عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 54 - (كتابٌ فِي اللُّقْطَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام اللّقطَة، هَكَذَا
وَقع للمستملي والنسفي: كتاب فِي اللّقطَة، وَكَذَا وَقع
فِي رِوَايَة ابْن التِّين وَابْن بطال. وتبعهما على ذَلِك
صَاحب (التَّلْوِيح) ، وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: بِسم
الله الرَّحْمَن الرَّحِيم: بَاب إِذا أخبر رب اللّقطَة
بالعلامة دفع إِلَيْهِ، على مَا يَجِيء. واللقطة، بِضَم
اللَّام وَفتح الْقَاف: اسْم لِلْمَالِ الْمُلْتَقط. قَالَ
بعض شرَّاح كتب الْحَنَفِيَّة: إِن هَذَا اسْم الْفَاعِل
للْمُبَالَغَة، وبسكون الْقَاف اسْم مفعول، كالضحكة،
وَمعنى الْمُبَالغَة فِيهِ لزِيَادَة معنى اخْتصَّ بِهِ،
وَهُوَ أَن كل من رَآهَا يمِيل إِلَى رَفعهَا،
فَكَأَنَّهَا تَأمره بِالرَّفْع لِأَنَّهَا حاملة
إِلَيْهِ، فأسند إِلَيْهَا مجَازًا، فَجعلت كَأَنَّهَا
هِيَ الَّتِي رفعت نَفسهَا، وَنَظِيره قَوْلهم: نَاقَة
حَلُوب،
(12/263)
ودابة ركُوب وَهُوَ اسْم فَاعل سميت بذلك
لِأَن من رَآهَا يرغب فِي الْحَلب وَالرُّكُوب، فَنزلت
كَأَنَّهَا أحلبت نَفسهَا وأركبت نَفسهَا. قلت: فِيهِ تعسف
وَلَيْسَ كَذَلِك، بل اللّقطَة سَوَاء كَانَ بِفَتْح
الْقَاف أَو سكونها اسْم مَوْضُوع على هَذِه الصِّيغَة
لِلْمَالِ الْمُلْتَقط، وَلَيْسَ هَذَا مثل الضحكة، وَلَا
مثل نَاقَة حلوف ودابة ركُوب، لِأَن هَذِه صِفَات تدل على
الْحُدُوث والتجدد، غير أَن الأول للْمُبَالَغَة فِي وصف
الْفَاعِل أَو الْمَفْعُول، وَالثَّانِي وَالثَّالِث
بِمَعْنى الْمَفْعُول للْمُبَالَغَة. وَقَالَ ابْن سَيّده:
اللَقطة واللُقطة واللِقاطة: مَا الْتقط وَفِي (الْجَامِع)
: اللّقطَة مَا التقطه الْإِنْسَان فَاحْتَاجَ إِلَى
تَعْرِيفه. وَفِي (التَّلْوِيح) : وَقيل: اللّقطَة هُوَ
الرجل الَّذِي يلتقط، وَاسم الْمَوْجُود: لقطَة، وَعَن
الْأَصْمَعِي وَابْن الْأَعرَابِي وَالْفراء، بِفَتْح
الْقَاف: اسْم المَال. وَعَن الْخَلِيل هِيَ بِالْفَتْح
اسْم الْمُلْتَقط كَسَائِر مَا جَاءَ على هَذَا الْوَزْن
يكون اسْم الْفَاعِل كهمزة ولمزة، وبسكون الْقَاف اسْم
المَال الملقوط. قَالَ الْأَزْهَرِي: هَذَا قِيَاس
اللُّغَة وَلَكِن كَلَام الْعَرَب فِي اللُّغَة على غير
الْقيَاس، فَإِن الروَاة أَجمعُوا على أَن اللّقطَة
يَعْنِي، بِالْفَتْح: اسْم للشَّيْء الْمُلْتَقط،
والالتقاط العثور على الشَّيْء من غير قصد وَطلب، وَفِي
(أدب الْكتاب) تسكين الْقَاف من لحن الْعَامَّة، ورد
عَلَيْهِ بِمَا ذكرنَا عَن الْخَلِيل، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَيُقَال لَهَا أَيْضا لقاطة، بِالضَّمِّ
ولقط بِفَتْح الْقَاف وَاللَّام بِلَا هَاء.
1 - (بابٌ إذَا أخبرهُ رَبُّ اللُّقْطَةِ بِالعَلامَةِ
دَفَعَ إلَيْهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أخبر إِلَى آخِره،
وَأخْبر على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (رب اللّقطَة)
بِالرَّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: أخبر، قَوْله: دفع، على
صِيغَة الْمَعْلُوم أَيْضا أَي: دفع الْمُلْتَقط اللّقطَة
إِلَى رَبهَا، وَفِي بعض النّسخ إِذا أخبرهُ، بالضمير
الْمَنْصُوب، أَي: إِذا أخبر الْمُلْتَقط رب اللّقطَة
بالعلامة دفع إِلَيْهِ.
6242 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ وحدَّثني
مُحمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدُرٌ قَالَ
حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَلَمَةَ سَمِعْتُ سُويْدَ بنَ
غَفَلَةَ قَالَ لَ قِيتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ أخَذْتُ صُرَّةً مِائَةَ دِينارٍ
فأتَيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
عَرِّفْهَا حَوْلاً فعرَّفْتُهَا حَوْلَها فلَمْ أجِدْ
مَنْ يَعْرِفُها ثُمَّ أتَيْتُهُ فَقَالَ عرِّفْهَا
حَوْلاً فعَرَّفْتُها فلَمْ أجِدْ ثُمَّ أتَيْتُهُ ثَلاثاً
فَقَالَ احْفَظْ وِعاءَهَا وعدَدَها وَوِكَاءَها فإنْ جاءَ
صاحِبُها وإلاَّ فاسْتَمْتِعْ بِهَا فاسْتَمْتَعْتُ
فلَقِيتُهُ بَعْدُ بِمَكَّةَ فَقَالَ لَا أدْرِي ثَلاثَةَ
أحْوَالٍ أوْ حَوْلاً واحِداً. (الحَدِيث 6242 طرفه فِي:
7342) .
لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث مَا يشْعر صَرِيحًا على
التَّرْجَمَة، أللهم إِلَّا إِذا قيل: وَقع فِي بعض طرق
هَذَا الحَدِيث مَا يشْعر على التَّرْجَمَة، فَكَأَنَّهُ
أَشَارَ إِلَى ذَلِك وَهُوَ فِي رِوَايَة مُسلم، فَإِنَّهُ
روى هَذَا الحَدِيث مطولا بطرق مُتعَدِّدَة، وَفِي
بَعْضهَا، قَالَ: فَإِن جَاءَ أحد يُخْبِرك بعددها ووعائها
ووكائها فأعطها إِيَّاه. فَإِن قلت: قَالَ أَبُو دَاوُد:
هَذِه زِيَادَة زَادهَا حَمَّاد بن سَلمَة، وَهِي غير
مَحْفُوظَة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هِيَ مَحْفُوظَة
صَحِيحَة، فَإِن سُفْيَان وَزيد بن أبي أنيسَة وافقا
حَمَّاد بن سَلمَة فِي هَذِه الزِّيَادَة فِي رِوَايَة
مُسلم، وَكَذَلِكَ سُفْيَان فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ،
حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن عَليّ الْخلال حَدثنَا
يزِيد بن هَارُون وَعبد الله بن نمير عَن سُفْيَان عَن
سَلمَة بن كهيل عَن سُوَيْد بن غَفلَة ... الحَدِيث،
وَفِيه: وَقَالَ إحصِ عدتهَا ووعاءها ووكاءها، فَإِن جَاءَ
طالبها فأخبرك بعدتها ووعائها ووكائها فادفعها إِلَيْهِ،
وإلاَّ فاستمتع بهَا.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة، لِأَنَّهُ أخرجه من طَرِيقين
الأول: عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج
عَن سَلمَة بن كهيل بِضَم الْكَاف عَن سُوَيْد بِضَم
السِّين الْمُهْملَة ابْن غَفلَة، بالغين الْمُعْجَمَة
وَالْفَاء وَاللَّام مفتوحات: الْجعْفِيّ الْكُوفِي أدْرك
الْجَاهِلِيَّة ثمَّ أسلم وَلم يُهَاجر. مَاتَ سنة
ثَمَانِينَ وَله مائَة وَعِشْرُونَ سنة، وَقيل: إِنَّه
صَحَابِيّ، وَالْأول أصح، وروى عَنهُ أَنه قَالَ: أَنا
لِدَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولدت عَام
الْفِيل، قدم الْمَدِينَة حِين نفضت الْأَيْدِي من دفن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد رُوِيَ عَنهُ
أَنه صلى مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأول
أثبت. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن مُحَمَّد بن بشار عَن
غنْدر،
(12/264)
وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة
... إِلَى آخِره، وَهَذَا أنزل، وَلم يسق الْمَتْن إلاَّ
على النَّازِل، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَبْدَانِ،
واسْمه عبد الله بن عُثْمَان وَعَن سُلَيْمَان بن حَرْب
فرقهما. وَأخرجه مُسلم فِي اللّقطَة أَيْضا عَن أبي بكر بن
نَافِع وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر بِهِ، وَعَن عبد
الرَّحْمَن بن بشر وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن
مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم
وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
عَن مُحَمَّد بن كثير عَن شُعْبَة بِهِ وَعَن مُسَدّد بن
مسرهد وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة
بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن الْحسن
بن عَليّ الْخلال، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي اللّقطَة عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن
مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن عَمْرو بن عَليّ الفلاس
وَعَن عَمْرو بن يزِيد وَعَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه
ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن عَليّ بن مُحَمَّد
الطنافسي عَن وَكِيع.
ذكر من أخرجه، وَغَيره من أَحَادِيث هَذَا الْبَاب: وَلما
روى التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث، قَالَ: وَفِي الْبَاب
عَن عبد الله بن عَمْرو، والجارود بن الْمُعَلَّى، وعياض
بن حَمَّاد، وَجَرِير بن عبد الله. قلت: وَفِي الْبَاب عَن
عمر بن الْخطاب، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَسَهل بن سعد،
وَأبي هُرَيْرَة، وَجَابِر، وَعبد الله بن الشخير، ويعلى
بن مرّة، وسُويد بن أبي عقبَة، وَزيد بن خَالِد،
وَعَائِشَة، وَرجل من الصَّحَابَة، والمقداد.
أما حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد من
رِوَايَة ابْن عجلَان عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه
عَن جده عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه سُئِلَ عَن التَّمْر
الْمُعَلق ... الحَدِيث، وَفِيه: سُئِلَ عَن اللّقطَة،
فَقَالَ: مَا كَانَ فِيهَا فِي طَرِيق الميتاء والقرية
الجامعة فعرفها سنة، فَإِن جَاءَ طالبها فادفعها إِلَيْهِ،
فَإِن لم يَأْتِ فَهِيَ لَك، وَمَا كَانَ فِي الخراب
فَفِيهَا وَفِي الرِّكَاز الْخمس، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ
أَيْضا. قَوْله: (الميتاء) ، بِكَسْر الْمِيم: الطَّرِيق
المسلوك على وزن: مفعال، من الْإِتْيَان، وَالْمِيم
زَائِدَة وبابه الْهمزَة. وَأما حَدِيث الْجَارُود بن
مُعلى فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، (قَالَ: أَتَيْنَا
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنحن على إبل عجاف،
فَقُلْنَا إِنَّا نمر بموض قد سَمَّاهُ، فنجد إبِلا
فنركبها. قَالَ: ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار) . وَله
حَدِيث آخر رَوَاهُ أَحْمد، وَفِيه: (فَإِن وجدت رَبهَا
فادفعها إِلَيْهِ وإلاَّ فَمَال الله يؤتيه من يَشَاء) .
وَأما حَدِيث عِيَاض بن حَمَّاد فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من وجد لقطَة فليشهد ذَوا
عدل وَلَا يكتم وَلَا يغب، فَإِن وجد صَاحبهَا فليردها
عَلَيْهِ وإلاَّ فَهُوَ مَال الله) . وَأما حَدِيث جرير بن
عبد الله فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ، وَلَفظه: (لَا
يؤوي الضَّالة إلاَّ ضال) ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن
مَاجَه أَيْضا.
وَأما حَدِيث عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنهُ، وَلَفظه: (عرفهَا سنة) .
وَأما حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
أَيْضا مطولا فَينْظر فِي مَوْضِعه. وَأما حَدِيث سهل بن
سعد فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا مطولا ينظر فِي
مَوْضِعه. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: (لَا تحل اللّقطَة من الْتقط شَيْئا فليعرفه،
فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فليردها إِلَيْهِ، فَإِن لم يَأْتِ
فليتصدق بهَا فَإِن جَاءَ فليخيره بَين الْأجر وَبَين
الَّذِي لَهُ) ، وَلأبي هُرَيْرَة حَدِيث آخر رَوَاهُ
الْبَزَّار. وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
عَنهُ، قَالَ: رخص لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْط وَالْحَبل وأشباهه يلتقطه
الرجل ينْتَفع بِهِ. وَأما حَدِيث عبد الله بن الشخير
فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار)
. وَأما حَدِيث يعلى بن مرّة فَرَوَاهُ أَحْمد فِي
(مُسْنده) عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من الْتقط لقطَة يسيرَة، درهما أَو حبلاً
أَو شبه ذَلِك، فليعرفه ثَلَاثَة أَيَّام، وَإِن كَانَ
فَوق ذَلِك فليعرفه سِتَّة أَيَّام. وَأما حَدِيث سُوَيْد
فَرَوَاهُ ابْن قَانِع فِي مُعْجمَة عَنهُ، قَالَ: سَأَلت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اللّقطَة،
فَقَالَ: عرفا سنة فَإِن جَاءَ صاجبها فأدها إِلَيْهِ
وَإِلَّا فأوثق صرارها ووكاءها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا
فأدها إِلَيْهِ، وإلاَّ فشأنك بهَا، وَسَماهُ ابْن قَانِع:
سُوَيْد بن عقبَة الْجُهَنِيّ، وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي
(الِاسْتِيعَاب) : سُوَيْد أَبُو عقبَة الْأنْصَارِيّ،
وَقَالَ: حَدِيثه فِي اللّقطَة صَحِيح. وَأما حَدِيث زيد
بن خَالِد فَرَوَاهُ الْأَئِمَّة السِّتَّة على مَا يَجِيء
بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما حَدِيث عَائِشَة
فَرَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَت ترخص
للْمُسَافِر أَن يلتقط السَّوْط والعصا والإداوة والنعلين
والمزود، وَالظَّاهِر أَنه مَحْمُول على السماع، وَعَن أم
سَلمَة مثله. وَأما الحَدِيث عَن رجل من الصَّحَابَة
فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (أَنه سُئِلَ عَن الضَّالة؟ فَقَالَ: أعرف
عفاصها ووكاءها ثمَّ عرفهَا ثَلَاثَة أَيَّام على بَاب
الْمَسْجِد، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فشأنك بهَا) .
وَأما حَدِيث الْمِقْدَاد فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، عَنهُ
أَنه دخل خربة
(12/265)
فَخرج جرذ وَمَعَهُ دِينَار، ثمَّ آخر
حَتَّى أخرج سَبْعَة عشر دِينَارا فَأخْبر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم خَبَرهَا، فَقَالَ: لَا صَدَقَة
فِيهَا، بَارك الله لَك فِيهَا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أخذت) ، هَكَذَا رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: أصبت، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: وجدت. قَوْله: (مائَة دِينَار) نصب
على أَنه بدل من: صرة، وَيجوز الرّفْع على تَقْدِير:
فِيهَا مائَة دِينَار. قَوْله: (فعرفها) بِالتَّشْدِيدِ
أَمر من التَّعْرِيف، وَهُوَ أَن يُنَادي فِي الْموضع
الَّذِي لقاها فِيهِ وَفِي الْأَسْوَاق والشوارع والمساجد،
وَيَقُول: من ضَاعَ لَهُ شَيْء فليطلبه عِنْدِي. قَوْله:
(فعرفتها أَيْضا) ، بِالتَّشْدِيدِ من التَّعْرِيف، و:
(حولا) نصب على الظّرْف. قَوْله: (من يعرفهَا)
بِالتَّخْفِيفِ من عرف يعرف معرفَة وعرفاناً. قَوْله:
(ثمَّ أَتَيْته ثَلَاثًا) ، أَي: ثَلَاث مَرَّات،
الْمَعْنى: أَنه أَتَى ثَلَاث مَرَّات، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ
أَنه أَتَى بعد الْمَرَّتَيْنِ الْأَوليين ثَلَاث مَرَّات،
وَإِن كَانَ ظَاهر الْكَلَام يَقْتَضِي ذَلِك لِأَن: ثمَّ
إِذا تخلفت عَن معنى التَّشْرِيك فِي الحكم وَالتَّرْتِيب
والمهلة تكون زَائِدَة فَلَا تكون عاطفة أَلْبَتَّة قَالَه
الْأَخْفَش والكوفيون وحملوا على ذَلِك قَوْله تَعَالَى:
{حَتَّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ
وَضَاقَتْ عَلَيْهِم أنفسهم وظنوا أَن لَا ملْجأ من الله
إلاَّ إِلَيْهِ ثمَّ تَابَ عَلَيْهِم} (التَّوْبَة: 811) .
