عمدة القاري شرح صحيح البخاري

66 - (بابُ بَيْع الْعَبْدِ الزَّانِي)

أَي: هَذَا بَاب فِي جَوَاز بيع العَبْد الزَّانِي مَعَ بَيَان عَيبه.
وَقَالَ شُرَيْحٌ إنْ شَاءَ رَدَّ مِنَ الزِّنَا
شُرَيْح هُوَ ابْن الْحَارِث الْكِنْدِيّ القَاضِي، وَقد مر غير مرّة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق ابْن سِيرِين: أَن رجلا اشْترى من رجل جَارِيَة كَانَت فجرت وَلم يعلم بذلك المُشْتَرِي فخاصمه إِلَى شُرَيْح، فَقَالَ: إِن شَاءَ رد من الزِّنَا. قلت: وَعند الْحَنَفِيَّة الزِّنَا عيب فِي الْأمة دون الْغُلَام، لِأَنَّهُ يخل بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا، وَهُوَ الاستفراش وَطلب الْوَلَد، وَالْمَقْصُود من الْغُلَام الِاسْتِخْدَام، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت بنت الزِّنَا فَهُوَ عيب، وَعند مُحَمَّد فِي (الأمالي) لَو اشْترى جَارِيَة بَالِغَة وَكَانَت قد زنت عِنْد البَائِع فَلِلْمُشْتَرِي أَن يردهَا، وَإِن لم تزن عِنْده للحوق الْعَار بالأولاد، وَلَكِن الْمَذْهَب أَن الْعُيُوب كلهَا لَا بُد لَهَا من المعاودة عِنْد المُشْتَرِي حَتَّى يرد إلاَّ الزِّنَا فِي الْجَارِيَة، كَمَا ذكره مُحَمَّد.

2512 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا زَنَتِ الأمَةُ فتَبَيَّنَ زِناهَا فَلْيَجْلِدْهَا ولاَ يُثَرِّبْ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ولاَ يُثَرِّبْ ثُمَّ إنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا ولَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعر. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فليبعها) ، فَإِنَّهُ يدل على جَوَاز بيع الزَّانِي، وَفِيه الْإِشْعَار بِأَن الزِّنَا عيب.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة وَاسم أبي سعيد: كيسَان الْمَدِينِيّ مولى بني لَيْث، وَكَانَ سعيد يسكن الْمقْبرَة فنسب إِلَيْهَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله، وَفِي الْمُحَاربين عَن عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن عِيسَى بن حَمَّاد، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: رَوَاهُ ابْن جريج وَإِسْمَاعِيل ابْن أُميَّة وَأُسَامَة بن زيد وَعبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وَأَيوب بن مُوسَى وَمُحَمّد بن عجلَان وَابْن أبي ذِئْب وَعبيد الله بن عمر، فَقَالُوا: عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، لم يذكرُوا أَبَا سعيد، وَفِي مُسلم كَذَلِك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَتبين زنَاهَا) ، أَي: بِالْبَيِّنَةِ أَو بالحبل أَو بِالْإِقْرَارِ. قَوْله: (فليجلدها) ، وَفِي رِوَايَة أَيُّوب بن مُوسَى: فليجلدها الْحَد، قَالَ أَبُو عمر: لَا نعلم أحدا ذكر فِيهِ الْحَد غَيره. قَوْله: (وَلَا يثرب) من التثريب، بالثاء الْمُثَلَّثَة بعد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ التعيير وَالِاسْتِقْصَاء فِي اللوم، أَي: لَا يزِيد فِي الْحَد، وَلَا يؤذيها بالْكلَام، وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ أَن لَا يقْتَصر على التثريب، بل يُقَام عَلَيْهَا الْحَد. قَوْله: (وَلَو بِحَبل) أَي: وَلَو كَانَ البيع بِحَبل من شعر، وَهَذَا مُبَالغَة فِي التحريض بِبَيْعِهَا، وَذكر الْحَبل بِمَعْنى التقليل والتزهيد عَن الزَّانِيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز بيع الزَّانِي، وَقَالَ أهل الظَّاهِر: البيع وَاجِب. وَفِيه: أَن الزِّنَا عيب فِي الْجَارِيَة، وَقد ذكرنَا أَنه لَيْسَ بِعَيْب فِي الْغُلَام إلاَّ إِذا كَانَ مُعْتَادا بِهِ. وَفِيه: أَن الزَّانِيَة تجلد، وَمِمَّنْ كَانَ يجلدها إِذا زنت أَو يَأْمر برجمها ابْن مَسْعُود وَأَبُو بَرزَة وَفَاطِمَة وَابْن عمر وَزيد بن ثَابت وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وأشياخ الْأَنْصَار وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى

(11/277)


وعلقمة وَالْأسود وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ أَبُو ميسرَة.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي العَبْد إِذا زنى: هَل الزِّنَا عيب فِيهِ يجب رده بِهِ أم لَا؟ فَقَالَ مَالك: هُوَ عيب فِي العَبْد وَالْأمة، وَهُوَ قَول أَحْمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَقَول الشَّافِعِي: كل مَا ينقص من الثّمن فَهُوَ عيب. وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: هُوَ عيب فِي الْجَارِيَة دون الْغُلَام، كَمَا ذَكرْنَاهُ، ثمَّ هَل يجلدها السَّيِّد أم لَا؟ فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: نعم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُقيم الْجلد أَو الْحَد إلاَّ الإِمَام، بِخِلَاف التَّعْزِير، وَاحْتج بِحَدِيث: أَربع إِلَى الْوَالِي ... فَذكر مِنْهَا الْحُدُود.
وَهل يَكْتَفِي السَّيِّد يعلم الزِّنَا أم لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عِنْد الْمَالِكِيَّة، وَلم يذكر فِي الحَدِيث عدد الْجلد، وروى النَّسَائِيّ: أَن رجلا أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِن جاريتي زنت وَتبين زنَاهَا، قَالَ: إجلدها خمسين، ثمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: عَادَتْ، وَتبين زنَاهَا. قَالَ: إجلدها خمسين، ثمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: عَادَتْ. قَالَ: بعها وَلَو بِحَبل من شعر، وَالْأمة لَا ترْجم، سَوَاء كَانَت متزوجة أم لَا.
وَالزَّانِي إِذا حد ثمَّ زنى ثَانِيًا لزمَه حد آخر، على ذَلِك الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، والإحصان فِي الرَّجْم شَرط، والشروط سَبْعَة: الْحُرِّيَّة وَالْعقل وَالْبُلُوغ وَالْإِسْلَام، وَعَن أبي يُوسُف أَنه لَيْسَ بِشَرْط، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم يهوديين، قُلْنَا: كَانَ ذَلِك بِحكم التَّوْرَاة قبل نزُول آيَة الْجلد فِي أول مَا دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَصَارَ مَنْسُوخا بهَا، ثمَّ نسخ الْجلد فِي حق الْمُحصن. وَالشّرط الْخَامِس: الْوَطْء. وَالسَّادِس: أَن يكون الْوَطْء بِنِكَاح صَحِيح. وَالشّرط السَّابِع: كَونهمَا محصنين حَالَة الدُّخُول، حَتَّى لَو دخل بالمنكوحة الْكَافِرَة أَو الْمَمْلُوكَة أَو الْمَجْنُونَة أَو الصبية لم يكن مُحصنا، وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الزَّوْج عبدا أَو صَبيا أَو مَجْنُونا أَو كَافِرًا وَهِي مسلمة عَاقِلَة بَالِغَة. فَإِن قلت: كَيفَ يتَصَوَّر أَن يكون الزَّوْج كَافِرًا وَالْمَرْأَة مسلمة؟ قلت: صورته أَن يَكُونَا كَافِرين فَأسْلمت الْمَرْأَة وَدخل بهَا الزَّوْج قبل عرض الْإِسْلَام عَلَيْهِ.
وَمِنْه: استنبط قوم جَوَاز البيع بِالْغبنِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ بيع خطير بِثمن يسير، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن الْغبن الْمُخْتَلف فِيهِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ الْجَهَالَة من المغبون، وَأما مَعَ علم البَائِع بِقدر مَا بَاعَ وَمَا قبض فَلَا يخْتَلف فِيهِ، لِأَنَّهُ عَن علم مِنْهُ ورضىً، فَهُوَ إِسْقَاط لبَعض الثّمن، لَا سِيمَا أَن الحَدِيث خرج على جِهَة التزهيد وَترك الْغِبْطَة. وَفِيه: ترك اخْتِلَاط الْفُسَّاق وفراقهم. فَإِن قلت: فَمَا معنى أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِبيع الْأمة الزَّانِيَة؟ وَالَّذِي يَشْتَرِيهَا يلْزمه من اجتنابها ومباعدتها مَا يلْزم البَائِع، وَكَيف يكره شَيْئا ويرتضيه لِأَخِيهِ الْمُسلم قلت: لَعَلَّ الثَّانِي يصونها بهيبته، أَو بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، أَو لَعَلَّهَا تستعف عِنْد الثَّانِي بِأَن يُزَوّجهَا أَو يعفها بِنَفسِهِ، وَنَحْو ذَلِك.

4512 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله عنْ أبِي هُرَيْرَةَ وزَيْدِ بنِ خالِدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عنِ الأَمَةِ إذَا زَنَتْ ولَمْ تُحْصِنْ قَالَ إنْ زَنَتْ فاجْلِدُوهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فاجْلِدُوهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا ولَوْ بِنَفِيرٍ: قَالَ ابنُ شِهَابٍ لاَ أدْرِي أبَعْدَ الثَّالِثَةِ أوِ الرَّابِعَةِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. وإسْمَاعِيل هُوَ ابنُ أبي أويس، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبيد الله بن عبد الله بِالتَّصْغِيرِ فِي الإبن وَالتَّكْبِير فِي الْأَب ابْن عتبَة بن مَسْعُود، وَزيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ الصَّحَابِيّ الْمدنِي: مر فِي: بَاب الْغَضَب فِي الموعظة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَفِي الْعتْق عَن مَالك بن إِسْمَاعِيل عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي الْبيُوع أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن عَمْرو النَّاقِد وَعَن أبي الطَّاهِر، وَعَن مُحَمَّد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي وَعَن مُحَمَّد بن بكير وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح، وَلم يذكر أَبَا هُرَيْرَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْحُدُود عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن الصَّباح.
وَقَالَ أَبُو عمر: تَابع مَالِكًا على سَنَد هَذَا الحَدِيث: يُونُس بن يزِيد وَيحيى بن سعيد وَرَوَاهُ عقيل والزبيدي وَابْن أخي الزُّهْرِيّ

(11/278)


