عمدة القاري شرح صحيح البخاري

بسمِ الله الرَّحْمان الرَّحيمِ

64 - (كِتابُ الْمَظَالِمُ والْغَضَبِ)

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان تَحْرِيم الْمَظَالِم وَتَحْرِيم الْغَصْب، والمظالم جمع مظْلمَة مصدر ميمي من ظلم يظلم ظلما، وَأَصله: الْجور ومجاوزة الْحَد، وَمَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه الشَّرْعِيّ. وَقيل: التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه. والمظلمة أَيْضا اسْم مَا أَخذ مِنْك بِغَيْر حق، وَفِي الْمغرب الْمظْلمَة الظُّلم، وَاسم للمأخوذ فِي قَوْلهم: عِنْد فلَان مظلمتي وظلامتي أَي: حَقي الَّذِي أَخذ مني ظلما، وَالْغَصْب أَخذ مَال الْغَيْر ظلما وعدواناً. يُقَال: غصبه يغصبه غصبا فَهُوَ غَاصِب، وَذَاكَ مَغْصُوب، وَقيل: الْغَصْب

(12/283)


الِاسْتِيلَاء على مَال الْغَيْر ظلما. وَقيل: أَخذ حق الْغَيْر بِغَيْر حق، وَهَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا هِيَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره سقط لفظ: كتاب هَكَذَا فِي الْمَظَالِم وَالْغَصْب، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: كتاب الْغَصْب: بَاب فِي الْمَظَالِم.
وقَوْلِ الله تعَالى: {ولاَ تَحْسَبَنَّ الله غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الْظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} رَافِعِي رُؤُوسِهِمْ الْمُقْنِعُ والْمُقْمِحُ واحِدٌ (إِبْرَاهِيم: 412، 24 و 34) .
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر من قَوْله: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . إِلَى قَوْله: {عَزِيز ذُو انتقام} (ابراهيم: 64) . وَهِي سِتّ آيَات فِي أَوَاخِر سُورَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي رِوَايَة غَيره: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . وسَاق الْآيَة فَقَط. قَوْله: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . إِن كَانَ الْخطاب للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَعْنَاه التثبيت على مَا كَانَ عَلَيْهِ من أَنه لَا يحسبه غافلاً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تكونن من الْمُشْركين} (الْأَنْعَام: 41، يُونُس: 501، الْقَصَص: 78) . وَإِن كَانَ الْخطاب لغيره مِمَّن يجوز أَنه يحسبه غافلاً لجهله بصفاته فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير شَيْء. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَيجوز أَن يُرَاد: وَلَا تحسبنه يعاملهم مُعَاملَة الغافل عَمَّا يعْملُونَ، وَلَكِن مُعَاملَة الرَّقِيب عَلَيْهِم المحاسب على النقير والقطمير. قَوْله: {إِنَّمَا يؤخرهم ليَوْم تشخص فِيهِ الْأَبْصَار} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . أَي: أَبْصَارهم، لَا تقرّ فِي أماكنهم من هول مَا ترى. قَوْله: {مهطعين} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . يَعْنِي: مُسْرِعين إِلَى الدَّاعِي، وَقيل: الإهطاع: أَن تقبل ببصرك على المرئي وتديم النّظر إِلَيْهِ لَا تطرف. قَوْله: {مقنعي رؤوسهم} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . أَي: رافعي رُؤْسهمْ، كَذَا فسره مُجَاهِد: {وَلَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . أَي: لَا يطرفون، وَلَكِن عيونهم مَفْتُوحَة ممدودة من غير تَحْرِيك الأجفان {وأفئدتهم هَوَاء} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . أَي: خلاء، وَهُوَ الَّذِي لم تشغله الأجرام أَي: لَا فوة فِي قُلُوبهم وَلَا جَرَاءَة وَيُقَال للأحمق أَيْضا: قلبه هَوَاء، وَعَن ابْن جريج: هَوَاء أَي: صفر من الْخَيْر خَالِيَة عَنهُ. قَوْله: (الْمقنع والمقمح وَاحِد) ، كَذَا ذكره أَبُو عُبَيْدَة، أَي: هَذِه الْكَلِمَة بالنُّون وَالْعين وبالميم والحاء مَعْنَاهُمَا وَاحِد، وَهُوَ: رفع الرَّأْس. وَحكى ثَعْلَب أَن لَفْظَة: اقنع مُشْتَرك بَين مَعْنيين، يُقَال؛ أقنع إِذا رفع رَأسه، واقنع إِذا يطأطئه، وَيحْتَمل الْوَجْهَيْنِ هُنَا: أَن يرفع رَأسه ينظر ثمَّ يطاطئه ذلاً وخضوعاً.
وقالَ مُجَاهِدٌ مُهْطِعِينَ أيْ مُدِيمِي النَّظَرَ ويقالُ مُسْرِعِينَ {لَا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وأفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . يَعْنِي جُوفاً لاَ عُقُولَ لَهُمْ
تَفْسِير مُجَاهِد أخرجه الْفرْيَابِيّ عَنهُ، وَقد ذكرنَا معنى: {لَا يرْتَد إِلَيْهِم طرفهم وأفئدتهم هَوَاء} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . قَوْله: (جوفاً) بِضَم الْجِيم جمع: أجوف، قَوْله: (يَعْنِي، لَا عقول لَهُم) كَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة فِي (الْمجَاز) ، وَقيل: معنى: {وأفئدتهم هَوَاء} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . نزعت أفئدتهم من أَجْوَافهم.
وأنْذِرْ الناسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أخِّرْنَا إِلَى أجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِع الرُّسُلَ أوَ لَمْ تَكُونُو أقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مالَكُمْ مِنْ زوَالٍ وسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ وتبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وضَرَبْنَا لَكُمْ الأمْثَالَ وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ الله مَكْرُهُمْ وإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلفٌ وعْدِهِ رُسُلَهُ إِن الله عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (ابراهيم: 64) .
قد ذكرنَا أَن فِي رِوَايَة أبي ذَر سيق من قَوْله: {وَلَا تحسبن الله غافلاً} (ابراهيم: 412، 24 و 34) . إِلَى قَوْله: {عَزِيز ذُو انتقام} (ابراهيم: 64) . سِتّ آيَات، وَفِي رِوَايَة غَيره آيَة وَاحِدَة فَقَط وَهِي الْآيَة الأولى. قَوْله: {وانذر النَّاس} الْخطاب للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره بإنذار النَّاس وتخويفهم. قَوْله: {يَوْم يَأْتِيهم الْعَذَاب} (ابراهيم: 64) . وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ مفعول ثَان: لأنذر. قَوْله: {أخرنا إِلَى أجل قريب} (ابراهيم: 64) . يَعْنِي: ردنا إِلَى الدُّنْيَا وأمهلنا إل أجل وحد من الزَّمَان قريب نتدارك مَا فرطنا فِيهِ من إِجَابَة دعوتك وَاتِّبَاع رسلك. قَوْله: {أَو لم تَكُونُوا أقسمتم} (ابراهيم: 64) . أَي: يُقَال لَهُم: أَو لم تَكُونُوا حلفتم أَنكُمْ باقون فِي الدُّنْيَا لَا تزالون بِالْمَوْتِ والفناء حَتَّى كَفرْتُمْ بِالْبَعْثِ وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا من قبلكُمْ {وَتبين لكم} (ابراهيم: 64) . ظهر لكم مَا فعلنَا بهم من أَنْوَاع الزَّوَال بموتهم وخراب مساكنهم والانتقام مِنْهُم، بَعْضهَا بِالْمُشَاهَدَةِ

(12/284)


وَبَعضهَا بالإخبار {وضربنا لكم الْأَمْثَال} (ابراهيم: 64) . أَي: صِفَات مَا فعلوا بالأمثال المضروبة لكل ظَالِم. قَوْله: {وَقد مكروا مَكْرهمْ} (ابراهيم: 64) . يَعْنِي: بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين هموا بقتْله {وَعند الله مَكْرهمْ} (ابراهيم: 64) . أَي: عَالم بِهِ لَا يخفى عَلَيْهِ، فيجازيهم. قَوْله: {وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال} (ابراهيم: 64) . يَعْنِي: وَإِن كَانَ مَكْرهمْ ليبلغ فِي الكيد إِلَى إِزَالَة الْجبَال، فَإِن الله ينصر دينه، وَالْمرَاد بالجبال هُنَا: الاسلام، وَقيل: جبال الأَرْض مُبَالغَة، وَالْأول اسْتِعَارَة، ثمَّ طمن قلب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: {وَلَا تحسبن الله مخلف وعده رسله إِن الله عَزِيز} (ابراهيم: 64) . أَي: منيع {ذُو انتقام} (ابراهيم: 64) . من الْكفَّار.

1 - (بابُ قِصَاص الْمَظَالِمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قصاص الْمَظَالِم يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقصاص اسْم بِمَعْنى الْمُقَاصَّة، وَهُوَ مقاصة ولي الْمَقْتُول الْقَاتِل، والمجروح الْجَارِح، وَهِي مساواته إِيَّاه فِي قتل أَو جرح، ثمَّ عَم فِي كل مُسَاوَاة، وَيُقَال: أقصه الْحَاكِم يقصه إِذا مكنه من أَخذ الْقصاص.

