عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 12 - (بابُ صَبِّ الْخَمْرِ فِي
الطَّرِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صب الْخمر فِي طَرِيق النَّاس،
هَل يَنْبَغِي ذَلِك أم لَا؟ فَقيل: لَا يمْنَع من ذَلِك،
لِأَنَّهُ للإعلان برفضها، وليشتهر تَركهَا، وَذَلِكَ أَنه
أرجح فِي الْمصلحَة من التأذي بصبها فِي الطَّرِيق،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُهلب، وَقيل: يمْنَع من ذَلِك،
فَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا الَّذِي فِي الحَدِيث كَانَ
فِي أول الْإِسْلَام قبل أَن ترَتّب الْأَشْيَاء وتنظف،
فَأَما الْآن فَلَا يَنْبَغِي صب النَّجَاسَات فِي الطّرق
خوفًا أَن يُؤْذِي الْمُسلمين، وَقد منع سَحْنُون أَن يصب
المَاء من بِئْر وَقعت فِيهِ فَأْرَة فِي الطَّرِيق.
قَوْله: (فِي الطَّرِيق) ، ويروى: فِي الطّرق.
4642 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَبُو
يَحْيى قَالَ أخبرنَا عَفَّانُ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ
زَيْدٍ قَالَ حدَّثنا ثابِتٌ عنْ أنَسٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ كنتُ ساقِيَ الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ
أبِي طَلْحَةَ وكانَ خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الْفَضِيخَ
فأمَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُنادِياً
يُنادي ألاَ إنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ قَالَ فقالَ لِي
أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فأهْرِقْها فَخَرَجْتُ
فَهَرَقْتُها فجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ
بَعْضُ الْقَوْمِ قَدْ قُتِلَ قَوْمٌ وهْيَ فِي
بُطُونِهِمْ فأنْزَلَ الله {لَيْسَ علَى الَّذِينَ آمَنُوا
وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيما طَعِمُوا}
(الْمَائِدَة: 39) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَهَرَقْتهَا فجرت فِي
سِكَك الْمَدِينَة) ، وَمُحَمّد بن عبد الرَّحِيم أَبُو
يحيى هُوَ الْمَعْرُوف بصاعقة، وَهُوَ من أَفْرَاده،
وَعَفَّان هُوَ ابْن مُسلم الصفار، وروى عَنهُ البُخَارِيّ
فِي الْجَنَائِز بِدُونِ الْوَاسِطَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن
أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن
إِسْمَاعِيل بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة
عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَنهُ نَحوه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كنت ساقي الْقَوْم فِي منزل أبي
طَلْحَة) ، وَأَبُو طَلْحَة زوج أم أنس، واسْمه: زيد بن
سهل الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة وبدراً وأحداً وَسَائِر
الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَهُوَ أحد النُّقَبَاء، وعاش بعد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ سنة، وَمَات بِالشَّام،
قَالَه أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي. وَعَن أنس: أَنه غزا
الْبَحْر فَمَاتَ فِيهِ، فَمَا وجدوا جَزِيرَة فدفنوه
فِيهَا إِلَّا بعد سَبْعَة أَيَّام، وَلم يتَغَيَّر، وَفِي
الْقَوْم كَانَ أَبُو عُبَيْدَة وَأبي بن كَعْب، على مَا
يَأْتِي فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْأَشْرِبَة، وَفِي
رِوَايَة لمُسلم: إِنِّي لقائم أسقيها أَبَا طَلْحَة،
وَأَبا أَيُّوب ورجالاً من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: إِنِّي لقائم على
الْحَيّ على عمومتي أسقيهم، وَفِي رِوَايَة لَهُ: كنت
أَسْقِي أَبَا طَلْحَة وَأَبا دُجَانَة ومعاذ بن جبل فِي
رَهْط من الْأَنْصَار، وَفِي رِوَايَة لَهُ: إِنِّي لأسقي
أَبَا طَلْحَة وَأَبا دُجَانَة وَسُهيْل بن بَيْضَاء من
مزادة. قَوْله: (وَكَانَ خمرهم يَوْمئِذٍ الفضيخ) ، أصل
الْخمر من المخامرة، وَهِي المخالطة،
(13/11)
سميت بهَا لمخالطتها الْعقل، وَمن التخمير
وَهُوَ التغطية، سميت بهَا لتغطيتها الْعقل، يذكر
وَيُؤَنث، وَجزم ابْن التِّين بالتأنيث، وَقَالَ ابْن
سَيّده: هِيَ مَا أسكر من عصير الْعِنَب، والأعرف فِيهَا
التَّأْنِيث، وَقد يذكر، وَالْجمع: خمور. وَقَالَ ابْن
الْمسيب، فِيمَا حكا النّحاس فِي (ناسخه) سميت بذلك
لِأَنَّهَا صعد صفوها ورسب كدرها، وَقَالَ ابْن
الْأَعرَابِي: لِأَنَّهَا تركت فَاخْتَمَرت، واختمارها
تغير رِيحهَا، وَجعلهَا أَبُو حنيفَة الدينَوَرِي من
الْحُبُوب، وَأَظنهُ تسمحاً مِنْهُ، لِأَن حَقِيقَة الْخمر
إِنَّمَا هِيَ للعنب دون سَائِر الْأَشْيَاء، وَعند أبي
حنيفَة الإِمَام: الْخمر هِيَ النيء من مَاء الْعِنَب إِذا
غلا وَاشْتَدَّ، وَلها عدَّة أَسمَاء نَحْو
الْمِائَتَيْنِ، ذَكرنَاهَا فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار)
والفضيخ، بفاء مَفْتُوحَة وضاد وخاء معجمتين: شراب يتَّخذ
من الْبُسْر من غير أَن تمسه النَّار، وَقَالَ ابْن
سَيّده: هُوَ شراب يتَّخذ من الْبُسْر المفضوخ، يَعْنِي:
المشدوخ. وَفِي (مجمع الغرائب) : ويروى عَن ابْن عمر أَنه
قَالَ: لَيْسَ بالفضيخ، وَلكنه الفضوخ. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة عَن الْأَعْرَاب: هُوَ مَا اعتصر من الْعِنَب
اعتصاراً، فَهُوَ الفضيخ، وَكَذَلِكَ فضيخ الْبُسْر.
وَقَالَ الدَّاودِيّ: يهشم الْبُسْر وَيجْعَل مَعَه
المَاء، وَقَالَهُ اللَّيْث أَيْضا. قَوْله: (فَأمر رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منادياً يُنَادي) ، وَفِي
رِوَايَة: فَأَتَاهُم آتٍ، يَعْنِي: أَن الْآتِي أخْبرهُم
بالنداء، والنداء عَن الْأَمر يتنزل فِي الْعَمَل بِهِ
منزلَة سَماع. قَوْله: (فَأَهْرقهَا) الْهَاء فِيهِ
زَائِدَة وَأَصله: أراقها من الإراقة، وَهِي الإسالة
والصب، وَيُقَال: أراق وهراق. قَوْله: (فِي سِكَك
الْمَدِينَة) أَي: فِي طرقها، جمع: سكَّة بِالْكَسْرِ.
قَوْله: (فَأنْزل الله تَعَالَى {لَيْسَ على الَّذين
آمنُوا ... } (الْمَائِدَة: 39) . الْآيَة. وَقَالَ
الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا الْأسود بن عَامر أَنبأَنَا
إِسْرَائِيل عَن سماك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: لما حرمت الْخمر قَالَ أنَاس: يَا رَسُول الله
{أَصْحَابنَا الَّذين مَاتُوا وهم يشربونها؟ فَأنْزل الله
تَعَالَى: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا
الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} (الْمَائِدَة: 39) .
قَالَ: وَلما حولت الْقبْلَة، قَالَ أنَاس: يَا رَسُول
الله} أَصْحَابنَا الَّذين مَاتُوا وهم يصلونَ إِلَى بَيت
الْمُقَدّس؟ فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله
لِيُضيع إيمَانكُمْ} (الْبَقَرَة: 341) . وَقَالَ أَبُو
دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق
عَن الْبَراء بن عَازِب، قَالَ: لما نزل تَحْرِيم الْخمر،
قَالُوا: كَيفَ بِمن كَانَ يشْربهَا قبل أَن تحرم؟ فَنزلت
{لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح
فِيمَا طعموا ... } (الْمَائِدَة: 39) . الْآيَة،
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن بنْدَار عَن غنْدر عَن
شُعْبَة نَحوه، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: تَحْرِيم الْخمر، وَذكر
ابْن سعد وَغَيره أَن تَحْرِيم الْخمر كَانَ فِي السّنة
الثَّانِيَة بعد غَزْوَة أحد. وَفِيه: قبُول خبر
الْوَاحِد. وَفِيه: حُرْمَة إِِمْسَاكهَا، وَنقل
النَّوَوِيّ اتِّفَاق الْجُمْهُور عَلَيْهِ. وَفِيه: قَول
من قَالَ: قتل قوم وَهِي فِي بطونهم، صدر عَن غَلَبَة خوف
وشفقة، أَو عَن غَفلَة عَن الْمَعْنى، لِأَن الْخمر كَانَت
مُبَاحَة أَولا، وَمن فعل مَا أُبِيح لَهُ لم يكن لَهُ
وَلَا عَلَيْهِ شَيْء، لِأَن الْمُبَاح مستوى الطَّرفَيْنِ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْع. وَفِيه: فجرت فِي سِكَك
الْمَدِينَة، وَاسْتدلَّ بِهِ ابْن حزم على طَهَارَة
الْخمر، لِأَن الصَّحَابَة كَانَ أَكْثَرهم يمشي حافياً،
فَمَا يُصِيب قدمه لَا ينجس بِهِ. قلت: هَذِه جَرَاءَة
عَظِيمَة، لِأَن الْقُرْآن أخبر بنجاستها.
22 - (بابُ أفْنِيَةِ الدُّورِ والْجُلوسِ فِيهَا عَلَى
الصُّعُدَاتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْجُلُوس فِي أفنية
الدّور، والأفنية جمع: فنَاء، بِكَسْر الْفَاء وبالنون
وَالْمدّ: وَهُوَ مَا امْتَدَّ من جَوَانِب الدَّار. وَفِي
(الْمغرب) : وَهُوَ سَعَة أَمَام الْبيُوت. وَقَالَ ابْن
ولاد: الفناء حَرِيم الدَّار. قَوْله: (وَالْجُلُوس على
الصعدات) ، أَي: وَبَيَان حكم الْجُلُوس على الصعدات،
وَهِي بِضَمَّتَيْنِ: الطرقات، وَهُوَ جمع: صَعِيد، مثل:
طَرِيق يجمع على طرقات، وَقيل: الصعدات جمع صعد
بِضَمَّتَيْنِ، والصعد جمع صَعِيد، فَيكون الصعدات جمع
الْجمع، كطرق فَإِنَّهُ جمع طَرِيق وَيجمع على طرقات.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَقيل: هِيَ جمع صعدة كظلمة،
وَهِي فنَاء بَاب الدَّار وممر النَّاس بَين يَدَيْهِ.