عَن عبيد الله عَن شبْل بن خَالِد الْمُزنِيّ: أَن عبد الله بن مَالك الأوسي أخبرهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْأمة ... الحَدِيث إلاَّ أَن عقيلاً وَحده قَالَ: مَالك بن عبد الله. وَقَالَ الْآخرَانِ: عبد الله بن مَالك، وَكَذَا قَالَ يُونُس بن يزِيد عَن ابْن شهَاب عَن شبْل ابْن خَالِد عَن عبد الله بن مَالك الأوسي، فَجمع يُونُس الإسنادين جَمِيعًا فِي هَذَا الحَدِيث، وَانْفَرَدَ مَالك بِإِسْنَاد وَاحِد. وَعند عقيل والزبيدي وَابْن أخي الزُّهْرِيّ فِيهِ أَيْضا بِإِسْنَاد آخر: عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله عَن أبي هُرَيْرَة وَزيد بن خَالِد وشبل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْأمة إِذا زنت ... الحَدِيث، هَكَذَا قَالَ ابْن عُيَيْنَة فِي هَذَا الحَدِيث، جعل شبلاً مَعَ أبي هُرَيْرَة وَزيد، فَأَخْطَأَ وَأدْخل إِسْنَاد حَدِيث فِي آخر، وَلم يتم حَدِيث شبْل. قَالَ أَحْمد بن زُهَيْر: سَمِعت يحيى يَقُول: شبْل لم يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا. وَفِي رِوَايَة: لَيست لَهُ صُحْبَة، يُقَال: شبْل بن معبد، وشبل بن حَامِد، روى عَن عبد الله بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ يحيى: وَهَذَا عِنْدِي أشبه. قلت: ذكر الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) : شبْل بن معبد. وَقيل: ابْن حَامِد، وَقيل: ابْن خُلَيْد الْمُزنِيّ أَو البَجلِيّ، روى عَنهُ عبيد الله بن عبد الله، وَذكر أَيْضا مَالك بن عبد الله الأوسي، وَقَالَ المستغفري: لَهُ صُحْبَة، وَيُقَال: الأويسي، وَصَوَابه: عبد الله بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَلم تحصن) ، بِضَم التَّاء وَسُكُون الْحَاء من الْإِحْصَان، ويروى بِضَم التَّاء وَفتح الْحَاء وَتَشْديد الصَّاد من التحصن من بَاب التفعل: الْإِحْصَان: الْمَنْع، وَالْمَرْأَة تكون مُحصنَة بِالْإِسْلَامِ والعفاف وَالْحريَّة والتزوج، يُقَال: أحصنت الْمَرْأَة فَهِيَ مُحصنَة، وَكَذَا الرجل، والمحصن بِالْفَتْح يكون بِمَعْنى الْفَاعِل، وَالْمَفْعُول، وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة الَّتِي جئن نَوَادِر. يُقَال: أحصن فَهُوَ مُحصن، وأسهب فَهُوَ مسهب، وأفلج فَهُوَ مفلج، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لم يقل هَذِه اللَّفْظَة غير مَالك بن أنس عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة وَيحيى بن سعيد عَن ابْن شهَاب، كَمَا رَوَاهُ مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى، وَمَفْهُومه أَنَّهَا: إِذا أحصنت لَا تجلد بل ترْجم كَالْحرَّةِ، لَكِن الْأمة تجلد مُحصنَة كَانَت أَو غير مُحصنَة، وَلَكِن لَا اعْتِبَار للمفهوم حَيْثُ نطق الْقُرْآن صَرِيحًا بِخِلَافِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أحصنَّ فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} (النِّسَاء: 52) . فَالْحَدِيث دلّ على جلد غير الْمُحصن، وَالْآيَة على جلد الْمُحصن، لِأَن الرَّجْم لَا ينصف فيجلدان عملا بالدليلين، أَو يكون الْإِحْصَان بِمَعْنى الْعِفَّة عَن الزِّنَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات} (النُّور: 4) . أَي: العفيفات. وَقَالَ الْخطابِيّ: ذكر الْإِحْصَان فِي الحَدِيث غَرِيب مُشكل جدا إلاَّ أَن يُقَال: مَعْنَاهُ الْعتْق، وَقيل: مَعْنَاهُ مَا لم تتَزَوَّج، وَقد اخْتلف فِيهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أحصن} (النِّسَاء: 52) . هَل هُوَ الْإِسْلَام أَو التَّزَوُّج؟ فتحد المتزوجة وَإِن كَانَت كَافِرَة؟ قَالَه الشَّافِعِي، أَو الْحُرِّيَّة؟ وَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أقِيمُوا على أرقائكم الْحَد، من أحصن مِنْهُم وَمن لم يحصن) . أخرجه مُسلم مَوْقُوفا، وَالنَّسَائِيّ مَرْفُوعا، فتحد الْأمة على كل حَال، أَي على أَي حَالَة كَانَت، وَيعْتَذر عَن الْإِحْصَان فِي الْآيَة لِأَنَّهُ أغلب حَال الْإِمَاء، وإحصان الْأمة عِنْد مَالك والكوفيين إسْلَامهَا، قَالَه ابْن بطال. قَوْله: (ثمَّ إِن زنت فاجلدوها) ، أَي: بعد الْجلد، أَي: إِذا جلدت ثمَّ زنت تجلد مرّة أُخْرَى، بِخِلَاف مَا لَو زنت مرَّات وَلم تجلد لوَاحِدَة مِنْهُنَّ، فَيَكْفِي حد وَاحِد للْجَمِيع. قَوْله: (بضفير) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء، هُوَ: الْحَبل المنسوج أَو المفتول، يُقَال: أضفر نسج الشّعْر وفتله، وَهُوَ فعيل بِمَعْنى مفعول، وَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ الضفر حَبل الشّعْر وَغَيره، عريضا وَهُوَ مثل تضربه الْعَرَب للتقليل، مثل: لَو مَنَعُونِي عقَالًا وَلَو فرسن شَاة. قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) ، هُوَ الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث، وَقد تردد ابْن شهَاب بقوله: لَا أَدْرِي، أبعد الثَّلَاثَة؟ الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، هَل أَرَادَ أَن بيعهَا يكون بعد الزنية الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة، وَقد جزم أَبُو سعيد المَقْبُري أَنه فِي الثَّالِثَة، كَمَا ذكره البُخَارِيّ أَولا.

76 - (بابُ الْبَيْعِ والشِّرَاءِ مَعَ النِّسَاءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم البيع وَالشِّرَاء بِالنسَاء.

5512 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا دخَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرِي وأعْتِقي فإنَّ الوَلاَءَ لِمَنْ أعْتَقَ ثُمَّ قامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الْعَشِيِّ فأثْنَى على

(11/279)


الله بِما هُوَ أهْلُهُ ثمَّ قَالَ مَا بالُ أنَاسٍ يشْتَرِطُونَ شُروطا لَيْسَ فِي كِتَابِ الله منِ اشْتَرَطَ شرْطا لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَهْوَ بَاطِلٌ وإنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شرْطٍ شَرْطُ الله أحَقُّ وأوْثَقُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اشْترى) ، يُخَاطب بِهِ عَائِشَة، وَالْبيع وَالشِّرَاء كَانَ فِي بَرِيرَة حَيْثُ اشترتها عَائِشَة من أَهلهَا وَصدق البيع وَالشِّرَاء هُنَا من النِّسَاء مَعَ الرِّجَال، وَقَالَ بَعضهم: شَاهد التَّرْجَمَة مِنْهُ قَوْله: (مَا بَال رجال يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله؟) لإشعاره بِأَن قصَّة الْمُبَايعَة كَانَت مَعَ رجال، وَكَانَ الْكَلَام فِي ذَلِك مَعَ عَائِشَة زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: فِيمَا ذكره بُعد، وَالْأَقْرَب الْأَوْجه مَا ذَكرْنَاهُ. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع عديدة بيناها فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء فِي الْمَسْجِد. واستقصينا الْكَلَام فِيهِ من سَائِر الْوُجُوه.
وَقد أَكثر النَّاس فِي حَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة بَرِيرَة من الإمعان فِي بَيَانه على اخْتِلَاف أَلْفَاظه وَاخْتِلَاف رُوَاته، وَقد ألف مُحَمَّد بن جرير فِيهِ كتابا، وَلِلنَّاسِ فِيهِ أَبْوَاب أَكْثَرهَا تكلّف وتأويلات مُمكنَة لَا يقطع بِصِحَّتِهَا.
قَوْله: (فَذكرت لَهُ) ، أَي: للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالَّذِي ذكرت لَهُ عَائِشَة مطويٌّ هُنَا، يُوضحهُ رِوَايَة عمْرَة عَن عَائِشَة، قَالَت: أتتها بَرِيرَة تسألها فِي كتَابَتهَا، فَقَالَت: إِن شِئْت أَعْطَيْت أهلك وَيكون الْوَلَاء لي. وَقَالَ أَهلهَا: إِن شِئْت أعطيتهَا مَا بَقِي. وَقَالَ سُفْيَان مرّة: إِن شِئْت أعتقيها وَيكون الْوَلَاء لنا، فَلَمَّا جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكرته ذَلِك، فَقَالَ: (إبتعيها وأعتقيها فَإِن الْوَلَاء لمن أعتق) . الحَدِيث. . فَهَذَا كُله مطويٌّ هَهُنَا من أول الْكَلَام إِلَى قَوْله: فَذكرت لَهُ، فَإِن أردْت التَّحْقِيق فَارْجِع إِلَى الْبَاب الْمَذْكُور فِي كتاب الصَّلَاة، قَوْله: (وأوثق) ، أَي: أحكم وَأقوى.

6512 - حدَّثنا حسَّانُ بنُ أبي عَبَّادٍ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ سَمِعْتُ نافِعا يحَدِّثُ عنْ عَبْدِ الله ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا ساوَمَتْ بَرِيرَةَ فَخرَجَ إلَى الصَّلاةِ فلَمَّا جاءَ قالَتْ إنَّهُمْ أبَوْا أنْ يَبِيعُوهَا إلاَّ أنْ يَشْتَرِطُوا الوَلاءَ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ قُلْتُ لِنافِعٍ حُرّا كانَ زَوْجُهَا أوْ عَبْدا قَالَ مَا يُدْرِينِي. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ساومت) ، فَإِنَّهَا مَا ساومت إلاَّ أهل بَرِيرَة، وَهُوَ البيع وَالشِّرَاء بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء، و: حسان، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ: ابْن أبي عباد، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه أَيْضا حسان، مر فِي الْعمرَة، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ. قَالَ أَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث، وَهُوَ بَصرِي سكن مَكَّة، مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَهَمَّام بن يحيى، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن حَفْص بن عمر.
قَوْله: (ساومت بَرِيرَة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وبراءين أولاهما مَكْسُورَة: بنت صَفْوَان: كَانَت لقوم من الْأَنْصَار وَكَانَت قبطية، ذكرهَا الذَّهَبِيّ فِي الصحابيات، وَاخْتلف فِي اسْم زَوجهَا، وَالأَصَح أَن أُسَمِّهِ مغيث، بِضَم الْمِيم وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَآخره ثاء مُثَلّثَة، وَقيل: مقسم، وَقيل: معتب اسْم فَاعل من التعتيب. قَوْله: (فَخرج) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الصَّلَاة، وَقَبله كَلَام مُقَدّر بعد قَوْله: (ساومت) بَرِيرَة، وَالتَّقْدِير: طلبت عَائِشَة من أهل بَرِيرَة أَن يبيعوها لَهَا، فَقَالُوا: نبيعها لَك على أَن ولاءها لنا، وأرادت أَن تخبر بذلك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخرج إِلَى الصَّلَاة فَلَمَّا جَاءَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الصَّلَاة، قَالَت: إِنَّهُم ... إِلَى آخِره. قَوْله: (مَا يدريني؟) كلمة مَا استفهامية أَي أَي شَيْء يدريني أَي: يعلمني؟ وَفِيه: خلاف ذَكرْنَاهُ فِي: بَاب البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر.

86 - (بابٌ هَلْ يَبِيعُ حاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أجْرٍ وهَلْ يُعِينُهُ أوْ يَنْصَحُهُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يَبِيع حَاضر لبادٍ؟ وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي من الْبَادِيَة وَمَعَهُ شَيْء يُرِيد بَيْعه، وَقد مر تَفْسِيره غير مرّة، وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى أَن النَّهْي الْوَارِد عَن بيع الْحَاضِر للبادي إِنَّمَا هُوَ إِذا كَانَ بِأَجْر، لِأَن الَّذِي يَبِيع بِأُجْرَة لَا يكون غَرَضه نصح البَائِع، وَإِنَّمَا غَرَضه تَحْصِيل الْأُجْرَة، وَأما إِذا كَانَ بِغَيْر أجر يكون ذَلِك من بَاب النَّصِيحَة

(11/280)


