عمدة القاري شرح صحيح البخاري

24 - (كِتابُ المساقاةِ)

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْمُسَاقَاة، وَلم يَقع لفظ: كتاب الْمُسَاقَاة فِي كثير من النّسخ، وَوَقع فِي بعض النّسخ: كتاب الشّرْب، وَوَقع لأبي ذَر التَّسْمِيَة، ثمَّ قَوْله: فِي الشّرْب، ثمَّ قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ أَفلا يُؤمنُونَ} (الْأَنْبِيَاء: 03) .

(12/188)


وَقَوله: {أَفَرَأَيْتُم المَاء الَّذِي تشربون} (الْوَاقِعَة: 86) . إِلَى قَوْله: {فلولا تشكرون} (الْوَاقِعَة: 86) . وَوَقع فِي بعض النّسخ: بَاب فِي الشّرْب، وَقَوله تَعَالَى: {وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ أَفلا يُؤمنُونَ} (الْأَنْبِيَاء: 03) . وَقَوله: {أَفَرَأَيْتُم المَاء الَّذِي تشربون} (الْوَاقِعَة: 86) . إِلَى قَوْله: {فلولا تشكرون} (الْوَاقِعَة: 86) . وَوَقع فِي شرح ابْن بطال: كتاب المياة خَاصَّة، وَأثبت النَّسَفِيّ لفظ: بَاب خَاصَّة.
أما الْمُسَاقَاة فَهِيَ: الْمُعَامَلَة بلغَة أهل المدنية، ومفهومها اللّغَوِيّ هُوَ الشَّرْعِيّ، وَهِي معاقدة دفع الْأَشْجَار والكروم إِلَى من يقوم بإصلاحهما، على أَن يكون لَهُ سهم مَعْلُوم من ثَمَرهَا، وَلأَهل الْمَدِينَة لُغَات يختصون بهَا، كَمَا قَالُوا للمساقاة: مُعَاملَة، وللمزارعة: مخابرة، وللإجارة: بيع، وللمضاربة: مقارضة، وللصلاة: سَجْدَة. فَإِن قلت: المفاعلة تكون بَين اثْنَيْنِ، وَهنا لَيْسَ كَذَلِك. قلت: هَذَا لَيْسَ بِلَازِم، وَهَذَا كَمَا فِي قَوْله: قَاتله الله، يَعْنِي: قَتله الله، وسافر فلَان، بِمَعْنى: سفر، أَو لِأَن العقد على السَّقْي صدر من اثْنَيْنِ، كَمَا فِي الْمُزَارعَة، أَو من بَاب التغليب، وَأما الشّرْب، فبكسر الشين الْمُعْجَمَة: النَّصِيب والحظ من المَاء، يُقَال: كم شرب أَرْضك، وَفِي الْمثل آخرهَا: شربا أقلهَا شرباً، وَأَصله فِي سقِِي المَاء، لِأَن آخر الْإِبِل يرد وَقد نزف الْحَوْض، وَقد سمع الْكسَائي عَن الْعَرَب أقلهَا شرباً على الْوُجُوه الثَّلَاثَة، يَعْنِي الْفَتْح وَالضَّم وَالْكَسْر، وسمعهم أَيْضا يَقُولُونَ: أعذب الله شربكم، بِالْكَسْرِ، أَي: ماءكم. وَقيل: الشّرْب أَيْضا وَقت الشّرْب، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الشّرْب، بِالْفَتْح الْمصدر وبالضم وَالْكَسْر، يُقَال: شرب شرباً وشرباً وشرباً، وقريء: فشاربون شرب الهيم بالوجوه الثَّلَاثَة.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: {وجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أفَلا يُؤْمِنُونَ} (الْأَنْبِيَاء: 03) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: كتاب الْمُسَاقَاة، أَو على قَوْله: فِي الشّرْب، أَو على قَوْله: بَاب الشّرْب، أَو على قَوْله: بَاب الْمِيَاه، على اخْتِلَاف النّسخ، وَفِي بعض النّسخ: قَالَ الله عزوجل: {وَجَعَلنَا من المَاء} (الْأَنْبِيَاء: 03) . الْآيَة، وَقَالَ قَتَادَة: كل حَيّ مَخْلُوق من المَاء. فَإِن قلت: قد رَأينَا مخلوقاً من المَاء غير حَيّ. قلت: لَيْسَ فِي الْآيَة: لم يخلق من المَاء إلاَّ حَيّ، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن كل حَيَوَان أرضي لَا يعِيش إلاَّ بِالْمَاءِ. وَقَالَ الرّبيع بن أنس: من المَاء، أَي: من النُّطْفَة، وَقَالَ ابْن بطال: يدْخل فِيهِ الْحَيَوَان والجماد، لِأَن الزَّرْع وَالشَّجر لَهَا موت إِذا جَفتْ ويبست، وحياتها خضرتها ونضرتها.
وقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أفَرَأَيْتُمْ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أنْتُمْ أنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْنَاهُ أجاجاً فلَوْلا تَشْكُرُونَ} (الْوَاقِعَة: 86) .
وَقَول، بِالْجَرِّ عطف على: قَوْله، الأول لما أنزل الله تَعَالَى: {نَحن خَلَقْنَاكُمْ فلولا تصدقُونَ} (الْوَاقِعَة: 85) . ثمَّ خاطبهم بقوله: {أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون} إِلَى قَوْله: {ومتاعاً للمقوين} (الْوَاقِعَة: 37) . وكل هَذِه الخطابات للْمُشْرِكين الطبيعيين لما قَالُوا: نَحن موجودون من نُطْفَة حدثت بحرارة كامنة، فَرد الله عَلَيْهِم بِهَذِهِ الخطابات، وَمن جُمْلَتهَا قَوْله: {أَفَرَأَيْتُم المَاء الَّذِي تشربون} (الْوَاقِعَة: 86) . أَي: المَاء العذب الصَّالح للشُّرْب، {أأنتم أنزلتموه من المزن} (الْوَاقِعَة: 86) . أَي: السَّحَاب. قَوْله: {جَعَلْنَاهُ} (الْوَاقِعَة: 86) . أَي: المَاء {أجاجاً} (الْوَاقِعَة: 86) . أَي: ملحاً شَدِيد الملوحة زعافاً مرا لَا يقدرُونَ على شربه. قَوْله: {فلولا تشكرون} (الْوَاقِعَة: 86) . أَي: فَهَلا تشكرون.
الأُجاجُ: المُرُّ، المُزْنُ: السَّحابُ
هَذَا تَفْسِير البُخَارِيّ، وَهُوَ من كَلَام أبي عُبَيْدَة، لِأَن الأجاج المر، وَأخرجه ابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة مثله، وَقد ذكرنَا الْآن أَنه الشَّديد الملوحة. وَقيل: شَدِيد المرارة، وَقيل: الْمَالِك، وَقيل: الْحَار، حَكَاهُ ابْن فَارس وَفِي (الْمُنْتَهى) : وَقد أج يؤج أجوجاً قَوْله: (المزن) بِضَم الْمِيم وَسُكُون الزَّاي، جمع: مزنة، وَهِي السَّحَاب الْأَبْيَض، وَهُوَ تَفْسِير مُجَاهِد وَقَتَادَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده: منصباً، قبل قَوْله: المزن، وَوَقع بعد قَوْله: السَّحَاب فراتاً عذباً، فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَفسّر الثجاج بقوله: منصباً، وَقد فسره ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة هَكَذَا، وَيُقَال: مطر ثجاج إِذا انصب جدا، والفرات أعذب العذوبة، وَهُوَ منتزع من قَوْله تَعَالَى: {هَذَا عذب فرات} (الْفرْقَان: 35 وفاطر: 21) . وروى ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ: العذب الْفُرَات الحلو، وَمن عَادَة البُخَارِيّ أَنه إِذا ترْجم لباب فِي شَيْء يذكر فِيهِ مَا يُنَاسِبه من الْأَلْفَاظ الَّتِي فِي الْقُرْآن ويفسرها تكثيراً للفوائد.

(12/189)


1 - (بابٌ فِي الشُّرْبِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَحْكَام الشّرْب، وَقد مر تَفْسِير الشّرْب عَن قريب.
ومنْ رَأى صَدَقَةَ المَاءِ وهِبَتَهُ ووَصِيَّتَهُ جائِزَةً مَقْسُوماً كانَ أوْ غَيْرَ مَقْسُومٍ
أَي: فِي بَيَان من رأى ... إِلَى آخِره، قَالَ بَعضهم: أَرَادَ البُخَارِيّ بالترجمة الرَّد على من قَالَ: إِن المَاء لَا يملك. قلت: من أَيْن يعلم أَنه أَرَادَ بالترجمة الرَّد على من قَالَ: إِن المَاء لَا يملك، وَيحْتَمل الْعَكْس، وَأَيْضًا فَقَوله: إِن المَاء لَا يملك، لَيْسَ على الْإِطْلَاق، لِأَن المَاء على أَقسَام: قسم مِنْهُ لَا يملك أصلا، وكل النَّاس فِيهِ سَوَاء فِي الشّرْب وَسقي الدَّوَابّ وَكري النَّهر مِنْهُ إِلَى أرضه، وَذَلِكَ كالأنهار الْعِظَام مثل النّيل والفرات وَنَحْوهمَا، وَقسم مِنْهُ يملك، وَهُوَ المَاء الَّذِي يدْخل فِي قسْمَة أحد إِذا قسمه الإِمَام بَين قوم، فَالنَّاس فِيهِ شُرَكَاء فِي الشّرْب وَسقي الدَّوَابّ دون كري النَّهر، وَقسم مِنْهُ يكون محرزا فِي الْأَوَانِي كالجباب والدنان والجرار وَنَحْوهَا، وَهَذَا مَمْلُوك لصَاحبه بالإحراز، وَانْقطع حق غَيره عَنهُ كَمَا فِي الصَّيْد الْمَأْخُوذ حَتَّى لَو أتْلفه رجل يضمن قِيمَته، وَلَكِن شُبْهَة الشّركَة فِيهِ بَاقِيَة بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي الثَّلَاث: المَاء والكلأ وَالنَّار) ، رَوَاهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الله بن عمر، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن رجل من الصَّحَابَة وَأحمد فِي (مُسْنده) وَابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَالْمرَاد شركَة إِبَاحَة لَا شركَة ملك، فَمن سبق إِلَى أَخذ شَيْء مِنْهُ فِي وعَاء أَو غَيره وأحرزه فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَهُوَ ملكه دون سواهُ، لكنه لَا يمْنَع من يخَاف على نَفسه من الْعَطش أَو مركبه، فَإِن مَنعه يقاتله بِلَا سلَاح، بِخِلَاف المَاء الثَّانِي فَإِنَّهُ يقاتله فِيهِ بِالسِّلَاحِ.
قَوْله: (من رأى صَدَقَة المَاء) إِلَى آخِره لم يبين المُرَاد مِنْهُ: هَل هُوَ جَائِز أم لَا؟ وَظَاهر الْكَلَام يحْتَمل الْجَوَاز وَعَدَمه، وَلَكِن فِيهِ تَفْصِيل، وَهُوَ: أَن الرجل إِذا كَانَ لَهُ شرب فِي المَاء وَأوصى أَن يسْقِي مِنْهُ أَرض فلَان يَوْمًا أَو شهرا أَو سنة أجيزت من الثُّلُث، فَإِن مَاتَ الْمُوصى لَهُ بطلت الْوَصِيَّة بِمَنْزِلَة مَا إِذا أوصى بِخِدْمَة عَبده لإِنْسَان فَمَاتَ الْمُوصى لَهُ بطلت الْوَصِيَّة، وَإِذا أوصى بِبيع الشّرْب وهبته أَو صدقته، فَإِن ذَلِك لَا يَصح للْجَهَالَة أَو للغرر فَإِنَّهُ على خطر الْوُجُود لِأَن المَاء يَجِيء وَيَنْقَطِع، وَكَذَا لَا يَصح أَن يكون مُسَمّى فِي النِّكَاح حَتَّى يجب مهر الْمثل وَلَا بدل الصُّلْح عَن الدَّعْوَى، وَلَا يُبَاع الشّرْب فِي دين صَاحبه بِدُونِ أَرض بعد مَوته، وَكَذَا فِي حَيَاته، وَلَو بَاعَ المَاء المحرز فِي إِنَاء أَو وهبه لشخص أَو تصدق بِهِ فَإِنَّهُ يجوز، وَلَو كَانَ مُشْتَركا بَينه وَبَين آخر فَلَا يجوز قبل الْقِسْمَة، فَافْهَم، هَذِه الْفَوَائِد الَّتِي خلت عَنْهَا الشُّرُوح.
وَقَالَ عُثْمانُ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: منْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فيَكُونُ دَلْوُهُ فِيها كَدِلاَءِ المُسْلِمينَ فاشْتَرَاهَا عُثْمانُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ

أَي: قَالَ عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق سقط من رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَوَصله التِّرْمِذِيّ: (حَدثنَا عبد الله بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن جَعْفَر الرقي، قَالَ: حَدثنَا عبيد الله بن عَمْرو عَن زيد هُوَ ابْن أبي أنيسَة عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، قَالَ: لما حصر عُثْمَان أشرف عَلَيْهِم فَوق دَاره، ثمَّ قَالَ: أذكركم بِاللَّه {هَل تعلمُونَ أَن حراء حِين انتفض قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اثْبتْ حراء فَلَيْسَ عَلَيْك إلاَّ نَبِي أَو صديق أَو شَهِيد؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: أذكركم بِاللَّه} هَل تعلمُونَ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ فِي جَيش الْعسرَة: من ينْفق نَفَقَة متقبلة؟ وَالنَّاس مجهدون معسرون فجهزت ذَلِك الْجَيْش؟ قَالُوا: نعم، ثمَّ قَالَ: أذكركم بِاللَّه هَل تعلمُونَ أَن بِئْر رومة لم يكن يشرب مِنْهَا أحد إلاَّ بِثمن فابتعتها فجعلتها للغني وَالْفَقِير وَابْن السَّبِيل؟ قَالُوا: نعم. وَأَشْيَاء عدهَا) . ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (بِئْر رومة) بِإِضَافَة: بِئْر، إِلَى: رومة، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْوَاو وبالميم. ورومة علم على صَاحب الْبِئْر، وَهُوَ رومة الْغِفَارِيّ. وَقَالَ ابْن بطال: بِئْر رومة كَانَت ليهودي، وَكَانَ

(12/190)


يقفل عَلَيْهَا بقفل ويغيب فَيَأْتِي الْمُسلمُونَ ليشربوا مِنْهَا فَلَا يجدونه حَاضرا فيرجعون بِغَيْر مَاء، فَشَكا الْمُسلمُونَ ذَلِك، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من يَشْتَرِيهَا ويمنحها للْمُسلمين وَيكون نصِيبه فِيهَا كنصيب أحدهم فَلهُ الْجنَّة؟ فاشتراها عُثْمَان. وَهِي بِئْر مَعْرُوفَة بِمَدِينَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اشْتَرَاهَا عُثْمَان بِخَمْسَة وَثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم فوقفها، وَزعم الْكَلْبِيّ أَنه كَانَ قبل أَن يَشْتَرِيهَا عُثْمَان يَشْتَرِي مِنْهَا كل قربَة بدرهم. قَوْله: (فَيكون دلوه فِيهَا) أَي: دلو عُثْمَان فِي الْبِئْر الْمَذْكُور كدلاء كل الْمُسلمين، يَعْنِي: يوقفها وَيكون حَظه مِنْهَا كحظ غَيره من غير مزية، وَظَاهره أَن لَهُ الِانْتِفَاع إِذا شَرطه، وَلَا شكّ أَنه إِذا جعلهَا للسقاة إِن لَهُ الشّرْب وَإِن لم يشْتَرط لدُخُوله فِي جُمْلَتهمْ.
وَفِيه: جَوَاز بيع الْآبَار. وَفِيه: جَوَاز الْوَقْف على نَفسه وَلَو وقف على الْفُقَرَاء ثمَّ صَار فَقِيرا جَازَ أَخذه مِنْهُ.

1532 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا أبُو غسَّانَ قَالَ حدَّثني أَبُو حازِمٍ عنْ سَهْلِ ابنِ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَدَحٍ فشَرِبَ مِنهُ وعنْ يَمِينهِ غلاَمٌ أصْغَرُ الْقَوْمِ والأشْيَاخُ عنْ يَسارِهِ فَقَالَ يَا غُلامُ أتَأذَنُ لِي أنْ أُعْطِيَهُ الأشْياخَ قَالَ مَا كُنْتُ لِأُؤثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أحدا يَا رسولَ الله فأعْطَاهُ إيَّاهُ. .

وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب من حَيْثُ مَشْرُوعِيَّة قسْمَة المَاء، وَأَنه يملك، إِذْ لَو كَانَ لَا يُمكن لما جَاءَت فِيهِ الْقِسْمَة. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث أَن الْقدح كَانَ فِيهِ مَاء؟ قلت: جَاءَ مُفَسرًا فِي كتاب الْأَشْرِبَة بِأَنَّهُ كَانَ شرابًا، وَالشرَاب هُوَ المَاء أَو اللَّبن المشوب بِالْمَاءِ.
وَرِجَاله: سعيد بن أبي مَرْيَم، وَهُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ، وَأَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وبالنون: واسْمه مُحَمَّد بن مُضر اللَّيْثِيّ الْمدنِي نزل عسقلان، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج الْمدنِي، قَالَ أَبُو عَمْرو: روى أَبُو حَازِم هَذَا الحَدِيث عَن أَبِيه، وَقَالَ فِيهِ: وَعَن يسَاره أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذكر أبي بكر فِيهِ عِنْدهم خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْفُوظ فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عَمْرو بن حَرْمَلَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: دخلت أَنا وخَالِد بن الْوَلِيد مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على مَيْمُونَة، فجاءتنا بِإِنَاء فِيهِ لبن فَشرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا مَعَه، وخَالِد عَن يسَاره، فَقَالَ لي: الشربة لَك، وَإِن شِئْت آثرت خَالِدا. فَقلت: مَا كنت لأوثر بسؤرك أحدا، ثمَّ قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أطْعمهُ الله طَعَاما فَلْيقل: أللهم بَارك لنا فِيهِ وأطعمنا خيرا مِنْهُ، وَمن سقَاهُ الله لَبَنًا فَلْيقل: أللهم بَارك لنا فِيهِ وزدنا مِنْهُ.
قَوْله: (وَعَن يَمِينه غُلَام) ، هُوَ الْفضل بن عَبَّاس، حَكَاهُ ابْن بطال، وَحكى ابْن التِّين أَنه أَخُوهُ عبد الله. قَوْله: (بفضلي) ، ويروى: بِفضل.
وَفِيه: فَضِيلَة الْيَمين على الشمَال، وَقد أمروا بالشرب بهَا والمعاطاة دون الشمَال. وَفِيه: أَن من اسْتحق شَيْئا من الْأَشْيَاء لم يدْفع عَنهُ، صَغِيرا كَانَ أَو كَبِيرا، إِذا كَانَ مِمَّن يجوز إِذْنه.