وقالَتْ عائِشَةُ فابْتَنَى أبُو بَكْرٍ مَسْجِدَاً
بِفِناءِ دارِهِ يُصَلِّي فِيهِ ويَقْرَأُ الْقُرْآنَ
فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِساءُ الْمُشْرِكِينَ
وأبْنَاؤُهُمْ يعْجَبونَ مِنْهُ والنبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ
ذكر هَذَا التَّعْلِيق دَلِيلا على جَوَاز التَّصَرُّف من
صَاحب الدَّار فِي فنَاء دَاره، وَهُوَ أَيْضا يُوضح الحكم
الَّذِي أبهمه فِي التَّرْجَمَة، وَوَصله فِي كتاب
الصَّلَاة فِي: بَاب الْمَسْجِد يكون فِي الطَّرِيق من غير
ضَرَر للنَّاس فِيهِ، عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن
عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير: أَن عَائِشَة
زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت ...
الحَدِيث، وَفِيه: ثمَّ بدا لأبي بكر فابتنى مَسْجِدا
(13/12)
بِفنَاء دَاره فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ
وَيقْرَأ الْقُرْآن، فتقف عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين
وأبناؤهم يعْجبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ...
الحَدِيث. وَأخرجه أَيْضا فِي الْهِجْرَة بِهَذَا
الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مطولا.
وَفِيه: ثمَّ بدا لأبي بكر فابتنى مَسْجِدا بِفنَاء دَاره،
وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيقْرَأ الْقُرْآن، فتتقذف
عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين وأبناؤهم، وهم يعْجبُونَ
وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، ويروى: فينقذف عَلَيْهِ، وَمر
هَذَا أَيْضا فِي الْكفَالَة فِي: بَاب جوَار أبي بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي عهد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: فيتقصف عَلَيْهِ نسَاء
الْمُشْركين، وَمَعْنَاهُ: يزدحمون عَلَيْهِ، وَأَصله من
القصف، وَهُوَ: الْكسر وَالدَّفْع الشَّديد لفرط الزحام،
وَهَذَا كَمَا رَأَيْت هُنَا أَربع رِوَايَات. الأولى:
فتقف عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين، مر فِي: بَاب الْمَسْجِد
على الطَّرِيق. وَالثَّانيَِة: هُنَا: فيتقصف.
وَالثَّالِثَة: فِي الْهِجْرَة: فيتقذف، بِالذَّالِ
الْمُعْجَمَة بدل الصَّاد من الْقَذْف، وَهُوَ الرَّمْي
بِقُوَّة وَالْمعْنَى: يرْمونَ أنفسهم عَلَيْهِ ويتزاحمون.
وَالرَّابِعَة: فينقذف من الْقَذْف أَيْضا. وَلَكِن الْفرق
بَينهمَا أَن: يتقذف، على وزن: يتفعل، من بَاب التفعل،
وينقذف على وزن: ينفعل، من بَاب الانفعال. وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: وَفِي حَدِيث الْهِجْرَة: فيتقذف عَلَيْهِ
نسَاء الْمُشْركين، وَفِي رِوَايَة: فينقذف،
وَالْمَعْرُوف: فيتقصف. قلت: وَقد قيل رِوَايَة أُخْرَى،
وَهِي: يتصفف من الصَّفّ، أَي: يصطفون عَلَيْهِ ويقفون صفا
صفا. قَوْله: (يعْجبُونَ) ، جملَة حَالية، وَكَذَلِكَ
قَوْله: (وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ
بِمَكَّة) .
5642 - حدَّثنا مُعاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا أَبُو
عُمَرَ حَفْصُ بنُ مَيْسَرَةْ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَمَ عنْ
عَطَاءِ ابنِ يَسارٍ عنْ أبِي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ إيَّاكُمْ والجلوسَ عَلى الطُّرُقَاتِ فقالُوا مَا
لَنا بُدٌّ إنَّما هِيَ مَجالِسُنا نَتَحَدَّثُ فِيها
قَالَ فإذَا أبَيْتُمْ إلاَّ الْمَجَالِسَ فأعْطُوا
الطَّرِيقَ حَقَّها قَالُوا مَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ
غَضُّ الْبَصَرِ وكَفُّ الأذَى ورَدُّ السَّلاَمِ وأمْرٌ
بالْمَعْرُوفِ ونَهْيٌ عنِ الْمُنْكَرِ.
(الحَدِيث 5642 طرفه فِي: 9226) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إيَّاكُمْ وَالْجُلُوس
على الطرقات) فَإِن قلت: التَّرْجَمَة على الصعدات؟ قلت:
الصعدات هِيَ الطرقات كَمَا ذكرنَا، وَلَا فرق بَينهمَا
فِي الْمَعْنى، وَعند أبي دَاوُد بِلَفْظ: الطرقات.
وَرِجَاله قد ذكرُوا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان
عَن عبد الله بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِيهِ وَفِي
اللبَاس عَن سُوَيْد بن سعيد عَن يحيى بن يحيى وَعَن
مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن
القعْنبِي عَن الدَّرَاورْدِي بِهِ.
قَوْله: (إيَّاكُمْ وَالْجُلُوس) ، بِالنّصب على التحذير،
أَي: اتَّقوا الْجُلُوس واتركوه على الطرقات. قَوْله: (مَا
لنا بدُّ) أَي: مَا لنا غنى عَنهُ. قَوْله: (هِيَ) أَي:
الطرقات. قَوْله: (فَإِذا أَبَيْتُم) ، من: الإباء فَإِذا
امتنعتم عَن الْجُلُوس إلاَّ فِي الْمجَالِس، وَهَذَا
هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره:
فَإِذا أتيتم إِلَى الْمجَالِس، من الْإِتْيَان، وبكلمة:
إِلَى، الَّتِي للغاية. قَوْله: (قَالَ: غض الْبَصَر) أَي:
قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حق الطَّرِيق غض
الْبَصَر، وَأَرَادَ بِهِ السَّلامَة من التَّعَرُّض
للفتنة لمن يمء من النِّسَاء وَغَيرهم قَوْله (وكف
الْأَذَى) بِالرَّفْع عطف على مَا قبله وَأَرَادَ بِهِ
السَّلامَة من التَّعَرُّض إِلَى أحد بالْقَوْل وَالْفِعْل
مِمَّا لَيْسَ فيهمَا من الْخَيْر. قَوْله: (ورد
السَّلَام) ، يَعْنِي: على الَّذِي يسلم عَلَيْهِ من
المارين. قَوْله: (وَأمر بِمَعْرُوف) ، وَهُوَ كل أَمر
جَامع لكل مَا عرف من طَاعَة الله تَعَالَى والتقرب
إِلَيْهِ وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس وكل مَا ندب
إِلَيْهِ الشَّرْع من المحسنات وَنهى عَنهُ من المقبحات،
وَالْمُنكر ضد الْمَعْرُوف، وكل مَا قبحه الشَّرْع وَحرمه
وَكَرِهَهُ، وَزَاد عِنْد أبي دَاوُد: وإرشاد السَّبِيل
وتشميت الْعَاطِس إِذا حمد، وَمن حَدِيث عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، عِنْد الطَّبَرَانِيّ: وإغاثة الملهوف،
زِيَادَة على مَا ذكر. قَالُوا: نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن الْجُلُوس فِي الطرقات لِئَلَّا يضعف الْجَالِس
على الشُّرُوط الَّتِي ذكرهَا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فهم
الْعلمَاء أَن هَذَا الْمَنْع لَيْسَ على جِهَة
التَّحْرِيم، وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب سد الذرائع والإرشاد
إِلَى الصُّلْح. قَالَ: وَفِي رِوَايَة: وَحسن الْكَلَام
من رد الْجَواب، قَالَ: يُرِيد أَن من جلس على الطَّرِيق
فقد تعرض لكَلَام النَّاس، فليحسن لَهُم كَلَامه وَيصْلح
شَأْنه. وروى هِشَام بن عُرْوَة عَن عبد الله بن الزبير،
قَالَ: الْمجَالِس حلق الشَّيْطَان إِن يرَوا حَقًا لَا
يقومُونَ بِهِ، وَإِن يرَوا بَاطِلا فَلَا يدفعونه.
وَقَالَ عَامر: كَانَ النَّاس يَجْلِسُونَ فِي
مَسَاجِدهمْ: فَلَمَّا قتل عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، خَرجُوا إِلَى الطَّرِيق يسْأَلُون عَن
الْإِخْبَار. وَقَالَ طَلْحَة
(13/13)
ابْن عبيد الله: مجْلِس الرجل بِبَابِهِ
مرؤة. وَقَالَ ابْن أبي خَالِد: رَأَيْت الشّعبِيّ جَالِسا
فِي الطَّرِيق.
وَفِيه: الدّلَالَة على النّدب إِلَى لُزُوم الْمنَازل
الَّتِي يسلم لازمها من رُؤْيَة مَا تكره رُؤْيَته،
وَسَمَاع مَا لَا يحل لَهُ سَمَاعه، وَمَا يجب عَلَيْهِ
إِنْكَاره، وَمن إغاثة مستغيث تلْزمهُ إغاثته، وَذَلِكَ
أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا أذن فِي
الْجُلُوس بالأفنية، والطرق بعد نَهْيه عَنهُ إِذا كَانَ
من يقوم بالمعاني الَّتِي ذكرهَا، وَإِذا كَانَ كَذَلِك
فالأسواق الَّتِي تجمع الْمعَانِي الَّتِي أَمر الشَّارِع
الْجَالِس بالطرق باجتنابها، مَعَ الْأُمُور الَّتِي هِيَ
أوجب مِنْهَا، وألزم من ترك الْكَذِب وَالْحلف
بِالْبَاطِلِ وتحسين السّلع بِمَا لَيْسَ فِيهَا، وغش
الْمُسلمين وَغير ذَلِك من الْمعَانِي الَّتِي لَا يُطيق
الْكَلَام بِمَا يلْزمه مِنْهَا إلاَّ من عصمه الله، أَحَق
وَأولى بترك الْجُلُوس مِنْهَا فِي الأفنية والطرق.
32 - (بابُ الآبَارِ علَى الطُّرُقِ إذَا لَمْ يَتَأذَّ
بِها)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْآبَار الَّتِي حفرت على
الطَّرِيق إِذا لم يتأذَّ بِها، وَهُوَ على صِيغَة
الْمَجْهُول يَعْنِي: إِذا لم يحصل مِنْهَا أَذَى لأحد من
المارين، وَالْحكم لم يفهم من التَّرْجَمَة ظَاهرا، لَكِن
من حَدِيث الْبَاب يفهم الحكم، وَهُوَ الْجَوَاز، لِأَن
فِيهِ مَنْفَعَة لِلْخلقِ والبهائم، غير أَنه مُقَيّد
بِشَرْط أَن لَا يكون فِي حفرهَا أَذَى لأحد، والآبار جمع:
بِئْر، كالأجمال جمع حمل، وَهُوَ جمع الْقلَّة،
وَالْكَثْرَة بئار، وَذكرت فِي شرحي: أَن الْبِئْر يجمع
فِي الْقلَّة على أبؤر وآبار، بِهَمْزَة بعد الْبَاء، وَمن
الْعَرَب من يقلب الْهمزَة ألفا فَيَقُول: آبار، فَإِذا
كثرت فَهِيَ: البئار، وَقد بأرت بِئْرا، وَقَالَ أَبُو
زيد: بأرت أبأر بأراً.