0442 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرنَا معاذُ بنُ هِشامٍ قَالَ حدَّثني أبي عَن قَتَادَةَ عنْ أبِي الْمُتَوَكِّل النَّاجي عنْ أبِي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا خلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ فيَتَقَاصُّونَ مَظالِمَ كانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيا حتَّى إِذا نُقُّوا وهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجنَّةِ فَوَالَّذِي نفْسُ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ لأَحَدُهُم بِمَسْكَنِهِ فِي الجَنَّةِ أدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كانَ فِي الدُّنْيَا. (الحَدِيث 0442 طرفه فِي: 5356) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فيقاصون مظالم كَانَت بَينهم) وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، ومعاذ بن هِشَام الْبَصْرِيّ، سكن نَاحيَة الْيمن، يكنى أَبَا عبد الله، وَأَبوهُ هِشَام بن أبي عبد الله الدستوَائي، ودستواء من نَاحيَة الأهواز، كَانَ يَبِيع الثِّيَاب الَّتِي تجلب مِنْهَا فنسب إِلَيْهَا مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَة، وَأَبُو المتَوَكل عَليّ بن دؤاد، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة الأولى النَّاجِي، بالنُّون وبالجيم وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، سعيد بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَقد ترْجم هُنَاكَ فِي: بَاب الْقصاص يَوْم الْقِيَامَة.
قَوْله: (إِذا خلص الْمُؤْمِنُونَ) ، بِفَتْح اللَّام أَي: إِذا سلمُوا ونجوا من النَّار، وَالْمرَاد بعض الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (حبسوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: عرفُوا. قَوْله: (بقنطرة) ، قَالَ ابْن التِّين: القنطرة كل شَيْء ينصب على عين أَو وَاد، وَقَالَ الْهَرَوِيّ سمي الْبناء قنطرة لتكاثف بعض الْبناء على بعض، وسماها الْقُرْطُبِيّ: الصِّرَاط الثَّانِي وَالْأول لأهل الْمَحْشَر، كلهم إلاَّ من دخل الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب أَو يلتقطه عنق من النَّار، فَإِذا خلص من الْأَكْبَر وَلَا يخلص مِنْهُ إلاَّ الْمُؤْمِنُونَ، حبسوا على صِرَاط خَاص بهم، وَلَا يرجع إِلَى النَّار من هَذَا أحد، وَهُوَ معنى قَوْله إِذا خلص الْمُؤْمِنُونَ من النَّار أَي: من الصِّرَاط الْمَضْرُوب على النَّار، وَقَالَ مقَاتل: إِذا قطعُوا جسر جَهَنَّم حبسوا على قنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار، فَإِذا هذبوا قَالَ لَهُم رضوَان: {سَلام عَلَيْكُم طبتم فادخلوها خَالِدين} (الزمر: 37) . قَوْله: (بَين الْجنَّة وَالنَّار) ، أَي: بقنظرة كائنة بَين الْجنَّة والصراط الَّذِي على متن النَّار، وَلِهَذَا سمي بالصراط الثَّانِي، وَبِهَذَا يرد على بَعضهم فِي قَوْله بقنطرة: الَّذِي يظْهر أَنَّهَا طرف الصِّرَاط مِمَّا يَلِي الْجنَّة، وَيحْتَمل أَن يكون من غَيره بَين الصِّرَاط وَالْجنَّة. انْتهى. قلت: سُبْحَانَ الله، مَا هَذَا التَّصَرُّف بالتعسف، فَإِن الحَدِيث مُصَرح بِأَن تِلْكَ القنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار، وَهُوَ يَقُول: إِنَّهَا طرف الصِّرَاط، وطرف الصِّرَاط من الصِّرَاط، وَقَوله بيه، يدل على أَنَّهَا قنطرة مُسْتَقلَّة غير مُتَّصِلَة بالصراط، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى قطعا. وَجعل هَذَا الْقَائِل هَذَا الْمَعْنى بِالِاحْتِمَالِ وَمَا غر هَذَا الْقَائِل إلاَّ حِكَايَة ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ: أَن القنطرة هُنَا يحْتَمل أَن تكون طرف الصِّرَاط، والكرماني أَيْضا تصرف هُنَا قَرِيبا من كَلَام الدَّاودِيّ، حَيْثُ قَالَ: قَوْله: قنطرة. فَإِن قلت: هَذَا يشْعر بِأَن فِي الْقِيَامَة جسرين، هَذَا وَالْآخر على متن جَهَنَّم الْمَشْهُور بالصراط. قلت: لَا مَحْذُور فِيهِ، وَلَئِن ثَبت بِالدَّلِيلِ أَنه وَاحِد فَلَا بُد من تَأْوِيله: أَن هَذِه القنطرة من تَتِمَّة الصِّرَاط وذنابته، وَنَحْو ذَلِك، انْتهى. قلت: سُبْحَانَ الله، فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا السُّؤَال بقوله: يشْعر ... إِلَى آخِره لِأَنَّهُ يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن

(12/285)


