عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 21 - (بابُ مَا يُكْرَه مِنَ الشُّرُوطِ
فِي المُزَارَعَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يكره إِلَى آخِره.
2332 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ قَالَ أخبرنَا ابنُ
عُيَيْنَةَ عنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعَ حَنْظلَةَ
الزُّرَقِيَّ عنْ رافِعٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ
كنَّا أكْثَرَ أهْلِ المَدِينَةِ حَقْلاً وكانَ أحَدُنَا
يُكْرِي أرْضَهُ فيَقُولُ هَذِهِ القِطْعَةُ لِي وهَذِهِ
لَكَ فَرُبَّمَا أخْرَجَتْ ذِهْ ولَمْ تُخْرِجِ ذِهْ
فنَهَاهُمْ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَيَقُول: هَذِه
الْقطعَة لي) إِلَى آخِره. وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة شَرط
يُؤَدِّي إِلَى النزاع، وَهُوَ ظَاهر، وَابْن عُيَيْنَة
هُوَ: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد
الْأنْصَارِيّ، وحَنْظَلَة ابْن قيس الزرقي. والْحَدِيث
مضى فِي الْبَاب الْمَذْكُور مُجَردا الملحق: بِبَاب قطع
الشّجر والنخيل، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى،
وَإِنَّمَا أَشَارَ بِذكر هَذَا إِلَى
(12/170)
أَن النَّهْي فِي حَدِيث رَافع مَحْمُول
على مَا إِذا تضمن العقد شرطا فِيهِ جَهَالَة. قَوْله:
(حقلاً) ، نصب على التَّمْيِيز، وَهُوَ بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَسُكُون الْقَاف أَي: زرعا، وَقيل: هُوَ
الفدان الَّذِي يزرع. قَوْله: (ذه) ، بِكَسْر الذَّال
الْمُعْجَمَة وبسكون الْهَاء إِشَارَة إِلَى الْقطعَة.
وَفِيه: بَيَان عِلّة النَّهْي.
31 - (بابٌ إذَا زَرَعَ بِمالِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ
وكانَ فِي ذَلكَ صَلاَحٌ لَهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ بَيَان زرع أحد مَال قوم
بِغَيْر إِذن مِنْهُم. قَوْله: (وَكَانَ) ، الْوَاو فِيهِ
للْحَال. قَوْله: (فِي ذَلِك) ، أَي: فِي ذَلِك الزَّرْع
(صَلَاح لَهُم) أَي: لهَؤُلَاء الْقَوْم.
3332 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا
أبُو ضُمْرَةَ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَة عنْ
نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
بَيْنَما ثلاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ أخَذَهُمُ المَطَرُ
فأوُوْا إِلَى غارٍ فِي جَبَلٍ فانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ
غارِهِمْ صَخْرَةٌ مِن الجَبلِ فانْطَبَقتْ عليْهِمْ
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا أعْمالاً
عَمِلْتُموها صالِحَةً لله فادْعوا الله بِهَا لَعَلَّهُ
يُفَرِّجُها عنْكُمْ قَالَ أحَدُهُمْ اللَّهُمَّ إنَّهُ
كانَ لِي والِدَانِ شَيْخانِ كَبِيرانِ ولِي صِبْيَةٌ
صِغَارٌ كُنْتُ أرْعَى علَيْهِمْ فإذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ
حَلَبْتُ فبَدَأتُ بِوَالِدَيَّ أسقِيهِما قَبْلَ بَنِيَّ
وإنِّي اسْتَأْخَرْتُ ذَات يَوْمٍ فَلَم آتِ حتَّى
أمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا فحَلَبْتُ كَما كُنْتُ
أحلُبُ فقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِما أكْرَهُ أنْ
أُوقِظَهُما وأكرَهُ أنْ أسْقِيَ الصِّبْيَةَ والصِّبْيَةُ
يتَضَاغُونَ عِنْدَ قَدَمَيَّ حتَّى طلَعَ الفَجْرُ فإنْ
كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ
فافْرُجْ لَنا فَرْجَةً نَرى مِنْهَا السَّمَاءَ فَفَرَجَ
الله فَرَأوْا السَّماءَ وَقَالَ الآخَرُ أللَّهُمَّ
إنَّها كانتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أحْبَبْتُها كأشَدِّ مَا
يُحِبُّ الرِّجالُ النِّساءَ فطَلَبْتُ مِنْها فأبَتْ
حَتَّى أتَيْتُها بِمِائَةِ دِينارٍ فبَغَيْتُ حتَّى
جَمَعْتُها فلَمَّا وقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْها قالَتْ يَا
عَبْدَ الله اتَّقِ الله ولاَ تَفْتَحِ الخَاتَمَ إلاَّ
بِحَقِّه فقُمْتُ فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُهُ
ابْتِغَاءَ وجْهِكَ فافْرُجْ عنَّا فَرْجَةً ففَرَجَ.
وَقَالَ الثَّالِثُ اللَّهُمَّ إنِّي اسْتأجَرْتُ
أجيرابِفَرَقِ أرُزٍّ فلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ
أعْطِنِي حَقِّي فعَرَضْتُ عَلَيْهِ فرَغِبَ عنْهُ فلَمْ
أزَلْ أزْرَعُهُ حتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرا ورَاعِيهَا
فَجاءَنِي فَقَالَ اتَّقِ الله فقُلْتُ اذْهَبْ إِلَى
ذالِكَ البَقَرِ ورُعَاتِها فَخُذْ فَقَالَ اتَّقِ الله
ولاَ تسْتَهْزِىءْ بِي فَقُلْتُ إنِّي لَا أسْتَهْزِيءُ
بِكَ فخُذْ فأخَذَهُ فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فعَلْتُ
ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ فافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ
الله. قَالَ أَبُو عَبْدِ الله. وَقَالَ ابنُ عُقْبَةَ عنْ
نافِعٍ فَسَعَيْتُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُسْتَأْجر عيَّن
للْأَجِير أُجْرَة، فَبعد إعراضه عَنهُ تصرف فِيهِ بِمَا
فِيهِ صَلَاح لَهُ، فَلَو كَانَ تصرفه فِيهِ غير جَائِز
لَكَانَ مَعْصِيّة، وَلَا يتوسل بِهِ إِلَى الله تَعَالَى.
فَإِن قلت: التوسل إِنَّمَا كَانَ برد الْحق إِلَى
مُسْتَحقّه بِزِيَادَتِهِ النامية، لَا بتصرفه. كَمَا أَن
الْجُلُوس مَعَ الْمَرْأَة كَانَ مَعْصِيّة والتوسل لم يكن
إلاَّ بترك الزِّنَا. قلت: لما ترك صَاحب الْحق الْقَبْض
وَوضع الْمُسْتَأْجر يَده ثَانِيًا على الْفرق كَانَ وضعا
مستأنفاً على ملك الْغَيْر، ثمَّ تصرفه فِيهِ إصْلَاح لَا
تَضْييع، فاغتفر ذَلِك وَلم يعد تَعَديا، فَلم يمْنَع عَن
التوسل بذلك، مَعَ أَن جلّ قَصده خلاصه من الْمعْصِيَة
وَالْعَمَل بِالنِّيَّةِ، وَمَعَ هَذَا لَو هلك الْفرق
لَكَانَ ضَامِنا لَهُ لعدم الْإِذْن فِي زراعته، وَبِهَذَا
يُجَاب عَن قَول من قَالَ: لَا تصح هَذِه التَّرْجَمَة
إلاَّ أَن يكون الزَّارِع مُتَطَوعا، إِذْ لَا خسارة على
صَاحب المَال، لِأَنَّهُ لَو هلك كَانَ من الزَّارِع،
وَإِنَّمَا تصح على سَبِيل التفضل بِالرِّبْحِ وَضَمان
رَأس المَال، وَقد مرت هَذِه الْقِصَّة فِي كتاب الْبيُوع
(12/171)
فِي: بَاب إِذا اشْترى شَيْئا لغيره
بِغَيْر إِذْنه فَرضِي، وَقد مر الْكَلَام فِيهَا، وَأَنه
أخرجه هُنَاكَ: عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أبي
عَاصِم عَن ابْن جريج عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن
ابْن عمر، وَأخرجه هُنَا: عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر
أبي إِسْحَاق الْحزَامِي الْمَدِينِيّ، وَهُوَ من
أَفْرَاده عَن أبي ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الْمِيم، وَهُوَ أنس بن عِيَاض، مر فِي: بَاب
التبرز فِي الْبيُوت.
ولنذكر هُنَا بعض شَيْء. قَوْله: (يَمْشُونَ) ، حَال.
قَوْله: (فأووا) ، بِفَتْح الْهمزَة بِلَا مد. قَوْله:
(فِي جبل) ، صفة: غَار. أَي: كَائِن فِيهِ. قَوْله:
(صَالِحَة) بِالنّصب صفة لقَوْله: أعمالاً، ويروى:
خَالِصَة. قَوْله: (يفرجها) ، بِضَم الرَّاء. قَوْله:
(أللهم إِنَّه) ، أَي: إِن الشَّأْن، وَفِي قَول الآخر:
أللهم إِنَّهَا، أَي: إِن الْقِصَّة، إِذا الْجُمْلَة
مؤنث، وَفِي قَول الثَّالِث: أللهم إِنِّي، أسْند
إِلَيْهِ، وَهَذَا من بَاب التفنن الَّذِي فِيهِ يحلو
الْكَلَام ويونق. قَوْله: (والصبية) ، جمع صبي، وَكَذَلِكَ
الصبوة، وَالْوَاو الْقيَاس، وَلَكِن الْيَاء أَكثر
اسْتِعْمَالا. قَوْله: (فَلم آتٍ) ، بِالْفَاءِ، ويروى:
وَلم آتٍ، بِالْوَاو. قَوْله: (نَامَا) ، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: نائمين. قَوْله: (يتضاغون) ، بالمعجمتين، أَي:
يتصايحون، من ضغا يضغو ضغواً، وضغاء إِذا صَاح وضج.
قَوْله: (فَأَبت عَليّ حَتَّى أتيتها) ، هَذِه رِوَايَة
الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَأَبت حَتَّى أتيتها،
بِدُونِ لَفْظَة: عَليّ، قَوْله: (فرج) أَي: فُرْجَة
أُخْرَى لَا كلهَا. قَوْله: (بفرق أرز) ، الْفرق
بِفتْحَتَيْنِ إِنَاء يَأْخُذ سِتَّة عشر رطلا، وَذَلِكَ
ثَلَاثَة أصوع كَذَا فِي (التَّهْذِيب) قَالَ
الْأَزْهَرِي: والمحدثون على سُكُون الرَّاء، وَكَلَام
الْعَرَب على التحريك. وَفِي (الصِّحَاح) : الْفرق مكيال
مَعْرُوف بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ سِتَّة عشر رطلا. قَالَ:
وَقد يُحَرك. وَالْجمع: فرقان. كبطن وبطنان. وَقَالَ
بَعضهم: الْفرق، بِالسُّكُونِ: أَرْبَعَة
أَرْطَال، وَفِي (نَوَادِر) هِشَام: عَن مُحَمَّد الْفرق
سِتَّة وَثَلَاثُونَ رطلا، قَالَ صَاحب (الْمغرب) : وَلم
أجد هَذَا فِي أصُول اللُّغَة. قلت: قَالَ فِي (الْمُحِيط)
؛ الْفرق سِتُّونَ رطلا، وَلَا يلْزم من عدم وجدانه هُوَ،
وَأَن لَا يجد غَيره، فَإِن لُغَة الْعَرَب وَاسِعَة.
قَوْله: (أرز) فِيهِ: لُغَات قد ذَكرنَاهَا هُنَاكَ، وَقد
مر فِي الْبيُوع: فرق من ذرة، والتوفيق بَينهمَا من جِهَة
أَنَّهُمَا كَانَا صنفين، فالبعض من أرز، وَالْبَعْض من
ذرة. أَو كَانَ أجيران، لأَحَدهمَا: أرز وَللْآخر ذرة
وَقَالَ بَعضهم: لما كَانَا حبين متقاربين أطلق أَحدهمَا
على الآخر. قلت: هَذَا أَخذه من الْكرْمَانِي، وَالْوَجْه
فِيهِ بعيد، وَلَا يَقع مثل هَذَا الْإِطْلَاق من فصيح
قَوْله: (حَتَّى أتيتها) ، ويروى: حَتَّى آتيها. قَوْله:
(فبغيت) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والغين الْمُعْجَمَة،
أَي: طلبت، يُقَال: بغى يَبْغِي بغاءً، إِذا طلب. قَوْله:
(قَالَ: أَعْطِنِي حَقي) ، ويروى: فَقَالَ، بِالْفَاءِ،
قَوْله: (وراعيها) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني
بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة غَيره: ورعاتها،
بِالْجمعِ. قَوْله: (فَقلت: إذهب إِلَى ذَلِك الْبَقر) ،
ويروى: قلت إذهب، بِلَا فَاء. قَوْله: (إِلَى ذَلِك
الْبَقر) ، ويروى إِلَى تِلْكَ الْبَقر، فالتذكير
بِاعْتِبَار اللَّفْظ، والتأنيث بِاعْتِبَار معنى الجمعية
فِيهِ. قَوْله: (فَقلت: إِنِّي لَا أستهزىء) ، ويروى:
فَقَالَ: إِنِّي لَا أستهزىء. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد
الله) ، أَي: البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (قَالَ
إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن عقبَة عَن نَافِع: فسعيت) ،
يَعْنِي: أَن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور رَوَاهُ عَن نَافِع
كَمَا رَوَاهُ عَمه مُوسَى بن عقبَة، إِلَّا أَنه خَالفه
فِي هَذِه اللَّفْظَة، وَهِي قَوْله: فبغيت، بِالْبَاء
والغين الْمُعْجَمَة، فَقَالَهَا: سعيت، بِالسِّين
وَالْعين الْمُهْمَلَتَيْنِ من السَّعْي. وَقَالَ الجياني:
وَقع فِي رِوَايَة لأبي ذَر: وَقَالَ إِسْمَاعِيل عَن
عقبَة، وَهُوَ وهم، وَالصَّوَاب: إِسْمَاعِيل بن عقبَة،
وَهُوَ ابْن إِبْرَاهِيم بن عقبَة ابْن أخي مُوسَى.
وَتَعْلِيق إِسْمَاعِيل وَصله البُخَارِيّ فِي كتاب
الْأَدَب فِي: بَاب إِجَابَة دُعَاء من بر وَالِديهِ.