6642 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ
سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرٍ عنْ أبِي صالِحٍ السَّمانِ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنا رَجُلٌ
بِطَريقٍ اشْتدَّ علَيْهِ العَطَشُ فوَجَدَ بِئْراً
فنَزَلَ فِيها فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فإذَا كَلْبٌ
يَلْهَثُ يأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ فقالَ الرُّجُلُ
لَقَدْ بَلَغَ هاذا الْكَلْبُ مِنَ العَطَشِ مِثْلُ
الَّذِي كانَ بلَغَ مِنِّي فنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ
خُفَّهُ مَاء فَسَقى الْكَلْبُ فشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ
لَهُ قَالُوا يَا رسولَ الله وإنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ
لأجرَاً فَقَالَ فِي كُلّ ذَاتٍ كبِدٍ رَطْبَةٍ أجْر..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه مُشْتَمل على ذكر
بِئْر فِي طَرِيق، وَلم يحصل مِنْهُ إلاَّ مَنْفَعَة
لآدَمِيّ وحيوان، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الشّرْب فِي:
بَاب فضل سقِِي المَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِهَذَا
الْإِسْنَاد بِعَيْنِه غير شَيْخه، فَإِنَّهُ رَوَاهُ
هُنَاكَ: عَن عبد الله بن ييوسف عَن مَالك، وَهنا أخرجه:
عَن عبد الله بن مسلمة القعْنبِي عَن مَالك، وَمر
الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. وَقَالَ الْمُهلب: هَذَا يدل
على أَن حفر الْآبَار بِحَيْثُ يجوز للحافر حفرهَا من أَرض
مُبَاحَة أَو مَمْلُوكَة لَهُ جَائِز، وَلم يمْنَع ذَلِك
لما فِيهِ من الْبركَة، وتلافي العطشان، وَلذَلِك لم يكن
ضَامِنا، لِأَنَّهُ قد يجوز مَعَ الِانْتِفَاع بهَا إِن
يستضربها بساقط بلَيْل، أَو تقع فِيهَا مَاشِيَة، لكنه لما
كَانَ ذَلِك نَادرا، وَكَانَت الْمَنْفَعَة أَكثر، فغلب
عَلَيْهِ حَال الِانْتِفَاع على حَال الاستضرار، فَكَانَ
جُباراً لَا دِيَة لمن هلك فِيهَا.
42 - (بابُ إمَاطَةِ الأذَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أجر إمَاطَة الْأَذَى، أَي:
إِزَالَته عَن الْمُسلمين. قَالَ أَبُو عبيد عَن
الْكسَائي: مطت عَنهُ الْأَذَى وأمطته: نحيته، وَكَذَلِكَ:
مطت غَيْرِي وأمطيته، وَأنكر الْأَصْمَعِي ذَلِك، وَقَالَ:
مطت أَنا وأمطت غَيْرِي، ومادته: مِيم وياء وطاء.
وقالَ هَمَّامٌ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُمِيطُ الأذاى
عنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ
(13/14)
همامٌ، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ: هُوَ
ابْن مُنَبّه، أَخُو وهب بن مُنَبّه، وَهَذَا التَّعْلِيق
وَصله البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد فِي: بَاب من أَخذ
بالركاب، بِلَفْظ: وتميط الْأَذَى عَن الطَّرِيق صَدَقَة.
قَوْله: (تميط) ، تَقْدِيره: أَن تميط، وَإِن،
مَصْدَرِيَّة، أَي: إماطتك الْأَذَى عَن الطَّرِيق صَدَقَة
كَمَا تقدر، كَذَا فِي قَوْلهم: تسمع بالمعيدي خير من أَن
ترَاهُ أَي: أَن تسمع، أَي: سماعك، وَقيل: هَذَا من قَول
أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا القَوْل لَيْسَ
من أبي هُرَيْرَة، لِأَن الْفَضَائِل لَا تدْرك
بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذ توقيفاً من النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَقد أسْند مَالك مَعْنَاهُ
من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: بَيْنَمَا رجل يمشي إِذا وجد
غُصْن شوك على الطَّرِيق، فَأخْرجهُ فَشكر الله لَهُ فغفر
لَهُ، يَأْتِي هَذَا الحَدِيث عَن قريب، إِن شَاءَ الله
تَعَالَى. فَإِن قلت: كَيفَ تكون إمَاطَة الْأَذَى عَن
الطَّرِيق صَدَقَة؟ قلت: معنى الصَّدَقَة إِيصَال النَّفْع
إِلَى الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ، وَالَّذِي أماط الْأَذَى عَن
الطَّرِيق قد تصدق عَلَيْهِ بالسلامة، فَكَانَ لَهُ أجر
الصَّدَقَة.
52 - (بابُ الغُرْفَةِ والْعِلِّيَّةِ الِمُشْرِفَةِ
وغيْرِ الْمُشْرِفَةِ فِي السُّطُوحِ وغيْرِهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز اسْتِعْمَال الغرفة،
بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح
الْفَاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: الغرفة الْعلية وَالْجمع:
غرفات وغرفات وغرفات وغرف. قَوْله: (والعلية) ، بِكَسْر
الْعين الْمُهْملَة وَضمّهَا وَكسر اللَّام الْمُشَدّدَة
وبالياء آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة، وَهِي الغرفة على
تَفْسِير الْجَوْهَرِي، لِأَنَّهُ فسر الغرفة بالعلية فِي:
بَاب الغرف، ثمَّ فسر الْعلية بالغرفة فِي: بَاب علا، ثمَّ
قَالَ: وَالْجمع العلالي: وَقَالَ: وَهِي فعيلة مثل مزيفة
وَأَصلهَا: عليوة، فأبدلت الْوَاو يَاء وأدغمت وَهِي من:
علوات، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ الْعلية، بِالْكَسْرِ على
فعيلة، وَبَعْضهمْ يَجْعَلهَا من المضاعف ووزنها: فعلية،
قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْكَلَام فعلية. انْتهى كَلَامه.
وَاعْترض عَلَيْهِ فِي قَوْله: وَبَعْضهمْ يَجْعَلهَا من
المضاعف ووزنها فعلية، بِأَنَّهُ لَا يَصح، لِأَن الْعلية:
من: (ع ل و) ، وَلَيْسَت من: (ع ل ل) ، وَقَوله: لَيْسَ
فِي الْكَلَام فعلية سَهْو، لِأَنَّهُ قد ذكر: مزيفة،
وَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون عطف الْعلية على الغرفة عطفا
تفسيرياً. قَوْله: (المشرفة) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون
الشين الْمُعْجَمَة: من الإشراف على الشَّيْء، وَهُوَ
الِاطِّلَاع عَلَيْهِ. قَوْله: (فِي السطوح) ، أَي: سَوَاء
كَانَت الْعلية المشرفة على مَكَان أَو غير المشرفة كائنة
على سطح، أَو مُنْفَرِدَة قَائِمَة مُرْتَفعَة من غير أَن
تكون على سطح، فيفهم من كَلَامه أَنَّهَا على أَرْبَعَة
أَقسَام: الأول: علية مشرفة على مَكَان على سطح.
الثَّانِي: مشرفة على مَكَان على غير سطح. الثَّالِث: غير
مشرفة على مَكَان على سطح. الرَّابِع: غير مشرفة على
مَكَان على غير سطح. وَقَالَ ابْن بطال: الغرفة على السطوح
مُبَاحَة مَا لم يطلع مِنْهَا على حُرْمَة أحد. قلت:
الَّذِي ذكره هِيَ الْعلية على السَّطْح غير المشرفة،
فيفهم مِنْهُ أَنَّهَا إِذا كَانَت مشرفة على مَكَان
فَهِيَ غير مُبَاحَة، وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت على غير سطح،
وَكَانَت مشرفة، وَلم أر أحدا من شرَّاح البُخَارِيّ حقق
هَذَا الْموضع.