ويوضح مَا ذكرنَا رِوَايَة مُسلم، فَقَالَ: أَي: أبي بن
كَعْب: (إِنِّي وجدت صرة فِيهَا مائَة دِينَار على عهد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: عرفهَا
حولا. قَالَ: فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أَتَيْته،
فَقَالَ: عرفهَا حولا، فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ
أَتَيْته فَقَالَ: عرفهَا حولا، فَلم أجد من يعرفهَا،
فَقَالَ: احفظ عَددهَا. .) الحَدِيث. وَقد اخْتلفت
الرِّوَايَات فِي هَذَا، فَفِي رِوَايَة: عرفهَا ثَلَاثًا،
وَفِي أُخْرَى: أَو حولا وَاحِدًا، وَفِي أُخْرَى: فِي سنة
أَو فِي ثَلَاث سِنِين، وَفِي أُخْرَى: عَاميْنِ أَو
ثَلَاثَة. وروى مُسلم عَن جمَاعَة هَذَا الحَدِيث، ثمَّ
قَالَ: وَفِي حَدِيثهمْ جَمِيعًا ثَلَاثَة أَحْوَال إلاَّ
حَمَّاد بن سَلمَة، فَإِن فِي حَدِيثه: عَاميْنِ أَو
ثَلَاثَة. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: لم يقل أحد من أَئِمَّة
الْفَتْوَى بِظَاهِرِهِ من أَن اللّقطَة تعرف ثَلَاثَة
أَعْوَام إلاَّ رِوَايَة جَاءَت عَن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَقد روى عَن عمر أَنَّهَا تعرف سنة مثل
قَول الْجَمَاعَة، وَفِي الْحَاوِي عَن شواذ من
الْفُقَهَاء أَنَّهَا تعرف ثَلَاثَة أَحْوَال. وَقَالَ
ابْن الْمُنْذر عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
يعرفهَا ثَلَاثَة أشهر. قَالَ: وروينا عَنهُ: ثَلَاثَة
أَيَّام، ثمَّ يعرفهَا سنة، وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَن
رِوَايَة الثَّلَاثَة أَحْوَال: إِمَّا أَن يكون غَلطا من
بعض الروَاة، وَإِمَّا أَن يكون الْمُعَرّف عرفهَا تعريفاً
غير جيد كَمَا قَالَ للمسيء صلَاته: إرجع فصل فَإنَّك لم
تصل، وَذكر ابْن حزم عَن عمر بن الْخطاب: يعرف اللّقطَة
ثَلَاثَة أشهر، وَفِي رِوَايَة: أَرْبَعَة أشهر، وَعَن
الثَّوْريّ: الدِّرْهَم يعرف أَرْبَعَة أَيَّام. وَقَالَ
صَاحب (الْهِدَايَة) : إِن كَانَت أقل من عشرَة دَرَاهِم
يعرفهَا أَرْبَعَة، وَإِن كَانَت عشرَة فَصَاعِدا عرفهَا
حولا، وَهَذِه رِوَايَة عَن أبي حنيفَة، وَقدر مُحَمَّد
الْحول من غير تَفْصِيل بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَهُوَ
ظَاهر الْمَذْهَب، وَفِي (التَّوْضِيح) : كَذَا قَالَه
أَبُو إِسْحَاق فِي تنبيهه، وَالْمذهب الْفرق، فالكثير
يعرف سنة، والقليل يعرف مُدَّة يغلب على الظَّن قلَّة أَسف
صَاحبه عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ روى عَنهُ تَعْرِيف سنة: عَليّ
وَابْن عَبَّاس وَسَعِيد بن الْمسيب وَالشعْبِيّ،
وَإِلَيْهِ ذهب مَالك والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَأحمد،
وَنقل الْخطابِيّ إِجْمَاع الْعلمَاء فِيهِ، وَقَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ: ابْتِدَاء الْحول من يَوْم التَّعْرِيف، لَا
من الْأَخْذ. قَوْله: (إحفظ وعاءها) ، بِكَسْر الْوَاو
وَقد يضم وبالمد، وَقَرَأَ الْحسن بِالضَّمِّ فِي قَوْله:
وعَاء أَخِيه، وَقَرَأَ سعيد بن جُبَير إعاء أَخِيه، بقلب
الْوَاو همزَة مَكْسُورَة، والوعاء مَا يَجْعَل فِيهِ
الشَّيْء سَوَاء كَانَ من جلدٍ أَو خرق أَو خشب أَو غير
ذَلِك، وَيُقَال: الْوِعَاء هُوَ الَّذِي يكون فِيهِ
النَّفَقَة، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: هُوَ الْخِرْقَة.
قَوْله: (ووكاءها) ، بِكَسْر الْوَاو وبالمد، وَهُوَ
الَّذِي يشد بِهِ رَأس الْكيس، أَو الصرة أَو غَيرهَا،
وَيُقَال: أوكيته إيكاءً، فَهُوَ موك، بِلَا همز. وَزَاد
فِي حَدِيث زيد بن خَالِد العفاص، كَمَا يَجِيء عَن قريب.
قَوْله: (فَإِن جَاءَ صَاحبهَا) ، شَرط جَزَاؤُهُ
مَحْذُوف، نَحْو: فارددها إِلَيْهِ. قَوْله: (وإلاَّ) ،
أَي: وَإِن لم يَجِيء صَاحبهَا فاستمتع بهَا، اسْتدلَّ
بِهِ قوم. وَبِقَوْلِهِ: (فشأنك بهَا) ، فِي حَدِيث
سُوَيْد الَّذِي مضى: على أَن بعد السّنة يملك الْمُلْتَقط
اللّقطَة، وَهَذَا خرق لإِجْمَاع أَئِمَّة الْفَتْوَى فِي
أَنه يردهَا بعد الْحول أَيْضا إِذا جَاءَ صَاحبهَا،
لِأَنَّهَا وَدِيعَة عِنْده، وَلقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: فأدها إِلَيْهِ. قَوْله: (فَلَقِيته بعد بِمَكَّة)
، الْقَائِل بقوله: لَقيته، شُعْبَة، وَالضَّمِير
الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى سَلمَة بن كهيل. قَوْله:
(بعد) ، بِضَم الدَّال، أَي: بعد ذَلِك. قَوْله:
(بِمَكَّة) ، حَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب أَي: حَال
كَون سَلمَة بِمَكَّة، يَعْنِي: كَانَ ملاقاة شُعْبَة
بسلمة
(12/266)
فِي مَكَّة، وَقد أوضح ذَلِك مُسلم فِي
رِوَايَته حَيْثُ قَالَ: قَالَ شُعْبَة: فَسَمعته بعد عشر
سِنِين يَقُول: عرفهَا عَاما وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ صرح
بذلك أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) : يُقَال
فِي آخر الحَدِيث: قَالَ شُعْبَة: فَلَقِيت سَلمَة بعد
ذَلِك، فَقَالَ: لَا أَدْرِي ثَلَاثَة أَحْوَال أَو حولا
وَاحِدًا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (فَلَقِيته) ،
أَي: قَالَ سُوَيْد: لقِيت أبي بن كَعْب بعد ذَلِك
بِمَكَّة، قلت: تبع فِي ذَلِك ابْن بطال حَيْثُ قَالَ:
الَّذِي شكّ فِيهِ هُوَ أبي بن كَعْب، وَالْقَائِل هُوَ
سُوَيْد بن غَفلَة، وَلَكِن يرد هَذَا مَا ذَكرْنَاهُ عَن
مُسلم وَالطَّيَالِسِي. قَوْله: (فَقَالَ: لَا أَدْرِي)
أَي: قَالَ سَلمَة بن كهيل، وَهُوَ الشاك فِيهِ، وعَلى
قَول ابْن بطال: الشاك هُوَ أبي بن كَعْب، والسائل مِنْهُ
هُوَ سُوَيْد بن غَفلَة، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: التَّعْرِيف بِثَلَاثَة
أَحْوَال، وَلَكِن الشَّك فِيهِ يُوجب سُقُوط الْمَشْكُوك،
وَهُوَ الثَّلَاثَة. وَقَالَ ابْن بطال: لم يقل أحد من
أَئِمَّة الْفَتْوَى بِظَاهِرِهِ بِأَن اللّقطَة تعرف
ثَلَاثَة أَحْوَال، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
وَفِيه: الْأَمر بِحِفْظ ثَلَاثَة أَشْيَاء: وَهِي
الْوِعَاء وَالْعدَد والوكاء، وَإِنَّمَا أَمر بِحِفْظ
هَذِه الْأَشْيَاء لوجوه من الْمصَالح: مِنْهَا: أَن
الْعَادة جَارِيَة بإلقاء الْوِعَاء والوكاء إِذا فرغ من
النَّفَقَة، وَأمره بمعرفته وَحفظه لذَلِك، وَمِنْهَا:
أَنه إِذا أمره بِحِفْظ هذَيْن فحفظ مَا فيهمَا أولى.
وَمِنْهَا: أَن يتَمَيَّز عَن مَاله فَلَا يخْتَلط بِهِ.
وَمِنْهَا: أَن صَاحبهَا إِذا جَاءَ بَغْتَة فَرُبمَا غلب
على ظَنّه صدقه، فَيجوز لَهُ الدّفع إِلَيْهِ. وَمِنْهَا:
أَنه إِذا حفظ ذَلِك وعرفه أمكه التَّعْرِيف لَهَا
وَالْإِشْهَاد عَلَيْهِ، وَأمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
بِحِفْظ هَذِه الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة، هُوَ على قَول من
يَقُول بِمَعْرِِفَة الْأَوْصَاف: يدْفع إِلَيْهِ بِغَيْر
بَيِّنَة. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا بُد من ذكر
جَمِيعهَا، وَلم يعْتَبر أصبغ الْعدَد، وَقَول ابْن
الْقَاسِم أوضح، فَإِذا أَتَى بِجَمِيعِ الْأَوْصَاف، هَل
يحلف مَعَ ذَلِك أَو لَا؟ قَولَانِ: النَّفْي لِابْنِ
الْقَاسِم وتحليفه لأَشْهَب، وَلَا تلْزمهُ بَيِّنَة عِنْد
مَالك، وَأَصْحَابه، وَأحمد وَدَاوُد، وَهُوَ قَول
البُخَارِيّ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ بِالْبَابِ الْمَذْكُور،
وَبِه قَالَ اللَّيْث بن سعد أَيْضا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ، وأصحابهما: لَا يجب الدّفع إلاَّ
بِالْبَيِّنَةِ، وتأولوا الحَدِيث على جَوَاز الدّفع
بِالْوَصْفِ إِذا صدقه على ذَلِك وَلم يقم الْبَيِّنَة،
وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي على ذَلِك بقوله فِي الحَدِيث
الآخر: الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَهَذَا مدعٍ،
وَقَالَ الشَّافِعِي: وَلَو وصفهَا عشرَة أنفس لَا يجوز
أَن يقسم بَينهم، وَنحن نعلم أَن كلهم كاذبون إلاَّ
وَاحِدًا مِنْهُم غير معِين، فَيجوز أَن يكون صَادِقا،
وَيجوز أَن يكون كَاذِبًا، وَأَنَّهُمْ عرفُوا الْوَصْف من
الْمُلْتَقط، وَمن الَّذِي ضَاعَت مِنْهُ، وَقَالَ شَيخنَا
زين: هَذَا معنى كَلَامه، وَظَاهر الحَدِيث يدل لما قَالَ
مَالك وَاللَّيْث وَأحمد، وَالله أعلم. وَلَو أخبر طَالب
اللّقطَة بصفاتها الْمَذْكُورَة فَصدقهُ الْمُلْتَقط
وَدفعهَا إِلَيْهِ ثمَّ جَاءَ طَالب آخر لَهَا وَأقَام
الْبَيِّنَة على أَنَّهَا ملكه، فقد اتَّفقُوا على
أَنَّهَا تنتزع مِمَّن أَخذهَا أَولا بِالْوَصْفِ وتدفع
للثَّانِي لِأَن الْبَيِّنَة أقوى من الْوَصْف، فَإِن
كَانَ قد أتلفهَا ضمنهَا.
وَاخْتلفُوا: هَل لمقيم الْبَيِّنَة أَن يضمن الْمُلْتَقط؟
فَقَالَ الشَّافِعِي: لَهُ تَضْمِينه لِأَنَّهُ دَفعه لغير
مَالِكه. وَقَالَت الْمَالِكِيَّة: لَا يضمن لِأَنَّهُ فعل
مَا أمره بِهِ الشَّارِع. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يقسم
بَينهمَا كَمَا يحكم فِي نفسين ادعا شَيْئا وَأَقَامَا
بَيِّنَة. وَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: وَإِن
دَفعهَا بِذكر الْعَلامَة ثمَّ جَاءَ آخر وَأقَام
الْبَيِّنَة بِأَنَّهُ لَهُ فَإِن كَانَت قَائِمَة أَخذهَا
مِنْهُ، وَإِن كَانَت هالكة يضمن أَيهمَا شَاءَ، وَيرجع
الْمُلْتَقط على الْآخِذ إِن ضمن، وَلَا يرجع الْأَخْذ على
أحد، وللملتقط أَن يَأْخُذ مِنْهُ كَفِيلا عِنْد الدّفع.
وَقيل: يخيَّر، وَإِن دَفعهَا إِلَيْهِ بتصديقه ثمَّ
أَقَامَ آخر بَيِّنَة أَنَّهَا لَهُ، فَإِن كَانَت
قَائِمَة أَخذهَا مِنْهُ، وَإِن كَانَت هالكه فَإِن كَانَ
دفع إِلَيْهِ بِغَيْر قَضَاء، فَلهُ أَن يضمن إيهما شَاءَ،
فَإِن ضمن الْقَابِض فَلَا يرجع بِهِ على أحد، وَإِن ضمن
الْمُلْتَقط فَلهُ أَن يرجع بِهِ على الْقَابِض، وللملتقظ
أَن يَأْخُذ بِهِ كَفِيلا، وَإِن كَانَ دَفعهَا إِلَيْهِ
بِقَضَاء ضمن الْقَابِض، وَلَا يضمن الْمُلْتَقط لِأَنَّهُ
مقهور، وَإِن أَقَامَ الْحَاضِر بَيِّنَة أَنَّهَا لَهُ
فَقضى بِالدفع إِلَيْهِ، ثمَّ حضر آخر وَأقَام بَيِّنَة
أَنَّهَا لَهُ لم يضمن.
وَفِيه: الِاسْتِمْتَاع باللقطة إِذا لم يَجِيء صَاحبهَا
وَاحْتج بِظَاهِرِهِ جمَاعَة، وَقَالُوا: يجوز للغني
وَالْفَقِير إِذا عرفهَا حولا أَن يسْتَمْتع بهَا، وَقد
أَخذهَا عَليّ بن أبي طَالب، وَهُوَ: يجوز لَهُ أَخذ
النَّفْل دون الْفَرْض، وَأبي بن كَعْب وَهُوَ من مياسير
الصَّحَابَة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانَ غَنِيا لم
يجز لَهُ الِانْتِفَاع بهَا، وَيجوز إِن كَانَ فَقِيرا،
وَلَا يتَصَدَّق بهَا على غَنِي، وَيتَصَدَّق بهَا على
فَقير أَجْنَبِيّا كَانَ أَو قَرِيبا مِنْهُ، وَكَذَا لَهُ
أَن يتَصَدَّق بهَا على أَبَوَيْهِ وَزَوجته وَولده إِذا
كَانُوا فُقَرَاء. فَإِن قلت: ظَاهر الحَدِيث حجَّة
عَلَيْكُم، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ
لأبي: فاستمتع بهَا. قَالَ: فاستمتعت! قلت: هَذَا حِكَايَة
حَال فَلَا تعم، وَيجوز أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرف
فقره أَو كَانَت عَلَيْهِ دُيُون، وَلَئِن سلمنَا أَنه
كَانَ غَنِيا، فَقَالَ لَهُ: استمتع بهَا، وَذَلِكَ جَائِز
عندنَا من الإِمَام على سَبِيل الْعرض، وَيحْتَمل
(12/267)
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرف أَنه فِي
مَال حَرْبِيّ كَافِر. ثمَّ لَو ضَاعَت اللّقطَة قبل
الْحول فَهَل يضمن أَو لَا؟ فَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَمُحَمّد بن الْحسن: إِن كَانَ حِين أَخذهَا أشهد
عَلَيْهِ ليردها لم يضمن، وإلاَّ ضمن، لحَدِيث عِيَاض بن
حَمَّاد وَقد ذَكرْنَاهُ وَعَن أبي يُوسُف: لَا يشْتَرط
الْإِشْهَاد كَمَا لَو أَخذهَا بِإِذن الْمَالِك، وَبِه
قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد، وَإِن لم يشْهد
عَلَيْهِ عِنْد الإلتقاط وَادّعى أَنه أَخذهَا ليردها.
وَادّعى صَاحبهَا أَنه أَخذهَا لنَفسِهِ، فَالْقَوْل
لصَاحِبهَا، وَيضمن الْمُلْتَقط قيمتهَا عِنْدهمَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف: القَوْل قَول الْمُلْتَقط، فَلَا
يضمن، وَإِذا لم يُمكنهُ الْإِشْهَاد بِأَن لم يجد أحدا
وَقت الِالْتِقَاط، أَو خَافَ من الظلمَة عَلَيْهَا، فَلَا
يضمن بالِاتِّفَاقِ.
وَاخْتلف فِي ضياعها بعد الْحول من غير تَفْرِيط، فالجمهور
على عدم الضَّمَان، وَنقل ابْن التِّين عَن
الشَّافِعِيَّة: أَنه إِذا نوى تَملكهَا ثمَّ ضَاعَت
ضمنهَا، وَعند الْبَعْض: لَا ضَمَان، ثمَّ عِنْد
الشَّافِعِيَّة: لَا يحْتَاج فِي إنفاقها على نَفسه إِلَى
اخْتِيَار التَّمْلِيك، بل إِذا انْقَضتْ السّنة دخلت فِي
ملكه، يدل عَلَيْهِ مَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: فَإِن
لم يَأْتِ فَهِيَ لَك. قَالَ شَيخنَا: هَذَا وَجه
لأَصْحَاب الشَّافِعِي، وَالصَّحِيح عِنْدهم: أَنه لَا بُد
من اخْتِيَار التَّمَلُّك قبل الْإِنْفَاق، وَهُوَ الَّذِي
صَححهُ النَّوَوِيّ، فَقَالَ: لَا بُد من اخْتِيَار
التَّمْلِيك لفظا.
وَفِيه: وَجه آخر: أَنه لَا يملكهَا إلاَّ بِالتَّصَرُّفِ
بِالْبيعِ وَنَحْوه، وَنقل ابْن التِّين عَن جَمِيع
فُقَهَاء الْأَمْصَار أَنه: لَيْسَ لَهُ أَن يتملكها قبل
السّنة، وَنقل عَن دَاوُد أَنه يأكلها ثمَّ يضمنهَا.
وَفِيه: دلَالَة على إبِْطَال قَول من يَدعِي علم الْغَيْب
بكهانة أَو سحر، لِأَنَّهُ لَو كَانَ يُعلم شَيْء من
الْغَيْب بذلك لما ذكر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لصَاحب اللّقطَة معرفَة الْأَوْصَاف الَّتِي ذكرهَا
فِيهِ.
