته فقد حفلته، واحتفل الْقَوْم إِذا كثر جمعهم، وَيُقَال مجْلِس حافل إِذا كثر الْخلق فِيهِ، وَمِنْه المحفل، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بَاب نهي البَائِع أَن يحفل الْإِبِل وَالْغنم بِدُونِ كلمة: لَا، وَبِدُون ذكر الْبَقر، وَذكره أَبُو نعيم أَيْضا بِدُونِ كلمة: لَا. وَقَالَ بَعضهم: لَا، زَائِدَة، وَجزم بِهِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا يجب كَونهَا زَائِدَة لاحْتِمَال أَن تكون مفسرة، و: لَا يحفل، بَيَانا للنَّهْي، وَقيد بقوله: للْبَائِع، وَهُوَ الْمَالِك إِشَارَة إِلَى أَنه لَو حفل لأجل عِيَاله، أَو لأجل الضَّيْف لم يمْنَع من ذَلِك. فَإِن قلت: لَيْسَ للبقر ذكر فِي الحَدِيث، فلِمَ ذكرهَا فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: لِأَنَّهَا فِي معنى الْإِبِل وَالْغنم فِي الحكم، وَفِيه خلاف دَاوُد الظَّاهِرِيّ على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (وكل محفلة) بِالنّصب، عطف على الْإِبِل، أَي: لَا يحفل كل مَا من شَأْنهَا التحفيل، وَهُوَ من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى إِلْحَاق غير النعم من مَأْكُول اللَّحْم بِالنعَم، للجامع بَينهمَا، وَهُوَ تغرير المُشْتَرِي. وَقَالَت الْحَنَابِلَة وَبَعض الشَّافِعِيَّة: يخْتَص ذَلِك بِالنعَم، وَاخْتلفُوا فِي غير الْمَأْكُول كالأتان، وَالْجَارِيَة. فَالْأَصَحّ لَا يرد اللَّبن عوضا. وَبِه قَالَت الْحَنَابِلَة فِي الأتان دون الْجَارِيَة. قَوْله: (والمصراة) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ مُبْتَدأ وَخَبره. قَوْله: (الَّتِي صري لَبنهَا) ، والمصراة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: اسْم مفعول من التصرية، يُقَال: صريت النَّاقة بِالتَّخْفِيفِ، وصريتها بِالتَّشْدِيدِ، وأصريتها: إِذا حفلتها، وناقة صرياء محفلة، وَجَمعهَا، صرايا، على غير قِيَاس. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: ذكر الشَّافِعِي الْمُصراة وفسرها أَنَّهَا الَّتِي تصر أخلافها وَلَا تحلب أَيَّامًا حَتَّى يجْتَمع اللَّبن فِي ضرْعهَا، فَإِذا حلبها المُشْتَرِي استغزرها، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: جَائِز أَن تكون سميت مصراة من صر أخلافها، كَمَا ذكر، إلاَّ أَنه لما اجْتمعت فِي الْكَلِمَة ثَلَاث راآت قلبت إِحْدَاهَا يَاء، كَمَا فِي: تظنيت، فِي، تظننت، كَرَاهَة اجْتِمَاع الْأَمْثَال، قَالَ: وَجَائِز أَن تكون من الصري، وَهُوَ الْجمع، وَإِلَيْهِ ذهب الْأَكْثَرُونَ. انْتهى. قلت: إِذا كَانَت الْمُصراة من الصر، بِالتَّشْدِيدِ، يكون اسْم الْمَفْعُول مِنْهُ: مصرورة، وَلكنهَا تكون من صرر على وزن: فعل، فَيكون اسْم الْمَفْعُول مِنْهُ مصرر، وَلَكِن لما قلبت الرَّاء الثَّالِثَة يَاء لما ذكره، قلبت ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، فَصَارَت: مصراة. وَإِذا كَانَت من الصري، وَهُوَ معتل اللاَّم اليائي، فَالْقِيَاس أَن يكون اسْم الْمَفْعُول مِنْهُ: مصراة، وَأَصلهَا مصرية، قلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَالْقِيَاس التصريفي أَن يكون أَصْلهَا من صرى يصري تصرية من بَاب التفعيل، فَفعل بهَا مَا ذكرنَا، وَلذَلِك قَالَ الْخطابِيّ: اخْتلف أهل الْعلم واللغة فِي تَفْسِير الْمُصراة، وَمن أَيْن أخذت، وَاشْتقت. وَقَول البُخَارِيّ: والمصراة الَّتِي صري لَبنهَا على الْقيَاس الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ الصَّحِيح. قَوْله: (وحقن) ، فِيهِ معنى صرى، وَعطف عَلَيْهِ على سَبِيل الْعَطف التفسيري لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَالضَّمِير فِي: فِيهِ، يرجع إِلَى: الثدي، بِقَرِينَة ذكر اللَّبن. قَوْله: (وأصل التصرية. .) إِلَى آخِره تَفْسِير أَكثر أهل اللُّغَة، وَأَبُو عبيد أَيْضا فسر هَكَذَا، وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى أَن الصَّحِيح فِي تَفْسِير الْمُصراة أَن تكون من صرى من بَاب فعل بِالتَّشْدِيدِ، وَمِنْه يُقَال: صريت المَاء أَي: حَبسته وَجمعته، وَيكون أصل: مصراة، على هَذَا: مصرية، فقلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَأكْثر مَا تكلمُوا فِيهِ خَارج عَن قانون التصريف. فَافْهَم.

8412 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ جَعْفَرِ بنِ رَبِيعَةَ عنِ الأعْرَجِ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَصُرُّوا الإبِلَ والْغَنَمَ فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فإنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أنْ يَحْتَلِبَهَا إنْ شاءَ أمْسَكَ وإنْ شَاءَ رَدَّهَا وصاعَ تَمْرٍ. .

