عمدة القاري شرح صحيح البخاري

92 - (بابٌ إذَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيق الْمِيتاءِ وَهْيَ الرَّحْبَةُ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أهْلُهَا الْبُنْيَانَ فَتُرِكَ مِنْها الطَّرِيقُ سَبَعةَ أذْرُعٍ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اخْتلف النَّاس فِي الطَّرِيق الميتاء، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالتاء الْمُثَنَّاة من فَوق ممدودة، وَهِي على وزن مفعال، أَصله من الْإِتْيَان، وَالْمِيم زَائِدَة، ويروى مَقْصُورَة على وزن مفعل، وَقد فسره البُخَارِيّ بقوله: وَهِي الرحبة إِلَى آخِره، أَي: الواسعة تكون بَين الطَّرِيق. وَقيل: الرحبة الساحة، وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: الميتاء أعظم الطّرق وَهِي الَّتِي يكثر مُرُور النَّاس بهَا. وَقيل: الطَّرِيق العامرة، وَقيل: الفناء بِكَسْر الْفَاء، وروى ابْن عدي من حَدِيث عباد بن مَنْصُور عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (قَالَ: قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الطَّرِيق الميتاء الَّتِي يُؤْتى من كل مَكَان) الحَدِيث، وَقد فسر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطَّرِيق الميتاء بقوله: الَّتِي يُؤْتى من كل مَكَان. قَوْله: (ثمَّ يُرِيد أَهلهَا) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن أَصْحَاب الطَّرِيق الميتاء إِذا أَرَادوا أَن يبنوا فِيهَا يتْركُوا مِنْهَا الطَّرِيق لِلْمَارِّينَ مِقْدَار سَبْعَة أَذْرع، على مَا نذكرهُ فِي معنى

(13/23)


الحَدِيث، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذِه التَّرْجَمَة لفظ حَدِيث رَوَاهُ عبَادَة بن الصَّامِت عِنْد عبد الله بن أَحْمد فِيمَا زَاده مطولا عَن أبي كَامِل الجحدري، حَدثنَا الْفضل بن سُلَيْمَان حَدثنَا مُوسَى بن عقبَة عَن إِسْحَاق بن يحيى بن طَلْحَة عَنهُ.