2 - (بابُ ضالَّةِ الإبِلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْتِقَاط ضَالَّة
الْإِبِل، هَل يجوز التقاطها أم لَا؟ وَاكْتفى بِمَا فِي
الحَدِيث عَن الْجَزْم بِالْجَوَابِ، وَالْمرَاد بالضالة
هُنَا: الْإِبِل وَالْبَقر مِمَّا يحمي نَفسه وَيقدر على
الإبعاد فِي طلب المرعى وَالْمَاء، وَقيل: هِيَ الضائعة
فِي كل مَا يقتنى من الْحَيَوَان وَغَيره، يُقَال: ضل
الشَّيْء إِذا ضَاعَ وضل عَن الطَّرِيق إِذا حَار، والضالة
فِي الأَصْل فاعلة، ثمَّ اتَّسع فِيهَا فَصَارَت من
الصِّفَات الْغَالِبَة، وَيَقَع على الذّكر وَالْأُنْثَى
والاثنين وَالْجمع، وَيجمع على: ضوال.
7242 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثنا عبدُ
الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ رَبِيعَةَ قَالَ
حدَّثني يَزِيدُ مَوْلاى الْمُنْبَعِث عنْ زَيْدِ بنِ
خالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جَاءَ
أعْرَابي النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَألَهُ عَمَّا
يَلْتَقِطُهُ فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ احْفَظْ
عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فإنْ جاءَ أحدٌ يُخْبِرُكَ بِها
وإلاَّ فاسْتَنْفِقْها قَالَ يَا رسولَ الله فَضالَّةُ
الغَنَم قالَ لَكَ أوْ لِأَخيكَ أوْ لِلذِّئْبِ قَالَ
ضالَّةُ الْإبِلِ فَتَمَعَّرَ وجْهُ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مالَكَ ولَهَا معَها حِذَاؤُها
وسِقَاؤُهَا تَرِدُ الماءَ وتَأْكُلُ الشَّجَرَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ضَالَّة الْإِبِل) وَقد
مضى الحَدِيث فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب الْغَضَب فِي
الموعظة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن
مُحَمَّد عَن أبي عَامر عَن سُلَيْمَان بن بِلَال
الْمَدِينِيّ عَن ربيعَة بن عبد الرَّحْمَن إِلَى آخِره،
وَهَهُنَا أخرجه: عَن عَمْرو بن عَبَّاس بِالْبَاء
الْمُوَحدَة وَالسِّين الْمُهْملَة عَن عبد الرَّحْمَن بن
مهْدي بن حسان عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن ربيعَة بن أبي
عبد الرَّحْمَن الْمَعْرُوف بِالرَّأْيِ بِسُكُون الْهمزَة
عَن يزِيد من الزِّيَادَة مولى المنبعث، وَقد مضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى.
قَوْله: (جَاءَ أَعْرَابِي) وَفِي رِوَايَة مَالك عَن
ربيعَة: جَاءَ رجل، وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال
الْمَدِينِيّ عَن ربيعَة: سَأَلَهُ رجل عَن اللّقطَة، وَقد
مضى هَذَا فِي كتاب الْعلم، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ:
سُئِلَ عَن اللّقطَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: جَاءَ رجل
يسْأَله عَن اللّقطَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ: أَن
رجلا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
اللّقطَة، وَفِي رِوَايَة لَهُ: أَتَى رجلٌ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنا مَعَه، فَسَأَلَهُ عَن
اللّقطَة. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى مثل رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ، وَكَذَا فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ، وَفِي
رِوَايَة لَهُ: جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ عَن اللّقطَة، وَفِي رِوَايَة
حَدِيث هَذَا الْبَاب جَاءَ أَعْرَابِي، وَزعم ابْن
بشكوال: أَن هَذَا
(12/268)
السَّائِل عَن اللّقطَة هُوَ بِلَال، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَزاهُ لأبي دَاوُد، ورد عَلَيْهِ
بَعضهم بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نسخ أبي دَاوُد شَيْء من
ذَلِك، وَفِيه بُعدٌ أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يُوصف بِأَنَّهُ
أَعْرَابِي. قلت: ابْن بشكوال لم يُصَرح بِأَن
الْأَعرَابِي الَّذِي سَأَلَ هُوَ بِلَال، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: السَّائِل الْمَذْكُور
فِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال، وَهُوَ قَوْله:
سَأَلَهُ رجل، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: سُئِلَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ بِلَال وَلَفظ
السَّائِل أَعم من الْأَعرَابِي وَغَيره، وبلال وَغَيره،
وَابْن بشكوال أوضح السَّائِل بِأَنَّهُ بِلَال، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِنَّهُ كَلَام لَيْسَ فِيهِ
غُبَار، وَلَيْسَ فِيهِ بعد، وَلَو صرح بقوله:
الْأَعرَابِي هُوَ بِلَال، لَكَانَ ورد عَلَيْهِ مَا
قَالَه، وَأما عزو ابْن بشكوال ذَلِك إِلَى أبي دَاوُد
فَلَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن أَبَا دَاوُد روى هَذَا الحَدِيث
بطرق كَثِيرَة، وَلَيْسَ فِيهِ مَا عزاهُ ابْن بشكوال
إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَفظه: أَن رجلا سَأَلَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة: أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن اللّقطَة، وَلَيْسَ
لِبلَال ذكر أصلا، فَافْهَم. ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل:
ثمَّ ظَفرت بِتَسْمِيَة السَّائِل وَذَلِكَ فِيمَا أخرجه
الْحميدِي وَالْبَغوِيّ وَابْن السكن وَالْمَاوَرْدِيّ
وَالطَّبَرَانِيّ، كلهم من طَرِيق مُحَمَّد بن معن
الْغِفَارِيّ عَن ربيعَة عَن عقبَة بن سُوَيْد الْجُهَنِيّ
عَن أَبِيه، قَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن اللّقطَة، فَقَالَ: عرفهَا سنة ثمَّ أوثق وعاءها
... الحَدِيث، قَالَ: وَهُوَ أولى مَا فسر بِهِ هَذَا
الْمُبْهم لكَونه من رَهْط زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ.
انْتهى. قلت: حَدِيث سُوَيْد بن عقبَة الَّذِي يرويهِ
عَنهُ ابْنه عقبَة غير حَدِيث زيد بن خَالِد، فَكيف يُفَسر
الْمُبْهم الَّذِي فِي حَدِيث زيد بن خَالِد بِحَدِيث
سُوَيْد؟ وَلَا يلْزم من كَون سُوَيْد من رَهْط زيد أَن
يكون حَدِيثهمَا وَاحِدًا بِحَسب الصُّورَة، وَإِن كَانَا
فِي الْمَعْنى من بَاب وَاحِد، وَأَيْضًا هُوَ استبعد
كَلَام ابْن بشكوال فِي إِطْلَاق الْأَعرَابِي على بِلَال،
وَكَيف لَا يستبعد هُنَا إِطْلَاق الْأَعرَابِي على
سُوَيْد بن عقبَة؟ وَلَا يلْزم من سُؤال سُوَيْد رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اللّقطَة أَن يكون هُوَ
الْأَعرَابِي الَّذِي فِي حَدِيث زيد بن خَالِد. قَوْله:
(فَسَأَلَهُ عَمَّا يلتقطه) أَي: عَن الشَّيْء الَّذِي
يلتقطه، وَوَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات أَنه سَأَلَ عَن
اللّقطَة، وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم: سُئِلَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اللّقطَة الذَّهَب أَو
الْوَرق، وَهَذَا لَيْسَ بِقَيْد، وَإِنَّمَا هُوَ
كالمثال، وَحكم غير الذَّهَب وَالْفِضَّة كحكمهما، وَوَقع
فِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: وَسُئِلَ عَن النَّفَقَة.
قَوْله: (عرفهَا) ، بِالتَّشْدِيدِ أَمر من التَّعْرِيف.
قَوْله: (ثمَّ احفظ عفاصها) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة
وَتَخْفِيف الْفَاء وبالصاد هُوَ: الْوِعَاء الَّذِي يكون
فِيهِ النَّفَقَة، سَوَاء كَانَ من جلد أَو خرقَة أَو
حَرِير أَو غَيرهَا، واشتقاقه من: العفص، وَهُوَ الثني
والعطف لِأَن الْوِعَاء يثنى عَليّ مَا فِيهِ، وَوَقع فِي
(زَوَائِد الْمسند) لعبد الله بن أَحْمد من طَرِيق
الْأَعْمَش عَن سَلمَة فِي حَدِيث أبي أَو خرقتها، بدل
عفاصها، وَوَقع فِي حَدِيث أبي أَيْضا: احفظ وعاءها وعددها
ووكاءها، وَفِي حَدِيث زيد بن خَالِد: إحفظ عفاصها
ووكاءها، فأسقط ذكر الْعدَد وَزَاد ذكر العفاص، وَقد
اخْتلف فِي العفاص، فَذهب أَبُو عبيد إِلَى أَنه مَا يرْبط
فِيهِ النَّفَقَة، وَقَالَ الْخطابِيّ: أَصله: الْجلد
الَّذِي يلبس رَأس القارورة. وَقَالَ الْجُمْهُور: وَهُوَ
الْوِعَاء: قَالَ شَيخنَا: قَول الْخطابِيّ هُوَ الأولى،
فَإِنَّهُ جمع فِي حَدِيث زيد بَين الْوِعَاء والعفاص،
فَدلَّ على أَنه غَيره. قلت: الَّذِي ذكره شَيخنَا هُوَ
فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ
ذكر العفاص والوكاء، وَالَّذِي يَقُول: العفاص هُوَ
الْوِعَاء، هُوَ الأولى، وَلم يجمع فِي حَدِيث زيد إلاَّ
العفاص والوكاء، لِأَن الأَصْل حفظ العفاص الَّذِي هُوَ
الْوِعَاء. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: ثمَّ
إعرف وعاءها ووكاءها وعفاصها، فعلى مَا ذكرت يكون ذكر
الْوِعَاء أَو ذكر العفاص تَكْرَارا؟ قلت: قد ذكرت أَن
العفاص فِيهِ اخْتِلَاف، فعلى قَول من فسر العفاص
بِالْجلدِ الَّذِي يلبس رَأس القارورة لَا يكون تَكْرَارا.
فَإِن قلت: ذكر الْعدَد فِي حَدِيث أبي، وَلم يذكرهُ فِي
حَدِيث زيد؟ قلت: قد جَاءَ ذكر الْعدَد فِي حَدِيث زيد
أَيْضا فِي رِوَايَة لمُسلم، أَو الظَّاهِر أَن تَركه
هُنَا بسهو من الرَّاوِي، وَالله أعلم. قَوْله: (فَإِن
جَاءَ أحد يُخْبِرك بهَا) ، جَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف،
تَقْدِيره: فَإِن جَاءَ أحد يُخْبِرك باللقطة وأوصافها
فأدها إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن يُوسُف عَن
سُفْيَان، كَمَا سَيَأْتِي، فَإِن جَاءَ أحد يُخْبِرك
بعفاصها ووكائها. قَوْله: (وإلاَّ فاستنفقها) ، أَي: وَإِن
لم يَأْتِ أحد بعد التَّعْرِيف حولا فاستنفقها من
الاستنفاق، وَهُوَ استفعال، وَبَاب الاستفعال للطلب، لَكِن
الطّلب على قسمَيْنِ: صَرِيح وتقديري، وَهَهُنَا لَا
يَتَأَتَّى الصَّرِيح فَيكون للطلب التقديري، كَمَا فِي
قَوْلك: استخرجت الوتد من الْحَائِط: فَإِن قلت: فِي
رِوَايَة مَالك كَمَا يَجِيء بعد بَاب: (اعرف عفاصها
ووكاءها ثمَّ عرفهَا سنة) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد، من
طَرِيق عبد الله بن يزِيد مولى المنبعث بِلَفْظ: (عرفهَا
حولا فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فادفعها إِلَيْهِ، وإلاَّ أعرف
وكاءها وعفاصها ثمَّ اقبضها فِي مَالك) . فرواية مَالك
تَقْتَضِي سبق الْمعرفَة على التَّعْرِيف، وَرِوَايَة
(12/269)
أبي دَاوُد بِالْعَكْسِ. قلت: قَالَ
النَّوَوِيّ: الْجمع بَينهمَا بِأَن يكون مَأْمُورا
بالمعرفة فِي حالتين، فَيعرف العلامات أول مَا يلتقط
حَتَّى يعلم صدق واصفها إِذا وصفهَا، ثمَّ بعد تَعْرِيفهَا
سنة إِذا أَرَادَ أَن يتملكها فيعرفها مرّة أُخْرَى معرفَة
وافية مُحَققَة ليعلم قدرهَا وصفتها لاحْتِمَال أَن يَجِيء
صَاحبهَا فَيَقَع الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك، فَإِذا عرفهَا
الْمُلْتَقط وَقت التَّمَلُّك يكون القَوْل قَوْله،
لِأَنَّهُ أَمِين. واللقطة وَدِيعَة عِنْده، وَقَالَ
بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون: ثمَّ، فِي الرِّوَايَتَيْنِ
بِمَعْنى: الْوَاو، فَلَا يَقْتَضِي ترتيباً، فَلَا
يَقْتَضِي تخالفاً يحْتَاج الى الْجمع. قلت: خُرُوج: ثمَّ،
عَن معنى التَّشْرِيك فِي الحكم والمهلة وَالتَّرْتِيب
إِنَّمَا يمشي على قَول الْكُوفِيّين، فَتكون حِينَئِذٍ
زَائِدَة، وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون فِي مَوضِع لَا يخل
بِالْمَعْنَى، وَهَهُنَا لَا وَجه لما قَالَه، وَلَئِن
سلمنَا أَنه يكون بِمَعْنى: الْوَاو، و: الْوَاو، أَيْضا
تَقْتَضِي التَّرْتِيب على قَول الْبَعْض، فَلَا يتم
الْجَواب بِمَا قَالَه. فَإِن قلت: هَذَا الْعرْفَان
وَاجِب أم سنة؟ قلت: قيل: وَاجِب لظَاهِر الْأَمر، وَقيل:
مُسْتَحبّ، وَقيل: يجب عِنْد الِالْتِقَاط، وَيسْتَحب
بعده، قَوْله: (فضالَّة الْغنم؟) أَي: مَا حكم ضَالَّة
الْغنم؟ قَوْله: (قَالَ: لَك، أَو لأخيك أَو الذِّئْب) ،
كلمة: أَو، فِيهِ للتقسيم والتنويع، وَالْمعْنَى: إِن
ضَالَّة الْغنم لَك إِن أَخَذتهَا وعرفتها، وَلم تَجِد
صَاحبهَا. قَوْله: (أَو لأخيك) يَعْنِي: إِن أَخَذتهَا
وعرفتها وَجَاء صَاحبهَا فَهِيَ لَهُ، وَأَرَادَ بِهِ
الْأَخ فِي الدّين، وَهُوَ صَاحب الْغنم. قَوْله: (أَو
للذئب) يَعْنِي: إِن تركتهَا وَلم يتَّفق آخذ غَيْرك
فَهِيَ طعمة للذئب غَالِبا، لِأَنَّهَا لَا تَحْمِي
نَفسهَا، وَذكر الذِّئْب مِثَال، وَلَيْسَ بِقَيْد،
وَالْمرَاد جنس مَا يَأْكُل الشَّاة ويفترسها من السبَاع،
وَوَقع فِي رِوَايَة اسماعيل بن جَعْفَر عَن ربيعَة، كَمَا
سَيَأْتِي بعد أَبْوَاب، فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ
لَك ... إِلَى آخِره، وَهُوَ صَرِيح بِالْأَمر
بِالْأَخْذِ، وَفِيه رد على أَحْمد فِي إِحْدَى روايتيه
أَنه يتْرك الْتِقَاط الشَّاة، وَبِه تمسك مَالك فِي أَنه
يَأْخُذهَا ويملكها بِالْأَخْذِ، وَلَو جَاءَ صَاحبهَا
لِأَنَّهُ صَار حكمه حكم الذِّئْب فَلَا غَرَامَة، ورد
عَلَيْهِ بِأَن اللاَّم لَيست للتَّمْلِيك لِأَن الذِّئْب
لَا يملك وَإِنَّمَا يأكلها الْمُلْتَقط بِالضَّمَانِ،
وَقد أَجمعُوا على أَنه لَو جَاءَ صَاحبهَا قبل أَن يأكلها
الْمُلْتَقط فَإِنَّهُ يَأْخُذهَا لِأَنَّهَا بَاقِيَة على
ملكه. قَوْله: (قَالَ: ضَالَّة الْإِبِل؟) أَي: مَا حكم
ضَالَّة الْإِبِل؟ قَوْله: (فتمعر وَجه النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) أَي: تغير وَجهه من الْغَضَب ومادة تمعر:
مِيم وَعين مُهْملَة وَرَاء، وَأَصله فِي الشّجر إِذا قل
مَاؤُهُ فصَال قَلِيل النضرة عديم الْإِشْرَاق وَيُقَال
للوادي المجدب: أمعر، وَقَالَ بَعضهم: وَلَو روى بالغين
الْمُعْجَمَة لَكَانَ لَهُ وَجه، أَي: صَار بلون الْمغرَة،
وَهِي حمرَة شَدِيدَة إِلَى كمودة، ويقويه قَوْله فِي
رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر: فَغَضب حَتَّى
احْمَرَّتْ وجنتاه، أَو وَجهه. قلت: إِذا لم تثبت فِيهِ
الرِّوَايَة فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التعسف. قَوْله:
(مَا لَك) ، يَعْنِي: لَيْسَ لَك هَذَا، وَيدل عَلَيْهِ
رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال عَن ربيعَة الَّتِي سبقت
فِي كتاب الْعلم، فذرها حَتَّى يلقاها رَبهَا. قَوْله:
(مَعهَا حذاؤها) بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالذال
الْمُعْجَمَة ممدوداً، أَي: خفها. قَوْله: (وسقاؤها) ،
السقاء بِالْكَسْرِ فِي الأَصْل ظرف المَاء من الْجلد،
وَالْمرَاد بِهِ هُنَا: جوفها، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إِذا
شربت يَوْمًا تصبر أَيَّامًا على الْعَطش، وَقيل: المُرَاد
بِهِ عُنُقهَا لِأَنَّهَا تتَنَاوَل الْمَأْكُول بِغَيْر
تَعب لطول عُنُقهَا، فَلَا تحْتَاج إِلَى ملتقط. وَمَا
يتَعَلَّق بِهِ الحكم قد مضى فِي كتاب الْعلم، ولنذكر
شَيْئا نزراً.