والإعانة، فَيَقْتَضِي ذَلِك جَوَاز بيع الْحَاضِر للبادي من غير كَرَاهَة، فَعلم من ذَلِك أَن النَّهْي الْوَارِد فِيهِ مَحْمُول على معنى خَاص وَهُوَ البيع بِأَجْر، وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ جَوَاز ذَلِك بِغَيْر أجر، وَمنعه إِذا كَانَ بِأَجْر، كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا؛ لَا يكون لَهُ سمسارا، فَكَأَنَّهُ أجَاز ذَلِك لغير السمسار إِذا كَانَ من طَرِيق النصح، وَجَوَاب الاستفهامين يعلم من الْمَذْكُور فِي الْبَاب، وَاكْتفى بِهِ على جاري عَادَته بذلك فِي بعض التراجم.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَنْصَحَ أحَدُكُمْ أخاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ
ذكر هَذَا التَّعْلِيق تأييدا لجَوَاز بيع الْحَاضِر للبادي إِذا كَانَ بِغَيْر أجر، لِأَنَّهُ يكون من بَاب النَّصِيحَة الَّتِي أَمر بهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق أَحْمد من حَدِيث عَطاء بن السَّائِب عَن حَكِيم بن أبي يزِيد عَن أَبِيه: حَدثنِي، أبي، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (دعوا النَّاس يرْزق الله بَعضهم من بعض، فَإِذا استنصح الرجلُ الرجلَ فلينصح لَهُ) . انْتهى. والنصح إخلاص الْعَمَل من شوائب الْفساد، وَمَعْنَاهُ: حِيَازَة الْحَظ للمنصوح لَهُ، وروى أَبُو دَاوُد من طَرِيق سَالم الْمَكِّيّ أَن أَعْرَابِيًا حَدثهُ أَنه قدم بحلوبة لَهُ على طَلْحَة بن عبيد الله، فَقَالَ لَهُ: (إِن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى أَن يَبِيع حَاضر لبادٍ، وَلَكِن إذهب إِلَى السُّوق وَانْظُر من يُبَايِعك. فشاورني حَتَّى آمُرك وأنهاك) .
ورَخَّصَ فِيهِ عَطاءٌ
أَي: وَرخّص عَطاء بن أبي رَبَاح فِي بيع الْحَاضِر للبادي، وَوَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خَيْثَم عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، قَالَ: سَأَلته عَن أَعْرَابِي أبيع لَهُ؟ فَرخص لي. فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا مَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد. قَالَ: إِنَّمَا نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يَبِيع حَاضر لبادٍ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَن يُصِيب الْمُسلمُونَ غرتهم، فَأَما الْيَوْم فَلَا بَأْس. فَقَالَ عَطاء: لَا يصلح الْيَوْم. قلت: أجَاب بَعضهم بِأَن الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَن يحمل قَول عَطاء هَذَا على كَرَاهَة التَّنْزِيه؟ قلت: الْأَوْجه أَن يحمل ترخيصه فِيمَا إِذا كَانَ بِلَا أجر، وَمنعه فِيمَا إِذا كَانَ بِأَجْر، وَقَالَ بَعضهم: أَخذ بقول مُجَاهِد أَبُو حنيفَة وتمسكوا بِعُمُوم قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الدّين النَّصِيحَة) ، وَزَعَمُوا أَنه نَاسخ لحَدِيث النَّهْي، وَحمل الْجُمْهُور حَدِيث: (الدّين النَّصِيحَة) ، على عُمُومه إلاَّ فِي بيع الْحَاضِر للبادي فَهُوَ خَاص، فَيَقْضِي على الْعَام، وَهَذَا الْكَلَام فِيهِ تنَاقض، وَقَضَاء الْخَاص على الْعَام لَيْسَ بِمُطلق على زعمكم أَيْضا لاحْتِمَال أَن يكون الْخَاص ظنيا وَالْعَام قَطْعِيا، أَو يكون الْخَاص مَنْسُوخا وَأَيْضًا يحْتَمل أَن يكون الْخَاص مُقَارنًا أَو مُتَأَخِّرًا أَو مُتَقَدما، وَقَوله: والنسخ لَا يثبت فِي الِاحْتِمَال مُسلم، وَلَكِن من قَالَ: إِن قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الدّين النَّصِيحَة) ، نَاسخ لحَدِيث النَّهْي بِالِاحْتِمَالِ، بل الْأَصْلِيّ عندنَا فِي مثل هَذَا بالتراجيح: مِنْهَا أَن أحد الْخَبَرَيْنِ عمل بِهِ الْأمة، فههنا كَذَلِك، فَإِن قَوْله: (الدّين النَّصِيحَة) عمل بِهِ جَمِيع الْأمة وَلم يكن خلاف فِيهِ لأحد، بِخِلَاف حَدِيث النَّهْي، فَإِن الْكل لم يعْمل بِهِ، فَهَذَا الْوَجْه من جملَة مَا يدل على النّسخ، وَمِنْهَا أَن يكون أحد الْخَبَرَيْنِ أشهر من الآخر، وَهَهُنَا كَذَلِك بِلَا خلاف.

7531 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ إسْمَاعِيلَ عنْ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ بايَعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلى شَهادةِ أَن لَا إلاه إلاَّ الله وأنَّ مُحَمَّدا رسُولُ الله وإقَامِ الصَّلاةِ وإيْتَاءِ الزَّكَاةِ والسَّمْعِ والطَّاعَةِ والنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: أَو ينصحه، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد وَاسم أبي خَالِد سعد، وَقيل: هُرْمُز، وَقيل: كثير، وَقيس هُوَ ابْن أبي حَازِم واسْمه عَوْف، سمع من الْعشْرَة المبشرة، وَالثَّلَاثَة أَعنِي: اسماعيل وقيسا وجريرا: بجليون كوفيون مكتنون بِأبي عبد الله، وَهَذَا من النَّوَادِر، والْحَدِيث مضى فِي آخر كتاب الْإِيمَان من: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الدّين النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ) ، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.

8512 - حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ محَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبْدِ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا طاووُسٍ

(11/281)


عَن أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ ولاَ يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ قَالَ فَقُلْتُ لابنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ لاَ يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ قَالَ لاَ يَكُونُ لَهُ سِمْسارا.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قَوْله: (لَا يَبِيع حَاضر لباد) يُوضح الْإِبْهَام الَّذِي فِي التَّرْجَمَة بالاستفهام، وَأَن جَوَابه: لَا يَبِيع.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: الصَّلْت، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق: ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الخاركي، مر فِي الصَّلَاة. الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْعَبْدي. الثَّالِث: معمر، بِفَتْح الميمين: ابْن رَاشد. الرَّابِع: عبد الله بن طَاوُوس. الْخَامِس: أَبوهُ طَاوُوس بن كيسَان. السَّادِس: عبد الله بن الْعَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه وَعبد الْوَاحِد وَمعمر بصريون وَعبد الله وَأَبوهُ يمانيان. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِجَارَة عَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي التِّجَارَات عَن عَبَّاس بن عبد الْعَظِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا تلقوا الركْبَان) ، أَصله: لَا تتلقوا بتاءين فحذفت إِحْدَاهمَا كَمَا فِي نَارا تلظى، أَصله: تتلظى، والركبان، بِضَم الرَّاء جمع رَاكب، وَلَا يَبِيع بِصُورَة النَّفْي، ويروى: وَلَا يبع، بِصُورَة النَّهْي وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لَا تلقوا الركْبَان للْبيع. قَوْله: (سمسارا) أَي: دلاَّلاً، والسمسار فِي الأَصْل هُوَ الْقيم بِالْأَمر والحافظ لَهُ، ثمَّ اسْتعْمل فِي مُتَوَلِّي البيع وَالشِّرَاء لغيره، وَمَعْنَاهُ: أَن يَبِيع لَهُ بِالْأُجْرَةِ، وَقد مر الْكَلَام فِيمَا مضى من الَّذِي ذكر فِي هَذَا الْبَاب وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَو خَالف النَّهْي وَبَاعَ الْحَاضِر للبادي صَحَّ البيع مَعَ التَّحْرِيم، قلت: هَذَا عَجِيب مِنْهُم، لِأَن النَّهْي عِنْدهم يرفع الحكم مُطلقًا. فَكيف يَقُولُونَ صَحَّ البيع مَعَ التَّحْرِيم؟ وَهَذَا لَا يمشي إلاَّ على أصل الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ أَيْضا: قَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز بيع الْحَاضِر للبادي مُطلقًا لحَدِيث: (الدّين النَّصِيحَة) ، قلت: لَيْسَ على الْإِطْلَاق، بل إِنَّمَا يجوز إِذا لم يكن فِيهِ ضَرَر لأحد الْمُتَعَاقدين.

96 - (بابُ مَنْ كَرِهَ أنْ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبادٍ بأجْرٍ)

(11/282)


07 - (بابٌ لَا يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ بالسَّمْسَرَةِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يَبِيع حَاضر لبادٍ بالسمسرة. قَالَ صَاحب (الْمغرب) : السمسرة مصدر، وَهِي أَن يتوكل الرجل من الْحَاضِرَة للقادمة فيبيع لَهُم مَا يجلبونه، وَفِي (التَّلْوِيح) : كَذَا هَذَا الْبَاب فِي البُخَارِيّ، وَذكر ابْن بطال أَن فِي نسخته: لَا يَشْتَرِي حَاضر لبادٍ بالسمسرة، وَكَذَا ترْجم لَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَهَذَا يكون بِالْقِيَاسِ على البيع، حَاصله أَن الْحَاضِر كَمَا لَا يَبِيع للبادي فَكَذَلِك لَا يَشْتَرِي لَهُ، وَقَالَ ابْن حبيب الْمَالِكِي: الشِّرَاء للبادي مثل البيع لَهُ، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي شِرَاء الْحَاضِر للبادي، فَكرِهت طَائِفَة كَمَا كَرهُوا البيع لَهُ، وَاحْتَجُّوا بِأَن البيع فِي اللُّغَة يَقع على الشِّرَاء كَمَا يَقع الشِّرَاء على البيع، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وشروه بِثمن بخس} (يُوسُف: 02) . أَي: باعوه، وَهُوَ من الأضداد، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أنس، وأجازت طَائِفَة الشِّرَاء لَهُم، وَقَالُوا: إِن النَّهْي إِنَّمَا جَاءَ فِي البيع خَاصَّة وَلم يعدوا ظَاهر اللَّفْظ، رُوِيَ ذَلِك عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، رَحمَه الله، وَاخْتلف قَول مَالك فِي ذَلِك، فَمرَّة قَالَ: لَا يَشْتَرِي لَهُ، وَلَا يَشْتَرِي عَلَيْهِ، وَمرَّة أجَاز الشِّرَاء لَهُ، وَبِهَذَا قَالَ اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ إِبْرَاهِيم: وَالْعرب تطلق البيع على الشِّرَاء، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا صَحِيح على مَذْهَب من جوز اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْمُشْتَرك فِي معنييه، أللهم إلاَّ أَن يُقَال: البيع وَالشِّرَاء ضدان فَلَا يَصح إرادتهما مَعًا. فَإِن قلت: فَمَا تَوْجِيهه؟ قلت: وَجهه أَن يحمل على عُمُوم الْمجَاز. انْتهى. قلت: قَول إِبْرَاهِيم: الْعَرَب تطلق البيع على الشِّرَاء، لَيْسَ مُبينًا أَنه مُشْتَرك، وَاسْتعْمل فِي معنييه، بل هما من الأضداد، كَمَا مر.
وكَرِهَهُ ابنُ سِيرينَ وإبْرَاهِيمُ لِلْبَائِعِ ولِلْمُشْتَرِي
أَي: كره مُحَمَّد بن سِيرِين وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ شِرَاء الْحَاضِر للبادي كَمَا يكرهان بَيْعه لَهُ، وَوصل تَعْلِيق ابْن سِيرِين أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيق سَلمَة بن عَلْقَمَة عَن ابْن سِيرِين، قَالَ: لقِيت أنس بن مَالك، فَقلت: لَا يَبِيع حَاضر لباد ونهيتم أَن تَبِيعُوا وتبتاعوا لَهُم؟ قَالَ: نعم. قَالَ مُحَمَّد: وَصدق، إِنَّهَا كلمة جَامِعَة، وروى أَبُو دَاوُد من طَرِيق أبي بِلَال عَن ابْن سِيرِين عَن أنس بِلَفْظ: كَانَ يُقَال: لَا يَبِيع حَاضر لباد، وَهِي كلمة جَامِعَة: لَا يَبِيع لَهُ شَيْئا وَلَا يبْتَاع لَهُ شَيْئا. انْتهى.
قَوْله: وَهِي كلمة جَامِعَة، أَرَادَ بِهِ أَن لفظ: لَا يَبِيع، كَمَا يسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ يسْتَعْمل فِي معنى الشِّرَاء أَيْضا، وَقَالَ ابْن حزم: وَرُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: كَانَ يعجبهم أَن يُصِيبُوا من الْأَعْرَاب شَيْئا، وَقَالَ أَيْضا: بيع الْحَاضِر للبادي بَاطِل، فَإِن فعل فسخ البيع وَالشِّرَاء أبدا، وَحكم فِيهِ بِحكم الْغَصْب، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رخص بَعضهم فِي أَن يَشْتَرِي حَاضر لباد، وَقَالَ الشَّافِعِي: يكره أَن يَبِيع حَاضر لباد، فَإِن بَاعَ فَالْبيع جَائِز.
وَقَالَ إبراهِيمُ إنَّ العَرَبَ تَقولُ بِعْ لِي ثَوبا وهْيَ تَعْنِي الشِّرَاءَ
إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ هَذَا الْكَلَام فِي معرض الِاحْتِجَاج فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من التَّسْوِيَة فِي الْكَرَاهَة بَين بيع الْحَاضِر للبادي وَبَين شِرَائِهِ لَهُ، قَوْله: (تَعْنِي) يَعْنِي: تقصد وتريد.