3742 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثنا جَرِيرُ بنُ حَازِمٍ عنِ الزُّبَيْرِ بنِ خِرِّيتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَضَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تشاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ المِيتاءِ بِسَبْعَةِ أذْرُعٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الرَّاء: ابْن حَازِم، بالزاي، وَالزُّبَيْر بن الخريت هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وحديثين فِي التَّفْسِير، وَآخر فِي الدَّعْوَات، وَالزُّبَيْر، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن خريت، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق، وَمَعْنَاهُ فِي الأَصْل: الماهر الحاذق.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا تشاجروا) ، أَي: إِذا تخاصموا، يَعْنِي: أَصْحَاب الطَّرِيق الميتاء. قَوْله: (فِي الطَّرِيق) ، زَاد الْمُسْتَمْلِي فِي رِوَايَته، فِي الطَّرِيق الميتاء، وَلَيْسَت هَذِه الزِّيَادَة مَحْفُوظَة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فَإِن قلت: لم ذكر فِي التَّرْجَمَة بقوله فِي الطَّرِيق الميتاء؟ قلت: أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن هَذِه الزِّيَادَة وردة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه عبد الرَّزَّاق عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا اختلفتم فِي الطَّرِيق الميتاء فاجعلوها سَبْعَة أَذْرع) . قَوْله: (بسبعة أَذْرع) ، يتَعَلَّق بقوله: قضى) وَالْمرَاد بالذراع ذِرَاع الْبُنيان الْمُتَعَارف، وَقيل: بِمَا يتعارفه أهل كل بلد من الذرعان. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: لم نجد لهَذَا الحَدِيث معنى أولى أَن يحمل من أَن الطَّرِيق المبتدأة، إِذا اخْتلف مبتدئوها فِي الْمِقْدَار الَّذِي يوقفون لَهَا من الْمَوَاضِع الَّتِي يحاولون اتخاذها مِنْهَا، كالقوم يفتتحون مَدِينَة من مَدَائِن الْعَدو، فيريد الإِمَام قسمتهَا وَيُرِيد بِهِ، مَعَ ذَلِك أَن يَجْعَل فِيهَا طرقاً لكل من يسلكها بَين النَّاس إِلَى مَا سواهَا من الْبلدَانِ وَلَا يجدهَا، مِمَّا كَانَ المفتتحة عَلَيْهِم أحكموا ذَلِك فِيهَا، فَيجْعَل كل طَرِيق مِنْهَا سَبْعَة أَذْرع، وَمثل ذَلِك الأَرْض الْموَات، يقطعهَا الإِمَام رجلا وَيجْعَل عَلَيْهِ إحياءها وَوضع طريقها مِنْهَا لاجتياز النَّاس فِيهِ مِنْهَا إِلَى مَا سواهَا، فَيكون ذَلِك الطَّرِيق سَبْعَة أَذْرع. وَقَالَ الْمُهلب: هَذَا الحكم فِي الأفنية، إِذا أَرَادَ أَهلهَا الْبُنيان أَن يَجْعَل سَبْعَة أَذْرع حَتَّى لَا يضر بالمارة، ولمدخل الْأَحْمَال ومخرجها، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ على الْوُجُوب عِنْد الْعلمَاء للْقَضَاء بِهِ، ومخرجه عِنْدهم على الْخُصُوص، وَمَعْنَاهُ أَن كل طَرِيق يَجْعَل كَذَلِك، وَمَا يبْقى بعد ذَلِك لكل وَاحِد من الشُّرَكَاء فِي الأَرْض قدر مَا ينْتَفع بِهِ، وَلَا مضرَّة عَلَيْهِ. وكل طَرِيق يُؤْخَذ لَهَا سَبْعَة أَذْرع وَيبقى لبَعض الشُّرَكَاء من نصِيبه بعد ذَلِك، وَمَا لَا ينْتَفع بِهِ فَغير دَاخل فِي معنى الحَدِيث. وَقيل هَذَا الحَدِيث فِي أُمَّهَات الطَّرِيق، وَمَا يكثر الِاخْتِلَاف فِيهِ وَالْمَشْي عَلَيْهِ، وَأما مَا ينتاب من الطّرق فَيجوز فِي أفنيتها مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ أقل من سَبْعَة أَذْرع. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يكون ذَلِك فِي الطَّرِيق الْوَاسِع من الشوارع الَّذِي يقْعد فِي حافية الباعة، وَإِن كَانَ أقل من سَبْعَة أَذْرع منعُوا لِئَلَّا يضيق بأَهْله.

03 - (بابُ النُّهْبَى بِغَيْرِ إذْنِ صاحِبِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم النهبى، بِضَم النُّون على وزن فعلى: من النهب، وَهُوَ أَخذ الشَّيْء من أحد عيَانًا قهرا. وَقَالَ الْخطابِيّ: النهبى اسْم مَبْنِيّ من النهب، كالعمرى من الْعُمر. قَوْله: (بِغَيْر إِذن صَاحبه) ، أَي: صَاحب المنهوب بِقَرِينَة. قَوْله: (النهبى) ، فَلَا يكون إضماراً قبل الذّكر، وَمَفْهُوم هَذَا أَنه إِذا أذن بالنهب جَازَ.
وَقَالَ عُبَادَةُ بَايَعْنا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ لَا نَنْتَهِبَ

عبَادَة هُوَ ابْن الصَّامِت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث أخرجه فِي مَوَاضِع، مِنْهَا قد مر فِي كتاب

(13/24)


الْإِيمَان فِي بَاب حَدثنَا أَبُو الْيَمَان، قَالَ: حَدثنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أخبرنَا أَبُو إِدْرِيس عَائِذ الله بن عبد الله أَن عبَادَة ابْن الصَّامِت، وَكَانَ شهد بَدْرًا ... الحَدِيث، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الانتهاب، وَإِنَّمَا ذكره فِي رِوَايَة الصنَابحِي فِي: بَاب وُفُود الْأَنْصَار، وَلَفظه: بَايَعْنَاهُ على أَن لَا نشْرك بِاللَّه شَيْئا وَلَا نَسْرِق وَلَا نزني وَلَا نقْتل النَّفس الَّتِي حرم الله وَلَا ننتهب ... الحَدِيث، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي كتاب الْإِيمَان.