(11/269)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه بَقِيَّة الْأَئِمَّة السِّتَّة من طرق، وَقد رَوَاهُ عَن أبي هُرَيْرَة مُحَمَّد بن زِيَاد وَمُحَمّد بن سِيرِين والأعرج وَهَمَّام وَأَبُو صَالح ومُوسَى بن يسَار وثابت مولى عبد الرَّحْمَن بن زيد وَمُجاهد والوليد بن رَبَاح. أما رِوَايَة مُحَمَّد بن زِيَاد فَانْفَرد بهَا التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو كريب حَدثنَا وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى مصراة فَهُوَ بِالْخِيَارِ) . يَعْنِي: إِذا حلبها إِن شَاءَ ردهَا ورد مَعهَا صَاعا من تمر، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا من رِوَايَة مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة. وَأما رِوَايَة مُحَمَّد بن سِيرِين فأخرجها مُسلم عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حبلة عَن أبي عَامر الْعَقدي. وأخرجها مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أَيُّوب عَن مُحَمَّد بن سِيرِين. وَأما رِوَايَة الْأَعْرَج فأخرجها الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد من طَرِيق مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج. وَأما رِوَايَة همام فَانْفَرد بهَا مُسلم من طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام. وَأما رِوَايَة أبي صَالح فَانْفَرد بهَا مُسلم أَيْضا من رِوَايَة يَعْقُوب ابْن عبد الرَّحْمَن عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه. وَأما رِوَايَة مُوسَى بن يسَار فأخرجها مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة دَاوُد بن قيس عَنهُ. وَأما رِوَايَة ثَابت وَهُوَ ابْن عِيَاض، فأخرجها البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة زِيَاد بن سعد عَنهُ. وَأما رِوَايَة مُجَاهِد والوليد بن رَبَاح فذكرهما البُخَارِيّ تَعْلِيقا على مَا يَأْتِي وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من ثَمَان طرق عَن ابْن سِيرِين بطريقين أَحدهمَا مَعَه خلاس بن عَمْرو وَمُحَمّد بن زِيَاد ومُوسَى بن يسَار والأعرج وَعِكْرِمَة وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي وَعبد الرَّحْمَن بن سعد مَعَ عِكْرِمَة. .
قَوْله: (لَا تصروا الْإِبِل) ، بِفَتْح التَّاء وَضم الصَّاد، وَهُوَ نهي للْجَمَاعَة، وَالْإِبِل، مَنْصُوب ويروى: (لَا تصر) ، بِضَم التَّاء وَفتح الصَّاد بِصِيغَة الْإِفْرَاد على بِنَاء الْمَجْهُول، الْإِبِل مَرْفُوع بِهِ، وَالْغنم عطف على الْإِبِل بِالْوَجْهَيْنِ. قَوْله: (فَمن ابتاعها) أَي: فَمن اشْترى الْمُصراة. قَوْله: (بعد) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي بعد هَذَا النَّهْي، أَو: بعد صر البَائِع. قلت: الْوَجْه الثَّانِي هُوَ الْأَوْجه، وَالْأول فِيهِ الْبعد. قَوْله: (فَإِنَّهُ) ، أَي: فَإِن الَّذِي ابتاعها. قَوْله: (بِخَير النظرين) ، أَي: بِخَير الرأيين. قَوْله: (أَن يحتلبها) ، بِكَسْر: إِن، كَذَا فِي الأَصْل على أَنَّهَا شَرْطِيَّة، ويحتلبها بِالْجَزْمِ لِأَنَّهُ فعل الشَّرْط، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة والإسماعيلي من طَرِيق أَسد بن مُوسَى عَن اللَّيْث: بعد أَن يحلبها، بِفَتْح: أَن، وَنصب: يحلبها، وَظَاهر الحَدِيث أَن الْخِيَار لَا يثبت إلاَّ بعد الْحَلب، وَالْجُمْهُور على أَنه إِذا علم بالتصرية ثَبت لَهُ الْخِيَار، وَلَو لم يحلب. لَكِن لما كَانَت التصرية لَا تعرف غَالِبا إلاَّ بعد الْحَلب ذكر قيدا فِي ثُبُوت الْخِيَار، فَلَو ظَهرت التصرية بعد الْحَلب فَالْخِيَار ثَابت. قَوْله: (وَإِن شَاءَ ردهَا) ، وَفِي رِوَايَة مَالك: (وَإِن سخطها ردهَا) . قَوْله: (وَصَاع تمر) ، مَنْصُوب بِشَيْء مُقَدّر، وَالتَّقْدِير: ورد مَعهَا صَاع تمر، قيل: يجوز أَن يكون مَفْعُولا مَعَه، وَأجِيب: بِأَن جُمْهُور النُّحَاة على أَن شَرط الْمَفْعُول مَعَه أَن يكون فَاعِلا نَحْو: جِئْت أَنا وزيدا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهَذَا الحَدِيث ابْن أبي ليلى وَمَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وَأَبُو سُلَيْمَان وَزفر وَأَبُو يُوسُف فِي بعض الرِّوَايَات، فَقَالُوا: من اشْترى مصراة فحلبها فَلم يرض بهَا فَإِنَّهُ يردهَا إِن شَاءَ، وَيرد مَعهَا صَاعا من تمر، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: يُؤَدِّي أهل كل بلد صَاعا من أغلب عيشهم، وَابْن أبي ليلى قَالَ: يرد مَعهَا قيمَة صَاع من تمر، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف، وَلكنه غير مَشْهُور عَنهُ، وَقَالَ زفر: يرد مَعهَا صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير، أَو نصف صَاع من تمر. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) للأشبيلي: قَالَ مَالك: إِذا احتلبها ثَلَاثًا وسخطها لاخْتِلَاف لَبنهَا ردهَا وَمَعَهَا صَاعا من قوت ذَلِك الْبَلَد، تَمرا كَانَ أَو برا أَو غَيره. وَبِه قَالَ الطَّبَرِيّ وَأَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَعَن مَالك: يرد مكيلة مَا حلب من اللَّبن تَمرا أَو قِيمَته. وَقَالَ أَكثر أَصْحَاب الشَّافِعِي: لَا يكون إلاَّ من التَّمْر، وَإِذا لم يجد المُشْتَرِي التَّمْر فَهَل ينْتَقل إِلَى غَيره؟ حكى الْمَاوَرْدِيّ فِيهِ وَجْهَيْن: أَحدهمَا: يرد قِيمَته بِالْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي: قِيمَته بأقرب بِلَاد التَّمْر إِلَيْهِ. وَاقْتصر الرَّافِعِيّ على نقل الْوَجْه الأول عَن الْمَاوَرْدِيّ، والوجهان مَعًا فِي (الْحَاوِي) . فَإِن اتّفق الْمُتَبَايعَانِ على غير التَّمْر فِي رد بدل لبن الْمُصراة، فقد حكى الرَّافِعِيّ عَن ابْن كج وَجْهَيْن فِي إِجْزَاء الْبر عَن التَّمْر إِذا اتفقَا عَلَيْهِ، فَكَانَ كالاستبدال عَمَّا فِي ذمَّته، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَأَبُو يُوسُف فِي الْمَشْهُور عَنهُ وَمَالك فِي رِوَايَة وَأَشْهَب من الْمَالِكِيَّة وَابْن أبي ليلى فِي رِوَايَة وَطَائِفَة من أهل الْعرَاق: لَيْسَ للْمُشْتَرِي رد الْمُصراة بِخِيَار الْعَيْب، وَلكنه يرجع بِالنُّقْصَانِ، لِأَنَّهُ وجد مَا يمْنَع الرَّد وَهُوَ الزِّيَادَة الْمُنْفَصِلَة عَنْهَا، وَفِي الرُّجُوع بِالنُّقْصَانِ رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة فِي رِوَايَة (شرح الطَّحَاوِيّ) : يرجع

(11/270)