القنطرة الْمَذْكُورَة غير الصِّرَاط، وَلَا من تتمته كَمَا ذكرنَا، وَقَوله: وَلَئِن ثَبت، وَلم يثبت ذَلِك، فَلَا حَاجَة إِلَى التَّأْوِيل الَّذِي ذكره. قَوْله: (فيتقاصون) ، بتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة: من الْقصاص، يَعْنِي: يتبع بَعضهم بَعْضًا فِيمَا وَقع بَينهم من الْمَظَالِم الَّتِي كَانَت بَينهم فِي الدُّنْيَا فِي كل نوع من الْمَظَالِم الْمُتَعَلّقَة بالأبدان، وَالْأَمْوَال. وَقَالَ ابْن بطال: الْمُقَاصَّة فِي هَذَا الحَدِيث هِيَ لقوم دون قوم، هم قوم لَا تستغرق مظالمهم جَمِيع حسناتهم، لِأَنَّهَا لَو استغرقت جَمِيع حسناتهم لكانوا مِمَّن وَجب لَهُم الْعَذَاب، وَلما جَازَ أَن يُقَال فيهم: خلصوا من النَّار، فَمَعْنَى الحَدِيث، وَالله أعلم، على الْخُصُوص لمن لم يكن لَهُم تبعات يسيرَة، إِذْ الْمُقَاصَّة أَصْلهَا فِي كَلَام الْعَرَب مقاصصة، وَهِي مفاعلة، وَلَا يكون أبدا إلاَّ بَين اثْنَيْنِ: كالمشاتمة والمقاتلة، فَكَانَ لكل وَاحِد مِنْهُم على أَخِيه مظْلمَة، وَعَلِيهِ لَهُ مظْلمَة، وَلم يكن فِي شَيْء مِنْهَا مَا يسْتَحق عَلَيْهِ النَّار فيتقاصون بِالْحَسَنَاتِ والسيئات، فَمن كَانَت مظلمته أَكثر من مظْلمَة أَخِيه أَخذ من حَسَنَاته، فَيدْخلُونَ الْجنَّة ويقتطعون فِيهَا الْمنَازل على قدر مَا بَقِي لكل وَاحِد مِنْهُم من الْحَسَنَات، فَلهَذَا يتقاصصون بعد خلاصهم من النَّار لِأَن أحدا لَا يدْخل الْجنَّة ولأحد عَلَيْهِ تباعة، وَقَالَ الْمُهلب: هَذِه الْمُقَاصَّة إِنَّمَا تكون فِي الْمَظَالِم فِي الْأَبدَان، من اللَّطْمَة وَشبههَا مِمَّا يُمكن فِيهِ أَدَاء الْقصاص بِحُضُور بدنه، فَيُقَال للمظلوم: إِن شِئْت أَن تنتصف وَإِن شِئْت أَن تَعْفُو. وَقَالَ غَيره: لَا قصاص فِي الْآخِرَة فِي الْعرض وَالْمَال وَغَيره إلاَّ بِالْحَسَنَاتِ والسيئات. قيل: فِيهِ نظر، لِأَن أَبَا الْفضل ذكر فِي كتاب (التَّرْغِيب والترهيب) بِسَنَد صَالح عَن سعيد بن الْمسيب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا فرغ الله من الْقَضَاء أقبل على الْبَهَائِم حَتَّى إِنَّه ليجعل للجماء الَّتِي نطحتها القرناء قرنين فتنطح بهما الْأُخْرَى، وَيُقَال: معنى يتقاصون يتتاركون، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوضِع مقاصة وَلَا محاسبة، لَكِن يلقِي الله، عز وَجل، فِي قُلُوبهم الْعَفو لبَعْضهِم عَن بعض، أَو يعوض الله بَعضهم من بعض. قَوْله: (حَتَّى إِذا نقوا) ، بِضَم النُّون وَتَشْديد الْقَاف: من التنقية، وَهُوَ إِفْرَاد الْجيد من الرَّدِيء، وَوَقع للمستملي هُنَا: حَتَّى إِذا تقصوا، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الصَّاد الْمُهْملَة، أَي: أكملوا التَّقَاصّ. قَوْله: (وهذبوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّهْذِيب، وَهُوَ التَّلْخِيص من الآثام بمقاصصة بَعضهم بِبَعْض، وَيشْهد لهَذَا الحَدِيث قَوْله فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْآتِي ذكره فِي التَّوْحِيد: لَا يحل لأحد من أهل الْجنَّة أَن يدْخل الْجنَّة ولأحد قِبَلَهُ مظْلمَة.
فَإِن قلت: ذكر الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيثا فِيهِ: أَن الْجنَّة بعد الصِّرَاط، وَهَذَا يُعَارض حَدِيث القنطرة؟ قلت: لَا، لِأَن المُرَاد بعد الصِّرَاط الثَّانِي هُوَ القنطرة كَمَا ذكرنَا. فَإِن قلت: صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: أَصْحَاب الْحَشْر محبوسون بَين الْجنَّة وَالنَّار، يسْأَلُون عَن فضول أَمْوَال كَانَت بِأَيْدِيهِم، وَهَذَا يُعَارض حَدِيث الْبَاب. قلت: لَا، لِأَن مَعْنَاهُمَا مُخْتَلف لاخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس، لِأَن من الْمُؤمنِينَ من لَا يحبسون بل إِذا خَرجُوا بثوا على أَنهَار الْجنَّة. قَوْله: (لأَحَدهم) ، اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَهِي مَفْتُوحَة، وأحدهم مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، فخبره قَوْله: أدل بمنزله الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا، قَالَ الْمُهلب: انماً، كَانَ أدل، لأَنهم عرفُوا مساكنهم، بتعريضها عَلَيْهِم بِالْغَدَاةِ والعشي. فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا مَا رُوِيَ عَن عبد الله ابْن سَلام: أَن الْمَلَائِكَة تدلهم على طَرِيق الْجنَّة. قلت: لَا تعَارض، فَإِن هَذَا يكون مِمَّن لم يحبس على القنطرة وَلم يدْخل النَّار أَو يخرج مِنْهَا فيطرح على بَاب الْجنَّة، وَقد يحْتَمل أَن يكون ذَلِك فِي الْجَمِيع، فَإِذا وصلت بهم الْمَلَائِكَة، كَانَ كل أحد عرف بمنزله، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: {ويدخلهم الْجنَّة عرفهَا لَهُم} (مُحَمَّد: 6) . وَقَالَ أَكثر أهل التَّفْسِير إِذا دخل أهل الْجنَّة الْجنَّة يُقَال لَهُم: تفَرقُوا إِلَى مَنَازِلكُمْ، فهم أعرف بهَا من أهل الْجُمُعَة إِذا انصرفوا. وَقيل: إِن هَذَا التَّعْرِيف إِلَى الْمنَازل بِدَلِيل، وَهُوَ الْملك الْمُوكل بِعَمَل العَبْد يمشي بَين يَدَيْهِ، وَحَدِيث الْبَاب يردهُ، فَلْينْظر.
وقالَ يونُسُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا شَيْبانُ عنْ قَتَادَةَ قَالَ حدَّثنا أبُو الْمُتَوَكِّلِ
يُونُس بن مُحَمَّد: هُوَ أَبُو مُحَمَّد الْمُؤَدب الْبَغْدَادِيّ، وشيبان هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ يكنى أَبَا مُعَاوِيَة، سكن الْكُوفَة وَأَصله بَصرِي وَكَانَ مؤدباً لبني دَاوُد بن عَليّ، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَأَبُو المتَوَكل النَّاجِي قد مر عَن قريب، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن مَنْدَه فِي (كتاب الْإِيمَان) وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِهِ بَيَان سَماع قَتَادَة لهَذَا الحَدِيث من أبي المتَوَكل بطرِيق التحديث وَفِي (التَّلْوِيح) : رَوَاهُ أَيْضا أَبُو نعيم الْحَافِظ عَن أبي عَليّ مُحَمَّد بن أَحْمد، قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن الْحُسَيْن بن مَيْمُون بن مُحَمَّد الْمروزِي حَدثنَا شَيبَان عَن قَتَادَة حَدثنَا أَبُو المتَوَكل، فَذكره. قيل: أَبُو نعيم رَوَاهُ عَن إِسْحَاق بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد.

(12/286)


2 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {ألاَ لَعْنَةُ الله علَى الظَّالِمِينَ} (هود: 81) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله تَعَالَى حِكَايَة عَن الْمَلَائِكَة أَو الرُّسُل أَنهم يَقُولُونَ يَوْم الْقِيَامَة: {أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} (هود: 81) . وَهَذَا آخر آيَة فِي سُورَة هود، وَأول الْآيَة هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أُولَئِكَ يعرضون على رَبهم وَيَقُول الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} (هود: 81) . الأشهاد: هم الرُّسُل، وَقيل: الْمَلَائِكَة، وَقيل: النَّبِيُّونَ، وَقيل: أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشْهدُونَ على النَّاس، وَيَقُولُونَ: {هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم} (هود: 81) . أَي: زَعَمُوا أَن لَهُ شَرِيكا وَولدا: {أَلا لعنة الله على الظَّالِمين} (هود: 81) . أَي: الْمُشْركين. والأشهاد: جمع شَاهد، مثل: نَاصِر وأنصار وَصَاحب وَأَصْحَاب. وَيجوز أَن يكون جمع: شَهِيد، مثل شرِيف وأشراف، ويوضح ذَلِك حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ صَفْوَان بن مُحرز عَن ابْن عمر، وَفِيه: فينادي على رُؤُوس الأشهاد: {هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم ألاَ لعنة الله على الظَّالِمين} (هود: 81) .

1442 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا هَمَّامٌ قَالَ أخْبرني قَتادَةُ عنْ صَفْوانَ ابنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ بَيْنَما أنَا أمْشِي مَعَ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا آخِذٌ بيَدِهِ إذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ كَيْفَ سَمِعْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّجْواى فَقَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ إنَّ الله يُدْنِي الْمُؤمِنَ فَيَضَعُ علَيْهِ كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ فيَقُولُ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كذَا أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فيَقُولُ نَعَمْ أيْ رَبِّ حَتَّى إذَا قرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ ورَأى فِي نَفْسِهِ أنَّهُ هلَكَ قَالَ سَتَرْتُهِا علَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنا أغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ فَيُعْطَى كَتابَ حَسَنَاتِهِ وأمَّا الكَافِرُ والْمُنَافِقُونَ فَيقُولُ {الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الذِينَ كَذَبُوا علَى رَبِّهِمْ ألاَ لَعْنَةُ الله علَى الظَّالِمِينَ} (هود: 81) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي آخر الحَدِيث، وَهَمَّام هُوَ ابْن يحيى بن دِينَار الشَّيْبَانِيّ الْبَصْرِيّ، وَصَفوَان بن مُحرز، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وبالزاي: الْمَازِني الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة أَربع وَتِسْعين.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُسَدّد، وَفِي الْأَدَب وَفِي التَّوْحِيد عَن مُسَدّد أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن أبي مُوسَى وَعَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن أبي عبيد الله وَفِي الرَّقَائِق عَن سُوَيْد بن نصر. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة عَن حميد بن مسْعدَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) ، ويروى: بَينا، قَوْله: (آخذ بِيَدِهِ) أَي: بيد ابْن عمر، وآخذ على وزن فَاعل، مَرْفُوع على أَنه بدل من أَمْشِي، وَقد ذكر فِي مَوْضِعه أَنه يُبدل كل من الِاسْم وَالْفِعْل وَالْجُمْلَة من مثله. وَقَوله: (أَمْشِي) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر لمبتدأ. وَهُوَ قَوْله: (أَنا) وَسمي الْفِعْل الْمُضَارع مضارعاً أَي: مشابهاً لاسم الْفَاعِل فِي الحركات والسكنات وَغير ذَلِك، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يجوز أَن يُبدل اسْم الْفَاعِل من الْمُضَارع، وَيجوز نصب: آخذ، على الْحَال من جِهَة الْعَرَبيَّة. قَوْله: (إِذْ عرض) جَوَاب: بَيْنَمَا. قَوْله: (فِي النَّجْوَى) أَي: الَّذِي يَقع بَين الله تَعَالَى وَبَين عَبده الْمُؤمن يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ فضل من الله تَعَالَى حَيْثُ يذكر الْمعاصِي للْعَبد سرا. قَوْله: (يدني) بِضَم الْيَاء من الإدناء وَهُوَ التَّقْرِيب الرتبي لَا المكاني. قَوْله: (فَيَضَع عَلَيْهِ كنفه) ، بِفَتْح النُّون وَالْفَاء. قَالَ الْكرْمَانِي: الكنف الْجَانِب والساتر والعون، يُقَال: كنفت الرجل أَي: صنته وحطته وأعنته. انْتهى. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: كنفه حفظه وستره من أهل الْموقف وصونه عَن الخزي والتفضيح، مستعار من كنف الطَّائِر وَهُوَ جنَاحه يصون بِهِ نَفسه وَيسْتر بِهِ بيضه فيحفظه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بَعْضهَا أَي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: كتفه، بالفوقانية. قلت: هَذِه الرِّوَايَة وَقعت من أبي ذَر عَن الْكشميهني. قَالَ عِيَاض: وَهُوَ تَصْحِيف قَبِيح. قَوْله: (الأشهاد) جمع شَاهد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (على الظَّالِمين) المُرَاد بالظلم هُنَا الْكفْر والنفاق وَلَيْسَ كل ظلم يدْخل فِي معنى الْآيَة، وَيسْتَحق اللَّعْنَة، لِأَنَّهُ لَا يكون عُقُوبَة الْكفْر عِنْد الله كعقوبة صغائر الذُّنُوب، واللعن الإبعاد والطرد، وَهَذَا الحَدِيث يبين أَن قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} (التكاثر: 8) . إِن السُّؤَال عَن