4742 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَدِيُّ بنُ ثَابِتٍ قَالَ سَمِعْتُ عبْدَ الله بنَ يَزِيدَ الأنْصَارِيَّ وهْوَ جَدُّهُ أبُو أُمِّه قَالَ نَهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ النُّهْبَى والمثْلَةِ.
(الحَدِيث 4742 طرفه فِي: 6155) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن معنى التَّرْجَمَة: بَاب النَّهْي بِغَيْر إِذن صَاحبه لَا يجوز، لِأَن نهب مَال الْغَيْر حرَام. قَوْله: (عبد الله بن يزِيد) ، بِالْيَاءِ فِي أَوله من الزِّيَادَة، وَهُوَ هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده: عبد الله ابْن زيد، بِدُونِ الْيَاء فِي أَوله، وَهُوَ غير صَحِيح. قَوْله: (وَهُوَ) ، يَعْنِي عبد الله بن يزِيد. قَوْله: (جده) ، يَعْنِي: جد عدي بن ثَابت لأمه، وَاسم أمه فَاطِمَة، وتكنى أم عدي، وَعبد الله بن يزِيد بن حُصَيْن بن عَمْرو بن الْحَارِث بن خطمة واسْمه عبد الله ابْن جشم بن مَالك بن الْأَوْس الْأنْصَارِيّ، أَبُو مُوسَى الخطمي، مضى ذكره فِي الاسْتِسْقَاء، وَلَيْسَ لَهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث، وَله فِيهِ عَن الصَّحَابَة غير هَذَا، وَقد اخْتلف فِي سَمَاعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن مُصعب بن الزبير قَالَ: لَيْسَ لَهُ صُحْبَة، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَهُ رُؤْيَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ صَغِيرا على عَهده، فَإِن صحت رِوَايَته فَذَاك، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ. قَوْله: (والمثلة) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَيجوز فتح الْمِيم وَضم الثَّاء، وَيجمع على: مثلات، وَهِي الْعقُوبَة فِي الْأَعْضَاء: كجدع الْأنف وَالْأُذن وفقء الْعين وَنَحْوهَا، وَقَالَ ابْن بطال: الانتهاب الْمحرم هُوَ مَا كَانَت الْعَرَب عَلَيْهِ من الغارات، وَعَلِيهِ وَقعت الْبيعَة فِي حَدِيث عبَادَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: النهبة الْمُحرمَة أَن ينهب مَال الرجل بِغَيْر أُذُنه، وَهُوَ لَهُ كَارِه، وَأما الْمَكْرُوه فَهُوَ مَا أذن صَاحبه للْجَمَاعَة وأباحه لَهُم، وغرضهم تساويهم فِيهِ أَو تقاربهم، فيغلب الْقوي على الضَّعِيف. وَقَالَ الْخطابِيّ، مَعْلُوم أَن أَمْوَال الْمُسلمين مُحرمَة، فيؤول هَذَا فِي الْجَمَاعَة يغزون، فَإِذا غنموا انتهبوا وَأخذ كل وَاحِد مَا وَقع بِيَدِهِ مستأثراً بِهِ من غير قسْمَة، وَقد يكون ذَلِك فِي الشَّيْء تشاع الْهِبَة فِيهِ، فينتهبون على قدر قوتهم، وَكَذَلِكَ الطَّعَام يقدم