41 - (بابُ أوْقَافِ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وأرْضِ الخَرَاجِ ومُزَارَعَتِهِمْ
ومُعَامَلَتِهِمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم أوقاف النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَبَيَان أَرض الْخراج، وَبَيَان
مزارعتهم، وَبَيَان معاملتهم. قَالَ ابْن بطال: معنى هَذِه
التَّرْجَمَة: أَن الصَّحَابَة كَانُوا يزارعون أوقاف
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعد وَفَاته على مَا
كَانَ عَلَيْهِ يهود خَيْبَر.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِعُمَرَ
تصَدَّقْ بأصْلِهِ لَا يُبَاعُ ولَكِنْ يُنْفِقُ ثَمرَهُ
فتَصَدَّقَ بِهِ
مطابقته للصدر الأول من التَّرْجَمَة، وَهِي تظهر من
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر: (تصدق بِأَصْلِهِ)
إِلَى آخِره، وَهَذَا حكم وقف الصَّحَابِيّ،
(12/172)
وَكَذَلِكَ يكون حكم أوقاف بَقِيَّة
الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهَذَا
التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب
الْوَصَايَا فِي: بَاب قَول الله عز وَجل: {وابتلوا
الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 6) . الْآيَة، فَقَالَ: حَدثنَا
هَارُون، حَدثنَا أَبُو سعيد مولى بني هَاشم، حَدثنَا
صَخْر بن جوَيْرِية عَن نَافِع عَن ابْن عمر: أَن عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تصدق بِمَال لَهُ على عهد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يُقَال
لَهُ: ثمغ، وَكَانَ نخلا، فَقَالَ عمر: يَا رَسُول الله!
إِنِّي اسْتَفَدْت مَالا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيس، فَأَرَدْت
أَن أَتصدق بِهِ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (تصدق بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاع وَلَا يُوهب وَلَا
يُورث، وَلَكِن ينْفق ثمره) . فَتصدق بِهِ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ فصدقته تِلْكَ فِي سَبِيل الله وَفِي
الرّقاب وَالْمَسَاكِين والضيف وَابْن السَّبِيل وَلِذِي
الْقُرْبَى، وَلَا جنَاح على من وليه أَن يَأْكُل مِنْهُ
بِالْمَعْرُوفِ أَو يُؤْكَل صديقه غير مُتَمَوّل بِهِ.
قَوْله: (تصدق بِأَصْلِهِ) ، هَذِه الْعبارَة كِنَايَة عَن
الْوَقْف، وَلَفظ: تصدق، أَمر. قَوْله: (وَلَكِن ينْفق) ،
على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فَتصدق بِهِ) ، أَي:
فَتصدق عمر بِهِ، وَالضَّمِير يرجع إِلَى المَال
الْمَذْكُور فِي الحَدِيث الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن،
وَهُوَ المَال الَّذِي كَانَ يُقَال لَهُ: ثمغ، وَكَانَ
نخلا، والثمغ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون
الْمِيم وَفِي آخِره غين مُعْجمَة: وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: ثمغ، وصرمة بن الْأَكْوَع مالان معروفان
بِالْمَدِينَةِ لعمر بن الْخطاب فوقفهما. وَفِي (مُعْجم
الْبكْرِيّ) : ثمغ مَوضِع تِلْقَاء الْمَدِينَة كَانَ
فِيهِ مَال لعمر بن الْخطاب، فَخرج إِلَيْهِ يَوْمًا
ففاتته صَلَاة الْعَصْر، فَقَالَ: شغلتني ثمغ عَن
الصَّلَاة، أشهدكم أَنَّهَا صَدَقَة.
4332 - حدَّثنا صَدَقَةُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الرَّحْمانِ
عنْ مالِكٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ أبِيهِ قَالَ قَالَ
عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ لَوْلاَ آخِرُ
المُسْلِمِينَ مَا فَتَحْتُ قَرْيَةً إلاَّ قَسَمْتُهَا
بَيْنَ أهْلِهَا كمَا قسَمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم خَيْبَرَ. .
مطابقته للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة، بَيَان ذَلِك
أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما فتح السوَاد لم
يقسمها بَين أَهلهَا بل وضع على من بهم من أهل الذِّمَّة
الْخراج فزارعهم وعاملهم، وَبِهَذَا يظْهر أَيْضا دُخُول
هَذَا الْبَاب فِي أَبْوَاب الْمُزَارعَة.
وَرِجَاله سِتَّة: الأول: صَدَقَة بن الْفضل الْمروزِي
وَهُوَ من أَفْرَاده. الثَّانِي: عبد الرَّحْمَن بن مهْدي
الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: مَالك بن أنس. الرَّابِع: زيد بن
أسلم أَبُو أُسَامَة، مولى عمر بن الْخطاب الْعَدوي، مَاتَ
سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الْخَامِس: أَبوهُ أسلم
مولى عمر بن الْخطاب، يكنى أَبَا خَالِد، كَانَ من سبي
الْيمن، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: أَبُو زيد الحبشي البجاوي
من بجاوة، كَانَ من سبي عين التَّمْر، اشْتَرَاهُ عمر
بِمَكَّة سنة إِحْدَى عشرَة لما بَعثه أَبُو بكر الصّديق،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ليقيم للنَّاس الْحَج، مَاتَ
قبل مَرْوَان بن الحكم وَهُوَ صلى عَلَيْهِ وَهُوَ ابْن
أَربع عشرَة وَمِائَة سنة. السَّادِس: عمر بن الْخطاب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن
سعيد بن أبي مَرْيَم وَمُحَمّد بن الْمثنى وَفِي الْجِهَاد
عَن صَدَقَة بن الْفضل. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج
عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَلَفظ أَحْمد: لَئِن عِشْت إِلَى
هَذَا الْعَام الْمقبل لَا يفتح النَّاس قَرْيَة إلاَّ
قسمتهَا بَيْنكُم.
قَوْله: (مَا فتحت) على صِيغَة الْمَجْهُول، قَوْله:
(قَرْيَة) ، مَرْفُوع بِهِ وَيجوز فتحت على بِنَاء
الْفَاعِل، وقرية بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (إلاَّ
قسمتهَا) ، زَاد ابْن إِدْرِيس الثَّقَفِيّ فِي رِوَايَة:
مَا افْتتح الْمُسلمُونَ قَرْيَة من قرى الْكفَّار إلاَّ
قسمتهَا سهماناً. قَوْله: (بَين أَهلهَا) ، أَي:
الْغَانِمين. قَوْله: كَمَا قسم النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد ابْن إِدْرِيس فِي رِوَايَته
وَلَكِن أردْت أَن يكون جِزْيَة تجْرِي عَلَيْهِم، وَقد
كَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يعلم أَن المَال
يعز، وَأَن الشُّح يغلب، وَأَن لَا ملك بعد كسْرَى يُقيم
وتحرز خزائنه فيغنى بهَا فُقَرَاء الْمُسلمين، فأشفق أَن
يبْقى آخر النَّاس لَا شَيْء لَهُم، فَرَأى أَن يحبس
الأَرْض وَلَا يقسمها، كَمَا فعل بِأَرْض السوَاد نظرا
للْمُسلمين وشفقة على آخِرهم بدوام نَفعهَا لَهُم ودر
خَيرهَا عَلَيْهِم، وَبِهَذَا قَالَ مَالك فِي أشهر قوليه:
إِن الأَرْض لَا تقسم.
51 - (بابُ منْ أحْيا أرْضاً مَوَاتاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أحيى أَرضًا مواتاً،
بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف الْوَاو، وَهُوَ الأَرْض
الخراب، وَعَن الطَّحَاوِيّ هُوَ
(12/173)
مَا لَيْسَ بِملك لأحد وَلَا هُوَ من مرافق
الْبَلَد وَكَانَ خَارج الْبَلَد سَوَاء قرب مِنْهُ أَو
بعد فِي ظَاهر الرِّوَايَة، وَعَن أبي يُوسُف: أَرض
الْموَات هِيَ الْبقْعَة الَّتِي لَو وقف رجل على أدناه من
العامر ونادى بِأَعْلَى صَوته لم يسمعهُ أقرب من فِي
العامر إِلَيْهِ، وَقَالَ الْقَزاز: الْموَات الأَرْض
الَّتِي لم تعمر، شبهت الْعِمَارَة بِالْحَيَاةِ وتعطيلها
بفقد الْحَيَاة، وإحياء الْموَات أَن يعمد الشَّخْص لأرض
لَا يعلم تقدم ملك عَلَيْهَا لأحد فيحييها بالسقي أَو
الزَّرْع أَو الْغَرْس أَو الْبناء، فَيصير بذلك ملكه،
سَوَاء فِيمَا قرب من الْعمرَان أم بعد، وَسَوَاء أذن لَهُ
الإِمَام بذلك أم لم يَأْذَن عِنْد الْجُمْهُور، وَعند أبي
حنيفَة: لَا بُد من إِذن الإِمَام مُطلقًا، وَعند مَالك
فِيمَا قرب، وَضَابِط الْقرب مَا بِأَهْل الْعمرَان
إِلَيْهِ حَاجَة من رعي وَنَحْوه، وَعَن قريب يَأْتِي بسط
الْكَلَام فِيهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ورَأي ذَلِكَ عَلِيٌّ فِي أرْضِ الخَرَابِ بِالكُوفَةِ
مَوَاتٌ
أَي: رأى الْإِحْيَاء عَليّ بن أبي طَالب فِي أَرض الخراب
بِالْكُوفَةِ، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين،
وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: فِي أَرض الْموَات.
وَقَالَ عُمَرُ مَنْ أحْيَا أرْضاً مَيِّتَةً فَهْيَ لَهُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن ابْن
شهَاب عَن سَالم عَن أَبِيه مثله، وروى أَبُو عبيد بن
سَلام فِي كتاب الْأَمْوَال بِإِسْنَادِهِ عَن مُحَمَّد بن
عبد الله الثَّقَفِيّ، قَالَ: كتب عمر بن الْخطاب أَن من
أحيى مواتاً فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَعَن الْعَبَّاس بن يزِيد
أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: من أحيى أَرضًا مواتاً لَيْسَ
فِي يَد مُسلم وَلَا معاهد فَهِيَ لَهُ، وَعَن الزُّهْرِيّ
عَن سَالم عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَ النَّاس يتحجرون على
عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: من أحيى
أَرضًا فَهِيَ لَهُ. قَالَ يحيى: كَأَنَّهُ لم يَجْعَلهَا
لَهُ بالتحجير حَتَّى يُحْيِيهَا، وَفِي لفظ: وَذَلِكَ أَن
قوما كَانُوا يتحجرون أَرضًا ثمَّ يدعونها وَلَا يحيونها،
وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب، قَالَ: أقطع رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، نَاسا من مزينة أَو جُهَيْنَة
أَرضًا، فعطلوها، فجَاء قوم فأحيوها، فَقَالَ عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: لَو كَانَت قطيعة مني أَو من أبي
بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لرددتها، وَلَكِن من
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَقَالَ
عِنْد ذَلِك: من عطل أَرضًا ثَلَاث سِنِين لم يعمر فجَاء
غَيره فعمرها فَهِيَ لَهُ، وَفِي لفظ: حَتَّى يمْضِي
ثَلَاث سِنِين فأحياها غَيره فَهُوَ أَحَق بهَا. قَوْله:
(ميتَة) ، قَالَ شَيخنَا: هُوَ بتَشْديد الْيَاء، وَأَصله:
ميوتة، اجْتمعت الْيَاء وَالْوَاو وسبقت إِحْدَاهمَا
بِالسُّكُونِ فأبدلت الْوَاو يَاء وأدغمت الْيَاء فِي
الْيَاء، وَلَا يُقَال هُنَا: أَرضًا ميتَة،
بِالتَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ لَو خففت لحذف التَّأْنِيث،
كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِي: أَنه يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر
والمؤنث، قَالَ الله تَعَالَى: {لنحيي بِهِ بَلْدَة مَيتا}
(الْفرْقَان: 94) . وَلم يقل: ميتَة.
ويُرْوَى عنْ عُمَرَ وابنِ عَوْفٍ عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
أَي: يرْوى عَن عَمْرو بن عَوْف بن يزِيد الْمُزنِيّ
الصَّحَابِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله.
وَقَالَ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ ولَيْسَ لِعِرْقٍ
ظالِمٍ فِيهِ حَقٌّ
أَي: قَالَ عَمْرو بن عَوْف الْمَذْكُور، وَأَشَارَ بِهِ
إِلَى أَنه زَاده، وَقَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة فِي غير
حق مُسلم فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم فِيهِ حق،
وَوَصله الطَّبَرَانِيّ وَابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ من
رِوَايَة كثير بن عبد الله عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أحيى
أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وَفِي
رِوَايَة لَهُ: من أحيى مواتاً من الأَرْض فِي غير حق
مُسلم فَهُوَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، وَرَوَاهُ
أَيْضا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، قَالَ: أخبرنَا أَبُو
عَامر الْعَقدي عَن كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف
حَدثنِي أبي أَن أَبَاهُ حَدثهُ أَنه سمع النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من أحيى أَرضًا مواتاً من غير
أَن يكون فِيهَا حق مُسلم، فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق
ظَالِم حق، وَكثير هَذَا ضَعِيف، وَلَيْسَ لجده عَمْرو بن
عَوْف فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ غير
عَمْرو بن عَوْف الْأنْصَارِيّ الْبَدِيِّ الَّذِي يَأْتِي
حَدِيثه فِي الْجِزْيَة وَغَيرهَا، وَقَالَ
(12/174)
الْكرْمَانِي عقيب قَوْله: وَقَالَ: أَي:
عَمْرو، وَفِي بعض الرِّوَايَات: عمر، أَي ابْن الْخطاب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَابْن عَوْف، أَي: عبد
الرَّحْمَن ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: فَذكر عمر يكون
تَكْرَارا. قلت: فِيهِ فَوَائِد. الأولى: أَنه تَعْلِيق
بِصِيغَة الْقُوَّة وَهَذَا بِصِيغَة التمريض، وَهُوَ
بِدُونِ الزِّيَادَة، وَهَذَا مَعهَا، وَهُوَ غير مَرْفُوع
إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا
مَرْفُوع، انْتهى. قلت: عمر، هُنَا بِدُونِ الْوَاو
يَعْنِي: عمر بن الْخطاب، قَالُوا: إِنَّه تَصْحِيف،
فَلَمَّا جعلُوا عمر بِدُونِ الْوَاو جعلُوا الْوَاو وَاو
عطف، وَقَالُوا: وَابْن عَوْف، وَأَرَادُوا بِهِ عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف. وَذكر الْكرْمَانِي مَا ذكره ثمَّ
ذكر فِيهِ فَوَائِد: الأولى: الْمَذْكُورَة، فَلَا حَاجَة
إِلَيْهَا لِأَن مَا ذكره لَيْسَ بِصَحِيح فِي الأَصْل،
وَمَعَ هَذَا هُوَ قَالَ فِي آخر كَلَامه: وَالصَّحِيح
هُوَ الأول، يَعْنِي أَنه: عَمْرو، بِالْوَاو، وَهُوَ:
ابْن عَوْف الْمُزنِيّ لَا أَنه عمر بن الْخطاب وَعبد
الرَّحْمَن بن عَوْف. قَوْله: (وَلَيْسَ لعرق ظَالِم فِيهِ
حق) ، روى: لعرق، بِالتَّنْوِينِ وبالإضافة أَي: من غرس
فِي أَرض غَيره بِدُونِ إِذْنه فَلَيْسَ لَهُ فِي
الْإِبْقَاء فِيهَا حق، فَإِن أضيف فَالْمُرَاد بالظالم
الغارس، وَسمي ظَالِما لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك الْغَيْر
بِلَا اسْتِحْقَاق، وَإِن وصف بِهِ فالمغروس سمي بِهِ
لِأَنَّهُ الظَّالِم أَو لِأَن الظُّلم وصل بِهِ على
الْإِسْنَاد الْمجَازِي، وَقيل: مَعْنَاهُ: لعرق ذِي ظلم،
قَالَ ابْن حبيب: بَلغنِي عَن ربيعَة أَنه قَالَ: الْعرق
الظَّالِم عرقان ظَاهر وباطن، فالباطن مَا احتفره الرجل من
الْآبَار، وَالظَّاهِر الْغَرْس، وَعنهُ: الْعُرُوق
أَرْبَعَة: عرقان فَوق الأَرْض وهما: الْغَرْس والنبات،
وعرقان فِي جوفها: الْمِيَاه والمعادن. وَفِي (الْمعرفَة)
للبيهقي: قَالَ الشَّافِعِي: جماع الْعرق الظَّالِم كل مَا
حفر أَو غرس أَو بنى ظلما فِي حق امرىء بِغَيْر خُرُوجه
مِنْهُ. وَفِي كتاب (الْخراج) لِابْنِ آدم: عَن
الثَّوْريّ، وَسُئِلَ عَن الْعرق الظَّالِم، فَقَالَ: هُوَ
المنتزى. قلت: من انتزى على أرضي إِذا أَخذهَا وَهُوَ من
بَاب الافتعال من: النزو، بالنُّون وَالزَّاي، وَهُوَ:
الوثبة، وَعند النَّسَائِيّ، عَن عُرْوَة بن الزبير: هُوَ
الرجل يعْمل الأَرْض الخربة وَهِي للنَّاس وَقد عجزوا
عَنْهَا فتركوها حَتَّى خربَتْ.