(12/287)


النَّعيم الْحَلَال إِنَّمَا هُوَ سُؤال تَقْرِير وتوقيف لَهُ على نعمه الَّتِي أنعم بهَا عَلَيْهِ، أَلا يرى أَن الله تَعَالَى يوقفه على ذنُوبه الَّتِي عَصَاهُ فِيهَا ثمَّ يغفرها لَهُ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فسؤاله عباده عَن النَّعيم الْحَلَال أولى أَن يكون سُؤال تَقْرِير لَا سُؤال حِسَاب وانتقام.
وَفِيه: حجَّة لأهل السّنة أَن أهل الذُّنُوب من الْمُؤمنِينَ لَا يكفرون بِالْمَعَاصِي، كَمَا زعمت الْخَوَارِج. وَفِيه: حجَّة أَيْضا على الْمُعْتَزلَة فِي مغْفرَة الذُّنُوب إلاَّ الْكَبَائِر.

3 - (بابٌ لَا يَظْلِمُ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ وَلَا يُسْلِمُهُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يظلم الْمُسلم الْمُسلم، الأول: مَرْفُوع على الفاعلية، وَالثَّانِي: مَنْصُوب على المفعولية. قَوْله: (وَلَا يُسلمهُ) بِضَم الْيَاء، يُقَال: أسلم فلَان فلَانا إِذا أَلْقَاهُ إِلَى الهلكة وَلم يحمه من عدوه، وَيُقَال: معنى (لَا يُسلمهُ) : لَا يتْركهُ مَعَ من يُؤْذِيه، بل ينصره وَيدْفَع عَنهُ.

2442 - حدَّثنا يَحْياى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ سالِماً أخبرهُ أنَّ عبدَ الله بن عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخبرهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْمُسْلِمُ أخُو الْمُسلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ ولاَ يُسْلِمُهُ ومَنْ كانَ فِي حاجَةِ أخِيهِ كانَ الله فِي حاجَتِهِ ومَنْ فَرَّجَ عنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيامَةِ ومَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ الله يوْمَ الْقِيَامَةِ. (الحَدِيث 2442 طرفه فِي: 1596) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعقيل، بِضَم الْعين: ابْن خَالِد، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر بن الْخطاب. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِكْرَاه عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد جَمِيعًا وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْحُدُود. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الرَّجْم.
وَفِي الْبَاب عَن أبي هُرَيْرَة أخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْأَعْمَش عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من نفس عَن مُسلم كربَة من كرب الدُّنْيَا نفس الله عَنهُ كربَة من كرب يَوْم الْقِيَامَة، وَمن يسر على مُعسر فِي الدُّنْيَا يسر الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَمن ستر على مُسلم فِي الدُّنْيَا ستر الله عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَالله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه) . وَعَن عقبَة بن عَامر أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي الْهَيْثَم عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من رأى عَورَة فسترها كَانَ كمن أحيى موؤدة) زَاد الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) : (من قبرها) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. وَعَن ابْن عَبَّاس أخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: (من ستر عَورَة أَخِيه الْمُسلم ستر الله عَوْرَته يَوْم الْقِيَامَة) . وَعَن كَعْب بن عجْرَة أخرجه الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ عَن كَعْب بن عجْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من نفس عَن مُؤمن كربَة نفس الله عَنهُ كربَة يَوْم الْقِيَامَة، وَمن ستر على مُؤمن عَورَة ستر الله عَلَيْهِ عَوْرَته يَوْم الْقِيَامَة، وَمن فرج عَن مُؤمن كربَة فرج الله عَنهُ كربته) . وَعَن مسلمة ابْن مخلد أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي أَيُّوب عَنهُ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من ستر مُسلما فِي الدُّنْيَا ستره الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) الحَدِيث، وَإِسْنَاده صَحِيح. وَعَن أبي سعيد أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث يحيى بن عبد الرَّحْمَن بن حَاطِب عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يرى مُؤمن من أَخِيه عَورَة فيسترها عَلَيْهِ إلاَّ أدخلهُ الله الْجنَّة) . وَعَن جَابر بن عبد الله أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ستر على أَخِيه عَورَة فَكَأَنَّمَا أَحْيَا موؤدة) وَضَعفه ابْن عدي. وَعَن نبيط بن شريط أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) عَن أَحْمد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نبيط بن شريط عَن أَبِيه عَن جده عَن أَبِيه نبيط، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ستر عَورَة حُرْمَة مُؤمنَة ستره الله من النَّار) . وَعَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي (كتاب الثَّوَاب) من رِوَايَة مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْعُكَّاشِي عَن عَمْرو بن وثاب عَن قبيصَة بن ذُؤَيْب عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ستر مُؤمنا فَكَأَنَّمَا يستر الله عز وَجل) ، والعكاشي ضَعِيف.

(12/288)


ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْمُسلم أَخُو الْمُسلم) ، يَعْنِي أَخُوهُ فِي الْإِسْلَام، وكل شَيْئَيْنِ يكون بَينهمَا اتِّفَاق تطلق عَلَيْهِمَا اسْم الْأُخوة. وَقَوله: الْمُسلم، تنَاول الْحر وَالْعَبْد والبالغ والمميز. قَوْله: (وَلَا يَظْلمه) ، نفي بِمَعْنى الْأَمر وَهُوَ من بَاب التَّأْكِيد، لِأَن ظلم الْمُسلم للْمُسلمِ حرَام. قَوْله: (وَلَا يُسلمهُ) ، قد فسرناه الْآن، وَزَاد الطَّبَرَانِيّ فِي رِوَايَته عَن سَالم: وَلَا يُسلمهُ فِي مصيبته. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا يَظْلمه فرض، وَلَا يُسلمهُ مُسْتَحبّ. وَظَاهر كَلَام الدَّاودِيّ أَنه كظلمه، قَالَ: وَفِيه تَفْصِيل الْوُجُوب إِذا فجئه عَدو وَشبه ذَلِك، والاستحباب فِيمَا كَانَ من إِعَانَة فِي شَيْء من الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْن بطال: نصر الْمَظْلُوم فرض كِفَايَة وتتعين فرضيته على السُّلْطَان. قلت: الْوُجُوب والاستحباب بِحَسب اخْتِلَاف الْأَحْوَال، والستر على الْمُسلم لَا يمْنَع الْإِنْكَار عَلَيْهِ خُفْيَة وَهَذَا فِي غير المجاهر، وَأما المجاهر فخارج عَن هَذَا وَلَا غيبَة لَهُ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَتَرْعَوْنَ عَن ذكر الْفَاجِر؟ مَتى يعرفهُ النَّاس؟ أذكروه بِمَا فِيهِ يحذرهُ النَّاس) ، رَوَاهُ صَاحب (التَّلْوِيح) : بِإِسْنَادِهِ عَن بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : هُوَ ضَعِيف، وجد بهز هُوَ مُعَاوِيَة بن حيدة بن مُعَاوِيَة الْقشيرِي، وَعَن يحيى بن معِين بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده إِسْنَاده صَحِيح إِذا كَانَ دونه ثِقَة. وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم: سَمِعت أبي يَقُول: بهز شيخ يكْتب حَدِيثه وَلَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ثِقَة، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ حجَّة عِنْدِي، اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ فِي (الصَّحِيح) وروى لَهُ فِي (الْأَدَب) وروى لَهُ الْأَرْبَعَة. قَوْله: (كربةَ) ، بِضَم الْكَاف: وَهُوَ الْغم الَّذِي يَأْخُذ النَّفس، وَكَذَلِكَ الكرب على وزن الضَّرْب، تَقول مِنْهُ: كربه الْغم إِذا اشْتَدَّ عَلَيْهِ. قَوْله: (من كربات) ، جمع كربَة، ويروى: من كرب، بِضَم الْكَاف وَفتح الرَّاء. وَابْن التِّين اقْتصر على الأول، وَقَالَ: ضبط بِضَم الرَّاء وَيجوز فتحهَا وإسكانها. قَوْله: (وَمن ستر مُسلما) ، أَي: رَآهُ على قَبِيح فَلم يظهره للنَّاس، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي ترك الْإِنْكَار عَلَيْهِ خُفْيَة.
وَفِي الحَدِيث: حض على التعاون وَحسن المعاشرة والإلفة والستر على الْمُؤمن وَترك التسمع بِهِ والإشهار لذنوبه. وَفِيه: أَن المجازاة قد تكون فِي الْآخِرَة من جنس الطَّاعَة فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا الحَدِيث يحتوي على كثير من آدَاب الْمُسلمين. وَقَالَ الْكرْمَانِي: السّتْر إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْصِيّة وَقعت وَانْقَضَت، أما فِيمَا تلبس الشَّخْص فَيجب الْمُبَادرَة بإنكارها وَمنعه مِنْهَا، وَأما مَا يتَعَلَّق بِجرح الروَاة وَالشُّهُود فَلَا يحل السّتْر عَلَيْهِم، وَلَيْسَ هَذَا من الْغَيْبَة الْمُحرمَة، بل من النَّصِيحَة الْوَاجِبَة.