2532 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عَن الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّها حُلِبَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاةٌ داجِنٌ وهْوَ فِي دَارِ أنَسِ بنِ مالِكٍ وشِيبَ لَبَنُها بِماءٍ مِنَ البِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أنَسٍ فأعْطِيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم القَدَحَ فشَرِبَ مِنْهُ حتَّى إذَا نَزَعَ الْقَدَحَ مِنْ فِيهِ وعَلَى يَسارهِ أبُو بَكْرٍ وعنْ يَمِينِهِ أعْرَابِيٌّ فَقَالَ عُمَرُ وخافَ أنْ يُعْطِيهِ الأعْرَابِيَّ أعْطِ أبَا بَكْرٍ يَا رسولَ الله عِنْدَكَ فأعْطَاهُ الأعْرَابِيَّ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ قالَ الأيْمَنَ فالأيْمَنَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله وشيب لَبنهَا بِمَاء وَالْمَاء يجْرِي فِيهِ الْقِسْمَة وانه يملك وَهَذَا الاسناد بِعَيْنِه قد مر غير مرّة وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي وَشُعَيْب بن ابي حَمْزَة الْحِمصِي وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم والْحَدِيث

(12/191)


أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَشْرِبَة عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن هِشَام بن عمار، ستتهم عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس.
قَوْله: (شَاة دَاجِن) ، الدَّاجِن شَاة ألفت الْبيُوت وأقامت بهَا، وَالشَّاة تذكر وتؤنث، فَلذَلِك قَالَ: دَاجِن، وَلم يقل: داجنة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الدَّاجِن الشَّاة الَّتِي يعلفها النَّاس فِي مَنَازِلهمْ، يُقَال: دجنت تدجن دجوناً. قَوْله: (وشيب) على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: خلط من شَاب يشوب شوباً، وأصل الشوب الْخَلْط. قَوْله: (وعَلى يسَاره) إِنَّمَا قَالَ هُنَا: بعلى، وَفِي يَمِينه: بعن، لِأَن لَعَلَّ يسَاره كَانَ موضعا مرتفعاً فَاعْتبر استعلاؤه، أَو كَانَ الْأَعرَابِي بَعيدا عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَعَن يَمِينه أَعْرَابِي) ، قيل: إِنَّه خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَكَاهُ ابْن التِّين، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يُقَال لَهُ: أَعْرَابِي. قيل: الْحَامِل لَهُ على ذَلِك أَنه رأى فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، الَّذِي مضى ذكره عَن قريب، وَهُوَ أَنه قَالَ: دخلت أَنا وخَالِد ابْن الْوَلِيد على مَيْمُونَة ... الحَدِيث، فَظن أَن الْقِصَّة وَاحِدَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن هَذِه الْقِصَّة فِي بَيت مَيْمُونَة، وقصة أنس فِي دَاره، وَبَينهمَا فرق. قَوْله: (وَخَافَ أَن يُعْطِيهِ) ، جملَة حَالية، وَالضَّمِير فِي: خَافَ، يرجع إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: (أعْط أَبَا بكر) تذكيراً لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإعلاماً للأعراب بجلالة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَذَا وَقع: أعطِ أَبَا بكر، لجَمِيع أَصْحَاب الزُّهْرِيّ، وشذ معمر فِيمَا رَوَاهُ وهب عَنهُ، فَقَالَ: عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، بدل: عمر، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالَّذِي فِي البُخَارِيّ هُوَ الصَّحِيح. قيل: إِن معمراً لما حدث بِالْبَصْرَةِ حدث من حفظه فَوَهم فِي أَشْيَاء، فَكَانَ هَذَا مِنْهَا. قلت: الْأَوْجه أَن يُقَال: يحْتَمل أَن يكون مَحْفُوظًا أَن يكون كل من عمر وَعبد الرَّحْمَن قَالَ ذَلِك. لتوفر دواعي الصَّحَابَة على تَعْظِيم أبي بكر، وَهَذَا أحسن من أَن يُنسب معمراً إِلَى الشذوذ وَالوهم. قَالَ النَّسَائِيّ: معمر بن رَاشد الثِّقَة الْمَأْمُون، وَقَالَ الْعجلِيّ: بَصرِي رَحل إِلَى صنعاء وَسكن بهَا وَتزَوج، ورحل إِلَيْهِ سُفْيَان وَسمع مِنْهُ هُنَاكَ، وَسمع هُوَ أَيْضا من سُفْيَان. قَوْله: (الْأَيْمن فالأيمن) بِالنّصب على تَقْدِير: أعْط الْأَيْمن، وبالرفع على تَقْدِير: الْأَيْمن أَحَق، وَيدل على تَرْجِيح رِوَايَة الرّفْع قَوْله فِي بعض لَعَلَّهَا طرقه: الأيمنون الأيمنون. قَالَ أنس: فَهِيَ سنة فَهِيَ سنة فَهِيَ سنة. هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي طوالة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: مَشْرُوعِيَّة تَقْدِيم من هُوَ على يَمِين الشَّارِب فِي الشّرْب وَإِن كَانَ مفضولاً بِالنِّسْبَةِ إِلَى من كَانَ على يسَار الشَّارِب، لفضل جِهَة الْيَمين على جِهَة الْيَسَار، وَهل هُوَ على جِهَة الِاسْتِحْبَاب أَو أَنه حق ثَابت للجالس على الْيَمين؟ فَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِنَّه سنة. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّهَا سنة وَاضِحَة، وَخَالف فِيهِ ابْن حزم فَقَالَ: لَا بُد من مناولة الْأَيْمن كَائِنا من كَانَ، فَلَا يجوز مناولة غير الْأَيْمن إلاَّ بِإِذن الْأَيْمن. قَالَ: وَمن لم يرد أَن يناول أحدا فَلهُ ذَلِك. فَإِن قلت: فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه أَبُو يعلى بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سقى قَالَ: (ابدأوا بالكبراء، أَو قَالَ: بالأكابر) . فَكيف الْجمع بَين أَحَادِيث الْبَاب؟ قلت: يحْتَمل هَذَا الحَدِيث على مَا إِذا لم يكن على جِهَة يَمِينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بل كَانَ الْحَاضِرُونَ تِلْقَاء وَجهه مثلا، أَو وَرَاءه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأما تَقْدِيم الأفاضل والكبار فَهُوَ عِنْد التَّسَاوِي فِي بَاقِي الْأَوْصَاف، وَلِهَذَا يقدم الأعلم والأقرأ على الأسن النسيب فِي الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة. وَفِيه: أَن غير المشروب، مثل: الْفَاكِهَة وَاللَّحم وَنَحْوهمَا، هَل حكمه حكم المَاء؟ فَنقل عَن مَالك تَخْصِيص ذَلِك بالشرب، وَقَالَ ابْن عبد الْبر وَغَيره: لَا يَصح هَذَا عَن مَالك. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: يشبه أَن يكون قَول مَالك: إِن السّنة وَردت فِي الشّرْب خَاصَّة، وَإِنَّمَا يقدم الْأَيْمن فالأيمن فِي غَيره بِالْقِيَاسِ، لِأَن السّنة منصوصة فِيهِ وَكَيف مَا كَانَ فَالْعُلَمَاء متفقون على اسْتِحْبَاب التَّيَامُن فِي الشّرْب وأشباهه. وَفِيه: جَوَاز شوب اللَّبن بِالْمَاءِ لنَفسِهِ وَلأَهل بَيته ولأضيافه، وَإِنَّمَا يمْتَنع شوبه بِالْمَاءِ إِذا أَرَادَ بَيْعه لِأَنَّهُ غش. وَفِيه: أَن الجلساء شُرَكَاء فِي الْهَدِيَّة، وَذَلِكَ على جِهَة الْأَدَب والمروءة وَالْفضل والأخوة، لَا على الْوُجُوب، لإجماعهم على أَن الْمُطَالبَة بذلك غير وَاجِبَة لأحد. فَإِن قلت رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (جلساؤكم شركاؤكم فِي الْهَدِيَّة) : رويي أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: جلساؤكم شركاؤكم فِي الْهَدِيَّة. فَإِن قلت: مَحْمُول على مَا ذكرنَا مَعَ أَن إِسْنَاده فِيهِ لين. وَفِيه: دلَالَة أَن من قدم إِلَيْهِ شَيْء من الْأكل أَو الشّرْب فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يسْأَل من أَيْن هُوَ وَمَا أَصله؟ إِذا علم طيب مكسب صَاحبه فِي الْأَغْلَب.

(12/192)


الأسئلة والأجوبة فِي أَحَادِيث هَذَا الْبَاب:
الأول: مَا الْحِكْمَة فِي كَون ابْن عَبَّاس لم يُوَافق اسْتِئْذَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ فِي أَن يقدم فِي الشّرْب من هُوَ أولى مِنْهُ بذلك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْمُرهُ بذلك بقوله: أترك لَهُ حَقك، وَلَو أمره لأطاعه، فَلَمَّا لم يَقع مِنْهُ إلاَّ اسْتِئْذَانه لَهُ فِي ذَلِك فَقَط لم يفوت نَفسه حَظه من سُؤْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الثَّانِي: مَا الْحِكْمَة فِي كَونه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اسْتَأْذن ابْن عَبَّاس أَن يُعْطي خَالِد بن الْوَلِيد، قبله، وَلم يسْتَأْذن الْأَعرَابِي فِي أَن يُعْطي أَبَا بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قبله؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَأْذن الْغُلَام دون الْأَعرَابِي إدلالاً على الْغُلَام، وَهُوَ ابْن عَبَّاس، ثِقَة بِطيب نَفسه بِأَصْل الأستئذان، والأشياخ أَقَاربه، وَأما الْأَعرَابِي فَلم يَسْتَأْذِنهُ مَخَافَة من إيحاشه فِي اسْتِئْذَانه فِي صرفه إِلَى أَصْحَابه، وَرُبمَا سبق إِلَى قلب ذَلِك الْأَعرَابِي شَيْء يأنف بِهِ لقرب عَهده بالجاهلية.
الثَّالِث: هَل من سبق إِلَى مجْلِس عَالم أَو كَبِير أَو إِلَى مَوضِع من الْمَسْجِد إو إِلَى مَوضِع مُبَاح فَهُوَ أَحَق بِهِ مِمَّن يَجِيء بعده أم لَا؟ أُجِيب: بِأَن الْحِكْمَة حكم الشّرْب، فِي أَن الْقَاعِد على الْيَمين أَحَق، كَائِنا من كَانَ، فَكَذَلِك هُنَا السَّابِق أَحَق كَائِنا من كَانَ، وَلَا يُقَام أحد من مجْلِس جلسه.

2 - (بابُ منْ قالَ إنَّ صاحِبَ المَاءِ أحَقُّ بالمَاءِ حتَّى يَرْوَى)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من قَالَ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (يرْوى) ، بِفَتْح الْوَاو: من الرّيّ، وَقَالَ ابْن بطال: لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن صَاحب المَاء أَحَق بِالْمَاءِ حَتَّى يَروى.
لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ
هَذَا تَعْلِيل للتَّرْجَمَة، وَوَجهه أَن منع فضل المَاء إِنَّمَا يتَوَجَّه إِذا فضل عَن حَاجَة صَاحبه، فَهَذَا يدل على أَنه أَحَق بمائه عِنْد عدم الْفضل، وَالْمرَاد من: حَاجَة صَاحبه، حَاجَة نَفسه وَعِيَاله وزرعه وماشيته، وَهَذَا فِي غير المَاء المحرز فِي الْإِنَاء، فَإِن المحرز فِيهِ لَا يجب بذل فَضله إلاَّ للْمُضْطَر، وَهُوَ الصَّحِيح. ثمَّ قَوْله: (لَا يمْنَع) على صِيغَة الْمَجْهُول، وبالرفع لِأَنَّهُ نفي بِمَعْنى النَّهْي، وَذكر عِيَاض أَنه فِي رِوَايَة أبي ذَر بِالْجَزْمِ بِلَفْظ النَّهْي، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ عَقِيبه، كَمَا يجيىء الْآن.

3532 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يُمْنَعُ فَضْلُ المَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الكَلأُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن منع فضل المَاء يدل على أَن صَاحب المَاء أَحَق بِهِ عِنْد عدم الْفضل، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي ترك الْحِيَل عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي إحْيَاء الْموَات عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، أربعتهم عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ البُخَارِيّ، وَكَذَلِكَ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه من رِوَايَة سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد بِلَفْظ: لَا يمْنَع أحدكُم فضل المَاء يمْنَع بِهِ الْكلأ. وَفِي لفظ بِهَذَا الْإِسْنَاد: ثَلَاث لَا يمنعن: المَاء والكلأ وَالنَّار. وَأخرج ابْن مَاجَه أَيْضا من رِوَايَة حَارِث عَن عمْرَة عَن عَائِشَة، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يمْنَع فضل المَاء وَلَا يمْنَع نفع الْبِئْر. وَأخرج أَحْمد فِي (مُسْنده) : حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من منع فضل مَائه أَو فضل كلائه مَنعه الله عز وَجل فَضله. وَأخرج أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من منع فضل مَائه مَنعه الله فَضله يَوْم الْقِيَامَة. وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) من رِوَايَة مَكْحُول عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع، قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تمنعوا عباد الله فضل المَاء وَلَا كلأ وَلَا نَارا فَإِن الله جعلهَا مَتَاعا للموقين وَقُوَّة للمستضعفين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يمْنَع) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (ليمنع بِهِ) ، اللَّام هَذِه، وَإِن كَانَ النُّحَاة يَقُولُونَ إِنَّهَا لَام كي

(12/193)


فَهِيَ لبَيَان الْعَاقِبَة والمآل، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا وحزناً} (الْقَصَص: 8) . قَوْله: (الْكلأ) ، بِفَتْح الْكَاف وَاللَّام وبالهمزة: العشب، سَوَاء كَانَ يَابسا أَو رطبا. وَفِي (الْمُحكم) : هُوَ اسْم للنوع وَلَا وَاحِد لَهُ، وَمعنى هَذَا الْكَلَام مَا قَالَه الْخطابِيّ: هَذَا فِي الرجل يحْفر الْبِئْر فِي الْموَات فيملكها بِالْإِحْيَاءِ، وبقرب الْبِئْر موَات فِيهِ كلأ ترعاه الْمَاشِيَة، وَلَا يكون لَهُم مقَام إِذا منعُوا المَاء، فَأمر صَاحب المَاء أَن لَا يمْنَع الْمَاشِيَة فضل مائَة لِئَلَّا يكون مَانِعا للكلأ. قلت: توضيح ذَلِك الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: أَن يكون حول بِئْر رجل كلأ لَيْسَ عِنْده مَاء غَيره، وَلَا يُمكن أَصْحَاب الْمَوَاشِي رعيه إِلَّا إِذا مكنوا من سقِِي بهائمهم من تِلْكَ الْبِئْر لِئَلَّا يتضرروا بالعطش بعد الرَّعْي، فيستلزم مَنعهم من المَاء مَنعهم من الرَّعْي، وعَلى هَذَا يخْتَص الْبَذْل بِمن لَهُ مَاشِيَة، وَيلْحق بِهِ الرُّعَاة إِذا احتاجوا إِلَى الشّرْب لأَنهم إِذا منعُوا مِنْهُ امْتَنعُوا من الرَّعْي هُنَاكَ. وَقَالَ ابْن بزيزة: منع المَاء بعد الرّيّ من الْكَبَائِر، ذكره يحيى فِي (خراجه) .

4532 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنِ ابنِ المُسَيَّبِ وأبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ المَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلأ. (انْظُر الحَدِيث 3532 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد الْأَيْلِي، ويروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم من رِوَايَة هِلَال بن أُسَامَة عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: لَا يُبَاع فضل المَاء ليباع بِهِ الْكلأ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد من رِوَايَة جرير عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: لَا يمْنَع فضل المَاء ليمنع بِهِ الْكلأ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة اللَّيْث عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، نَحْو رِوَايَة أبي دَاوُد.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أَن هَذَا النَّهْي للتَّحْرِيم أَو التَّنْزِيه؟ فَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وبنوا ذَلِك على أَن المَاء يملك أم لَا؟ فَالْأولى حمله على الْكَرَاهَة. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَالنَّهْي فِيهِ على التَّحْرِيم عِنْد مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ، وَنَقله الْخطابِيّ وَابْن التِّين عَن الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واستحبه بَعضهم وَحمله على النّدب، وَالأَصَح عندنَا أَنه يجب بذله للماشية لَا للزَّرْع. قلت: كَذَلِك مَذْهَب الْحَنَفِيَّة: الِاخْتِصَاص بالماشية، وَفرق الشَّافِعِي فِيمَا حَكَاهُ الْمُزنِيّ عَنهُ بَين الْمَوَاشِي وَالزَّرْع بِأَن الْمَاشِيَة ذَات أَرْوَاح يخْشَى من عطشها مَوتهَا بِخِلَاف الزَّرْع.
وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن صَاحب المَاء أَحَق بِهِ حَتَّى يُروى لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع فضل المَاء، فَأَما من لَا يفضل لَهُ فَلَا يدْخل فِي هَذَا النَّهْي، لِأَن صَاحب الشَّيْء أولى بِهِ. وَتَأْويل الْمَنْع عِنْد مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) وَغَيره: مَعْنَاهُ فِي آبار الْمَاشِيَة فِي الصَّحرَاء يحفرها الْمَرْء وبقربها كلأ مُبَاح، فَإِذا منع المَاء اخْتصَّ بالكلأ، فَأمر أَن لَا يمْنَع فضل المَاء لِئَلَّا يكون مَانِعا للكلأ. وَقَالَ القَاضِي فِي (إشرافه) فِي حافر الْبِئْر فِي الْموَات: لَا يجوز لَهُ منع مَا زَاد على قدر حَاجته لغيره بِغَيْر عوض، وَقَالَ قوم: يلْزمه بِالْعِوَضِ، أما حافرها فِي ملكه فَلهُ منع مَا عمل من ذَلِك، وَيكون أَحَق بِمَائِهَا حَتَّى يرْوى، وَيكون للنَّاس مَا فضل إلاَّ من مر بهم لشفاههم ودوابهم فَإِنَّهُم لَا يمْنَعُونَ كَمَا يمْنَع من سواهُم. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَهُ أَن يمْنَع من دُخُول أرضه وَأخذ مَائه لَا أَن لَا يكون لشفاههم ودوابهم مَاء فيسقيهم، وَلَيْسَ عَلَيْهِ سقِِي زرعهم. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ، نَاقِلا عَن القَاضِي بعلامة (قض) : اخْتلفت الرِّوَايَات فِي هَذَا الحَدِيث فروى البُخَارِيّ: لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ فضل الْكلأ، مَعْنَاهُ: من كَانَ لَهُ بِئْر فِي موَات من الأَرْض لَا يمْنَع مَاشِيَة غَيره أَن ترد فضل مَائه الَّذِي زَاد على مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ ليمنعها بذلك عَن فضل الْكلأ، فَإِنَّهُ إِذا مَنعهم عَن فضل مَاء من الأَرْض لَا مَاء بهَا (مَا شيته) ، سواهُ لم يُمكن لَهُم الرَّعْي بهَا، فَيصير الْكلأ مَمْنُوعًا بِمَنْع المَاء. وروى مُسلم: لَا يُبَاع فضل المَاء ليمنع بِهِ الْكلأ. وَالْمعْنَى: لَا يُبَاع فضل المَاء ليباع بِهِ الْكلأ، أَي: لَا يُبَاع فضل المَاء ليصير بِهِ البَائِع لَهُ كالبائع للكلأ، فَإِن من أَرَادَ الرَّعْي فِي حوالي مَائه إِذا مَنعه من الْوُرُود على مَائه، إلاَّ بعوض اضْطر إِلَى شِرَائِهِ، فَيكون بَيْعه للْمَاء بيعا للكلأ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا يجب على صَاحب الْبِئْر بذل الْفَاضِل عَن حَاجته لزرع غَيره فِيمَا يملكهُ من

(12/194)


المَاء، وَيجب بذله للماشية، وللوجوب شُرُوط: أَحدهَا: أَن لَا يجد صَاحب الْمَاشِيَة مَاء مُبَاحا. وَالثَّانِي: إِن يكون الْبَذْل لحَاجَة الْمَاشِيَة. وَالثَّالِث: أَن يكون هُنَاكَ مرعى، وَأَن يكون المَاء فِي مستقره، فالماء الْمَوْجُود فِي إِنَاء لَا يجب بذل فَضله على الصَّحِيح، ثمَّ عابروا السَّبِيل يبْذل لَهُم ولمواشيهم، وَلمن أَرَادَ الْإِقَامَة فِي الْموضع وَجْهَان، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَة فِي الْإِقَامَة، وَالأَصَح الْوُجُوب، وَإِذا أَوجَبْنَا الْبَذْل هَل يجوز أَن يَأْخُذ عَلَيْهِ أجرا كإطعام الْمُضْطَر؟ وَجْهَان وَالصَّحِيح: لَا، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع فضل المَاء.