0612 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرنِي ابنُ جُرَيْجٍ عنِ ابنِ شِهاب عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُول قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَبْتَاعُ المَرْءُ علَى بَيْعِ أخِيهِ ولاَ تَناجَشُوا ولاَ يَبِيعُ حاضِرٌ لِبادٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا يَبِيع حَاضر لباد) وَلَفظ السمسرة، وَإِن لم يكن مَذْكُورا فِي الحَدِيث، فمتبادر إِلَى الذَّهَب من اللَّام فِي قَوْله: لبادٍ، فَافْهَم. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك. قَوْله: (عَن ابْن شهَاب) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي عَاصِم عَن ابْن جريج: أَخْبرنِي ابْن شهَاب. قَوْله: (لَا يبْتَاع الْمَرْء) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: لَا يَبِيع. وَقد مضى الْكَلَام فِي أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث فِي الْأَبْوَاب الْمَاضِيَة.

1612 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا مُعاذُ قَالَ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ عنْ مُحَمَّدٍ قَالَ أنَسُ

(11/283)


ابنُ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ نُهِينَا أنْ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبادٍ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَالْكَلَام فِي لفظ السمسرة مَا ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث السَّابِق، ومعاذ بِضَم الْمِيم وبالذال الْمُعْجَمَة: ابْن معَاذ الْبَصْرِيّ قاضيها، مر فِي الْحَج، وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن أبي مُوسَى عَن معَاذ بن معَاذ وَعَن أبي مُوسَى عَن ابْن أبي عدي، كِلَاهُمَا عَن ابْن عون وَعَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن أبي مُوسَى.
قَوْله: (نهينَا) ، يدل على الرّفْع كَمَا فِي قَوْله: أمرنَا. قَوْله: (أَن يَبِيع حَاضر لباد) ، وَزَاد مُسلم من طَرِيق يُونُس بن عبيد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أنس، وَإِن كَانَ أَخَاهُ أَو أَبَاهُ، وَهَذِه ثَلَاثَة أَبْوَاب مُتَوَالِيَة فِي كلهَا: بيع حَاضر لباد، لَكِن فِي الأول اسْتِفْهَام بهل، وَفِي الثَّانِي نَص على الْكَرَاهَة بِأَجْر، وَفِي الثَّالِث نهي فِي صُورَة النَّفْي مُقَيّد بالسمسرة، وَهُوَ تَرْتِيب حسن فِيهِ إِشَارَة إِلَى الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة فِيهَا، وَإِلَى تَكْثِير الطّرق للتقوية والتأكيد، وَإِلَى إِسْنَاد كل حكم إِلَى رِوَايَة الشَّيْخ الَّذِي اسْتدلَّ بِهِ عَلَيْهِ.

17 - (بابُ النَّهْيِ عنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي عَن تلقي الركْبَان، أَي: عَن استقبالهم لابتياع مَا يحملونه إِلَى الْبَلَد قبل أَن يقدموا الْأَسْوَاق.
وأنَّ بَيْعَهُ مَرْدُودُ لأِنَّ صاحِبَهُ عاصٍ آثِمٌ إذَا كانَ بهِ عالِما وهوَ خِدَاعٌ فِي البَيْعِ والخِدَاعُ لاَ يَجُوزُ

وَأَن بَيْعه، بِفَتْح الْهمزَة أَي: وَأَن بيع متلقي الركْبَان مَرْدُود، وَالضَّمِير يرجع إِلَى المتلقي الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: عَن تلقي الركْبَان، كَمَا فِي قَوْله: {إعدلوا هُوَ أقرب} (الْمَائِدَة: 8) . أَي: الْعدْل الَّذِي هُوَ الْمصدر يدل عَلَيْهِ إعدلوا، وَالْمرَاد بِالْبيعِ العقد. وَقَوله: مَرْدُود، أَي: بَاطِل، يرد إِذا وَقع، وَقد ذهب البُخَارِيّ فِي هَذَا إِلَى مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة، وَقَالَ بَعضهم: جزم البُخَارِيّ بِأَن البيع مَرْدُود بِنَاء على أَن النَّهْي يقتض الْفساد لَكِن مَحل ذَلِك عِنْد الْمُحَقِّقين فِيمَا يرجع الى ذَات النَّهْي لَا فِيمَا إِذا كَانَ يرجع إِلَى أَمر خَارج عَنهُ، فَيصح البيع وَيثبت الْخِيَار بِشَرْطِهِ. انْتهى. قلت: هَؤُلَاءِ الْمُحَقِّقُونَ هم الْحَنَفِيَّة، فَإِن مَذْهَبهم فِي بَاب النَّهْي هَذَا، وَيَنْبَنِي على هَذَا الأَصْل مسَائِل كَثِيرَة محلهَا كتب الْفُرُوع. وَقَالَ ابْن حزم: وَهُوَ حرَام سَوَاء خرج للتلقي أم لَا، بَعُدَ مَوضِع تلقيه أم قَرُبَ، وَلَو أَنه عَن السُّوق على ذِرَاع، والجالب بِالْخِيَارِ إِذا دخل السُّوق فِي إِمْضَاء البيع أَو رده. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: كره تلقي السّلع بِالشِّرَاءِ مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ، فَذهب مَالك إِلَى أَنه: لَا يجوز تلقي السّلع حَتَّى تصل إِلَى السُّوق، وَمن تلقاها فاشتراها مِنْهُم يشْتَرك فِيهَا أهل السُّوق، إِن شَاءُوا كَانَ وَاحِدًا مِنْهُم. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: وَإِن لم يكن للسلعة سوق عرضت على النَّاس فِي الْمصر فيشتركون فِيهَا إِن أَحبُّوا، فَإِن أخذوها وإلاَّ ردوهَا عَلَيْهِ، وَلَا يرد على بَائِعهَا، وَقَالَ غَيره: يفْسخ البيع فِي ذَلِك. وَقَالَ الشَّافِعِي: من تلقاها فقد أَسَاءَ، وَصَاحب السّلْعَة بِالْخِيَارِ إِذا قدم بِهِ السُّوق فِي إِنْفَاذ البيع أوردهُ، لأَنهم يتلقونهم فَيُخْبِرُونَهُمْ بكساد السّلع وَكَثْرَتهَا. وهم أهل غرَّة ومكر وخديعة، وحجته حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فَإِذا أَتَى سَيّده السُّوق فَهُوَ بِالْخِيَارِ. وَذهب مَالك أَن نَهْيه عَن التلقي إِنَّمَا يُرِيد بِهِ نفع أهل السُّوق لَا نفع رب السّلْعَة، وعَلى ذَلِك يدل مَذْهَب الْكُوفِيّين وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ: مَعْنَاهُ: لِئَلَّا يَسْتَفِيد الْأَغْنِيَاء وَأَصْحَاب الْأَمْوَال بِالشِّرَاءِ دون أهل الضعْف، فَيُؤَدِّي ذَلِك إِلَى الضَّرَر بهم فِي مَعَايشهمْ، وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ مَالك: إِنَّه يشْتَرك مَعَهم إِذا تلقوا السّلع، وَلَا ينْفَرد بهَا الْأَغْنِيَاء.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: إِذا كَانَ التلقي فِي أَرض لَا يضر بِأَهْلِهَا فَلَا بَأْس بِهِ، وَإِن كَانَ يضرهم فَهُوَ مَكْرُوه، وَاحْتج الْكُوفِيُّونَ بِحَدِيث ابْن عمر، قَالَ: كُنَّا نتلقى الركْبَان فنشتري مِنْهُم الطَّعَام، فنهانا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نبيعه حَتَّى نبلغ بِهِ سوق الطَّعَام. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث إِبَاحَة التلقي، وَفِي أَحَادِيث غَيره النَّهْي عَنهُ، وَأولى بِنَا أَن نجْعَل ذَلِك على غير التضاد فَيكون مَا نهى عَنهُ من التلقي لما فِي ذَلِك من الضَّرَر على غير المتلقين المقيمين فِي السُّوق، وَمَا أُبِيح من التلقي هُوَ مَا لَا ضَرَر فِيهِ عَلَيْهِم. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ أَيْضا. وَالْحجّة فِي إجَازَة الشِّرَاء مَعَ التلقي الْمنْهِي عَنهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (لَا تلقوا الجلب، فَمن تَلقاهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذا أَتَى السُّوق) . فِيهِ جعل الْخِيَار مَعَ النَّهْي، وَهُوَ دَال على الصِّحَّة، إِذْ لَا يكون الْخِيَار إلاَّ فِيهَا، إِذْ لَو كَانَ فَاسِدا لأجبر بَائِعه ومشتريه على فَسخه. قلت: حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد والطَّحَاوِي أَيْضا، وَحَدِيث ابْن

(11/284)


عمر الْمَذْكُور الْآن أخرجه مُسلم والطَّحَاوِي. قَوْله: (لِأَن صَاحبه) أَي: صَاحب التلقي (عاصٍ آثم) أَي: مرتكب الْإِثْم (إِذا كَانَ بِهِ) ، أَي: بِالنَّهْي عَن تلقي الركْبَان عَالما، لِأَنَّهُ ارْتكب الْمعْصِيَة مَعَ علمه بورود النَّهْي عَن ذَلِك، وَالْعلم شَرط لكل مَا نهى عَنهُ. قَوْله: (وَهُوَ خداع) ، أَي: تلقي الركْبَان خداع للمقيمين فِي الْأَسْوَاق أَو لغير المتلقين، وَالْخداع حرَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الخديعة فِي النَّار) ، أَي: صَاحب الخديعة، وَقَالَ بَعضهم: لَا يلْزم من ذَلِك. . أَي: من كَونه خداعا أَن يكون البيع مردودا، لِأَن النَّهْي لَا يرجع إِلَى نفس العقد وَلَا يخل بِشَيْء من أَرْكَانه وشرائطه، بل لدفع الضَّرَر بالركبان. قلت: هَذَا التَّعْلِيل هُوَ الَّذِي يَقُول بِهِ الْحَنَفِيَّة فِي أَبْوَاب النَّهْي، وَالْعجب من الشَّافِعِيَّة أَنهم يَقُولُونَ: إِن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد، ثمَّ مُطلقًا فِي بعض الْمَوَاضِع، يذهبون إِلَى مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة، وَقَالَ بَعضهم: يُمكن أَن يحمل قَول البُخَارِيّ: إِن البيع مَرْدُود، على مَا إِذا اخْتَار البَائِع رده، فَلَا يُخَالف الرَّاجِح. قلت: هَذَا الْحمل الَّذِي ذكره هَذَا الْقَائِل يردهُ هَذِه التأكيدات الَّتِي ذكرهَا. وَهِي قَوْله: (لِأَن صَاحبه عَاص) إِلَى آخِره، وَلم يبْق بعد هَذِه إلاَّ أَن يُقَال: كَاد أَن يخرج من الْإِيمَان، أَلا تَرى إِلَى الْإِسْمَاعِيلِيّ كَيفَ اعْترض عَلَيْهِ وألزمه هَذَا التَّنَاقُض بِبيع الْمُصراة، فَإِن فِيهِ خداعا، وَمَعَ ذَلِك لم يبطل البيع، وبكونه فصل فِي بيع الْحَاضِر للبادي بَين أَن يَبِيع لَهُ بِأَجْر أَو بِغَيْر أجر، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ أَيْضا بِحَدِيث حَكِيم بن حزَام الْمَاضِي فِي بيع الْخِيَار، فَفِيهِ: (فَإِن كذبا وكتما محقت بركَة بيعهمَا) ، قَالَ: فَلم يبطل بيعهَا بِالْكَذِبِ والكتمان للعيب، وَقد ورد بِإِسْنَاد صَحِيح: أَن صَاحب السّلْعَة إِذا بَاعهَا لمن تَلقاهُ يصير بِالْخِيَارِ إِذا دخل السُّوق، ثمَّ سَاقه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة. انْتهى. وَلَو كَانَ للْحَمْل الَّذِي ذكر الْقَائِل الْمَذْكُور وَجه لذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ وَلَا أطنب فِي هَذَا الِاعْتِرَاض. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجَاز أَبُو حنيفَة التلقي وَكَرِهَهُ الْجُمْهُور. قلت: لَيْسَ مَذْهَب أبي حنيفَة كَمَا ذكره على الْإِطْلَاق، وَلَكِن على التَّفْصِيل الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَالْعجب من ابْن الْمُنْذر وَأَمْثَاله كَيفَ ينقلون عَن أبي حنيفَة شَيْئا لم يقل بِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِك مِنْهُم من أريحية العصبية على مَا لَا يخفى.