4 - (بابٌ أعِنْ أخاكَ ظالِماً أوْ مَظْلُوماً)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِعَانَة أَخِيه سَوَاء كَانَ ظَالِما أَو مَظْلُوما.

3442 - حدَّثنا عُثْمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا هُشَيْمٌ أخبرنَا عُبيدُ الله بنُ أبي بَكْرِ بنِ أنَسٍ وحُمَيدٌ الطَّوِيلُ سَمِعَ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يقُولُ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْصُرْ أخاكَ ظالِماً أوْ مَظْلُوماً.

4442 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أَنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْصُرْ أخاكَ ظالِماً أوْ مظْلُوماً قَالُوا يَا رسولَ الله هاذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُوماً فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظالِماً قَالَ تأخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ. (انْظُر الحَدِيث 3442 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما) . فَإِن قلت: الحَدِيث: أنْصر أَخَاك. قلت: النُّصْرَة تَسْتَلْزِم الْإِعَانَة فَيَكْفِي هَذَا الْمِقْدَار فِي وَجه الْمُطَابقَة. وَقيل: أَشَارَ بِلَفْظ الْإِعَانَة إِلَى مَا رُوِيَ عَن جَابر مَرْفُوعا: أعن أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما، أخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) من الْوَجْه الَّذِي أخرجه مِنْهُ البُخَارِيّ بِهَذَا اللَّفْظ، وروى هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: الأول: عَن عُثْمَان مُخْتَصرا، والْحَدِيث من أَفْرَاده، وهشيم مصغر هشم ابْن بشير مصغر بشر الوَاسِطِيّ، وَعبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (سمع) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: حميد، ويروى: سمعا، بالتثنية وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: حميد وَعبيد الله. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن مُسَدّد عَن مُعْتَمر بِلَفْظ الْفَاعِل من الاعتمار ابْن سُلَيْمَان الْبَصْرِيّ عَن حميد الطَّوِيل، وَفِي هَذَا من الزِّيَادَة، وَهِي قَوْله: قَالُوا: يَا رَسُول الله ... إِلَى آخِره، وَهِي رِوَايَة أبي الْوَقْت. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الْإِكْرَاه:

(12/289)


وَقَالَ رجل. وَفِي رِوَايَة: قَالَ: يَا رَسُول الله! بِالْإِفْرَادِ، وَرِوَايَة: قَالَ رجل، يُوضح أَن فَاعل قَالَ مُضْمر فِيهِ يرجع إِلَى الرجل، قَوْله: (هَذَا) ، إِشَارَة إِلَى مَا فِي ذهنهم من الرجل الَّذِي ينصرونه. (ومظلوماً) نصب على الْحَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: ننصره، وَكَذَلِكَ: (مَظْلُوما) نصب على الْحَال. قَوْله: (تَأْخُذ فَوق يَدَيْهِ) أَي: تَمنعهُ عَن الظُّلم، وَكلمَة: فَوق، مقحمة، أَو ذكرت إِشَارَة إِلَى الْأَخْذ بالاستعلاء وَالْقُوَّة، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث حميد عَن أنس، قَالَ: تكفه عَن الظُّلم فَذَاك نَصره إِيَّاه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث جَابر: إِن كَانَ ظَالِما فلينهه، فَإِنَّهُ لَهُ نصْرَة. وَقَوله: تَأْخُذ، يدل على أَن الْقَائِل وَاحِد، وَلَو كَانَ جمعا لقَالَ: تأخذون، وَقَالَ ابْن بطال: النَّصْر عِنْد الْعَرَب الْإِعَانَة، وَتَفْسِيره لنصر الظَّالِم بِمَنْعه من الظُّلم من تَسْمِيَة الشَّيْء بِمَا يؤول إِلَيْهِ، وَهُوَ من وجيز البلاغة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ مَعْنَاهُ: أَن الظَّالِم مظلوم فِي نَفسه فَيدْخل فِيهِ ردع الْمَرْء عَن ظلمه لنَفسِهِ حسا وَمعنى، فَلَو رأى إنْسَانا يُرِيد أَن يجب نَفسه لظَنّه أَن ذَلِك يزِيل مفسده طلبه للزِّنَا، مثلا، مَنعه من ذَلِك، وَكَانَ ذَلِك نصرا لَهُ، واتحد فِي هَذِه الصُّورَة الظَّالِم والمظلوم. وَفِي (التَّلْوِيح) : ذكر الْمفضل بن سَلمَة الضَّبِّيّ فِي كِتَابه (الفاخر) : أَن أول من قَالَ: أنْصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما، جُنْدُب ابْن العنبر بن عَمْرو بن تَمِيم، بقوله لسعد بن زيد مَنَاة لما أسر:
(يَا أَيهَا الْمَرْء الْكَرِيم المكسوم ... أنْصر أَخَاك ظَالِما أَو مظلوم)

وَأنْشد التاريخي للأسلع بن عبد الله:
(إِذا أَنا لم أنْصر أخي وَهُوَ ظَالِم ... على الْقَوْم لم أنْصر أخي حِين يظلم)

فأرادوا بذلك مَا اعتادوه من حمية الْجَاهِلِيَّة، لَا على مَا فسره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

5 - (بابُ نَصْرِ الْمَظْلُومِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب نصر الْمَظْلُوم.)
5442 - حدَّثنا سَعيدُ بنُ الرَّبِيع قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الأشْعَثِ بنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ مُعاوِيَةَ بنَ سُوَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ بنَ عازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أمَرَنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَبْعٍ ونهَانا عنْ سَبْعٍ فذَكَرَ عِيادَةَ الْمَرِيضِ واتِّباعَ الْجَنائِزِ وتَشْميتَ العاطِسِ ورَدَّ السَّلاَمِ ونَصْرَ الْمَظْلُومِ وإجَابَةَ الدَّاعِي وإبْرَارَ الْمُقْسِمِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَنصر الْمَظْلُوم) وَهُوَ أحد السَّبْعَة الْمَذْكُورَة.
وَرِجَاله خَمْسَة قد ذكرُوا، وَسَعِيد بن الرّبيع، بِفَتْح الرَّاء: الْبَصْرِيّ بياع الثِّيَاب الهروية، مر فِي جَزَاء الصَّيْد، والأشعث بن سليم، بِضَم السِّين الْمُهْملَة: الْكُوفِي المكنى بِأبي الشعْثَاء، مر فِي التَّيَمُّن فِي الْوضُوء، وَمُعَاوِيَة بن سُوَيْد، بِضَم السِّين الْمُهْملَة: مر مَعَ الحَدِيث فِي أول الْجَنَائِز.
والْحَدِيث مر فِي: بَاب الْأَمر بِاتِّبَاع الْجَنَائِز، مَعَ اشتماله على السَّبْعَة الْمنْهِي عَنْهَا بالسند الْمَذْكُور، إِلَّا شَيْخه، فَإِنَّهُ هُنَاكَ: أَبُو الْوَلِيد عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (وإبرار الْمقسم) ، ويروي: (وإبرار الْقسم) ، قَالَ الْعلمَاء: نصر الْمَظْلُوم فرض وَاجِب على الْمُؤمنِينَ على الْكِفَايَة، فَمن قَامَ بِهِ سقط عَن البَاقِينَ، وَيتَعَيَّن فرض ذَلِك على السُّلْطَان، ثمَّ على من لَهُ قدرَة على نصرته إِذا لم يكن هُنَاكَ من ينصره غَيره من سُلْطَان وَشبهه، وعيادة الْمَرِيض سنة مرعية، وَاتِّبَاع الْجَنَائِز من فروض الْكِفَايَة، وتشميت الْعَاطِس سنة، وَقيل: فرض كِفَايَة، حَكَاهُ ابْن بطال، وَبِه قَالَ ابْن سراقَة من الشَّافِعِيَّة، وَقيل: وَاجِب كرد السَّلَام، وَإجَابَة الدَّاعِي سنة إلاَّ أَنه فِي الْوَلِيمَة قيل: فرض عين، وَقيل: فرض كِفَايَة. وَقَالَ ابْن بطال: هُوَ فِي الْوَلِيمَة آكِد، وإبرار الْمقسم، مَنْدُوب إِلَيْهِ إِذا أقسم عَلَيْهِ فِي مُبَاح يَسْتَطِيع فعله، فَإِن أقسم على مَا لَا يجوز، أَو يشق على صَاحبه، لم ينْدب إِلَى الْوَفَاء بِهِ.