ويُرْوَى فيهِ عنْ جابِر عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
أَي: يرْوى فِي هَذَا الْبَاب عَن جَابر بن عبد الله عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ الْكرْمَانِي:
وَإِنَّمَا لم يذكر الْمَرْوِيّ بِعَيْنِه لِأَنَّهُ
لَيْسَ بِشَرْطِهِ، بل لَيْسَ صَحِيحا عِنْده، وَلِهَذَا
قَالَ: يرْوى، ممرضاً. قلت: نفس الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا عبد
الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب عَن هِشَام بن عُرْوَة
عَن وهب بن كيسَان عَن جَابر بن عبد الله عَن النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة
فَهِيَ لَهُ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يحيى بن
أَيُّوب بن إِبْرَاهِيم عَن الثَّقَفِيّ وَعَن عَليّ بن
مُسلم عَن عباد بن عباد عَن هِشَام بن عُرْوَة، وَلَفظه:
من أحيى أَرضًا ميتَة فَلهُ فِيهَا أجر، وَمَا أكلت
العوافي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَة، وروى التِّرْمِذِيّ
أَيْضا من حَدِيث سعيد بن زيد عَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ
وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن
غَرِيب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا، وروى أَبُو دَاوُد
أَيْضا من حَدِيث سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: من أحَاط حَائِطا على أَرض فَهِيَ لَهُ، وروى
ابْن عدي من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهُوَ
أَحَق بهَا، وَإِسْنَاده ضَعِيف، وروى ابْن عدي أَيْضا من
حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
من عمر أَرضًا خراباً فَأكل مِنْهَا سبع أَو طَائِر أَو
شَيْء كَانَ لَهُ ذَلِك صَدَقَة، وَفِي إِسْنَاده سَلمَة
بن سُلَيْمَان الضَّبِّيّ، قَالَ: ابْن عدي مُنكر الحَدِيث
عَن الثِّقَات، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من
حَدِيث مَرْوَان بن الحكم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: الْبِلَاد بِلَاد الله والعباد عباد
الله. وَمن أحَاط على حَائِط فَهُوَ لَهُ. وروى
الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِيهِ من حَدِيث عبد الله بن عمر،
وَقَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من
أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق،
وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أسمر بن مُضرس من رِوَايَة
عقيلة بنت أسمر عَن أَبِيهَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من سبق إِلَى مَا لم يسْبقهُ
إِلَيْهِ مُسلم فَهُوَ لَهُ.
(12/175)
5332 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ
حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ جَعْفَرٍ عنْ
مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمانِ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أعْمرَ أرْضاً لَيْسَتْ لأحَدٍ
فَهُوَ أحَقُّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبيد الله بن أبي
جَعْفَر وَاسم أبي جَعْفَر: يسَار الْأمَوِي الْقرشِي
الْمصْرِيّ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْأسود
يَتِيم عُرْوَة بن الزبير، وَقد تقدما فِي الْغسْل. وَنصف
الْإِسْنَاد الأول مصريون وَالنّصف الثَّانِي مدنيون.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أعمر) بِفَتْح الْهمزَة من بَاب الْأَفْعَال من
الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ، وَقَالَ عِيَاض: كَذَا وَقع،
وَالصَّوَاب عمر ثلاثياً قَالَ تَعَالَى: {وعمروها أَكثر
مِمَّا عمروها} (الرّوم: 9) . وَكَذَا قَالَ فِي
(الْمطَالع) وَقَالَ ابْن بطال: وَيحْتَمل أَن يكون أَصله:
من اعْتَمر أَرضًا، وَسَقَطت التَّاء من الأَصْل. قلت: لَا
حَاجَة إِلَى هَذَا الْكَلَام مَعَ مَا فِيهِ من توهم
الْغَلَط، لِأَن صَاحب (الْعين) ذكر: أعمرت الأَرْض،
وَقَالَ غَيره: يُقَال: أعمر الله بَاب مَنْزِلك،
فَالْمُرَاد من أعمر أَرضًا بِالْإِحْيَاءِ فَهُوَ أَحَق،
أَي: أَحَق بِهِ من غَيره، وَإِنَّمَا حذف هَذَا الَّذِي
قدرناه للْعلم بِهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: من
أعمر، على بِنَاء الْمَجْهُول أَي: من أعْمرهُ غَيره،
فَالْمُرَاد من الْغَيْر الإِمَام، وَهَذَا يدل على أَن
إِذن الإِمَام لَا بُد مِنْهُ، وَوَقع فِي (جمع الْحميدِي)
: من عمر، ثلاثياً، وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ
من وَجه آخر: عَن يحيى بن بكير شيخ البُخَارِيّ فِيهِ.
قَوْله: (فَهُوَ أَحَق) ، زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فَهُوَ
أَحَق بهَا) ، أَي: من غَيره، وَاحْتج بِهِ الشَّافِعِي
وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد على أَنه لَا يحْتَاج فِيهِ
إِلَى إِذن الإِمَام فِيمَا قرب وَفِيمَا بعد، وَعَن
مَالك: فِيمَا قرب لَا بُد من إِذن الإِمَام وَإِن كَانَ
فِي فيافي الْمُسلمين والصحارى وَحَيْثُ لَا يتشاح النَّاس
فِيهِ فَهِيَ لَهُ بِغَيْر إِذْنه، وَقَالَ أَبُو حنيفَة:
لَيْسَ لأحد أَن يحيي مواتاً إلاَّ بِإِذن الإِمَام فِيمَا
بَعدت وَقربت، فَإِن أَحْيَاهُ بِغَيْر إِذْنه لم يملكهُ،
وَبِه قَالَ مَالك فِي رِوَايَة، وَهُوَ قَول مَكْحُول
وَابْن سِيرِين وَابْن الْمسيب وَالنَّخَعِيّ.
وَاحْتج أَبُو حنيفَة بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(لَا حمى إلاَّ لله وَلِرَسُولِهِ) فِي (الصَّحِيحَيْنِ)
والحمى: مَا حمي من الأَرْض فَدلَّ أَن حكم الْأَرْضين
إِلَى الْأَئِمَّة لَا إِلَى غَيرهم. فَإِن قلت: احْتج
الطَّحَاوِيّ لِلْجُمْهُورِ مَعَ حَدِيث الْبَاب
بِالْقِيَاسِ على مَاء الْبَحْر وَالنّهر، وَمَا يصاد من
طير وحيوان، فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على أَن مَا أَخذه أَو
صَاده ملكه، سَوَاء قرب أَو بعد، وَسَوَاء أذن الإِمَام أم
لم يَأْذَن. قلت: هَذَا قِيَاس بالفارق، فَإِن الإِمَام
لَا يجوز لَهُ تمْلِيك مَاء نهر لأحد، وَلَو ملك رجلا
أَرضًا ملكه، وَلَو احْتَاجَ الإِمَام إِلَى بيعهَا فِي
نَوَائِب الْمُسلمين جَازَ بَيْعه لَهَا، وَلَا يجوز ذَلِك
فِي مَائِهِمْ وَلَا صيدهم وَلَا نهرهم، وَلَيْسَ
للْإِمَام بيعهَا وَلَا تمليكها لأحد، وَإِن الإِمَام
فِيهَا كَسَائِر النَّاس. وَاحْتج بَعضهم لأبي حنيفَة
بِحَدِيث معَاذ يرفعهُ: (إِنَّمَا للمرء مَا طابت بِهِ نفس
إِمَامه) . قلت: هَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث
بَقِيَّة عَن رجل لم يسمه عَن مَكْحُول عَنهُ، وَقَالَ:
هَذَا مُنْقَطع فِيمَا بَين مَكْحُول وَمن فَوْقه، وَفِيه
رجل مَجْهُول، وَلَا حجَّة فِي مثل هَذَا الْإِسْنَاد.
فَإِن قلت: رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث عَمْرو بن
وَاقد عَن مُوسَى بن يسَار عَن مَكْحُول عَن جُنَادَة بن
أبي أُميَّة عَن معَاذ؟ قلت: قَالَ: عَمْرو مَتْرُوك
بِاتِّفَاق.
وَأجِيب: عَن أَحَادِيث الْبَاب بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن
يكون مَعْنَاهَا: من أَحْيَاهَا على شَرَائِط الْإِحْيَاء
فَهِيَ لَهُ، وَمن شَرَائِطه: تحظيرها، وَإِذن لَهُ فِي
ذَلِك، وتمليكه إِيَّاهَا. وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ
أَحْمد عَن سَمُرَة بن جُنْدُب، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب،
وَعَن الطَّحَاوِيّ: عَن مُحَمَّد بن عبيد الله بن سعيد
أبي عون الثَّقَفِيّ الْأَعْوَر الْكُوفِي التَّابِعِيّ،
قَالَ: خرج رجل من أهل الْبَصْرَة يُقَال لَهُ: أَبُو عبد
الله إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِن
بِأَرْض الْبَصْرَة أَرضًا لَا تضر بِأحد من الْمُسلمين
وَلَيْسَ بِأَرْض خراج. فَإِن شِئْت أَن تقطعنيها اتخذها
قضباً وَزَيْتُونًا! فَكتب عمر إِلَى أبي مُوسَى: إِن
كَانَت حمى فاقطعها إِيَّاه، أفَلاَ تَرى أَن عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، لم يَجْعَل لَهُ أَخذهَا وَلَا جعل
لَهُ ملكهَا إلاَّ بإقطاع خَليفَة ذَلِك الرجل إِيَّاهَا
وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ يَقُول لَهُ: وَمَا حَاجَتك إِلَى
إقطاعي إياك تحميها وتعمرها فتملكها فَدلَّ ذَلِك أَن
الْإِحْيَاء عِنْد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، هُوَ
مَا أذن الإِمَام فِيهِ للَّذي يَتَوَلَّاهُ ويملكه
إِيَّاه. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد دلّ على ذَلِك أَيْضا
مَا حَدثنَا بِهِ ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا أَزْهَر
السمان عَن ابْن عون عَن مُحَمَّد، قَالَ: قَالَ عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لنا رِقَاب الأَرْض، فَدلَّ
ذَلِك على أَن رِقَاب الْأَرْضين كلهَا إِلَى أَئِمَّة
الْمُسلمين، وَأَنَّهَا لَا تخرج من أَيْديهم إلاَّ
بإخراجهم إِيَّاهَا إِلَى من رَأَوْا على حسن النّظر
(12/176)
مِنْهُم للْمُسلمين إِلَى عمَارَة
بِلَادهمْ، وصلاحها. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَهَذَا قَول أبي
حنيفَة، وَبِه نَأْخُذ.
قَالَ عُرْوَةُ قَضَىَ بِهِ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ فِي خِلافَتِهِ
أَي: قَالَ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام: قضى بالحكم
الْمَذْكُور وَهُوَ أَن من: أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ
عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَيَّام
خِلَافَته، وَقد تقدم فِي أول الْبَاب عَن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: من أحيى أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ. وَقد
ذكرنَا أَن مَالِكًا وَصله، وَهَذَا قَوْله، وَالَّذِي
رَوَاهُ عُرْوَة فعله، وَفِي (كتاب الْخراج) ليحيى بن آدم:
من طَرِيق مُحَمَّد بن عبيد الله الثَّقَفِيّ، قَالَ: كتب
عمر بن الْخطاب: من أحيى مواتاً من الأَرْض فَهُوَ أَحَق
بِهِ، وروى من وَجه آخر عَن عَمْرو بن شُعَيْب أَو غَيره:
أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: من عطل أَرضًا
ثَلَاث سِنِين لم يعمرها فجَاء غَيره فعمرها فَهِيَ لَهُ،
وَعنهُ قَالَ أَصْحَابنَا: إِنَّه إِذا حجر أَرضًا وَلم
يعمرها ثَلَاث سِنِين أَخذهَا الإِمَام وَدفعهَا إِلَى
غَيره، لِأَن التحجير لَيْسَ بإحياء ليتملكها بِهِ، لِأَن
الإحيار هُوَ الْعِمَارَة، والتحجير للإعلام. وَذكر فِي
(الْمُحِيط) أَنه يصير ملكا للمحجر، وَذكر خُوَاهَر زادة:
أَن التحجير يُفِيد ملكا مؤقتاً إِلَى ثَلَاث سِنِين،
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي الْأَصَح، وَأحمد. وَالْأَصْل
عندنَا: أَن من أحيى مواتاً هَل يملك رقبَتهَا؟ قَالَ
بَعضهم: لَا يملك رقبَتهَا، وَإِنَّمَا يملك استغلالها،
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي قَول. وَعند عَامَّة
الْمَشَايِخ، يملك رقبَتهَا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد
وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَثَمَرَة الْخلاف فِيمَن
أَحْيَاهَا ثمَّ تَركهَا فزرعها غَيره، فعلى قَول
الْبَعْض: الثَّانِي أَحَق بهَا، وعَلى قَول الْعَامَّة
الأول يَنْزِعهَا من الثَّانِي كمن أخرب دَاره أَو عطل
بستانه وَتَركه حَتَّى مرت عَلَيْهِ سنُون، فَإِنَّهُ لَا
يخرج عَن ملكه، وَلَكِن إِذا حجرها وَلم يعمرها ثَلَاث
سِنِين يَأْخُذهَا الإِمَام كَمَا ذكرنَا، وَتَعْيِين
الثَّلَاث بأثر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ
عندنَا: يملكهُ الذِّمِّيّ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسلمِ،
وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة. وَقَالَ
الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة: لَا يملكهُ فِي دَار
الْإِسْلَام، وَسَوَاء فِي ذَلِك الْحَرْبِيّ وَالذِّمِّيّ
والمستأمن، وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي بِحَدِيث أسمر بن
مُضرس، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا
بِعُمُوم الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب،
وَحكى الرَّافِعِيّ عَن الْأُسْتَاذ أبي طَاهِر: أَن
الذِّمِّيّ يملك بِالْإِحْيَاءِ إِذا كَانَ بِإِذن
الإِمَام.