اخْتلف الْعلمَاء فِي ضَالَّة الْإِبِل: هَل تُؤْخَذ؟ على
قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: لَا يَأْخُذهَا وَلَا يعرفهَا،
قَالَه مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ لنَهْيه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ضَالَّة الْإِبِل. الثَّانِي:
أَخذهَا وتعريفها أفضل، قَالَه الْكُوفِيُّونَ: لِأَن
تَركهَا سَبَب لضياعها. وَفِيه قَول ثَالِث: إِن وجدهَا
فِي الْقرى عرفهَا، وَفِي الصَّحرَاء لَا يعرفهَا.
وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: الْأَصَح أَنه إِن وجدهَا بمفازة
فللقاضي التقاطها للْحِفْظ، وَكَذَا لغيره، وَيحرم
التقاطها للتَّمَلُّك، وَإِن وجدهَا بقرية فَيجوز
التَّمَلُّك. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَمِمَّنْ رأى
ضَالَّة الْبَقر كضالة الْإِبِل طَاوُوس وَالْأَوْزَاعِيّ
وَالشَّافِعِيّ وَبَعض أَصْحَاب مَالك، وَقَالَ مَالك
وَالشَّافِعِيّ فِي ضَالَّة الْبَقر: إِن وجدت فِي مَوضِع
يخَاف عَلَيْهَا فَهِيَ فِي منزلَة الشَّاة، وإلاَّ
فكالبعير، وَقيل: إِن كَانَت لَهَا قُرُون تمنع بهَا
فكالبعير وإلاَّ فكالشاة، حَكَاهُ ابْن التِّين، وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: عندنَا فِي الْبَقر وَالْغنم قَولَانِ،
وَرَأى مَالك إلحاقها بالغنم، وَرَأى ابْن الْقَاسِم
إلحاقها بِالْإِبِلِ إِذا كَانَت بِموضع لَا يخَاف
عَلَيْهَا من السبَاع، وَكَانَ هَذَا تَفْصِيل أَحْوَال
لَا اخْتِلَاف أَقْوَال، وَمثلهَا جَاءَ فِي الْإِبِل
إِلْحَاقًا بهَا.
وَاخْتلف فِي الْتِقَاط الْخَيل وَالْبِغَال والحمر،
فَظَاهر قَول ابْن الْقَاسِم: الْجَوَاز، وَمنعه أَشهب
وَابْن كنَانَة، وَقَالَ ابْن حبيب: وَالْخَيْل
وَالْبِغَال وَالْعَبِيد كل مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ
وَيذْهب، هُوَ دَاخل فِي الضَّالة، وَقَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ: الْخَيل وَالْإِبِل وَالْبَقر وَالْبِغَال
وَالْحمير وَالشَّاة والظباء: لَا يجوز عندنَا التقاطها
إلاَّ أَن يَأْخُذهَا الإِمَام للْحِفْظ، وَفِي
(التَّوْضِيح) : إِذا عرف المَال وَشبهه وانقضى الْحول أَو
قبله، وَجَاء صَاحبه أَخذه بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَة،
وَكَذَا الْمُنْفَصِلَة إِن حدثت قبل التَّمَلُّك، وَإِن
حدثت بعده رَجَعَ فِيهَا دون الزِّيَادَة.
(12/270)
3 - (بابُ ضالَّةِ الغَنَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْتِقَاط ضَالَّة الْغنم،
وَإِنَّمَا أفرد هَذَا الْبَاب بترجمة وَإِن كَانَ
مَذْكُورا فِي الْبَاب السَّابِق لزِيَادَة فِيهِ إِشَارَة
إِلَى أَن حكم هَذَا الْبَاب غير حكم ذَاك الْبَاب.
8242 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُلَيْمانُ عنْ يَحْيَى اعنْ يَزيدَ مَوْلاى الْمُنْبَعِثِ
أنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بنَ خالِدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
يَقولُ سُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ
اللُّقَطَةِ فزَعَمَ أنَّهُ قَالَ اعْرِفْ عِفَاصَها
وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنةً يَقولُ يَزيدُ إنْ
لَمْ تُعْتَرَفِ اسْتَنْفِقَ بِها صاحِبُها وكانَتْ
ودِيعَةً عِنْدَهُ قَالَ يَحْياى فَهاذَا الَّذِي لاَ
أدْرِي أفِي حَديثِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هُوَ أمْ شَيْءٌ مِنْ عِنْدهِ ثُمَّ قَالَ كَيْفَ تَراى
فِي ضالَّةِ الغَنَمِ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم خُذْهَا فإنَّما هِيَ لَكَ أوْ لِأَخِيكَ أوْ
لِلذِّئْبِ قَالَ يَزيدُ وهْيَ تُعَرَّفُ أيْضاً ثُمَّ
قَالَ كيْفَ تَراى فِي ضالَّةِ الإبِلِ قَالَ فَقَالَ
دَعْها فإنَّ معَهَا حِذَاءَها وسِقَاءَهَا تَرِدُ
الْمَاءَ وتَأكُلُ الشَّجَرَ حتَّى يَجِدَها رَبُّهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَيفَ ترى فِي ضَالَّة
الْغنم؟) وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي الْبَاب السَّابِق،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَمْرو بن عَبَّاس عَن عبد
الرَّحْمَن بن مهْدي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن ربيعَة
عَن يزِيد ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن إِسْمَاعِيل
ابْن عبد الله هُوَ ابْن أبي أويس عَن سُلَيْمَان بن
بِلَال عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن يزِيد. . إِلَى
آخِره.
قَوْله: (فَزعم) ، أَي: قَالَ، فالزعم يسْتَعْمل مقَام
القَوْل الْمُحَقق كثيرا، والزاعم هُوَ زيد بن خَالِد.
قَوْله: (أَنه قَالَ) أَي: أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، (قَالَ: أعرف) من الْمعرفَة. قَوْله:
(يَقُول يزِيد) يَعْنِي: قَالَ يحيى بن سعيد
الْأنْصَارِيّ: يَقُول يزِيد، وَهَذِه الْجُمْلَة مقول
قَول يحيى، فَافْهَم. وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور. قَوْله: (إِن لم تُعرف) ، بِلَفْظ
الْمَجْهُول من التَّعْرِيف، ويروى: إِن لم تُعرف، من
الْمعرفَة على صِيغَة الْمَجْهُول أَيْضا. قَوْله:
(صَاحبهَا) ، أَي: ملتقطها. قَوْله: (قَالَ يحيى) ، أَي:
يحيى بن سعيد الرَّاوِي، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور، وَالْحَاصِل أَن يحيى بن سعيد شكّ: هَل
قَوْله: وَكَانَت وَدِيعَة عِنْده، من رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَا؟ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله: فَهَذَا الَّذِي لَا أَدْرِي، أَي: لَا
أعلم (أَفِي حَدِيث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله:
(هُوَ) يرجع إِلَى قَوْله: (وَكَانَت وَدِيعَة عِنْده) .
قَوْله: (أم شَيْء من عِنْده) أَي: أَو هُوَ شَيْء قَالَه
من عِنْده، وَقد جزم يحيى بن سعيد بذلك أَنه من رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يشك فِيهِ، وَهُوَ
فِيمَا رَوَاهُ مُسلم عَن القعْنبِي والإسماعيلي من طَرِيق
يحيى ابْن حسان، كِلَاهُمَا عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن
يحيى، فَقَالَ فِيهِ: فَإِن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن
وَدِيعَة عنْدك. وَقد أَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى رَفعهَا
على مَا يَجِيء بعد أَبْوَاب، لِأَنَّهُ ترْجم بقوله: إِذا
جَاءَ صَاحب اللّقطَة بعد سنة ردهَا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا
وَدِيعَة عِنْده. قَوْله: (قَالَ يزِيد) ، وَهِي تعرف
أَيْضا، أَي: قَالَ يزِيد مولى المنبعث الرَّاوِي
الْمَذْكُور، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور.
وَقَوله: (تعرف) ، بتَشْديد الرَّاء من التَّعْرِيف على
صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (حَتَّى يجدهَا رَبهَا) أَي:
صَاحبهَا.
فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز أَن يُقَال لمَالِك السّلْعَة:
رب السّلْعَة. وَالْأَحَادِيث متظاهرة بذلك إلاَّ أَنه قد
نهى عَن ذَلِك فِي العَبْد وَالْأمة فِي الحَدِيث
الصَّحِيح، فَقَالَ: لَا يقل أحدكُم: رَبِّي، وَقد اخْتلف
الْعلمَاء فِي ذَلِك، فكرهه بَعضهم مُطلقًا، وَأَجَازَهُ
بَعضهم مُطلقًا، وَفرق قوم فِي ذَلِك بَين من لَهُ روح
ومالا روح لَهُ، فكره أَن يُقَال: رب الْحَيَوَان، وَلم
يكره ذَلِك فِي الْأَمْتِعَة، وَالصَّوَاب: تَقْيِيد
الْكَرَاهَة أَو التَّحْرِيم بِجِنْس الْمَمْلُوك من
الْآدَمِيّين، فَأَما غير الْآدَمِيّ فقد ورد فِي عدَّة
أَحَادِيث، فَقَالَ هَهُنَا: حَتَّى يجدهَا رَبهَا،
وَقَالَ فِي الْإِبِل: حَتَّى يلقاها رَبهَا.
(12/271)
4 - (بابٌ إذَا لَمْ يُوجَدْ صاحِبُ
اللقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ فَهْيَ لِمَنْ وَجَدَهَا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يُوجد صَاحب اللّقطَة
بعد التَّعْرِيف بِسنة فَهِيَ، أَي: اللّقطَة، لمن وجدهَا،
وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل الْوَاجِد الْغَنِيّ
وَالْفَقِير، وَهَذَا خلاف مَذْهَب الْجُمْهُور، فَإِن
عِنْدهم: إِذا كَانَت الْعين مَوْجُودَة يجب الرَّد، وَإِن
كَانَت استهلكت يجب الْبَدَل، وَلم يخالفهم فِي ذَلِك
إلاَّ الْكَرَابِيسِي من أَصْحَاب الشَّافِعِي، وَدَاوُد
الظَّاهِرِيّ: وَوَافَقَهُمَا البُخَارِيّ فِي ذَلِك،
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
حَدِيث الْبَاب: فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فشأنك بهَا،
وَهَذَا تَفْوِيض إِلَى اخْتِيَاره. وَاحْتَجُّوا أَيْضا
بِمَا رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور فِي حَدِيث زيد بن خَالِد
عَن الدَّرَاورْدِي عَن ربيعَة بِلَفْظ: وإلاَّ فتصنع بهَا
مَا تصنع بِمَالك، وَمن حجَّة الْجُمْهُور، قَوْله فِي
حَدِيث الْبَاب السَّابِق: وَكَانَت وَدِيعَة عِنْده،
وَقَوله فِي رِوَايَة بشر بن سعيد بن زيد بن خَالِد: فاعرف
عفاصها ووكاءها ثمَّ كُلها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فأدها
إِلَيْهِ فَإِن ظَاهر قَوْله: فَإِن جَاءَ صَاحبهَا ...
إِلَى آخِره، بعد قَوْله: كلهَا، يَقْتَضِي وجوب ردهَا بعد
أكلهَا، فَيحمل على رد الْبَدَل، وَقَالَ ابْن بطال: إِذا
جَاءَ صَاحب اللّقطَة بعد الحَول لزم ملتقطها أَن يردهَا
إِلَيْهِ، وعَلى هَذَا إِجْمَاع أَئِمَّة الْفَتْوَى،
وَزعم بعض من نسب نَفسه إِلَى الْعلم: أَنَّهَا لَا
تُؤَدّى إِلَيْهِ بعد الْحول، اسْتِدْلَالا بقوله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (فشأنك بهَا) . قَالَ: فَهَذَا يدل على
ملكهَا، قَالَ: وَهَذَا القَوْل يُؤَدِّي إِلَى تنَاقض
السّنَن، إِذْ قَالَ: فأدها إِلَيْهِ قلت: قَوْله فأدها
إِلَيْهِ دَلِيل على أَنه إِذا استنفقها أَو تلفت عِنْده
بعد التَّمَلُّك أَنه يضمنهَا لصَاحِبهَا إِذا جَاءَ،
وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله فِي رِوَايَة بشر بن سعيد
عَن زيد: ثمَّ كلهَا، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فأدها ... أمره
بأدائها بعد الْهَلَاك إِذا كَانَ قد يملكهَا أما إِذا
أتلفت عِنْده بِغَيْر تَفْرِيط مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا
يضمنهَا لصَاحِبهَا إِذا جَاءَ، لِأَن يَده عَلَيْهَا يَد
أَمَانَة فَصَارَت كَالْوَدِيعَةِ.
9242 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبِي عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ
يَزِيدَ مَوْلاى الْمُنْبَعِثِ عنْ زَيْدِ بنِ خالِدٍ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ جاءَ رَجُلٌ إلَى رسولِ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَألَهُ عنِ اللُّقَطَةِ
فَقَالَ اعْرِفْ عِفَاصَها ووِكاءَها ثُمَّ عَرِّفْهَا
سَنَةً فإنْ جاءَ صاحِبُها وإلاَّ فَشأْنُكَ بِها قَالَ
فَضالَّةُ الغَنَمِ قَالَ هِيَ لَكَ أوْ لِأَخِيكَ أوْ
لِلذِّئْبِ قَالَ فَضالَّةُ الإبلِ قَالَ مالَكَ ولَهَا
مَعَها سِقَاؤُها وحِذَاؤُها تَردُ الْمَاءَ وتَأْكُلُ
الشَّجَرَ حتَّى يَلْقَاها ربُّهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فشأنك بهَا) بِنصب
النُّون، أَي: إلزم شَأْنك ملتبساً بهَا، وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: قيل: إِنَّه مَنْصُوب على الْمصدر، يُقَال:
شأنت شَأْنه مَعهَا ... الخ أَي: قصدت قَصده، وأشأن شَأْنك
أَي: إعمل مَا تُحسنهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله:
(فشأنك) بِالنّصب وبالرفع، فَقَالَ فِي النصب: أَي: إلزم
شَأْنك، وَلم يبين الرّفْع، وَوَجهه أَن يكون مَرْفُوعا
بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: فشأنك مُبَاح
أَو جَائِز أَو نَحْو ذَلِك، والشأن: الْخطب وَالْأَمر
وَالْحَال. قَوْله: (مَالك وَلها؟) أَي: مَالك وَأَخذهَا
وَالْحَال أَنَّهَا مُسْتَقلَّة بِأَسْبَاب تعيشها، فَيكون
قَوْله: (مَعهَا سقاؤها) ، على تَقْدِير الْحَال،
وَبَقِيَّة الْكَلَام قد مرت.
5 - (بابٌ إذَا وَجَدَ خَشَبَةً فِي الْبَحْرِ أوْ سَوْطاً
أوْ نَحْوَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وجد شخص خَشَبَة فِي
الْبَحْر أَو وجد سَوْطًا فِي مَوضِع أَو وجد شَيْئا
وَنَحْو ذَلِك مثل عَصا وحبل وَمَا أشبههما، وَجَوَاب:
إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: مَاذَا يصنع بِهِ؟ هَل
يَأْخُذهُ أَو يتْركهُ؟ فَإِذا أَخذه هَل يَتَمَلَّكهُ أَو
سَبيله سَبِيل اللّقطَة؟ فَفِيهِ اخْتِلَاف الْعلمَاء.
فروى ابْن عبد الحكم عَن مَالك: إِذا ألْقى الْبَحْر
خَشَبَة فَتَركهَا أفضل، وَقَالَ ابْن شعْبَان: فِيهَا
قَول آخر: إِن وجدهَا يَأْخُذهَا، فَإِن جَاءَ رَبهَا غرم
لَهُ قيمتهَا. ورخصت طَائِفَة فِي أَخذ اللّقطَة
الْيَسِيرَة وَالِانْتِفَاع بهَا وَترك تَعْرِيفهَا،
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ عمر وَعلي وَابْن عمر وَعَائِشَة،
وَهُوَ قَول عَطاء وَالنَّخَعِيّ وطاووس، وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: روينَا عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، فِي اللّقطَة: لَا بَأْس بِمَا دون الدِّرْهَم
أَن يسْتَمْتع بِهِ. وَعَن جَابر كَانُوا يرخصون فِي
السَّوْط وَالْحَبل وَنَحْوه أَن ينْتَفع بِهِ. وَقَالَ
عَطاء: لَا بَأْس للْمُسَافِر إِذا وجد السَّوْط والسقاء
والنعلين أَن ينْتَفع بهَا، اسْتدلَّ من
(12/272)
يُبِيح ذَلِك بِحَدِيث الْخَشَبَة، لِأَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخبر أَنه أَخذهَا
حطباً لأَهله وَلم يَأْخُذهَا ليعرفها، وَلم يقل أَنه فعل
مَا لَا يَنْبَغِي.