3 - (بابٌ منْ حَفَرَ بِئْراً فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من حفر بِئْرا فِي ملكه، فَإِنَّهُ لَا يضمن، لِأَن لَهُ التَّصَرُّف فِي ملكه.

5532 - حدَّثنا مَحْمُودٌ قَالَ أخبرنَا عُبَيْدُ الله عنْ إسْرَائِيلَ عنْ أبِي حَصِينٍ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَعْدِنُ جُبَارٌ والْبِئْرُ جُبَارٌ والْعَجْماءُ جُبارٌ وَفِي الرِّكازِ الخُمْسُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والبئر جَبَّار) ، يَعْنِي: هدر لَا شَيْء فِيهِ، وَالْمرَاد من جَبَّار الْبِئْر أَنه إِذا حفرهَا فِي مَوضِع يسوغ لَهُ حفرهَا، فَسقط فِيهَا أحد لَا ضَمَان عَلَيْهِ. وَقيل: مَعْنَاهُ أَن يسْتَأْجر من يحْفر لَهُ بِئْرا فانهارت عَلَيْهِ الْبِئْر فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب فِي الرِّكَاز الْخمس، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب وَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: العجماء جَبَّار والبئر جَبَّار والمعدن جَبَّار وَفِي الرِّكَاز الْخمس، هَهُنَا أخرجه: عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن أبي حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة: واسْمه عُثْمَان بن عَاصِم، عَن أبي صَالح ذكْوَان الزيات السمان ... إِلَى آخِره.
وَعبيد الله بن مُوسَى هُوَ شيخ البُخَارِيّ أَيْضا، روى عَنهُ بِدُونِ وَاسِطَة فِي أول الْإِيمَان، وَهنا بِوَاسِطَة مَحْمُود.
قَوْله: (حَدثنَا مَحْمُود أخبرنَا عبيد الله) ، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنِي مَحْمُود وَأَخْبرنِي عبيد الله، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.

4 - (بابُ الخُصُومَةِ فِي البِئْرِ والقَضَاءِ فِيها)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخُصُومَة فِي الْبِئْر، وَفِي بَيَان الْقَضَاء، أَي: الحكم فِيهَا، أَي: فِي الْبِئْر.
6532

- 7532 حدَّثنا عَبْدَانُ عنْ أبي حَمْزَةَ عنِ الأعْمَشِ عنْ شَقيقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ حَلَفَ عَلى يَمينٍ يَقْتَطِعُ بِها مالَ امْرِىءٍ هُوَ عَلَيْها فاجِرٌ لَقِيَ الله وهْوَ عَلَيْهِ غَضْبانُ فأنزلَ الله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيْمانِهِمْ ثَمناً قَلِيلاً} (آل عمرَان: 77) . الْآيَة فَجَاءَ الأشْعَثُ فَقَالَ مَا حَدَّثَكُمْ أبُو عبدِ الرَّحْمانِ فيَّ أُنْزِلَتْ هذِه الآيةُ كانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أرْضِ ابنِ عَمٍّ لِي فَقَالَ لِي شُهُودَكَ قُلْتُ مَا لِي شُهودٌ قَالَ فَيَمِينُهُ قُلْتُ يَا رسولَ الله إِذا يَحْلِف فَذَكَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ...

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم فِي الْبِئْر الْمَذْكُورَة بِطَلَب الْبَيِّنَة من الْمُدَّعِي وبيمين الْمُدعى عَلَيْهِ. عِنْد عجز الْمُدَّعِي عَن إِقَامَة الْبَيِّنَة، وعبدان لقب عبد الله الْمروزِي، وَقد مر غير مرّة. وَأَبُو حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: مُحَمَّد ابْن مَيْمُون السكرِي، وَقد مر فِي: بَاب نفض الْيَدَيْنِ فِي الْغسْل، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وشقيق بن سَلمَة أَبُو وَائِل الْأَسدي الْكُوفِي، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، والأشعث بن قيس أَبُو مُحَمَّد الْكِنْدِيّ، وَفد إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة عشر من الْهِجْرَة فِي وَفد كِنْدَة، وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا فأسلموا، وَكَانَ مِمَّن ارْتَدَّ بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أسلم وَله قصَّة طَوِيلَة.

(12/195)


والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَشْخَاص وَفِي الشَّهَادَات عَن مُحَمَّد بن سَلام، وَفِي الْأَشْخَاص أَيْضا عَن بشر بن خَالِد، وَفِي النذور عَن مُوسَى، وَفِي التَّفْسِير عَن حجاج بن الْمنْهَال، وَفِي الشّركَة عَن قُتَيْبَة، وَفِي النذور أَيْضا عَن بنْدَار، وَفِي الْأَحْكَام عَن إِسْحَاق بن نصر، وَأخرجه مُسلم فِي الْأَيْمَان عَن أبي بكر وَإِسْحَاق وَابْن نمير، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع وَعَن ابْن نمير عَن أَبِيه وَعَن إِسْحَاق عَن جرير بهوأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْإِيمَان وَالنُّذُور عَن مُحَمَّد بن عيس وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع وَفِي التَّفْسِير عَن هُنَا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء عَن هناد وَفِي التَّفْسِير عَن الْهَيْثَم بن أَيُّوب وَعَن مُحَمَّد بن قدامَة، وَلم يذكر حَدِيث عبد الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعلي بن مُحَمَّد، وَفِي بعض الْأَلْفَاظ اخْتِلَاف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يقتطع بهَا) ، أَي: بِالْيَمِينِ أَي: بِسَبَبِهَا، وَمعنى يقتطع: يَأْخُذ قِطْعَة بِسَبَب الْيَمين من مَال امرىء. قَوْله: (هُوَ عَلَيْهَا فَاجر) ، أَي: كَاذِب، وَهِي جملَة إسمية وَقعت حَالا بِلَا وَاو، كَمَا فِي قَوْلك: كَلمته فوه إِلَى فِي. قَوْله: (لَقِي الله تَعَالَى) ، يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا على الأَصْل. قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: يَعْنِي بِالْغَضَبِ، إِرَادَة عُقُوبَة أَو عُقُوبَة نَفسهَا، إِذْ يعبر بِالْغَضَبِ عَن الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذا لقِيه وَهُوَ يُرِيد عِقَابه أَو قد عاقبه جَازَ بعد ذَلِك أَن لَا يُرِيد عِقَابه وَأَن يدْفع عَنهُ تماديه إِن كَانَ أنزلهُ بِهِ، بِشَرْط أَن لَا يكون مُتَعَلق إِرَادَته عَذَاب واصب. وَقَالَ شَيخنَا: الظَّاهِر أَن المُرَاد بغضب الله مُعَامَلَته بمعاملة المغضوب عَلَيْهِ من كَونه لَا ينظر إِلَيْهِ وَلَا يكلمهُ، كَمَا ثَبت فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا ينظر إِلَيْهِم، فَذكر مِنْهُم: وَرجل حلف على يَمِين كَاذِبَة بعد الْعَصْر ليقتطع بهَا مَال امرىء مُسلم) الحَدِيث، وَأما كَون المُرَاد بِالْغَضَبِ إِرَادَة الْعقُوبَة أَو الْعقُوبَة نَفسهَا فَإِنَّهُ يردهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث الْأَشْعَث بن قيس مَرْفُوعا: من حلف على يَمِين صبرا ليقتطع بهَا مَال امرىء مُسلم لَقِي الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ مُجْتَمع عَلَيْهِ غَضبا، عَفا الله عَنهُ أَو عاقبه) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، فَهَذَا يدل على أَنه لم يرد بِالْغَضَبِ إِرَادَة الْعقُوبَة أَو الْعقُوبَة، لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ عُقُوبَته لوقعت الْعقُوبَة على وفْق الْإِرَادَة.
ذكر اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ: فَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود والأشعث بن قيس وَمَعْقِل بن يسَار: لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان، وَفِي بعض طرق حَدِيث الْأَشْعَث: لَقِي الله وَهُوَ أَجْذم، وَفِي رِوَايَة عمرَان بن حُصَيْن والْحَارث بن برصاء وَجَابِر بن عبد الله: فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار، وَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة وَجَابِر بن عتِيك: أوجب الله لَهُ النَّار وَحرم عَلَيْهِ الْجنَّة. وَفِي حَدِيث أبي سَوْدَة: إِن ذَلِك يعقم الرَّحِم، وَفِي حَدِيث سعيد بن زيد: إِنَّه لَا يُبَارك لَهُ فِيهَا، وَفِي حَدِيث ثَعْلَبَة بن صد مُغيرَة: نُكْتَة سَوْدَاء فِي قلبه، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث عبد الله بن أنيس. فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: لَا مُنَافَاة بَين شَيْء من ذَلِك، فقد يجْتَمع لَهُ جَمِيع ذَلِك كُله نَعُوذ بِاللَّه مِنْهُ وَإِنَّمَا يشكل مِنْهُ رِوَايَة: حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة وَأوجب لَهُ النَّار، فَيحمل ذَلِك على المستحل لذَلِك، أَو على تَقْدِير: أَن ذَلِك جَزَاؤُهُ إِن جازاه، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا} (النِّسَاء: 39) . وَالله أعلم.
ذكر بَيَان من خرج هَذِه الْأَحَادِيث: أما حَدِيث ابْن مَسْعُود فقد مضى الْآن. وَأما حَدِيث الْأَشْعَث بن قيس فَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَأخرجه بَقِيَّة الْأَئِمَّة. وَأما حَدِيث معقل بن يسَار فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة شُعْبَة عَن عِيَاض عَن أبي خَالِد، قَالَ: رَأَيْت رجلَيْنِ يختصمان عِنْد معقل بن يسَار، فَقَالَ معقل: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف على يَمِين ليقتطع بهَا مَال رجل لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان) ، وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَأما حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف على يَمِين مصبورة كَاذِبًا فَليَتَبَوَّأ بِوَجْهِهِ مَقْعَده من النَّار) ، وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا اللَّفْظ. وَأما حَدِيث الْحَارِث بن برصاء فَأخْرجهُ الْحَاكِم من رِوَايَة عبيد بن جريج عَن الْحَارِث بن برصاء، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من اقتطع مَال أَخِيه الْمُسلم بِيَمِين فاجرة فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار، ليبلغ شاهدكم غائبكم، مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) . وَقَالَ: هَذَا صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ بِهَذَا السِّيَاق. وَأما حَدِيث جَابر بن عبد الله فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عبد الله بن نسطاس عَن جَابر

(12/196)


ابْن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف على منبري هَذَا على يَمِين آثمة فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) الحَدِيث، وَأخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة بن ثَعْلَبَة، واسْمه: إِيَاس، وَقيل: ثَعْلَبَة، وَالأَصَح أَنه إِيَاس، فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الله بن كَعْب بن مَالك عَن أبي أُمَامَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من اقتطع حق امرىء مُسلم بِيَمِينِهِ فقد أوجب الله لَهُ النَّار وَحرم عَلَيْهِ الْجنَّة، فَقَالَ لَهُ رجل: وَإِن كَانَ شَيْئا يَسِيرا يَا رَسُول الله؟ قَالَ: وَإِن كَانَ قَضِيبًا من أَرَاك) . وَأما حَدِيث جَابر بن عتِيك فَأخْرجهُ الْحَاكِم من رِوَايَة أبي سُفْيَان بن جَابر بن عتِيك عَن أَبِيه أَنه سمع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من اقتطع مَال امرىء مُسلم بِيَمِينِهِ حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة وَأدْخلهُ النَّار، قَالُوا: يَا رَسُول الله {وَإِن كَانَ شَيْئا يَسِيرا؟ قَالَ: وَإِن كَانَ سواكاً، وَإِن كَانَ سواكاً) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَأما حَدِيث أبي سَوْدَة فَأخْرجهُ أَحْمد من رِوَايَة معمر عَن شيخ من بني تَمِيم عَن أبي سَوْدَة، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: الْيَمين الْفَاجِرَة الَّتِي يقتطع بهَا الرجل مَال الْمُسلم يعقم الرَّحِم. وَأما حَدِيث سعيد بن زيد فَأخْرجهُ أَحْمد أَيْضا من رِوَايَة الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي سَلمَة أَن مَرْوَان قَالَ: إذهبوا فأصلحوا بَين هذَيْن، لسَعِيد بن زيد، وروى الحَدِيث وَفِيه: من اقتطع مَال امرىء مُسلم بِيَمِين فَلَا بَارك الله لَهُ فِيهَا، وَأخرجه الْحَاكِم وَصَححهُ. وَأما حَدِيث ثَعْلَبَة بن مُغيرَة فَأخْرجهُ الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك أَنه سمع ثَعْلَبَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من اقتطع مَال امرىء مُسلم بِيَمِين كَاذِبَة كَانَت نُكْتَة سَوْدَاء فِي قلبه لَا يغيرها شَيْء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَصَححهُ. وَأما حَدِيث عبد الله بن أنيس فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير من رِوَايَة مُحَمَّد بن زيد المُهَاجر عَن أبي أُمَامَة الْأنْصَارِيّ عَن عبد الله بن أنيس الْجُهَنِيّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من أكبر الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين، وَالْيَمِين الْغمُوس، وَمَا حلف حَالف بِاللَّه يَمِين صَبر فَأدْخل فِيهَا مثل جنَاح الْبَعُوضَة إلاَّ جعلهَا الله نُكْتَة فِي قلبه يَوْم الْقِيَامَة، وَأخرجه الْحَاكِم وَصَححهُ.
قلت: وَفِي الْبَاب عَن أبي ذَر، وَعبد الله ابْن أبي أوفى وَأبي قَتَادَة، وَعبد الرَّحْمَن بن شبْل، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَوَائِل بن حجر، وَأبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ اسْمه: صدي ابْن عجلَان وَأَبُو مُوسَى، وعدي بن عميرَة.
أما حَدِيث أبي ذَر فَأخْرجهُ مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ من رِوَايَة خَرشَة بن قُتَيْبَة الْحر عَن أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ثَلَاثَة لَا ينظر الله إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم. قلت: من هم يَا رَسُول الله فقد خابوا وخسروا؟ فَقَالَ: المنان والمسبل إزَاره والمنفق سلْعَته بِالْحلف الْكَاذِب. وَأما حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى فَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي أَفْرَاده على مَا يَأْتِي. وَأما حَدِيث أبي قَتَادَة فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة معبد بن كَعْب ابْن مَالك عَن أبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ أَنه سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إيَّاكُمْ وَكَثْرَة الْحلف فِي البيع فَإِنَّهُ ينْفق ثمَّ يمحق. وَأما حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن شبْل فَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة يحيى بن أبي كثير عَن زيد بن سَلام عَن أبي سَلام عَن أبي رَاشد عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل، رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن التُّجَّار هم الْفجار، فَقَالَ رجل: يَا رَسُول الله} ألم يحل الله البيع؟ قَالَ: بلَى، وَلَكنهُمْ يحلفُونَ ويأثمون، وَزَاد أَحْمد: وَيَقُولُونَ فيكذبون) . وَأما حَدِيث مُعَاوِيَة فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة يحيى بن أبي كثير عَن زيد بن سَلام عَن أبي سَلام عَن أبي رَاشد الحبراني عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل: أَن مُعَاوِيَة قَالَ: إِذا أتيت فسطاطي فَقُمْ فِي النَّاس فَأخْبرهُم مَا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: إِن التُّجَّار ... إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ الْآن، هَكَذَا أسْندهُ الطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند مُعَاوِيَة، وَكَأن الرِّوَايَة عِنْده فِيهِ: مَا سَمِعت، بِالضَّمِّ، وَأما حَدِيث وَائِل بن حجر فَأخْرجهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عَلْقَمَة بن وَائِل (عَن أَبِيه، قَالَ: جَاءَ رجل من حضر موت وَرجل من كِنْدَة إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ الْحَضْرَمِيّ: يَا رَسُول الله! إِن هَذَا قد غلبني على أَرض لي ... الحَدِيث، وَفِيه: فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما أدبر: أما لَئِن حلف على مَال ليأكله ظلما ليلقين الله وَهُوَ عَنهُ معرض) . وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ فَأخْرجهُ الْأَصْبَهَانِيّ فِي (التَّرْغِيب والترهيب) من رِوَايَة خصيب الْجَزرِي عَن أبي غَالب عَن أبي أُمَامَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالَ: إِن التَّاجِر إِذا كَانَ فِيهِ أَربع خِصَال طَابَ كَسبه: إِذا اشْترى لم يذم، وَإِذا

(12/197)