61 - (177 بابٌ)
قد ذكرنَا غير مرّة أَن لَفْظَة بَاب، إِذا ذكرت مُجَرّدَة
عَن التَّرْجَمَة تكون بِمَعْنى الْفَصْل من الْبَاب
السَّابِق، وَلَيْسَ فِيهِ تَنْوِين، لِأَن الْإِعْرَاب
لَا يكون إلاَّ بعد العقد والتركيب، أللهم إلاَّ إِذا
قُلْنَا: هَذَا بَاب، فَيكون حِينَئِذٍ منوناً مَرْفُوعا
على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف.
6332 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْماعِيلُ بنُ
جَعْفَرَ عنْ مُوسَى بنِ عقْبَةَ عنْ سَالِمِ بنِ عَبْدِ
الله بنِ عُمَرَ عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرِيَ وهْوَ فِي
مُعَرَّسِهِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ فِي بَطْنِ الوَادِي
فَقِيلَ لَهُ إنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ فَقَالَ
موسَى وقَدْ أناخَ بِنا سالِمٌ بالمُناخِ الَّذِي كانَ
عبدُ الله يُنِيخُ بِهِ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رسولِ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ أسْفَلُ مِنَ المَسْجِدِ
الَّذِي بِبَطْنِ الوَادِي بَيْنَهُ وبَيْنَ الطَّرِيقِ
وسَطٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَجه دُخُول هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب من حَيْثُ
إِنَّه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن ذَا الحليفة لَا يملك
بِالْإِحْيَاءِ لما فِيهِ من منع النَّاس النُّزُول فِيهِ،
وَأَن الْموَات يجوز الِانْتِفَاع بِهِ، وَأَنه غير
مَمْلُوك لأحد، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ فِي وَجه
الْمُطَابقَة، وَقد تكلم الْمُهلب فِيهِ بِمَا لَا يجدي،
ورد عَلَيْهِ ابْن بطال بِمَا لَا ينفع، وَجَاء آخر نصر
الْمُهلب فِي ذَلِك، وَالْكل لَا يشفي العليل وَلَا يروي
الغليل، فَلذَلِك تَرَكْنَاهُ، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث
فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم العقيق وادٍ مبارك، فَإِنَّهُ رَوَاهُ
هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن أبي
(12/177)
بكر عَن فُضَيْل بن سُلَيْمَان عَن مُوسَى
بن عقبَة إِلَى آخِره. وَأخرجه هُنَاكَ: عَن قُتَيْبَة بن
سعيد عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أبي إِبْرَاهِيم
الْأنْصَارِيّ الْمُؤَدب الْمَدِينِيّ عَن مُوسَى بن عقبَة
بن أبي عَيَّاش الْأَسدي الْمَدِينِيّ ... إِلَى آخِره،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (أرى) على بِنَاء الْمَجْهُول من الْمَاضِي من
الإراءة، والمناخ بِضَم الْمِيم. قَوْله: (أَسْفَل)
بِالرَّفْع وَالنّصب، والمعرس، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين
الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء الْمَفْتُوحَة: مَوضِع
التَّعْرِيس، وَهُوَ النُّزُول فِي آخر اللَّيْل.
7332 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرَنا
شُعَيْبُ بنُ إسْحَاقَ عنِ الأوْزَاعِيِّ قَالَ حدَّثني
يَحْيَى عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنْ عُمَرَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ اللَّيْلَةَ أتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي وهْوَ
بالْعَقِيقِ أنْ صَلِّ فِي هذَا الوَادِي المُبَارَكِ
وقُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ. (انْظُر الحَدِيث 4351 وطرفه)
.
هَذَا أَيْضا مضى فِي كتاب الْحَج فِي الْبَاب الَّذِي
ذَكرْنَاهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن
الْوَلِيد وَبشر بن بكر التنيسِي، قَالَا: حَدثنَا
الْأَوْزَاعِيّ ... إِلَى آخِره، نَحوه وَهنا أخرجه: عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن رَاهَوَيْه عَن شُعَيْب بن
إِسْحَاق الدِّمَشْقِي عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو
الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي كثير ... إِلَى آخِره،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
71 - (بابٌ إذَا قالَ رَبُّ الأرْضَ أُقِرُّكَ مَا
أقَرَّكَ الله ولَمْ يَذْكُرْ أجَلاً مَعْلُوماً فَهُمَا
علَى تَرَاضِيهِما)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ رب الأَرْض
للمزارع: أقرك مَا أقرك الله، أَي مُدَّة إِقْرَار الله
تَعَالَى إياك. قَوْله: (وَلم يذكر) ، أَي: وَالْحَال أَن
رب الأَرْض لم يذكر أَََجَلًا مَعْلُوما، يَعْنِي: مُدَّة
مَعْلُومَة. قَوْله: (فهما) ، أَي: رب الأَرْض والمزارع،
(على تراضيهما) ، يَعْنِي: على مَا تَرَاضيا عَلَيْهِ.
8332 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ المقْدَامِ قَالَ حدَّثنا
فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا موسَى قَالَ
أخْبرَنا نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَقَالَ عبدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ
قَالَ حدَّثني موسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ
عُمرَ أنَّ عُمرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
أجْلَى الْيَهُودَ والنَّصارَى مِنْ أرْضِ الحِجَازِ وكانَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا ظَهَرَ علَى
خَيْبَرَ أرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْها وكانَتِ
الأرْضُ حِينَ ظَهَرَ علَيْها لله ولِرَسُولهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ولِلْمُسْلِمينَ وأرَادَ إخْرَاجَ
اليَهُودِ مِنْها فَسأَلَتِ اليَهودُ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِيُقِرَّهُمْ بِها أنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا
ولَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ فَقَالَ لَهُم رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم نُقِرُّكُمْ بِها علَى ذَلِكَ مَا
شِئْنا فقَرُّوا بِها حتَّى أجْلاهُمْ عُمَرُ إلَى
تَيْمَاءَ وأرِيحاءَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نقركم بهَا على ذَلِك
مَا شِئْنَا) .
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: أَحْمد بن الْمِقْدَام،
بِكَسْر الْمِيم: ابْن سُلَيْمَان أَبُو الْأَشْعَث
الْعجلِيّ. الثَّانِي: فُضَيْل مصغر فضل بن سُلَيْمَان
النميري، مضى فِي الصَّلَاة. الثَّالِث: مُوسَى بن عقبَة
بن أبي عَيَّاش. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر.
الْخَامِس: عبد الله بن عمر. السَّادِس: عبد الرَّزَّاق بن
همام الْحِمْيَرِي. السَّابِع: عبد الْملك بن عبد
الْعَزِيز بن جريج.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: الْإِخْبَار
(12/178)
بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه:
العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده،
وَأَنه وفضيل ابْن سُلَيْمَان بصريان وَأَن مُوسَى بن
عقبَة مدنِي. وَأَن عبد الرَّزَّاق يمامي وَأَن ابْن جريج
مكي وَأَن نَافِعًا مدنِي. وَفِيه: أَنه أخرجه مَوْصُولا
من طَرِيق فُضَيْل ومعلقاً من طَرِيق ابْن جريج، وَأَنه
سَاقه على لفظ الرِّوَايَة الْمُعَلقَة. وَأخرج الْمُعَلق
مُسْندًا فِي كتاب الْخمس، فَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن
الْمِقْدَام حَدثنَا الفضيل بن سُلَيْمَان حَدثنَا مُوسَى
بن عقبَة أَخْبرنِي نَافِع، وَطَرِيق ابْن جريج أخرجه
مُسلم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْبيُوع عَن
مُحَمَّد بن رَافع وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا
عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أجْلَى) قَالَ الْهَرَوِيّ: جلا
الْقَوْم عَن مواطنهم، وَأجلى بِمَعْنى وَاحِد، والإسم:
الْجلاء والإجلاء، يُقَال: جلاء عَن الوطن يجلو جلا، وأجلي
يجلي إجلاء: إِذا خرج مفارقاً، وجلوته أَنا وأجليته،
وَكِلَاهُمَا لَازم ومتعد. قَوْله: (من أَرض الْحجاز) ،
قَالَ الْوَاقِدِيّ: الْحجاز من الْمَدِينَة إِلَى تَبُوك،
وَمن الْمَدِينَة إِلَى طَرِيق الْكُوفَة، وَمن وَرَاء
ذَلِك إِلَى مَشَارِق أَرض الْبَصْرَة، فَهُوَ نجد. وَمَا
بَين الْعرَاق وَبَين وجرة وَعمرَة الطَّائِف نجد، وَمَا
كَانَ من وَرَاء وجرة إِلَى الْبَحْر فَهُوَ تهَامَة،
وَمَا كَانَ بَين تهَامَة ونجد فَهُوَ حجاز، وَإِنَّمَا
سمي حجازاً لِأَنَّهُ يحجز بَين تهَامَة ونجد. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الْحجاز هُوَ مَكَّة وَالْمَدينَة واليمن
ومخاليفها وعمارتها. قلت: لم أدر من أَيْن أَخذ
الْكرْمَانِي أَن الْيمن من الْحجاز؟ نعم، هِيَ من
جَزِيرَة الْعَرَب. قَالَ الْمَدِينِيّ: جَزِيرَة الْعَرَب
خَمْسَة أَقسَام: تهَامَة ونجد وحجاز وعروض ويمن، وَلم
يذكر أحد أَن الْيمن من أَرض الْحجاز. قَوْله: (وَكَانَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) ، إِلَى آخِره،
مَوْصُولا لِابْنِ عمر. قَوْله: (لما ظهر) أَي: غلب.
قَوْله: (لله وَلِرَسُولِهِ وللمسلمين) ، كَذَا فِي
الْأُصُول، وَكَذَا عِنْد ابْن السكن عَن الْفربرِي، وَفِي
رِوَايَة فُضَيْل بن سُلَيْمَان الَّتِي تَأتي: وَكَانَت
الأَرْض لما ظهر عَلَيْهَا للْيَهُود وَلِلرَّسُولِ
وللمسلمين، ووفق الْمُهلب بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن
رِوَايَة ابْن جريج مَحْمُولَة على الْحَال الَّتِي آل
إِلَيْهَا الْأَمر بعد الصُّلْح، وَرِوَايَة فُضَيْل
مَحْمُولَة على الْحَال الَّتِي كَانَت قبل، وَذَلِكَ أَن
خَيْبَر فتح بَعْضهَا صلحا وَبَعضهَا عنْوَة، فَالَّذِي
فتح عنْوَة كَانَ جَمِيعه لله وَلِرَسُولِهِ وللمسلمين،
وَالَّذِي فتح صلحا كَانَ للْيَهُود ثمَّ صَار للْمُسلمين
بِعقد الصُّلْح. قَوْله: (ليقرهم) أَي: ليسكنهم. قَوْله:
(أَن يكفوا بهَا) أَي: بِأَن يكفوا بهَا، وَكلمَة: أَن،
مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: لكفاية عمل نخيلاتها ومزارعها
وَالْقِيَام بتعهدها وعمارتها، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن
عبد الرَّزَّاق: أَن يقرهم بهَا على أَن يكفوا، أَي: على
كفايتها. قَوْله: (على ذَلِك) أَي: على مَا ذكر من
كِفَايَة الْعَمَل وَنصف الثَّمر لَهُم. قَوْله: (فقروا
بهَا) ، بِفَتْح الْقَاف، أَي: سكنوا بهَا أَي: بِخَيْبَر،
وَضَبطه بَعضهم بِضَم الْقَاف، وَله وَجه. قَوْله: (إِلَى
تيماء وأريحاء) ، تيماء بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالمد: من أُمَّهَات
الْقرى على الْبَحْر من بِلَاد طَيء، وَمِنْهَا يخرج إِلَى
الشَّام. قَالَه ابْن قرقول، وَفِي (الْمغرب) ؛ تيماء
مَوضِع قريب من الْمَدِينَة. وأريحاء، بِفَتْح الْهمزَة
وَكسر الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا حاء
مُهْملَة، وبالمد، وَيُقَال لَهَا: أُرِيح أَيْضا، وَهِي
قَرْيَة بِالشَّام. قَالَه الْبكْرِيّ: سميت بأريحاء بن
لمك بن أرفخشذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: تمسك بعض
أهل الظَّاهِر على جَوَاز الْمُسَاقَاة إِلَى أجل مَجْهُول
بقوله: نقركم بهَا على ذَلِك مَا شِئْنَا، وَجُمْهُور
الْفُقَهَاء على: أَنَّهَا لَا تجوز إلاَّ لأجل مَعْلُوم،
قَالُوا: وَهَذَا الْكَلَام كَانَ جَوَابا لما طلبُوا حِين
أَرَادَ إخراجهم مِنْهَا، فَقَالُوا: نعمل فِيهَا وَلكم
النّصْف ونكفيكم مؤونة الْعَمَل، فَلَمَّا فهمت الْمصلحَة
أجابهم إِلَى الْإِبْقَاء وَوَقفه على مَشِيئَته، وَبعد
ذَلِك عاملهم على الْمُسَاقَاة، وَقد دلّ على ذَلِك قَول
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: عَامل رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أهل خَيْبَر على شطر مَا يخرج
مِنْهَا، ففرد العقد بِالذكر دون ذكر الصُّلْح، وَزعم
النَّوَوِيّ: أَن الْمُسَاقَاة جَازَت للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة فِي أول الْإِسْلَام، يَعْنِي:
بِغَيْر أجل مَعْلُوم. قَالَ: وَقَالَ أَبُو ثَوْر: إِذا
أطلقا الْمُسَاقَاة اقْتضى ذَلِك سنة وَاحِدَة، قَالَ ابْن
بطال: وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن. قلت: لَيْسَ هَذَا
قَول مُحَمَّد بن الْحسن، وَهَذَا غلط، وَإِنَّمَا هُوَ
قَول مُحَمَّد بن سَلمَة، فَإِنَّهُ قَالَ: تجوز
الْمُزَارعَة بِلَا بَيَان الْمدَّة، فَكَذَلِك
الْمُسَاقَاة تجوز لِأَنَّهَا كالمزارعة. وَقَالَ صَاحب
(الْهِدَايَة) : وَشرط بَيَان الْمدَّة فِي الْمُسَاقَاة
لِأَنَّهَا كالمزارعة، وكل وَاحِد مِنْهُمَا
كَالْإِجَارَةِ فَلَا يجوز إلاَّ بِبَيَان الْمدَّة،
فَإِذا لم يبينا لم تجز، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد،
إلاَّ أَنه يَنْبَغِي أَن يكون أقل الْمدَّة مَا يُمكن
إِدْرَاك الثَّمَرَة فِيهِ، وَبِه قَالَ أَحْمد.