على البَائِع بِالنُّقْصَانِ من الثّمن لتعذر الرَّد، وَفِي رِوَايَة (الْأَسْرَار) : لَا يرجع، لِأَن اجْتِمَاع اللَّبن وَجمعه لَا يكون عَيْبا.
وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث بأجوبة.
الأول: مَا قَالَه مُحَمَّد بن شُجَاع: إِن هَذَا الحَدِيث نسخه حَدِيث: البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، فَلَمَّا قطع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالفرقة الْخِيَار ثَبت بذلك أَن لَا خِيَار لأحد بعد ذَلِك إلاَّ لمن اسْتَثْنَاهُ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا، وَهُوَ قَوْله: (إلاَّ بيع الْخِيَار الْمَجْهُول) ورده الطَّحَاوِيّ بِأَن الْخِيَار الْمَجْهُول فِي الْمُصراة إِنَّمَا هُوَ خِيَار عيب، وَخيَار الْعَيْب لَا تقطعه الْفرْقَة.
الثَّانِي: مَا قَالَه عِيسَى بن أبان، كَانَ ذَلِك فِي أول الْإِسْلَام حَيْثُ كَانَت الْعُقُوبَات فِي الدُّيُون حَتَّى نسخ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرِّبَا، فَردَّتْ الْأَشْيَاء الْمَأْخُوذَة إِلَى أَمْثَالهَا.
الثَّالِث: مَا قَالَه ابْن التِّين، وَمن جملَة مَا رووا بِهِ حَدِيث الْمُصراة بِالِاضْطِرَابِ، قَالَ مرّة: صَاعا من تمر، وَمرَّة: صَاعا من طَعَام، وَمرَّة مثل أَو مثلي لَبنهَا.
الرَّابِع: أَن الحَدِيث، وَإِن وَقع بِنَقْل الْعدْل الضَّابِط عَن مثله إِلَى قَائِله، لَا بُد فِي اعْتِبَاره أَن يكون غير شَاذ وَلَا مَعْلُول، وَهَذَا مَعْلُول لِأَنَّهُ يُخَالف عُمُوم الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة، فَيتَوَقَّف بهَا عَن الْعَمَل بِظَاهِرِهِ. أما عُمُوم الْكتاب فَقَوله تَعَالَى: {فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} (الْبَقَرَة: 491) . وَقَوله: {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمثل مَا عُوقِبْتُمْ} (النَّحْل: 621) . وَأما الحَدِيث فَقَوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْخراج بِالضَّمَانِ) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَصَححهُ، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عَائِشَة، ويروى: (الْغلَّة بِالضَّمَانِ) ، وَالْمرَاد بالخراج مَا يحصل من غلَّة الْعين المبتاعة، عبدا كَانَ أَو أمة أَو ملكا، وَذَلِكَ أَن يَشْتَرِيهِ فيستعمله زَمَانا ثمَّ يعثر مِنْهُ على عيب قديم لم يطلعه البَائِع عَلَيْهِ، أَو لم يعرفهُ، فَلهُ رد الْعين الْمَبِيعَة وَأخذ الثّمن، وَيكون للْمُشْتَرِي مَا اسْتَعْملهُ، لِأَن الْمَبِيع لَو كَانَ تلف فِي يَده لَكَانَ من ضَمَانه، وَلم يكن لَهُ على البَائِع شَيْء.
ثمَّ أَن هَؤُلَاءِ قد زَعَمُوا أَن رجلا لَو اشْترى شَاة فحلبها ثمَّ أصَاب عَيْبا غير التحفيل والتصرية أَنه يردهَا وَيكون اللَّبن لَهُ، وَكَذَلِكَ لَو اشْترى جَارِيَة مثلا فَولدت عِنْده ثمَّ ردهَا على البَائِع لعيب وجد بهَا، يكون الْوَلَد لَهُ، قَالُوا: لِأَن ذَلِك من الْخراج الَّذِي جعله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فالصاع من التَّمْر الَّذِي يُوجِبهُ هَؤُلَاءِ على مُشْتَرِي الْمُصراة إِذا ردهَا على بَايَعَهَا بِسَبَب التصرية والتحفيل، لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون عوضا من جَمِيع اللَّبن الَّذِي احتلبه مِنْهَا، كَانَ بعضه فِي ضرْعهَا وَقت وُقُوع البيع، وَحدث بعضه فِي ضرْعهَا بعد البيع. وَأما أَن يكون عوضا عَن اللَّبن الَّذِي فِي ضرْعهَا وَقت وُقُوع البيع خَاصَّة، فَإِن أَرَادوا الْوَجْه الأول فقد ناقضوا أصلهم الَّذِي جعلُوا بِهِ اللَّبن وَالْولد للْمُشْتَرِي بعد الرَّد بِالْعَيْبِ فِي الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذكرناهما، وَذَلِكَ لأَنهم جعلُوا حكمهمَا كَحكم الْخراج الَّذِي فعله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ، وَإِن أَرَادوا بِهِ الْوَجْه الثَّانِي فقد جعلُوا للْبَائِع صَاعا دينا بدين، وَهَذَا غير جَائِز لَا فِي قَوْلهم وَلَا فِي قَول غَيرهم، وَأي الْمَعْنيين أَرَادوا فهم فِيهِ تاركون أصلا من أصولهم، وَقد كَانَ هَؤُلَاءِ أولى بالْقَوْل بنسح الحكم فِي الْمُصراة لكَوْنهم يجْعَلُونَ اللَّبن فِي حكم الْخراج، وَغَيرهم لَا يجْعَلُونَ كَذَلِك، فَظهر من ذَلِك فَسَاد كَلَامهم وَفَسَاد مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. فَإِن قلت: لَا نسلم أَن يكون اللَّبن فِي حكم الْخراج، لِأَن اللَّبن لَيْسَ بغلة وَإِنَّمَا كَانَ محفلاً فِيهَا، فَيلْزم رده. قلت: هَذَا مَمْنُوع، لِأَن الْغلَّة هِيَ الدخل الَّذِي يحصل، وَهِي أَعم من أَن يكون لَبَنًا أَو غَيره، وَأَيْضًا يلْزمهُم على هَذَا أَن يردوا عوض اللَّبن إِذا ردَّتْ الْمُصراة بِعَيْب آخر غير التصرية، وَلم يَقُولُوا بِهِ. فَإِن قلت: هَذَا حكم خَاص فِي نَفسه، وَحَدِيث: الْخراج بِالضَّمَانِ، عَام، وَالْخَاص يقْضِي على الْعَام. قلت: هَذَا زعمك، وَإِنَّمَا الأَصْل تَرْجِيح الْعَام على الْخَاص فِي الْعَمَل بِهِ، وَلِهَذَا رجحنا قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الأَرْض: (مَا أخرجت فَفِيهِ الْعشْر) ، على الْخَاص الْوَارِد، بقوله: (لَيْسَ فِي الخضراوات صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة) ، وأمثال ذَلِك كَثِيرَة.
ويُذْكَرُ عنْ أبِي صَالِحٍ ومُجاهِدٍ والوَلِيدِ بنِ رَباحٍ ومُوسَى بنِ يَسارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صاعَ تَمْرٍ
التَّعْلِيق عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات، رَوَاهُ مُسلم، قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن الْقَارِي عَن سُهَيْل عَن أَبِيه أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ابْتَاعَ شَاة مصراة فَهُوَ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاث أَيَّام، إِن شَاءَ أمْسكهَا، وَإِن شَاءَ ردهَا ورد مَعهَا صَاعا من تمر) . انْتهى. وَأَحَادِيث الْمُصراة على نَوْعَيْنِ. أَحدهمَا: مُطلق عَن ذكر مُدَّة الْخِيَار، وَبِه أخذت الْمَالِكِيَّة وحكموا فِيهَا بِالرَّدِّ مُطلقًا. وَالْآخر: مِنْهَا: مُقَيّد ذكر مُدَّة الْخِيَار كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم

(11/271)