7642 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ محمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ عُرْوَةَ عنْ
أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ
أشْرَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى أُطُمٍ مِنْ
آطَامِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ هَلْ تَرَوْنَ مَا أراى
إنِّي أرى مَوَاقِعَ الفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ
كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أشرف النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على أَطَم من آطام الْمَدِينَة) ، لِأَن
الأطم، بِضَمَّتَيْنِ: بِنَاء مُرْتَفع، قَالَه ابْن
الْأَثِير، وَهُوَ كالعلية المشرفة لِأَنَّهَا أَيْضا
بِنَاء مُرْتَفع، غير أَنه تَارَة تبنى على غير سطح،
وَقَالَ غَيره: الأطم، بِضَم الْهمزَة والطاء وسكونها
وَالْجمع: آطام، وَهِي: حصون لأهل الْمَدِينَة، والواحدة:
أطمة، مثل: أكمة، وَقيل: الأطم: حصن مَبْنِيّ
بِالْحِجَارَةِ. وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله
الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَابْن
عُيَيْنَة، بِضَم الْعين وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف
الأولى وَسُكُون الثَّانِيَة وبالنون الْمَفْتُوحَة: هُوَ
سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي
أَوَاخِر كتاب الْحَج فِي: بَاب آطام الْمَدِينَة،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَليّ بن عبد الله عَن
سُفْيَان ... إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (مواقع) ، مَنْصُوب بدل: عَمَّا أرى، وَهَذَا
إِخْبَار بِكَثْرَة الْفِتَن فِي الْمَدِينَة، وَقد وَقع
كَمَا أخبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(13/15)
8642 - حدَّثنا يحياى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ
حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ
أَخْبرنِي عُبَيْدُ الله بنُ عبْدِ الله بنِ أبِي ثَوْرٍ
عنْ عَبْدِ الله بنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ لَمْ أزَلْ حَرِيصاً علَى أنْ أسْألَ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ
أزْوَاجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّتَيْنِ
قَالَ الله لَهُما إنْ تَتُوبَا إلاى الله فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكما. فَحَجَجْتُ معَهُ فَعَدَلَ وعَدَلْتُ معَهُ
بِالإدَاوَةِ فتَبَرَّزَ حتَّى جاءَ فَسَكَبْتُ علَى
يَدَيْهِ مِنَ الإدَاوَةِ فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ يَا أمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْآتانِ مِنْ أزْواجِ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اللَّتانِ قَالَ لَهُمَا إنْ
تَتُوبَا إلاى الله فَقَالَ واَعَجَبِي لَكَ يَا ابنَ
عَبَّاسٍ عائِشَةُ وحفْصَةُ ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ
الحَدِيثَ يَسُوقُهُ فَقَالَ إنِّي كُنْتُ وجارٌ لِي مِنَ
الأنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بنِ زَيْدٍ وهْيَ مِنْ
عَوالِي الْمَدِينَةِ وكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ علَى
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَنْزِلُ هُوَ يَوْمَاً
وأُنْزِلُ يُوْما فإذَا نَزلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خبَرِ
ذالِكَ الْيَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وغيْرِهِ وإذَا نزَلَ
فَعَلَ مِثْلهُ وكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ
النِّسَاءَ فلَمَّا قَدِمْنَا علَى الأنْصَارِ إذَا هُمْ
قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِساؤُنَا
يأخُذْنَ مِنْ أدَبِ نِسَاءِ الأنْصَارِ فَصِحْتُ عَلَى
امْرَأَتِي فرَاجَعَتْنِي فأنْكَرْتُ أنْ تُرَاجِعَنِي
فقالَتْ ولِمَ تُنْكِرُ أنْ أُراجِعَكَ فَوالله إنَّ
أزْواجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْرَاجِعْنَهُ
وإنَّ إحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حتَّى اللَّيْلِ
فأفْزَعَنِي فقُلْتُ خابَتْ منْ فَعَلَ مِنْهُنَّ
بِعَظِيمٍ ثُمَّ جَمَعْتُ علَيَّ ثِيَابِي فدَخَلْتُ علَى
حَفْصَةَ فَقُلْتُ أيْ حَفْصَةُ أتُغَاضِبُ إحْدَاكُنَّ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اليَوْمَ حتَّى
اللَّيْلَ فقالَتْ نَعَمْ فقُلْتُ خابَتْ وخَسِرَتْ
أفْتَأْمَنُ أنْ يَغْضَبَ الله لِغَضَبِ رسُولِهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فتَهْلِكِينَ لاَ تَسْتَكْثِرِي علَى رسولِ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولاَ تُرَاجِعِيهِ فِي
شَيْءً وَلَا تَهْجُرِيهِ واسْأَلِيني مَا بَدَا لَكِ ولاَ
يَغُرَّنَّكِ أنْ كانَتْ جارَتكِ هِيَ أوْضأُ مِنْكِ
وأحَبَّ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيدُ
عائِشَةَ وكُنَّا تَحدَّثْنَا أنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ
النِّعالَ لِغَزْوِنا فنَزَلَ صاحِبي يَوْمَ نَوْبَتِهِ
فرَجَعَ عِشَاءً فضَرَبَ بابِي ضَرْباً شَدِيداً وَقَالَ
أَنا نائِمٌ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إلَيْهِ وَقَالَ
حَدَثَ أمْرٌ عَظِيمٌ قُلْتُ مَا هُوَ أجَاءَتْ غَسَّانُ
قَالَ لَا بَلْ أعْظَمُ مِنْهُ وأطْولُ طَلَّقَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِساءَهُ قَالَ قدْ خابَتْ
حَفْصَةُ وخَسِرَتْ كُنْتُ أظُنُّ أنَّ هاذا يُوشِكُ أنْ
يَكُونَ فَجَمَعْتُ علَيَّ ثيابِي فصَلَّيْتُ صَلاةَ
الفَجْرِ معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فدَخَلَ
مَشْرُبةً لَهُ فاعْتَزَلَ فِيها فَدَخَلْتُ عَلَى
حَفْصَةَ فإذَا هِيَ تَبْكِي قُلْتُ مَا يُبْكِيكِ أوَ
لَمْ أكُنْ حَذَّرْتُكِ أطلَّقكُنَّ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قالتْ لَا أدْرِي هُوَ ذَا فِي
الْمَشْرُبَةِ فخَرَجْتُ فجِئْتُ المنْبرَ فإذَا حَوْله
رَهْطٌ يَبْكِي بعْضُهُمْ فَجلَسْتُ معهُم قَلِيلا ثُمَّ
غلَبَنِي مَا أجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي هُوَ
فِيها فَقلْتُ لِغُلاَمٍ لَهُ أسْوَدَ استَأْذِنْ لِعُمَرَ
فدَخلَ فكلَّمَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ
خَرَجَ فَقَالَ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصمَت فانْصَرَفْتُ حتَّى
جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ
ثُمَّ غَلَبَني مَا أجِدُ فَجِئْتُ فَذَكَرَ مِثْلَهُ
فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ
ثُمَّ غلَبَنِي مَا أجِدُ فَجِئْتُ الغُلاَمَ فَقُلْتُ
اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ فلَمَّا
(13/16)
وَلَّيْتُ مُنْصَرِفَاً فإذَا الغُلاَمُ
يَدْعُونِي قَالَ أذِنَ لَكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَدَخَلْتُ علَيْهِ فإذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ علَى
رِمالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ فِرَاشٌ قدْ
أثَّرَ الرِّمالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِيءٌ علَى وِسَادَةٍ
مِنْ أدَمٍ حَشْوُها لِيفٌ فسَلَّمْتُ علَيْهِ ثُمَّ
قُلْتُ وَأَنا قائِمٌ طَلَّقْتَ نِساءَكَ فرَفَعَ بَصرَهُ
إلِيَّ فقالَ لاَ ثُمَّ قُلْتُ وأنَا قائِمٌ أسْتِأنِسُ
يَا رسولَ الله لَوْ رَأَيْتَنِي وكُنَّا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فلَمَّا قَدِمْنَا علَى
قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَذَكَرَهُ فتَبَسَّمَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ قُلْتُ لَوْ
رَأَيْتَنِي ودَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لاَ
يَغُرَّنَّكِ إنْ كانَتْ جارَتُكِ هِيَ أوْضَأ مِنْكِ
وأحَبَّ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيدُ
عائِشَةَ فتَبَسَّمَ أُخْرَى فَجلَسْتُ حينَ رَأَيْتُهُ
تبَسَّمَ ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ فَوَالله
مَا رَأيْتُ فِيه شَيْئاً يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ
أهَبَةٍ ثَلاَثَةٍ فَقُلْتُ ادْعُ الله فلْيُوَسِّعْ علَى
أُمَّتِكَ فإنَّ فَارِسَ والرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ
وأُعْطُوا الدُّنْيا وهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ الله وكانَ
مُتَّكِئَاً فَقَالَ أوَفِي شَكٍّ أنتَ يَا ابْنَ
الخطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ
طَيِّبَاتُهُمْ فِي الحيَاةِ الدُنْيَا فَقُلْتُ يَا رسولَ
الله اسْتَغْفِرْ لِي فاعْتَزَلَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم منْ أجْلِ ذَلِكَ الحَدِيثِ حِينَ
أفْشَتْهُ حَفْصَةُ إلَى عائِشَةَ وكانَ قَدْ قالَ مَا
أنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرَاً مِنْ شِدَّةِ
مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حينَ عاتَبَهُ الله فلَمَّا
مَضَتْ تِسْعٌ وعِشْرُونَ دَخَلَ علَى عائِشَةَ فبَدَأَ
بِهَا فقَالَتْ لَهُ عائِشَةُ إنَّكَ أقْسَمْتَ أنْ لاَ
تَدْخُلَ علَيْنَا شَهْراً وإنَّا أصْبَحْنَا لِتِسْعٍ
وعِشْرِينَ لَيْلَةً أعَدَّهَا عَدّاً فَقَالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ وكانَ
ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ قالَتْ عائِشَةُ
فأُنْزِلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ فبَدَأَ بِي أوَّلَ
امْرَأَةٍ فَقَالَ إنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أمْراً ولاَ
عَلَيْكَ أنْ لاَ تَعْجَلِي حتَّى تَسْتَأمِرِي أبَوَيْكِ
قالَتْ قَدْ أعْلَمُ أنَّ أبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا
يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِكَ ثُمَّ قَالَ إنَّ الله قَالَ:
{يَا أيُّها النبيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} إِلَى قَوْله
{عظِيماً} (الْأَحْزَاب: 82، 92) قُلْتُ أفِي هَذَا
أسْتَأْمِرُ أبَوَيَّ فإنِّي أرِيدُ الله ورسولَهُ
والدَّارَ الآخِرَةَ ثُمَّ خَيَّرَ نِساءَهُ فَقُلْنَ
مِثْلَ مَا قالَتْ عائِشَةُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَدخل مشربَة لَهُ) ،
لِأَن الْمشْربَة هِيَ الغرفة، قَالَه ابْن الْأَثِير
وَغَيره، وَقد ذكرهَا فِي التَّرْجَمَة باسمها الآخر،
وَهِي: الغرفة، وَهِي بِفَتْح الْمِيم وَضم الرَّاء
وَفتحهَا، والمشربة بِفَتْح الْمِيم وَفتح الرَّاء:
الْموضع الَّذِي يشرب مِنْهُ، كالمشرعة، والمشربة بِكَسْر
الْمِيم: آلَة الشّرْب.
وَعقيل، بِضَم الْعين، وَعبيد الله بن عبد الله، بتصغير
الابْن وتكبير الْأَب، وَأَبُو ثَوْر، بالثاء
الْمُثَلَّثَة الْمَفْتُوحَة، وَقَالَ الْحَافِظ الدمياطي،
قَالَ الْخَطِيب فِي (تكملته) : لَا أعلم أحدا روى عَن
عبيد الله هَذَا إِلَّا الزُّهْرِيّ، وَلَا أعلمهُ حدث عَن
غير ابْن عَبَّاس. قلت: خرج أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه
حَدِيث مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الزبير بن الْعَوام عَن
عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثَوْر عَن ابْن عَبَّاس فِي
طواف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَام الْفَتْح
على الْبَعِير، وَقد مضى بعض هَذَا الحَدِيث فِي كتاب
الْعلم فِي: بَاب التناوب فِي الْعلم، عَن أبي الْيَمَان
عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، وَذكرنَا هُنَاكَ تعدد
مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَعدل) ، أَي: عَن الطَّرِيق.
قَوْله: (بالأداواة) ، بِكَسْر الْهمزَة: وَهِي إِنَاء
صَغِير من جلد يتَّخذ للْمَاء كالسطيحة وَنَحْوهَا، وَيجمع
على: أداوي. قَوْله: (فَتبرز) أَصله: خرج إِلَى الفضاء
لقَضَاء الْحَاجة. قَوْله: (واعجبي لَك {} ) بِالْألف فِي
آخِره، ويروى: وَاعجَبا، بِالتَّنْوِينِ نَحْو: يَا رجلا،
كَأَنَّهُ ينْدب على التَّعَجُّب، وَهُوَ إِمَّا تعجب من
جَهله بذلك وَهُوَ كَانَ مَشْهُورا بَينهم بِعلم
التَّفْسِير، وَإِمَّا من حرصه على سُؤَاله عَمَّا مَا لَا
يتَنَبَّه لَهُ إلاَّ الْحَرِيص على الْعلم من تَفْسِير
مَا لَا حكم فِيهِ من الْقُرْآن.