بَاعَ لم يمدح، وَلم يُدَلس فِي البيع، وَلم يحلف فِيمَا بَين ذَلِك) وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فَأخْرجهُ الْبَزَّار من حَدِيث ثَابت بن الْحجَّاج عَن أبي بردة عَن أبي مُوسَى: أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي أَرض، أَحدهمَا من حَضرمَوْت فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، للْمُدَّعى عَلَيْهِ: أتحلف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إلاَّ هُوَ؟ فَقَالَ الْمُدَّعِي: يَا رَسُول الله لَيْسَ لي إلاَّ يَمِينه. قَالَ: نعم. قَالَ: إِذا يذهب بأرضي، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن حلف كَاذِبًا لم ينظر الله إِلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة وَلم يزكه وَله عَذَاب أَلِيم) ، قَالَ فتورع الرجل عَنْهَا فَردهَا عَلَيْهِ. وَأما حَدِيث عدي بن عميرَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رجلَانِ يختصمان فِي أَرض ... وَفِيه، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف على مَال امرىء مُسلم لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان، قَالَ: فَمن تَركهَا؟ قَالَ: لَهُ الْجنَّة) . وَفِي رِوَايَة: بَين امرىء الْقَيْس وَرجل من حَضرمَوْت، وَفِيه: فَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس: يَا رَسُول الله! فَمَا لمن تَركهَا وَهُوَ يعلم أَنَّهَا حق؟ قَالَ: لَهُ الْجنَّة) .
(قَوْله مَا حَدثكُمْ أَبُو عبد الرَّحْمَن أَي أَي شَيْء حَدثكُمْ أَبُو عبد الرَّحْمَن وَهُوَ كنية عبد بن مَسْعُود
قَوْله: (فِي) ، بِكَسْر الْفَاء وَتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (فَأنْزل الله {إِن الَّذين يشْتَرونَ ... } (آل عمرَان: 77)) الْآيَة، هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة آل عمرَان: {إِن الَّذين يشْتَرونَ} (آل عمرَان: 77) . يَعْنِي: إِن الَّذين يعتاضون عَمَّا هدَاهُم الله عَلَيْهِ من اتِّبَاع مُحَمَّد وَذكر صفته للنَّاس وَبَيَان أمره عَن أَيْمَانهم الكاذبة الْفَاجِرَة الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة، وَهِي عرُوض هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا الفانية الزائلة {أُولَئِكَ لَا خلاق لَهُم} (آل عمرَان: 77) . أَي: لَا نصيب لَهُم {فِي الْآخِرَة} (آل عمرَان: 77) . وَلَا حَظّ لَهُم مِنْهَا {وَلَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة} (آل عمرَان: 77) . بِعَين رَحمته {وَلَا يزكيهم} (آل عمرَان: 77) . أَي: وَلَا يطهرهم من الذُّنُوب والأدناس، بل يَأْمر بهم إِلَى النَّار {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} (آل عمرَان: 77) . ثمَّ سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة فِي الْأَشْعَث بن قيس كَمَا ذكره فِي حَدِيث الْبَاب، وَذكر البُخَارِيّ لسَبَب نُزُولهَا وَجها آخر عَن عبد الله بن أبي أوفى: أَن رجلا أَقَامَ سلْعَة فِي السُّوق، فَحلف لقد إعطي بهَا مَا لم يُعْطه، ليوقع فِيهَا رجلا من الْمُسلمين. فَنزل {إِن الَّذين يشْتَرونَ ... } (آل عمرَان: 77) . الْآيَة. وَذكر الواحدي أَن الْكَلْبِيّ قَالَ: إِن نَاسا من عُلَمَاء الْيَهُود أولي فاقة اقتحموا إِلَى كَعْب بن الْأَشْرَف، لَعنه الله، فَسَأَلَهُمْ: كَيفَ تعلمُونَ هَذَا الرجل يَعْنِي: سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كتابكُمْ؟ قَالُوا: وَمَا تعلمه أَنْت؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: نشْهد أَنه عبد الله وَرَسُوله، فَقَالَ كَعْب: لقد حرمكم الله خيرا كثيرا، فَقَالُوا: رويداً فَإِنَّهُ شبه علينا وَلَيْسَ هُوَ بالنعت الَّذِي نعت لنا، ففرح كَعْب لَعنه الله، فمارهم وَأنْفق عَلَيْهِم، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة. وَقَالَ عِكْرِمَة: نزلت فِي أبي رَافع وكنانة بن أبي الْحقيق وحيي بن أَخطب وَغَيرهم من رُؤُوس الْيَهُود، كتموا مَا عهد الله، عز وَجل، إِلَيْهِم فِي التَّوْرَاة فِي شَأْن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبدلوه وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِم غَيره، وحلفوا أَنه من عِنْد الله، لِئَلَّا يفوتهُمْ الرشاء والمأكل الَّتِي كَانَت لَهُم على أتباعهم. قَوْله: (كَانَت لي بِئْر فِي أَرض) زعم الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن أَبَا حَمْزَة تفرد بِذكر الْبِئْر عَن الْأَعْمَش قَالَ: وَلَا أعلم فِيمَن رَوَاهُ عَن الْأَعْمَش إلاَّ قَالَ فِي أَرض، وَالْأَكْثَرُونَ أولى بِالْحِفْظِ من أبي حَمْزَة، ورد عَلَيْهِ بِأَن أَبَا حَمْزَة لم ينْفَرد بِهِ، لِأَن أَبَا عوَانَة رَوَاهُ عَن الْأَعْمَش فِي كتاب الْأَيْمَان وَالتَّفْسِير عَن أبي وَائِل عَن عبد الله، وَفِيه: قَالَ الْأَشْعَث: كَانَت لي بِئْر فِي أَرض ابْن عَم لي، وسيجىء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نعيم الْحَافِظ من حَدِيث عَليّ بن مسْهر عَن الْأَعْمَش، وَقَالَ الطرقي: رَوَاهُ عَن أبي وَائِل مَنْصُور وَالْأَعْمَش، فمنصور لم يرفع قَول عبد الله إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَعْمَش يَقُول: قَالَ عبد الله، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا ذكره الْحَافِظ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) وَقَالَ الطرقي: رَوَاهُ عبد الْملك بن أَيمن وجامع بن أبي رَاشد وَمُسلم البطين عَن أبي وَائِل عَن عبد الله مَرْفُوعا، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْأَشْعَث، وَرَوَاهُ كرْدُوس التغلبي عَن الْأَشْعَث ابْن قيس الْكِنْدِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ الْمزي: وَمن مُسْند الْأَشْعَث بن قيس أبي مُحَمَّد الْكِنْدِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَقْرُونا بِعَبْد الله بن مَسْعُود، وَرُبمَا جَاءَ الحَدِيث عَن أَحدهمَا مُفردا. قَوْله: (ابْن عَم لي) واسْمه معدان بن الْأسود بن سعد بن معدي كرب الْكِنْدِيّ، والأشعث بن قيس بن معدي كرب، وَقيس وَالْأسود أَخَوان، ولقبه الجفشيش على وزن فعليل بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْفَاء وبالشينين المعجمتين أولاهما مَكْسُورَة بَينهمَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة. وَقيل: بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، وَقيل: بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَبَقِيَّة الْحُرُوف على حَالهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل: إسمه جرير، وكنيته أَبُو الْخَيْر. قلت: الْأَصَح هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَقَالَ لي: شهودك) ، أَي: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وشهودك، بِالنّصب

(12/198)


على تَقْدِير: أقِم أَو أحضر شهودك، وَكَذَا: يَمِينه، بِالنّصب أَي: فاطلب يَمِينه، ويروى بِالرَّفْع فيهمَا، وَالتَّقْدِير: فالمثبت لدعواك شهودك أَو فالحجة القاطعة بَيْنكُمَا يَمِينه، فَيكون إرتفاعهما على أَنَّهُمَا خَبرا مبتدأين محذوفين. قَوْله: (إِذا يحلف) قَالَ الْكرْمَانِي: و: يحلف، بِالنّصب لَا غير. قلت: كلمة إِذا حرف جَوَاب وَجَزَاء ينصب الْفِعْل الْمُسْتَقْبل، مثل مَا يُقَال: أَنا آتِيك، فَيَقُول: إِذا أكرمك، وَإِنَّمَا قَالَ: بِالنّصب لَا غير، لِأَنَّهَا تصدرت فَيتَعَيَّن النصب، بِخِلَاف مَا إِذا وَقعت بعد الْوَاو وَالْفَاء فَإِنَّهُ يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: أَن الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا أنكر، وَبِه اسْتدلَّ من يَقُول: إِنَّه إِذا اعْترف الْمُدَّعِي أَنه لَا بَينه لَهُ لم يقبل دَعْوَاهُ بعد ذَلِك، ورد بِأَنَّهُ: لَيْسَ فِيهِ حجَّة على ذَلِك لِأَن الْأَشْعَث لم يدعِ بعد ذَلِك أَن لَهُ بَينه. وَفِيه: أَن للْحَاكِم أَن يطْلب الْمُدَّعِي عَلَيْهِ عِنْد عدم الْبَيِّنَة، وَإِن لم يَطْلُبهُ صَاحب الْحق، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بِالْحلف. وَفِيه: إبِْطَال مَسْأَلَة الظفر، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ردده بَين الْبَيِّنَة وَالْيَمِين، فَدلَّ على عدم الْأَخْذ بِغَيْر ذَلِك، وأصرح من هَذَا قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث وَائِل بن حجر عِنْد مُسلم، وَقد ذَكرْنَاهُ: لَيْسَ لَك مِنْهُ إلاَّ ذَلِك.

5 - (بابُ إثْمِ مِنْ مَنَعَ ابنَ السَّبِيلِ مِنَ المَاءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من منع ابْن السَّبِيل أَي: الْمُسَافِر من المَاء الْفَاضِل عَن حَاجته، وَهَذَا الْقَيْد لَا بُد مِنْهُ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب: رجل لَهُ فضل مَاء بِالطَّرِيقِ فَمَنعه من ابْن السَّبِيل، وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ دلَالَة على أَن صَاحب الْبِئْر أولى من ابْن السَّبِيل عِنْد الْحَاجة، فَإِذا أَخذ حَاجته لم يجز لَهُ منع ابْن السَّبِيل.
7 - (حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن الْأَعْمَش قَالَ سَمِعت أَبَا صَالح يَقُول سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ يَقُول قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَة لَا ينظر الله إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم رجل كَانَ لَهُ فضل مَاء بِالطَّرِيقِ فَمَنعه من ابْن السَّبِيل وَرجل بَايع إِمَامًا لَا يبايعه إِلَّا لدُنْيَا فَإِن أعطَاهُ مِنْهَا رَضِي وَإِن لم يُعْطه مِنْهَا سخط وَرجل أَقَامَ سلْعَته بعد الْعَصْر فَقَالَ وَالله الَّذِي لَا إِلَه غَيره لقد أَعْطَيْت بهَا كَذَا وَكَذَا فَصدقهُ رجل ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة {إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا} مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله رجل كَانَ لَهُ فضل مَاء بِالطَّرِيقِ فَمَنعه من ابْن السَّبِيل فَإِنَّهُ أحد الثَّلَاثَة الَّذين أخبر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَن الله لَا ينظر إِلَيْهِم وَلَا يزكيهم وَلَهُم عَذَاب أَلِيم وَلَو لم يَأْثَم مَانع ابْن السَّبِيل من المَاء الْفَاضِل عَنهُ لما اسْتحق هَذَا الْوَعيد. وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف الْبَصْرِيّ وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات السمان قَوْله " ثَلَاثَة " أَي ثَلَاثَة أشخاص وارتفاعه على أَنه مُبْتَدأ وَقَوله لَا ينظر الله إِلَيْهِم خَبره وَهَذَا عبارَة عَن عدم الْإِحْسَان إِلَيْهِم قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ هُوَ كِنَايَة عَنهُ فِيمَن يجوز عَلَيْهِ النّظر مجَاز فِيمَا لَا يجوز عَلَيْهِ والتنصيص على الْعدَد لَا يُنَافِي الزَّائِد فَالَّذِي ذكره من الْوَعيد لَا ينْحَصر فِي هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة قَوْله " وَلَا يزكيهم " أَي يثني عَلَيْهِم أَولا يطهرهم من الذُّنُوب قَوْله " رجل " مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره من الثَّلَاثَة رجل قَوْله " كَانَ لَهُ فضل مَاء " جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لرجل قَوْله " فَمَنعه " أَي فَمنع الْفَاضِل من المَاء قَوْله " وَرجل " أَي الثَّانِي من الثَّلَاثَة رجل بَايع إِمَامًا المُرَاد هُوَ الإِمَام الْأَعْظَم وَهَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره بَايع إِمَامه وَالْمرَاد من الْمُبَايعَة هُنَا هُوَ المعاقدة عَلَيْهِ والمعاهدة فَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْده من صَاحبه وَأَعْطَاهُ خَالِصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره قَوْله " إِلَّا لدُنْيَا " أَي إِلَّا لأجل شَيْء يحصل لَهُ من مَتَاع الدُّنْيَا وَكلمَة دنيا غير منون واضمحل مِنْهَا معنى الوصفية لغَلَبَة الإسمية عَلَيْهَا فَلَا تحْتَاج إِلَى من وَنَحْوه وَالْفَاء فِي قَوْله فَإِن أعطَاهُ تفسيرية تفسر مبايعته للْإِمَام للدنيا قَوْله " أَقَامَ " من قَامَت السُّوق إِذا نفقت قَوْله " سلْعَته " أَي مَتَاعه قَوْله بعد الْعَصْر هَذَا لَيْسَ بِقَيْد وَإِنَّمَا خرج هَذَا مخرج

(12/199)


الْغَالِب إِذْ كَانَت عَادَتهم الْحلف بِمثلِهِ وَذَلِكَ لِأَن الْغَالِب أَن مثله كَانَ يَقع فِي آخر النَّهَار حَيْثُ أَرَادوا الانعزال عَن السُّوق والفراغ عَن معاملتهم وَقيل خصص الْعَصْر بِالذكر لما فِيهِ من زِيَادَة الجراءة إِذْ التَّوْحِيد هُوَ أساس التنزيهات وَالْعصر هُوَ وَقت صعُود مَلَائِكَة النَّهَار وَلِهَذَا يغلظ فِي إِيمَان اللّعان بِهِ وَقيل لِأَن وَقت الْعَصْر وَقت تعظم فِيهِ الْمعاصِي لارْتِفَاع الْمَلَائِكَة بِالْأَعْمَالِ إِلَى الرب تَعَالَى فيعظم أَن يرتفعوا بِالْمَعَاصِي وَيكون آخر عمله هُوَ الْمَرْفُوع فالخواتم هِيَ المرجوة وَإِن كَانَت الْيَمين الْفَاجِرَة مُحرمَة كل وَقت قَوْله " لقد أَعْطَيْت " على صِيغَة الْمَجْهُول وَقد أكد يَمِينه الْفَاجِرَة بمؤكدات وَهِي بتوحيد الله تَعَالَى وباللام وَكلمَة قد الَّتِي للتحقيق هُنَا قَوْله " فَصدقهُ رجل " أَي المُشْتَرِي وَاشْتَرَاهُ بذلك الثّمن الَّذِي حلف أَنه أعْطِيه بِكَذَا اعْتِمَادًا على حلفه (وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ) مَا ذكرنَا أَن صَاحب المَاء أولى بِهِ عِنْد حَاجته وَفِي التَّوْضِيح فَإِذا كَانَ المَاء مِمَّا يحل مَنعه منع إِلَّا بِالثّمن إِلَّا أَن لَا يكون مَعَهم وَأما الْمَوَاشِي والسقاة الَّتِي لَا يحل منع مَائِهَا فَلَا يمْنَعُونَ فَإِن منعُوا قوتلوا وَكَانَ هدرا وَإِن أُصِيب طَالب المَاء كَانَت دِيَته على صَاحب المَاء مَعَ الْعقُوبَة والسجن كَذَا قَالَه الدَّاودِيّ وَقَالَ ابْن التِّين أَنَّهَا على عَاقِلَته إِن مَاتَ عطشا وَإِن أُصِيب أحد من الْمُسَافِرين أَخذ بِهِ جَمِيع مَا نعى وَقتلُوا بِهِ -
6 - (بابُ سكْرِ الأنْهارِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم سكر الْأَنْهَار، السكر، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْكَاف: سد المَاء وحبسه، يُقَال: سكرت النَّهر إِذا سددته. وَقَالَ صَاحب (الْعين) السكر، اسْم ذَلِك السد، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: وَأَصله من: سكرت الرّيح: سكن هبوبها، وَفِي (الْمغرب) : السكر، بِالْكَسْرِ الِاسْم وَقد جَاءَ فِيهِ الْفَتْح على تَسْمِيَته بِالْمَصْدَرِ.

حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني ابنُ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَبد لله بنِ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ حدَّثَهُ أنَّ رجُلاً مِنَ الأنْصَارِ خاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ فَقَالَ الأنْصَارِيُّ سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ فأبَى عَلَيْهِ فاخْتَصَمَا عِنْدَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للزُّبَيْرِ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أرْسِلِ المَاءَ إلَى جارِكَ فغَضِبَ الأنْصَارِيُّ فقالَ إنْ كانَ ابنِ عَمَّتِكَ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قَالَ إسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حتَّى يَرْجِعَ إلَى الجَدْرِ فَقَالَ الزُّبَيْرُ وَالله إنِّي لأحْسِبُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ ورَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتَّى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النِّسَاء: 56) . .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (سرح المَاء يمر فَأبى عَلَيْهِ) أَي: امْتنع عَلَيْهِ وَلم يسرح المَاء بل سكره. والْحَدِيث صورته صُورَة الْإِرْسَال وَلكنه مُتَّصِل فِي الْمَعْنى.
وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي القضايا عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة وَفِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ.
قَوْله: (رجلا من الْأَنْصَار خَاصم الزبير) يَعْنِي: الزبير بن الْعَوام أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، قَالَ شَيخنَا: لم يَقع تَسْمِيَة هَذَا الرجل فِي شَيْء من طرق الحَدِيث فِيمَا وقفت عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ الزبير وَبَقِيَّة الروَاة أَرَادوا ستره لما وَقع مِنْهُ، وَحكى الدَّاودِيّ فِيمَا نَقله القَاضِي عِيَاض عَنهُ: أَن هَذَا الرجل كَانَ منافقاً. فَإِن قلت: ذكر فِيهِ أَنه من الْأَنْصَار؟ قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: لَا يُخَالف هَذَا قَوْله فِيهِ: أَنه من الْأَنْصَار، لِأَنَّهُ يكون من قبيلتهم لَا من أنصار الْمُسلمين. قلت: يُعَكر على هَذَا قَول البُخَارِيّ فِي كتاب الصُّلْح: أَنه من الْأَنْصَار قد شهد بَدْرًا، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله فِي الحَدِيث فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَغَيره: فَغَضب الْأنْصَارِيّ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، وَلم يكن غير الْمُسلمين يخاطبونه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقَوْلهمْ: يَا رَسُول الله، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّد، وَلَكِن أجَاب الدَّاودِيّ عَن هَذَا الرجل بعد أَن جزم أَنه كَانَ منافقاً، بِأَنَّهُ وَقع مِنْهُ ذَلِك قبل شُهُوده

(12/200)