2612 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حَدثنَا عُبَيْدُ الله العُمَرِيُّ عنْ سَعِيِدِ بنِ أبِي سَعِيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ التَّلَقِّي وأنْ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبادٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عَن التلقي) ، وَعبد الْوَهَّاب هُوَ ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَعبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، وَسَعِيد هُوَ المَقْبُري، وَهَذَا من أَفْرَاده مُشْتَمل على حكمين مضى الْبَحْث فيهمَا.

3612 - حدَّثني عَيَّاشُ بنُ الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الأعْلَى قَالَ حدَّثنا مَعْمَرٌ عنِ ابنِ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ قَالَ سألْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما مَا مَعْنَى قَوْلِهِ لاَ يَبِيعَنَّ حاضِرٌ لِبادٍ فَقَالَ لاَ يَكنْ لَهُ سِمْسارا. (انْظُر الحَدِيث 8512 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذَا الحَدِيث مُخْتَصر عَن الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ فِي: بَاب هَل يَبِيع حَاضر لباد، فبالنظر إِلَى أصل الحَدِيث الْمُطَابقَة مَوْجُودَة، وَعَيَّاش، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف والشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْوَلِيد أَبُو الْوَلِيد الرقام الْبَصْرِيّ، وَعبد الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى، وَمعمر بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

4612 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثني التيْمِيُّ عنْ أبِي عُثْمَانَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مَنِ اشْتَرَى مُحَفَّلَةً فَلْيَرُدَّ معَها صَاعا ونَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ تَلَقِّي البُيُوعِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عَن تلقي الْبيُوع) ، التَّمِيمِي هُوَ سُلَيْمَان بن طرخان أَبُو الْمُعْتَمِر، وَأَبُو عُثْمَان هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ، بالنُّون، وَهَؤُلَاء كلهم بصريون، وَقد مضى الحَدِيث فِي: بَاب النَّهْي للْبَائِع أَن لَا يحفل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن

(11/285)


مُعْتَمر عَن أَبِيه سُلَيْمَان التَّمِيمِي عَن أبي عُثْمَان عبد الرَّحْمَن النَّهْدِيّ عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

27 - (بابُ مُنْتَهَى التَّلَقِّي)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مُنْتَهى جَوَاز التلقي، وَهُوَ إِلَى أَعلَى سوق الْبَلَد، وَأما التلقي الْمحرم فَهُوَ مَا كَانَ إِلَى خَارج الْبَلَد. وَاعْلَم أَن التلقي لَهُ ابْتِدَاء وانتهاء. وَأما ابتداؤه فَهُوَ من الْخُرُوج من منزله إِلَى السُّوق، وَأما انتهاؤه فَهُوَ من جِهَة الْبَلَد لَا حد لَهُ. وَأما من جِهَة التلقي فَهُوَ أَن يخرج من أَعلَى السُّوق، وَأما التلقي فِي أَعلَى السُّوق فَهُوَ جَائِز لما فِي حَدِيث ابْن عمر: كَانُوا يتبايعون فِي أَعْلَاهُ، وَأما مَا كَانَ خَارِجا من السُّوق فِي الْحَاضِرَة أَو قَرِيبا مِنْهَا بِحَيْثُ يجد من يسْأَله عَن سعرها فَهَذَا يكره لَهُ أَن يَشْتَرِي هُنَاكَ، لِأَنَّهُ دَاخل فِي معنى التلقي، وَإِن خرج من السُّوق وَلم يخرج عَن الْبَلَد فقد صرح الشَّافِعِيَّة بِأَنَّهُ لَا يدْخل فِي النَّهْي. وَأما الْموضع الْبعيد الَّذِي لَا يقدر فِيهِ على ذَلِك فَيجوز فِيهِ البيع، وَلَيْسَ بتلق. قَالَ مَالك: وأكره أَن يَشْتَرِي فِي نواحي الْمصر حَتَّى يهْبط إِلَى السُّوق. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: بَلغنِي هَذَا القَوْل عَن أَحْمد وَإِسْحَاق: أَنَّهُمَا نهيا عَن التلقي خَارج السُّوق ورخصا فِي ذَلِك فِي أَعْلَاهُ، ومذاهب الْعلمَاء فِي حد التلقي مُتَقَارِبَة، وروى عَن يحيى بن سعيد أَنه قَالَ، فِي مِقْدَار الْميل من الْمَدِينَة أَو آخر منازلها: هُوَ من تلقي الْبيُوع الْمنْهِي عَنهُ، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: أَن الْميل من الْمَدِينَة لَيْسَ بتلقٍ. وَقيل لَهُ: فَإِن كَانَ على سِتَّة أَمْيَال؟ قَالَ: لَا بَأْس بِالشِّرَاءِ، وَلَيْسَ بتلقٍ، وَعلم من ذَلِك أَن التلقي الْمَمْنُوع عِنْده إِذا خرج من مِقْدَار سِتَّة أَمْيَال، وروى أَشهب عَنهُ فِي الَّذين يخرجُون ويشترون الْفَاكِهَة من موَاضعهَا: أَنه لَا بَأْس بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بتلقٍ، لأَنهم يشْتَرونَ من غير جالب. وَقَالَ ابْن حبيب: لَا يجوز للرجل فِي الْحَضَر أَن يَشْتَرِي مَا مر بِهِ من السّلع، وَإِن كَانَ على بَابه إِذا كَانَ لَهَا مَوَاقِف فِي السُّوق يُبَاع فِيهَا، وَهُوَ متلق إِن فعل ذَلِك وَمَا لم يكن لَهَا موقف، وَإِنَّمَا يُطَاف بهَا، فأدخلت أَزِقَّة الْحَاضِرَة فَلَا بَأْس أَن يَشْتَرِي، وَإِن لم يبلغ السُّوق. وَقَالَ اللَّيْث: من كَانَ على بَابه أَو فِي طَرِيقه فمرت بِهِ سلْعَة فاشتراها فَلَا بَأْس بذلك، والمتلقي عِنْده الْخَارِج القاصد إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن حبيب: وَمن كَانَ مَوْضِعه غير الْحَاضِرَة قَرِيبا مِنْهَا أَو بَعيدا لَا بَأْس أَن يَشْتَرِي مَا مر بِهِ للْأَكْل خَاصَّة لَا للْبيع، وَرَوَاهُ أَشهب عَن مَالك، رَحمَه الله.

6612 - حدَّثنا مُوسَى بنْ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عَن نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا نتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فنَشْتَرِي مِنهُمُ الطَّعَامَ فنَهَانَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ نَبِيعَهُ حتَّى نَبْلُغَ بِهِ سُوقَ الطَّعَامِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لم يذكر منع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُم إلاَّ عَن بيعهم فِي مَكَانَهُ، فَعلم أَن مثل ذَلِك التلقي كَانَ غير مَنْهِيّ مقررا على حَاله. وَقَوله: (نبلغ بِهِ سوق الطَّعَام) يدل على أَن مُنْتَهى التلقي هُوَ أَن يخرج عَن أَعلَى السُّوق، وعَلى مَا يَجِيء الْآن مشروحا بأوضح مِنْهُ.
وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم، وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة: هُوَ ابْن أَسمَاء بن عبيد الضبعِي، وَقَالَ

(11/286)


الْمَازرِيّ: فَإِن قيل: الْمَنْع من بيع الْحَاضِر للبادي سَببه الرِّفْق لأهل الْبَلَد، وَاحْتمل فِيهِ غبن البادي، وَالْمَنْع من التلقي أَن لَا يغبن البادي؟ فَالْجَوَاب: أَن الشَّرْع ينظر فِي مثل هَذِه الْمسَائِل إِلَى مصلحَة النَّاس، والمصلحة تَقْتَضِي أَن ينظر للْجَمَاعَة على الْوَاحِد لَا للْوَاحِد على الْوَاحِد، فَلَمَّا كَانَ البادي إِذا بَاعَ بِنَفسِهِ انْتفع جَمِيع أهل السُّوق واشتروا رخيصا فَانْتَفع بِهِ جَمِيع سكان الْبَلَد نظر الشَّرْع لأهل الْبَلَد على البادي، وَلما كَانَ فِي التلقي إِنَّمَا ينفع المتلقي خَاصَّة، وَهُوَ وَاحِد فِي قبالة وَاحِد، لم يكن فِي إِبَاحَة التلقي مصلحَة، لَا سِيمَا وينضاف إِلَى ذَلِك عِلّة ثَانِيَة: وَهُوَ لُحُوق الضَّرَر بِأَهْل السُّوق فِي انْفِرَاد المتلقي عَنْهُم بالرخص وَقطع الْمَوَارِد عَنْهُم، وهم أَكثر من المتلقي، فَنظر الشَّرْع لَهُم عَلَيْهِ، فَلَا تنَاقض فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، بل هما متفقان فِي الْحِكْمَة والمصلحة.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله هَذَا فِي أعلَى السُّوقِ يُبَيِّنهُ حَدِيثُ عُبَيْدِ الله
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى حَدِيث جوَيْرِية الْمَذْكُور، وَأَرَادَ بِهِ: أَن التلقي الْمَذْكُور فِيهِ كَانَ إِلَى أَعلَى السُّوق، بيَّنه حَدِيث عبيد الله الْعمريّ الَّذِي يَأْتِي بعده، حَيْثُ قَالَ: كَانُوا يتبايعون الطَّعَام فِي أَعلَى السُّوق، ففهم مِنْهُ أَن التلقي إِلَى خَارج الْبَلَد هُوَ الْمنْهِي لَا غير، وَقَول البُخَارِيّ: هَذَا وَقع عقيب رِوَايَة عبد الله بن عمر فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَوَقع فِي رِوَايَة غَيره عقيب حَدِيث جوَيْرِية.

7612 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عَن عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانُوا يتبَايَعُونَ الطَّعَامَ فِي أعْلَى السُّوقِ فيَبِيعُونَهُ فِي مكَانِهِمْ فنَهَاهُم رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَبِيعُوهُ فِي مكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ. .

هَذَا لبَيَان الْمَوْعُود الَّذِي وعده بقوله؛ بيَّنه حَدِيث عبيد الله الْعمريّ عَن نَافِع الَّذِي روى عَنهُ يحيى الْقطَّان، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ البُخَارِيّ بذلك الرَّد على من اسْتدلَّ بِهِ على جَوَاز تلقي الركْبَان، لإِطْلَاق قَول ابْن عمر: كُنَّا نتلقى الركْبَان، وَلَا دلَالَة فِيهِ، لِأَن مَعْنَاهُ: أَنهم كَانُوا يتلقونهم فِي أَعلَى السُّوق، كَمَا فِي رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع، وَقد صرح مَالك فِي رِوَايَته عَن نَافِع بقوله: وَلَا تلقوا السّلع حَتَّى يهْبط بهَا إِلَى السُّوق، فَدلَّ على أَن التلقي الَّذِي لم ينْه عَنهُ إِنَّمَا هُوَ مَا بلغ السُّوق. انْتهى. قلت: البُخَارِيّ لم يُورد هَذَا الحَدِيث لما ذكره هَذَا الْقَائِل، لِأَنَّهُ صرح بِأَنَّهُ لبَيَان المُرَاد من حَدِيث جوَيْرِية عَن نَافِع، وَلَو أَرَادَ هَذَا الَّذِي ذكره لَكَانَ ترْجم لَهُ، وَوجه بَيَانه هُوَ: أَن التلقي الْمَذْكُور فِي حَدِيث جوَيْرِية كَانَ إِلَى أَعلَى السُّوق، بَينه حَدِيث عبيد الله حَيْثُ قَالَ: كَانُوا يتبايعون الطَّعَام فِي أَعلَى السُّوق، ففهم مِنْهُ أَن التلقي إِلَى خَارج الْبَلَد هُوَ الْمنْهِي عَنهُ لَا غير. قَوْله: (حَتَّى ينقلوه) ، الْغَرَض مِنْهُ: حَتَّى يقبضوه، لِأَن الْعرف فِي قبض الْمَنْقُول أَن ينْقل عَن مَكَانَهُ.