(13/17)
وَقَالَ ابْن مَالك: وَا، فِي: وَاعجَبا،
اسْم فعل إِذا نون عجبا بِمَعْنى: اعْجَبْ، وَمثله: وي،
وَجِيء بعده بقوله: عجبا توكيداً، وَإِذا لم ينون
فَالْأَصْل فِيهِ: واعجبي، فأبدلت الْيَاء ألفا، وَفِيه
شَاهد على اسْتِعْمَال: وَا، فِي غير الندبة، كَمَا هُوَ
رَأْي الْمبرد، وَقَالَ فِي (الْكَشَّاف) : قَالَه تَعَجبا
كَأَنَّهُ كره مَا سَأَلَهُ عَنهُ. قَوْله: (عَائِشَة
وَحَفْصَة) ، أَي: الْمَرْأَتَانِ اللَّتَان قَالَ الله
تَعَالَى: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله ... } (التَّحْرِيم:
4) الْآيَة، هما عَائِشَة وَحَفْصَة. قَوْله: (يَسُوقهُ) ،
جملَة حَالية. قَوْله: (وجار لي من الْأَنْصَار) ، جَار
مَرْفُوع لِأَنَّهُ عطف على الضَّمِير الَّذِي فِي: كنت،
على مَذْهَب الْكُوفِيّين، وَفِي رِوَايَته فِي: بَاب
التناوب فِي كتاب الْعلم: كنت أَنا وجار لي هَذَا على
مَذْهَب الْبَصرِيين، لِأَن عِنْدهم لَا يَصح الْعَطف
بِدُونِ إِظْهَار: أَنا، حَتَّى لَا يلْزم عطف الِاسْم على
الْفِعْل، والكوفيون لَا يشترطون ذَلِك، وَكلمَة: من، فِي:
من الْأَنْصَار، بَيَانِيَّة. وَالْمرَاد من هَذَا الْجَار
هُوَ عتْبَان بن مَالك بن عَمْرو الْعجْلَاني
الْأنْصَارِيّ الخزرجي. قَوْله: (فِي بني أُميَّة بن زيد)
، فِي مَحل الْجَرّ على الوصفية، أَي: الكائنين فِي بني
أُميَّة بن زيد، أَو المستقرين. قَوْله: (وَهِي رَاجِعَة)
، إِلَى أمكنة بني أُميَّة. قَوْله: (من عوالي
الْمَدِينَة) ، وَهِي الْقرى بِقرب الْمَدِينَة، وَقَالَ
ابْن الْأَثِير: العوالي أَمَاكِن بِأَعْلَى أَرَاضِي
الْمَدِينَة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: علوي، على غير
قِيَاس، وَأَدْنَاهَا من الْمَدِينَة على أَرْبَعَة
أَمْيَال، وأبعدها من جِهَة نجد ثَمَانِيَة. قَوْله:
(فَينزل يَوْمًا) ، الْفَاء فِيهِ تفسيرية تفسر التناوب
الْمَذْكُور. قَوْله: (من الْأَمر) أَي: الْوَحْي، إِذْ
اللَّام للمعهود عِنْدهم، أَو الْأَوَامِر الشَّرْعِيَّة.
قَوْله: (وَغَيره) ، أَي: وَغير الْأَمر من أَخْبَار
الدُّنْيَا. قَوْله: (معشر قُرَيْش) ، أَي: جمع قُرَيْش.
قَوْله: (فَطَفِقَ نساؤنا) ، بِكَسْر الْفَاء وفتحا،
وَمعنى: طفق فِي الْفِعْل: أَخذ فِيهِ، وَهُوَ من أَفعَال
المقاربة. قَالَ الله تَعَالَى: {وطفقا يخصفان عَلَيْهِنَّ
من ورق الْجنَّة} (الْأَعْرَاف: 22 وطه: 121) . أَي: أخذا
فِي ذَلِك. قَوْله: (فراجعتني) ، أَي: ردَّتْ عَليّ
الْجَواب. قَوْله: (حَتَّى اللَّيْل) أَي: إِلَى اللَّيْل.
قَوْله: (بعظيم) ، أَي: بِأَمْر عَظِيم. قَوْله: (ثمَّ
جمعت عَليّ ثِيَابِي) أَي: لبستها. قَوْله: (أَي حَفْصَة)
أَي: يَا حَفْصَة. قَوْله: (مَا بدا لَك؟) أَي: مَا كَانَ
لَك من الضرورات؟ قَوْله: (إِن كَانَت جارتك) أَي: بِأَن
كَانَت، فَإِن مَصْدَرِيَّة، أَي: وَلَا يغرنك كَون جارتك
أَضْوَأ مِنْك، أَي أَزْهَر وَأحسن، ويروى: أوضأ من
الْوَضَاءَة أَي: من أجمل وأنظفحدَّثنا وَالْمرَاد من
الْجَار: الضرة، وَالْمرَاد بهَا عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، وَفسّر ذَلِك بقوله: يُرِيد عَائِشَة.
قَوْله: (غَسَّان) ، على وزن: فعال، بِالتَّشْدِيدِ اسْم
مَاء من جِهَة الشَّام نزل عَلَيْهِ قومٌ من الأزد، فنسبوا
إِلَيْهِ مِنْهُم بَنو جَفْنَة رَهْط الْمُلُوك، وَيُقَال:
هُوَ اسْم قَبيلَة. قَوْله: (تنعل) ، بِضَم التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون النُّون من: إنعال
الدَّوَابّ، وَأَصله: تنعل الدَّوَابّ النِّعَال،
لِأَنَّهُ يتَعَدَّى إِلَى المفعولين، فَحذف أَحدهمَا،
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن النِّعَال لَا تنعل،
ويروى: تنعل البغال، جمع: بغل، بِالْبَاء الْمُوَحدَة
والغين الْمُعْجَمَة. قَوْله: (عشَاء) ، نصب على
الظَّرْفِيَّة أَي: فِي عشَاء. قَوْله: (فَضرب بَابي) ،
فِيهِ: حذف، وَهُوَ عطف عَلَيْهِ، أَي: فَسمع اعتزال
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن زَوْجَاته، فَرجع
إِلَى العوالي، فجَاء إِلَى بَابي فَضرب، وَالْفَاء فِيهِ
تسمى بِالْفَاءِ الفصيحة، لِأَنَّهَا تفصح عَن الْمُقدر،
قَوْله: (أنائم هُوَ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على
سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (فَفَزِعت) أَي: فَخفت،
الْقَائِل هُوَ عمر، الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل، أَي: لأجل
الضَّرْب الشَّديد، فزعت. قَوْله: (يُوشك أَن يكون) ، أَي:
يقرب كَونه، وَهُوَ من أَفعَال المقاربة، يُقَال: أوشك
يُوشك إيشاكاً فَهُوَ موشك، وَقد وَشك وشكا ووشاكة.
قَوْله: (مشربَة لَهُ) ، قد ذكرنَا أَن الْمشْربَة هِيَ
الغرفة الصَّغِيرَة، وَكَذَا قَالَ ابْن فَارس، وَقَالَ
ابْن قُتَيْبَة: هِيَ كالصفة بَين يَدي الغرفة، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: هِيَ الغرفة الصَّغِيرَة، وَقَالَ ابْن بطال:
الْمشْربَة الخزانة الَّتِي يكون فِيهَا طَعَامه
وَشَرَابه، وَقيل لَهَا: مشربَة، فِيمَا أرى لأَنهم
كَانُوا يخزنون فِيهَا شرابهم، كَمَا قيل للمكان الَّذِي
تطلع عَلَيْهِ الشَّمْس ويشرق فِيهِ صَاحبه: مشرقة.
قَوْله: (لغلام لَهُ أسود) ، قيل: اسْمه رَبَاح، بِفَتْح
الرَّاء وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبِالْحَاءِ
الْمُهْملَة. قَوْله: (منصرفاً) ، نصب على الْحَال.
قَوْله: (فَإِذا الْغُلَام) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة.
قَوْله: (على رمال حَصِير) ، بِالْإِضَافَة. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الرمال، بِضَم الرَّاء وخفة الْمِيم:
المرمول أَي: المنسوج، قَالَ أَبُو عبيد: رملت وأرملت أَي:
نسجت، وَقَالَ الْخطابِيّ: رمال الْحَصِير ضلوعه المتداخلة
بِمَنْزِلَة الخيوط فِي الثَّوْب المنسوج، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: الرمال مَا رمل أَي: نسج، يُقَال: رمل
الْحَصِير وأرمله فَهُوَ مرمول ومرمل، ورملته شدد للتكثير،
وَيُقَال: الرمال جمع رمل بِمَعْنى مرمول، كخلق الله
بِمَعْنى مَخْلُوق، وَالْمرَاد أَنه كَأَن السرير قد نسج
وَجهه بالسعف، وَلم يكن على السرير وطاء سوى الْحَصِير.
قَوْله: (متكىء) ، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ
(13/18)
متكىء. قَوْله: (على وسَادَة) ، بِكَسْر
الْوَاو وَهِي: المخدة. قَوْله: (من أَدَم) ،
بِفتْحَتَيْنِ، وَهُوَ اسْم لجمع أَدِيم، وَهُوَ الْجلد
المدبوغ المصلح بالدباغ. قَوْله: (طلقت نِسَاءَك؟) ، همزَة
الِاسْتِفْهَام فِيهِ مقدرَة، أَي: أطلقت. قَوْله:
(أستأنس) أَي: أتبصر هَل يعود رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى الرضى، أَو هَل أَقُول قولا أطيب
بِهِ وقته وأزيل مِنْهُ غَضَبه. قَوْله: (غير أهبة) ،
بالفتحات جمع إهَاب على غير الْقيَاس، والإهاب: الْجلد
الَّذِي لم يدبغ، وَالْقِيَاس أَن يجمع الإهاب على: أهب،
بِضَمَّتَيْنِ. قَوْله: (فليوسع) ، هَذِه الْفَاء عطف على
مَحْذُوف، لِأَنَّهُ لَا يصلح أَن يكون جَوَابا
لِلْأَمْرِ، لِأَن مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يُقَال أدع الله
أَن يُوسع، وَتَقْدِير الْكَلَام هَكَذَا، وَقَوله: فليوسع
عطف عَلَيْهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (أَفِي شكّ؟) يَعْنِي:
هَل أَنْت فِي شكّ؟ والمشكوك هُوَ الْمَذْكُور بعده،
وَهُوَ تَعْجِيل الطَّيِّبَات. قَوْله: (اسْتغْفر لي) ،
طلب الاسْتِغْفَار إِنَّمَا كَانَ عَن جراءته على مثل
هَذَا الْكَلَام، فِي حَضْرَة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن استعظامه التجملات الدنياوية.
قَوْله: (فاعتزل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ،
ابْتِدَاء كَلَام من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعد
فَرَاغه من كَلَامه الأول، فَلذَلِك عطفه بِالْفَاءِ.