بَدْرًا لانْتِفَاء النِّفَاق عَمَّن شهد بَدْرًا، وَأما قَوْله: من الْأَنْصَار، فَيحمل على الْمَعْنى اللّغَوِيّ، يَعْنِي: مِمَّن كَانَ ينصر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا بِمَعْنى أَنه كَانَ من الْأَنْصَار الْمَشْهُورين، وَقد أجَاب التوربشتي عَن هَذَا بقوله: قد اجترأ جمع بِنِسْبَة هَذَا الرجل إِلَى النِّفَاق وَهُوَ بَاطِل، إِذْ كَونه أَنْصَارِيًّا وصف مدح، وَالسَّلَف احترزوا أَن يطلقوا على من اتهمَ بالنفاق الْأنْصَارِيّ، فَالْأولى أَن يُقَال: هَذَا قَول أزله الشَّيْطَان فِيهِ عِنْد الْغَضَب، وَلَا يستبدع من الْبشر الِابْتِلَاء بأمثال ذَلِك. قلت: هَذَا اعْتِرَاف مِنْهُ أَن الَّذِي خَاصم الزبير هُوَ حَاطِب، وَلكنه أبطل اتصافه بالنفاق، واعتراف مِنْهُ أَنه أَنْصَارِي، وَلَيْسَ بِأَنْصَارِيِّ إلاَّ إِذا حملنَا ذَلِك على الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا.
وَقد سَمَّاهُ الواحدي فِي (أَسبَاب النُّزُول) وَقَالَ: إِنَّه حَاطِب بن أبي بلتعة، وَكَذَا سَمَّاهُ مُحَمَّد بن الْحسن النقاش ومكي والمهدوي، ورد عَلَيْهِم بِأَن حَاطِبًا مُهَاجِرِي وَلَيْسَ من الْأَنْصَار، وَلَكِن يحسن حمله على الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ الواحدي: وَقيل: إِنَّه ثَعْلَبَة بن حَاطِب، وَقَالَ ابْن بشكوال فِي (المبهمات) ؛ وَقَالَ شَيخنَا أَبُو الْحسن مغيث مرَارًا: إِنَّه ثَابت بن قيس بن شماس، قَالَ: وَلم يَأْتِ على ذَلِك بِشَاهِد ذكره.
وَذكر أَبُو بكر بن الْمقري فِي (مُعْجَمه) من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة: أَن حميدا رجلا من الْأَنْصَار خَاصم الزبير فِي شراج الْحرَّة ... الحَدِيث. قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح لَهُ طرق وَلَا أعلم فِي شَيْء مِنْهَا ذكر حميد إلاَّ فِي هَذِه الطَّرِيق. وَقَالَ: حميد، بِضَم الْحَاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة. قلت: روى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق سعيد بن عبد الْعَزِيز عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب، سمعته من الزُّهْرِيّ: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ} (النِّسَاء: 56) . الْآيَة، قَالَ: نزلت فِي الزبير بن الْعَوام وحاطب بن أبي بلتعة اخْتَصمَا فِي مَاء ... الحَدِيث، فَهَذَا إِسْنَاده قوي، وَإِن كَانَ مُرْسلا، وَإِن كَانَ ابْن الْمسيب سَمعه من الزبير يكون مَوْصُولا فَهَذَا يُقَوي قَول من قَالَ: إِن الَّذِي خَاصم الزبير حَاطِب بن أبي بلتعة، وَهُوَ بَدْرِي وَلَيْسَ من الْأَنْصَار. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: لَو صدر مثل هَذَا الْكَلَام الْيَوْم من إِنْسَان جرت على قَائِله أَحْكَام الْمُرْتَدين فَيجب قَتله بِشَرْطِهِ، قَالُوا: وَأما ترك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أول الْإِسْلَام يتألف النَّاس وَيدْفَع بِالَّتِي هِيَ أحسن ويصبر على أَذَى الْمُنَافِقين الَّذين فِي قُلُوبهم مرض.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: فَلَمَّا خرجا يَعْنِي: الزبير وحاطباً مرا على الْمِقْدَاد، فَقَالَ: لمن كَانَ الْقَضَاء يَا أَبَا بلتعة؟ فَقَالَ: قضى لِابْنِ عمته، ولوى شدقه، فطن لَهُ يَهُودِيّ كَانَ مَعَ الْمِقْدَاد فَقَالَ: قَاتل الله هَؤُلَاءِ، يشْهدُونَ أَنه رَسُول الله ثمَّ يَتَّهِمُونَهُ فِي قَضَاء يقْضِي بَينهم، وأيم الله! لقد أَذْنَبْنَا مرّة فِي حَيَاة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَدَعَانَا مُوسَى إِلَى التَّوْبَة مِنْهُ، فَقَالَ: اقْتُلُوا أَنفسكُم، فَقَتَلْنَا، فَبلغ قَتْلَانَا سبعين ألفا فِي رَبنَا حَتَّى رَضِي عَنَّا. قلت: هَذَا مَوضِع تَأمل.
قَوْله: (فِي شراج الْحرَّة) ، الشراج، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء وَفِي آخِره جِيم، قيل: هُوَ وَاحِد، وَقيل: هُوَ جمع شرج، مثل: رهن ورهان وبحر وبحار. وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمعَانِي: الشرج مسيل المَاء من الْحزن إِلَى السهل، وَالْجمع شراج وشروج وشرج، وَقيل: الشرج جمع شراج والشراج جمع شرج. وَفِي (الْمُحكم) : وَيجمع على أشراج، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: شريج الْحرَّة، وَإِنَّمَا أضيف إِلَى الْحرَّة لكَونهَا فِيهَا. وَقَالَ الدَّاودِيّ: الشراج نهر عِنْد الْحرَّة بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا غَرِيب وَلَيْسَ بِالْمَدِينَةِ نهر، والحرة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء: من الأَرْض الصلبة الغليظة الَّتِي أفنيتها كلهَا حِجَارَة سود نخرة، كَأَنَّهَا مطرَت، وَالْجمع: حرات وحرار، وَفِي (مثلث) ابْن سَيّده: وَيجمع أَيْضا على حرون، وبالمدينة حرتان: حرَّة واقم وحرة لبلى، زَاد ابْن عديس فِي (الْمثنى والمثلث) : وحرة الْحَوْض من الْمَدِينَة والعقيق، وحرة قبا فِي قبْلَة الْمَدِينَة، وَزَاد ياقوت: وحرة الْوَبرَة بِالتَّحْرِيكِ، وأوله وَاو بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، على أَمْيَال من الْمَدِينَة، وحرة النَّار قرب الْمَدِينَة. قَوْله: (الَّتِي يسقون بهَا) ، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: كَانَا يسقيان بِهِ كِلَاهُمَا. قَوْله: (سرح المَاء) ، أَمر من التسريح: أَي: أرْسلهُ وسيِّبه، وَمِنْه: سرحوا المَاء فِي الخَنْدَق. قَوْله: (يمر) ، جملَة وَقعت حَالا من المَاء، وَقَالَ بَعضهم: وَضبط الْكرْمَانِي: فَأمره، بِكَسْر الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء على أَنه فعل أَمر من الإمرار. قَالَ: وَهُوَ مُحْتَمل. قلت: لم أرَ ذَلِك فِي شرح الْكرْمَانِي، فَإِن كَانَت النّسخ مُخْتَلفَة فَلَا يبعد. قَوْله: (فَأبى عَلَيْهِ) ، أَي: امْتنع الزبير على الَّذِي خاصمه من إرْسَال المَاء، وَإِنَّمَا قَالَ الْأنْصَارِيّ ذَلِك لِأَن المَاء كَانَ يمر بِأَرْض الزبير قبل أَرض الْأنْصَارِيّ فحبسه لإكمال سقِِي أرضه، ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى أَرض جَاره، فالتمس مِنْهُ الْأنْصَارِيّ تَعْجِيل ذَلِك فَأبى عَلَيْهِ. قَوْله: (إسق يَا زبير) ، بِكَسْر الْهمزَة: من سقى يسْقِي، من بَاب ضرب يضْرب، وَحكى ابْن التِّين بِفَتْح الْهمزَة

(12/201)


من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ من: أسْقى يسْقِي إسقاء، وَقَالَ بَعضهم: حكى ابْن التِّين بِهَمْزَة قطع من الرباعي. قلت: هَذَا لَيْسَ بمصطلح فَلَا يُقَال: رباعي إلاَّ لكلمة أصُول حروفها أَرْبَعَة أحرف، وَسَقَى ثلاثي مُجَرّد، فَلَمَّا زيد فِيهِ الْألف صَار ثلاثياً مزيداً فِيهِ. قَوْله: (إِن كَانَ ابْن عَمَّتك) ، بِفَتْح همزَة: أَن، وَأَصله: لِأَن كَانَ فَحذف اللَّام، وَمثل هَذَا كثير، وَالتَّقْدِير: حكمت لَهُ بالتقديم لأجل أَنه ابْن عَمَّتك؟ وَكَانَت أم الزبير صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب وَهِي عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن مَالك: يجوز فِيهِ الْفَتْح وَالْكَسْر لِأَنَّهَا وَاقعَة بعد كَلَام تَامّ مُعَلل بمضمون مَا صدر بهَا، فَإِذا كسرت قدر قبلهَا ألفا، وَإِذا فتحت قدر اللَّام قبلهَا، وَقد ثَبت الْوَجْهَانِ فِي قَوْله تَعَالَى: {نَدْعُوهُ إِنَّه هُوَ الْبر الرَّحِيم} (الطّور: 82) . بِالْفَتْح، قَرَأَ نَافِع وَالْكسَائِيّ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ، وَقَالَ بَعضهم: وَحكى الْكرْمَانِي: إِن كَانَ، بِكَسْر الْهمزَة على أَنَّهَا شَرْطِيَّة، وَالْجَوَاب مَحْذُوف، قَالَ: وَلَا أعرف هَذِه الرِّوَايَة، نعم وَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق، فَقَالَ: إعدل يَا رَسُول الله، وَإِن كَانَ ابْن عَمَّتك؟ وَالظَّاهِر أَن هَذِه بِالْكَسْرِ. انْتهى. قلت: لم يذكر الْكرْمَانِي هَذَا فِي شَرحه، وَإِن ذكره فَلهُ وَجه موجه يدل عَلَيْهِ رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق، لِأَن: إِن، فِيهَا بِالْكَسْرِ جزما فَلَا يحْتَاج إلاَّ أَن يُقَال: وَالظَّاهِر أَن هَذِه بِالْكَسْرِ، وَأَيْضًا عدم مَعْرفَته بِهَذِهِ الرِّوَايَة لَا يسْتَلْزم الْعَدَم مُطلقًا. فَافْهَم. قَوْله: (فَتَلَوَّنَ وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: تغير، وَهَذَا كِنَايَة عَن الْغَضَب، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق: حَتَّى عرفنَا أَن قد سَاءَهُ مَا قَالَ. قَوْله: (ثمَّ احْبِسْ المَاء) ، لَيْسَ المُرَاد مِنْهُ أمسك المَاء، بل أمسك نَفسك عَن السَّقْي حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر، أَي: حَتَّى يصير إِلَيْهِ، والجدر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة، وَهُوَ: جر الْجِدَار الَّذِي هُوَ الْحَائِل بَين المشارب وَهُوَ الحواجز الَّتِي تحبس المَاء. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ: وَرَوَاهُ بَعضهم حَتَّى يبلغ الْجدر، بِضَم الْجِيم وَالدَّال: جمع جِدَار، وَقَالَ ابْن التِّين: ضبط فِي أَكثر الرِّوَايَات بِفَتْح الدَّال، وَفِي بَعْضهَا بِالسُّكُونِ، وَهُوَ الَّذِي فِي اللُّغَة، وَهُوَ أصل الْحَائِط. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لم يَقع فِي الرِّوَايَة إلاَّ بِالسُّكُونِ، وَالْمعْنَى: أَن يصل المَاء إِلَى أصُول النّخل، قَالَ: ويروى بِكَسْر الْجِيم وَهُوَ الْجِدَار، وَالْمرَاد بِهِ: جدران الشربات، وَهِي الْحفر الَّتِي تحفر فِي أصُول النّخل، والشربات، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة: جمع شربة بالفتحات، قَالَ ابْن الْأَثِير: هِيَ حَوْض يكون فِي أصل النَّخْلَة وحولها يمْلَأ بِمَاء لتشربه، وَحكى الْخطابِيّ: الجذر، بِسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة، وَهُوَ جذر الْحساب، وَالْمعْنَى: حَتَّى يبلغ تَمام الشّرْب. قَوْله: (فَقَالَ الزبير: وَالله إِنِّي لأحسب هَذِه الْآيَة نزلت فِي ذَلِك: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم} (النِّسَاء: 56) .) . وَزَاد شُعَيْب فِي رِوَايَته: {ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجاً مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} (النِّسَاء: 56) . قَوْله هَذِه الْآيَة إِشَارَة إِلَى قَوْله: {فَلَا وَرَبك} (النِّسَاء: 56) . قَوْله: (فِي ذَلِك) أَي: فِيمَا ذكر من أمره مَعَ خَصمه، وَقَالَ بَعضهم: الزبير كَانَ لَا يجْزم بذلك. قلت: قَوْله: وَالله، يَقْتَضِي الْجَزْم وَيرد معنى الظَّن فِي قَوْله: لأحسب، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لأعد هَذِه الْآيَة أَنَّهَا نزلت فِي ذَلِك، وَلَا سِيمَا قَالَ الزبير فِي رِوَايَة ابْن جريج الَّتِي تَأتي عَن قريب: وَالله إِن هَذِه الْآيَة أنزلت فِي ذَلِك، فَانْظُر كَيفَ أكد كَلَامه بالقسم وَبِأَن وَبِالْجُمْلَةِ الإسمية، وَكَيف لَا يكون الْجَزْم بِهَذِهِ المؤكدات مَعَ أَن هَذَا الْقَائِل قَالَ: لَكِن وَقع فِي رِوَايَة أم سَلمَة عِنْد الطَّبَرِيّ وَالطَّبَرَانِيّ الْجَزْم بذلك، وَأَنَّهَا نزلت فِي قصَّة الزبير وخصمه.
قلت: رَوَاهُ الواحدي أَيْضا فِي (أَسبَاب النُّزُول) من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة: عَن عَمْرو بن دِينَار، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، عَن أبي سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن أم سَلمَة: أَن الزبير بن الْعَوام خَاصم رجلا، فَقضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للزبير، وَقَالَ الرجل: إِنَّمَا قضى لَهُ لِأَنَّهُ ابْن عمته، فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ ... } (النِّسَاء: 56) . الْآيَة. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن دُحَيْم حَدثنَا أَحْمد بن حَازِم حَدثنَا الْفضل بن دُكَيْن حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سَلمَة رجل من آل أبي سَلمَة قَالَ: خَاصم الزبير رجلا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى للزبير، فَقَالَ الرجل: إِنَّمَا قضى لَهُ لِأَنَّهُ ابْن عمته فَنزلت: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ... } (النِّسَاء: 56) . الْآيَة.
وَهنا سَبَب آخر غَرِيب جدا قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قِرَاءَة عَلَيْهِ أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي عبد الله بن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود، قَالَ: اخْتصم رجلَانِ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى بَينهمَا، فَقَالَ الَّذِي قضى عَلَيْهِ: ردنا إِلَى عمر بن الْخطاب، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنطلقا إِلَيْهِ، قَالَ الرجل: يَا ابْن الْخطاب قضى لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على هَذَا، فَقَالَ: ردنا إِلَى عمر فَرَدَّنَا إِلَيْك، فَقَالَ: أَكَذَلِك؟ فَقَالَ: نعم. فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: مَكَانكُمَا حَتَّى أخرج

(12/202)


إلَيْكُمَا فأقضي بَيْنكُمَا، فَخرج إِلَيْهِمَا مُشْتَمِلًا على سَيْفه، فَضرب الَّذِي قَالَ: ردنا إِلَى عمر، فَقتله وَأدبر الآخر فَارًّا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! قتل عمر وَالله صَاحِبي، وَلَوْلَا أَنِّي أَعْجَزته لَقَتَلَنِي، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا كنت أَظن أَن يجترىء عمر على قتل رجل مُؤمن. فَأنْزل الله تَعَالَى: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ ... } (النِّسَاء: 56) . الْآيَة، فَهدر دم ذَلِك الرجل وبرىء عمر من قَتله، فكره الله أَن يسن ذَلِك بعد فَقَالَ: {وَلَو أَنا كتبنَا عَلَيْهِم أَن اقْتُلُوا أَنفسكُم} إِلَى قَوْله: {وَأَشد تثبيتاً} (النِّسَاء: 66) . وَكَذَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود بِهِ، قَالَ ابْن كثير: وَهُوَ أثر غَرِيب ومرسل، وَابْن لَهِيعَة ضَعِيف.
طَرِيق أُخْرَى: قَالَ الْحَافِظ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن دُحَيْم فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا شُعَيْب بن شُعَيْب حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة حَدثنَا عتبَة بن ضَمرَة حَدثنِي أبي: أَن رجلَيْنِ اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى للمحق على الْمُبْطل، فَقَالَ الْمقْضِي عَلَيْهِ: لَا أرْضى، فَقَالَ صَاحبه: فَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أَن نَذْهَب إِلَى أبي بكر الصّديق،؟ ، وَقد ذَهَبا إِلَيْهِ فَقَالَ الَّذِي قضي لَهُ: قد اختصمنا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقضي لي، فَقَالَ أَبُو بكر: فأنتما على مَا قضى بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأبى صَاحبه أَن يرضى، قَالَ: فاتيا عمر بن الْخطاب فَأتيَاهُ، فَقَالَ الْمقْضِي لَهُ: قد اختصمنا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى لي عَلَيْهِ فَأبى أَن يرضى، ثمَّ أَتَيْنَا أَبَا بكر فَقَالَ: أَنْتُمَا على مَا قضى بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأبى أَن يرضى، فَسَأَلَهُ عمر، فَقَالَ كَذَلِك، فَدخل عمر منزله وَخرج وَالسيف فِي يَده قد سَله، فَضرب بِهِ رَأس الَّذِي أَبى أَن يرضى فَقتله، فَأنْزل الله {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ} (النِّسَاء: 56) . إِلَى آخر الْآيَة.
قَوْله: {فَلَا وَرَبك} (النِّسَاء: 56) . أَي: لَيْسَ الْأَمر كَمَا يَزْعمُونَ أَنهم آمنُوا وهم يخالفون حكمك، ثمَّ اسْتَأْنف الْقسم فَقَالَ: لَا يُؤمنُونَ، وَقيل: هِيَ مُتَّصِلَة بِقصَّة الْيَهُودِيّ. قَوْله: {فِيمَا شجر بَينهم} (النِّسَاء: 56) . أَي: اخْتلف وَاخْتَلَطَ من أَمرهم والتبس عَلَيْهِم حكمه، وَمِنْه الشّجر لاخْتِلَاف أغصانه. قَوْله: {حرجاً} (النِّسَاء: 56) . أَي: شكا وضيقاً. قَوْله: {ويسلموا تَسْلِيمًا} (النِّسَاء: 56) . أَي: فِيمَا أَمرتهم بِهِ وَلَا يعارضوه، ودلت الْآيَة على أَن من لم يرض بِحكم الرَّسُول فَهُوَ غير مُؤمن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن مَاء الأودية الَّتِي لم تستنبط بِعَمَل فِيهَا مُبَاح، وَمن سبق إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَق بِهِ. وَفِيه: أَن أهل الشّرْب الْأَعْلَى يقدَّم على من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ وَيحبس الأول المَاء حَتَّى يبلغ إِلَى جِدَار حَائِطه، ثمَّ يُرْسل المَاء إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ فيسقي كَذَلِك وَيحبس المَاء كَذَلِك، ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ، وَهَكَذَا، وَفِي حَدِيث الْبَاب: إحبس المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر، وَفِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو الَّذِي أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى فِي سبل المهزور أَن يمسك حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ. ثمَّ يُرْسل الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل، والمهزور بالزاي ثمَّ بالراء وَادي بني قُرَيْظَة، قَالَه ابْن الْأَثِير، وَفِي حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت الَّذِي أخرجه ابْن مَاجَه عَنهُ قَالَ: إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قضى فِي شرب النّخل من السَّيْل: أَن الْأَعْلَى يشرب قبل الْأَسْفَل وَيتْرك المَاء فِيهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثمَّ يُرْسل المَاء إِلَى أَسْفَل الَّذِي يَلِيهِ، وَكَذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِي الحواشط، وَفِي حَدِيث ثَعْلَبَة بن أبي مَالك الْقرظِيّ الَّذِي أخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا عَنهُ، قَالَ: قضى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي سيل مهزور الْأَعْلَى قبل الْأَسْفَل. فيسقي الْأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ يُرْسل إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ، وَقَالَ الرَّافِعِيّ لَا مُخَالفَة بَين التَّقْدِيرَيْنِ، لِأَن المَاء إِذا بلغ الكعب بلغ أصل الْجِدَار، وَقَالَ ابْن شهَاب: فقدرت الْأَنْصَار وَالنَّاس قَول النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إسق يَا زبير ثمَّ احْبِسْ المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر، كَانَ ذَلِك إِلَى الْكَعْبَيْنِ على مَا يَجِيء، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ: لَيْسَ التَّقْدِير بِالْبُلُوغِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ على عُمُوم الْأَزْمَان والبلدان، لِأَنَّهُ يَدُور بِالْحَاجةِ، وَالْحَاجة تخْتَلف باخْتلَاف الأَرْض، وباختلاف مَا فِيهَا من زرع وَشَجر وبوقت الزِّرَاعَة وَوقت السَّقْي وَحمل بعض الْفُقَهَاء الْمُتَأَخِّرين قَول الْفُقَهَاء فِي أَنه: يسْقِي الأول أرضه ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى الثَّانِي ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى الثَّالِث أَن المُرَاد بِالْأولِ من تقدم إحياؤه، وَبِالثَّانِي الَّذِي أحيى بعد الأول، وَهَكَذَا قَالَه صَاحب الْمُهِمَّات، وَحمل كَلَام الرَّافِعِيّ عَلَيْهِ قَالَ: وَلَيْسَ المُرَاد الْأَقْرَب إِلَى أصل النَّهر فَالْأَقْرَب لَا بِالسَّبقِ، فَلذَلِك اعتبرناه انْتهى. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء وَلَيْسَ مُرَاد الرَّافِعِيّ وَغَيره من الْفُقَهَاء بِالْأولِ الَّذِي هُوَ أقرب إِلَى أصل المَاء، لأَنا إِذا اعْتبرنَا هَذَا يضيع حق الأول، وَذَلِكَ لِأَن المَاء إِذا نزل من علو فَلم يسق الأول حَتَّى نزل المَاء إِلَى الْأَسْفَل وَسَقَى بِهِ الْأَسْفَل، وَبعد ذَلِك كَيفَ يعود المَاء إِلَى الأول