هَذِه، وَبِه أخذت الشَّافِعِيَّة، وَاسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن المُشْتَرِي لَو لم يطلع على التصرية إلاَّ بعد الثَّلَاث أَنه لَا يثبت لَهُ خِيَار الرَّد لظَاهِر الحَدِيث. وَقَالَ شَيخنَا: وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَاب الشَّافِعِي ثُبُوته كَسَائِر الْعُيُوب، وَلكنه على الْفَوْر عِنْدهم بِلَا خلاف لَا يَمْتَد بعد الِاطِّلَاع عَلَيْهِ.
وَأما التَّعْلِيق عَن مُجَاهِد فوصله الْبَزَّار، حَدثنَا مُحَمَّد بن مُوسَى الْقطَّان حَدثنَا عَمْرو بن أبان حَدثنَا مُحَمَّد بن مُسلم الطَّائِفِي عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَن أبي هُرَيْرَة وَفِيه: من ابْتَاعَ مصراة فَلهُ أَن يردهَا وصاعا من طَعَام، وَمُحَمّد بن مُسلم فِيهِ مقَال، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَالَّذِي علقه عَن مُجَاهِد لم أره إلاَّ مَا فِي مُسْند الْبَزَّار. قلت: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي الْأَوْسَط وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه.
وَأما التَّعْلِيق عَن الْوَلِيد بن رَبَاح، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة، فوصله أَحْمد بن منيع بِلَفْظ: (من اشْترى مصراة فليرد مَعهَا صَاعا من تمر) .
وَأما التَّعْلِيق عَن مُوسَى بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالسِّين الْمُهْملَة فوصله مُسلم: حَدثنَا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حَدثنَا دَاوُد بن قيس عَن مُوسَى بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى شَاة مصراة فلينقلب بهَا فليحلبها، فَإِن رَضِي حلابها أمْسكهَا وإلاَّ ردهَا وَمَعَهَا صَاع تمر) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ عنِ ابنِ سِيرِينَ صَاعا منْ طَعَامٍ وهْوَ بِالخَيَارِ ثَلاَثا
التَّعْلِيق عَن مُحَمَّد بن سِيرِين رَوَاهُ مُسلم: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو بن جبلة بن أبي رواد حَدثنَا أَبُو عَامر يَعْنِي: الْعَقدي حَدثنَا قُرَّة عَن مُحَمَّد عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من اشْترى شَاة مصراة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا لَا سمراء) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، ثمَّ قَالَ: معنى من طَعَام: لَا سمراء، لَا بر. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: المُرَاد بِالطَّعَامِ هُنَا التَّمْر، لقَوْله: لَا سمراء قلت: لَا يعلم أَن المُرَاد من الطَّعَام هَهُنَا التَّمْر، وَلَا قَوْله: لَا سمراء، يدل عَلَيْهِ لِأَن الَّذِي يفهم مِنْهُ أَن لَا يكون قمحا وَغَيره أَعم من أَن يكون تَمرا أَو غَيره. وَقَالَ بَعضهم: وروى ابْن الْمُنْذر من طَرِيق ابْن عون عَن ابْن سِيرِين أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: لَا سمراء، تمر لَيْسَ ببر، فَهَذِهِ الرِّوَايَة تبين أَن المُرَاد بِالطَّعَامِ التَّمْر، وَلما كَانَ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن أَن المُرَاد بِالطَّعَامِ الْقَمْح نَفَاهُ بقوله: لَا سمراء، ورد هَذَا بِمَا رَوَاهُ الْبَزَّار من طَرِيق أَشْعَث بن عبد الْملك عَن ابْن سِيرِين بِلَفْظ: إِن ردهَا ردهَا وَمَعَهَا صَاع من بر لَا سمراء. قلت: الظَّاهِر من قَوْله: (لَا سمراء) نفي لقمح مَخْصُوص، وَهِي الْحِنْطَة الشامية، وَقد روى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين: أَن المُرَاد بالسمراء الْحِنْطَة الشامية، وَهِي كَانَت أغْلى ثمنا من الْبر الْحِجَازِي فَكَأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر برد الصَّاع من الْبر الْحِجَازِي لِأَن الْبر الشَّامي لكَونه أغْلى ثمنا قصد التَّخْفِيف عَلَيْهِم، وَجَاء فِي الحَدِيث أَيْضا: أَن الطَّعَام غير التَّمْر، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن رجل من الصَّحَابَة نَحْو حَدِيث الْبَاب، وَفِيه: وَإِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا من تمر، فَإِن ظَاهره يَقْتَضِي التَّخْيِير بَين التَّمْر وَالطَّعَام، وَأَن الطَّعَام غير التَّمْر.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ عنِ ابنِ سِيرِينَ صَاعا مِنْ تَمْرٍ ولَمْ يَذْكُرْ ثَلاثا والتَّمْرُ أكْثَرُ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ مُسلم حَدثنَا ابْن أبي عمر، حَدثنَا سُفْيَان عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى شَاة مصراة فَهُوَ بِخَير النظرين: إِن شَاءَ أمْسكهَا، وَإِن شَاءَ ردهَا وصاعا من تمر لَا سمراء) . قَوْله: (وَالتَّمْر أَكثر) من كَلَام البُخَارِيّ. أَي: أَكثر من الطَّعَام، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقيل: أَكثر عددا من الرِّوَايَات الَّتِي لم ينص عَلَيْهِ، أَو أبدلته بِذكر الطَّعَام. وَقَالَ بَعضهم: قد أَخذ بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث جُمْهُور أهل الْعلم، وَأفْتى بِهِ ابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة، وَلَا مُخَالف لَهُم من الصَّحَابَة، وَقَالَ بِهِ من التَّابِعين وَمن بعدهمْ من لَا يُحْصى عدده، وَلم يفرقُوا بَين أَن يكون اللَّبن الَّذِي احتلب قَلِيلا أَو كثيرا، وَلَا بَين أَن يكون تمر تِلْكَ الْبَلَد أم لَا. انْتهى.
قلت: أَبُو حنيفَة غير مُنْفَرد بترك الْعَمَل بِحَدِيث الْمُصراة، بل مَذْهَب الْكُوفِيّين وَابْن أبي ليلى وَمَالك فِي رِوَايَة مثل مَذْهَب أبي حنيفَة، وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التصرية، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: أشهد على الصَّادِق المصدوق أبي الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: بيع المحفلات خلابة وَلَا تحل الخلابة لمُسلم) . انْتهى. قلت: وَالْكل مجمعون على أَن التصرية حرَام وغش وخداع، وَلأَجل كَون بيعهَا صَحِيحا مَعَ كَونهَا حَرَامًا أجَاب

(11/272)