إِلَيْهِم، فَلِكُل وَاحِد أَن يَأْكُل مِمَّا يَلِيهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا ينتهب وَلَا يستلب من عِنْد غَيره، وَكَذَلِكَ كره من كره أَخذ النثار فِي عُقُود الْأَمْلَاك وَنَحْوه، وَقَالَ الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة: معنى الحَدِيث النهبة الْمُحرمَة، وَهِي أَن يينتهب مَال الرجل بِغَيْر إِذْنه.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَا ينثر على رُؤُوس الصّبيان وَفِي الأعراس، فَتكون فِيهَا النهبة، فكرهه مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَجَازَهُ الْكُوفِيُّونَ، وَإِنَّمَا كره لِأَنَّهُ قد يَأْخُذ مِنْهُ من لَا يحب صَاحب الشَّيْء أَخذه، وَيجب أَخذ غَيره، وَمَا حُكيَ عَن الْحسن بِأَنَّهُ كَانَ لَا يرى بَأْسا بالنهب فِي العرسات والولائم، وَكَذَلِكَ الشّعبِيّ فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَنهُ: فَلَيْسَ من النهبة الْمُحرمَة، وَكَذَا حَدِيث عبد الله بن قرط عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي الْبدن الَّتِي نحرها: (من شَاءَ اقتطع) ، قَالَ الشَّافِعِي: صَار ملكا للْفُقَرَاء، لِأَنَّهُ خلى بَينه وَبينهمْ. فَإِن قلت: روى عَن عون بن عمَارَة وعصمة بن سُلَيْمَان عَن لمازة بن الْمُغيرَة عَن ثَوْر بن يزِيد عَن خَالِد بن معدان عَن معَاذ ابْن جبل، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي أَمْلَاك، فَجَاءَت الْجَوَارِي مَعَهُنَّ الأطباق عَلَيْهَا اللوز وَالسكر، فَأمْسك الْقَوْم أَيْديهم، فَقَالَ: أَلا تنتهبون؟ قَالُوا: إِنَّك كنت نَهَيْتنَا عَن النهبة. قَالَ: تِلْكَ نهبة العساكر، فَأَما العرسان فَلَا، قَالَ: فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجاذبهم ويجاذبونه) . قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: عون وعصمة لَا يحْتَج بحديثهما، ولمازة مَجْهُول، وَابْن معدان عَن معَاذ مُنْقَطع. قلت: خَالِد بن معدان، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَلكنه لم يسمع من معَاذ بن جبل. وَقَالَ الشَّافِعِي: فَإِن أَخذ آخذ لَا تجرح شَهَادَته أَن كثيرا يزْعم أَن هَذَا مُبَاح، لِأَن مَالِكه إِنَّمَا طَرحه لمن يَأْخُذهُ، وَأما أَنا فأكرهه لمن أَخذه، وَكَانَ أَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ يكرههُ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَمَالك، وَذكر ابْن قدامَة أَنه يجب الْقطع على المنتهب قبل الْقِسْمَة، وَحكى عَن دَاوُد أَنه يرى الْقطع على من أَخذ مَال الْغَيْر، سَوَاء أَخذه من حرز أَو من غير حرز.