6442 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا أَبُو أسَامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبِي موساى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ يَشُد بَعضُهُ بَعْضاً وشَبَّكَ بيْنَ أصَابِعِهِ. (انْظُر الحَدِيث 184 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث: فَإِن الْمُؤمن إِذا شدّ الْمُؤمن فقد نَصره، وَأَبُو اسامة حَمَّاد بن أُسَامَة وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن أبي بردة، يروي عَن جده أبي بردة، بِضَم الْبَاء، وَاسم أبي بردة: الْحَادِث. وَقيل: عَامر، وَقيل: اسْمه كنيته، وَهُوَ ابْن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس.
وَفِي هَذَا السَّنَد: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده، وَرِوَايَة الرَّاوِي

(12/290)


عَن أَبِيه فَالْأول: بريد، وَالثَّانِي: أَبُو بردة.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد وَغَيره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَرَوَاهُ هُنَاكَ عَن خَلاد بن يحيى عَن سُفْيَان عَن بريد إِلَى آخِره.
قَوْله: (بعضه) فِي رِوَايَة الْكشميهني: (يشد بَعضهم) ، بِصِيغَة الْجمع، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.

6 - (بابُ الإنْتِصارِ مِنَ الظَّالِمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِانْتِصَار، أَي: الانتقام.
لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {لَا يُحِبُّ الله الجهْرَ بالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلاَّ مَنْ ظُلِمَ وكانَ الله سَميعاً عَلِيماً (النِّسَاء: 841) .
هَذَا تَعْلِيل لجَوَاز الِانْتِصَار من الظَّالِم، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: {لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إِلَّا من ظلم} (النِّسَاء: 841) . يَقُول: لَا يحب الله أَن يَدْعُو أحد على أحد إلاَّ أَن يكون مَظْلُوما، فَإِنَّهُ قد أرخص لَهُ أَن يَدْعُو على من ظلمه، وَذَلِكَ قَوْله: {إِلَّا من ظلم} (النِّسَاء: 841) . وَإِن صَبر فَهُوَ خير لَهُ، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا الْمثنى بن الصَّباح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: {لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إلاَّ من ظلم} (النِّسَاء: 841) . قَالَ: ضاف رجل رجلا فَلم يؤد إِلَيْهِ حق ضيافته، فَلَمَّا خرج أخبر النَّاس، فَقَالَ: ضفت فلَانا فَلم يؤد إِلَيّ حق ضيافتي. قَالَ: فَذَلِك الْجَهْر بالسوء من القَوْل إلاَّ من ظلم حِين لم يؤد إِلَيْهِ الآخر حق ضيافته، وَقَالَ عبد الْكَرِيم بن مَالك الْجَزرِي، فِي هَذِه الْآيَة: هُوَ الرجل يشتمك فتشتمه، وَلَكِن إِن افترى عَلَيْك فَلَا تفتر عَلَيْهِ، لقَوْله تَعَالَى: {وَلمن انتصر بعد ظلمه فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل} (الشورى: 14) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (المستبان مَا قَالَا، فعلى البادىء مِنْهُمَا مَا لم يعتدِ الْمَظْلُوم) .
{والَّذِينَ إذَا أصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (الشورى: 93) .
الْبَغي الظُّلم: أَي: الَّذين إِذا أَصَابَهُم بغي الْمُشْركين فِي الدّين انتصروا عَلَيْهِم بِالسَّيْفِ، أَو إِذْ بغى عَلَيْهِم باغٍ كره أَن يستذلوا لِئَلَّا يجترىء عَلَيْهِم الْفُسَّاق، فَإِذا قدرُوا عفوا. وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق السّديّ فِي قَوْله: {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} (الشورى: 93) . قَالَ: يَعْنِي فَمن بغى عَلَيْهِم من غير أَن يعتدوا، وروى النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (دخلت على زَيْنَب بنت جحش فسبتني، فردعها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَبت، فَقَالَ لي: سبيهَا فسببتها حَتَّى جف رِيقهَا فِي فمها، فَرَأَيْت وَجهه يَتَهَلَّل) .
قَالَ إبْرَاهِيمُ: كانُوا يَكْرَهُونَ أنْ يُسْتَذَلُّوا فإذَا قَدَرُوا عَفَوْا
إِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ. قَوْله: (كَانُوا) أَي: السّلف. قَوْله: (أَن يستذلوا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول وَهُوَ من الذلك، وَهَذَا التَّعْلِيق ذكره عبد بن حميد فِي (تَفْسِيره) عَن قبيصَة عَنهُ، وَفِي رِوَايَة قَالَ مَنْصُور: سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن قَوْله: {وَالَّذين إِذا أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} (الشورى: 93) . قَالَ: كَانُوا يكْرهُونَ للْمُؤْمِنين أَن يذلوا أنفسهم فيجترىء الْفُسَّاق عَلَيْهِم.

7 - (بابُ عَفْوِ الْمَظْلُومِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حسن عَفْو الْمَظْلُوم عَمَّن ظلمه.
لِقَوْلِهِ تعالاى: {إنْ تُبْدُوا خَيْراً أوْ تُخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عنْ سِوءٍ فإنَّ الله كانَ عَفُوُّاً قَدِيراً} (النِّسَاء: 941) .
هَذَا تَعْلِيل لحسن عَفْو الْمَظْلُوم. قَوْله: {إِن تبدوا} (النِّسَاء: 941) . أَي: تظهروا {خيرا} (النِّسَاء: 941) . بَدَلا من السوء {أَو تُخْفُوهُ} (النِّسَاء: 941) . أَي: أَو أخفيتموه، أَو عفوتم عَمَّن أَسَاءَ إِلَيْكُم فَإِن ذَلِك مِمَّا يقربكم إِلَى الله تَعَالَى ويجزل ثوابكم لَدَيْهِ، فَإِن من صِفَاته تَعَالَى أَن يعْفُو عَن عباده مَعَ قدرته على عقابهم، وَلِهَذَا قَالَ: {فَإِن الله كَانَ عفوا قَدِيرًا} (النِّسَاء: 941) . وَلِهَذَا ورد فِي الْأَثر أَن حَملَة الْعَرْش يسبحون الله تَعَالَى، فَيَقُول بَعضهم: سُبْحَانَكَ على حلمك بعد علمك، وَيَقُول بَعضهم: سُبْحَانَكَ على عفوك بعد قدرتك. وَفِي (الصَّحِيح) : (مَا نقص مَال من صَدَقَة، وَمَا زَاد الله عبدا بِعَفْو إلاَّ عزا، وَمن تواضع لله رَفعه الله) . وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ

(12/291)


لأبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (مَا من عبد ظلم مظْلمَة فَعَفَا عَنْهَا إلاَّ أعز الله بهَا نَصره) . وَأخرج الطَّبَرِيّ عَن السّديّ فِي قَوْله: {أَو تعفوا عَن سوء} (النِّسَاء: 941) . أَي: عَمَّن ظلم.
وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةً مِثْلُهَا فَمَنْ عَفا وأصْلَحَ فأجْرُهُ عَلَى الله إنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (الشورى: 04) .
أَي: وَقَوله تَعَالَى: {وَجَزَاء سَيِّئَة ... } (الشورى: 04) . وَقَوله: {وَجَزَاء سَيِّئَة} (الشورى: 04) . إِلَى قَوْله: {من سَبِيل} (الشورى: 04) . آيَات متناسقة من سُورَة حم عسق، وروى ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ فِي قَوْله: {وَجَزَاء سية سَيِّئَة مثلهَا} (الشورى: 04) . قَالَ: إِذا شتمك شتمته بِمِثْلِهَا من غير أَن تعتدي، وَعَن الْحسن رخص لَهُ إِذا سبه أحد أَن يسبه، وَيُقَال: يُرِيد بقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} (الشورى: 04) . الْقصاص فِي الْجراح المتماثلة، وَإِذا قَالَ: أَخْزَاهُ الله، أَو: لَعنه الله، قابله بِمثلِهِ، وَسميت الثَّانِيَة: سَيِّئَة، لازدواج الْكَلَام ليعلم أَنه جَزَاء على الأولى.
{ولَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ويَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ ولَمَنْ صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذالِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ وتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا العَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} (الشورى: 14 44) .
اللَّام فِي: {وَلمن انتصر} للتَّأْكِيد أَي: انتقم. قَوْله: {بعد ظلمه} من إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول. قَوْله: {فَأُولَئِك} إِشَارَة إِلَى معنى من دون لَفظه {مَا عَلَيْهِم من سَبِيل} للمعاقب، وَالْمعْنَى: أَخذ حَقه بعد أَن ظلم فَأُولَئِك مَا عَلَيْهِم من سَبِيل إِلَى لومه، وَقيل: مَا عَلَيْهِم من إِثْم، إِنَّمَا السَّبِيل باللوم وَالْإِثْم على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس، يبتدرون النَّاس بالظلم ويبغون فِي الأَرْض يتكبرون فِيهَا وَيقْتلُونَ ويفسدون عَلَيْهِم بِغَيْر الْحق، أُولَئِكَ لَهُم عَذَاب أَلِيم أَي: مؤلم، وَلمن صَبر على الظُّلم والأذى وَلم ينتصر وفوض أمره إِلَى الله إِن ذَلِك الصَّبْر وَالْمَغْفِرَة مِنْهُ لمن عزم الْأُمُور، أَي: من الْأُمُور الَّتِي ندب إِلَيْهَا، والعزم: الْإِقْدَام على الْأَمر بعد الروية والفكر. قَوْله: {وَمن يضلل الله} أَي: وَمن يخلق الله تَعَالَى فِيهِ الضَّلَالَة، فَمَا لَهُ من ولي من بعده وَلَيْسَ لَهُ من نَاصِر يَتَوَلَّاهُ من بعد إضلاله إِيَّاه. قَوْله: {وَترى الظَّالِمين} أَي: الْكَافرين لما رَأَوْا الْعَذَاب أَي: لما يرَوْنَ، فجَاء بِلَفْظ الْمَاضِي تَحْقِيقا {يَقُولُونَ هَل إِلَى مرد من سَبِيل؟} أَي: هَل إِلَى رَجْعَة إِلَى الدُّنْيَا من حِيلَة، فنؤمن بك؟ وَذكر هَذِه الْآيَات الْكَرِيمَة لِأَنَّهَا تَتَضَمَّن عَفْو الْمَظْلُوم وصفحه واستحقاقه الْأجر الْجَمِيل وَالثَّوَاب الجزيل.