وَفِي (الْهِدَايَة) : وَإِن كَانَت اللّقطَة مِمَّا يعلم
أَن صَاحبهَا لَا يتطلبها: كالنواة وقشور الرُّمَّان
فإلقاؤه إِبَاحَة أَخذه فَيجوز الِانْتِفَاع بِهِ من غير
تَعْرِيف، وَلكنه يبْقى على ملك مَالِكه، لِأَن
التَّمْلِيك من الْمَجْهُول لَا يَصح، وَقَالَ ابْن رشد
الأَصْل فِي ذَلِك مَا رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مر بتمرة فِي الطَّرِيق، (فَقَالَ: لَوْلَا أَن تكون
من الصَّدَقَة لأكلتها) ، وَلم يذكر فِيهَا تعريفاً،
وَهَذَا مثل الْعَصَا وَالسَّوْط، وَإِن كَانَ أَشهب قد
اسْتحْسنَ تَعْرِيف ذَلِك، فَإِن كَانَ يَسِيرا، إلاَّ أَن
لَهُ قدرا وَمَنْفَعَة فَلَا خلاف فِي تَعْرِيفه سنة،
وَقيل: أَيَّامًا وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يبقي فِي يَد
ملتقطه ويخشى عَلَيْهِ التّلف، فَإِن هَذَا يَأْكُلهُ
الْمُلْتَقط فَقِيرا كَانَ أَو غَنِيا، وَهل يضمن؟ فِيهِ
رِوَايَتَانِ، وَالْأَشْهر أَن لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَإِن
كَانَ مِمَّا يسْرع إِلَيْهِ الْفساد فِي الْحَاضِرَة،
فَقيل: لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَقيل: عَلَيْهِ الضَّمَان،
وَقيل: بِالْفرقِ أَن يتَصَدَّق بِهِ أَو يَأْكُلهُ،
أَعنِي: إِنَّه يضمن فِي الْأكل وَلَا يضمن فِي
الصَّدَقَة، وَفِي (الْوَاقِعَات) : الْمُخْتَار فِي
القشود والنواة يملكهَا، وَفِي الصَّيْد لَا يملكهُ، وَإِن
جمع سنبلاً بعد الْحَصاد فَهُوَ لَهُ لإِجْمَاع النَّاس
على ذَلِك، وَإِن سلخ شَاة ميتَة فَهُوَ لَهُ ولصاحبها أَن
يَأْخُذهَا مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الحكم فِي صوفها.
0342 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ
عنْ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ هُرْمُزَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي
إسْرَائِيلَ وساقَ الْحَدِيثَ فَخَرَجَ يَنْطُر لعَلَّ
مَرْكباً قَدْ جاءَ بِمَالِه فإذَا هُوَ بالْخَشَبَةِ
فأخَذَها لَأَهْلِهِ حَطَباً فلَمَّا نَشرَهَا وجَدَ
الْمَالَ والصَّحِيفَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِذا هُوَ بالخشبة
فَأَخذهَا) ، وَقيل: لَيْسَ فِي الْبَاب ذكر السَّوْط.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ استنبطه بطرِيق الْإِلْحَاق. وَقيل:
كَأَنَّهُ فَاتَهُ عَنهُ، وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ
بِالسَّوْطِ إِلَى أثر يَأْتِي بعد أَبْوَاب فِي حَدِيث
أبي بن كَعْب، أَو أَشَارَ إِلَى مَا أخرجه أَبُو دَاوُد
من حَدِيث جَابر، قَالَ: رخص لنا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَصَا وَالسَّوْط وَالْحَبل،
وأشباهه، يلتقطه الرجل ينْتَفع بِهِ. انْتهى. قلت: لَو
أَشَارَ بِالسَّوْطِ إِلَى أثر يَأْتِي ... إِلَى آخِره،
على مَا قَالَه هَذَا الْقَائِل، كَانَ الأصوب أَن يذكر
السَّوْط هُنَاكَ، وَذكره هُنَا وإشارته إِلَى هُنَاكَ
فِيهِ مَا فِيهِ، وَقَوله: أَو أَشَارَ إِلَى مَا أخرجه
أَبُو دَاوُد ... إِلَى آخِره، لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ
كثيرا مَا يذكر تَرْجَمَة مُشْتَمِلَة على شَيْئَيْنِ أَو
أَكثر، وَلَا يذكر لبعضها حَدِيثا أَو أثرا، فيجاب عَنهُ
بِأَنَّهُ ذكره على أَن يجد شَيْئا صَحِيحا فيذكره،
وَلَكِن لم يجده فَسكت عَنهُ، وَهَذَا الحَدِيث الَّذِي
ذكره أَبُو دَاوُد ضَعِيف، وَاخْتلف فِي رَفعه وَوَقفه،
فَكيف يرضى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ؟ وَقد مضى الحَدِيث
بِتَمَامِهِ فِي الْكفَالَة، وَقد ذكره هُنَا أَيْضا
تَعْلِيقا عَن اللَّيْث، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى. قَوْله: (وجد المَال) أَي: الَّذِي بَعثه
الْمُسْتَقْرض إِلَيْهِ، والصحيفة الَّتِي كتبهَا
الْمُسْتَقْرض إِلَيْهِ يذكر فِيهَا بعث مَال الْقَرَاض.
6 - (بابٌ إذَا وجَدَ تَمْرَةً فِي الطَّرِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: إِذا وجد شخص تَمْرَة فِي
الطَّرِيق، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره يجوز لَهُ
أَخذهَا وأكلها وَذكر التمرة لَيْسَ بِقَيْد وَكَذَا كل
مَا كَانَ نَحْوهَا من المحقرات.
1342 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ عنْ مَنْصورٍ عنْ طَلْحَةَ عنْ أنَس رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ قَالَ مَرَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِتَمْرَةٍ فِي الطَّريِقِ قَالَ لَوْلاَ أنِّي
أخافُ أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأكَلْتُها. (انْظُر
الحَدِيث 5502) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن يُوسُف بن
وَاقد أَبُو عبد الله الْفرْيَابِيّ، قَالَه أَبُو نعيم
وَغَيره، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَطَلْحَة
هُوَ ابْن مصرف على وزن اسْم فَاعل من التصريف.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع فِي:
بَاب مَا يتنزه من الشُّبُهَات عَن قبيصَة عَن سُفْيَان
عَن مَنْصُور عَن طَلْحَة عَن أنس إِلَى آخِره. وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَفِيه: جَوَاز أكل مَا يُوجد من المحقرات ملقى فِي
الطرقات لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر أَنه لم
يتمنع من أكلهَا إلاَّ تورعاً لخشيته أَن تكون من
الصَّدَقَة الَّتِي حرمت عَلَيْهِ، لَا لكَونهَا مرمية فِي
الطَّرِيق. وَفِيه: حُرْمَة الصَّدَقَة على الرَّسُول صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم والاحتراز عَن الشُّبْهَة. وَقيل:
هَذَا أَشد مَا رُوِيَ فِي الشُّبُهَات. وَفِيه: إِبَاحَة
الشَّيْء التافه بِدُونِ التَّعْرِيف، وَأَنه خَارج عَن
حكم اللّقطَة لِأَن صَاحبه لَا يَطْلُبهُ وَلَا يتشاح
فِيهِ، وَقد
(12/273)
روى عبد الرَّزَّاق أَن عليا، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، الْتقط حبا أَو حَبَّة من رمان فَأكلهَا،
وَعَن ابْن عمر أَنه وجد تَمْرَة فَأَخذهَا فَأكل نصفهَا
ثمَّ لقِيه مِسْكين فَأعْطَاهُ النّصْف الآخر. وَفِيه:
إِسْقَاط الْغرم عَن أكل الطَّعَام الْمُلْتَقط، وَقيل:
يضمنهُ وَإِن أكله مُحْتَاجا إِلَيْهِ، ذكره ابْن الْجلاب.
2342 - وَقَالَ يَحْياى حدَّثنا سُفيانُ قَالَ حدَّثني
مَنصُورً وَقَالَ زَائِدَةُ عنْ مَنْصُورٍ عنْ طَلْحَةَ
قَالَ حدَّثنا أنَسٌ وحدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ
قَالَ أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنْ
هَمَّامِ بنِ مُنَبِّه عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
إنِّي لأَنقَلَّبُ إلاى أَهلِي فأجِدُ التَّمْرَةَ ساقِطَة
عَلَى فِرَاشي فأرْفَعُهَا لِآكُلَها ثُمَّ أخْشَى أنْ
تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيها.
يحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسَدّد فِي مُسْنده عَن يحيى،
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيق مُسَدّد.
قَوْله: (وَقَالَ زَائِدَة) ، أَي: ابْن قدامَة، وَهَذَا
التَّعْلِيق وَصله مُسلم، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو كريب،
قَالَ: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن زَائِدَة عَن مَنْصُور
عَن طَلْحَة بن مصرف، قَالَ: حَدثنَا أنس بن مَالك أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بتمرة فِي
الطَّرِيق فَقَالَ: لَوْلَا أَن تكون من الصَّدَقَة
لأكلتها. قَوْله: (عبد الله) ، هُوَ ابْن الْمُبَارك،
وَمعمر، بِفَتْح الميمين: هُوَ ابْن رَاشد، وَهَمَّام،
بتَشْديد الْمِيم على وزن فعال: ابْن مُنَبّه بن كَامِل
الْيَمَانِيّ الأبناوي، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب
الْبيُوع فِي: بَاب مَا يتنزه من الشُّبُهَات مُعَلّقا،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (فألقيها) ،
بِضَم الْهمزَة: من الْإِلْقَاء وَهُوَ الرَّمْي، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فألقيها بِالرَّفْع لَا غير، يَعْنِي: لَا
يجوز نصب الْيَاء فِيهِ لِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله:
فارفعها، فَإِذا نصب رُبمَا يظنّ أَنه عطف على قَوْله: أَن
تكون، فَيفْسد الْمَعْنى.
7 - (بابٌ كَيْفَ تُعَرَّفُ لَقَطَةُ أهْلِ مَكَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كَيفَ تعرف، بِالتَّشْدِيدِ من
التَّعْرِيف على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَذِه التَّرْجَمَة
تبين إِثْبَات لقطَة الْحرم، وَفِيه رد على من يَقُول: لَا
يلتقط لقطَة أهل الْحرم، وَاسْتَدَلُّوا فِي ذَلِك بِمَا
رَوَاهُ مُسلم بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن
عُثْمَان التَّيْمِيّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم نهى عَن لقطَة الْحَاج، وأجابت الْعَامَّة عَن ذَلِك
بِأَن المُرَاد التقاطها للتَّمَلُّك لَا للْحِفْظ، وَقد
أوضح هَذَا حَدِيث الْبَاب، وَقيل: لم يبين أَن كَيْفيَّة
لقطَة الْحرم مثل كَيْفيَّة لقطَة غَيره فِي التَّعْرِيف
وَالتَّمْلِيك أم هِيَ مقتصرة على الْحِفْظ فِيهِ؟ قلت: بل
هِيَ مقتصرة على الْحِفْظ فَقَط، يدل عَلَيْهِ حَدِيث
الْبَاب، وَاكْتفى بِمَا فِي الحَدِيث عَن تَصْرِيح ذَلِك
فِي التَّرْجَمَة.
وقالَ طَاوُوسٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ
يَلْتَقِطُ لُقْطَتَها إلاَّ مَنْ عَرَّفَها
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث وَصلهَا البُخَارِيّ فِي الْحَج
فِي: بَاب لَا يحل الْقِتَال. قَوْله: (لَا يلتقط لقطتهَا)
، أَي: لقطَة أهل مَكَّة (إلاَّ من عرفهَا) يَعْنِي:
للْحِفْظ لصَاحِبهَا.
وَقَالَ خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُما عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَا تُلْتَقَطُ لُقْطَتُها إلاَّ لِمُعَرِّفٍ
خَالِد هُوَ الْحذاء، وَهَذَا أَيْضا قِطْعَة وَصلهَا
البُخَارِيّ فِي أَوَائِل الْبيُوع فِي: بَاب مَا قيل فِي
الصواغ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
(12/274)
3342 - وَقَالَ أحْمَدُ بنُ سَعْدٍ قَالَ
حدَّثنا رَوْحٌ قَالَ حدَّثنا زَكَرِيَّاءُ قَالَ حدَّثنا
عَمْرُو بنُ دِينار عَن عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يُعْضَدُ عِضاهُما ولاَ
يُنَفَّرُ صَيْدُها ولاَ تَحل لُقْطَتُها إلاَّ لِمُنْشِدٍ
وَلَا يُخْتَلاى خِلاَها فَقَالَ عبَّاسٌ يَا رسولَ الله
إلاَّ الْإذْخِرَ فَقَالَ إلاَّ الْإذْخِرَ. .
اخْتلف فِي أَحْمد بن سعيد هَذَا، فَقَالَ مُحَمَّد بن
طَاهِر الْمَقْدِسِي: هُوَ ابو عبد الله أَحْمد بن سعيد
الرباطي، وَقَالَ أَبُو نعيم: هُوَ أَحْمد بن سعيد
الدَّارمِيّ، وروح هُوَ ابْن عبَادَة، وزكرياء هُوَ ابْن
إِسْحَاق الْمَكِّيّ. وَوصل هَذَا التَّعْلِيق
الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق الْعَبَّاس ابْن عبد
الْعَظِيم، وَأَبُو نعيم من طَرِيق خلف بن سَالم،
كِلَاهُمَا عَن روح بن عبَادَة.
قَوْله: (لَا يعضد) بِالْجَزْمِ، أَي: لَا يقطع، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: بِالْجَزْمِ وَالرَّفْع. قلت: الْجَزْم على
أَنه نهي، وَالرَّفْع على أَنه نفي، والعضاه شجر أم
غيلَان، وكل شجر لَهُ شوك عَظِيم، الْوَاحِدَة عضة
بِالتَّاءِ، وَأَصلهَا عضهة. وَقيل: واحدته عضاهة، وعضهت
العضاه: إِذا قطعتها. قَوْله: (إلاَّ لِمُنْشِد) ، وَهُوَ
المعرّف، يُقَال: أنشدته، أَي: عَرفته. وَقَالَ ابْن بطال:
قيل: معنى المنشد من سمع ناشده يَقُول: من أصَاب كَذَا،
فَحِينَئِذٍ يجوز للملتقط أَن يرفعها لكَي يردهَا. وَقَالَ
النَّضر بن شُمَيْل: المنشد الطَّالِب، وَهُوَ صَاحبهَا،
وَقَالَ أَبُو عبيد: لَا يجوز فِي الْعَرَبيَّة أَن يُقَال
للطَّالِب: المنشد، إِنَّمَا هُوَ الْمُعَرّف، والطالب
الناشد، وَقيل: إِنَّمَا لَا يتَمَلَّك لقطتهَا لِإِمْكَان
إيصالها إِلَى رَبهَا إِن كَانَت للمكي، فَظَاهر، وَإِن
كَانَت للغريب فيقصد فِي كل عَام من أقطار الأَرْض
إِلَيْهَا فيسهل التَّوَصُّل إِلَيْهَا. قَوْله: (وَلَا
يخْتَلى خَلاهَا) ، الخلا مَقْصُورا النَّبَات الرطب
الرَّقِيق مَا دَامَ رطبا، واختلاؤه قطعه، واختلت الأَرْض
كثر خَلاهَا، فَإِذا يبس فَهُوَ حشيش، والإذخر، بِكَسْر
الْهمزَة: حشيشة طيبَة الرَّائِحَة يسقف بهَا الْبيُوت
فَوق الْخشب، وهمزتها زَائِدَة، قَالَه ابْن الْأَثِير،
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي لقطَة مَكَّة، فَقَالَت طَائِفَة:
حكمهَا كَحكم سَائِر الْبلدَانِ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر:
وروينا هَذَا القَوْل عَن عمر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة
وَابْن الْمسيب، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد،
وَقَالَت طَائِفَة: لَا تحل أَلْبَتَّة، وَلَيْسَ لواجدها
إلاَّ إنشادها، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَابْن مهْدي
وَأبي عبيد بن سَلام.
4342 - حدَّثنا يَحْياى بنُ موساى قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ
بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا اْلأوْزَاعِي قَالَ حدَّثني
يَحْياى بنُ أبِي كَثيرٍ قَالَ حدَّثني أبُو سلَمَةَ بنُ
عَبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ حدَّثني أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَمَّا فَتَحَ الله علَى
رَسولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكَّةَ قامَ فِي
النَّاسِ فَحمِدَ الله وأثْنى علَيْهِ ثُمَّ قالَ إنَّ
الله حبَسَ عنْ مَكَّةَ الفِيلَ وسَلَّطَ علَيْها رسولَهُ
والْمُؤْمِنينَ فإنَّها لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ كانَ قَبْلي
وإنَّها أُحِلَّتْ لي سَاعَة مِنْ نَهَارٍ وإنَّهَا لَا
تَحِلُّ لَأَحَدٍ بَعْدِي فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُها وَلَا
يخْتَلاى شَوْكُهَا وَلَا تَحلُّ ساقِطَتُها إلاَّ
لِمُنْشِدٍ ومَنْ قُتِلَ لَهُ قَتيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ
النَّظَرَيْنِ إمَّا أنْ يُفْداى وإمَّا أنْ يُقِيدَ
فَقَالَ العبَّاسُ إلاَّ الإذْخِرَ فإنَّا نَجْعَلُهُ
لِقُبُورِنا وبُيُوتِنَا فَقَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ الإذْخِرَ فقامَ أَبُو شاهٍ رَجُلٌ
مِنْ أهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ اكْتُبُوا لِي يَا رسولَ
الله فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اكْتُبُوا لِأَبِي شاهٍ قُلْتُ لِلأوْزَاعِيِّ مَا
قَوْلُهُ اكْتُبُوا لِي يَا رسولَ الله قَالَ هاذِهِ
الْخُطْبَةَ الَّتِي سَمِعَها مِنْ رَسُولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا تحل ساقطتها
إِلَّا لِمُنْشِد) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن مُوسَى ابْن عبد
ربه أَبُو زَكَرِيَّاء السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي، يُقَال
لَهُ: خت. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم، بِلَفْظ
الْفَاعِل من الْإِسْلَام.