(13/25)


5742 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثني اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنا عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ أبِي بَكْرِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَزْنِي الزَّانِي حينَ يَزْنِي وهْوَ مُؤْمِنٌ ولاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وهْوَ مُؤْمِنٌ ولاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وهْوَ مُؤْمِنٌ ولاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُها وهْوَ مُؤْمِنٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَا ينتهب نهبة) إِلَى آخِره، قيل: لَا مُطَابقَة هُنَا، لِأَن التَّرْجَمَة مُقَيّدَة بِغَيْر الْإِذْن. والْحَدِيث مُطلق، وَأجِيب: بِأَن الحَدِيث أَيْضا مُقَيّد بِعَدَمِ الْإِذْن، وَذَلِكَ لِأَن رفع الْبَصَر إِلَيْهِ لَا يكون عَادَة إلاَّ عِنْد عدم الْإِذْن. وَهَذَا هُوَ فَائِدَة ذكر الرّفْع، وَهَذَا الْجَواب من الْكرْمَانِي أَخذه بَعضهم وَلم ينْسبهُ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: النهب لَا يتَصَوَّر إلاَّ بِغَيْر إِذن صَاحبه، فَمَا فَائِدَة التَّقْيِيد بِهِ فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: المُرَاد الْإِذْن الإجمالي حَتَّى يخرج مِنْهُ انتهاب مشَاع الْهِبَة وَنَحْوه من الموائد.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحُدُود عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن إِلَى آخِره. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبد الْملك بن شُعَيْب عَن اللَّيْث عَن أَبِيه عَن جده بِإِسْنَادِهِ نَحوه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْأَشْرِبَة، وَفِي الرَّجْم عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن عِيسَى بن حَمَّاد عَن اللَّيْث. . إِلَى آخِره، نَحوه، وَفِي الْبَاب عَن أبي دَاوُد من حَدِيث ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من انتهب نهبة فَلَيْسَ منا) ، وَعند ابْن حبَان من حَدِيث الْحسن عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مثله، وَعند التِّرْمِذِيّ عَن أنس قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من انتهب نهبة فَلَيْسَ منا) ، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَعند أَحْمد عَن زيد بن خَالِد، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن النهبة، وَعند ابْن حبَان عَن ثَعْلَبَة عَن الحكم، قَالَ: انتهينا غنما لِلْعَدو فنصبنا قدورنا، فَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالقدور فَأمر بهَا فأكفئت، ثمَّ قَالَ: إِن النهبة لَا تحل. وروى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث عَاصِم بن كُلَيْب عَن أَبِيه: أَخْبرنِي رجل من الصَّحَابَة، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غزَاة، فأصابتنا مجاعَة وأصبنا غنما فانتهبناها قبل أَن يقسم فِينَا، فَأَتَانَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متوكئاً على قَوس، فأكفأ قدورنا بقوسه، وَقَالَ: لَيست النهبة بأحل من الْميتَة. قَوْله: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي) أَي: لَا يَزْنِي الشَّخْص الَّذِي يَزْنِي. قَوْله: (حِين يَزْنِي) ، نصب على الظّرْف. قَوْله: (وَهُوَ مُؤمن) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، قيل: مَعْنَاهُ وَالْحَال أَنه مُسْتَكْمل شرائع الْإِيمَان. وَقيل: يَزُول مِنْهُ الثَّنَاء بِالْإِيمَان لَا نفس الْإِيمَان، وَقيل: يَزُول إيمَانه إِذا اسْتمرّ على ذَلِك الْفِعْل، وَقيل: إِذا فعله مستحلاً يَزُول عَنهُ الْإِيمَان فيكفر، وَقَالَ ابْن التِّين: قَالَ البُخَارِيّ: ينْزع مِنْهُ نور الْإِيمَان. قَوْله: (وَلَا يشرب) ، فَاعله مَحْذُوف، قَالَ ابْن مَالك: فِيهِ حذف الْفَاعِل، أَي: لَا يشرب الشَّارِب، وَرُوِيَ: لَا يشرب الْخمر، بِكَسْر الْبَاء على معنى النَّهْي، يَعْنِي: إِذا كَانَ مُؤمنا فَلَا يفعل. قَوْله: (وَلَا يسرق) ، الْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي لَا يَزْنِي. قَوْله: (إِلَيْهِ) أَي: إِلَى المنتهب، يدل عَلَيْهِ قَوْله: وَلَا ينتهب. قَوْله: (فِيهَا) ، أَي: فِي النهبة. قَوْله: (أَبْصَارهم) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ مفعول: يرفع النَّاس. قَوْله: (حِين ينتهبها) ، نصب على الظّرْف، أَي: وَقت انتهابها. قَوْله: (وَهُوَ مُؤمن) ، جملَة حَالية. وروى ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن أبي أوفى، يرفعهُ: وَلَا ينتهب نهبة ذَات شرف يرفع الْمُسلمُونَ إِلَيْهَا رؤوسهم وَهُوَ مُؤمن، وروى مُسلم من حَدِيث يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن أبي سَلمَة، وَسَعِيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يَزْنِي الزَّانِي) الحَدِيث، وَفِيه قَالَ ابْن شهَاب: فَأَخْبرنِي عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن: أَن أَبَا بكر كَانَ يُحَدِّثهُمْ هَؤُلَاءِ عَن أبي هُرَيْرَة، ثمَّ يَقُول: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يلْحق مَعَهُنَّ: وَلَا ينتهب نهبة ذَات شرف يرفع النَّاس إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارهم حِين ينتهبها وَهُوَ مُؤمن. ثمَّ روى من حَدِيث عقيل بن خَالِد، قَالَ: قَالَ ابْن شهَاب: وَأَخْبرنِي أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يَزْنِي الزَّانِي) وَاقْتصر الحَدِيث يذكر مَعَ ذكر النهبة، وَلم يقل: ذَات شرف، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ ابْن هِشَام: حَدثنِي سعيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمثل حَدِيث أبي بكر هَذَا إلاَّ النهبة. قَوْله: (وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يلْحق) ، بِضَم الْيَاء من الْإِلْحَاق. قَوْله: (مَعَهُنَّ) ، أَي: مَعَ قَوْله: (لَا يَزْنِي) ، وَقَوله:

(13/26)


(وَلَا يشرب) ، وَقَوله: (وَلَا يسرق) ، قَوْله: (وَلَا ينتهب) ، فِي مَحل المفعولية لقَوْله: (وَيلْحق) ، على سَبِيل الْحِكَايَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: ظَاهر هَذَا أَنه من كَلَام أبي هُرَيْرَة مَوْقُوف عَلَيْهِ، وَلَكِن جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى تدل على أَنه من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجمع الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح بِمَا يؤول إِلَيْهِ ملخص كَلَامه: أَن معنى قَول أبي هُرَيْرَة: يلْحق مَعَهُنَّ وَلَا ينتهب ... إِلَى آخِره، يَعْنِي يلْحقهَا رِوَايَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا من عِنْد نَفسه، واختصاص أبي بكر بِهَذَا لكَونه بلغه أَن غَيره لَا يَرْوِيهَا. قَوْله: (ذَات شرف) ، فِي الْأُصُول الْمَشْهُورَة المتداولة بالشين الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة، وَمَعْنَاهُ: ذَات قدر عَظِيم، وَقيل: ذَات استشراف، ليستشرف النَّاس لَهَا ناظرين إِلَيْهَا رافعين أَبْصَارهم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيم الْجُوَيْنِيّ بِالسِّين الْمُهْملَة، وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو: وَكَذَا قَيده بَعضهم فِي كتاب مُسلم، وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَيْضا: ذَات قدر عَظِيم. فَإِن قلت: يُعَارض هَذَا الحَدِيث حَدِيث أبي ذَر: من قَالَ لَا إلاه إلاَّ الله ... دخل الْجنَّة، وَإِن زنى وَإِن سرق، وَالْأَحَادِيث الَّتِي نَظَائِره مَعَ قَوْله تَعَالَى: {أَن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} (آل عمرَان: 611) . مَعَ إِجْمَاع أهل الْحق على أَن الزَّانِي وَالسَّارِق وَالْقَاتِل وَغَيرهم من أَصْحَاب الْكَبَائِر، غير الشّرك لَا يكفرون بذلك؟ قلت: هَذَا الَّذِي دعاهم إِلَى أَن قَالُوا هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي تطلق على نفي الشَّيْء يُرَاد نفي كَمَاله، كَمَا يُقَال: لَا علم إلاَّ بِمَا نفع، وَلَا مَال إِلَّا الْإِبِل، وَلَا عَيْش إلاَّ عَيْش الْآخِرَة، ثمَّ إِن مثل هَذَا التَّأْوِيل ظَاهر شَائِع فِي اللُّغَة يسْتَعْمل كثيرا، وَبِهَذَا يحصل الْجمع بَينه وَبَين مَا ذكر من الحَدِيث وَالْآيَة، وتأوله بعض الْعلمَاء على من فعل ذَلِك مستحلاً مَعَ علمه بورود الشَّرْع بِتَحْرِيمِهِ.
وعنْ سَعيدٍ وَأبي سلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِثْلَهُ إلاَّ النُّهْبَةَ
سعيد هُوَ ابْن الْمسيب، وَأَبُو سَلمَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن سعيداً وَأَبا سَلمَة رويا هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور مثل مَا ذكر، إلاَّ النهبة، يَعْنِي: لم يذكرَا حكم الانتهاب، بل ذكر الزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالشرب فَقَط. وَقد ذكرنَا آنِفا عَن مُسلم أَنه أخرج فِي حَدِيثه: وَقَالَ ابْن شهَاب: حَدثنِي سعيد بن الْمسيب وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمثل حَدِيث أبي بكر هَذَا إلاَّ النهبة. وَذكر مُسلم أَيْضا من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ أَن الزُّهْرِيّ روى عَن ابْن الْمسيب وابي سَلمَة وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث وَفِيه: وَذكر النهبة وَلم يقل ذَات شرف.
قَالَ الفِرَبْرَيُّ وجدْتُ بِخَطِّ أبِي جَعْفَرٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله تفْسِيرُهُ أنْ يُنْزَعَ مِنْهُ يُرِيدُ الإيمانَ
الْفربرِي، هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر الرَّاوِي عَن البُخَارِيّ وَأَبُو جَعْفَر هُوَ ابْن أبي حَاتِم، ورَّاق البُخَارِيّ وَأَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (تَفْسِيره) ، أَي: تَفْسِير قَوْله: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن) ، أَن ينْزع مِنْهُ نور الْإِيمَان، وَالْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق بالجنان وَالْإِقْرَار بِاللِّسَانِ ونوره الْأَعْمَال الصَّالِحَة والاجتناب عَن الْمعاصِي، فَإِذا زنى أَو شرب الْخمر أَو سرق يذهب نوره وَيبقى صَاحبه فِي الظلمَة، وَالْإِشَارَة فِيهِ إِلَى أَنه لَا يخرج عَن الْإِيمَان. قيل: إِن فِي هَذَا الحَدِيث تَنْبِيها على جَمِيع أَنْوَاع الْمعاصِي والتحذير مِنْهَا. فنبه بِالزِّنَا على جَمِيع الشَّهَوَات وبالخمر على جَمِيع مَا يصد عَن الله تَعَالَى وَيُوجب الْغَفْلَة عَن حُقُوقه، وبالسرقة على الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا والحرص على الْحَرَام، وبالنهبة على الاستخفاف بعباد الله تَعَالَى وَترك توقيرهم وَالْحيَاء مِنْهُم، وَجمع الدُّنْيَا من غير وَجههَا، وَالله تَعَالَى أعلم.