37 - (بابٌ إذَا اشْتَرَطَ شُرُوطا فِي البَيْعِ لاَ تَحِلُّ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اشْترط الشَّخْص فِي البيع شُرُوطًا لَا تحل. قَوْله: (لَا تحل) ، صفة: شُرُوطًا، وَلَيْسَ هُوَ جَوَاب: إِذا، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا يفْسد البيع بذلك.

8612 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا قالَتْ جاءَتْنِي بَرِيرَةُ فقَالَتْ كاتَبْتُ أهْلِي عَلى تِسْعٍ أوَاقٍ فِي كُلِّ عامٍ وَقِيَّةٌ فأعِينِينِي فقُلْتُ إنْ أحَبَّ أهْلُكِ أنْ أعُدَّهَا لَهُمْ ويَكُونَ ولاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أهْلِهِا فقَالَتْ لَهُم فأبَوْا عَلَيْهَا فجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جالِسٌ فقالَتْ إنِّي قَدْ عَرَضتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فأبَوْا إلاَّ أنْ يَكُونَ لَهُمْ الوَلاَءُ فسَمِعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرَتْ عائشَةُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ خُذِيهَا واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاءَ فإنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ فَفَعَلَتْ عائِشَةُ ثمَّ قامَ رسولُ الله

(11/287)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّاسِ فحَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ مَا بالُ رجالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ الله مَا كانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَهْوَ باطِلٌ وإنْ كانَ مائةَ شَرْطٍ قَضاءُ الله أحَقُّ وشَرْطُ الله أوْثَقُ وإنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَا بَال رجال يشترطون) إِلَى آخِره، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث مُخْتَصرا فِي: بَاب البيع وَالشِّرَاء مَعَ النِّسَاء، وَمضى مطولا فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، رَوَاهُ عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، وَقد مر الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً، وَلَكِن نذْكر بعض شَيْء.
قَوْله: (أَوَاقٍ) ، جمع: أُوقِيَّة، وَأَصلهَا أواقي، بتَشْديد الْيَاء، فحذفت إِحْدَى الياءين تَخْفِيفًا وَالثَّانيَِة على طَريقَة قاضٍ، وَفِي مِقْدَار الْأُوقِيَّة خلاف. قَوْله: (أَن أعدهَا لَهُم) أَي: أعد تسع أَوَاقٍ لأهْلك وأعتقك، وَيكون ولاؤك لي، بِأَن يفْسخ الْكِتَابَة لعجز الْمكَاتب عَن أَدَاء النُّجُوم. قَوْله: (من عِنْدهم) ، ويروى: من عِنْدهَا، أَي: من عِنْد أَهلهَا. قَوْله: (جَالس) أَي: عِنْد عَائِشَة. قَوْله: (فَقَالَت) أَي: بَرِيرَة. قَوْله: (عرضت ذَلِك) أَي: مَا قالته لَهَا عَائِشَة. قَوْله: (فَأَبَوا) أَي: امْتَنعُوا. قَوْله: (فَسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: مَا قالته بَرِيرَة. قَوْله: (فَأخْبرت عَائِشَة) ، قيل: مَا الْفَائِدَة فِي إِخْبَار عَائِشَة حَيْثُ سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ: سمع شَيْئا مُجملا، فَأَخْبَرته عَائِشَة بِهِ مفصلا. قَوْله: (فَقَالَ: خذيها) أَي: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خذي بَرِيرَة، أَي: اشتريها. قَوْله: (أما بعد) ، أَي: بعد حمد الله وَالثنَاء عَلَيْهِ. قَوْله: (مَا بَال رجال) ، هَذَا جَوَاب: أما، وَالْأَصْل فِيهِ أَن يكون بِالْفَاءِ، وَقد تحذف. قَوْله: (مَا كَانَ) ، كلمة: مَا، مَوْصُولَة متضمنة معنى الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت الْفَاء فِي جَوَابه، وَهُوَ قَوْله: (فَهُوَ بَاطِل) . قَوْله: (وَإِن كَانَ مائَة شَرط) ، مُبَالغَة. وَقَوله: (شَرط) ، مصدر ليَكُون مَعْنَاهُ: مائَة مرّة، حَتَّى يُوَافق الرِّوَايَة المصرحة بِلَفْظ الْمرة. قَوْله: (وَشرط الله أوثق) ، فِيهِ سجع، وَهُوَ من محسنات الْكَلَام إِذا لم يكن فِيهِ تكلّف، وَإِنَّمَا نهى عَن سجع الْكُهَّان لما فِيهِ من التَّكَلُّف.
وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله: هَذَا حَدِيث عَظِيم كثير الْأَحْكَام وَالْقَوَاعِد، وَفِيه مَوَاضِع تشعبت فِيهَا الْمذَاهب:
أَحدهَا: أَنَّهَا كَانَت مُكَاتبَة وباعها الموَالِي واشترتها عَائِشَة، وَأقر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيعهَا، فَاحْتَجت بِهِ طَائِفَة من الْعلمَاء أَنه: يجوز بيع الْمكَاتب، وَمِمَّنْ جوزه عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَأحمد، وَقَالَ ابْن مَسْعُود وَرَبِيعَة وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَبَعض الْمَالِكِيَّة وَمَالك فِي رِوَايَة عَنهُ: لَا يجوز بَيْعه. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: يجوز بَيْعه لِلْعِتْقِ لَا للاستخدام، وَأجَاب من أبطل بَيْعه عَن حَدِيث بَرِيرَة أَنَّهَا عجزت نَفسهَا وفسخوا الْكِتَابَة.
الْموضع الثَّانِي: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اشْتَرَيْتهَا. .) إِلَى آخِره، مُشكل من حَدِيث الشِّرَاء وَشرط الْوَلَاء لَهُم وإفساد البيع بِهَذَا الشَّرْط، ومخادعة البائعين وَشرط مَا لَا يَصح لَهُم، وَلَا يحصل لَهُم. وَكَيْفِيَّة الْإِذْن لعَائِشَة؟ وَلِهَذَا الْإِشْكَال أنكر بعض الْعلمَاء هَذَا الحَدِيث بجملته، وَهَذَا مَنْقُول عَن يحيى بن أَكْثَم، وَالْجُمْهُور على صِحَّته، وَاخْتلفُوا فِي تَأْوِيله. فَقيل: اشترطي لَهُم الْوَلَاء، أَي: عَلَيْهِم، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم اللَّعْنَة} (الرَّعْد: 52) . أَي: وَعَلَيْهِم، نقل هَذَا عَن الشَّافِعِي والمزني، وَقيل: معنى اشترطي: أظهري لَهُم حكم الْوَلَاء. وَقيل: المُرَاد الزّجر والتوبيخ لَهُم لأَنهم لما ألحُّوا فِي اشْتِرَاطه وَمُخَالفَة الْأَمر قَالَ لعَائِشَة هَذَا، بِمَعْنى: لَا تبالي سَوَاء شرطته أم لَا، فَإِنَّهُ شَرط بَاطِل مَرْدُود. وَقيل: هَذَا الشَّرْط خَاص فِي قصَّة عَائِشَة، وَهِي قَضِيَّة عين لَا عُمُوم لَهَا. .
الثَّالِث: أَن الْوَلَاء لمن أعتق، وَقد أجمع الْمُسلمُونَ على ثُبُوت الْوَلَاء لمن أعتق عَبده أَو أمته عَن نَفسه، وَأَن يَرث بِهِ، وَأما الْعَتِيق فَلَا يَرث سَيّده عِنْد الجماهير، وَقَالَ جمَاعَة من التَّابِعين: يَرِثهُ كَعَكْسِهِ.
الرَّابِع: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خير بَرِيرَة فِي فسخ نِكَاحهَا، وأجمعت الْأمة على أَنه إِذا اعتقت كلهَا تَحت زَوجهَا، وَهُوَ عبد، كَانَ لَهَا خِيَار فِي فسخ النِّكَاح، فَإِن كَانَ حرا فَلَا خِيَار لَهَا عِنْد الشَّافِعِي وَمَالك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَهَا الْخِيَار.
الْخَامِس: أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل شَرط) إِلَى آخِره، صَرِيح فِي إبِْطَال كل شَرط لَيْسَ لَهُ أصل فِي كتاب الله تَعَالَى، وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَن من شَرط فِي البيع شرطا لَا يحل أَنه لَا يجوز، عملا بِهَذَا الحَدِيث. وَاخْتلفُوا فِي غَيرهَا من الشُّرُوط على مَذَاهِب مُخْتَلفَة: فَذَهَبت طَائِفَة إِلَى أَن البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل على نَص حَدِيث بَرِيرَة، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحكم وَابْن جرير وَأَبُو ثَوْر. وَذَهَبت طَائِفَة أُخْرَى إِلَى جوازهما، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي بَيْعه جمله واستثنائه حمله إِلَى الْمَدِينَة، وَرُوِيَ

(11/288)


ذَلِك عَن حَمَّاد وَابْن شبْرمَة وَبَعض التَّابِعين. وَذَهَبت طَائِفَة ثَالِثَة إِلَى بطلانهما، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع وَشرط. وَهُوَ قَول عمر وَولده وَابْن مَسْعُود والكوفيين وَالشَّافِعِيّ، وَقد يجوز عِنْد مَالك البيع وَالشّرط، مثل أَن يشْتَرط البَائِع مَا لم يدْخل فِي صَفْقَة البيع، مثل: أَن يَشْتَرِي زرعا وَيشْتَرط على البَائِع حصده، أَو دَارا وَيشْتَرط سكناهَا مُدَّة يسيرَة، أَو يشْتَرط ركُوب الدَّابَّة يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ، وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ لَا يجيزان هَذَا البيع كُله، وَمِمَّا أجَازه مَالك فِيهِ البيع وَالشّرط: شِرَاء العَبْد بِشَرْط عتقه إتباعا للسّنة فِي بَرِيرَة، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالشَّافِعِيّ فِي رِوَايَة الرّبيع، وَأَجَازَ ابْن أبي ليلى هَذَا البيع وأبطل الشَّرْط، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر، وأبطل أَبُو حنيفَة البيع وَالشّرط وَأخذ بِعُمُوم نَهْيه عَن بيع وَشرط، وَمِمَّا أجَازه مَالك فِيهِ البيع وَإِبْطَال الشَّرْط: كَشِرَاء العَبْد على أَن يكون الْوَلَاء للْبَائِع، وَهَذَا البيع أَجمعت الْأمة على جَوَازه وَإِبْطَال الشَّرْط فِيهِ لمُخَالفَته السّنة، وَكَذَلِكَ من بَاعَ سلْعَة وَشرط أَن لَا ينْقد المُشْتَرِي الثّمن إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام وَنَحْوهَا فَالْبيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل عِنْد مَالك، وَأَجَازَ ابْن الْمَاجشون البيع وَالشّرط، وَمِمَّنْ أجَاز هَذَا البيع الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن الْحسن وَأحمد وَإِسْحَاق، وَلم يفرقُوا بَين ثَلَاثَة أَيَّام وَأكْثر مِنْهَا، وَأَجَازَ أَبُو حنيفَة البيع وَالشّرط إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَإِن قَالَ إِلَى أَرْبَعَة أَيَّام بَطل البيع، لِأَن اشْتِرَاط الْخِيَار بِأَكْثَرَ من ثَلَاثَة أَيَّام لَا يجوز عِنْده، وَبِه قَالَ أَبُو ثَوْر.
وَمِمَّا يبطل فِيهِ عِنْد مَالك البيع وَالشّرط: مثل أَن يَبِيعهُ جَارِيَة على أَن لَا يَبِيعهَا وَلَا يَهَبهَا على أَن يتخذها أم ولد، فَالْبيع عِنْده فَاسد، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وأجازت طَائِفَة هَذَا البيع وأبطلت الشَّرْط، وَهَذَا قَول الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وَابْن أبي ليلى وَأبي ثَوْر، وَقَالَ حَمَّاد الْكُوفِي: البيع جَائِز وَالشّرط لَازم. وَمِمَّا يبطل فِيهِ البيع وَالشّرط عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ والكوفيين: نَحْو بيع الْأمة والناقة واستثناء مَا فِي بَطنهَا، وَهُوَ عِنْدهم من بُيُوع الْغرَر، وَقد أجَاز هَذَا البيع وَالشّرط النَّخعِيّ وَالْحسن وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَاحْتَجُّوا بِأَن ابْن عمر أعتق جَارِيَة وَاسْتثنى مَا فِي بَطنهَا.
وَمِمَّا حُكيَ عَن عبد الْوَارِث بن سعيد قَالَ: قدمت مَكَّة فَوجدت بهَا أَبَا حنيفَة وَابْن أبي ليلى وَابْن شبْرمَة، فَسَأَلت أَبَا حنيفَة، فَقلت: مَا تَقول فِي رجل بَاعَ بيعا وَشرط شرطا؟ فَقَالَ: البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ أتيت ابْن أبي ليلى فَسَأَلته، فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، ثمَّ أتيت ابْن شبْرمَة، فَقَالَ: البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز. فَقلت: سُبْحَانَ الله ثَلَاثَة من فُقَهَاء الْعرَاق اخْتلفُوا على مَسْأَلَة وَاحِدَة. فَأتيت أَبَا حنيفَة فَأَخْبَرته، فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدثنِي عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نهى عَن بيع وَشرط) ، البيع بَاطِل وَالشّرط بَاطِل. ثمَّ أتيت ابْن أبي ليلى فَأَخْبَرته فَقَالَ: (مَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدثنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَت: (أَمرنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن أَشْتَرِي بَرِيرَة فأعتقيها، البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل) . ثمَّ أتيت ابْن شبْرمَة فَأَخْبَرته، فَقَالَ: (مَا أَدْرِي مَا قَالَا، حَدثنِي مسعر بن كدام عَن محَارب بن دثار عَن جَابر بن عبد الله (قَالَ: بِعْت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاقَة، فَاشْترط لي حملانها إِلَى الْمَدِينَة، البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز) .