(12/275)
الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو
الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير وَاسم أبي
كثير صَالح. الْخَامِس: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع، وَهَذَا من الغرائب، أَن كل وَاحِد من الروَاة
صرح بِالتَّحْدِيثِ. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن
الْوَلِيد وَالْأَوْزَاعِيّ شاميان وَيحيى يمامي وَأَبُو
سَلمَة مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن
التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: ثَلَاثَة من
المدلسين على نسق وَاحِد.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن زُهَيْر
بن حَرْب وَعبيد الله بن سعيد، كِلَاهُمَا عَن الْوَلِيد
بن مُسلم بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن
حَنْبَل عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِهِ إلاَّ أَنه لم يذكر
قصَّة أبي شاه، وَفِي الْعلم عَن مُؤَمل بن الْفضل عَن
الْوَلِيد بن مُسلم بِهِ مُخْتَصرا، وَعَن عَليّ بن سهل
الرَّمْلِيّ عَن الْوَلِيد بن مُسلم وَفِي الدِّيات عَن
الْعَبَّاس ابْن الْوَلِيد بن يزِيد عَن أَبِيه عَن
الْأَوْزَاعِيّ بِبَعْضِه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الدِّيات عَن مَحْمُود بن غيلَان وَيحيى بن مُوسَى،
كِلَاهُمَا عَن الْوَلِيد بن مُسلم بِبَعْضِه، وَفِي
الْعلم بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْعلم عَن الْعَبَّاس بن الْوَلِيد بن يزِيد عَن أَبِيه
وَعَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَعَن أَحْمد بن
إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن عبد
الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم دُحَيْم عَن الْوَلِيد بن مُسلم
بِبَعْضِه: من قتل لَهُ قَتِيل إِلَى قَوْله: يفدى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما فتح الله على رَسُوله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، مَكَّة قَامَ فِي النَّاس) ظَاهره
أَن الْخطْبَة وَقعت عقيب الْفَتْح وَلَيْسَ كَذَلِك، بل
وَقعت بعد الْفَتْح عقيب قتل رجل من خُزَاعَة رجلا من بني
لَيْث، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا
الحَدِيث عَن أبي هُرَيْرَة من وَجه آخر فِي الْعلم فِي:
بَاب كِتَابَة الْعلم، عَن أبي نعيم عَن شَيبَان عَن يحيى
عَن سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: أَن خُزَاعَة قتلوا رجلا من
بني لَيْث عَام فتح مَكَّة بقتيل مِنْهُم قَتَلُوهُ،
فَأخْبر بذلك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَركب
رَاحِلَته فَخَطب فَقَالَ: إِن الله قد حبس عَن مَكَّة
الْفِيل أَو الْقَتْل ... الحَدِيث. قَوْله: (الْقَتْل)
فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: بِالْقَافِ وبالتاء
الْمُثَنَّاة من فَوق، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
بِالْفَاءِ وبالياء آخر الْحُرُوف، وَالْمرَاد بِهِ
الْفِيل الَّذِي أخبر الله فِي كِتَابه فِي سُورَة {ألم
تَرَ كَيفَ فعل رَبك بأصحاب الْفِيل} (الْفِيل: 1) .
قَوْله: (وَلَا تحل لأحد كَانَ قبلي) ، كلمة: لَا،
بِمَعْنى: لم، أَي: لم تحل. قَوْله: (وَلَا ينفر) ، على
صِيغَة الْمَجْهُول من التنفير، يُقَال: (نفر ينفر نفوراً
ونفاراً إِذا فر وَذهب. قَوْله: (وَلَا تحل) على بِنَاء
الْمَعْلُوم والساقطة هِيَ اللّقطَة. قَوْله: (إلاَّ
لِمُنْشِد) أَي، لمعرف يَعْنِي: لَا تحل لقطتهَا إلاَّ لمن
يُرِيد أَن يعرفهَا فَقَط، لَا لمن أَرَادَ أَن يتملكها.
قَوْله: (من قتل لَهُ قَتِيل) ، قد مر أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّمَا قَالَ هَذَا لما أخبر أَن
خُزَاعَة قتلوا رجلا من بني لَيْث عَام فتح مَكَّة بقتيل
مِنْهُم، أَي: بِسَبَب قَتِيل مِنْهُم. قَوْله: (فَهُوَ
بِخَير النظرين) ، أَي: بِخَير الْأَمريْنِ، يَعْنِي:
الْقصاص وَالدية، فَأَيّهمَا اخْتَار كَانَ لَهُ إِمَّا
أَن يفدى، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: يعْطى لَهُ
الْفِدْيَة، أَي: الدِّيَة، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ
وَغَيره: إِمَّا أَن يودى لَهُ، من وديت الْقَتِيل أديه
دِيَة: إِذا أَعْطَيْت دِيَته، وَإِمَّا أَن يُقيد، أَي:
يقْتَصّ، من الْقود، وَهُوَ الْقصاص وَفِي رِوَايَة: وَأما
أَن يُقَاد لَهُ. قَوْله: (فَقَامَ أَبُو شاه) ،
بِالْهَاءِ لَا غير، قَالَ النَّوَوِيّ: وَقد جَاءَ فِي
بعض الرِّوَايَات بِالتَّاءِ، وَكَذَا عَن ابْن دحْيَة.
وَفِي (الْمطَالع) : وَأَبُو شاه، مصروفاً ضَبطه بَعضهم،
وقرأته أَنا معرفَة ونكرة. قلت: معنى قَوْله: مصروفاً،
أَنه بِالتَّنْوِينِ، وَمعنى: شاه، بِالْفَارِسِيَّةِ ملك
وَيجمع على شاهان، وَقد ورد النَّهْي عَن القَوْل بشاهان
شاه، يَعْنِي: ملك الْمُلُوك، وَيقدم الْمُضَاف إِلَيْهِ
على الْمُضَاف فِي اللُّغَة الفارسية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على
أَحْكَام: مِنْهَا: أَحْكَام تتَعَلَّق بحرم مَكَّة، وَقد
مر أبحاثه فِي كتاب الْحَج. وَمِنْهَا: مَا يتَعَلَّق
باللقطة، وَقد مر أبحاثها فِي كتاب اللّقطَة. وَمِنْهَا:
مَا يتَعَلَّق بِكِتَاب أبي شاه، وَقد مر فِي كتاب الْعلم.
وَمِنْهَا: مَا يتَعَلَّق بِالْقصاصِ وَالدية، وَهُوَ
قَوْله: وَمن قتل لَهُ قَتِيل، وَقد اخْتلفُوا فِيهِ،
وَهُوَ أَن من قتل لَهُ قَتِيل عمدا فَوَلِيه بِالْخِيَارِ
بَين أنم يعْفُو وَيَأْخُذ الدِّيَة أَو يقْتَصّ، رَضِي
بذلك الْقَاتِل أَو لم يرض، وَهُوَ مَذْهَب سعيد بن
الْمسيب وَمُحَمّد بن سِيرِين وَمُجاهد وَالشعْبِيّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِلَيْهِ ذهب الشَّافِعِي وَأحمد
وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ هَذَا
عَن ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،
(12/276)
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِالْحَدِيثِ
الْمَذْكُور، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعبد الله
بن ذكْوَان وسُفْيَان الثَّوْريّ وَعبد الله بن شبْرمَة
وَالْحسن ابْن حييّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف
وَمُحَمّد، رَحِمهم الله لَيْسَ لوَلِيّ الْمَقْتُول أَن
يَأْخُذ الدِّيَة إلاَّ برضى الْقَاتِل، وَلَيْسَ لَهُ
إلاَّ الْقود أَو الْعَفو. وَاحْتج هَؤُلَاءِ بِمَا
رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أنس أَن الرّبيع بنت النَّضر،
عمته لطمت جَارِيَة فَكسرت سنّهَا، فعرضوا عَلَيْهِم
الْأَرْش فَأَبَوا، فطلبوا الْعَفو فَأَبَوا، فَأتوا
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَمرهمْ بِالْقصاصِ،
فجَاء أَخُوهَا أنس بن النَّضر، فَقَالَ: يَا رَسُول الله
{أتكسر سنّ الرّبيع؟ وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا تكسر
سنّهَا. فَقَالَ: يَا أنس} كتاب الله الْقصاص، فَعَفَا
الْقَوْم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(إِن من عباد الله لَو أقسم على الله لَأَبَره) ، فَثَبت
بِهَذَا الحَدِيث أَن الَّذِي يجب بِكِتَاب الله وَسنة
رَسُول الله فِي الْعمد هُوَ الْقصاص، لِأَنَّهُ لَو كَانَ
للْمَجْنِيّ عَلَيْهِ الْخِيَار بَين الْقصاص وَبَين أَخذ
الدِّيَة إِذا لخيره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَلما حكم لَهَا بِالْقصاصِ بِعَيْنِه فأذا كَانَ كَذَلِك
وَجب أَن يحمل قَوْله: فَهُوَ بِخَير النظرين، إِمَّا أَن
يفدى وَأما أَن يُقيد على أَخذ الدِّيَة برضى الْقَاتِل،
حَتَّى تتفق مَعَاني الْآثَار. وَيُؤَيّد مَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: كَانَ فِي
بني إِسْرَائِيل الْقصاص، وَلم يكن فيهم الدِّيَة فَقَالَ
الله لهَذِهِ الْأمة: {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي
الْقَتْلَى} (الْبَقَرَة: 871) . الْآيَة، وَقَوله: {فَمن
عفى لَهُ من أَخِيه شَيْء} (الْبَقَرَة: 871) . فالعفو أَن
يقبل الدِّيَة فِي الْعمد، قَوْله: {ذَلِك تَخْفيف من
ربكُم} (الْبَقَرَة: 871) . يَعْنِي: مِمَّا كتب على من
كَانَ قبلكُمْ، أَو نقُول: التَّخْيِير من الشَّرْع
تَجْوِيز الْفِعْلَيْنِ وَبَيَان المشروعية فيهمَا وَنفي
الْحَرج عَنْهُمَا، كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
الربويات: (إِذا اخْتلف الجنسان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم) ،
مَعْنَاهُ: تَجْوِيز البيع مفاضلة ومماثلة بِمَعْنى نفي
الْحَرج عَنْهُمَا، وَلَيْسَ فِيهِ أَن يسْتَقلّ بِهِ دون
رضى المُشْتَرِي، فَكَذَا هُنَا جَوَاز الْقصاص وَجَوَاز
أَخذ الدِّيَة، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِقْلَال يَسْتَغْنِي
بِهِ عَن رضى الْقَاتِل. فَإِن قلت: قد أخبر الله تَعَالَى
فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة أَن للْوَلِيّ الْعَفو
وَاتِّبَاع الْقَاتِل بِإِحْسَان فَيَأْخُذ الدِّيَة من
الْقَاتِل، وَإِن لم يكن اشْترط ذَلِك فِي عَفوه. قلت:
الْعَفو فِي اللُّغَة الْبَذْل: {خُذ الْعَفو}
(الْأَعْرَاف: 991) . أَي: مَا سهل، فَإِذا الْمَعْنى:
فَمن بذل لَهُ شَيْء من الدِّيَة فليقبل، والإبذال لَا يجب
إلاَّ برضى من يجب لَهُ ورضى من يجب عَلَيْهِ.
8 - (بابٌ لَا تُحْتَلَبُ ماشِيَةُ أحَدٍ بِغَيْرِ إذْنٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا تحتلب مَاشِيَة أحد
بِغَيْر إِذن صَاحبهَا، والماشية تقع على الْإِبِل
وَالْبَقر وَالْغنم، وَلكنه فِي الْغنم أَكثر، قَالَه ابْن
الْأَثِير. قَوْله: (بِغَيْر إِذن) بِالتَّنْوِينِ، ويروى:
(بِغَيْر إِذْنه) . مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي
الْقَضَاء وَأَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد جَمِيعًا
بِالْإِسْنَادِ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ (ذكر
مَعْنَاهُ) قَوْله " عَن نَافِع فِي موطأ مُحَمَّد بن
الْحسن أخبرنَا نَافِع وَفِي رِوَايَة أبي قطن فِي الموطآت
للدارقطني قلت لمَالِك أحَدثك نَافِع قَوْله " أَن رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَفِي
رِوَايَة يزِيد بن الْهَاد عَن مَالك عِنْد
الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا أَنه سمع رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول قَوْله " لَا يحلبن
بِضَم اللَّام وبالنون الثَّقِيلَة كَذَا فِي البُخَارِيّ
وَأكْثر الموطآت وَفِي رِوَايَة ابْن الْهَاد " لَا يحتلبن
" من الاحتلاب من بَاب الافتعال قَوْله " مَاشِيَة امرىء "
وَفِي رِوَايَة ابْن الْهَاد وَجَمَاعَة من رُوَاة
الْمُوَطَّأ " مَاشِيَة رجل " وَفِي بعض شُرُوح
الْمُوَطَّأ بِلَفْظ " مَاشِيَة أَخِيه " وكل وَاحِد
مِنْهُمَا لَيْسَ بِقَيْد لِأَنَّهُ لَا اخْتِصَاص لَهُ
بِالرِّجَالِ وَلَا بِالْمُسْلِمين لأَنهم سَوَاء فِي
هَذَا الحكم قيل فرق بَين الْمُسلم وَالذِّمِّيّ فَلَا
يحْتَاج إِلَى الْإِذْن فِي الذِّمِّيّ لِأَن الصَّحَابَة
شرطُوا على أهل الذِّمَّة من الضِّيَافَة للْمُسلمين
وَصَحَّ ذَلِك عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَذكر
ابْن وهب عَن مَالك فِي الْمُسَافِر ينزل بالذمي قَالَ لَا
يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا إِلَّا بِإِذْنِهِ قيل لَهُ
فالضيافة الَّتِي جعلت عَلَيْهِم قَالَ كَانُوا يَوْمئِذٍ
يُخَفف عَنْهُم بِسَبَبِهَا وَأما
(12/277)
الْآن فَلَا وَقَالَ بَعضهم نسخ الْإِذْن
وَحَمَلُوهُ على أَنه كَانَ قبل فرض الزَّكَاة قَالُوا
وَكَانَت الضِّيَافَة وَاجِبَة حِينَئِذٍ ثمَّ نسخ ذَلِك
بِفَرْض الزَّكَاة وَذكر الطَّحَاوِيّ كَذَلِك أَيْضا
قَوْله " مشْربَته " بِضَم الرَّاء وَفتحهَا هِيَ الْموضع
المصون لما يخزن كالغرفة وَقَالَ الْكرْمَانِي هِيَ الغرفة
المرتفعة عَن الأَرْض وفيهَا خزانَة الْمَتَاع انْتهى
والمشربة بِفَتْح الرَّاء خَاصَّة مَكَان الشّرْب والمشربة
بِكَسْر الرَّاء إِنَاء الشّرْب قَوْله " خزانته " بِكَسْر
الْخَاء الْمُعْجَمَة الْموضع أَو الْوِعَاء الَّذِي يخزن
فِيهِ الشَّيْء مِمَّا يُرَاد حفظه وَفِي رِوَايَة أَيُّوب
عِنْد أَحْمد فيكسر بَابهَا قَوْله " فَينْتَقل " بالنُّون
وَالْقَاف من الِانْتِقَال وَهُوَ التَّحْوِيل من مَكَان
إِلَى مَكَان وَهَكَذَا هُوَ فِي أَكثر الموطآت عَن مَالك
وَحكى ابْن عبد الْبر عَن بَعضهم فينتثل بنُون ثمَّ تَاء
مثناة من فَوق ثمَّ ثاء مُثَلّثَة من الانتثال من النثل
وَهُوَ النثر مرّة وَاحِدَة بِسُرْعَة وَيُقَال نثل مَا
فِي كِنَانَته إِذا صبها ونثرها وَهَكَذَا أخرجه
الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق روح بن عبَادَة وَمُسلم من
رِوَايَة أَيُّوب ومُوسَى بن عقبَة وَغَيرهمَا عَن نَافِع
وَرَوَاهُ عَن اللَّيْث عَن نَافِع بِالْقَافِ وَهُوَ
عِنْد ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه بِالْمُثَلثَةِ
وَقَوله تُؤْتى وَقَوله فتكسر وَقَوله فَينْتَقل كلهَا على
بِنَاء الْمَجْهُول قَوْله تخزن بِضَم الزَّاي على بِنَاء
الْفَاعِل وضروع مَوَاشِيهمْ كَلَام إضافي مَرْفُوع
لِأَنَّهُ فَاعل تخزن وَقَوله أطعماتهم بِالنّصب مَفْعُوله
وَهِي جمع أَطْعِمَة والأطعمة جمع طَعَام وَالْمرَاد بِهِ
هُنَا اللَّبن والضروع جمع ضرع وَهُوَ لكل ذَات خف وظلف
كالثدي للْمَرْأَة وَفِي رِوَايَة الْكشميهني تحرز ضروع
مَوَاشِيهمْ بِضَم التَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة
وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره زَاي وَالْمعْنَى أَنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شبه اللَّبن فِي الضَّرع
بِالطَّعَامِ المخزون الْمَحْفُوظ فِي الخزانة فِي أَنه
لَا يحل أَخذه بِغَيْر إِذن وَلَا فرق بَين اللَّبن
وَغَيره (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) قَالَ أَبُو عمر يحمل
هَذَا الحَدِيث على مَا لَا تطيب بِهِ النَّفس لقَوْله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا يحل مَال امرىء
مُسلم إِلَّا عَن طيب نفس مِنْهُ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ
وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام وَإِنَّمَا خص اللَّبن
بِالذكر لتساهل النَّاس فِي تنَاوله وَلَا فرق بَين
اللَّبن وَالتَّمْر وَغَيرهمَا فِي ذَلِك وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ ذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه لَا يحل شَيْء
من لبن الْمَاشِيَة وَلَا من التَّمْر إِلَّا إِذا علم طيب
نفس صَاحبه وَذهب بَعضهم إِلَى أَن ذَلِك يحل وَإِن لم
يعلم حَال صَاحبه لِأَن ذَلِك حق جعله الشَّارِع لَهُ
يُؤَيّدهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْحسن عَن
سَمُرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذا أَتَى أحدكُم
على مَاشِيَة فَإِن كَانَ فِيهَا صَاحبهَا فليستأذنه فَإِن
أذن لَهُ وَإِلَّا فليحلب وَيشْرب وَإِن لم يكن فِيهَا
فليصوت ثَلَاثًا فَإِن أجَاب فليستأذنه فَإِن أذن لَهُ
وَإِلَّا فليحلب وَيشْرب وَلَا يحمل وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَقَالَ حَدِيث سَمُرَة حَدِيث حسن
غَرِيب صَحِيح وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد بعض أهل الْعلم
وَبِه يَقُول أَحْمد وَإِسْحَاق وَقَالَ عَليّ بن
الْمَدِينِيّ سَماع الْحسن من سَمُرَة صَحِيح وَقد تكلم
بعض أهل الحَدِيث فِي رِوَايَة الْحسن عَن سَمُرَة