وَاخْتلفت أَقْوَال الشَّافِعِي فِي
(12/179)
أَكثر مُدَّة الْإِجَارَة وَالْمُسَاقَاة،
فَقَالَ فِي مَوضِع: سنة، وَقَالَ فِي مَوضِع: إِلَى
ثَلَاثِينَ سنة. وَقَالَ ابْن قدامَة فِي (الْمُغنِي) ؛
وَهَذَا تحكم. وَقَالَ فِي مَوضِع: إِلَى مَا شَاءَ وَبِه
قَالَ أَحْمد. وَقَالَ أَصْحَابنَا فِي الِاسْتِحْسَان:
إِذا لم يبين الْمدَّة يجوز، وَيَقَع على أول ثَمَر يخرج
فِي تِلْكَ السّنة. فَإِن قلت: قد ذكرت الْآن: إِذا لم
يبينا الْمدَّة لم يجز، وَهنا نقُول: يجوز؟ قلت: ذَاك
قِيَاس وَهَذَا اسْتِحْسَان، وَيَقَع العقد على أول
ثَمَرَة تخرج فِي تِلْكَ السّنة، لِأَن لإدراكها وقتا
مَعْلُوما وَإِن تَأَخّر أَو تقدم، فَذَلِك يسير فَلَا
يَقع بِسَبَبِهِ الْمُنَازعَة عَادَة، بِخِلَاف الزَّرْع
فَإِنَّهُ لَا يجوز بِلَا ذكر الْمدَّة قِيَاسا
واستحساناً، لِأَن ابتداءه يخْتَلف كثيرا خَرِيفًا وصيفاً
وربيعاً، فَتَقَع الْجَهَالَة فِي الِابْتِدَاء والانتهاء
بِنَاء عَلَيْهِ، وَلَو لم تخرج الثَّمَرَة فِي
الْمُسَاقَاة فِي أول السّنة الَّتِي وَقع العقد فِيهَا
بِدُونِ ذكر الْمدَّة تبطل الْمُسَاقَاة. وَفِي
(التَّوْضِيح) : كل من أجَاز الْمُسَاقَاة فَإِنَّهُ
أجازها إِلَى أجل مَعْلُوم، إلاَّ مَا ذكر ابْن الْمُنْذر
عَن بَعضهم: أَنه يؤول الحَدِيث على جَوَازهَا بِغَيْر
أجل، وأئمة الْفَتْوَى على خِلَافه، وَأَنَّهَا لَا تجوز
إلاَّ بِأَجل مَعْلُوم. وَقَالَ مَالك: الْأَمر عندنَا فِي
النّخل تساقي السنتين وَالثَّلَاث والأربع، والأقل
وَالْأَكْثَر،، وأجازها أَصْحَابه فِي عشر سِنِين فَمَا
دونهَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فَإِن قيل: لم ينص ابْن
عمر وَلَا غَيره على مُدَّة مَعْلُومَة مِمَّن روى هَذِه
الْقِصَّة، فَمن أَيْن لكم اشْتِرَاط الْأَجَل؟
فَالْجَوَاب: أَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد على منع
الْإِجَارَة المجهولة. وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (أقركم مَا أقره الله) ، لَا يُوجب فَسَاد عقده،
وَيُوجب فَسَاد عقد غَيره بعده، لِأَنَّهُ كَانَ ينزل
عَلَيْهِ الْوَحْي بتقرير الْأَحْكَام ونسخها، فَكَانَ
بَقَاء حكمه مَوْقُوفا على تَقْرِير الله تَعَالَى لَهُ،
فَإِذا شَرط ذَلِك فِي عقده لم يُوجب فَسَاده، وَلَيْسَ
كَذَلِك صورته من غَيره، لِأَن الْأَحْكَام قد ثبتَتْ
وتقررت.
وَفِيه: مساقاته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على نصف
الثَّمر تَقْتَضِي عُمُوم الثَّمر، فَفِيهِ حجَّة لمن
أجازها فِي الْأُصُول كلهَا، وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى
وَمَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف، وَبِه
قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَقَالَ
الشَّافِعِي: لَا يجوز إلاَّ فِي النّخل وَالْكَرم
خَاصَّة، وجوزها فِي الْقَدِيم فِي سَائِر الْأَشْجَار
المثمرة. وَقَالَ أَصْحَابنَا: تجوز الْمُسَاقَاة فِي
النّخل وَالشَّجر وَالْكَرم والرطاب وأصول الباذنجان، وَلم
يجوز الشَّافِعِي قولا وَاحِدًا فِي الرطاب، وَقَالَ
دَاوُد: لَا يجوز إلاَّ فِي النّخل خَاصَّة، وَعَن مَالك:
جَوَاز الْمُسَاقَاة فِي المقاثي والبطيخ والباذنجان.
وَفِيه: إجلاء عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْيَهُود
من الْحجاز، لِأَنَّهُ لم يكن لَهُم عهد من النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، على بقائهم فِي الْحجاز دَائِما، بل
كَانَ ذَلِك مَوْقُوفا على مَشِيئَته، وَلما عهد، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، عِنْد مَوته بإخراجهم من جَزِيرَة
الْعَرَب، وانتهت النّوبَة إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أخرجهم إِلَى تيماء وأريحاء بِالشَّام.
81 - (بابُ مَا كانَ مِنْ أصْحَابِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُوَاسي بَعْضُهُمْ بَعْضاً فِي
الزِّرَاعَةِ والثَّمرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا كَانَ، أَي: وجد، وَوَقع
من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله:
(يواسي) ، من الْمُسَاوَاة وَهِي الْمُشَاركَة فِي شَيْء
بِلَا مُقَابلَة مَال، وَهِي جملَة وَقعت حَالا من
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
9332 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ مُقاتِل قَالَ أخبرنَا عبدُ
الله قَالَ أخبرنَا الأوْزَاعِيُّ عنْ أبِي النَّجاشِيِّ
مَوْلَى رافِعِ بنِ خَدِيجٍ قَالَ سَمِعْتُ رَافِع بنَ
خَديجِ بنِ رَافِعٍ عنْ عَمِّهِ ظهيرِ بنِ رافِعٍ قَالَ
ظُهَيْرٌ لَقَدْ نَهانا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عنْ أمْرٍ كانَ بِنا رافِقاً قُلْتُ مَا قَالَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهْوَ حَقٌّ قَالَ دَعانِي
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا تَصْنَعُونَ
بِمَحَاقِلِكُمْ قلْتُ نُؤَاجِرُها علَى الرُّبعِ وعَلى
الأوْسُقِ مِنَ التَّمْرِ والشَّعِيرِ قَالَ لاَ
تَفْعَلُوا ازْرَعُوها أوْ أزْرِعُوها أوْ أمْسِكُوها
قَالَ رَافِعٌ قُلْتُ سَمعاً وطَاعَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو أزرِعوها) يَعْنِي:
أعطوها لغيركم يَزْرَعهَا بِغَيْر أُجْرَة، وَهَذِه هِيَ
الْمُوَاسَاة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل، وَقد
تكَرر ذكره. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك.
الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ.
الرَّابِع: أَبُو النَّجَاشِيّ، بِفَتْح النُّون
وَتَخْفِيف الْجِيم وَكسر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد
الْيَاء وتخفيفها: واسْمه عَطاء بن صُهَيْب، مولى رَافع بن
خديج. الْخَامِس: هُوَ رَافع بن خديج، بِفَتْح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره
(12/180)
جِيم: ابْن رَافع الْأنْصَارِيّ.
السَّادِس: ظهير، بِضَم الظَّاء الْمُعْجَمَة وَفتح
الْهَاء مصغر ظهر ابْن رَافع الْأنْصَارِيّ، عَم رَافع بن
خديج.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه:
العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي
مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مروزيان
وَالْأَوْزَاعِيّ شَامي والبقية مدنيون. وَفِيه:
الْأَوْزَاعِيّ عَن أبي النَّجَاشِيّ عَطاء، وروى
الْأَوْزَاعِيّ أَيْضا، كَمَا فِي ثَانِي أَحَادِيث
الْبَاب، معنى الحَدِيث عَن عَطاء عَن جَابر، وَهُوَ عَطاء
بن أبي رَبَاح، فَكَانَ الحَدِيث عِنْده عَن كل مِنْهُمَا
بِسَنَدِهِ، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من وَجه آخر
إِلَى الْأَوْزَاعِيّ: حَدثنِي أَبُو النَّجَاشِيّ.
وَفِيه: سَمِعت رَافع بن خديج. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من
وَجه آخر عَن الْأَوْزَاعِيّ: حَدثنِي أَبُو النَّجَاشِيّ:
قَالَ: صَحِبت رَافع بن خديج سِتّ سِنِين ...
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن
إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن أبي مسْهر. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْمُزَارعَة عَن هِشَام بن عمار عَن
يحيى بن حَمْزَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الْأَحْكَام عَن دُحَيْم عَن الْوَلِيد ابْن مُسلم عَن
الْأَوْزَاعِيّ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لقد نَهَانَا) ، بَينه فِي آخر
الحَدِيث بقوله: لَا تَفعلُوا فَإِنَّهُ نهى صَرِيحًا.
قَوْله: (رافقاً) أَي: ذَا رفق، وانتصابه على أَنه خبر
كَانَ، واسْمه الضَّمِير الَّذِي فِي كَانَ الَّذِي يرجع
إِلَى قَوْله: أَمر، وَيجوز أَن يكون إِسْنَاد الرِّفْق
إِلَى الْأَمر بطرِيق الْمجَاز. قَوْله: (بمحاقلكم) ،
بمزارعكم، جمع محقل من الحقل، وَهُوَ الزَّرْع. قَوْله:
(على الرّبع) ، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْبَاء وَهِي
رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: على
الرّبيع، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْبَاء، وَهُوَ النَّهر
الصَّغِير أَي: على الزَّرْع الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَفِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: على الرّبيع، بِالتَّصْغِيرِ.
قَوْله: (وعَلى الأوسق) ، جمع وسق، وَكلمَة: الْوَاو،
بِمَعْنى: أَو، أَي: أَو الرّبيع، وَكَذَا: الأوسق،
وَيحْتَمل أَن يكون عَن مؤاجرة الأَرْض بِالثُّلثِ أَو
الرّبع مَعَ اشْتِرَاط صَاحب الأَرْض أوسقاً من الشّعير
وَنَحْوه. قَوْله: (ازرعوها) ، بِكَسْر الْهمزَة: أَمر من
زرع يزرع يَعْنِي: ازرعوها بِأَنْفُسِكُمْ. قَوْله: (أَو
أزرِعوها) ، بِفَتْح الْهمزَة من: الإزراع، يَعْنِي:
أزرِعوها غَيْركُمْ، يَعْنِي أعطوها لغيركم يزرعونها بِلَا
أُجْرَة، وَكلمَة: أَو، للتَّخْيِير لَا للشَّكّ. وَقيل:
كلمة: أَو، بِمَعْنى الْوَاو. قلت: بل هُوَ تَخْيِير من
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الْأُمُور
الثَّلَاثَة: أَن يزرعوا بِأَنْفسِهِم، أَو يجعلوها مزرعة
للْغَيْر مجَّانا، أَو يمسكوها معطلة. قَوْله: (سمعا
وَطَاعَة) ، بِالنّصب وَالرَّفْع، قَالَه الْكرْمَانِي
وَلم يبين وَجهه. قلت: أما النصب فعلى أَنه مصدر لفعل
مَحْذُوف تَقْدِيره: أسمع كلامك سمعا، وأطيعك طَاعَة.
وَأما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: كلامك
أَو أَمرك سمع أَي مسموع، وَفِيه مُبَالغَة، وَكَذَلِكَ
التَّقْدِير فِي: طَاعَة، أَي: أَمرك طَاعَة، يَعْنِي:
مُطَاع، أَو: أَنْت مُطَاع فِيمَا تَأمره.
وَاحْتج بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور قوم، وكرهوا إِجَارَة
الأَرْض بِجُزْء مِمَّا يخرج عَنْهَا، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب ذكر مُجَردا عقيب: بَاب قطع
الشّجر النخيل.
0432 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسى قَالَ أخبرنَا
الأوْزَاعِيُّ عنْ عَطاءٍ عنْ جابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ قَالَ كَانُوا يَزْرَعُونَها بالثُّلُثِ والرُّبُعِ
والنِّصْفِ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ
كانَتْ لَهُ أرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أوْ لِيَمْنَحْها فإنْ
لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أرْضَهُ. (الحَدِيث 0432 طرفه
فِي: 2362) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَو ليمنحها) فَإِن
المنحة هِيَ الْمُوَاسَاة، وَعبيد الله بن مُوسَى أَبُو
مُحَمَّد الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَالْأَوْزَاعِيّ عبد
الرَّحْمَن وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة عَن
مُحَمَّد بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن الحكم
بن مُوسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُزَارعَة عَن
هِشَام بن عمار عَن يحيى بن حَمْزَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِي الْأَحْكَام عَن دُحَيْم.