قَوْله: (من أجل ذَلِك الحَدِيث) ، أَي: اعتزاله إِنَّمَا
كَانَ من أجل إفشاء ذَلِك الحَدِيث، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلا بمارية فِي يَوْم
عَائِشَة، وَعلمت بذلك حَفْصَة، فَقَالَ لَهَا النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أكتمي عَليّ وَقد حرمت مَارِيَة
على نَفسِي) ، ففشت حَفْصَة إِلَى عَائِشَة فَغضِبت
عَائِشَة حَتَّى حلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَنه لَا يقربهن شهرا، وَهُوَ معنى قَوْله: (مَا إِنَّا
بداخل عَلَيْهِم شهرا) . قَوْله: (من شدَّة موجدته) ، أَي:
من شدَّة غَضَبه، والموجدة مصدر ميمي من وجد يجد وجدا
وموجدة. قَوْله: (حِين عاتبه الله تَعَالَى) ، ويروى:
حَتَّى عاتبه الله، وَهَذِه هِيَ الْأَظْهر، وعاتبه الله
تَعَالَى بقوله: {يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل
الله لَك تبتغي مرضاة أَزوَاجك} (التَّحْرِيم: 1) .
قَوْله: (لتسْع وَعشْرين لَيْلَة) ، بِاللَّامِ فِي
رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: بتسع،
بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (الشَّهْر تسع
وَعِشْرُونَ) ، أَي الشَّهْر الَّذِي آلَيْت بِهِ تسع
وَعِشْرُونَ وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه كَانَ نَاقِصا
يَوْمًا قَوْله (وَكَانَ ذَلِك تسع وَعِشْرُونَ) ويروى:
تسعا وَعشْرين، وَجه الرِّوَايَة الأولى: أَن: كَانَ
فِيهَا تَامَّة فَلَا يحْتَاج إِلَى خبر، وتسع بِالرَّفْع
يجوز أَن يكون خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: وجد ذَلِك
الشَّهْر وَهُوَ تسع وَعِشْرُونَ، وَيجوز أَن يكون بَدَلا
من الشَّهْر، وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة: أَن: كَانَ،
نَاقِصَة، وتسعاً وَعشْرين خَبَرهَا. قَوْله: (فأنزلت آيَة
التَّخْيِير) ، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا
النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك إِن كنتن تردن الْحَيَاة
الدُّنْيَا} إِلَى قَوْله: {أجرا عَظِيما} (الْأَحْزَاب:
82) [/ ح.
اخْتلف الْعلمَاء: هَل خيرهن فِي الطَّلَاق أَو بَين
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ وَهل اخْتِيَارهَا صَرِيح أَو
كِنَايَة؟ وَهل هُوَ فرقة أم لَا؟ وَهل هُوَ بِالْمَجْلِسِ
أَو بِالْعرْفِ؟ وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: اخْتلف الْعلمَاء
فِي كَيْفيَّة تَخْيِير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَزوَاجه على قَوْلَيْنِ: الأول: خيرهن بِإِذن الله
تَعَالَى فِي الْبَقَاء على الزَّوْجِيَّة أَو الطَّلَاق،
فاخترن الْبَقَاء. الثَّانِي: خيرهن بَين الدُّنْيَا
فيفارقهن وَبَين الْآخِرَة فيمسكهن، وَلم يُخَيِّرهُنَّ
فِي الطَّلَاق. ذكره الْحسن وَقَتَادَة، وَمن الصَّحَابَة
عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيمَا
رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل عَنهُ، أَنه قَالَ: لم يُخَيّر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِسَاءَهُ إلاَّ بَين
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَقَالَت عَائِشَة: خيرهن بَين
الطَّلَاق وَالْمقَام مَعَه، وَبِه قَالَ مُجَاهِد
وَالشعْبِيّ وَمُقَاتِل.
وَاخْتلفُوا فِي سَببه، فَقيل: لِأَن الله خَيره بَين ملك
الدُّنْيَا ونعيم الْآخِرَة، فَاخْتَارَ الْآخِرَة على
الدُّنْيَا، فَلَمَّا اخْتَار ذَلِك أَمر الله بِتَخْيِير
نِسَائِهِ ليكن على مثل حَاله، وَقيل: لِأَنَّهُنَّ
تَغَايَرْنَ عَلَيْهِ، فآلى مِنْهُنَّ شهرا، وَقيل:
لِأَنَّهُنَّ اجْتَمعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ: نُرِيد مَا
يُرِيد النِّسَاء من الْحلِيّ، حَتَّى قَالَ بَعضهنَّ: لَو
كُنَّا عِنْد غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذن
لَكَانَ لنا شَأْن وَثيَاب وحلي. وَقيل: لِأَن الله
تَعَالَى صان خلْوَة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فخيرهن
على أَن لَا يتزوجن بعده، فَلَمَّا أجبن إِلَى ذَلِك
أمسكهن. وَقيل: لِأَن كل وَاحِدَة طلبت مِنْهُ شَيْئا،
وَكَانَ غير مستطيع، فطلبت أم سَلمَة معلما، ومَيْمُونَة
حلَّة يَمَانِية، وَزَيْنَب ثوبا مخططاً وَهُوَ الْبرد
الْيَمَانِيّ، وَأم حَبِيبَة ثوبا سحولياً، وَحَفْصَة ثوبا
من ثِيَاب مصر، وَجُوَيْرِية معجراً وَسَوْدَة قطيفة
خيبرية، إلاَّ عَائِشَة فَلم تطلب مِنْهُ شَيْئا، وَكَانَت
تَحْتَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع نسْوَة، خمس من
قُرَيْش: عَائِشَة، وَحَفْصَة بنت عمر، وَأم حَبِيبَة بنت
أبي سُفْيَان، وَسَوْدَة بنت زَمعَة، وَأم سَلمَة بنت أبي
الْحَارِث الْهِلَالِيَّة. وَأَرْبع من غير قُرَيْش:
صَفِيَّة بنت حييّ الْخَيْبَرِية، ومَيْمُونَة بنت
الْحَارِث، وَزَيْنَب بنت جحش الأَسدِية، وَجُوَيْرِية بنت
الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيَّة. قَوْله: {يَا أَيهَا
النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك} (الْأَحْزَاب: 82) . قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ أَزوَاج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم سألنه شَيْئا من عرض الدُّنْيَا وآذينه
بِزِيَادَة النَّفَقَة والغيرة، فغم ذَلِك رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فهجرهن وآلى أَن لَا يقربهن شهرا،
وَلم يخرج إِلَى أَصْحَابه فِي الصَّلَاة، فَقَالُوا: مَا
شَأْنه؟ قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن
شِئْتُم لأعلمن لكم مَا شَأْنه؟ فَأتى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَجرى مِنْهُ مَا ذكر
(13/19)
فِي حَدِيث الْبَاب. وَذكروا أَيْضا أَن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، تتبع نسَاء النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعل يكلمهن لكل وَاحِدَة بِكَلَام،
فَقَالَت أم سَلمَة: يَا ابْن الْخطاب! أَو مَا بَقِي لَك
إلاَّ أَن تدخل بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَبَين نِسَائِهِ؟ من يسْأَل الْمَرْأَة إلاَّ زَوجهَا؟
فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة بالتخيير، فَبَدَأَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعائشة، وَكَانَت
أحبهنَّ إِلَيْهِ، فَخَيرهَا وَقَرَأَ عَلَيْهَا
الْقُرْآن، فَاخْتَارَتْ الله وَرَسُوله وَالدَّار
الْآخِرَة، فرؤى الْفَرح فِي وَجه رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وتتابعتها بَقِيَّة النسْوَة واخترن
اخْتِيَارهَا، وَقَالَ قَتَادَة: فَلَمَّا اخْترْنَ الله
وَرَسُوله شكر لَهُنَّ على ذَلِك وقصره عَلَيْهِنَّ
فَقَالَ: {لَا تحل لَك النِّسَاء من بعد وَلَا أَن تبدل
بِهن من أَزوَاج} (الْأَحْزَاب: 25) . قَوْله: {فتعالين}
(الْأَحْزَاب: 82) . أصل: تعال، أَن يَقُول من فِي
الْمَكَان الْمُرْتَفع لمن فِي الْمَكَان المستوطىء ثمَّ
كثر حَتَّى اسْتَقر اسْتِعْمَاله فِي الْأَمْكِنَة كلهَا،
وَمعنى تعالين: أقبلن، وَلم يرد نهوضهن إِلَيْهِ
بِأَنْفُسِهِنَّ. قَوْله: {وأسرحكن} (الْأَحْزَاب: 82) .
يَعْنِي: الطَّلَاق {سراحاً جميلاً} (الْأَحْزَاب: 82) .
من غير إِضْرَار، طَلَاقا بِالسنةِ، وقرىء بِالرَّفْع على
الِاسْتِئْنَاف. قَوْله: {وَالدَّار الْآخِرَة}
(الْأَحْزَاب: 82) . يَعْنِي: الْجنَّة. قَوْله: {مِنْكُن}
(الْأَحْزَاب: 82) . يَعْنِي: اللَّاتِي آثرن الْآخِرَة.
{أجرا عَظِيما} (الْأَحْزَاب: 82) . وَهُوَ الْجنَّة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الْمُحدث قد
يَأْتِي بِالْحَدِيثِ على وَجهه وَلَا يختصر، لِأَنَّهُ قد
كَانَ يَكْتَفِي، حِين سَأَلَهُ ابْن عَبَّاس عَن
الْمَرْأَتَيْنِ بِمَا كَانَ يُخبرهُ مِنْهُ أَنَّهُمَا
عَائِشَة وَحَفْصَة، وَفِيه: موعظة الرجل ابْنَته
وَإِصْلَاح خلقهَا لزَوجهَا. وَفِيه: الْحزن والبكاء لأمور
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا يكرههُ
والاهتمام بِمَا يهمه. وَفِيه: الاسْتِئْذَان والحجابة
للنَّاس كلهم، كَانَ مَعَ المستأذن عِيَال أَو لم يكن.
وَفِيه: الانصارف بِغَيْر صرف من المستأذن عَلَيْهِ، وَمن
هَذَا الحَدِيث قَالَ بعض الْعلمَاء: إِن السُّكُوت يحكم
بِهِ، كَمَا حكم عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بسكوت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صرفه إِيَّاه.
وَفِيه: التكرير بالاستئذان. وَفِيه: أَن للسُّلْطَان أَن
يَأْذَن أَو يسكت أَو يصرف. وَفِيه: تقلله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من الدُّنْيَا وَصَبره على مضض ذَلِك،
وَكَانَت لَهُ عَنهُ مندوحة. وَفِيه: أَنه يسْأَل
السُّلْطَان عَن فعله إِذا كَانَ ذَلِك مِمَّا يهم أهل
طَاعَته. وَفِيه: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا ردا لما أخبر بِهِ
الْأنْصَارِيّ من طَلَاق نِسَائِهِ، وَلم يخبر عمر بِمَا
أخبر بِهِ الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَلَا شكاه لعلمه أَنه لم يقْصد الْإِخْبَار بِخِلَاف
الْقِصَّة، وَإِنَّمَا هُوَ وهم جرى عَلَيْهِ. وَفِيه:
الْجُلُوس بَين يَدي السُّلْطَان وَإِن لم يَأْمر بِهِ
إذات استؤنس مِنْهُ إِلَى انبساط خلق. وَفِيه: أَن أحدا
لَا يجوز أَن يسْخط حَاله وَلَا مَا قسم الله لَهُ وَلَا
سَابق قَضَائِهِ، لِأَنَّهُ يخَاف عَلَيْهِ ضعف يقينه.