وَقَالُوا إِنَّمَا يحدث عَن صحيفَة سَمُرَة
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بِحَدِيث أبي سعيد رَوَاهُ ابْن
مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح من رِوَايَة أبي نَضرة عَنهُ
قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - إِذا أتيت على رَاع فناده ثَلَاث مَرَّات
فَإِن أجابك وَإِلَّا فَاشْرَبْ من غير أَن تفْسد وَإِذا
أتيت على حَائِط بُسْتَان فناده ثَلَاث مَرَّات فَإِن
أجابك وَإِلَّا فَكل من غير أَن تفْسد وَبِمَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث يحيى بن سليم عَن عبد الله
عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن التَّمْر الْمُعَلق
فَقَالَ من أصَاب مِنْهُ من ذِي حَاجَة غير متخذ خبنة
فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا
نعرفه إِلَّا من حَدِيث يحيى بن سليم وَرُوِيَ أَيْضا من
حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَن
التَّمْر الْمُعَلق إِلَى آخِره نَحوه والخبنة بِضَم
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة
بعْدهَا نون قَالَ الْجَوْهَرِي هُوَ مَا تحمله فِي حضنك
وَقَالَ ابْن الْأَثِير الخبنة معطف الْإِزَار وطرف
الثَّوْب أَي لَا يَأْخُذ مِنْهُ فِي طرف ثَوْبه يُقَال
أخبن الرجل إِذا خبأ شَيْئا فِي خبنة ثَوْبه أَو سراويله
وَالْمرَاد من التَّمْر الْمُعَلق هُوَ التَّمْر على
النّخل قبل أَن يقطع وَلَيْسَ المُرَاد مَا كَانُوا
يعلقونه فِي الْمَسْجِد من الأقناء فِي أَيَّام التمرة
فَإِن ذَلِك مُسبل مَأْذُون فِيهِ وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا
بقضية الْهِجْرَة وَشرب أبي بكر وَالنَّبِيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من غنم الرَّاعِي وَقَالَ
جُمْهُور الْعلمَاء وفقهاء الْأَمْصَار مِنْهُم
الْأَئِمَّة أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم
لَا يجوز لأحد أَن يَأْكُل من بُسْتَان أحد وَلَا يشرب من
لبن غنمه إِلَّا بِإِذن صَاحبه اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا
كَانَ مُضْطَرّا فَحِينَئِذٍ يجوز لَهُ ذَلِك قدر دفع
الْحَاجة وَالْجَوَاب عَن الْأَحَادِيث
(12/278)
الْمَذْكُورَة من وُجُوه الأول أَن
التَّمَسُّك بالقاعدة الْمَعْلُومَة أولى قَالَه
الْقُرْطُبِيّ وَالثَّانِي أَن حَدِيث النَّهْي أصح
وَالثَّالِث أَن ذَلِك مَحْمُول على مَا إِذا علم طيب نفوس
أَرْبَاب الْأَمْوَال بِالْعَادَةِ أَو بغَيْرهَا
وَالرَّابِع أَن ذَلِك مَحْمُول على أَوْقَات الضرورات
كَمَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام وَأجَاب الطَّحَاوِيّ
بِأَن هَذِه الْأَحَادِيث كَانَت فِي حَال وجوب
الضِّيَافَة حِين أَمر رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بهَا وأوجبها للمسافرين على من حلوا
بِهِ فَلَمَّا نسخ وجوب ذَلِك وارتفع حكمه ارْتَفع أَيْضا
حكم الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ
وَشرب أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حِين الْهِجْرَة
من غنم الرَّاعِي وإعطائه للشارع كَانَ إدلالا على صَاحب
الْغنم لمعرفته إِيَّاه وَأَنه كَانَ يعلم أَنه أذن
لِلرَّاعِي أَن يسْقِي من مر بِهِ أَو أَنه كَانَ عرفه
أَنه أَبَاحَ بذلك أَو أَنه مَال حَرْبِيّ لَا أَمَان لَهُ
وَقَالَ ابْن أبي صفرَة حَدِيث الْهِجْرَة فِي زمن
المكارمة وَهَذَا فِي زمن التشاح لما علم - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من تغير الْأَحْوَال بعده وَقَالَ
الدَّاودِيّ إِنَّمَا شرب الشَّارِع وَالصديق لِأَنَّهُمَا
ابْنا سَبِيل وَلَهُمَا شرب ذَلِك إِذا احتاجا وَفِي
الحَدِيث اسْتِعْمَال الْقيَاس لتشبيه النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اللَّبن فِي الضَّرع
بِالطَّعَامِ المخزون وَهَذَا هُوَ قِيَاس الْأَشْيَاء على
نظائرها وأشباهها وَفِيه إِبَاحَة خزن الطَّعَام واحتكاره
خلافًا لغلاة المتزهدة حَيْثُ يَقُولُونَ لَا يجوز الادخار
مُطلقًا وَفِيه أَن اللَّبن يُسمى طَعَاما فَيحنث بِهِ من
حلف لَا يتَنَاوَل طَعَاما إِلَّا أَن يكون لَهُ نِيَّة
تخرج اللَّبن وَقَالَ ابْن عمر فِيهِ مَا يدل على أَن من
حلب من ضرع شَاة أَو بقرة أَو نَاقَة بعد أَن يكون فِي
حرزها مَا يبلغ قِيمَته مَا يجب فِيهِ الْقطع إِن عَلَيْهِ
الْقطع إِلَّا على قَول من لَا يرى الْقطع فِي
الْأَطْعِمَة الرّطبَة من الْفَوَاكِه وَفِيه بيع الشَّاة
اللَّبُون بِالطَّعَامِ لقَوْله فَإِنَّمَا يخزن لَهُم
ضروع مَوَاشِيهمْ أطعماتهم فَجعل اللَّبن طَعَاما وَقد
اخْتلف الْفُقَهَاء فِي بيع الشَّاة اللَّبُون بِاللَّبنِ
وَسَائِر الطَّعَام نَقْدا أَو إِلَى أجل فَذهب مَالك
وَأَصْحَابه إِلَى أَنه لَا بَأْس بِبيع الشَّاة اللَّبُون
بِاللَّبنِ يدا بيد مَا لم يكن فِي ضرْعهَا لبن فَإِن
كَانَ فِي ضرْعهَا لبن لم يجز يدا بيد بِاللَّبنِ من أجل
الْمُزَابَنَة فَإِن كَانَت الشَّاة غير لبون جَازَ فِي
ذَلِك الْأَجَل وَغير الْأَجَل وَقَالَ الشَّافِعِي
وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه لَا يجوز بيع الشَّاة
اللَّبُون بِالطَّعَامِ إِلَى أجل وَلَا يجوز عِنْد
الشَّافِعِي بيع شَاة فِي ضرْعهَا لبن بِشَيْء من اللَّبن
يدا بيد وَلَا إِلَى أجل وَفِيه ذكر الحكم بعلته وإعادته
بعد ذكر الْعلَّة تَأْكِيدًا وتقريرا وَفِيه أَن الْقيَاس
لَا يشْتَرط فِي صِحَّته مُسَاوَاة الْفَرْع للْأَصْل
بِكُل اعْتِبَار بل رُبمَا كَانَت للْأَصْل مزية لَا يضر
سُقُوطهَا فِي الْفَرْع إِذا تشاركا فِي أصل الصّفة لِأَن
الضَّرع لَا يُسَاوِي الخزانة فِي الخزن لما أَن الصر لَا
يُسَاوِي القفل فِيهِ وَمَعَ ذَلِك فقد ألحق الشَّارِع
الضَّرع المصرور بالحكم بالخزانة المقفلة فِي تَحْرِيم
تنَاول كل مِنْهُمَا بِغَيْر إِذن صَاحبه وَفِيه ضرب
الْأَمْثَال للتقريب للإفهام وتمثيل مَا يخفى بِمَا هُوَ
وَاضح مِنْهُ -
9 - (بابٌ إذَا جاءَ صاحِبُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ سَنَةٍ
ردَّهَا علَيْهِ لِأَنَّها ودِيعَةٌ عِنْدَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا جَاءَ صَاحب اللّقطَة ...
إِلَى آخِره. قَوْله: (بعد سنة) أَي: بعد مُضِيّ سنة
التَّعْرِيف. قَوْله: (لِأَنَّهَا) أَي: لِأَن اللّقطَة
وَدِيعَة عِنْد الْمُلْتَقط، فَيجب ردهَا إِلَى صَاحبهَا.
6342 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبِي عبْدِ
الرَّحْمانِ عنْ يَزيدَ مَولاى الْمُنْبَعِثِ عنْ زَيْدِ
بنِ خالِدٍ الْجُهنيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ
رجُلاً سَأَلَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ
اللُّقَطَةِ قَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ
وِكَاءَهَا وعِفَاصَها ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِها فإنْ جاءَ
رَبُّهَا فأدَّهَا إلَيْهِ قَالُوا يَا رسولَ الله
فَضالَّةُ الغَنَمِ قَالَ خُذْهَا فإنَّمَا هِيَ لَكَ أوْ
لِأَخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ قَالَ يَا رسولَ الله فَضالَّةُ
الإبلِ قَالَ فَغَضِبَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حتَّى احْمَرَّتْ وجْنَتَاهُ إوِ احْمَرَّ وجْهُهُ ثُمَّ
قَالَ مالَكَ ولَها مَعها حِذَاؤُهَا وسِقَاؤُها حتَّى
يَلْقاها ربُّهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِن جَاءَ رَبهَا
فأدها إِلَيْهِ) . فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث لفظ:
لِأَنَّهَا وَدِيعَة عِنْده؟ قلت: أُجِيب بجوابين:
أَحدهمَا: أَنه ذكر هَذِه اللَّفْظَة فِي: بَاب ضَالَّة
الْغنم، قبل هَذَا الْبَاب بِخَمْسَة أَبْوَاب، وَلكنه
ذكره بِالشَّكِّ هُنَاكَ
(12/279)
وَذكره هُنَا مترجماً بِالْمَعْنَى، لِأَن
قَوْله: (أدها إِلَيْهِ) بعد الاستنفاق، يدل على وجوب
الرَّد وعَلى أَنه لَا يملكهَا، فَيكون كَالْوَدِيعَةِ
عِنْده، وَالْجَوَاب الآخر: أَنه أسقط هَذَا اللَّفْظ من
حَيْثُ اللَّفْظ، وَذكره ضمنا من حَيْثُ الْمَعْنى، لِأَن
قَوْله: (فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فأدها إِلَيْهِ) ، يدل على
بَقَاء ملك صَاحبهَا، خلافًا لمن أَبَاحَهَا بعد الْحول
بِلَا ضَمَان، والجوابان متقاربان، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ مستقصًى. ثمَّ إِنَّه يسْتَدلّ من قَوْله:
(لِأَنَّهَا وَدِيعَة عِنْده) على أَنَّهَا إِذا تلفت من
غير تَقْصِير مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَيدل
على هَذَا اخْتِيَاره، كَمَا هُوَ قَول جمَاعَة من السّلف.
فَإِن قلت: كَيفَ يتَصَوَّر الْأَدَاء بعد الأْستنفاق؟
قلت: بدلهَا يقوم مقَامهَا، وَكَيْفِيَّة ذَلِك مَعَ مَا
قَالُوا فِيهِ قد مَضَت محررة. قَوْله: (حَتَّى احْمَرَّتْ
وجنتاه أَو احمر وَجهه) ، شكّ من الرَّاوِي، والوجنتان
تَثْنِيَة: وجنة، وَهِي مَا ارْتَفع من الْخَدين، وفيهَا
أَربع لُغَات: بِالْوَاو وبالهمزة وبالفتح فيهمَا وبالكسر
أَيْضا. وَالله أعلم.
01 - (بابٌ هَلْ يَأْخُذُ اللُّقَطَةَ وَلَا يَدَعُهَا
تَضِيعُ حتَّى لَا يأخُذُها مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يَأْخُذ الْمُلْتَقط
اللّقطَة وَلَا يَدعهَا حَال كَونهَا تضيع بِتَرْكِهِ
إِيَّاهَا؟ قَوْله: (حَتَّى لَا يَأْخُذهَا) ، كَذَا هُوَ
بِحرف: لَا، بعد: حَتَّى، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين،
وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: حَتَّى يَأْخُذهَا، بِدُونِ
حرف: لَا. وَقَالَ بَعضهم: وأظن الْوَاو سَقَطت من قبل:
حَتَّى، وَالْمعْنَى: لَا يَدعهَا تضيع وَلَا يَدعهَا
يَأْخُذهَا من لَا يسْتَحق. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا
الظَّن، وَلَا إِلَى تَقْدِير الْوَاو، لِأَن الْمَعْنى
صَحِيح وَالتَّقْدِير لَا يَتْرُكهَا ضائعة، يَنْتَهِي
إِلَى أَخذهَا من لَا يسْتَحق، وَكلمَة: هَل، هُنَا لَيست
على معنى الِاسْتِفْهَام، بل هِيَ بِمَعْنى: قد، للتحقيق،
وَالْمعْنَى: بَاب يذكر فِيهِ قد يَأْخُذ اللّقطَة ...
إِلَى آخِره، وَلِهَذَا لَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب.
وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى الرَّد على من كره
أَخذ اللّقطَة. روى ذَلِك عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول عَطاء بن أبي
رَبَاح، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنه كره أَخذهَا،
والآبق فَإِن أَخذ ذَلِك وضاعت وأبق من غير تضييعه لم
يضمن، وَكره أَحْمد أَخذهَا أَيْضا، وَمن حجتهم فِي ذَلِك
مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن
مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن حَرْب، قَالَ:
حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن أبي الْعَلَاء
يزِيد بن عبد الله بن الشخير عَن أبي مُسلم الجذمي عَن
الْجَارُود، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار) . وَأخرجه
النَّسَائِيّ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن أبي دَاوُد عَن
الْمثنى بن سعيد عَن قَتَادَة عَن يزِيد بن عبد الله عَن
أبي مُسلم الجذمي عَن الْجَارُود نَحوه. وَأخرجه
الطَّبَرَانِيّ أَيْضا. قلت: سُلَيْمَان بن حَرْب شيخ
البُخَارِيّ وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ. وَأَبُو مُسلم
الجذمي، بِفَتْح الْجِيم والذال الْمُعْجَمَة: نِسْبَة
إِلَى جذيمة عبد الْقَيْس، لَا يعرف اسْمه، والجارود هُوَ
ابْن الْمُعَلَّى الْعَبْدي، واسْمه: بشر، والجارود: لقب
بِهِ لِأَنَّهُ أغار فِي الْجَاهِلِيَّة على بكر بن وَائِل
فَأَصَابَهُمْ وجردهم، وَفد على رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم سنة عشر فِي وَفد عبد الْقَيْس، فَأسلم
وَكَانَ نَصْرَانِيّا، ففرح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِإِسْلَامِهِ وأكرمه وقربه. والضالة: هِيَ الضائعة
من كل مَا يقتنى من الْحَيَوَان وَغَيره، يُقَال: ضل
الصَّبِي، إِذا ضَاعَ، وضل عَن الطَّرِيق إِذا حَار وَقد:
مر الْكَلَام فِيهِ مرّة. قَوْله: (حرق النَّار) ،
بِفتْحَتَيْنِ وَقد تسكن الرَّاء، وَحرق النَّار لهيبها،
وَالْمعْنَى: أَن ضَالَّة الْمُسلم إِذا أَخذهَا إِنْسَان
ليتملكها إدته إِلَى النَّار، وَهَذَا تَشْبِيه بليغ. وحرف
التَّشْبِيه مَحْذُوف لأجل الْمُبَالغَة، وَهُوَ من
تَشْبِيه المحسوس بالمحسوس. وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ
وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَأحمد فِي رِوَايَة وَأَبُو
يُوسُف وَمُحَمّد: لَا يحرم أَخذ الضوال، وَعَن
الشَّافِعِي فِي قَول وَأحمد فِي رِوَايَة: ندب تَركهَا،
وَعَن الشَّافِعِي فِي قَول: يجب رَفعهَا، وَقَالَ ابْن
حزم: قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: كلا الْأَمريْنِ،
مُبَاح، وَالْأَفْضَل أَخذهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي مرّة:
أَخذهَا أفضل، وَمرَّة قَالَ: الْوَرع تَركهَا. وَأجَاب
الطَّحَاوِيّ عَن الحَدِيث الْمَذْكُور أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ أَخذهَا لغير التَّعْرِيف، وَقد
بَين ذَلِك مَا رُوِيَ عَن الْجَارُود أَيْضا أَنه قَالَ:
قد كُنَّا أَتَيْنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَنحن على إبل عجاف، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله
إِنَّا قد نمر بالحرف فنجد إبِلا فنركبها؟ فَقَالَ: إِن
ضَالَّة الْمُسلم حرق النَّار، وَكَانَ سُؤَالهمْ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَخذهَا لِأَن يركبوها، لَا
لِأَن يعرفوها، فأجابهم: بِأَن قَالَ: ضَالَّة الْمُسلم
حرق النَّار، أَي: إِن ضَالَّة الْمُسلم حكمهَا أَن تحفظ
على صَاحبهَا حَتَّى تُؤَدّى إِلَى صَاحبهَا، لَا لِأَن
ينْتَفع بهَا لركوب، وَلَا لغير ذَلِك، فَبَان بذلك معنى
الحَدِيث.
(12/280)
7342 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ
قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سَلَمةَ بنِ كُهَيْلٍ قَالَ
سَمِعْتُ سُوَيْدَ بنَ غَفَلَةَ قَالَ كُنْتُ معَ سَلْمانَ
بنِ رَبِيعَةَ وزيْدِ بنِ صُوحَانَ فَي غَزاةٍ فوَجَدْتُ
سَوْطاً فَقَالَ لي ألْقِهِ قلتُ لَا ولاكِنْ إنْ وجَدْتُ
صاحِبَهُ وإلاَّ اسْتَمْتَعْتُ بِهِ فلَمَّا رَجَعْنا
حَجَجْنا فمَرَرْتُ بالْمَدِينَةِ فسألْتُ أُبَيَّ بنَ
كَعْبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَقَالَ وجَدْتُ صُرَّةً
عَلَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيها
مِائَةُ دِينارٍ فأَتَيْتُ بِها النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ عَرِّفْهَا حَوْلاً فعَرَّفْتُها حَوْلاً
ثُمَّ أتَيْتُ فَقَالَ عرِّفْها حَوْلاً فعرَّفْتُها
حَوْلاً ثُمَّ أتَيْتُهُ قَالَ عَرِّفْهَا حَوْلاً
فعرَّفْتُها حَوْلاً ثُمَّ أتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ
اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَوِكَاءَها وَوِعَاءَها فإنْ جاءَ
صاحِبُها وإلاَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أمره، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، إِيَّاه بالتعريف، يدل على أَن أَخذ
اللّقطَة مَشْرُوع لِئَلَّا تضيع إِذا تَركهَا وَتَقَع فِي
يَد غير مستحقها. والْحَدِيث مضى فِي أول كتاب اللّقطَة،
وَلكنه أخرجه هَهُنَا من طَرِيق آخر مَعَ زِيَادَة فِيهِ.