8 - (بابٌ الْظُّلْمُ ظُلُماتٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الظُّلم ظلمات، وَهُوَ جمع ظلمَة وَهُوَ خلاف النُّور، وَضم اللَّام فِيهِ لُغَة، وَيجوز فِي الظُّلُمَات ضم اللَّام وَفتحهَا وسكونها، وَيُقَال: أظلم اللَّيْل، والظلام أول اللَّيْل، والظلماء الظلمَة، وَرُبمَا وصف بهَا يُقَال لَيْلَة ظلماء، أَي: مظْلمَة، وظلم اللَّيْل بِالْكَسْرِ وأظلم بِمَعْنى، وَعَن الْفراء: أظلم الْقَوْم دخلُوا فِي الظلام، قَالَ الله تَعَالَى: {فَإِذا هم مظلمون} (يس: 73) . قَوْله: (يَوْم الْقِيَامَة) ، نصب على الظّرْف.

7442 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يونُسَ قَالَ حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ الْمَاجِشُونُ أخبرنَا عَبْدُ الله بنُ دِينارٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الظُّلْمُ ظُلُماتٌ يَوْمَ الْقِيامَةِ
التَّرْجَمَة هِيَ عين الحَدِيث، وَأحمد هُوَ ابْن عبد الله بن يُونُس أَبُو عبد الله التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي، وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله ابْن أبي سَلمَة الْمَاجشون، وَاسم أبي سَلمَة: دِينَار، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، والماجشون، بِضَم الْجِيم وَفتحهَا وَكسرهَا، وَهَذَا لقب يَعْقُوب بن أبي سَلمَة، وَسمي بذلك وَلَده وَأهل بَيته، وَلِهَذَا يرْوى هُنَا: عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون، وَلَيْسَ بلقب خَاص لعبد الْعَزِيز، وَسمي بذلك لِأَن وجنتيه كَانَتَا حمراوان، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَقد مر عبد الْعَزِيز فِي الْعلم وَمر الْكَلَام فِي معنى الْمَاجشون.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن حَاتِم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن عَبَّاس

(12/292)


الْعَنْبَري وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَرَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق محَارب بن دثار عَن ابْن عمر، وَزَاد فِي أَوله: يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا الظُّلم ... وَفِي رِوَايَة: وَإِيَّاكُم وَالظُّلم، وَأخرجه مُسلم أَيْضا من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: اتَّقوا الظُّلم فَإِن الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة وَاتَّقوا الشُّح ... الحَدِيث.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: الظُّلم يشْتَمل على معصيتين: أَخذ مَال الْغَيْر بِغَيْر حق، ومبارزة الْآمِر بِالْعَدْلِ بالمخالفة، وَهَذِه أدهى، لِأَنَّهُ لَا يكَاد يَقع الظُّلم إلاَّ للضعيف الَّذِي لَا نَاصِر لَهُ غير الله، وَإِنَّمَا ينشأ من ظلمَة الْقلب، لِأَنَّهُ لَو استنار بِنور الْهَدْي لنظر فِي العواقب. وَقَالَ الْمُهلب: الَّذِي يدل عَلَيْهِ الْقُرْآن: أَنَّهَا ظلمات على الْبَصَر حَتَّى لَا يَهْتَدِي سَبِيلا، قَالَ الله تَعَالَى فِي الْمُؤمنِينَ: {يسْعَى نورهم بَين أَيْديهم وبأيمانهم} (الْحَدِيد: 21) . وَقَالَ فِي الْمُنَافِقين: {انظرونا نقتبس من نوركم} (الْحَدِيد: 31) . فأثاب الله الْمُؤمن بِلُزُوم نور الْإِيمَان لَهُم، ولذذهم بِالنّظرِ إِلَيْهِ، وقوى بِهِ أَبْصَارهم، وعاقب الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ بِأَن أظلم عَلَيْهِم ومنعهم لَذَّة النّظر إِلَيْهِ. وَقَالَ الْقَزاز: الظُّلم هُنَا الشّرك، أَي: هُوَ عَلَيْهِم ظلام وعمى، وَمن هَذَا زعم بعض اللغويين أَن اشتقاق الظُّلم من الظلام، كَأَن فَاعله فِي ظلام عَن الْحق، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَن الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب.

9 - (بابُ الإتِّقَاءِ والحَذَرِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاتقاء أَي: الاجتناب وَالْخَوْف والحذر من دَعْوَة الْمَظْلُوم لِأَنَّهَا لَا ترد.

8442 - حدَّثنا يَحْياى بنُ مُوساى قَالَ حدَّثنا وكِيعٌ قَالَ حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ بنُ إسْحَاقَ الْمَكِّيُّ عنْ يَحْياى بنُ عَبْدِ الله بنِ صَيْفِيّ عنْ أبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَثَ مُعاذاً إلاى اليَمَنِ فَقَالَ اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فإنَّهَا لَيْسَ بَيْنَها وبيْنَ الله حجَابٌ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم) . والْحَدِيث مضى فِي أَوَاخِر كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب أَخذ الصَّدَقَة من الْأَغْنِيَاء. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بأتم مِنْهُ: عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله عَن زَكَرِيَّاء بن إِسْحَاق ... إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا: عَن يحيى بن مُوسَى ابْن عبد ربه أبي زَكَرِيَّاء السّخْتِيَانِيّ الْحدانِي الْبَلْخِي الَّذِي يُقَال لَهُ: خت، عَن وَكِيع بن الْجراح عَن زَكَرِيَّاء ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن دَعْوَة الْمَظْلُوم. ويروى: فَإِنَّهُ أَي: فَإِن الشَّأْن لَيْسَ بَين دَعْوَة الْمَظْلُوم وَبَين الله حجاب، وَمعنى عدم الْحجاب أَنَّهَا مجابة، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر مُفَسرًا دَعْوَة الْمَظْلُوم مجابة وَإِن كَانَ فَاجِرًا، ففجوره على نَفسه، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا.

01 - (بابُ مَنْ كَانتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلِمَتَهُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من كَانَت لَهُ مظْلمَة، أَي: الْمَأْخُوذ بِغَيْر حق عِنْد الرجل، ويروى: عِنْد رجل. قَوْله: (هَل يبين مظلمته؟) أَي: هَل يحْتَاج إِلَى بَيَان تِلْكَ الْمظْلمَة حَتَّى يَصح التَّحْلِيل؟ وَفِيه خلاف، فَلذَلِك لم يذكر جَوَاب: هَل.