عَنْهَا بِمَا ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى عَن قريب. وَأقوى الْوُجُوه فِي ترك الْعَمَل بهَا مخالفتها لِلْأُصُولِ من ثَمَانِيَة أوجه.
أَحدهَا: أَنه أوجب من الرَّد من غير عيب وَلَا شَرط. الثَّانِي: أَنه قدر الْخِيَار بِثَلَاثَة أَيَّام، وَإِنَّمَا يتَقَيَّد بِالثلَاثِ خِيَار الشَّرْط. الثَّالِث: أَنه أوجب الرَّد بعد ذهَاب جُزْء من الْمَبِيع. الرَّابِع: أَنه أوجب الْبَدَل مَعَ قيام الْمُبدل. الْخَامِس: أَنه قدره بِالتَّمْرِ أَو بِالطَّعَامِ والمتلفات إِنَّمَا تضمن بأمثالها أَو قيمتهَا بِالنَّقْدِ. السَّادِس: أَن البن من ذَوَات الْأَمْثَال، فَجعل ضَمَانه فِي هَذَا الْخَبَر بِالْقيمَةِ. السَّابِع: أَنه يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا فِيمَا إِذا بَاعهَا بِصَاع تمر. الثَّامِن: أَنه يُؤَدِّي إِلَى الْجمع بَين الْعِوَض والمعوض.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: لم ينْفَرد أَبُو هُرَيْرَة بِرِوَايَة هَذَا الأَصْل، فقد أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث عمر، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَنهُ، وإبو يعلى من حَدِيث أنس. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي (الخلافيات) من طَرِيق عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ. وَأخرجه أَحْمد من رِوَايَة رجل من الصَّحَابَة لم يسم، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا الحَدِيث مجمع على صِحَّته وثبوته من جِهَة النَّقْل.
قلت: أما حديثابن عمر فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة صَدَقَة بن سعيد الْجعْفِيّ عَن جَمِيع بن عُمَيْر التَّيْمِيّ،، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عمر يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ابْتَاعَ محفلة فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن رد مَعهَا مثل أَو مثلي لَبنهَا قمحا) ، قَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بذلك. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ جَمِيع بن عُمَيْر، وَقَالَ البُخَارِيّ: فِيهِ نظر، وَذكره ابْن حبَان فِي الضُّعَفَاء، وَقَالَ: كَانَ رَافِضِيًّا يضع الحَدِيث. وَقَالَ ابْن نمير: كَانَ من أكذب النَّاس، وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: كُوفِي صَالح الحَدِيث من عنق الشِّيعَة. وَأما حَدِيث أنس فَأخْرجهُ أَبُو يعلى وَفِي سَنَده إِسْمَاعِيل ابْن مُسلم الْمَكِّيّ وَهُوَ ضَعِيف. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن مُسلم عَن الْحسن عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من اشْترى شَاة محفلة فَإِن لصَاحِبهَا أَن يحتلبها، فَإِن رضيها فليمسكها، وإلاَّ فليردها وصاعا من تمر) . وَالْمَحْفُوظ أَنه مُرْسل. وَأما حَدِيث رجل من الصَّحَابَة، فَأخْرجهُ أَحْمد عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يتلَقَّى الجلب وَلَا يَبِيع حَاضر لباد، وَمن اشْترى شَاة مصراة أَو نَاقَة) . قَالَ شُعْبَة: إِنَّمَا قَالَ: نَاقَة مرّة وَاحِدَة. (فَهُوَ مِنْهَا بِأحد النظرين، إِذا هُوَ حلب، إِن ردهَا رد مَعهَا صَاعا من طَعَام) . قَالَ الحكم: أَو صَاعا من تمر، ثمَّ إِن بَعضهم قد تصدى للجواب عَمَّا قَالَت الْحَنَفِيَّة فِي هَذَا الْموضع، فَمَا قَالُوا: إِن هَذَا يَعْنِي: حَدِيث الْمُصراة خبر وَاحِد لَا يُفِيد إلاَّ الظَّن، وَهُوَ مُخَالف لقياس الْأُصُول الْمَقْطُوع بِهِ، فَلَا يلْزم الْعَمَل بِهِ.
ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل وَتعقب: بِأَن التَّوَقُّف فِي خبر الْوَاحِد إِنَّمَا هُوَ فِي مُخَالفَة الْأُصُول لَا فِي مُخَالفَة قِيَاس الْأُصُول، وَهَذَا الْخَبَر إِنَّمَا خَالف قِيَاس الْأُصُول بِدَلِيل أَن الْأُصُول الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس، وَالْكتاب وَالسّنة فِي الْحَقِيقَة هما الأَصْل والآخران مردودان اليهما، فَالسنة أصل وَالْقِيَاس فرع، فَكيف يرد الأَصْل بالفرع؟ بل الحَدِيث الصَّحِيح أصل بِنَفسِهِ فَكيف يُقَال: إِن الأَصْل يُخَالف نَفسه؟ انْتهى. قلت: قَوْله: وَهُوَ مُخَالف لقياس الْأُصُول، لم يقل بِهِ الْحَنَفِيَّة، كَذَا، وَكَيف ينْقل عَنْهُم مَا لم يَقُولُوا أَو قَالُوا؟ فينقل عَنْهُم بِخِلَاف مَا أَرَادوا مِنْهُ لعدم التروي وَعدم إِدْرَاك التَّحْقِيق فِيهِ؟ فَكيف يُقَال: وَهُوَ مُخَالف لقياس الْأُصُول، وَالْحَال أَن الْقيَاس أصل من الْأُصُول، لِأَن الْحَنَفِيَّة عدوا الْقيَاس أصلا رَابِعا، على مَا فِي كتبهمْ الْمَشْهُورَة، فَيكون معنى مَا نقلوا من هَذَا، وَهُوَ مُخَالف لأصل الْأُصُول، وَهُوَ كَلَام فَاسد، وَقَوله: وَالْقِيَاس فرع، كَلَام فَاسد أَيْضا لِأَنَّهُ عد أصلا رَابِعا، فَكيف يَقُول: إِنَّه فرع، حَتَّى يَتَرَتَّب عَلَيْهِ قَوْله؟ فَكيف يرد الأَصْل بالفرع؟ ثمَّ إِنَّه نقل عَن ابْن السَّمْعَانِيّ من قَوْله: مَتى ثَبت الْخَبَر صَار أصلا من الْأُصُول، وَلَا يحْتَاج إِلَى عرضه على أصل آخر، لِأَنَّهُ إِن وَافقه فَذَاك، وَإِن خَالفه لم يجز رد أَحدهمَا لِأَنَّهُ رد للْخَبَر، وَهُوَ مَرْدُود بِاتِّفَاق؟ انْتهى.
قلت: ثمَّ نقل عَن ابْن السَّمْعَانِيّ من قَوْله: وَالْأولَى عِنْدِي فِي هَذِه الْمَسْأَلَة تَسْلِيم الأقيسة، لَكِنَّهَا لَيست لَازِمَة، لِأَن السّنة الثَّابِتَة مُقَدّمَة عَلَيْهَا وعَلى تَقْدِير التنزل فَلَا نسلم أَنه مُخَالف لقياس الْأُصُول، لِأَن الَّذِي ادعوهُ عَلَيْهِ من الْمُخَالفَة بينوها بأوجه: أَحدهَا: أَن الْمَعْلُوم من الْأُصُول أَن ضَمَان الْمِثْلِيَّات بِالْمثلِ والمتقومات بِالْقيمَةِ، وَهَهُنَا إِن كَانَ اللَّبن مثلِيا فليضمن بِاللَّبنِ، وَإِن كَانَ مُتَقَوّما فليضمن بِأحد النَّقْدَيْنِ، وَقد وَقع هُنَا مَضْمُونا بِالتَّمْرِ فَخَالف الأَصْل، وَالْجَوَاب منع الْحصْر، فَإِن الْحر يضمن فِي دِيَته بِالْإِبِلِ، وَلَيْسَت مثلا لَهُ، وَلَا قيمَة، وَأَيْضًا فضمان الْمثل بِالْمثلِ لَيْسَ مطردا، فقد يضمن الْمثل بِالْقيمَةِ إِذا تَعَذَّرَتْ الْمُمَاثلَة، كمن أتلف شَاة لبونا كَانَ عَلَيْهِ قيمتهَا، وَلَا يَجْعَل بِإِزَاءِ لَبنهَا لَبَنًا آخر، لتعذر الْمُمَاثلَة. انْتهى. قلت:

(11/273)