وَرِجَاله قد ذكرُوا مَعَ تَرْجَمَة سُوَيْد بن غَفلَة
هُنَاكَ، وسلمان بن ربيعَة الْبَاهِلِيّ، يُقَال: لَهُ
صُحْبَة، وَيُقَال لَهُ: سلمَان الْخَيل، لخبرته بهَا،
وَكَانَ أَمِيرا على بعض الْمَغَازِي فِي فتوح الْعرَاق
سنة ثَلَاثِينَ، فِي عهد عمر وَعُثْمَان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ أول من تولى قَضَاء الْكُوفَة،
وَاسْتشْهدَ فِي خِلَافَته فِي فتوح الْعرَاق، وَلَيْسَ
لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع، وَزيد بن صوحان،
بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا حاء
مُهْملَة وَبعد الْألف نون: الْعَبْدي، تَابِعِيّ كَبِير
مخضرم أَيْضا، وَزعم ابْن الْكَلْبِيّ: أَن لَهُ صُحْبَة.
وروى أَبُو يعلى من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، مَرْفُوعا: من سره أَن ينظر إِلَى من سبقه بعض
أَعْضَائِهِ إِلَى الْجنَّة فَلْينْظر إِلَى زيد بن صوحان،
وَكَانَ قدوم زيد فِي عهد عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَشهد الْفتُوح، وروى ابْن مَنْدَه من حَدِيث بُرَيْدَة،
قَالَ: سَاق النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَيْلَة
فَقَالَ زيد: زيد الْخَيْر: فَسئلَ عَن ذَلِك، فَقَالَ رجل
سبقه يَده إِلَى الْجنَّة فَقطعت يَد زيد بن صوحان فِي بعض
الْفتُوح، وَقتل مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
يَوْم الْجمل.
قَوْله: (فِي غزَاة) ، زَاد أَحْمد من طَرِيق سُفْيَان عَن
سَلمَة: حَتَّى إِذا كُنَّا بالعذيب، بِضَم الْعين
الْمُهْملَة وَفتح الدَّال الْمُعْجَمَة: وَفِي آخِره بَاء
مُوَحدَة مصغر عذب: وَهُوَ مَوضِع، قَالَه بعض الشُّرَّاح
وَسكت. قلت: عذيب وادٍ بِظَاهِر الْكُوفَة، وَقَالَ
إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد فِي (شَرحه لشعر أبي الطّيب)
عِنْد قَوْله:
(تذكرت مَا بَين العذيب وبارق)
العذيب: مَاء لبني تَمِيم، وَكَذَلِكَ: بارق. قَالَ
الرشاطي والبكري: ديار بني تَمِيم بِالْيَمَامَةِ، وعذيبة
تَأْنِيث الَّذِي قبله مَوضِع فِي طَرِيق مَكَّة بَين
الْجَار وينبع. قَوْله: (ألقه) ، أَمر من الْإِلْقَاء،
وَهُوَ الرَّمْي. قَوْله: (قلت: لَا) ، أَي: لَا ألقيه.
قَوْله: (الرَّابِعَة) ، هِيَ رَابِعَة بِاعْتِبَار
مَجِيئه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وثالثة
بِاعْتِبَار التَّعْرِيف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: تقدم أول اللّقطَة أَنَّهَا الثَّالِثَة؟ قلت:
التَّخْصِيص بِالْعدَدِ لَا يدل على نفي الزَّائِد.
انْتهى. والأصوب مَا قُلْنَاهُ. قَوْله: (عدتهَا) ، أَي:
عَددهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا يدل على تَأْخِير
الْمعرفَة عَن التَّعْرِيف، يَعْنِي. قَوْله: (أعرف
عدتهَا) ، وَالرِّوَايَات السَّابِقَة بِالْعَكْسِ. قلت:
مضى الْجَواب عَن هَذَا عَن قريب، وَهُوَ أَنه مَأْمُور
بمعرفتين، يعرف أَولا ليعلم صدق وصفهَا، وَيعرف ثَانِيًا
معرفَة زَائِدَة على الأولى، من قدرهَا وجودتها على سَبِيل
التَّحْقِيق، ليردها على صَاحبهَا بِلَا تفَاوت.
حدَّثنا عبْدَانُ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ عنْ
سلَمَةَ بِهاذَا قَالَ فَلَقَيْته بَعْدُ بِمَكَّةَ
فَقَالَ لاَ أدْرِي أثَلاثَةَ أحْوَالٍ أوْ حَوْلاً
واحِداً
عَبْدَانِ: اسْمه عبد الله، وعبدان لقب عَلَيْهِ، وَأَبُو
عُثْمَان بن جبلة، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة
المفتوحتين: الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، وَسَلَمَة هُوَ ابْن
كهيل.
قَوْله: (بِهَذَا) ، أَي: بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور.
قَوْله: (قَالَ: فَلَقِيته) ، أَي: قَالَ سُوَيْد بن
غَفلَة: فَلَقِيت أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
(بِمَكَّة فَقَالَ لَا أَدْرِي) أَي: لَا أعلم ... إِلَى
آخِره، وَرَوَاهُ مُسلم، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن
بشار حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر حَدثنَا شُعْبَة.
وحَدثني أَبُو بكر بن نَافِع، وَاللَّفْظ لَهُ، حَدثنَا
غنْدر حَدثنَا شُعْبَة عَن سَلمَة بن كهيل، قَالَ: سَمِعت
سُوَيْد بن غَفلَة،
(12/281)
قَالَ: خرجت أَنا وَزيد بن صوحان وسلمان بن
ربيعَة غازين، فَوجدت سَوْطًا فَأَخَذته، فَقَالَا لي:
دَعه، فَقلت: لَا، وَلَكِنِّي أعرف بِهِ، فَإِن جَاءَ
صَاحبه وإلاَّ استمتعت بِهِ. قَالَ: فأبيت عَلَيْهِمَا،
فَلَمَّا رَجعْنَا من غزاتنا قضي لي أَنِّي حججْت، فَأتيت
الْمَدِينَة، فَلَقِيت أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فَأَخْبَرته بشأن السَّوْط، وبقولهما، فَقَالَ:
إِنِّي وجدت صرة فِيهَا مائَة دِينَار على عهد رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأتيت بهَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: عرفهَا حولا، قَالَ: فعرفتها فَلم
أجد من يعرفهَا، ثمَّ أَتَيْته. فَقَالَ: عرفهَا حولا
فعرفتها فَلم أجد من يعرفهَا، ثمَّ أَتَيْته. فَقَالَ:
عرفهَا حولا، فَلم أجد من يعرفهَا، فَقَالَ: إحفظ عَددهَا
ووعاءها ووكاءها، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وإلاَّ فاستمتع
بهَا، فاستمتعت بهَا، فَلَقِيته بعد ذَلِك بِمَكَّة،
فَقَالَ: لَا أَدْرِي، بِثَلَاثَة أَحْوَال أَو حول
وَاحِد. انْتهى. وَإِنَّمَا سقت حَدِيث مُسلم هَذَا
بِطُولِهِ لِأَنَّهُ كالشرح لرِوَايَة البُخَارِيّ هَذِه.
11 - (بابُ مَنْ
عَرَّفَ اللُّقَطَةَ ولَمْ يَدْفَعْهَا إلاى السُّلْطَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من عرف بِالتَّشْدِيدِ من
التَّعْرِيف. قَوْله: (وَلم يَدْفَعهَا) ، من الدّفع فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: وَلم
يرفعها، بالراء مَوضِع الدَّال، وَحَاصِل هَذِه
التَّرْجَمَة أَن الْمُلْتَقط لَا يجب عَلَيْهِ أَن يدْفع
اللّقطَة إِلَى السُّلْطَان، سَوَاء كَانَت قَليلَة أَو
كَثِيرَة، لِأَن السّنة وَردت بِأَن وَاجِد اللّقطَة هُوَ
الَّذِي يعرفهَا دون غَيره، لقَوْله: عرفهَا، إلاَّ إِذا
كَانَ الْمُلْتَقط غير أَمِين، فَإِن السُّلْطَان
يَأْخُذهَا مِنْهُ ويدفعها إِلَى أَمِين ليعرفها على مَا
نذكرهُ عَن قريب، وَأَشَارَ بهَا أَيْضا إِلَى رد قَول من
يفرق بَين الْقَلِيل وَالْكثير حَيْثُ يَقُولُونَ: إِن
كَانَ قَلِيلا يعرفهُ وَإِن كَانَ كثيرا يرفعهُ إِلَى بَيت
المَال، وَالْجُمْهُور على خِلَافه، وَمِمَّنْ ذهب إِلَى
ذَلِك: الْأَوْزَاعِيّ، وَفرق بَعضهم بَين اللّقطَة
والضوال، وَفرق بعض الْمَالِكِيَّة وَبَعض الشَّافِعِيَّة
بَين المؤتمن وَغَيره، فالزموا المؤتمن بالتعريف، وَأمرُوا
بدفعها إِلَى السُّلْطَان فِي غير المؤتمن ليعطيها لمؤتمن
يعرفهَا.
8342 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ عنْ رَبيعَةَ عنْ يَزيدَ مَوْلاى الْمُنْبَعِثِ
عنْ زَيْدِ بنِ خالدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ
أعرابِياً سألَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ
اللُّقَطَةِ قَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً فإنْ جاءَ أحَدٌ
يُخْبِرُكَ بِعِفَاصِهَا ووِكَائِهَا وإلاَّ فاسْتَنْفِقْ
بِها وسألَهُ عنْ ضالَّةِ الإبِلِ فتَمَعَّرَ وَجُهُهُ
وَقَالَ مالَكَ ولَهَا مَعَها سِقاؤُها وحذَاؤُها تَردُ
الماءَ وتأكُلُ الشِّجَرَ دَعْها حتَّى يَجِدَها رَبُّها
وسألَهُ عنْ ضالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ هِيَ لَكَ أوْ
لأخِيكَ أوْ لِلذِّئْبِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لَا يجب على
الْمُلْتَقط دَفعهَا إِلَى السُّلْطَان، بل هُوَ يعرفهَا،
وَهُوَ حَاصِل معنى قَوْله: (من عرف اللّقطَة وَلم
يَدْفَعهَا إِلَى السُّلْطَان) ، والْحَدِيث مضى مكرراً
مَعَ شَرحه.
21 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ كالفصل لما قبله، وَهَكَذَا وَقع
بِغَيْر تَرْجَمَة، وَلَيْسَ هُوَ بموجود فِي رِوَايَة أبي
ذَر.
9342 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرنَا
النَّضْرُ قَالَ أخبرنَا إسْرَائيلُ عنْ أبي إسحاقَ قَالَ
أخبرَني الْبَراءُ عنْ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُما وحدَّثنا عبدُ الله بنُ رَجاءٍ قَالَ حدَّثنا
إسْرَائيلُ عنْ أبي إسْحاقَ عَن الْبَرَاءِ عنْ أبِي
بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ انْطَلَقْتُ
فإذَا أنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسوقُ غَنَمَهُ فَقُلْتُ
لِمَنْ أنْتَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ فسَمَّاهُ
فعَرَفْتُهُ فقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ
فَقَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ هَلْ أنْتَ حالِبٌ لِي قَالَ
نَعَمْ فأمَرْتُهُ فاعْتَقَلَ شَاة منْ غَنَمِهِ ثُمَّ
أمَرْتُهُ أنْ يَنْفُضَ ضَرْعَها مِنَ الغُبَارِ ثُمَّ
أمَرْتُهُ أنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا ضَرَبَ
إحْدَى كفَّيْهِ بِالأُخْرَى فحَلَبَ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ
وقَدْ جَعَلْتُ
(12/282)
لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إدَاوَةً على
فَمِها خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ علَى اللَّبَنِ حتَّى برَدَ
أسْفَلُهُ فانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقلْتُ اشْرَبْ يَا رسولَ الله فَشرِبَ حتَّى
رَضِيتُ..
وَجه إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب الَّذِي
كالفصل من الْبَاب المترجم الَّذِي قبله من حَيْثُ إِن
الْبَاب المترجم مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام اللّقطَة،
وَهَذَا أَيْضا فِيهِ شَيْء يشبه حَاله حَال اللّقطَة،
وَهُوَ الشّرْب من لبن غنم لَهَا راعٍ وَاحِد فِي
الصَّحرَاء، وَهُوَ فِي حكم الضائع فِي هَذِه الْحَالة،
فَصَارَ كالسوط أَو الْحَبل أَو نَحْوهمَا الَّذِي يُبَاح
الْتِقَاطه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التلفيق
بَينه وَبَين مَا تقدم آنِفا من حَدِيث: (لَا يحلبن أحد
مَاشِيَة أحد؟) قلت: كَانَ هَهُنَا إِذن عادي أَو كَانَ
صَاحبه صديق الصّديق، أَو كَانَ كَافِرًا حَرْبِيّا أَو
كَانَ حَالهمَا حَال اضطرار أَو من جِهَة النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، أولى بِالْمُؤْمِنِينَ. انْتهى. قلت:
لَا تطلب الْمُطَابقَة إلاَّ بَين حَدِيث الْبَاب
وَالْبَاب الَّذِي ترْجم عَلَيْهِ، وَهَهُنَا الْبَاب
الَّذِي فِيهِ هَذَا الحَدِيث مُجَرّد من التَّرْجَمَة،
وَهُوَ دَاخل فِي الْبَاب الَّذِي قبله، وَهُوَ: بَاب من
عرف اللّقطَة وَلم يَدْفَعهَا إِلَى السُّلْطَان،
وَالَّذِي ذكره الْكرْمَانِي لَيْسَ لَهُ مُنَاسبَة
هَهُنَا أصلا، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيم مَا ذكره بَين هَذَا
الحَدِيث وَبَين: بَاب لَا يحتلب مَاشِيَة أحد إلاَّ
بِإِذن، وَبَينهمَا ثَلَاثَة أَبْوَاب، وَالْأَصْل بَيَان
الْمُطَابقَة بَين كل بَاب وَحَدِيثه.
ثمَّ إِن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين:
الأول: عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن
رَاهَوَيْه عَن النَّضر، بِسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة:
ابْن شُمَيْل مصغر شَمل عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي
إِسْحَاق عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله
السبيعِي عَن الْبَراء بن عَازِب. الثَّانِي: عَن عبد الله
بن رَجَاء بن الْمثنى الفداني الْبَصْرِيّ أبي عَمْرو عَن
إِسْرَائِيل ... إِلَى آخِره، والْحَدِيث أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن
مُحَمَّد بن يُوسُف، وَفِي الْهِجْرَة عَن مُحَمَّد بن
بشار، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن مَحْمُود عَن النَّضر.
وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن سَلمَة بن شبيب، وَفِي
الْأَشْرِبَة عَن أبي مُوسَى.
قَوْله: (فَإِذا أَنا) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة. قَوْله:
(انْطَلَقت) ، أَي: حِين كَانَ مَعَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَاصِدين الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة.
قَوْله: (يَسُوق غنمه) ، جملَة حَالية. قَوْله: (هَل فِي
غنمك من لبن؟) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَحكى عِيَاض رِوَايَة ضم اللَّام وَسُكُون
الْبَاء أَي: شَاة ذَات لبن، كَذَا قَالَه بَعضهم:
وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا اللَّبن، بِضَم اللَّام
وَسُكُون الْبَاء جمع: لبنة، وَكَذَلِكَ لبن بِكَسْر
اللَّام، وَعَن يُونُس يُقَال: كم لبن غنمك وَلبن غنمك؟
أَي: ذَوَات الدّرّ مِنْهَا. قَوْله: (فَأَمَرته) ، أَي:
بالاعتقال، وَهُوَ الْإِمْسَاك، يُقَال: اعتقلت الشَّاة
إِذا وضعت رجلهَا بَين فخذيك أَو ساقيك لتحلبها. قَوْله:
(كثبة) ، بِضَم الْكَاف وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة
وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ قدر حلبة. وَقيل:
الْقَلِيل مِنْهُ، وَقيل: الْقدح من اللَّبن. قَوْله:
(إداوة) ، وَهِي الركوة.
وَفِي الحَدِيث من الْفَوَائِد: اسْتِصْحَاب الاداوة فِي
السّفر وخدمة التَّابِع للمتبوع. وَفِيه: من التأدب
والتنظيف مَا صنعه أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
من نفض يَد الرَّاعِي ونفض الضَّرع، وَقَالَ ابْن بطال:
سَأَلت بعض شيوخي عَن وَجه استجازة الصّديق لشرب اللَّبن
من ذَلِك الرَّاعِي، فَقَالَ لي: يحْتَمل أَن يكون
الشَّارِع قد كَانَ أذن لَهُ فِي الْحَرْب، وَكَانَت
أَمْوَال الْمُشْركين لَهُ حَلَالا، فعرضته على الْمُهلب،
فَقَالَ لي: لَيْسَ هَذَا بِشَيْء لِأَن الْحَرْب
وَالْجهَاد إِنَّمَا فرض بِالْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ
الْمَغَانِم إِنَّمَا نزل تحليلها يَوْم بدر بِنَصّ
الْقُرْآن، وَإِنَّمَا شرباه بِالْمَعْنَى الْمُتَعَارف
عِنْدهم فِي ذَلِك الزَّمن من المكارمات، وَرُبمَا استفهم
بِهِ الصّديق الرَّاعِي من أَنه حالب أَو غير حالب؟ وَلَو
كَانَ بِمَعْنى الْغَنِيمَة مَا استفهمه، ويحلب على مَا
أَرَادَ الرَّاعِي أَو كره، وَالله أعلم. |