وَفِيه: أَن التقلل من الدُّنْيَا لرفع طيباته إِلَى دَار
الْبَقَاء خير حَال مِمَّن يعجلها فِي الدُّنْيَا الفانية
والعجل لَهَا أقرب إِلَى السَّفه. وَفِيه: الاسْتِغْفَار
من السخط وَقلة الرضى. وَفِيه: سُؤال من الشَّارِع
الاسْتِغْفَار، وَلذَلِك يجب أَن يسْأَل أهل الْفضل
وَالْخَيْر الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار. وَفِيه: أَن
الْمَرْأَة تعاقب على إفشاء سر زَوجهَا، وعَلى التحيل
عَلَيْهِ بالأذى بالتوبيخ لَهَا بالْقَوْل، كَمَا وبخ الله
تَعَالَى أَزوَاج نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
تظاهرهما وإفشاء سره، وعاتبهن بالإيلاء والاعتزال والهجران
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {واهجروهن فِي الْمضَاجِع}
(النِّسَاء: 43) . وَفِيه: أَن الشَّهْر يكون تِسْعَة
وَعشْرين يَوْمًا. وَفِيه: أَن الْمَرْأَة الرشيدة لَا
بَأْس أَن تشَاور أَبَوَيْهَا أَو ذَوي الرَّأْي من
أَهلهَا فِي أَمر نَفسهَا الَّتِي هِيَ أَحَق بهَا من
وَليهَا، وَهِي فِي المَال أولى بالمشاورة، لَا على أَن
الْمُشَاورَة لَازِمَة لَهَا إِذا كَانَت رَشِيدَة كعائشة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَفِيه: دَلِيل لجَوَاز ذكر
الْعَمَل الصَّالح، وَهِي فِي قَول عبد الله بن عَبَّاس:
فحججت مَعَه، أَي: مَعَ عمر. وَفِيه: الِاسْتِعَانَة فِي
الْوضُوء إِذْ هُوَ الظَّاهِر من قَوْله: فَتَوَضَّأ،
وَقَالَ ابْن التِّين: وَيحْتَمل الِاسْتِنْجَاء، وَذَلِكَ
أَن يصب المَاء فِي يَده الْيُمْنَى ثمَّ يُرْسِلهُ حَيْثُ
شَاءَ، وَفِيه: رد الْخطاب إِلَى الْجمع بعد الْإِفْرَاد،
وَذَلِكَ فِي قَوْله: أفتأمن؟ أَي: إحداكن، ثمَّ قَالَ:
فتهلكن، على رِوَايَة: تهلكن، بِضَم الْكَاف وبالنون
الْمُشَدّدَة، قَالَه الدَّاودِيّ. وَفِيه: أَن ضحكه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم التبسم إِكْرَاما لمن يضْحك إِلَيْهِ.
وَقَالَ جرير: مَا رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مُنْذُ أسلمت إلاَّ تَبَسم. وَفِيه: التَّخْيِير،
وَقد اسْتعْمل السّلف الِاخْتِيَار بعده، فَعِنْدَ
الشَّافِعِي أَن الْمَرْأَة إِذا اخْتَارَتْ نَفسهَا
فَوَاحِدَة، وَهُوَ قَول عَائِشَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز،
وَذكر عَليّ: أَنَّهَا إِذا اخْتَارَتْ نَفسهَا فَثَلَاث.
وَقَالَ طَاوُوس: نفس الِاخْتِيَار لَا يكون طَلَاقا
حَتَّى يوقعه، وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِن وَاحِدَة من
نِسَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتَارَتْ نَفسهَا،
فَبَقيت إِلَى زمن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَكَانَت تَأتي بالحطب بِالْمَدِينَةِ فتبيعه، وَأَنَّهَا
أَرَادَت النِّكَاح فَمنعهَا عمر، فَقَالَت: إِن كنت من
أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ اضْرِب عَليّ الْحجاب، فَقَالَ
لَهَا: وَلَا كَرَامَة. وَقيل: إِنَّهَا رعت
(13/20)
غنما. وَالَّذِي فِي (الصِّحَاح) :
أَنَّهُنَّ اخْترْنَ الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة.
وَقَالَ الإِمَام الرَّازِيّ الْجَصَّاص الْحَنَفِيّ:
اخْتلف السّلف فِيمَن خير امْرَأَته، فَقَالَ عَليّ: إِن
اخْتَارَتْ زَوجهَا فَوَاحِدَة رَجْعِيَّة، وَإِن
اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة، وَعنهُ: وَإِن
اخْتَارَتْ زَوجهَا فَلَا شَيْء، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا
فَوَاحِدَة بَائِنَة. وَقَالَ زيد بن ثَابت فِي: أَمرك
بِيَدِك، إِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة رَجْعِيَّة.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وصاحباه وَزفر، فِي الْخِيَار:
بَائِنَة اخْتَارَتْ زَوجهَا فَلَا شَيْء، وَإِن
اخْتَارَتْ نَفسهَا فَوَاحِدَة بَائِنَة إِذا أَرَادَ
الزَّوْج الطَّلَاق، وَلَا يكون ثَلَاثًا، وَإِن نوى.
وَقَالَ ابْن أبي ليلى وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ: إِن
اخْتَارَتْ زَوجهَا فَلَا شَيْء، وَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا
فَوَاحِدَة. وَقَالَ مَالك فِي الْخِيَار: إِنَّه ثَلَاث،
إِذا اخْتَارَتْ نَفسهَا وَإِن طلقت نَفسهَا بِوَاحِدَة لم
يَقع شَيْء، وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَذْهَب مَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة وَأحمد وجماهير الْعلمَاء:
أَن من خير زَوجته فَاخْتَارَتْ لم يكن ذَلِك طَلَاقا،
وَلَا يَقع بِهِ فرقة. وَرُوِيَ عَن عَليّ وَزيد بن ثَابت
وَالْحسن وَاللَّيْث: أَن نفس التَّخْيِير يَقع بِهِ
طَلْقَة بَائِنَة، سَوَاء اخْتَارَتْ زَوجهَا أم لَا،
وَحَكَاهُ الْخطابِيّ وَغَيره عَن مَذْهَب مَالك، قَالَ
القَاضِي: لَا يَصح هَذَا عَن مَالك.
وَفِيه: جَوَاز الْيَمين شهرا، أَن لَا يدْخل على
امْرَأَته، وَلَا يكون بذلك موليا، لِأَنَّهُ لَيْسَ من
الْإِيلَاء الْمَعْرُوف فِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء وَلَا
لَهُ حِكْمَة، وأصل الْإِيلَاء فِي اللُّغَة: الْحلف على
الشَّيْء يُقَال مِنْهُ: آلى يولي إِيلَاء وتآلى تآلياً،
وايتلى إيتلاءٍ: وَصَارَ فِي عرف الْفُقَهَاء مُخْتَصًّا
بِالْحلف عَن الِامْتِنَاع عَن وَطْء الزوجه، وَلَا خلاف
فِي هَذَا إلاَّ مَا حُكيَ عَن ابْن سِيرِين أَنه قَالَ:
الْإِيلَاء الشَّرْعِيّ مَحْمُول على مَا يتَعَلَّق
بِالزَّوْجَةِ من ترك جماع أَو كَلَام أَو انفاق،
وَسَيَجِيءُ مزِيد الْكَلَام فِي مسَائِل الْإِيلَاء
المصطلح عَلَيْهِ فِي بَابه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَفِيه: جَوَاز دق الْبَاب وضربه. وَفِيه: جَوَاز دُخُول
الْآبَاء على الْبَنَات بِغَيْر إِذن أَزوَاجهنَّ والتفتيش
عَن الْأَحْوَال، سِيمَا عَمَّا يتَعَلَّق بالمزاوجة.
وَفِيه: السُّؤَال قَائِما. وَفِيه: التناوب فِي الْعلم
والاشتغال بِهِ. وَفِيه: الْحِرْص على طلب الْعلم. وَفِيه:
قبُول خبر الْوَاحِد وَالْعَمَل بمراسيل الصَّحَابَة.
وَفِيه: أَن الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،
كَانَ يخبر بَعضهم بَعْضًا بِمَا يسمع من النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَقُولُونَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، ويجعلون ذَلِك كالمسند، إِذْ لَيْسَ
فِي الصَّحَابَة من يكذب وَلَا غير ثِقَة، وَفِيه: أَن
شدَّة الْوَطْأَة على النِّسَاء غير وَاجِبَة، لِأَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَار بسيرة
الْأَنْصَار فِيهِنَّ. وَفِيه: فضل عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا.
9642 - حدَّثنا ابنُ سَلامٍ قَالَ حدَّثنا الْفَزَارِيُّ
عنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيل عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ قَالَ آلَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ
نِسائِهِ شهْرَاً وكانتِ انْفَكَّتْ قدَمُهُ فجَلَسَ فِي
عُلِّيَّةٍ لَهُ فَجاءَ عُمَرُ فَقَالَ أطَلَّقْتَ
نِساءَكَ قَالَ لاَ ولاكِنِّي آلَيْتُ مِنْهُنَّ شَهْراً
فمَكَثَ تِسْعاً وعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ علَى
نِسَائِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَجَلَسَ فِي علية
لَهُ) ، وَابْن سَلام هُوَ مُحَمَّد بن سَلام، والفزاري،
بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي وبالراء: هُوَ
مَرْوَان بن مُعَاوِيَة، مر فِي الصَّلَاة. قَوْله: (آلى)
، أَي: حلف، وَلَا يُرِيد بِهِ الْإِيلَاء الفقهي. قَوْله:
(انفكت) أَي: انفرجت، والفك انفراج الْمنْكب أَو الْقدَم
عَن مفصله. قَوْله: (فجَاء عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ) يَعْنِي: إِلَى عليته. وَفِي الحَدِيث الَّذِي
قبله، قَالَ عمر: فَجئْت الْمشْربَة الَّتِي هُوَ فِيهَا،
فَقلت لغلام لَهُ أسود ... الحَدِيث.
62 - (بابُ مَنْ عَقَلَ بَعِيرَهُ علَى البَلاَطِ أوْ بابِ
الْمَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من عقل بعيره، يَعْنِي: شدّ
بعيره بالعقال على البلاطد، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة،
وَهُوَ حِجَارَة مفروشة عِنْد بَاب الْمَسْجِد. قَوْله:
(وَبَاب الْمَسْجِد) ، أَي: أَو على بَاب الْمَسْجِد.
0742 - حدَّثنا مُسْلِمٌ قَالَ حدَّثنا أبُو عُقَيْلٍ
قَالَ حَدَّثَنا أبُو الْمُتَوَكِّلِ الناجِيُّ قَالَ
أتَيْتُ جابِرَ ابنَ عبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ دَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْمَسْجِدَ فَدَخَلْتُ إلَيْهِ وعَقَلْتُ الْجَمَلَ فِي
ناحِيَةِ البَلاطِ فقُلْتُ هَذا جَمَلُكَ فخَرَجَ فجَعَلَ
يُطِيفُ بالجَمَلِ قَالَ الثَّمَنُ والْجَمَلُ لَكَ.