قَوْله: فَلَا نسلم أَنه مُخَالف لقياس الْأُصُول ... إِلَى آخِره، غير مُسلم لِأَن مُخَالفَته للقاعدة الْأَصْلِيَّة ظَاهِرَة، وَهِي أَن ضَمَان الْمثل بِالْمثلِ وَضَمان الْمُتَقَوم بِالْقيمَةِ، وَهَذِه الْقَاعِدَة مطردَة فِي بَابهَا، وَضَمان الْمثل بِالْقيمَةِ عِنْد التَّعَذُّر خَارج عَن بَاب الْقَاعِدَة الْمَذْكُورَة، فَلَا يرد عَلَيْهَا الِاعْتِرَاض بذلك، لِأَن بَاب التَّعَذُّر مُسْتَثْنى عَنْهَا، والتعذر تَارَة يكون بالاستحالة كَمَا فِي ضَمَان الْحر بِالْإِبِلِ، وَتارَة يكون بِالْعدمِ، كتعذر الْمُمَاثلَة فِي ضَمَان لبن الشَّاة واللبون، وَأَيْضًا فِي مَسْأَلَة الشَّاة اللَّبُون: اللَّبن جُزْء من أَجْزَائِهَا، فَيدْخل فِي ضَمَان الْكل، وَدفع الصَّاع من التَّمْر أَو غَيره مَعَ اللَّبن فِي الْمُصراة إِنَّمَا كَانَ فِي وَقت الْعقُوبَة فِي الْأَمْوَال بِالْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على أَن بيع المحفلات خلابة، والخلابة حرَام، فَكَانَ من فعل هَذَا وَبَاعَ صَار مُخَالفا لما أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وداخلاً فِيمَا نهى عَنهُ، فَكَانَت عُقُوبَته فِي ذَلِك أَن يَجْعَل اللَّبن المحلوب فِي الْأَيَّام الثَّلَاثَة للْمُشْتَرِي بِصَاع من تمر، وَلَعَلَّه يُسَاوِي آصعا كَثِيرَة، ثمَّ نسخت الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال بِالْمَعَاصِي، وَردت الْأَشْيَاء إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ من الْقَاعِدَة الْأَصْلِيَّة.
ثمَّ ذكر ابْن السَّمْعَانِيّ عَن الْحَنَفِيَّة أَنهم قَالُوا: إِن الْقَوَاعِد تَقْتَضِي أَن يكون الْمَضْمُون مُقَدّر الضَّمَان بِقدر التَّالِف، وَذَلِكَ مُخْتَلف، وَقد قدر هَهُنَا بِمِقْدَار وَاحِد وَهُوَ الصَّاع، فَخرج عَن الْقيَاس. وَالْجَوَاب: منع التَّعْمِيم فِي المضمونات كالموضحة، فأرشها مُقَدّر مَعَ اختلافها بِالْكبرِ والصغر، والغرة مقدرَة فِي الْجَنِين مَعَ اختلافه. انْتهى. قلت: لَا نسلم منع التَّعْمِيم فِي بَابه كَمَا ذكرنَا، وَمَا مثل بِهِ على وَجه الْإِيرَاد على الْقَاعِدَة غير وَارِد لأَنا قُلْنَا: إِن الَّذِي يفعل من ذَلِك عِنْد التَّعَذُّر خَارج من بَاب الْقَاعِدَة، غير دَاخل فِيهَا، حَتَّى يمْنَع اطراد الْقَاعِدَة، ثمَّ ذكر عَنْهُم أَيْضا أَن اللَّبن التَّالِف إِن كَانَ مَوْجُودا عِنْد العقد فقد ذهب جُزْء من الْمَعْقُود عَلَيْهِ من أصل الْخلقَة، وَذَلِكَ مَانع من الرَّد، فقد حدث على ملك المُشْتَرِي فَلَا يضمنهُ، وَإِن كَانَ مختلطا، فَمَا كَانَ مِنْهُ مَوْجُودا عِنْد العقد، وَمَا كَانَ حَادِثا لم يحب ضَمَانه. وَالْجَوَاب: أَن يُقَال: إِنَّمَا يمْتَنع الرَّد بِالنَّقْصِ إِذا لم يكن لاستعلام الْعَيْب، وإلاَّ فَلَا يمْتَنع، وَهنا كَذَلِك. انْتهى. قلت: الَّذِي قَالُوهُ كَلَام وَاضح صَحِيح، وَالْجَوَاب الَّذِي أَجَابَهُ لَيْسَ بِشَيْء، فَهَل يرضى أحد أَن يرد هَذَا الْكَلَام بِمثل هَذَا الْجَواب؟ وَلَيْسَ الْعجب مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْعجب من الَّذِي يَنْقُلهُ فِي تأليفه ويرضى بِهِ.
ثمَّ ذكر عَنْهُم فِيمَا قَالُوا: بِأَنَّهُ خَالف الْأُصُول فِي جعل الْخِيَار فِيهِ ثَلَاثًا، مَعَ أَن خِيَار الْعَيْب لَا يقدر بِالثلَاثِ، وَكَذَا خِيَار الْمجْلس عِنْد من يَقُول بِهِ، وَخيَار الرُّؤْيَة عِنْد من يُثبتهُ. ثمَّ أجَاب: بِأَن حكم الْمُصراة انْفَرد بِأَصْلِهِ عَن مماثله، فَلَا تستغرب أَن ينْفَرد بِوَصْف زَائِد على غَيره، انْتهى. قلت: لانفراده بِأَصْلِهِ عَن مماثله قُلْنَا: إِنَّه مَنْسُوخ، كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى.
ثمَّ ذكر عَنْهُم أَنهم قَالُوا: يلْزم من الْأَخْذ بِهِ الْجمع بَين الْعِوَض والمعوض، ثمَّ أجَاب: بِأَن التَّمْر عوض عَن اللَّبن لَا عَن الشَّاة. قلت: لَيْسَ دفع التَّمْر الْإِجْزَاء لما ارْتكب من الْعِصْيَان حِين كَانَت الْعقُوبَة بالأموال فِي الْمعاصِي.
ثمَّ ذكر عَنْهُم بِأَنَّهُ مُخَالف لقاعدة الرِّبَا فِيمَا إِذا اشْترى شَاة بِصَاع، فَإِذا اسْتردَّ مَعهَا صَاعا فقد اسْترْجع الصَّاع الَّذِي هُوَ الثّمن، فَيكون قد بَاعَ شَاة وصاعا بِصَاع. الْجَواب: أَن الرِّبَا إِنَّمَا يعْتَبر فِي الْعُقُود لَا فِي الفسوخ، بِدَلِيل أَنَّهُمَا لَو تبَايعا ذَهَبا بِفِضَّة لم يجز أَن يَتَفَرَّقَا قبل الْقَبْض، فَلَو تقابلا فِي هَذَا العقد بِعَيْنِه جَازَ التَّفَرُّق قبل الْقَبْض. انْتهى. قلت: ذكره هَذِه الْمَسْأَلَة تَأْكِيدًا لما قَالَه من الْجَواب لَا يفِيدهُ، لِأَن بالإقالة صَار العقد كَأَنَّهُ لم يكن، وَعَاد كل شَيْء إِلَى أَصله فَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يُقَال: جَازَ التَّفَرُّق قبل الْقَبْض.
ثمَّ ذكر عَنْهُم بِأَنَّهُم قَالُوا: يلْزم مِنْهُ ضَمَان الْأَعْيَان مَعَ بَقَائِهَا فِيمَا إِذا كَانَ اللَّبن مَوْجُودا والأعيان لَا تضمن بِالْبَدَلِ إلاَّ مَعَ فَوَاتهَا كالمغصوب، وَالْجَوَاب: أَن اللَّبن وَإِن كَانَ مَوْجُودا لكنه تعذر رده لاختلاطه بِاللَّبنِ الْحَادِث بعد العقد، وَتعذر تَمْيِيزه، فَأشبه الْآبِق بعد الْغَصْب، فَإِنَّهُ يضمن قِيمَته مَعَ بَقَاء عينه لتعذر الرَّد انْتهى. قلت: لما تعذر رد اللَّبن لاختلاطه بِاللَّبنِ الْحَادِث صَار حكمه حكم الْعَدَم فَيضمن بِالْبَدَلِ، كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَة إِذا هَلَكت عِنْد الْغَاصِب، وتشبيهه بِالْعَبدِ الْآبِق غير صَحِيح، لِأَنَّهُ إِذا تعذر رده صَار فِي حكم الْهَالِك، فَيتَعَيَّن الْقيمَة.
ثمَّ نقل عَنْهُم بِأَنَّهُ: يلْزم مِنْهُ إِثْبَات الرَّد بِغَيْر عيب وَلَا شَرط، ثمَّ أجَاب: بِأَنَّهُ لما رأى ضرعا مملوءا لَبَنًا ظن أَنه عَادَة لَهَا، فَكَانَ البايع شَرط لَهُ ذَلِك، فَتبين لَهُ الْأَمر بِخِلَافِهِ، فَثَبت لَهُ الرَّد لفقد الشَّرْط الْمَعْنَوِيّ. انْتهى. قلت: البيع بِمثل هَذَا الشَّرْط فَاسد إِن كَانَ لفظيا، فبالمعنوي بِالْأولَى، وَلَا يَصح من الشُّرُوط إلاَّ شَرط الْخِيَار بِالنَّصِّ الْوَارِد فِيهِ، وَأما الْعَيْب فَإِذا ظهر فَإِنَّهُ يردهُ وَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الشَّرْط.