قَوْله: (كَانُوا) ، أَي: الصَّحَابَة فِي عصر النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بِالثُّلثِ وَالرّبع
وَالنّصف) أَي: أَو الرّبع أَو النّصْف. وَكلمَة: الْوَاو
فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنى: أَو. قَوْله: (أَو ليمنحها)
، من: منح يمنح من بَاب فتح يفتح، إِذا أعْطى، ومنح يمنح
من بَاب ضرب
(12/181)
يضْرب، وَالِاسْم: المنحة، بِالْكَسْرِ
وَهِي: الْعَطِيَّة، والمنيحة منحة اللَّبن كالناقة أَو
الشَّاة تعطيها غَيْرك يحتلبها، ثمَّ يردهَا عَلَيْك،
واستمنحه: طلب منحته، وروى مُسلم من حَدِيث مطر الْوراق
عَن جَابر بِلَفْظ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: من كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها، فَإِن عجز
عَنْهَا فليمنحها أَخَاهُ الْمُسلم وَلَا يؤاجرها. وَبِه
احْتج أَيْضا من كره إِجَارَة الأَرْض بِالثُّلثِ أَو
الرّبع وَنَحْوهمَا.
1432 - وَقَالَ الرَّبِيعُ بنُ نافِعٍ أبُو تَوْبَةَ
حَدثنَا مُعاوِيَةُ عنْ يَحْيَى عنْ أبِي سلَمَةَ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ كانَتْ لَهُ أرْضٌ
فَلْيَزْرَعْها أوْ لِيَمْنَحْها أخاهُ فَإِن أَبى
فَلْيُمْسِكْ أرْضَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث
السَّابِق. الرّبيع خلاف الخريف ابْن نَافِع ضد الضار
وَأَبُو تَوْبَة كنيته بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة:
الْحلَبِي الْحَافِظ الثِّقَة كَانَ يعد من الأبدال، مَاتَ
سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ سكن طرسوس
وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر
فِي الطَّلَاق، وَمُعَاوِيَة هُوَ ابْن سَلام، بتَشْديد
اللَّام، مر فِي الْكُسُوف، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن حسن الْحلْوانِي.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن إِبْرَاهِيم بن
سعيد الْجَوْهَرِي، كِلَاهُمَا عَن أبي تَوْبَة بِهِ.
2432 - حدَّثنا قَبِيصَةُ قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ
عَمْرٍ وَقَالَ ذَكَرْتُهُ لِطاوُوسٍ فَقَالَ يُزْرِعُ
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَنْهَ عنْهُ
ولَكِنْ قَالَ أنْ يَمْنَحَ أحَدُكُمْ أخاهُ خَيْرٌ لَهُ
مِنْ أنْ يَأخُذَ شَيْئاً مَعْلوماً. .
قبيصَة، هُوَ بِفَتْح الْقَاف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة:
ابْن عقبَة الْكُوفِي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ،
وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
قَوْله: (ذكرته) أَي: قَالَ عَمْرو: ذكرت حَدِيث رَافع بن
خديج الْمَذْكُور آنِفا لطاووس، وَهُوَ الحَدِيث الَّذِي
فِيهِ النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض. قَوْله: (فَقَالَ:
يزرع) أَي: فَقَالَ طَاوُوس: يزرع، بِضَم الْيَاء من
الإزراع يَعْنِي: يزرع غَيره. قَوْله: (قَالَ ابْن
عَبَّاس) إِلَى آخِره، فِي معرض التَّعْلِيل من جِهَة
طَاوُوس، يَعْنِي: لِأَن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ينْه عَنهُ، أَي: لم ينْه عَن
الزَّرْع، يَعْنِي: لم يحرمه، وَصرح بذلك التِّرْمِذِيّ،
فَقَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان حَدثنَا الْفضل بن
مُوسَى الشَّيْبَانِيّ حَدثنَا شريك عَن شُعْبَة عَن
عَمْرو بن دِينَار عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحرم
الْمُزَارعَة، وَلَكِن أَمر أَن يرفق بَعضهم بِبَعْض، ثمَّ
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ:
حَدِيث رَافع حَدِيث فِيهِ اضْطِرَاب، يرْوى هَذَا
الحَدِيث عَن رَافع بن خديج عَن عمومته، وَرُوِيَ عَنهُ
عَن ظهير بن رَافع وَهُوَ أحد عمومته، وَقد رُوِيَ عَنهُ
هَذَا الحَدِيث على رِوَايَات مُخْتَلفَة، وَقَالَ
الْخطابِيّ: وَقد عقل ابْن عَبَّاس الْمَعْنى من الْخَبَر
وَأَن لَيْسَ المُرَاد بِهِ تَحْرِيم الْمُزَارعَة بِشَطْر
مَا يخرج من الأَرْض، فَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك أَن
يتمانحوا أراضيهم وَأَن يرفق بَعضهم بَعْضًا. وَقد ذكر
رَافع فِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب
النَّوْع الَّذِي حرم مِنْهَا، وَالْعلَّة من أجلهَا نهى
عَنْهَا، وَذَلِكَ قَوْله: كَانَ النَّاس يؤاجرون على عهد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الماذيانات وإقبال
الجداول وأسباع من الزَّرْع، فأعلمك فِي هَذَا الحَدِيث
أَن الْمنْهِي عَنهُ هُوَ الْمَجْهُول مِنْهُ دون
الْمَعْلُوم، وَأَنه كَانَ من عَادَتهم أَن يشترطوا فِيهَا
شُرُوطًا فَاسِدَة، وَأَن يستثنوا من الزَّرْع مَا على
السواني والجداول، وَيكون خَاصّا لرب الأَرْض، والمزارعة
وَحِصَّة الشَّرِيك لَا يجوز أَن تكون مَجْهُولَة، وَقد
يسلم مَا على السواني والجداول وَيهْلك سَائِر الزَّرْع
فَيبقى الْمزَارِع لَا شَيْء لَهُ، وَهَذَا خطر. قَوْله:
(وَلَكِن قَالَ) ، أَي: ابْن عَبَّاس. قَوْله: (أَن يمنح
أحدكُم) ، قد ذكرنَا وَجه هَذَا فِي لفظ: بَاب، الَّذِي
ذكر مُجَردا عقيب: بَاب إِذا لم يشْتَرط السنين فِي
الْمُزَارعَة، لِأَنَّهُ روى عَن ابْن عَبَّاس هُنَاكَ مثل
هَذَا، وَقد أمعنا الْكَلَام فِيهِ.
3432 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا
حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي
الله تَعَالَى
(12/182)
عَنْهُمَا كانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ على
عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بَكْرٍ
وعُمَرَ وعُثْمانَ وصَدْراً مِنْ إمَارَةِ مُعاوِيَةَ.
(الحَدِيث 3432 طرفه فِي: 5432) .
4432 - ثُمَّ حُدِّثَ عنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ أنَّ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنْ كِرَاءِ
المَزَارِعِ فَذَهَبَ ابنُ عُمَرَ إِلَى رَافِعٍ فذَهَبْتُ
مَعَهُ فسَألَهُ فقالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عنْ كِرَاءِ المَزَارِعِ فَقَالَ ابنُ عُمَرَ قدْ
عَلِمْتَ أنَّا كنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنا علَى عَهْدِ
رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِما على الأرْبِعاءِ
وبِشيْءٍ مِنَ التِّبْنِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من حَيْثُ إِن رَافع بن خديج
لما روى النَّهْي عَن كِرَاء الْمزَارِع يلْزم مِنْهُ
عَادَة أَن أَصْحَاب الأَرْض إِمَّا يزرعون بِأَنْفسِهِم
أَو يمنحون بهَا لمن يزرع من غير بدل فَتحصل فِيهِ
الْمُوَاسَاة، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، وَفِي بعض النّسخ
هُوَ مَذْكُور باسم أَبِيه، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
قَوْله: (كَانَ يكْرِي) ، بِضَم الْيَاء من الإكراء.
قَوْله: (أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان) ، أَي: وَفِي عهد أبي
بكر وعهد عمر وعهد عُثْمَان، وَالْمرَاد أَيَّام خلافتهم.
فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يَذكر عَليّ بن أبي طَالب؟ قلت:
لَعَلَّه لم يزرع فِي أَيَّامه، وَهَذَا أحسن من قَول
بَعضهم، وَإِنَّمَا لم يذكر ابْن عمر عليا لِأَنَّهُ لم
يبايعه لوُقُوع الِاخْتِلَاف عَلَيْهِ، وَفِي الْقلب من
هَذَا حزازة. قَوْله: (وصدراً)
قَوْله: (من إِمَارَة مُعَاوِيَة) ، بِكَسْر الْهمزَة،
قَالَ بَعضهم: أَي خِلَافَته. قلت: هَذَا التَّفْسِير
لَيْسَ بِشَيْء، وَإِنَّمَا قَالَ: فِي إمارته، لِأَنَّهُ
كَانَ لَا يُبَايع لمن لم يجْتَمع عَلَيْهِ النَّاس،
وَمُعَاوِيَة لم يجْتَمع عَلَيْهِ النَّاس، وَلِهَذَا لم
يُبَايع لِابْنِ الزبير وَلَا لعبد الْملك فِي حَال
اخْتِلَافهمَا.
قَوْله: (ثمَّ حدث) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: ثمَّ
حدث ابْن عمر، أَي: أخبر عَن رَافع، وَهَكَذَا فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَحدث،
بِفَتْح الْحَاء على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَفِي رِوَايَة
ابْن مَاجَه: عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يكْرِي
أرضه فَأَتَاهُ إِنْسَان فَأخْبرهُ عَن رَافع الحَدِيث.
قَوْله: (فَذَهَبت مَعَه) ، الْقَائِل بِهَذَا نَافِع،
أَي: ذهبت مَعَ ابْن عمر. قَوْله: (قد علمت) ، بِفَتْح
التَّاء، خطاب لرافع. (على الْأَرْبَعَاء) جمع: ربيع،
وَهُوَ النَّهر الصَّغِير، وروى الطَّحَاوِيّ بِمثلِهِ فِي
مَعْنَاهُ، فَقَالَ: حَدثنَا ربيع الجيزي، قَالَ: حَدثنَا
حسان بن غَالب، قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن
عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع، أَن رَافع بن خديج أخبر
عبد الله بن عمر، وَهُوَ متكىء على يَدي: أَن عمومته جاؤوا
إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رجعُوا
فَقَالُوا: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى
عَن كِرَاء الْمزَارِع، فَقَالَ ابْن عمر: قد علمنَا أَنه
كَانَ صَاحب مزرعة يكريها على عهد رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، على أَن لَهُ مَا فِي ربيع السواقي
الَّذِي تفجر مِنْهُ المَاء وَطَائِفَة من التِّبْن وَلَا
أَدْرِي مَا هُوَ. انْتهى. حَاصِل حَدِيث ابْن عمر هَذَا
أَنه يُنكر على رَافع إِطْلَاقه فِي النَّهْي عَن كِرَاء
الْأَرَاضِي، وَيَقُول الَّذِي نَهَاهُ عَنهُ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، هُوَ الَّذِي كَانُوا يدْخلُونَ فِيهِ
الشَّرْط الْفَاسِد، وَهُوَ أَنهم يشترطون مَا على
الْأَرْبَعَاء وَطَائِفَة من التِّبْن، وَهُوَ مَجْهُول،
وَقد يسلم هَذَا ويصيب غَيره آفَة أَو بِالْعَكْسِ،
فَتَقَع الْمُنَازعَة فَيبقى الْمزَارِع أَو رب الأَرْض
بِلَا شَيْء، وَأما النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض بِبَعْض
مَا يخرج مِنْهَا إِذا كَانَ ثلثا أَو ربعا أَو مَا أشبه
ذَلِك فَلم يثبت.
5432 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عَن عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أَخْبرنِي
سالِمٌ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ أعْلَمُ فِي عَهْدِ رسولِ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ الأرْضَ تُكْرَى ثُمَّ خَشِيَ
عبدُ الله أنْ يَكُونَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَدْ أحْدَث فِي ذَلِكَ شَيْئا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ
فتَرَكَ كِرَاءَ الأرْضِ. (انْظُر الحَدِيث 3432) .
ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث استظهاراً لحَدِيث رَافع
مَعَ علمه بِأَن الأَرْض كَانَت تكرى على عهد النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه
(12/183)
خشِي أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قد أحدث فِي ذَلِك أَي: حكم بِمَا هُوَ نَاسخ لما
كَانَ يُعلمهُ من جَوَاز ذَلِك، فَترك كِرَاء الأَرْض.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق شُعَيْب بن اللَّيْث عَن أَبِيه
مَوْصُولا، وأوله: أَن عبد الله كَانَ يكْرِي أرضه حَتَّى
بلغه أَن رَافع بن خديج ينْهَى عَن كِرَاء الأَرْض
فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا ابْن خديج! مَا هَذَا؟ قَالَ:
سَمِعت عمي، وَكَانَا قد شَهدا بَدْرًا يحدثان أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن كِرَاء الأَرْض،
فَقَالَ عبد الله: قد كنت أعلم فِي عهد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الأَرْض تكرى، ثمَّ خشِي عبد الله
أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحدث فِي
ذَلِك شَيْئا لم يكن علمه، فَترك كِرَاء الأَرْض. وَقد
احْتج بِهَذَا من كره إِجَارَة الأَرْض بِجُزْء مِمَّا
يخرج مِنْهَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
91 - (بابُ كِرَاءِ الأرْضِ بالذَّهَبِ والْفِضَّةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم كِرَاء الأَرْض بِالذَّهَب
وَالْفِضَّة، وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن
كِرَاء الأَرْض بِالذَّهَب وَالْفِضَّة غير مَنْهِيّ
عَنهُ، وَإِنَّمَا النَّهْي الَّذِي ورد عَن كِرَاء
الأَرْض فِيمَا إِذا أكريت بِشَيْء مَجْهُول، وَهَذَا هُوَ
الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور، وَدلّ عَلَيْهِ أَيْضا
حَدِيث الْبَاب، وَقد مر أَن طَائِفَة قَليلَة لم يجوزوا
كِرَاء الأَرْض مُطلقًا.