(12/203)


وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ المَاء قَلِيلا وَانْقطع بعد سقِِي الثَّانِي، وَقد صرح النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : بِأَن المُرَاد بِالْأولِ الَّذِي يَلِي المَاء إلاَّ لمحيي الأول، فَقَالَ عِنْد ذكر حَدِيث الزبير: فَلصَاحِب الأَرْض الأولى الَّتِي تلِي المَاء الْمُبَاح أَن يحبس المَاء ويسقي أرضه إِلَى هَذَا الْحَد، ثمَّ يُرْسِلهُ إِلَى جَاره الَّذِي وَرَاءه. فَإِن قلت: مَا المُرَاد بقوله: ثمَّ أرسل المَاء إِلَى جَارك؟ فَهَل هُوَ مَا فضل عَن المَاء الَّذِي حَبسه أَو إرْسَال جَمِيع المَاء الْمَحْبُوس أَو غَيره بعد أَن يصل فِي أرضه إِلَى الْكَعْبَيْنِ؟ قلت: قَالَ شَيخنَا: الصَّحِيح الَّذِي ذكره أَصْحَاب الشَّافِعِي الأول، وَهُوَ قَول مطرف وَابْن الْمَاجشون من الْمَالِكِيَّة، وَاخْتَارَهُ ابْن وهب، وَقد كَانَ ابْن الْقَاسِم يَقُول: إِذا انْتهى المَاء فِي الْحَائِط إِلَى مِقْدَار الْكَعْبَيْنِ من الْقَائِم أرْسلهُ كُله إِلَى من تَحْتَهُ، وَلَا يحبس مِنْهُ شَيْئا فِي حَائِطه. قَالَ ابْن وهب: وَقَول مطرف وَابْن الْمَاجشون أحب إِلَيّ فِي ذَلِك، وهما أعلم بذلك، لِأَن الْمَدِينَة دارهما وَبهَا كَانَت الْقَضِيَّة وفيهَا جرى الْعَمَل بِالْحَدِيثِ. وَفِيه: حجَّة على مَا حُكيَ عَن أبي حنيفَة من أَن الْأَعْلَى لَا يقدم على الْأَسْفَل، وَإِنَّمَا يسقون بِقدر حصصهم، قَالَه بعض الشَّافِعِيَّة. قلت: هَذَا وَجه حَكَاهُ الرَّافِعِيّ عَن الداركي، وَلَيْسَ مُرَاد أبي حنيفَة من قَوْله: إِن الْأَعْلَى لَا يقدم على الْأَسْفَل، أَنه يخْتَص بِالْمَاءِ وَيحرم الْأَسْفَل، بل كلهم سَوَاء فِي الِاسْتِحْقَاق، غير أَن الأول يسْقِي ثمَّ الثَّانِي ثمَّ الثَّالِث وهلم جراً، وَالِانْتِفَاع فِي حق كل وَاحِد بِقدر أرضه، وَقدر حَاجته، فَيكون بِالْحِصَصِ. وَفِي (الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: وَلَو كَانَ نهيراً صَغِيرا وسيل فتشاح أهل الْأَرْضين الشاربة عَنهُ، فَإِنَّهُ يبْدَأ بالأعلى ويسقي حَتَّى يبلغ الكعب، ثمَّ يُرْسل إِلَى الَّذِي يَلِيهِ كَذَلِك إِلَى انْتِهَاء الْأَرَاضِي، فَإِن لم يفضل عَن الأول شَيْء أَو الثَّانِي أَو الثَّالِث لَا شَيْء للباقين، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُم إلاَّ مَا فضل فهم كالعصبة فِي الْمِيرَاث، وَهَذَا قَول فُقَهَاء الْمَدِينَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، وَلَا نعلم فِيهِ مُخَالفا، وَالْأَصْل فِيهِ حَدِيث الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي حَدِيث الْبَاب: إِن الأولى بِالْمَاءِ الْجَارِي الأول فَالْأول حَتَّى يَسْتَوْفِي حَاجته، وَهَذَا مَا لم يكن أَصله ملكا للأسفل مُخْتَصًّا بِهِ، فَإِن كَانَ ملكه فَلَيْسَ للأعلى أَن يشرب مِنْهُ شَيْئا وَإِن كَانَ يمر عَلَيْهِ. وَفِيه: الِاكْتِفَاء للخصوم بِمَا يفهم عَنْهُم مقصودهم أَن لَا يكلفوا النَّص على الدعاوي وَلَا تَحْرِير الْمُدعى فِيهِ وَلَا حصره بِجَمِيعِ صِفَاته. وَفِيه: إرشاد الْحَاكِم إِلَى الْإِصْلَاح، وَقَالَ ابْن التِّين: مَذْهَب الْجُمْهُور أَن القَاضِي يُشِير بِالصُّلْحِ إِذا رَآهُ مصلحَة، وَمنع ذَلِك مَالك، وَعَن الشَّافِعِي فِي ذَلِك خلاف، وَالصَّحِيح جَوَازه. وَفِيه: أَن للْحَاكِم أَن يستوعي لكل وَاحِد من المتخاصمين حَقه إِذا لم يَرَ قبولاً مِنْهُمَا للصلح وَلَا رضى بِمَا أَشَارَ بِهِ كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: توبيخ من جَفا على الإِمَام وَالْحَاكِم ومعاقبته لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عاقبه بِمَا قَالَ، بِأَن استوعى للزبير حَقه، ووبخه الله تَعَالَى فِي كِتَابه بِأَن نفى عَنْهُم الْإِيمَان حَتَّى يرْضوا بالحكم فَقَالَ: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ ... } (النِّسَاء: 56) . الْآيَة. وَقيل: وَقعت عُقُوبَته فِي مَاله وَقد كَانَت تقع الْعُقُوبَات فِي الْأَمْوَال، كأمره بشق الزقاق وَكسر الجرار عِنْد تَحْرِيم الْخمر، تَغْلِيظًا للتَّحْرِيم. وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم على الْأنْصَارِيّ فِي حَال غَضَبه مَعَ نَهْيه أَن يحكم الحكم وَهُوَ غَضْبَان، لِأَنَّهُ يُفَارق غَيره من الْبشر، إِذْ الْعِصْمَة قَائِمَة فِي حَقه فِي حَال الرِّضَا والسخط أَن لَا يَقُول إلاَّ حَقًا. وَفِيه: دَلِيل أَن للْإِمَام أَن يعْفُو عَن التَّعْزِير، كَمَا لَهُ أَن يقيمه.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ العَبَّاسِ قَالَ أبُو عَبْدِ الله: لَيْسَ أحَدٌ يَذْكرُ عُرْوَةَ عنْ عَبْدِ الله إلاَّ اللَّيْثُ فَقَطْ
هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده عَن الْفربرِي، وَلم يَقع هَذَا فِي رِوَايَة غَيره، وَمُحَمّد بن الْعَبَّاس السّلمِيّ الْأَصْبَهَانِيّ، وَهُوَ من أَقْرَان البُخَارِيّ وَتَأَخر بعده، مَاتَ سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، يَعْنِي: هُوَ الَّذِي صرح بتفرد اللَّيْث بِذكر عبد الله بن الزبير فِي إِسْنَاده، وَفِيه نظر، لِأَن ابْن وهب روى عَن اللَّيْث وَيُونُس جَمِيعًا عَن ابْن شهَاب: أَن عُرْوَة حَدثهُ عَن أَخِيه عبد الله بن الزبير بن الْعَوام، أخرجه النَّسَائِيّ، وَذكر الْحميدِي فِي (جمعه) : أَن الشَّيْخَيْنِ أَخْرجَاهُ من طَرِيق عُرْوَة عَن أَخِيه عبد الله عَن أَبِيه، وَفِيه نظر أَيْضا، لِأَنَّهُ بِهَذَا السِّيَاق فِي رِوَايَة يُونُس الْمَذْكُور، وَلم يُخرجهَا من أَصْحَاب الْكتب السِّتَّة إِلَّا النَّسَائِيّ كَمَا ذكرنَا وَالله أعلم، وَمِنْه الْمَنّ علينا.

7 - (بابُ شُرْبِ الأعْلَى قَبْلَ الأسْفَلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شرب الْأَعْلَى قبل الْأَسْفَل، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني: قبل السفلي، قَالَ بَعضهم: وَالْأول

(12/204)


أولى. قلت: لَا أَوْلَوِيَّة هُنَا، لِأَن معنى السفلي قبل صَاحب الأَرْض السُّفْلى، وَيجوز أَن يُقَال فِي مَوضِع الْأَعْلَى: الْعليا، على تَقْدِير شرب صَاحب الأَرْض الْعليا، فتذكير الْأَعْلَى والأسفل بِاعْتِبَار الصاحب، وتأنيثهما بِاعْتِبَار الأَرْض بالتقدير الْمَذْكُور.

1632 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ قَالَ خاصَمَ الزُّبَيْرُ رجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا زُبَيْرُ أسقِ ثُمَّ أرْسِلْ فَقَالَ الأنْصَارِيُّ أنَّهُ ابنُ عَمَّتِكَ فَقَالَ علَيْهِ السَّلامُ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ يَبْلُغُ الماءُ الجَدْرَ ثُمَّ أمْسِكْ فَقَالَ الزُّبَيْرُ فأحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلاَ وربُّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النِّسَاء: 56) . .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا زبير أسق ثمَّ أرسل) فَإِنَّهُ يعلم مِنْهُ أَن الزبير هُوَ الْأَعْلَى، لِأَن إرْسَال المَاء لَا يكون إلاَّ من الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل، وعبدان هُوَ عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَمعمر، بِفتْحَتَيْنِ: هُوَ ابْن رَاشد، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب.
قَوْله: (ثمَّ أرسل) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِغَيْر ذكر مَفْعُوله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (ثمَّ أرسل المَاء) . قَوْله: (ثمَّ يبلغ المَاء الْجدر) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (أسق يَا زبير حَتَّى يبلغ المَاء الْجدر) وَسقط من رِوَايَة أبي ذَر ذكر المَاء، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الْأَشْرِبَة من وَجه آخر عَن معمر: (ثمَّ أرسل المَاء إِلَى جَارك) ، ومعاني بَقِيَّة الْأَلْفَاظ وَالْحكم تقدّمت فِي الْبَاب السَّابِق.

8 - (بابُ شُرْبِ الأعْلى إِلَى الكَعْبَيْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شرب الْأَعْلَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى بَيَان مِقْدَار المَاء للأعلى.
10 - (حَدثنَا مُحَمَّد قَالَ أخبرنَا مخلد قَالَ أَخْبرنِي ابْن جريج قَالَ حَدثنِي ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير أَنه حَدثهُ أَن رجلا من الْأَنْصَار خَاصم الزبير فِي شراج من الْحرَّة يسْقِي بهَا النّخل فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْقِ يَا زبير فَأمره بِالْمَعْرُوفِ ثمَّ أرسل إِلَى جَارك فَقَالَ الْأنْصَارِيّ إِن كَانَ ابْن عَمَّتك فَتَلَوَّنَ وَجه رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ قَالَ اسْقِ ثمَّ احْبِسْ حَتَّى يرجع المَاء إِلَى الْجدر واستوعي لَهُ حَقه فَقَالَ الزبير وَالله إِن هَذِه الْآيَة أنزلت فِي ذَلِك {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم} قَالَ لي ابْن شهَاب فقدرت الْأَنْصَار وَالنَّاس قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْقِ ثمَّ احْبِسْ حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر وَكَانَ ذَلِك إِلَى الْكَعْبَيْنِ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله وَكَانَ ذَلِك إِلَى الْكَعْبَيْنِ يَعْنِي رُجُوع المَاء إِلَى الْجدر وُصُوله إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصى فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الَّذِي قبله وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت صرح بِهِ ومخلد بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام وَفِي آخِره دَال مُهْملَة هُوَ ابْن يزِيد وَقد مر فِي الْجُمُعَة وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ قَوْله " فَأمره بِالْمَعْرُوفِ " قَالَ الْخطابِيّ مَعْنَاهُ أمره بِالْعَادَةِ الْمَعْرُوفَة الَّتِي جرت بَينهم فِي مِقْدَار الشّرْب وَهِي جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله اسْقِ يَا زبير وَبَين قَوْله ثمَّ أرسل قَوْله " واستوعي لَهُ " أَي استوفي للزبير حَقه واستوعب وَهُوَ من الْوِعَاء كَأَنَّهُ جمعه لَهُ فِي وعائه وَأبْعد من قَالَ أمره ثَانِيًا أَن يَسْتَوْفِي أَكثر من حَقه عُقُوبَة للْأَنْصَارِيِّ حَكَاهُ ابْن الصّباغ وَالْأَشْبَه أَنه أمره أَن يَسْتَوْفِي حَقه ويستقصي فِيهِ تَغْلِيظًا على الْأنْصَارِيّ وَقَالَ الْخطابِيّ هَذِه الزِّيَادَة تشبه أَن تكون من كَلَام الزُّهْرِيّ وَكَانَت عَادَته أَن يصل بِالْحَدِيثِ من كَلَامه مَا يظْهر لَهُ من معنى الشَّرْح وَالْبَيَان قيل الأَصْل فِي الحَدِيث أَن يكون حكمه كُله وَاحِدًا حَتَّى يرد مَا يبين ذَلِك وَلَا يثبت الإدراج بِالِاحْتِمَالِ قَوْله قَالَ ابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ الرَّاوِي عَن عُرْوَة وَهَذَا إِلَى آخِره من كَلَام ابْن شهَاب حكى عَنهُ ابْن جريج الرَّاوِي عَنهُ قَوْله وَالنَّاس من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص أَو مَعْهُود غير الْأَنْصَار قَوْله

(12/205)


" وَكَانَ ذَلِك " أَي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْقِ ثمَّ احْبِسْ حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر قَوْله " إِلَى الْكَعْبَيْنِ " أَي يقدر إِلَى الْكَعْبَيْنِ يَعْنِي يكون مِقْدَار المَاء الَّذِي يرجع إِلَى الْجدر يبلغ الْكَعْبَيْنِ وَقد ذكرنَا أَحَادِيث فِي الْبَاب الَّذِي قبل الْبَاب الَّذِي قبله فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الحكم وَقَالَ ابْن التِّين الْجُمْهُور على أَن الحكم أَن يمسك إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَخَصه ابْن كنَانَة بِالنَّخْلِ وَالشَّجر قَالَ وَأما الزَّرْع فَإلَى الشرَاك وَقَالَ الطَّبَرِيّ الْأَرَاضِي مُخْتَلفَة فَيمسك لكل أَرض مَا يكفيها لِأَن الَّذِي فِي قصَّة الزبير وَاقعَة عين وَقيل معنى قَوْله إِلَى الْجدر أَي إِلَى الْكَعْبَيْنِ قلت إِن كَانَ مُرَاده الْإِشَارَة إِلَى هَذَا التَّقْدِير فَلهُ وَجه مَا وَإِلَّا فَلَا يَصح تَفْسِير الْجدر بالكعبين (الْجدر هُوَ الأَصْل) هَذَا تَفْسِير لفظ الْجدر الْمَذْكُور فِي الحَدِيث من عِنْد البُخَارِيّ وَقد مر الْكَلَام فِيهِ وَهَذَا هُنَا وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده -
9 - (بَاب فَضْلِ سَقْيِ الْمَاءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل سقِِي المَاء لكل من لَهُ حَاجَة إِلَى ذَلِك.

3632 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ سُمَيٍّ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ بَيْنَا رَجُلٍ يَمْشِي فاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ فنَزلَ بِئْرا فَشَرِبَ منْهَا ثُمَّ خَرَجَ فإذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يأكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ فقالَ لَقدْ بلغَ هَذَا مثلُ الَّذِي بلَغَ بِي فَمَلأَ خفَّهُ (ثمَّ أمْسكهُ بغيه) ثمَّ رَقِيَ فسَقَى الكَلْبَ فشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا يَا رسولَ الله وإنَّ لَنا فِي البَهَائِمِ أجْراً قالَ فِي كلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وسُمَي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء: مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام، وَقد مر فِي كتاب الصَّلَاة، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات، وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد مدنيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَظَالِم عَن القعْنبِي، وَفِي الْأَدَب عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَيَوَان عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن القعْنبِي، أربعتهم عَن مَالك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَينا) ، قد ذكرنَا غير مرّة أَن أَصله: بَين، فأشبعت فَتْحة النُّون فَصَارَ: بَينا، ويضاف إِلَى جملَة، وَهِي هُنَا قَوْله: (رجل يمشي) . قَوْله: (فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ) ، الْفَاء فِيهِ وَقعت هُنَا موقع: إِذا، تَقْدِيره: بَينا رجل يمشي إِذا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطش، وَهُوَ جَوَاب: بَينا، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمَظَالِم: بَيْنَمَا، وَكِلَاهُمَا سَوَاء فِي الحكم، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ فِي الموطآت. من طَرِيق روح عَن مَالك: يمشي بفلاة، وَله من طَرِيق ابْن وهب عَن مَالك: يمشي بطرِيق مَكَّة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة مُسلم هَذِه: الْفَاء، وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَن الْأَفْصَح أَن يَقع جَوَاب: بَينا وبينما بِلَا كلمة، إِذْ وَإِذا، وَلَكِن وُقُوعه بهما كثير. قَوْله: الْعَطش، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَكَذَا فِي رِوَايَة فِي (الْمُوَطَّأ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: العطاش، وَهُوَ دَاء يُصِيب الْإِنْسَان فيشرب فَلَا يرْوى، وَقَالَ ابْن التِّين: وَالصَّوَاب الْعَطش، قَالَ: وَقيل: يَصح على تَقْدِير أَن الْعَطش يحدث مِنْهُ دَاء فَيكون العطاش إسماً للداء كالزكام. قَوْله: (فَإِذا هُوَ) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله: (يَأْكُل الثرى) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة مَقْصُور يكْتب بِالْيَاءِ، وَهُوَ التُّرَاب الندي. قَوْله: (يَلْهَث) ، جملَة وَقعت حَالا من الْكَلْب، قَالَ ابْن قرقول: لهث الْكَلْب بِفَتْح الْهَاء وَكسرهَا إِذا أخرج لِسَانه من الْعَطش أَو الْحر، واللهاث، بِضَم اللَّام: الْعَطش، وَكَذَلِكَ الطَّائِر. ولهث الرجل إِذا أعيى. وَيُقَال: مَعْنَاهُ يبْحَث بيدَيْهِ وَرجلَيْهِ فِي الأَرْض، وَفِي (الْمُنْتَهى) : هُوَ ارْتِفَاع النَّفس يَلْهَث لهثاً ولهاثاً، ولهث بِالْكَسْرِ يَلْهَث لهثاً ولهاثاً مثل: سمع سَمَاعا إِذا عَطش. قَوْله: (بلغ هَذَا مثل الَّذِي بلغ بِي) ، أَي: بلغ هَذَا الْكَلْب مثل الَّذِي،

(12/206)