(11/274)


9412 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أبِي يَقُولُ حدَّثنا أبُو عُثْمَانَ عنْ عَبْدِ الله ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قالَ مَنِ اشْتَرَى شَاة محَفَّلَةً فرَدَّهَا فلْيَرُدَّ معَهَا صَاعا ونَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ تُلَقَّى الْبُيُوعُ. (الحَدِيث 9412 طرفه فِي: 4612) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه دَاخل فِي الحَدِيث السَّابِق المطابق للتَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُسَدّد. الثَّانِي: مُعْتَمر، بِضَم الْمِيم الأولى وَكسر الثَّانِيَة: ابْن سُلَيْمَان. الثَّالِث: أَبوهُ سُلَيْمَان بن طرخان. الرَّابِع: أَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ بالنُّون أسلم فِي عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأدّى إِلَيْهِ الصَّدقَات وغزا غزوات فِي عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَاتَ فِي سنة خمس وَتِسْعين وعمره مائَة وَثَلَاثُونَ سنة. الْخَامِس: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم بصريون غير ابْن مَسْعُود. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ مفرقا عَن مُسَدّد وَيزِيد بن زُرَيْع، وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد بن السّري. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن يحيى بن حَكِيم، ثمَّ إِن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان مَوْقُوفا. وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عبيد الله بن معَاذ عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان مَرْفُوعا، وَذكر أَن رَفعه غلط، وَرَوَاهُ أَكثر أَصْحَاب سُلَيْمَان عَنهُ كَمَا هُنَا مَوْقُوفا حَدِيث المحفلة من كَلَام ابْن مَسْعُود، وَحَدِيث النَّهْي عَن التلقي مَرْفُوع، وَخَالفهُم أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، فَرَوَاهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد مَرْفُوعا. أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَشَارَ إِلَى وهمه أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَردهَا فليرد مَعهَا صَاعا) ، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ من قبيل:
(علفتها تبنا وَمَاء بَارِدًا)

بِأَن يُقَال: إِن ثمَّة إضمارا أَي: وسقيتها مَاء، أَو يَجْعَل: علفتها، مجَازًا عَن فعل شَامِل للتعليف والسقي، نَحْو: أعطيتهَا. وَقيل: فَردهَا أَي أَرَادَ ردهَا فليرد مَعهَا، وَقَالَ بَعضهم: يجوز أَن تكون مَعَ بِمَعْنى بعد، فَيكون الْمَعْنى فليرد بعْدهَا صَاعا. وَاسْتشْهدَ لقَوْله هَذَا بقوله تَعَالَى: {وَأسْلمت مَعَ سُلَيْمَان} (النَّمْل: 44) . قلت: لم يذكر النُّحَاة لمع إلاَّ ثَلَاث معَان: أَحدهَا: مَوضِع الِاجْتِمَاع، وَلِهَذَا يخبر بهَا عَن الذوات نَحْو: {وَالله مَعكُمْ} (مُحَمَّد: 53) . الثَّانِي: زَمَانه، نَحْو جئْتُك مَعَ الْعَصْر. وَالثَّالِث: مرادفة: عِنْد، وَمَا رَأَيْت فِي كتب الْقَوْم مَا يدل على مَا ذكره. قَوْله: (تلقى) ، أَي: يسْتَقْبل، والتلقي الِاسْتِقْبَال، وَهُوَ بِضَم التَّاء وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْقَاف، ويروى بِالتَّخْفِيفِ. قَوْله: (الْبيُوع) ، أَي: أَصْحَاب الْبيُوع، أَو المُرَاد من الْبيُوع: المبيعات.

0512 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِك عنْ أبِي الزِّنادِ عَن الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ ولاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ ولاَ تَنَاجَشُوا ولاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبادٍ ولاَ تُصَرُّوا الْغَنَمَ ومَنِ ابْتَاعَهَا فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أنْ يَحْتَلِبَهَا إنْ رَضِيَهَا أمْسَكَهَا وإنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وصاعا مِنْ تَمْرٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة أوضح مَا يكون. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، الْكل عَن مَالك.
قَوْله: (لَا تلقوا الركْبَان) ، بِفَتْح الْقَاف، وَأَصله: لَا تتلقوا، بتاءين، فحذفت إِحْدَاهمَا أَي: لَا تستقبلوا الَّذين يحملون الْمَتَاع إِلَى الْبَلَد للاشتراء مِنْهُم، قبل قدوم الْبَلَد وَمَعْرِفَة السّعر. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَأما قَوْله: (لَا تلقوا الركْبَان) ، فقد رُوِيَ هَذَا الْمَعْنى بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة، فَرَوَاهُ الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة: (لَا تلقوا الركْبَان) وَفِي رِوَايَة ابْن سِيرِين: (لَا تلقوا الجلب) وَلَا رِوَايَة أبي صَالح وَغَيره: نهى أَن يتلَقَّى السّلع حَتَّى يدْخل الْأَسْوَاق، وروى

(11/275)