وَقَالَ ابنُ عبَّاسٍ إنَّ أمْثَلَ مَا أنْتُمْ صانِعُونَ
أنْ تَسْتَأْجِرُوا الأرْضَ الْبَيْضَاءَ مِنَ السَّنةِ
إلَى السَّنَةِ هَذَا التَّعْلِيق وَصله وَكِيع فِي
(مُصَنفه) عَن سُفْيَان عَن عبد الْكَرِيم عَن سعيد بن
جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِن أمثل مَا أَنْتُم
صانعون أَن تستأجروا الأَرْض الْبَيْضَاء بِالذَّهَب
وَالْفِضَّة. قَوْله: (إِن أمثل) ، أَي: أفضل، وَفِي
(مُصَنف) ابْن أبي شيبَة حكى جَوَاز ذَلِك عَن سعد بن أبي
وَقاص، وَسَعِيد بن الْمسيب وَابْن جُبَير وَسَالم
وَعُرْوَة وَمُحَمّد بن مُسلم وَإِبْرَاهِيم وَأبي جَعْفَر
مُحَمَّد ابْن عَليّ بن الْحُسَيْن، وَحكي جَوَاز ذَلِك
عَن رَافع مَرْفُوعا. وَفِي حَدِيث سعيد بن زيد: وأمرنا
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نكريها بِالذَّهَب
وَالْوَرق، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الصَّحَابَة على
جَوَازه، وَقَالَ ابْن بطال: قد ثَبت عَن رَافع مَرْفُوعا
أَن كِرَاء الأَرْض بالنقدين جَائِز، وَهُوَ خَاص يقْضِي
على الْعَام الَّذِي فِيهِ النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض
بِغَيْر اسْتثِْنَاء ذهب وَلَا فضَّة، وَالزَّائِد من
الْأَخْبَار أولى أَن يُؤْخَذ بِهِ لِئَلَّا تتعارض
الْأَخْبَار فَيسْقط شَيْء مِنْهَا. فَإِن قلت: روى
التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا هناد حَدثنَا أَبُو بكر ابْن
عَيَّاش عَن أبي حُصَيْن عَن مُجَاهِد عَن رَافع بن خديج،
قَالَ: نَهَانَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
عَن أَمر كَانَ لنا نَافِعًا إِذا كَانَت لِأَحَدِنَا أَرض
أَن نعطيها بِبَعْض خراجها أَو بِدَرَاهِم؟ وَقَالَ: إِذا
كَانَت لأحدكم أَرض فليمنحها أَخَاهُ أَو ليزرعها. قلت:
أَبُو بكر بن عَيَّاش فِيهِ مقَال، وَقَالَ النَّسَائِيّ:
هُوَ مُرْسل، وَهُوَ كَمَا قَالَ: فَإِن مُجَاهدًا لم
يسمعهُ من رَافع، سقط بَينهمَا ابْن لرافع ابْن خديج كَمَا
رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) من رِوَايَة عَمْرو بن
دِينَار أَن مُجَاهدًا قَالَ لطاووس: انْطلق بِنَا إِلَى
ابْن رَافع بن خديج فاسمع مِنْهُ الحَدِيث عَن أَبِيه،
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبد الْكَرِيم
الْجَزرِي عَن مُجَاهِد، قَالَ: أخذت بيد طَاوُوس حَتَّى
أدخلته على ابْن رَافع بن خديج فحدثه عَن أَبِيه، قَالَ
شَيخنَا: وَيحْتَمل أَن الَّذِي سقط بَينهمَا أسيد بن ظهير
ابْن أخي رَافع، فقد رَوَاهُ كَذَلِك أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة مَنْصُور عَن
مُجَاهِد عَن أسيد بن ظهير عَنهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ
أَيْضا من رِوَايَة سعيد بن عبد الرَّحْمَن عَن مُجَاهِد
عَن أسيد بن أبي رَافع.
7432 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ خَالِدٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيثُ عَن رَبِيعَةَ بنِ أبِي عبدِ الرَّحْمان عنْ
حَنْظَلَةَ ابنِ قَيْسٍ عنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ قَالَ
حدَّثنِي عَمَّايَ أنَّهُمْ كانُوا يُكْرُونَ الأرْضَ على
عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يَنْبُتُ
عَلَى الأرْبِعَاءِ أوْ شَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صاحبُ
الأرْضِ فنَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ
ذَلِكَ فقُلْتُ لِرَافِعٍ فَكَيْفَ هِيَ بالدِّينَارِ
والدِّرْهَمِ فَقَالَ رَافِعٌ لَيْسَ بِها بأسٌ
بالدِّينارِ والدِّرْهَمِ. (الحَدِيث 7432 طرفه فِي: 3104)
.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقَالَ رَافع: لَيْسَ
بهَا) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عَمْرو، بِفَتْح الْعين:
ابْن خَالِد بن فروخ. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد.
الثَّالِث: ربيعَة، بِفَتْح الرَّاء: ابْن أبي عبد
الرَّحْمَن، واسْمه: فروخ، مولى الْمُنْكَدر بن عبد الله،
(12/184)
ويكنى: أَبَا عُثْمَان، وَهُوَ الَّذِي
يُسمى: ربيعَة الرَّأْي. الرَّابِع: حَنْظَلَة بن قيس
الزرقي الْأنْصَارِيّ. الْخَامِس: رَافع بن خديج.
السَّادِس وَالسَّابِع: عماه، فأحدهما، ظهير، وَالْآخر
قَالَ الكلاباذي: لم أَقف على اسْمه. وَقيل: اسْمه مظهر،
بِضَم الْمِيم وَفتح الظَّاء وَتَشْديد الْهَاء
الْمَكْسُورَة، كَذَا ضَبطه عبد الْغَنِيّ وَابْن
مَاكُولَا، وَقيل: اسْمه مهير، كَذَا ذكره فِي (مُعْجم
الصَّحَابَة) لِلْبَغوِيِّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع.
وَفِيه: أَن شَيْخه حراني جزري سكن مصر، وَمَات بهَا سنة
تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَأَن
اللَّيْث مصري، والبقية مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة
تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ وهما ربيعَة وحَنْظَلَة. وَفِيه:
رِوَايَة صَحَابِيّ عَن صحابيين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (على الْأَرْبَعَاء) ، قد مر عَن
قريب أَنه جمع: الرّبيع، وَهُوَ النَّهر الصَّغِير.
قَوْله: (يستثنيه صَاحب الأَرْض) ، كاستثناء الثُّلُث أَو
الرّبع من المزروع لصَاحب الأَرْض. قَوْله: (فَقلت لرافع)
الْقَائِل هُوَ حَنْظَلَة بن قيس. قَوْله: (كَيفَ هِيَ) ،
ويروى: (فَكيف هِيَ) ، بِالْفَاءِ أَي: كَيفَ
الْمُزَارعَة، يَعْنِي: كَيفَ حكمهَا بالدينار
وَالدِّرْهَم؟ قَوْله: (فَقَالَ رَافع) إِلَى آخِره،
فَقَوْل رَافع يحْتَمل أَن يكون بِاجْتِهَاد مِنْهُ،
وَيحْتَمل أَن يكون علم ذَلِك بطرِيق التَّنْصِيص على
جَوَازه، أوعلم أَن جَوَاز الْكِرَاء بالدينار
وَالدِّرْهَم غير دَاخل فِي النَّهْي عَن كِرَاء الأَرْض
بِجُزْء مِمَّا يخرج مِنْهَا، وَمِمَّا يدل على كَون مَا
قَالَه مَرْفُوعا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
بِإِسْنَاد صَحِيح من طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَن رَافع بن
خديج، قَالَ: (نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
عَن المحاقلة والمزابنة وَقَالَ: إِنَّمَا يزرع ثَلَاثَة:
رجل لَهُ أَرض، وَرجل منح أَرضًا، وَرجل أَكْرِي أَرضًا
بِذَهَب أَو فضَّة) . وَفِيه نظر، لِأَن النَّسَائِيّ
قَالَ بعد أَن رَوَاهُ: إِن الْمَرْفُوع مِنْهُ النَّهْي
عَن المحاقلة والمزابنة، وَإِن بَقِيَّته مدرجة من كَلَام
سعيد بن الْمسيب.
وَقَالَ اللَّيْثُ أراهُ وَكَانَ الَّذِي نُهِيَ عنْ
ذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذَوُو الفَهْمِ بالحَلالِ
والحَرَامِ لَمْ يُجِيزُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ
المُخَاطَرَةِ
وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول إِلَى اللَّيْث،
رَحمَه الله أَي: قَالَ اللَّيْث بن سعد: أرَاهُ أَي:
أَظُنهُ، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى شَيْخه
ربيعَة الْمَذْكُور فِي إِسْنَاد الحَدِيث، وَمعنى:
أَظُنهُ أَنه لم يجْزم بِرِوَايَة شَيْخه لَهُ، وَوَقع فِي
رِوَايَة أبي ذَر هُنَا: قَالَ أَبُو عبد الله، من هَهُنَا
قَالَ أَبُو اللَّيْث: أرَاهُ، وَأَبُو عبد الله هُوَ
البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (ذَوُو الْفَهم بالحلال
وَالْحرَام لم يجيزوه) ، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ
وَابْن شبويه: (ذُو الْفَهم) ، بِالْإِفْرَادِ، وَكَذَا
وَقع: لم يجزه، بِالْإِفْرَادِ، قَوْله: (لما فِيهِ من
المخاطرة) ، وَهِي الإشراف على الْهَلَاك، ثمَّ اخْتلفُوا
فِي هَذَا النَّقْل عَن اللَّيْث: هَل هُوَ فِي نفس
الحَدِيث أم مدرج، فَعِنْدَ النَّسَفِيّ وَابْن شبويه:
مدرج، وَلِهَذَا سقط هَذَا عِنْدهمَا، وَقَالَ
الْبَيْضَاوِيّ: الظَّاهِر من السِّيَاق أَنه من كَلَام
رَافع، وَقَالَ التوربشتي شَارِح (المصابيح) لم يتَبَيَّن
لي أَن هَذِه الزِّيَادَة من قَول بعض الروَاة، أَو من
قَول البُخَارِيّ، وَقيل: أَكثر الطّرق فِي البُخَارِيّ
تبين أنَّها من كَلَام اللَّيْث وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
(بابٌ)
كَذَا وَقع لفظ: بَاب، مُجَردا عَن التَّرْجَمَة عِنْد
جَمِيع الروَاة، وَهُوَ كالفصل من الْبَاب الَّذِي قبله،
وَهُوَ غير منون، لِأَن التَّنْوِين عَلامَة الْإِعْرَاب،
وَالْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بعد العقد والتركيب، أللهم
إلاَّ إِذا قُلْنَا: تَقْدِيره: هَذَا بَاب، فَيكون
حِينَئِذٍ معرباً على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف.
8432 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدَّثنا
فُلَيْحٌ قَالَ حدَّثنا هِلالٌ ح وحدَّثنا عَبدُ الله بنُ
مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا أَبُو عامِرٍ قَالَ حَدثنَا
فلَيْحٌ عنْ هِلاَلِ بنِ عَلِيٍّ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَوماً يُحَدِّثُ
وعِنْدَهُ رجُلٌ مِنْ أهْلِ البَادِيَةِ أنَّ رَجُلاً مِنْ
أهْلِ الجَنَّةِ
(12/185)
اسْتأذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فَقَالَ
لَهُ ألَسْتَ فِيما شِئْتَ قَالَ بَلى ولَكِنِّي أحِبُّ
أنْ أزْرَعَ قَالَ فَبَذَرَ فبَادَرَ الطَّرْفَ نباتُهُ
واسْتوَاؤُهُ واسْتِحْصَادُهُ فكَانَ أمْثال الجِبالِ
فيَقُولُ الله تَعَالَى دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ فإنَّهُ
لاَ يُشْبِعُكَ شيءٌ فَقَالَ الأعْرَابِيُّ وَالله لَا
تَجِدُهُ إلاَّ قُرَشِيَّاً أوْ أنْصَاريَّاً فإنَّهُمْ
أصْحابُ زَرْعٍ وأمَّا نَحْنُ فلَسْنَا بأصْحَابِ زَرْعٍ
فضَحِكَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (الحَدِيث 8432
طرفه فِي: 9157) .
وَجه إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب يُمكن أَن
يكون فِي قَوْله: فَإِنَّهُم أَصْحَاب زرع مَعَ
التَّنْبِيه على أَن أَحَادِيث النَّهْي عَن كِرَاء
الأَرْض إِنَّمَا هُوَ نهي تَنْزِيه لَا نهي تَحْرِيم،
لِأَن الزَّرْع لَو لم يكن من الْأُمُور الَّتِي يحرض
فِيهَا بالاستمرار عَلَيْهِ لما تمنى الرجل الْمَذْكُور
فِيهِ الزَّرْع فِي الْجنَّة مَعَ عدم الِاحْتِيَاج
إِلَيْهِ فِيهَا.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: مُحَمَّد بن سِنَان،
بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون وَفِي
آخِره نون أَيْضا، وَقد تقدم فِي أول الْعلم. الثَّانِي:
فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان،
وَقد تقدم فِي أول الْعلم. الثَّالِث: هِلَال بن عَليّ،
وَهُوَ هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن
أبي، وَيُقَال: هِلَال بن أُسَامَة. الرَّابِع: عبد الله
بن مُحَمَّد بن عبد الله الْمَعْرُوف بالمسندي. الْخَامِس:
أَبُو عَامر عبد الْملك بن عَمْرو بن قيس الْعَقدي.
السَّادِس: عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين تقدم فِي
الْإِيمَان. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
سِتَّة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن فليحاً وهلالاً وَعَطَاء مدنيون، وَأَن عبد
الْملك بَصرِي وَأَن شَيْخه عبد الله بن مُحَمَّد
البُخَارِيّ، وَأَنه من أَفْرَاده، وَكَذَلِكَ مُحَمَّد بن
سِنَان من أَفْرَاده. وَفِيه: أَنه سَاق الحَدِيث على لفظ
الْإِسْنَاد الثَّانِي، وَفِي كتاب التَّوْحِيد على لفظ
مُحَمَّد بن سِنَان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن
مُحَمَّد بن سِنَان وَهُوَ من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَعِنْده رجل) ، جملَة حَالية.
قَوْله: (من أهل الْبَادِيَة) ، وَفِي رِوَايَة: من أهل
البدو، وهما من غير همز، لِأَنَّهُ من: بدا الرجل يَبْدُو،
إِذا خرج إِلَى الْبَادِيَة، وَالِاسْم: البداوة، بِفَتْح
الْبَاء وَكسرهَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَحكى: بَدَأَ
بِالْهَمْز يبْدَأ، وَهُوَ قَلِيل. قَوْله: (أَن رجلا) ،
بِفَتْح همزَة: أَن، لِأَنَّهُ فِي مَحل المفعولية.
قَوْله: (اسْتَأْذن ربه فِي الزَّرْع) أَي: فِي مُبَاشرَة
الزَّرْع، يَعْنِي: سَأَلَ الله تَعَالَى أَن يزرع.