9612 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ عائِشَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ أرَادَتْ أنْ تَشْتَرِيَ جارِيَةً فتُعْتِقَهَا فَقَالَ أهْلُهَا نَبِيعُكِهَا علَى أنَّ وَلاَءَهَا لَنَا فذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لاَ يَمْنَعُكِ ذَلِكَ فإنَّمَا الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (نبيعكها على أَن ولاءها لنا) ، وَهَذَا الشَّرْط بَاطِل، والترجمة فِيهِ، وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن إِسْمَاعِيل وقتيبة فرقهما، وَأخرجه مُسلم فِي الْعتْق عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفَرَائِض وَالنَّسَائِيّ فِي الْبيُوع جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَالْكَلَام فِيهِ قد مر فِي الحَدِيث الَّذِي قبله، وَفِي الْبَاب الَّذِي فِيهِ التَّرْجَمَة: البيع وَالشِّرَاء مَعَ النِّسَاء.

47 - (بَاب بَيْعِ التَّمْرِ بالتَّمْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع التَّمْر بِالتَّمْرِ.

(11/289)


0712 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ مالِكِ بنِ أوَيْسٍ قَالَ سَمعَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْبُرُّ بالْبُرِّ رِبا إلاَّ هاءَ وهاءَ والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ رِبا إلاَّ هاءَ وهاءَ والتَّمْرُ بالتَّمْرِ رِبا إلاَّ هاءَ وهاءَ. .

هَذَا الحَدِيث قد مر من رِوَايَة عَمْرو بن دِينَار عَن الزُّهْرِيّ عَن مَالك بن أويس عَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي: بَاب مَا يذكر فِي بيع الطَّعَام والحكرة، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ.

57 - (بابُ بَيْعِ الزَّبِيبِ بالزَّبِيبِ والطَّعامُ بالطَّعامِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي حكم بيع الزَّبِيب ... إِلَى آخِره.

1712 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حَدثنَا مالِكٌ عَن نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنِ المُزَابَنَةِ والمُزَابَنَةُ بَيْع التَّمْرِ بالتَّمْرِ كَيْلا وبَيْعُ الزَّبِيبِ بالْكَرْم كَيْلا. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ الْمَعْنى، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي ذكره البُخَارِيّ من جِهَة النَّص: (الزَّبِيب بالزبيب وَلَا الطَّعَام بِالطَّعَامِ) ، فَلَو حقق الحَدِيث بِبيع التَّمْر فِي رُؤُوس الشّجر بِمثلِهِ من جنسه يَابسا، أَو صحّح الْكَلَام على قدر مَا ورد بِهِ لفظ الْخَبَر كَانَ أولى. وَقَالَ بَعضهم: كَأَن البُخَارِيّ أَشَارَ إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرقه من ذكر الطَّعَام، وَهُوَ فِي رِوَايَة اللَّيْث عَن نَافِع كَمَا سَيَأْتِي. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه لَا يساعد البُخَارِيّ، وَالْوَجْه مَا ذَكرْنَاهُ من أَنه أَخذ فِي التَّرْجَمَة من حَيْثُ الْمَعْنى، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ فِي الْمُطَابقَة، وَرُبمَا يَأْتِي بعض الْأَبْوَاب لَا تُوجد الْمُطَابقَة فِيهِ إلاَّ بِأَدْنَى من هَذَا الْمِقْدَار، وَالْغَرَض وجود شَيْء مَا من الْمُنَاسبَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن عبد الله بن يُوسُف فرقهما. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى. وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ.
والمزابنة، مفاعلة، لَا تكون إلاَّ بَين اثْنَيْنِ، وَأَصلهَا الدّفع الشَّديد، قَالَ الدَّاودِيّ: كَانُوا قد كثرت فيهم المدافعة بالخصام، فسميت الْمُزَابَنَة، وَلما كَانَ كل وَاحِد من الْمُتَبَايعين يدْفع الآخر فِي هَذِه الْمُبَايعَة عَن حَقه، سميت بذلك، وَقَالَ ابْن سَيّده: الزَّبْن دفع الشَّيْء عَن الشَّيْء، زبن الشَّيْء يزبنه زبنا وزبن بِهِ، وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: الْمُزَابَنَة كل بيع فِيهِ غرر، وَهُوَ بيع كل جزاف لَا يعلم كَيْله وَلَا وَزنه وَلَا عدده، وَأَصله أَن المغبون يُرِيد أَن يفْسخ البيع، وَيُرِيد الغابن أَن لَا يفسخه فيتزابنان عَلَيْهِ، أَي: يتدافعان، وَعند الشَّافِعِي: هُوَ بيع مَجْهُول بِمَجْهُول أَو مَعْلُوم، من جنس تَحْرِيم الرِّبَا فِي نَقده، وَخَالفهُ مَالك فِي هَذَا الْقَيْد، سَوَاء كَانَ مِمَّا يحرم الرِّبَا فِي نَقده أَو لَا، وَلَا، مطعوما كَانَ أَو غير مطعوم. قَوْله: (والمزابنة بيع الثَّمر) إِلَى آخِره، قَالَ أَبُو عمر: لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن تَفْسِير الْمُزَابَنَة فِي هَذَا الحَدِيث من قَول ابْن عمر أَو مرفوعه، وَأَقل ذَلِك أَن يكون من قَوْله، وَهُوَ رواي الحَدِيث فَيسلم لَهُ، وَكَيف وَلَا مُخَالف فِي ذَلِك؟ قَوْله: (بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ) قَالَ الْكرْمَانِي: بيع الثَّمر بِالْمُثَلثَةِ بِالتَّمْرِ بالفوقية، وَمَعْنَاهُ: الرطب بِالتَّمْرِ، وَلَيْسَ المُرَاد كل الثِّمَار، فَإِن سَائِر الثِّمَار يجوز بيعهَا بِالتَّمْرِ. قَوْله: (كَيْلا) أَي: من حَيْثُ الْكَيْل، نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (بِالْكَرمِ) ، بِسُكُون الرَّاء: شجر الْعِنَب، لَكِن المُرَاد هُنَا نفس الْعِنَب. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ من بَاب الْقلب، إِذْ الْمُنَاسب لقرينته أَن يدْخل الْجَار على الزَّبِيب لَا على الْكَرم، وَقَالَ أَبُو عمر: وَأَجْمعُوا على تَحْرِيم بيع الْعِنَب بالزبيب، وعَلى تَحْرِيم بيع الْحِنْطَة فِي سنبلها بحنطة صَافِيَة، وَهُوَ المحاقلة، وَسَوَاء عِنْد جمهورهم كَانَ الرطب وَالْعِنَب على الشّجر أَو مَقْطُوعًا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَ مَقْطُوعًا جَازَ بَيْعه بِمثلِهِ من الْيَابِس، وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَنه لَا يجوز بيع التَّمْر فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ، لِأَنَّهُ مزابنة، وَقد نهى عَنهُ. وَأما رطب ذَلِك مَعَ يابسه إِذا كَانَ مَقْطُوعًا، وَأمكن فِيهِ الْمُمَاثلَة، فجمهور الْعلمَاء لَا يجيزون بيع شَيْء من ذَلِك بِجِنْسِهِ لَا متماثلاً وَلَا مُتَفَاضلا، وَبِه قَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز بيع الْحِنْطَة الرّطبَة باليابسة وَالتَّمْر بالرطب مثلا بِمثل، وَلَا يُجِيزهُ مُتَفَاضلا. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وأظن أَن أَبَا ثَوْر وَافقه.

(11/290)