ابْن عَبَّاس: لَا تستقبلوا السُّوق وَلَا يتلَقَّى بَعْضكُم لبَعض، وَالْمعْنَى وَاحِد، فَحَمله مَالك على أَنه: لَا يجوز أَن يَشْتَرِي أحد من الجلب السّلع الهابطة إِلَى الْأَسْوَاق، سَوَاء هَبَطت من أَطْرَاف الْمصر أَو من الْبَوَادِي، حَتَّى يبلغ بالسلعة سوقها. وَقيل لمَالِك: أَرَأَيْت إِن كَانَ تِلْكَ على رَأس سِتَّة أَمْيَال؟ فَقَالَ: لَا بَأْس بذلك، وَالْحَيَوَان وَغَيره فِي ذَلِك سَوَاء، وَعَن ابْن الْقَاسِم: إِذا تلقاها متلق واشتراها قبل أَن يهْبط بهَا إِلَى السُّوق، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يفْرض، فَإِن نقصت عَن ذَلِك الثّمن لَزِمت المُشْتَرِي. قَالَ سَحْنُون، وَقَالَ لي غير ابْن الْقَاسِم: يفْسخ البيع، وَقَالَ اللَّيْث: أكره تلقي السّلع وشراءها فِي الطَّرِيق أَو على بابك حَتَّى تقف السّلْعَة فِي سوقها، وَسبب ذَلِك الرِّفْق بِأَهْل الْأَسْوَاق لِئَلَّا ينقطعوا بهم عَمَّا لَهُ جَلَسُوا يَبْتَغُونَ من فضل الله تَعَالَى، فنهوا عَن ذَلِك، لِأَن فِي ذَلِك إفسادا عَلَيْهِم. وَقَالَ الشَّافِعِي: رفقا بِصَاحِب السّلْعَة لِئَلَّا يبخس فِي ثمن سلْعَته، وَعند أبي حنيفَة: من أجل الضَّرَر، فَإِن لم يضر بِالنَّاسِ تلقي ذَلِك لضيق الْمَعيشَة، وحاجتهم إِلَى تِلْكَ السّلْعَة، فَلَا بَأْس بذلك، وَقَالَ ابْن حزم: لَا يحل لأحد أَن يتلَقَّى الجلب، سَوَاء خرج لذَلِك أَو كَانَ سائرا على طَرِيق الْجلاب، وَسَوَاء بَعُدَ مَوضِع تلقيه أَو قرُبَ، وَلَو أَنه عَن السُّوق على ذِرَاع فَصَاعِدا، لَا لأَصْحَابه وَلَا لغير ذَلِك، أضرّ ذَلِك بِالنَّاسِ أَو لم يضر، فَمن تلقى جلبا أَي شَيْء كَانَ فَإِن الجالب بِالْخِيَارِ إِذا دخل السُّوق مَتى مَا دخله، وَلَو بعد أَعْوَام فِي إِمْضَاء البيع أَو رده. قَوْله: (وَلَا يَبِيع بَعْضكُم على بيع بعض. .) إِلَى آخِره، قد مر الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى مُسْتَوفى، وَالله تَعَالَى أَعلم.

56 - (بابٌ إِن شاءَ رَدَّ المُصَرَّاةَ وفِي حَلُبتِهَا صاعٌ مِنْ تَمْرٍ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِن شَاءَ المُشْتَرِي ترك بَيْعه رد الْمُصراة، وَالْحَال أَن الْوَاجِب فِي حلبتها صَاع من تمر، الحلبة بِسُكُون اللَّام اسْم الْفِعْل، وَيجوز الْفَتْح على أَنه بِمَعْنى المحلوب، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْوَاجِب رد صَاع من تمر، سَوَاء كَانَ اللَّبن قَلِيلا أَو كثيرا. قَوْله: (رد) ، فعل مَاض، والمصراة مَفْعُوله، وَالْجُمْلَة جَوَاب الشَّرْط.

1512 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حَدثنَا المَكِّيُّ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْج قَالَ أخبرَني زِياد أنَّ ثَابتا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ زَيْدٍ أخبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منِ اشْتَرَى غنَمَا مُصَرَّاةً فاحْتَلَبَهَا فإنْ رَضِيَهَا أمْسَكَها وإنْ سَخِطَهَا فَفي حَلْبَتِهَا صاعٌ مِنْ تَمْرٍ. .

مطابقتها للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن عَمْرو، بِفَتْح الْعين، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِغَيْر ذكر جده، وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن الْهَمدَانِي عَن الْمُسْتَمْلِي: مُحَمَّد بن عَمْرو بن جبلة، وَكَذَا قَالَ أَبُو أَحْمد الْجِرْجَانِيّ فِي رِوَايَته عَن الْفربرِي، وَفِي رِوَايَة أبي عَليّ بن شبويه عَن الْفربرِي: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو يَعْنِي: ابْن جبلة وأهمل الْبَاقُونَ ذكر جده، وَجزم الدَّارَقُطْنِيّ بِأَنَّهُ: مُحَمَّد بن عَمْرو أَبُو غَسَّان الْمَعْرُوف بزنيج، بِضَم الزَّاي وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره جِيم، وَجزم الْحَاكِم والكلاباذي بِأَنَّهُ: مُحَمَّد بن عَمْرو السواق، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وبالقاف: الْبَلْخِي، وَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ: مَاتَ سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: الْمَكِّيّ، على صُورَة النِّسْبَة إِلَى مَكَّة، وَهُوَ اسْمه الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم، وَقد مر فِي: بَاب إِثْم من كذب فِي كتاب الْعلم. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج. الرَّابِع: زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف ابْن سعد بن عبد الرَّحْمَن. الْخَامِس: ثَابت، بالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن عِيَاض بن الْأَحْنَف. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن الْمَكِّيّ هُوَ شَيْخه وَلكنه روى عَنهُ هَهُنَا بِوَاسِطَة. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ الْبَلْخِي على رِوَايَة الْحَاكِم والرازي على رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ، وَأَن شيخ شَيْخه زيادا بلخيان، وَلَكِن زِيَاد أسكن خُرَاسَان ثمَّ مَكَّة، وَكَانَ شريك ابْن جريج، وَأَن ثَابتا مدنِي.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع أَيْضا عَن عبد الله بن مخلد التَّمِيمِي عَن الْمَكِّيّ.
قَوْله: (غنما) هُوَ اسْم مؤنث مَوْضُوع للْجِنْس يَقع على الذُّكُور وعَلى الْإِنَاث. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا الصَّاع إِنَّمَا يجب فِي الْغنم وَمَا فِي حكمهَا من مَأْكُول اللَّحْم، بِخِلَاف النَّهْي عَن التصرية وَثُبُوت الْخِيَار فَإِنَّهُمَا عامان لجَمِيع

(11/276)


الْحَيَوَانَات. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) بردهَا بِدُونِ الصَّاع، لِأَن الأَصْل أَنه إِذا أتلف شَيْئا لغيره رد مثله إِن كَانَ مثلِيا وإلاَّ فَقيمته، وَأما جنس آخر من الْعرُوض فخلاف الْأُصُول. قلت: هَذَا بِعَيْنِه مَذْهَب الْحَنَفِيَّة. قَوْله: (فَفِي حلبتها صَاع من تمر) ظَاهره أَن صَاع التَّمْر فِي مُقَابل الْمُصراة، سَوَاء كَانَت وَاحِدَة أَو أَكثر، لقَوْله: من اشْترى غنما، لأَنا قد ذكرنَا أَنه اسْم جنس. ثمَّ قَالَ: (وَفِي حلبتها صَاع من تمر) وَنقل ابْن عبد الْبر عَمَّن اسْتعْمل الحَدِيث، وَابْن بطال عَن أَكثر الْعلمَاء، وَابْن قدامَة عَن الشَّافِعِيَّة والحنابلة وَعَن أَكثر الْمَالِكِيَّة: يرد عَن كل وَاحِدَة صَاعا. وَقَالَ الْمَازرِيّ: من المستبشع أَن يغرم متْلف لبن ألف شَاة كَمَا يغرم متْلف لبن شَاة وَاحِدَة، قلت: استغنت الْحَنَفِيَّة عَن مثل هَذِه التعسفات، ومذهبهم كَمَا مر أَن الْمُصراة لَا ترد، وَلكنه يرجع بِنُقْصَان الْعَيْب، على أَن فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَن أبي حنيفَة.