قَوْله: (أَلَسْت فِيمَا شِئْت؟) وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد
بن سِنَان: أولست فِيمَا شِئْت، بِزِيَادَة الْوَاو،
وَمعنى هَذَا اسْتِفْهَام على سَبِيل التَّقْرِير،
يَعْنِي: أولست كَائِنا فِيمَا شِئْت من التشهيات، قَالَ:
بلَى، الْأَمر كَذَلِك، وَلَكِن أحب الزَّرْع. قَوْله:
(فبذر) ، يَعْنِي ألقِي الْبذر، وَفِيه حذف تَقْدِيره:
فَأذن لَهُ بالزرع فَعِنْدَ ذَلِك قَامَ وَرمى الْبذر على
أَرض الْجنَّة فنبت فِي الْحَال واستوى، وَأدْركَ حَصَاده
فَكَانَ كل حَبَّة مثل الْحَبل. قَوْله: (فبادر) ، وَفِي
رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان: فأسرع فتبادر. قَوْله:
(الطّرف) ، مَنْصُوب بقوله: فبادر، و: نَبَاته، بِالرَّفْع
فَاعله. قَالَ ابْن قرقول: الطّرف: بِفَتْح الطَّاء
وَسُكُون الرَّاء: هُوَ امتداد لحظ الْإِنْسَان حَيْثُ
أدْرك. وَقيل: طرف الْعين، أَي: حركتها، أَي: تحرّك
أجفانها. قَوْله: (واستحصاده) ، من الحصد، وَهُوَ قلع
الزَّرْع، وَالْمعْنَى: أَنه لما بزر لم يكن بَين ذَلِك
وَبَين اسْتِوَاء الزَّرْع ونجاز أمره كُله من الْقلع
والحصد والتذرية وَالْجمع إلاَّ قدر لمحة الْبَصَر.
قَوْله: (دُونك) ، بِالنّصب على الإغراء، أَي: خُذْهُ.
قَوْله: (فَإِنَّهُ) ، أَي: فَإِن الشَّأْن لَا يشبعك
شَيْء، من الإشباع، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن سِنَان:
لَا يسعك، بِفَتْح الْيَاء وَالسِّين الْمُهْملَة وَضم
الْعين، وَله معنى صَحِيح. قَوْله: (فَقَالَ الْأَعرَابِي)
، هُوَ ذَلِك الرجل الَّذِي كَانَ عِنْده من أهل
الْبَادِيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن فِي الْجنَّة يُوجد
كل مَا تشْتَهي الْأَنْفس من أَعمال الدُّنْيَا ولذاتها،
قَالَ الله تَعَالَى: {وفيهَا مَا تشتهيه الْأَنْفس وتلذ
الْأَعْين} (الزخرف: 17) . وَفِيه: أَن من لزم طَريقَة أَو
حَالَة من الْخَيْر أَو الشَّرّ أَنه يجوز وَصفه بهَا
وَلَا حرج على واصفه. وَفِيه: مَا جبل الله نفوس بني آدم
عَلَيْهِ من الاستكثار وَالرَّغْبَة فِي مَتَاع الدُّنْيَا
إلاَّ أَن الله تَعَالَى أغْنى أهل الْجنَّة عَن نصب
الدُّنْيَا وتعبها. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى فضل القناعة
وذم الشره. وَفِيه: الْإِخْبَار عَن الْأَمر الْمُحَقق
الْآتِي بِلَفْظ الْمَاضِي، فَافْهَم.
(12/186)
12 - (بابُ مَا جاءَ فِي الْغَرْسِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ مَا جَاءَ فِي غرس مَا يغْرس
من أصُول النباتات.
9432 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
يَعْقوبُ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ سَهْلِ بنِ سعْدٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ قالَ إنَّا كُنَّا نَفْرَحُ
بِيَوْمِ الجُمُعَةِ كانَتْ لَنا عَجُوزٌ تأخُذُ مِنْ
أصُولِ سِلْقٍ لَنا كُنَّا نَغرُسُهُ فِي أرْبِعَائِنَا
فتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا فتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ
مِنْ شَعِيرٍ لَا أعْلَمُ إلاَّ أنَّهُ قَالَ لَيسَ فِيهِ
شَحْمٌ ولاَ ودَكٌ فإذَا صلَّيْنَا الجُمُعَةُ زُرْنَاهَا
فقَرَّبَتْهُ إلَيْنَا فَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ
الجُمُعَةِ مِنْ أجْلِ ذَلِكَ وَمَا كُنَّا نتَغَدَّى ولاَ
نَقِيلُ إلاَّ بَعْدَ الجُمُعَةِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: كُنَّا نغرسه فِي
أربعائنا، وإدخاله هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْمُزَارعَة
من حَيْثُ إِن الْغَرْس وَالزَّرْع من بَاب وَاحِد، وَقد
مضى الحَدِيث فِي آخر الْجُمُعَة فِي: بَاب قَول الله عز
وَجل: {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض
وابتغوا من فضل الله} (الْجُمُعَة: 01) . فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ مقطعاً بطريقين، وَفِيهِمَا اخْتِلَاف بِبَعْض
زِيَادَة ونقصان. الطَّرِيق الأول: عَن سعيد ابْن أبي
مَرْيَم عَن أبي غَسَّان عَن أبي حَازِم عَن سهل بن سعد.
وَالثَّانِي: عَن عبد الله بن مسلمة عَن ابْن أبي حَازِم
عَن سهل، وَهَهُنَا أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن
يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْقَارِي من
قارة، حَيّ من الْعَرَب، أَصله مدنِي سكن الاسكندرية، عَن
أبي حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: سَلمَة بن
دِينَار الْأَعْرَج الْمدنِي، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
قَوْله: (فِي أربعائنا) ، قد مر عَن قريب أَن
الْأَرْبَعَاء جمع: ربيع، وَهُوَ النَّهر الصَّغِير،
وَمَعْنَاهُ كُنَّا نغرسه على الْأَنْهَار والسلق، بِكَسْر
السِّين الْمُهْملَة: والودك، بِفتْحَتَيْنِ، دسم
اللَّحْم. قَوْله: (لَا أعلم إِلَّا أَنه قَالَ: لَيْسَ
فِيهِ شَحم وَلَا ودك) ، من قَول يَعْقُوب الرَّاوِي.
0532 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنِ الأعْرَجِ عنْ
أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ
يَقُولُونَ إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الحَدِيثَ
وَالله المَوْعِدُ ويَقولُونَ مَا لِلْمُهَاجرينَ
والأنْصارَ لاَ يُحدِّثونَ مِثْلَ أحادِيثِهِ وإنَّ
إخْوَتِي مِنَ المُهَاجِرِينَ كانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ
بالأسْوَاقِ وإنَّ إخْوَتِي مِنَ الأنْصَارِ كانَ
يَشْغَلهمْ عَمَلُ أمْوَالِهِمْ وكُنْتُ امْرَءًا
مِسْكِيناً ألْزَمُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَلَى ملءِ بَطْنِي فأحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ وأعِي حِينَ
يَنْسَوْنَ وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَوْماً لَنْ يَبْسُطَ أحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى
أقْضِي مقَالَتي هَذِهِ ثُمَّ يَجْمَعَهُ إلَى صَدْرِهِ
فَيَنْسَى مِنْ مَقَالَتِي شَيْئاً أبدا فبَسَطْتُ
نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غَيْرُها حتَّى قَضَى
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَالَتَهُ ثُمَّ
جَمَعْتُها إلَى صَدْرِي فَوالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ
مَا نَسِيتُ مِنْ مَقالَتِهِ تِلْكَ إلَى يَوْمِي هَذا
وَالله لَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتابِ الله مَا
حَدَّثْتُكُمْ شَيْئاً أبَداً {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ
مَا أنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ} إِلَى قوْلِه:
{الرَّحِيمُ} (الْبَقَرَة: 951) . .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِن إخْوَانِي من
الْأَنْصَار كَانَ يشغلهم عمل أَمْوَالهم) ، فَإِن
المُرَاد من ذَلِك عَمَلهم فِي الْأَرَاضِي
(12/187)
بالزراعة وَالْغَرْس، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب
الْعلم فِي: بَاب حفظ الْعلم، أخصر من ذَلِك، فِيهِ
تَقْدِيم وَتَأْخِير، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد
الْعَزِيز بن عبد الله عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن
الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَهنا أخرجه: عَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل ابْن أبي سَلمَة الْمنْقري الْبَصْرِيّ
الْمدنِي: يُقَال لَهُ: التَّبُوذَكِي وَقد تكَرر ذكره عَن
إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن ابْن
عَوْف أبي إِسْحَاق الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمَدِينِيّ،
كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج عَن
أبي هُرَيْرَة، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَالله الْموعد) ، إِمَّا مصدر ميمي، وَإِمَّا
اسْم زمَان، أَو اسْم مَكَان، وعَلى كل تَقْدِير لَا يَصح
أَن يخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى، وَلَكِن لَا بُد من
إِضْمَار تَقْدِيره فِي كَونه مصدرا. وَالله هُوَ الواعد،
وَإِطْلَاق الْمصدر على الْفَاعِل للْمُبَالَغَة، يَعْنِي:
الواعد فِي فعله بِالْخَيرِ وَالشَّر، والوعد يسْتَعْمل
فِي الْخَيْر وَالشَّر، يُقَال: وعدته خيرا ووعدته شرا،
فَإِذا أسقط الْخَيْر وَالشَّر يُقَال فِي الْخَيْر:
الْوَعْد وَالْعدة، وَفِي الشَّرّ: الإيعاد والوعيد.
وَتَقْدِيره فِي كَونه اسْم زمَان، و: عِنْد الله الْموعد
يَوْم الْقِيَامَة وَتَقْدِيره فِي كَونه اسْم مَكَان، و:
عِنْد الله الْموعد فِي الْحَشْر، وَحَاصِل الْمَعْنى على
كل تَقْدِير: فَالله تَعَالَى يحاسبني إِن تَعَمّدت كذبا،
وَيُحَاسب من ظن بِي ظن السوء. قَوْله: (عمل أَمْوَالهم) ،
أَي: الزَّرْع وَالْغَرْس. قَوْله: (على ملْء بَطْني) ،
بِكَسْر الْمِيم. قَوْله: (وأعي) ، أَي: أحفظ من: وعى يعي
وعياً إِذا حفظ، وَفهم. وَأَنا واعٍ، وَالْأَمر مِنْهُ: عِ
أَي: إحفظ. قَوْله: (ثمَّ يجمعه) ، بِالنّصب عطفا على
قَوْله: لن يبسط، وَكَذَا قَوْله: فينسى، وَالْمعْنَى: إِن
الْبسط الْمَذْكُور وَالنِّسْيَان لَا يَجْتَمِعَانِ،
لِأَن الْبسط الَّذِي بعده الْجمع المتعقب للنسيان منفي،
فَعِنْدَ وجود الْبسط يَنْعَدِم النسْيَان، وَبِالْعَكْسِ
فَافْهَم. قَوْله: (نمرة) ، بِفَتْح النُّون وَكسر
الْمِيم: وَهِي بردة من صوف يلبسهَا الْأَعْرَاب،
وَالْمرَاد: بسط بَعْضهَا لِئَلَّا يلْزم كشف الْعَوْرَة.
قَوْله: (فوالذي بَعثه بِالْحَقِّ) أَي: فَحق الله الَّذِي
بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: {إِن
الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات} (الْبَقَرَة:
951، 061) . هَذِه آيتان فِي سُورَة الْبَقَرَة {إِن
الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى من بعد
مَا بَيناهُ للنَّاس فِي الْكتاب أُولَئِكَ يلعنهم الله
ويلعنهم اللاعنون إلاَّ الَّذِي تَابُوا وَأَصْلحُوا
وبينوا فَأُولَئِك أَتُوب عَلَيْهِم وَأَنا التواب
الرَّحِيم} (الْبَقَرَة: 951، 061) . هَذَا وَعِيد شَدِيد
لمن كتم مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل من الدلالات الْبَيِّنَة
الصَّحِيحَة، وَالْهَدْي النافع للقلوب من بعد مَا بَينه
الله لِعِبَادِهِ فِي كتبه الَّتِي أنزلهَا على رسله،
قَالَ ابْن عَبَّاس: نزلت فِي رُؤَسَاء الْيَهُود: كَعْب
بن الْأَشْرَف وَكَعب بن أسيد وَمَالك بن الضَّيْف
وَغَيرهم، كَانُوا يتمنون أَن يكون النَّبِي مِنْهُم،
فَلَمَّا بعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَافُوا
أَن تذْهب مأكلتهم من السفلة، فعمدوا إِلَى صفة النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فغيروها فِي كِتَابهمْ ثمَّ
أخرجوها إِلَيْهِم، فَقَالُوا: هَذَا نعت النَّبِي الَّذِي
يبْعَث فِي آخر الزَّمَان، وَهُوَ لَا يشبه نعت النَّبِي
الَّذِي بِمَكَّة، فَلَمَّا تطرق السلفة إِلَى صفة
النَّبِي من الَّتِي غيروها جحدوه لأَنهم وجدوه مُخَالفا،
فَقَالَ الله تَعَالَى: {إِن الَّذين يكتمون} (الْبَقَرَة:
951، 061) . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة: نزلت فِي أهل
الْكتاب كتموا صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ
أخبر أَنهم يلعنهم كل شَيْء على صنيعهم ذَلِك، ولعنة الله
على عباده عبارَة عَن طرده إيَّاهُم وإبعاده، ولعنة
اللاعنين عبارَة عَن دُعَائِهِمْ باللعن قَوْله:
{اللاعنون} (الْبَقَرَة: 951، 061) . جمع: لَاعن، يَعْنِي:
دَوَاب الأَرْض، هَكَذَا قَالَ الْبَراء بن عَازِب،
وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: اللاعنون كل دَابَّة
وَالْجِنّ وَالْإِنْس، وَقَالَ مُجَاهِد: إِذا أجدبت
الأَرْض قَالَت الْبَهَائِم: هَذَا من أجل عصاة بني آدم،
لعن الله عصاة بني آدم. وَقَالَ قَتَادَة وَأَبُو
الْعَالِيَة وَالربيع بن أنس: {يلعنهم اللاعنون}
(الْبَقَرَة: 951، 061) . يَعْنِي: يلعنهم مَلَائِكَة الله
والمؤمنون، ثمَّ اسْتثْنى الله تَعَالَى من هَؤُلَاءِ من
تَابَ إِلَيْهِ بقوله: {إِلَّا الَّذين تَابُوا}
(الْبَقَرَة: 951، 061) . الْآيَة.
وَفِيه: دلَالَة على أَن الداعية إِلَى كفر أَو بِدعَة
إِذا تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ. قَوْله: {وبينوا} أَي:
رجعُوا عَمَّا كَانُوا فِيهِ وَأَصْلحُوا أَحْوَالهم
وأعمالهم، وبينوا للنَّاس مَا كَانُوا كتموه. وَقد ورد أَن
الْأُمَم السالفة لم تكن تقبل التَّوْبَة من مثل
هَؤُلَاءِ، وَلَكِن هَذَا من شَرِيعَة نَبِي التَّوْبَة
وَنَبِي الرَّحْمَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. |