.
(13/21)
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله:
(وعقلت الْجمل فِي نَاحيَة البلاط) . قيل: هُنَا نظر من
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة
على البلاط وَالْمَذْكُور فِي الحَدِيث فِي نَاحيَة البلاط
وناحية الشَّيْء غَيره. وَالْآخر: أَن فِي التَّرْجَمَة
أَو بَاب الْمَسْجِد وَلَيْسَ فِي الحَدِيث ذَلِك. قلت:
يُمكن الْجَواب عَن الأول: بِأَن يكون المُرَاد بِنَاحِيَة
البلاط طرفها، وَكَانَ عقل الْجمل بطرفها، وَلَا
يَتَأَتَّى إلاَّ بالطرف. وَعَن الثَّانِي: بِأَنَّهُ ألحق
بَاب الْمَسْجِد بِمَا قبله فِي الحكم قِيَاسا عَلَيْهِ،
وَقيل: أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا ورد فِي بعض طرقه. قلت:
هَذَا لَا بَأْس بِهِ إِن ثَبت مَا ادَّعَاهُ من ذَلِك،
وَمَعَ هَذَا فالموضع كُله مَوضِع تَأمل.
وَمُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم، وَأَبُو عقيل، بِالْفَتْح:
هُوَ بشير ضد النذير ابْن عقبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة
وَسُكُون الْقَاف الدَّوْرَقِي، وَأَبُو المتَوَكل هُوَ
عَليّ النَّاجِي، بالنُّون وَالْجِيم وياء النِّسْبَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْبيُوع عَن عقبَة بن مكرم.
قَوْله: (فَقلت) ، أَي: قَالَ جَابر: فَقلت: يَا رَسُول
الله! هَذَا جملك، وَهُوَ الْجمل الَّذِي اشْتَرَاهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ فِي السّفر، وَقد مرت قصَّته
فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء الدَّوَابّ وَالْحمير.
قَوْله: (فَخرج) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
من الْمَسْجِد. قَوْله: (فَجعل يطِيف بالجمل) ، أَي: يلم
بِهِ ويقاربه. قَوْله: (قَالَ الثّمن) ، أَي: قَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ثمن الْجمل والجمل لَك،
يَعْنِي: كِلَاهُمَا لَك، وَهَذَا يدل على غَايَة كرم
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن جَابِرا عِنْده
بِمَنْزِلَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: أَن
رحاب الْمَسْجِد مناخ للبعير. وَفِيه: جَوَاز إِدْخَال
الْأَمْتِعَة فِي الْمَسْجِد، قِيَاسا على الْبَعِير.
وَفِيه: حجَّة لمَالِك والكوفيين فِي طَهَارَة أَبْوَال
الْإِبِل وأرواثها. وَفِيه: رد على الشَّافِعِي فِيمَا
قَالَ بنجاستها، قَالَ ابْن بطال: وَهَذَا خلاف مِنْهُ،
لدَلِيل الحَدِيث، وَلَو كَانَت نَجِسَة كَمَا زعم مَا
كَانَ لجَابِر إِدْخَال الْبَعِير فِي الْمَسْجِد، وَحين
رَآهُ الشَّارِع لم يُنكر عَلَيْهِ، وَلَو كَانَت نَجِسَة
لأَمره بإخراجها من الْمَسْجِد خشيَة مَا يكون فِيهِ من
الروث وَالْبَوْل، إِذْ لَا يُؤمن من حُدُوث ذَلِك
مِنْهَا. انْتهى. قلت: أجَاب الْكرْمَانِي عَن ذَلِك
بقوله: أَقُول: لَا دَلِيل على دُخُول الْبَعِير فِي
الْمَسْجِد وَلَا على حُدُوث الْبَوْل والروث فِيهِ على
تَقْدِير الْحُدُوث، فقد يغسل الْمَسْجِد وينظف مِنْهُ،
فَلَا حجَّة لَهُم وَلَا رد عَلَيْهِ، أَي: على
الشَّافِعِي. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء من الْجَواب،
لِأَن جَابِرا صرح بِأَنَّهُ عقل جمله فِي نَاحيَة بلاط
الْمَسْجِد، وَهُوَ رحاب الْمَسْجِد وللرحاب حكم
الْمَسْجِد، وَقَوله: وَلَا على حُدُوث الْبَوْل والروث
فِيهِ، لم يقل بِهِ الرَّاد، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا يُؤمن
حُدُوثه، فَلَو كَانَ بَوْله وروثه نجسا لمَنعه من ذَلِك.
وَقَوله: وعَلى تَقْدِير الْحُدُوث ... إِلَى آخِره،
جَوَاب بطرِيق التسلم فَلَيْسَ بِجَوَاب، لِأَنَّهُ لَا
يجوز السُّكُوت عَن ذَلِك، مَعَ الْعلم بِنَجَاسَتِهِ
اكْتِفَاء بِالْغسْلِ والتنظيف، وَأجَاب صَاحب
(التَّوْضِيح) عَن ذَلِك بقوله: ومذهبه جَوَاز إِدْخَاله
فِيهِ، وَلَا يرد عَلَيْهِ مَا ذكره، فَسلم من التعسف
الْمَذْكُور.
72 - (بابُ الوُقُوفِ والْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ
القَوْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْوُقُوف وَالْبَوْل
عِنْد سباطة قوم، والسباطة، بِالضَّمِّ: الكناسة، وَقيل:
المزبلة، ومعناهما مُتَقَارب، لِأَن الكناسة: الزبل
الَّذِي يكنس.
1742 - حدَّثني سُلَيْمَانُ بنُ حَرْب عنْ شُعْبَةَ عنْ
مَنْصُورٍ عنْ أبِي وائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أوْ قالَ لَقَدْ أتَى النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبالَ قائِماً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن
سَلمَة الْكُوفِي، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْوضُوء
فِي: بَاب الْبَوْل قَائِما، وَفِي الْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن آدم عَن شُعْبَة
عَن الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل عَن حُذَيْفَة وَعَن
عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور عَن أبي
وَائِل ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ
مستقصًى.
82 - (بابُ مَنْ أخَذَ الْغُصْنَ وَمَا يُؤْذِي النَّاسَ
فِي الطَّرِيقِ فرَمَى بِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ثَوَاب من أَخذ الْغُصْن، أَي
غُصْن كَانَ، من أَي شجر كَانَ، مِمَّا يشوش على المارين
فِي الطَّرِيق. قَوْله: (وَمَا يُؤْذِي) أَي: وَفِي ثَوَاب
من أَخذ مَا يُؤْذِي النَّاس، وَهَذَا أَعم من الأول
لِأَنَّهُ يَشْمَل الْغُصْن وَالْحجر وَنَحْوهمَا مِمَّا
يحصل
(13/22)
مِنْهُ الْأَذَى للنَّاس عِنْد الْمُرُور عَلَيْهِ.
قَوْله: (فَرمى بِهِ) ، يَعْنِي رَفعه من الطَّرِيق
وَرمى بِهِ فِي غير الطَّرِيق، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: بَاب من أخر الْغُصْن، من التَّأْخِير،
وَهُوَ إزاحته عَن الطَّرِيق.
2742 - حدَّثنا عبدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ سُمَيٍّ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنَما رَجُلٌ
يَمْشِي بِطَرِيقٍ وجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ فأخَذَهُ
فَشَكَرَ الله لَهُ فَغَفَرَ لَهُ.
(انْظُر الحَدِيث 256) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الله هُوَ ابْن
يُوسُف، وَفِي بعض النّسخ، ذكر صَرِيحًا. وَسمي، بِضَم
السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء:
مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن
الْمُغيرَة هِشَام، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات،
والرواة كلهم مدنيون مَا خلال شَيْخه.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن
يحيى عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر
عَن قُتَيْبَة بِهِ وَفِي رِوَايَته: فَأَخَّرَهُ،
مَوضِع: فَأَخذه. ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أبي
بَرزَة وَابْن عَبَّاس وَأبي ذَر. قلت: أما حَدِيث أبي
بَرزَة فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه، عَنهُ قَالَ: قلت: يَا
رَسُول الله! دلَّنِي على عمل أنتفع بِهِ، قَالَ: أعزل
الْأَذَى من طَرِيق الْمُسلمين. وَأما حَدِيث ابْن
عَبَّاس فَأخْرجهُ ...
وَأما حَدِيث أبي ذَر فَأخْرجهُ ابْن عبد الْبر من
حَدِيث مَالك ب يزِيد عَن أَبِيه عَن أبي ذَر،
مَرْفُوعا: (إماطتك الْحجر والشوك والعظم عَن
الطَّرِيق صَدَقَة) . قلت: وَفِي الْبَاب عَن أبي
سعيد، أخرجه ابْن زَنْجوَيْه من حَدِيث ابْن لَهِيعَة
عَن دراج عَن أبي الْهَيْثَم عَن أبي سعيد مَرْفُوعا:
(غفر الله لرجل أماط عَن الطَّرِيق غُصْن شوك، مَا
تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر) . وَعَن أبي بُرَيْدَة،
أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ: سَمِعت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: فِي الْإِنْسَان
ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ مفصلا، فَعَلَيهِ أَن
يتَصَدَّق عَن كل مفصل مِنْهُ بِصَدقَة، قَالُوا: وَمن
يُطيق ذَلِك؟ قَالَ: النخاعة فِي الْمَسْجِد يدفنها،
وَالشَّيْء ينحيه عَن الطَّرِيق ... وَعَن أنس، أخرجه
ابْن أبي شيبَة من حَدِيث قَتَادَة عَنهُ، قَالَ:
(كَانَت شَجَرَة على طَرِيق النَّاس فَكَانَت تؤذيهم،
فعزلها رجل عَن طريقهم، قَالَ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: رَأَيْته يتقلب فِي ظلها فِي
الْجنَّة) . وَاعْلَم أَن الشَّخْص يُؤجر على إمَاطَة
الْأَذَى، وكل مَا يُؤْذِي النَّاس فِي الطَّرِيق،
وَفِيه دلَالَة على أَن طرح الشوك فِي الطَّرِيق
وَالْحِجَارَة والكناسة والمياه الْمفْسدَة للطرق وكل
مَا يُؤْذِي النَّاس يخْشَى الْعقُوبَة عَلَيْهِ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَلَا شكّ أَن نزع الْأَذَى
عَن الطَّرِيق من أَعمال الْبر، وَأَن أَعمال الْبر
تكفر السَّيِّئَات وتوجب الغفران، وَلَا يَنْبَغِي
للعاقل أَن يحقر شَيْئا من أَعمال الْبر، أما مَا
كَانَ من شجر فَقَطعه وألقاه، وَأما مَا كَانَ
مَوْضُوعا فأماطه، وَالْأَصْل فِي هَذَا كُله قَوْله
تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره}
(الزلزلة: 7) . وإماطة الْأَذَى عَن الطَّرِيق شُعْبَة
من شعب الْإِيمَان.
|