بِنصب اللَّام على أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف، أَي: بلغ هَذَا مبلغا مثلَ الَّذِي بلغ بِي، وَضَبطه الْحَافِظ الدمياطي بِخَطِّهِ بِضَم: مثل، قَالَ بَعضهم: وَلَا يخفى تَوْجِيهه. قلت: كَأَنَّهُ لم يقف على تَوْجِيهه، وَهُوَ أَن يكون لفظ: هَذَا، مفعول بلغ، وَقَوله: مثل الَّذِي بلغ بِي، فَاعله فارتفاعه حِينَئِذٍ على الفاعلية. قَوْله: (فَمَلَأ خفه) فِيهِ مَحْذُوف قبله تَقْدِيره: (فَنزل فِي الْبِئْر فَمَلَأ خفه) ، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: (فَنزع أحد خفيه) . قَوْله: (ثمَّ أمْسكهُ بِفِيهِ) ، أَي: بفمه. وَإِنَّمَا أمسك خفه بفمه لِأَنَّهُ كَانَ يعالج بيدَيْهِ ليصعد من الْبِئْر، فَدلَّ هَذَا أَن الصعُود مِنْهَا كَانَ عسراً. قَوْله: (ثمَّ رقي) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْقَاف على مِثَال: صعد وزنا وَمعنى، يُقَال: رقيت فِي السّلم بِالْكَسْرِ: إِذا صعدت، وَذكره ابْن التِّين بِفَتْح الْقَاف على مِثَال: مضى، وَأنْكرهُ. وَقَالَ عِيَاض فِي (الْمَشَارِق) : هِيَ لُغَة طيىء، يفتحون الْعين فِيمَا كَانَ من الْأَفْعَال معتل اللَّام، وَالْأول أفْصح وَأشهر. قَوْله: (فسقى الْكَلْب) ، وَفِي رِوَايَة عبد الله بن دِينَار عَن أبي صَالح: حَتَّى أرواه من الإرواء من الرّيّ، وَقد مَضَت هَذِه الرِّوَايَة فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَنهُ إِسْحَاق عَن عبد الصَّمد عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار عَن أَبِيه عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن رجلا رأى كَلْبا يَأْكُل الثرى من الْعَطش، فَأخذ الرجل خفه فَجعل يغْرف لَهُ بِهِ حَتَّى أرواه، فَشكر الله لَهُ حَتَّى أدخلهُ الْجنَّة. قَوْله: فَشكر الله لَهُ، أَي: أثنى عَلَيْهِ أَو قبل عمله، فغفر لَهُ، فالفاء فِيهِ للسَّبَبِيَّة، أَي: بِسَبَب قبُول عمله غفر لَهُ، كَمَا فِي قَوْلك: إِن يسلم فَهُوَ فِي الْجنَّة، أَي: بِسَبَب إِسْلَامه هُوَ فِي الْجنَّة، وَيجوز أَن تكون الْفَاء تفسيرية، تَفْسِير قَوْله: فَشكر الله لَهُ لِأَن غفرانه لَهُ هُوَ نفس الشُّكْر، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنفسكُم} (الْبَقَرَة: 45) . على قَول من فسر التَّوْبَة بِالْقَتْلِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: معنى قَوْله: فَشكر الله لَهُ، أَي: أظهر مَا جازاه بِهِ عِنْد مَلَائكَته، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام. قلت: لَا يَصح هَذَا هُنَا، لِأَن شكر الله لهَذَا الرجل عبارَة عَن مغفرته إِيَّاه، كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (قَالُوا) أَي: الصَّحَابَة، من جُمْلَتهمْ سراقَة بن مَالك ابْن جعْشم، روى حَدِيثه ابْن مَاجَه: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن نمير، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن مَالك بن جعْشم عَن أَبِيه عَن عَمه سراقَة بن مَالك بن جعْشم، قَالَ: سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الضَّالة من الْإِبِل تغشى حياضي قد لطتها لإبلي، فَهَل لي من أجر إِن سقيتها؟ فَقَالَ: نعم، فِي كل ذَات كبد حرى أجر. قَوْله: (وَإِن لنا) ، هُوَ مَعْطُوف على شَيْء مَحْذُوف تَقْدِيره: الْأَمر كَمَا ذكرت، وَإِن لنا فِي الْبَهَائِم أجرا، أَي: فِي سقيها أَو فِي الْإِحْسَان إِلَيْهَا. قَوْله: (فِي كل كبد) ، يجوز فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: فتح الْكَاف وَكسر الْبَاء وَفتح الْكَاف وَسُكُون الْبَاء للتَّخْفِيف، كَمَا قَالُوا فِي الْفَخْذ فَخذ، وَكسر الْكَاف وَسُكُون الْبَاء، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الكبد يذكر وَيُؤَنث، وَلِهَذَا قَالَ: رطبَة، وَالْجمع أكباد وأكبد وكبود. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي كبد كل حَيّ من ذَوَات الْأَنْفس، وَالْمرَاد بالرطبة رُطُوبَة الْحَيَاة أَو هُوَ كِنَايَة عَن الْحَيَاة. قَوْله: (أجر) ، مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مقدما قَوْله: (فِي كل كبد) ، تَقْدِيره: أجر حَاصِل أَو كَائِن فِي إرواء كل ذِي كبد حَيّ. وَأبْعد الْكرْمَانِي فِي سُؤَاله هُنَا حَيْثُ يَقُول: الكبد لَيست ظرفا لِلْأجرِ، فَمَا معنى كلمة الظَّرْفِيَّة؟ ثمَّ قَالَ: تَقْدِيره الْأجر ثَابت فِي إرواء أَو فِي رِعَايَة كل حَيّ وَجه الإبعاد: أَن كل من شم شَيْئا من علم الْعَرَبيَّة يعرف أَن الْجَار وَالْمَجْرُور لَا بُد أَن يتَعَلَّق بِشَيْء، إِمَّا ظَاهرا أَو مُقَدرا، فَإِذا لم يصلح الْمَذْكُور أَن يتَعَلَّق بِهِ يقدر لفظ: كَائِن أَو حَاصِل أَو نَحْوهمَا، فَلَا حَاجَة إِلَى السُّؤَال وَالْجَوَاب، ثمَّ قَالَ: أَو الْكَلِمَة للسَّبَبِيَّة، يَعْنِي: كلمة: فِي، للسَّبَبِيَّة كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فِي النَّفس المؤمنة مائَة إبل، أَي: بِسَبَب قتل النَّفس المؤمنة، وَمَعَ هَذَا الْمُتَعَلّق مَحْذُوف، أَي: بِسَبَب قتل النَّفس المؤمنة الْوَاجِب مائَة إبل، وَكَذَلِكَ التَّقْدِير هُنَا: بِسَبَب إرواء كل كبد أجر حَاصِل. وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا عَام فِي جَمِيع الْحَيَوَانَات. وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: هَذَا الحَدِيث كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل، وَأما الْإِسْلَام فقد أَمر بقتل الْكلاب فِيهِ. وَأما قَوْله: (فِي كل كبد) ، فمخصوص بِبَعْض الْبَهَائِم مِمَّا لَا ضَرَر فِيهِ لِأَن الْمَأْمُور بقتْله كالخنزير لَا يجوز أَن يقوى لِيَزْدَادَ ضَرَره، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيّ: إِن عُمُومه مَخْصُوص بِالْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَم، وَهُوَ مَا لم يُؤمر بقتْله فَيحصل الثَّوَاب بسقيه، ويلتحق بِهِ إطعامه وَغير ذَلِك من وُجُوه الْإِحْسَان إِلَيْهِ. قلت: الْقلب الَّذِي فِيهِ الشَّفَقَة وَالرَّحْمَة يجنح إِلَى قَول الدَّاودِيّ، وَفِي الْقلب من قَول أبي عبد الْملك حزازة، وَيتَوَجَّهُ الرَّد على كَلَامه من وُجُوه: الأول: قَوْله: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل، لَا دَلِيل عَلَيْهِ، فَمَا الْمَانِع أَن أحدا من هَذِه الْأمة قد فعل هَذَا، وكوشف للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك وَأخْبرهُ بذلك حثاً لأمته على فعل ذَلِك، وصدور هَذَا الْفِعْل من أحد من أمته يجوز أَن يكون فِي زَمَنه، وَيجوز أَن يكون بعده، بِأَن يفعل أحد

(12/207)


هَذَا. وَأعلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَنه سَيكون كَذَا وَأخْبرهُ بذلك فِي صُورَة الْكَائِن، لِأَن الَّذِي يُخبرهُ عَن الْمُسْتَقْبل كالواقع لِأَنَّهُ مخبر صَادِق، وكل مَا يُخبرهُ من المغيبات الْآتِيَة كَائِن لَا محَالة. وَالثَّانِي: قَوْله: وَأما الْإِسْلَام، فقد أَمر بقتل الْكلاب لَا يقوم بِهِ دَلِيل على مدعاه، لِأَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل الْكلاب فِي أول الْإِسْلَام، ثمَّ نسخ ذَلِك بِإِبَاحَة الِانْتِفَاع بهَا للصَّيْد وللماشية وَالزَّرْع، وَلَا شكّ أَن الْإِبَاحَة بعد التَّحْرِيم نسخ لذَلِك التَّحْرِيم، وَرفع لحكمه. وَالثَّالِث: دَعْوَى الْخُصُوص تحكم وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ، لِأَن تَخْصِيص الْعَام بِلَا دَلِيل إِلْغَاء لحكمه الَّذِي تنَاوله، فَلَا يجوز، وَالْعجب من النَّوَوِيّ أَيْضا أَنه ادّعى عُمُوم الحَدِيث الْمَذْكُور للحيوان الْمُحْتَرَم، وَهُوَ أَيْضا لَا دَلِيل عَلَيْهِ، وأصل الحَدِيث مَبْنِيّ على إِظْهَار الشَّفَقَة لمخلوقات الله تَعَالَى من الْحَيَوَانَات، وَإِظْهَار الشَّفَقَة لَا يُنَافِي إِبَاحَة قتل المؤذي من الْحَيَوَانَات، وَيفْعل فِي هَذَا مَا قَالَه ابْن التَّيْمِيّ: لَا يمْتَنع إجراؤه على عُمُومه، يَعْنِي: فيسقي ثمَّ يقتل، لأَنا أمرنَا بِأَن نحسن القتلة ونهينا عَن الْمثلَة، فعلى قَول مدعي الْخُصُوص: الْكَافِر الْحَرْبِيّ وَالْمُرْتَدّ الَّذِي اسْتمرّ على ارتداده إِذا قدما للْقَتْل، وَكَانَ الْعَطش قد غلب عَلَيْهِمَا، يَنْبَغِي أَن يَأْثَم من يسقيهما لِأَنَّهُمَا غير محترمين فِي ذَلِك الْوَقْت، وَلَا يمِيل قلب شفوق فِيهِ رَحْمَة إِلَى منع السَّقْي عَنْهُمَا، يسقيان ثمَّ يقتلان.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ بَعضهم: فِيهِ: جَوَاز السّفر مُنْفَردا وَبِغير زَاد. قلت: قد ورد النَّهْي عَن سفر الرجل وَحده، والْحَدِيث لَا يدل على أَن رجلا كَانَ مُسَافِرًا، لِأَنَّهُ قَالَ: (بَينا رجل يمشي) ، فَيجوز أَن يكون مَاشِيا فِي أَطْرَاف مَدِينَة أَو عمَارَة، أَو كَانَ مَاشِيا فِي مَوضِع فِي مدينته. وَكَانَ خَالِيا من السكان. فَإِن قلت: قد مضى فِي أَوَائِل الْبَاب أَن فِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ: يمشي بفلاة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: يمشي بطرِيق مَكَّة؟ قلت: لَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون الرجل الْمَذْكُور مُسَافِرًا، وَلَئِن سلمنَا أَنه كَانَ مُسَافِرًا لَكِن يحْتَمل أَنه كَانَ مَعَه قوم فَانْقَطع مِنْهُم فِي الفلاة لضَرُورَة عرضت لَهُ، فَجرى لَهُ مَا جرى فَلَا يفهم مِنْهُ جَوَاز السّفر وَحده فَافْهَم. وَأما السّفر بِغَيْر زَاد، فَإِن كَانَ فِي علمه أَنه يحصل لَهُ الزَّاد فِي طَرِيقه فَلَا بَأْس، وَإِن كَانَ يتَحَقَّق عَدمه فَلَا يجوز لَهُ بِغَيْر الزَّاد. وَفِيه: الْحَث على الْإِحْسَان إِلَى النَّاس، لِأَنَّهُ إِذا حصلت الْمَغْفِرَة بِسَبَب سقِِي الْكَلْب، فسقي بني آدم أعظم أجرا. وَفِيه: أَن سقِِي المَاء من أعظم القربات. قَالَ بعض التَّابِعين: من كثرت ذنُوبه فَعَلَيهِ بسقي المَاء، فَإِذا غفرت ذنُوب الَّذِي سقى كَلْبا فَمَا ظنكم بِمن سقى مُؤمنا موحداً وأحياه بذلك؟ وَقَالَ ابْن التِّين: وَرُوِيَ عَنهُ مَرْفُوعا: أَنه دخل على رجل فِي السِّيَاق، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا ترى؟ فَقَالَ: أرى ملكَيْنِ يتأخران وأسودين يدنوان، وأري الشَّرّ ينمى وَالْخَيْر يضمحل، فأعني مِنْك بدعوة يَا نَبِي الله، فَقَالَ: أللهم أشكر لَهُ الْيَسِير، واعف عَنهُ الْكثير، ثمَّ قَالَ لَهُ: مَاذَا ترى؟ فَقَالَ: أرى ملكَيْنِ يدنوان والأسودين يتأخران، وَأرى الْخَيْر ينمي وَالشَّر يضمحل. قَالَ: فَمَا وجدت أفضل عَمَلك؟ قَالَ: سقِِي المَاء. وَفِي حَدِيث سُئِلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء. وَفِيه: مَا احْتج بِهِ على جَوَاز الصَّدَقَة على الْمُشْركين لعُمُوم قَوْله: أجر. وَفِيه: أَن المجازاة على الْخَيْر وَالشَّر قد يكون يَوْم الْقِيَامَة من جنس الْأَعْمَال، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل نَفسه بحديدة عذب بهَا فِي نَار جَهَنَّم، وَقَالَ بَعضهم: يَنْبَغِي أَن يكون مَحَله، مَا إِذا لم يُوجد هُنَاكَ مُسلم، فالمسلم أَحَق. قلت: هَذَا قيد لَا يعْتَبر بِهِ، بل تجوز الصَّدَقَة على الْكَافِر، سَوَاء يُوجد هُنَاكَ مُسلم أَو لَا، وَقَالَ بَعضهم أَيْضا: وَكَذَا إِذا دَار الْأَمر بَين الْبَهِيمَة والآدمي الْمُحْتَرَم واستويا فِي الْحَاجة، فالآدمي أَحَق. قلت: إِنَّمَا يكون أَحَق فِيمَا إِذا قسم بَينهمَا، يخَاف على الْمُسلم من الْهَلَاك، إو إِذا أَخذ جُزْءا للبهيمة يخَاف على الْمُسلم، فَأَما إِذا لم يُوجد وَاحِد مِنْهُمَا يَنْبَغِي أَن لَا تحرم الْبَهِيمَة أَيْضا، لِأَنَّهَا ذَات كبد رطبَة.
تابَعَهُ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ والرَّبِيعُ بنُ مُسْلِمٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيادٍ

4632 - حدَّثنا ابنُ أبِي مرْيَمَ حدَّثَنَا نافِعُ بنُ عُمَرَ عنِ ابنِ أبِي مُلَيْكَةَ عنْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلَّى صَلاةَ الكُسُوفِ فقالَ دَنَتْ مِنِّي النَّارُ حتَّى قُلْتُ أيْ رَبِّ وأنَا مَعَهُمْ فإذَا امْرَأَةٌ حَسِبْتُ أنَّهُ قَالَ تخْدِشُها هِرَّةٌ قَالَ مَا شأْنُ هَذِهِ قَالُوا حبَسَتْها حتَّى ماتَتْ جوعا. (انْظُر الحَدِيث 547) .

(12/208)


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن هَذِه الْمَرْأَة لما حبست هَذِه الْهِرَّة إِلَى أَن مَاتَت بِالْجُوعِ والعطش فاستحقت هَذَا الْعَذَاب، فَلَو كَانَت سقتها لم تعذب، وَمن هُنَا يعلم فضل سقِِي المَاء، وَهُوَ المطابق للتَّرْجَمَة.
وَهَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد قد مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب مَا يقْرَأ بعد التَّكْبِير، وَلَكِن بأطول مِنْهُ.
وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ، وَنَافِع بن عمر بن عبد الله الجُمَحِي من أهل مَكَّة، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم: واسْمه زُهَيْر بن عبد الله الْأَحول الْمَكِّيّ القَاضِي على عهد ابْن الزبير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (دنت) أَي: قربت. قَوْله: (أَي رَبِّي) يَعْنِي: يَا رَبِّي. قَوْله: (وَأَنا مَعَهم) ، فِيهِ تعجب وتعجيب واستبعاد من قربه من أهل جَهَنَّم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: كَيفَ قربوا مني وبيني وَبينهمْ غَايَة الْمُنَافَاة الْمُقْتَضِيَة لبعد المشرقين. قَوْله: (فَإِذا امْرَأَة) كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله: (حسبت) من كَلَام أَسمَاء. قَوْله: (أَنه قَالَ) ، أَي: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ. قَوْله: (تخدشها) أَي: تكدحها، وأصل الخدش قشر الْجلد بِعُود أَو نَحوه، من خدش يخدش خدشاً من بَاب ضرب يضْرب.

5632 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عبد الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عُذِّبَتِ امْرَأةٌ فِي هِرَّةٍ حبَسَتْها حتَّى ماتَتْ جُوعاً فدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ قَالَ فَقَالَ وَالله أعْلَمُ لَا أنْتِ أطْعَمْتِيها ولاَ سَقَيْتِيها حِينَ حَبَسْتِيها ولاَ أنْتِ أرْسَلْتِيهَا فأكَلَتْ مِنْ خَشاشِ الأرْضِ. مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب وَفِي الْحَيَوَان عَن هَارُون بن عبد الله وَعبد الله ابْن جَعْفَر الْبَرْمَكِي.
قَوْله: (فِي هرة) أَي: فِي شَأْن هرة أَو بِسَبَب هرة. قَوْله: (فَدخلت فِيهَا) أَي: بِسَبَبِهَا. قَوْله: (قَالَ: فَقَالَ) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ الله تَعَالَى أَو؟ مَالك خَازِن النَّار، قَوْله: (وَالله أعلم) جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله: فَقَالَ، وَبَين: لَا أَنْت ... إِلَى آخِره. قَوْله: (أطعمتها) يروي: (أطعميتها) مَعَ أخواتها آلَة بإشباع كسراتها يَاء، قَوْله: (فَأكلت) ويروى: فتأكل. قَوْله: (من خشَاش الأَرْض) بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وخفة الشين الأولى: الحشرات، وَقد تفتح الْخَاء. وَقَالَ النَّوَوِيّ وَقد تضم أَيْضا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الخشاش، بِالْكَسْرِ إلاَّ الطير الصَّغِير فَإِنَّهُ بِالْفَتْح. وَفِي (الْغَرِيب) للْمُصَنف: الخشاش شرار الطير.
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَظَاهر الحَدِيث يدل على تملك الْهِرَّة لِأَنَّهُ أضافها للْمَرْأَة بِاللَّامِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَة فِي الْملك. وَفِيه: أَن النَّار مخلوقة. وَفِيه: أَن بعض النَّاس معذب الْيَوْم فِي جَهَنَّم. وَفِيه: فِي تعذيبها بِسَبَب الْهِرَّة دلَالَة على أَن فعلهَا كَبِيرَة لِأَنَّهَا أصرت عَلَيْهِ.

01 - (بابُ مَنْ رَأى أنَّ صاحِبَ الحَوْضِ أوْ الْقَرْبَةِ أحَقُّ بِمائِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من رأى إِلَى آخِره، وَالْحكم فِيهِ أَن من كَانَ لَهُ حَوْض فِيهِ مَاؤُهُ أَو مَعَه قربَة فِيهَا مَاء فَهُوَ أَحَق بذلك المَاء من غَيره، لِأَنَّهُ ملكه وَتَحْت يَده وَله التَّصَرُّف فِيهِ بِالْبيعِ وَالشِّرَاء وَالْهِبَة وَنَحْو ذَلِك، وَلَا يجوز لغيره أَن يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا إلاَّ بِإِذْنِهِ إلاَّ الْمُضْطَر فِي الشّرْب، كَمَا مر تَفْصِيله فِيمَا مضى.