2712 - حدَّثنا أبُو النُّعْمانِ قَالَ أخبرنَا حَمادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنِ المُزَابَنَةِ قَالَ والمُزَابَنَةُ أنْ يَبِيعَ الثَّمَرَ بِكَيْلٍ إنْ زادَ فَلِي وإنْ نقَصَ فَعَلَيَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة نَحْو مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق للتَّرْجَمَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا كلهم، وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَأبي كَامِل الجحدري، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد مقطعا، وَعَن عَليّ بن حجر وَزُهَيْر بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَنهُ بِهِ مقطعا أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن زِيَاد بن أَيُّوب عَن ابْن علية.
قَوْله: (قَالَ) أَي: عبد الله بن عمر. قَوْله: (أَن يَبِيع) ، بدل أَو بَيَان لقَوْله: الْمُزَابَنَة، كَذَا قيل. قلت: كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على الخبرية، وَتَقْدِيره: الْمُزَابَنَة بيع التَّمْر بكيل. قَوْله: (بكيل) أَي: من الزَّبِيب أَو التَّمْر. قَوْله: (إِن زَاد) ، حَال من فَاعل يَبِيع، بِتَقْدِير القَوْل: أَي: بِبيعِهِ قَائِلا إِن زَاد التَّمْر المخروص على مَا يُسَاوِي الْكَيْل، فَهُوَ لي وَإِن نقس فعلي بتَشْديد الْيَاء.
(قَالَ وحَدثني زيد بن ثَابت أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رخص فِي الْعَرَايَا بِخرْصِهَا) أَي قَالَ عبد الله بن عَمْرو حَدثنِي زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهَذَا أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث وَعَن القعْنبِي عَن مَالك وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك وَفِي الشّرْب عَن مُحَمَّد بن يُوسُف وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع أَيْضا عَن يحيى وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَزُهَيْر بن حَرْب ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن مُحَمَّد بن رَافع وَعَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن سُلَيْمَان بن بِلَال وهشيم فرقهما وَعَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن أبي الرّبيع وَأبي كَامِل وَعَن عَليّ بن حجر وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى بن الْقطَّان وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع عَن هناد وَعَن قُتَيْبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن أبي قدامَة وَفِيه وَفِي الشُّرُوط عَن عِيسَى بن حَمَّاد وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي وَأخرجه ابْن ماجة فِي التِّجَارَات عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ وَعَن هِشَام بن عمار وَمُحَمّد بن الصَّباح (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " فِي الْعَرَايَا " جمع عرية فعيلة بِمَعْنى مفعولة من عراه يعروه إِذا قَصده وَيحْتَمل أَن تكون فعيلة بِمَعْنى فاعلة من عرى يعرى إِذا قلع ثَوْبه كَأَنَّهَا عريت من جملَة التَّحْرِيم وَفِي التَّلْوِيح الْعرية النَّخْلَة المعراة وَهِي الَّتِي وهبت تَمْرَة عامها والعرية أَيْضا الَّتِي تعزل عَن المساومة عِنْد بيع النّخل وَقيل هِيَ النَّخْلَة الَّتِي قد أكل مَا عَلَيْهَا واستعرى النَّاس فِي كل وَجه أكلُوا الرطب من ذَلِك وَفِي الْجَامِع وَأَنت معروفي الصِّحَاح فيعروها الَّذِي أَعْطيته أَي يَأْتِيهَا وَهِي فعيلة بِمَعْنى مفعولة وَإِنَّمَا أدخلت فِيهَا الْهَاء لِأَنَّهَا أفردت فَصَارَت فِي عداد الْأَسْمَاء مثل النطيحة والأكيلة وَلَو جِئْت بهَا مَعَ النَّخْلَة قلت نَخْلَة عرى وَقيل عراه يعروه إِذا أَتَاهُ يطْلب مِنْهُ عرية فأعراه أَي إِيَّاهَا كَمَا يُقَال سَأَلَني فأسألته فالعرية اسْم للنخلة الْمُعْطى ثَمَرهَا فَهِيَ اسْم لعطية خَاصَّة وَقد سمت الْعَرَب عطايا خَاصَّة بأسماء خَاصَّة كالمنيحة لعطية الشَّاة والأفقار لما ركب فقاره فعلى هَذَا أَن الْعرية عَطِيَّة لَا بيع. ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْعَطِيَّة شرعا فَقَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق الْعرية الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث هِيَ إِعْطَاء الرجل من جملَة حَائِطه نَخْلَة أَو نخلتين عَاما وَقَالَ قوم الْعرية النَّخْلَة والنخلتان وَالثَّلَاث يَجْعَل للْقَوْم فيبيعون ثَمَرهَا بِخرْصِهَا تَمرا وَهُوَ قَول يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَرُوِيَ عَن زيد بن ثَابت وَقَالَ قوم مثل هَذَا إِلَّا أَنهم خصوا بذلك الْمَسَاكِين يَجْعَل لَهُم تمر النّخل فيصعب عَلَيْهِم الْقيام عَلَيْهَا فأبيح لَهُم أَن يبيعوه بِمَا شاؤا من التَّمْر وَهُوَ قَول سُفْيَان بن حُسَيْن وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَقَالَ قوم الْعرية الرجل يعري النَّخْلَة أَو يَسْتَثْنِي من مَاله النَّخْلَة أَو النخلتين يأكلها فيبيعها بِمثل خرصها وَهُوَ قَول عبد ربه بن سعيد الْأنْصَارِيّ. وَقَالَ قوم الْعرية أَن يَأْتِي أَوَان الرطب وَهُنَاكَ قوم فُقَرَاء لَا مَال لَهُم يُرِيدُونَ ابتياع رطب يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاس وَلَهُم فضول تمر من أقواتهم فَإِن لَهُم أَن يشتروا الرطب بِخرْصِهَا من التَّمْر فِيمَا دون خَمْسَة أوسق وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر وَلَا عرية عِنْدهمَا فِي غير النّخل وَالْعِنَب

(11/291)


وَقَالَ الطَّحَاوِيّ وَكَانَ أَبُو حنيفَة يَقُول فِيمَا سَمِعت أَحْمد بن أبي عمرَان يذكر أَنه سمع مُحَمَّد بن سَمَّاعَة عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة قَالَ معنى ذَلِك عندنَا أَن يعرى الرجل الرجل تمر نَخْلَة من نخله فَلم يسلم ذَلِك إِلَيْهِ حَتَّى يَبْدُو لَهُ يَعْنِي يظْهر لَهُ أَن لَا يُمكنهُ من ذَلِك فيعطيه مَكَانَهُ خرصه تَمرا فَيخرج بذلك عَن إخلاف الْوَعْد وَقَالَ ابْن الْأَثِير الْعرية هِيَ أَن من لَا نخل لَهُ من ذَوي الْحَاجة يدْرك الرطب وَلَا نقد بِيَدِهِ يَشْتَرِي بِهِ الرطب لِعِيَالِهِ وَلَا نخل لَهُم يُطعمهُمْ مِنْهُ وَيكون قد فضل لَهُ تمر من قوته فَيَجِيء إِلَى صَاحب النّخل فَيَقُول لَهُ بِعني تمر نَخْلَة أَو نخلتين بِخرْصِهَا من التَّمْر فيعطيه ذَلِك الْفَاضِل من التَّمْر بِتَمْر تِلْكَ النخلات ليصيب من رطبها مَعَ النَّاس فَرخص فِيهِ إِذا كَانَ دون خَمْسَة أوسق وَقَالَ ابْن زرقون هِيَ عَطِيَّة ثَمَر النّخل دون الرّقاب كَانُوا يُعْطون ذَلِك إِذا دهمتهم سنة لمن لَا نخل لَهُ فيعطيه من نخله مَا سمحت بِهِ نَفسه مثل الأفقار والمنحة والعمرى وَكَانَت الْعَرَب تتمدح بالأعراء وَقَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله الْعرية هِيَ أَن يخرص الخارص نخلات فَيَقُول هَذَا الرطب الَّذِي عَلَيْهَا إِذا يبس يَجِيء مِنْهُ ثَلَاثَة أوسق من التَّمْر مثلا فيعطيه صَاحبه لإِنْسَان بِثَلَاثَة أوسق ويتقاصان فِي الْمجْلس فيتسلم الثّمن ويتسلم بَايع الرطب الرطب بِالتَّخْلِيَةِ وَهَذَا جَائِز فِيمَا دون خَمْسَة أوسق وَلَا يجوز فِيمَا زَاد على خَمْسَة أوسق وَفِي جَوَازه فِي خَمْسَة أوسق قَولَانِ للشَّافِعِيّ أصَحهمَا لَا يجوز وَالأَصَح أَنه يجوز ذَلِك للْفُقَرَاء والأغنياء وَأَنه لَا يجوز فِي غير الرطب وَالْعِنَب وَبِه قَالَ أَحْمد وَقَالَ أَبُو عمر فجملة قَول مَالك وَأَصْحَابه فِي الْعَرَايَا أَن العراية هِيَ أَن يهب الرجل حَائِطه خَمْسَة أوسق فَمَا دونهَا ثمَّ يُرِيد أَن يَشْتَرِيهَا من المعري عِنْد طيب الثَّمَرَة فأبيح لَهُ أَن يَشْتَرِيهَا بِخرْصِهَا تَمرا عِنْد الْجذاذ وَإِن عجل لَهُ لم يجز وَلَا يجوز ذَلِك لغير المعري لِأَن الرُّخْصَة وَردت فِيهِ وَجَائِز بيعهَا من غَيره بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِم وَسَائِر الْعرُوض وَقَالَ أَيْضا وَلَا يجوز البيع فِي الْعَرَايَا عِنْد مَالك وَأَصْحَابه إِلَّا لوَجْهَيْنِ إِمَّا لدفع ضَرَر دُخُول المعرى على المعرى وَإِمَّا لِأَن يرفق المعرى فتكفيه المؤلة فِيهَا فأرخص لَهُ أَن يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِخرْصِهَا تَمرا إِلَى الْجذاذ وَفِي الاستذكار يجوز الإعراء فِي كل نوع من الثَّمر كَانَ مِمَّا ييبس ويدخر أم لَا وَفِي القثاء والموز والبطيخ قَالَه ابْن حبيب قبل الْأَبَّار وَبعده لعام أَو لأعوام فِي جَمِيع الْحَائِط أَو بعضه وَقَالَ عبد الْوَهَّاب بيع الْعَارِية جَائِز بأَرْبعَة شُرُوط أَحدهَا أَن يزهي وَهُوَ قَول جُمْهُور الْفُقَهَاء وَقَالَ يزِيد بن حبيب يجوز وَقبل بَدو الصّلاح وَالثَّانِي أَن يكون خَمْسَة أوسق فأدنى وَهُوَ رِوَايَة المصريين عَن مَالك وروى عَنهُ أَبُو الْفرج عَمْرو بن مُحَمَّد أَنه لَا يجوز إِلَّا فِي خَمْسَة أوسق فَإِن خرصت أقل من خَمْسَة أوسق فَلَمَّا جذت وجد أَكثر فَفِي الْمُدَوَّنَة روى صَدَقَة بن حبيب عَن مَالك أَن الْفضل لصَاحب الْعَارِية وَلَو أقل من الْخرص ضمن الْخرص وَلَو خلطه قبل أَن يكيله لم يكن عَلَيْهِ زِيَادَة وَلَا نقص وَالثَّالِث أَن يُعْطِيهِ خرصها عِنْد الْجذاذ وَلَا يجوز لَهُ تَعْجِيل الْخرص تَمرا خلافًا للشَّافِعِيّ فِي قَوْله أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يعجل الْخرص تَمرا وَلَا يجوز أَن يفترقا حَتَّى يتقابضا وَالشّرط الرَّابِع أَن يكون من صنعها فَإِذا بَاعهَا بِخرْصِهَا إِلَى الْجذاذ ثمَّ أَرَادَ تَعْجِيل الْخرص جَازَ قَالَه ابْن حبيب وَعَن مَالك فِيمَا يَصح ذَلِك فِيهِ من الثِّمَار رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا أَنه لَا يجوز إِلَّا فِي النّخل وَالْعِنَب وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَالثَّانيَِة أَنه يجوز فِي كل مَا ييبس ويدخر من الثِّمَار كالجوز واللوز والتين وَالزَّيْتُون والفستق رَوَاهُ أَحْمد وَقَالَ أَشهب فِي الزَّيْتُون يجوز إِذا كَانَ ييبس ويدخر وَأما النّخل الَّذِي لَا يتتمر وَالْعِنَب الَّذِي لَا يتزبب فعلى اشْتِرَاط التيبيس يجب أَن لَا يجوز
67 - (بابُ بَيْعِ الشَّعِيرِ بالشَّعِيرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الشّعير بِالشَّعِيرِ. كَيفَ هُوَ. وَهُوَ أَنه يجوز إِذا كَانَا متساويين يدا بيد على مَا يَجِيء بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله:
4712 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهاب عنْ مالِكِ بنِ أوْسٍ قَالَ أخبَرَهُ أنَّهُ الْتَمَسَ صَرْفا بِمائَةِ دِينارٍ فَدعانِي طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ الله فتَرَاوَضْنَا حَتَّى اصْطَرَفَ مِنِّي فأخذَ الذَّهَبَ يُقَلِّبُها فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ حتَّى يَأتِيَ خازِنِي منَ الْغَابَةِ وعُمَرُ يَسْمَعُ ذَلِكَ فَقَالَ

(11/292)


وَالله لاَ تُفَارِقُهُ حتَّى تأخُذَ مِنْهُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رَبًّا إلاَّ هاءَ وهاءَ والْبُرُّ بالْبُرِّ رَبًّا إلاَّ هاءَ وهاءَ والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ رِبا إلاَّ هاءَ وهاءَ والتَّمْرُ بالتَّمْرِ إلاَّ هاءَ وهاءَ. (انْظُر الحَدِيث 4312 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَالشعِير بِالشَّعِيرِ) . والْحَدِيث مضى فِي: بَاب مَا يذكر فِي بيع الطَّعَام. قَوْله: (صرفا) ، قَالَ الْعلمَاء: بيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ يُسمى صرفا لصرفه عَن مُقْتَضى الْبياعَات من جَوَاز التَّفَرُّق قبل التَّقَابُض، وَقيل: من صريفهما وَهُوَ تصويتهما فِي الْمِيزَان، كَمَا أَن بيع الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ يُسمى مراطلة. قَوْله: (فتراوضنا) ، بالضاد الْمُعْجَمَة، يُقَال: فلَان يراوض فلَانا على أَمر كَذَا، أَي: يداريه ليدخله فِيهِ. قَوْله: (حَتَّى يَأْتِي) أَي: اصبر حَتَّى يَأْتِي، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ ظن جَوَازه كَسَائِر الْبيُوع، وَمَا كَانَ بلغه حكم الْمَسْأَلَة، فَلَمَّا أبلغه عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ترك المصارفة.

77 - (بابُ بَيْعِ الذَّهَبِ بالذَّهَبِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الذَّهَب بِالذَّهَب كَيفَ هُوَ؟ وَهُوَ أَنه يجوز إِذا كَانَا متساويين يدا بيد.