9442 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبي إياسٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي ذِئْبٍ قَالَ حدَّثنا سَعيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ كانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قَبْلَ أنْ لاَ يَكُونَ دِينارٌ ولاَ دِرْهَمٌ إنْ كانَ لَهُ عَمَلٌ صالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ وإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ. (الحَدِيث 9442 طرفه فِي: 4356) .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، فَإِنَّهُ أَعم من أَن يبين قدر مَا يتَحَلَّل بِهِ، أَو لَا يبين، وَهَذَا يُقَوي قَول من قَالَ بِصِحَّة الْإِبْرَاء الْمَجْهُول، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من كَانَت لَهُ) ، قَالَ بَعضهم: اللَّام فِيهِ بِمَعْنى، على، أَي: من كَانَت عَلَيْهِ مظْلمَة لِأَخِيهِ. قلت:

(12/293)


لَا يحْتَاج إِلَى ذَلِك، بل اللَّام هُنَا بِمَعْنى: عِنْد، كَقَوْلِهِم: كتبته لخمس خلون، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن مَالك عَن المَقْبُري فِي الرقَاق بِلَفْظ: من كَانَت عِنْده مظْلمَة لِأَخِيهِ ... وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. قَوْله: (مظْلمَة) ، قَالَ ابْن مَالك: مظْلمَة، بِفَتْح اللَّام وَكسرهَا، وَالْكَسْر أشهر، وَقد رُوِيَ بِالضَّمِّ أَيْضا. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَالَ الْقَزاز بِضَم اللَّام وَكسرهَا، وَفِي (أدب الْكَاتِب) لِابْنِ قُتَيْبَة بِفَتْح اللَّام، وَنقل ابْن التِّين عَن ابْن قُتَيْبَة فتح اللَّام وَكسرهَا. قَالَ: وَضبط عَن (الصِّحَاح) ضمهَا، وَهُوَ خطأ. قَوْله: (من عرضه) ، بِكَسْر الْعين، وَعرض الرجل مَوضِع الْمَدْح والذم مِنْهُ، سَوَاء كَانَ فِي نَفسه أَو فِي سلفه أَو من يلْزمه أمره، وَقيل: هُوَ جَانِبه الَّذِي يصونه من نَفسه وحسبه ويحامي عَنهُ أَن ينتقص أَو يثلب. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: عرض الرجل نَفسه وبدنه لَا غير. قَوْله: (أَو شَيْء) ، أَي: من الْأَشْيَاء، وَهُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص، فَيدْخل فِيهِ المَال بأصنافه والجراحات حَتَّى اللَّطْمَة وَنَحْوهَا، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: من عرض أَو مَال. قَوْله: (فليتحلله) ، قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: يستوهبه وَيقطع دَعْوَاهُ عَنهُ، لِأَن مَا حرم الله من الْغَيْبَة لَا يُمكن تَحْلِيله، وَجَاء رجل إِلَى ابْن سِيرِين، فَقَالَ: اجْعَلنِي فِي حل فقد اغتبتك، فَقَالَ: إِنِّي لَا أحل مَا حرم الله تَعَالَى، وَلَكِن مَا كَانَ من قبلنَا فَأَنت فِي حل، وَيُقَال: معنى: فليتحلله إِذا سَأَلَهُ: أَن يَجعله فِي حل، يُقَال: تحللته واستحللته. قَوْله: (الْيَوْم) ، نصب على الظّرْف أَرَادَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. قَوْله: (قبل أَن لَا يكون دِينَار وَلَا دِرْهَم) ، يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (إِن كَانَ لَهُ عمل صَالح) إِلَى آخِره، معنى أَخذ الْحَسَنَات والسيئات أَن يَجْعَل ثَوَابهَا لصَاحب الْمظْلمَة، وَيجْعَل على الظَّالِم عُقُوبَة سيئاته. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَينه وَبَين قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461 والإسراء: 51 وفاطر: 81 وَالزمر: 7) . قلت: لَا تعَارض بَينهمَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعَاقب بِسَبَب فعله وظلمه، وَلم يُعَاقب بِغَيْر جِنَايَة مِنْهُ، لِأَنَّهُ لما تَوَجَّهت عَلَيْهِ حُقُوق للْغُرَمَاء دفعت إِلَيْهِم حَسَنَاته وَلما لم يبْق مِنْهَا بَقِيَّة، قوبل على حسب مَا اقْتَضَاهُ عدل الله تَعَالَى فِي عباده، فَأَخَذُوهَا من سيئاته فَعُوقِبَ بهَا. انْتهى. قلت فِيهِ: مَا فِيهِ يعلم بِالتَّأَمُّلِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَامَ الْإِجْمَاع على أَنه إِذا بَين مظلمته عَلَيْهِ فأبراه فَهُوَ نَافِذ، وَاخْتلفُوا فِيمَن بَينهمَا مُلَابسَة أَو مُعَاملَة ثمَّ حلل بعضهما بَعْضًا من كل مَا جرى بَينهمَا من ذل، فَقَالَ قوم: إِن ذَلِك بَرَاءَة لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِن لم يبين مِقْدَاره وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا تصح الْبَرَاءَة إِذا بَين لَهُ وَعرف مَاله عِنْده أَو قَارب ذَلِك بِمَا لَا مشاحة فِي ذكره، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة لهَذَا، لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {أخذت مِنْهُ بِقدر مظلمته) ، يدل أَنه يجب أَن يكون مَعْلُوم الْقدر مشاراً إِلَيْهِ، وَكَانَ ابْن الْمسيب لَا يحلل أحدا، وَكَانَ ابْن يسَار يحلل من الْعرض وَالْمَال، وَقَالَ مَالك: أما المَال فَنعم، وَأما من الْعرض: {فَإِنَّمَا السَّبِيل على الَّذين يظْلمُونَ النَّاس} (الشورى: 24) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَحسب مَالِكًا أَرَادَ: إِن أصَاب من عرض رجل لم يجز لوَارِثه أَن يحلله. وَقَالَ ابْن التِّين: وَأرَاهُ خلافًا لقَوْل مَالك، لِأَنَّهُ قَالَ: إِن مَاتَ وَلَا وَفَاء عِنْده، فَالْأَفْضَل أَن يحلله، وَأما من ظلم أَو اغتاب فَلَا، وَذكر الْآيَة، وَكَانَ بَعضهم يحلل من عرضه ويتأول الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا، وَكَانَ الْقَاسِم يحلل من ظلمه وَقَالَ الْخطابِيّ: إِذا اغتاب رجل رجلا فَإِن كَانَ بلغ القَوْل مِنْهُ ذَلِك فَلَا بُد أَن يسْتَحل، وَإِن لم يبلغهُ اسْتغْفر الله وَلَا يُخبرهُ، وَأما التَّحَلُّل فِي المَال فَإِنَّمَا يَصح ذَلِك فِي أَمر مَعْلُوم، وَقَالَ بعض أهل الْعلم: إِنَّمَا يَصح ذَلِك فِي الْمَنَافِع الَّتِي هِيَ أَعْرَاض، مثل أَن يكون قد غصبه دَارا فسكنها، أَو دَابَّة فركبها، أَو ثوبا فلبسه أَو يكون أعياناً فَتلفت، فَإِذا تحلل مِنْهَا صَحَّ التَّحَلُّل، فَإِن كَانَت الدَّار قَائِمَة وَالدَّرَاهِم فِي يَده حَاصِلَة لم يَصح التَّحَلُّل مِنْهَا إلاَّ أَن يهب أعيانها مِنْهُ، فَتكون هبة مستأنفة.
قَالَ أَبُو عبْدِ الله قَالَ اسْماعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ إنَّما سُمِّي الْمَقْبُرِيُّ لِأَنَّهُ كانَ نَزَلَ ناحِيَةَ الْمَقابِرِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس من شُيُوخه، وَاسم أبي أويس عبد الله الأصبحي الْمدنِي ابْن أُخْت مَالك بن أنس قَوْله: (إِنَّمَا سمى) ، أَي: سعيد، الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث: المَقْبُري لنزوله نَاحيَة الْمَقَابِر بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّة. وَقَوله: (قَالَ أَبُو عبد الله) إِلَى آخِره، إِنَّمَا يثبت فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده.
قَالَ أبُو عبد الله وسَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ هُوَ مَوْلاى بَنِي ليْثٍ وهْو سَعيدُ بنُ أبي سَعِيدٍ وَاسم ابي سعيد كَيْسَانُ
هَذَا أَيْضا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده، وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، وَكَانَ اسْم أبي سعيد كيسَان، كَانَ مكَاتبا لامْرَأَة من أهل الْمَدِينَة من بني لَيْث بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة، وكيسان روى عَن عمر بن الْخطاب، وَعلي بن أبي طَالب وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد

(12/294)


الْخُدْرِيّ، وروى عَنهُ ابْنه سعيد وَآخَرُونَ، وَقَالَ مُحَمَّد بن عمر: كَانَ ثِقَة كثير الحَدِيث، توفّي سنة مائَة فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، وَقَالَ الْحَرْبِيّ: جعله عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على حفر الْقُبُور فَسُمي المَقْبُري، وَأما ابْنه سعيد فروى عَن أبي هُرَيْرَة وَأنس بن مَالك وَجَابِر بن عبد الله وَعبد الله بن عمر وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعَائِشَة وَأم سَلمَة وَآخَرين، وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ وَمُحَمّد بن سعد وَأَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ وَآخَرُونَ: ثِقَة، وَكَذَا قَالَ ابْن خرَاش، وَزَاد: جليل أثبت النَّاس فِيهِ اللَّيْث، وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة بِالْمَدِينَةِ، روى لَهُ الْجَمَاعَة وَآخَرُونَ.