6632 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا عبدُ العزِيزِ عنْ أبِي حازمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أتِيَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَدَحٍ فشَرِبَ وعنْ يَمِينِهِ غُلامٌ هُوَ أحْدَثُ القَوْمِ والأشْيَاخُ عنْ يَسَارِهِ قَالَ يَا غُلامُ أتأْذَنُ لِي أنْ أُعْطِيَ الأشْيَاخَ فَقَالَ مَا كُنْتُ لاُِوثِرَ بِنَصِيبِي مِنْكَ أحدَاً يَا رسولَ الله فأعْطَاهُ إيَّاهُ. .

قيل: لَا مُطَابقَة هُنَا بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث إلاَّ أَن الْأَيْمن أَحَق بالقدح من غير. وَأجِيب: بِأَن

(12/209)


مُرَاد البُخَارِيّ أَن الْأَيْمن إِذا اسْتحق مَا فِي الْقدح بِمُجَرَّد جُلُوسه واختص بِهِ، فَكيف لَا يخْتَص صَاحب الْيَد والمتسبب فِي تَحْصِيله؟ قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الْفرق ظَاهر بَين الاستحقاقين، فاستحقاق الْأَيْمن غير لَازم حَتَّى إِذا منع لَيْسَ لَهُ الطّلب الشَّرْعِيّ، بِخِلَاف اسْتِحْقَاق صَاحب الْيَد، وَهَذَا ظَاهر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه تعلقه أَي: تعلق الحَدِيث بالترجمة قِيَاس مَا فِي الْقرْبَة والحوض على مَا فِي الْقدح، وَتصرف بَعضهم فِيهِ بقوله: ومناسبته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، إِلْحَاقًا للحوض والقربة بالقدح، فَكَأَن صَاحب الْقدح أَحَق بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ شرباً وسقياً. انْتهى. قلت: أما قِيَاس الْكرْمَانِي فَقِيَاس بالفارق، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَأما قَول بَعضهم: إِلْحَاقًا للحوض والقربة بالقدح، فَإِن كَانَ مُرَاده بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ فَغير صَحِيح لما ذكرنَا، وَإِن كَانَ مُرَاده من الْإِلْحَاق أَن صَاحب الْقدح مثل صَاحب الْقرْبَة فِي الحكم فَلَيْسَ كَذَلِك على مَا لَا يخفى. وَقَوله: فَكَانَ صَاحب الْقدح أَحَق بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ شرباً وسقياً، لَا يَخْلُو أَن يقْرَأ قَوْله: فَكَانَ، بكاف التَّشْبِيه دخلت على: أَن، بِفَتْح الْهمزَة، أَو: كَانَ، بِلَفْظ الْمَاضِي من الْأَفْعَال النَّاقِصَة، وأيّاً مَا كَانَ ففساده ظَاهر يعرف بِالتَّأَمُّلِ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَلَا مُطَابقَة هُنَا بَين الحَدِيث والترجمة إلاَّ بِالْجَرِّ الثقيل، بِأَن يُقَال: صَاحب الْحَوْض مثل صَاحب الْقدح فِي مُجَرّد الِاسْتِحْقَاق مَعَ قطع النّظر عَن اللُّزُوم وَعَدَمه، والْحَدِيث مضى قبل هَذِه بِثمَانِيَة أَبْوَاب فِي: بَاب فِي الشّرْب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن سعيد بن أبي مَرْيَم عَن أبي غَسَّان عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد، وَهنا أخرجه: عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد الْعَزِيز عَن أَبِيه أبي حَازِم سَلمَة بن دِينَار عَن سهل، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
15 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا غنْدر قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لأذودن رجَالًا عَن حَوْضِي كَمَا تذاد الغريبة من الْإِبِل عَن الْحَوْض) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله عَن حَوْضِي فَإِنَّهُ يدل على أَنه أَحَق بحوضه وَبِمَا فِيهِ والترجمة أَن صَاحب الْحَوْض أَحَق بِهِ وغندر بِضَم الْغَيْن وَسُكُون النُّون مر غير مرّة وَهُوَ لقبه واسْمه مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ ربيب شُعْبَة وَمُحَمّد بن زِيَاد بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف الْقرشِي الجُمَحِي أَبُو الْحَارِث الْمدنِي مر فِي بَاب غسل الأعقاب وَلَا يشْتَبه عَلَيْك بِمُحَمد بن زِيَاد الْأَلْهَانِي وَإِن كَانَ كل مِنْهُمَا تابعيا. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة بِهِ وَفِي التَّلْوِيح لما أعَاد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي الْحَوْض ذكره مُعَلّقا من طَرِيق عبيد الله بن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا كَاد أَن يبلغ مبلغ الْقطع والتواتر على رَأْي جمَاعَة من الْعلمَاء يجب الْإِيمَان بِهِ فِيمَا حَكَاهُ غير وَاحِد وَرَوَاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة مِنْهُم فِي الصَّحِيح ابْن عمر وَابْن مَسْعُود وَجَابِر بن سَمُرَة وجندب بن عبد الله وَزيد بن أَرقم وَعبد الله بن عَمْرو وَأنس بن مَالك وَحُذَيْفَة وَعند أبي الْقَاسِم اللالكائي ثَوْبَان وَأَبُو بردة وَجَابِر بن عبد الله وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَبُرَيْدَة وَعَن القَاضِي أبي الْفضل وَعقبَة بن عَامر وحارثة بن وهب والمستورد وَأَبُو بَرزَة وَأَبُو أُمَامَة وَعبد الله بن زيد وَسَهل بن سعد وسُويد بن جبلة وَأَبُو بكر الصّديق والفاروق والبراء وَعَائِشَة وَأُخْتهَا أَسمَاء وَأَبُو بكرَة وَخَوْلَة بن قيس وَأَبُو ذَر والصنابحي فِي آخَرين (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " لأذودن " أَي لأطردن من ذاد يذود ذيادا أَي دَفعه وطرده ويروى فليذادن رجال أَي يطردون وَفِي الْمطَالع كَذَا رَوَاهُ أَكثر الروَاة عَن مَالك فِي الْمُوَطَّأ وَرَوَاهُ يحيى ومطرف وَابْن نَافِع فَلَا يذادن وَرَوَاهُ ابْن وضاح على الرِّوَايَة الأولى وَكِلَاهُمَا صَحِيح الْمَعْنى والنافية أفْصح وَأعرف وَمَعْنَاهُ فَلَا تَفعلُوا فعلا يُوجب ذَلِك كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا أَلفَيْنِ أحدكُم على رقبته بعير أَي لَا تَفعلُوا مَا يُوجب ذَلِك قَوْله " كَمَا تذاد الغريبة من الْإِبِل " أَي كَمَا تطرد النَّاقة الغريبة من الْإِبِل عَن الْحَوْض إِذا أَرَادَت الشّرْب مَعَ إبِله وَعَادَة الرَّاعِي إِذا سَاق الْإِبِل إِلَى الْحَوْض لتشرب أَن يطرد النَّاقة الغريبة إِذا رَآهَا بَينهم وَاخْتلف فِي هَؤُلَاءِ الرِّجَال فَقيل هم المُنَافِقُونَ حَكَاهُ ابْن التِّين وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هم المبتدعون وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ هم الَّذين لَا سِيمَا لَهُم من غير هَذِه الْأمة وَذكر قبيصَة فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَنهم هم المرتدون الَّذين بدلُوا وَقَالَ ابْن

(12/210)


بطال فَإِن قيل كَيفَ يأْتونَ غرا وَالْمُرْتَدّ لَا غرَّة لَهُ فَالْجَوَاب أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ تَأتي كل أمة فِيهَا منافقوها وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يَوْم يَقُول المُنَافِقُونَ والمنافقات للَّذين آمنُوا انظرونا نقتبس من نوركم} فصح أَن الْمُؤمنِينَ يحشرون وَفِيهِمْ المُنَافِقُونَ الَّذين كَانُوا مَعَهم فِي الدُّنْيَا حَتَّى يضْرب بَينهم بسور وَالْمُنَافِق لَا غرَّة لَهُ وَلَا تحجيل لَكِن الْمُؤْمِنُونَ سموا غرا بِالْجُمْلَةِ وَإِن كَانَ الْمُنَافِق فِي خلالهم وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فَإِن قيل كَيفَ خَفِي حَالهم على سيدنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد قَالَ تعرض عَليّ أَعمال أمتِي فَالْجَوَاب أَنه إِنَّمَا تعرض أَعمال الْمُوَحِّدين لَا الْمُنَافِقين والكافرين
16 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ أخبرنَا عبد الرَّزَّاق قَالَ أخبرنَا معمر عَن أَيُّوب وَكثير بن كثير يزِيد أَحدهمَا على الآخر عَن سعيد بن جُبَير قَالَ قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يرحم الله أم إِسْمَاعِيل لَو تركت زَمْزَم أَو قَالَ لَو لم تغرف من المَاء لكَانَتْ عينا معينا وَأَقْبل جرهم فَقَالُوا أَتَأْذَنِينَ أَن ننزل عنْدك قَالَت نعم وَلَا حق لكم فِي المَاء قَالُوا نعم) مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْلهَا لجرهم وَلَا حق لكم فِي المَاء لِأَنَّهَا أَحَق من غَيرهَا وَقَالَ الْخطابِيّ فِيهِ أَن من أنبط مَاء فِي فلاة من الأَرْض ملكه وَلَا يُشَارِكهُ غَيره فِيهِ إِلَّا بِرِضَاهُ إِلَّا أَنه لَا يمْنَع فَضله إِذا اسْتغنى عَنهُ وَإِنَّمَا شرطت هَاجر عَلَيْهِم أَن لَا يتملكوه قَوْله وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي وَهُوَ من أَفْرَاده وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ وَكثير بن كثير ضد الْقَلِيل فِي اللَّفْظَيْنِ ابْن الْمطلب السَّهْمِي وَهُوَ عطف على أَيُّوب قيل يلْزم أَن يكون كل مِنْهُمَا مزيدا أَو مزيدا عَلَيْهِ أُجِيب نعم باعتبارين. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا مطولا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِيه أَيْضا عَن أبي عَامر وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَمُحَمّد بن عبد الله بن الْمُبَارك عَن أبي عَامر الْعَقدي وَعُثْمَان بن عمر كِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم بن نَافِع قَوْله " أم إِسْمَاعِيل " هِيَ هَاجر وَكَانَ إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَار إِلَى مصر لما وَقع الْقَحْط بِالشَّام لِلْمِيرَةِ وَمَعَهُ سارة وَلُوط عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ بهَا أول الفراعنة سِنَان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاود بن سَام بن نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل غير ذَلِك وَكَانَت سارة من أجمل النِّسَاء وَجرى مَا جرى بَينه وَبَين إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَبَب سارة على مَا ذكره أهل السّير فآخر الْأَمر نجى الله سارة من هَذَا الفرعون فَأَخْدَمَهَا هَاجر وَاخْتلف فِيهَا فَقَالَ مقَاتل كَانَت من ولد هود صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ الضَّحَّاك كَانَت بنت ملك مصر وَكَانَ سَاكِنا بمنف فغلبه ملك آخر فَقتله وسبى ابْنَته فاسترقها ووهبها لسارة ثمَّ وهبتها سارة لإِبْرَاهِيم فواقعها فَولدت إِسْمَاعِيل ثمَّ حمل إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل وَأمه هَاجر إِلَى مَكَّة وَذَلِكَ لأمر يطول ذكره وَمَكَّة إِذْ ذَاك عضاه وَسلم وَسمر فأنزلهما فِي مَوضِع الْحجر وَكَانَ مَعَ هَاجر شنة مَاء وَقد نفد فعطشت وعطش الصَّبِي فَنزل جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَاء بهما إِلَى مَوضِع زَمْزَم فَضرب بعقبه ففارت عين فَلذَلِك يُقَال لزمزم ركضة جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا نبع المَاء أخذت هَاجر شنتها وَجعلت تستقي فِيهَا تدخره وَهِي تَفُور قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يرحم الله أم إِسْمَاعِيل لَو تركت زَمْزَم لكَانَتْ عينا معينا فَشَرِبت وَقَالَ لَهَا جِبْرِيل لَا تخافي الظمأ على أهل هَذِه الْبَلدة فَإِنَّهَا عين ستشرب مِنْهَا ضيفان الله وَإِن هَهُنَا بَيت الله يَبْنِي هَذَا الْغُلَام وَأَبوهُ فَكَانَ كَذَلِك حَتَّى مرت رفْقَة من جرهم تُرِيدُ الشَّام مُقْبِلين من طَرِيق كَذَا فنزلوا فِي أَسْفَل مَكَّة فَرَأَوْا طائرا على الْجَبَل فَقَالُوا إِن هَذَا الطَّائِر ليدور على المَاء وعهدنا بِهَذَا الْوَادي وَمَا فِيهِ مَاء فأشرفوا فَإِذا هم بِالْمَاءِ فَقَالُوا لهاجر إِن شِئْت كُنَّا مَعَك وانسناك وَالْمَاء ماؤك فَأَذنت لَهُم فنزلوا هُنَاكَ فهم أول سكان مَكَّة فَكَانُوا هُنَاكَ حَتَّى شب إِسْمَاعِيل وَمَاتَتْ هَاجر فَتزَوج إِسْمَاعِيل امْرَأَة مِنْهُم يُقَال لَهَا الجداء ابْنة سعد العملاقي وَأخذ لسانهم فتعرب بهم وحكايته طَوِيلَة لَيْسَ هَذَا مَوضِع بسطها ثمَّ اعْلَم أَن جرهم صنفان الأولى كَانُوا على عهد عَاد فبادوا ودرست أخبارهم وهم من الْعَرَب البائدة وجرهم الثَّانِيَة من ولد جرهم بن قطحان وَكَانَ جرهم أَخا يعرب بن قحطان فَملك يعرب الْيمن وَملك أَخُوهُ جرهم الْحجاز وَقَالَ الرشاطي

(12/211)


جرهم وَابْن عَمه قطورا هما كَانَا أهل مَكَّة وَكَانَا قد ظعنا من الْيمن فَأَقْبَلَا سيارة وعَلى جرهم مضاض بن عمر وعَلى قطورا السميدع رجل مِنْهُم فَنزلَا مَكَّة وجرهم بن قحطان بن عَامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سَام بن نوح عَلَيْهِ السَّلَام قَوْله " لَو تركت زَمْزَم " بِأَن لَا تغرف مِنْهَا إِلَى الْقرْبَة وَلَا تشح بهَا لكَانَتْ عينا معينا بِفَتْح الْمِيم أَي جَارِيا قَوْله " أَو قَالَ " شكّ من الرَّاوِي قَوْله أَتَأْذَنِينَ خطاب لهاجر بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام على سَبِيل الاستخبار قَوْله " أَن ننزل " بنُون الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر ويروى أَن أنزل بِاعْتِبَار قَول كل وَاحِد مِنْهُم قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) نعم مقررة لما سبق وَهَهُنَا النَّفْي سَابق (قلت) يسْتَعْمل فِي الْعرف مقَام بلَى وَلِهَذَا يثبت بِهِ الْإِقْرَار حَيْثُ يُقَال أَلَيْسَ لي عَلَيْك ألف فَقَالَ نعم (قلت) التَّحْقِيق فِيهِ أَن بلَى لَا تَأتي إِلَّا بعد نفي وَأَن نعم تَأتي بعد نفي وَإِيجَاب فَلَا يحْتَاج أَن يُقَال يسْتَعْمل فِي الْعرف مقَام بلَى -
9632 - حدَّثنا عبد الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَمْرٍ وعنْ أبي صالِحٍ السَّمَّانِ عنْ إبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ثَلاَثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ ولاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ رجُلٌ حَلَفَ علَى سِلْعةٍ لقَدْ أعْطَى أكْثَرَ مِمَّا أعْطَى وهْوَ كاذِبٌ ورجُلٌ حلَفَ علَى يَمِينٍ كاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِها مالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ورَجُلٌ منَعَ فَضْلَ ماءٍ فيَقُولُ الله الْيَوْمَ أمْنَعُكَ فَضْلِي كَما منَعْتَ فَضْلَ مالَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَرجل منع فضل مَاء) ، لِأَنَّهُ اسْتحق الْعقَاب فِي الْفضل، فَدلَّ هَذَا أَنه أَحَق بِالْأَصْلِ الَّذِي فِي حَوْضه، أَو فِي قربته، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَأَبُو صَالح هُوَ ذكْوَان السمان، والْحَدِيث مضى قبل هَذَا الْبَاب بأَرْبعَة أَبْوَاب فِي: بَاب إِثْم من منع ابْن السَّبِيل من المَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَكِن بَينهمَا بعض اخْتِلَاف فِي الْمَتْن بِزِيَادَة ونقصان يعلم بِالنّظرِ، فَإِن فِيهِ هُنَاكَ الرجل المبايع للْإِمَام هُوَ ثَالِث الثَّلَاثَة، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا إِذا لم يحصر على هَذِه الثَّلَاثَة وَلَا على تِلْكَ الثَّلَاثَة.
قَوْله: (أَكثر مِمَّا أعْطى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، ويروى على صِيغَة الْمَعْلُوم أَي: أَكثر مِمَّا أعْطى فلَان الَّذِي يستامه. قَوْله: (وَهُوَ كَاذِب) جملَة حَالية. قَوْله: (الْيَوْم أمنعك فضلي) أَي: إِنَّك إِذا كنت تمنع فضل المَاء الَّذِي لَيْسَ بعملك، وَإِنَّمَا هُوَ رزق سَاقه الله إِلَيْك أمنعك الْيَوْم فضلي مجازاة لما فعلت. وَقيل: قَوْله: الْيَوْم أمنعك ... إِلَى آخِره، إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أأنتم أنزلتموه من المزن أم نَحن المنزلون} (الْوَاقِعَة: 96) . وَحكى ابْن التِّين عَن أبي عبد الْملك أَنه قَالَ: هَذَا يخفي مَعْنَاهُ، وَلَعَلَّه يُرِيد أَن الْبِئْر لَيست من حفره، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَنعه غَاصِب ظَالِم، وَهَذَا لَا يرد فِيمَا حازه وَعَمله، وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ حفرهَا ومنعها من صَاحب الشّفة، أَي: العطشان، وَيكون معنى: مَا لم تعْمل يداك، أَي: لم تنبع المَاء وَلَا أخرجته. قلت: تَقْيِيد هَذَا بالبئر لَا معنى لَهُ، لِأَن قَوْله: وَرجل منع فضل مَاء، أَعم من أَن يكون ذَلِك الْفضل فِي الْبِئْر أَو فِي الْحَوْض أَو فِي الْقرْبَة وَنَحْو ذَلِك.
وقالَ عَلِيٌّ حدَّثنا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ عنْ عَمْرٍ وَقَالَ سَمِعَ أبَا صالِحٍ يبْلُغُ بِهِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ: حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار سمع أَبَا صَالح ذكْوَان يبلغ بِهِ، أَي يرفع الحَدِيث إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن سُفْيَان كَانَ يُرْسل هَذَا الحَدِيث كثيرا، وَلكنه صحّح الْمَوْصُول لِأَنَّهُ سَمعه من الْحفاظ مَوْصُولا وَوَصله أَيْضا عَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه مُسلم عَنهُ عَن سُفْيَان عَن عَمْرو عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أرَاهُ مَرْفُوعا، وَالله أعلم.