13 - (بابُ كَسْرِ الصَّلِيبِ وقَتْلِ الخِنْزِيرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِخْبَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أخبر عَن كسر عِيسَى بن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، عِنْد نُزُوله صلبان النصاري وأوثان الْمُشْركين وَقتل خنازير الْكل، وَلَيْسَ المُرَاد من هَذِه التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى جَوَاز كسر صَلِيب النَّصَارَى وَقتل خنازير أهل الذِّمَّة، فَإنَّا أمرنَا بتركهم وَمَا يدينون، وَأما كسر صَلِيب أهل الْحَرْب وَقتل خنازيرهم فَهُوَ جَائِز وَلَا شَيْء على فَاعله، والصليب هُوَ المربع الْمَشْهُور لِلنَّصَارَى من الْخشب، يَزْعمُونَ أَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صلب على خَشَبَة

(13/27)


على تِلْكَ الصُّورَة، وَقد كذبهمْ الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْكَرِيم بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صلبوه} (النِّسَاء: 751) . الْآيَة، وَكَانَ أَصله من خشب وَرُبمَا يَعْمَلُونَهُ من ذهب وَفِضة ونحاس وَنَحْوهَا.

6742 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ قَالَ أَخْبرنِي سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَنْزِلَ فيكُمْ ابنُ مرْيَمَ حَكَماً مُقْسِطاً فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ ويَقْتُلَ الخِنْزِيرَ ويَضَعَ الجِزْيَةَ ويفيضَ الْمَالَ حتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أحَدٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مر مرَارًا، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. قَوْله: (السَّاعَة) أَي: يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (ابْن مَرْيَم) ، هُوَ عِيسَى بن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (حكما) بِفتْحَتَيْنِ، بِمَعْنى: الْحَاكِم. قَوْله: (مقسطاً) أَي: عادلاً فِي حكمه، وَهُوَ من الإقساط بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ الْعدْل. يُقَال: أقسط يقسط فَهُوَ مقسط إِذا عدل، وقسط يقسط فَهُوَ قاسط إِذا جَار وظلم، فَكَأَن الْهمزَة فِي: أقسط، للسلب كَمَا يُقَال: شكى إِلَيْهِ، فأشكاه أَي: أَزَال شكواه. قَوْله: (فيكسر الصَّلِيب) إِشْعَار بِأَن النَّصَارَى كَانُوا على الْبَاطِل فِي تَعْظِيمه. قَوْله: (وَيَضَع الْجِزْيَة) ، أَي: يَتْرُكهَا فَلَا يقبلهَا بل، يَأْمُرهُم بِالْإِسْلَامِ. فَإِن قلت: هَذَا يُخَالف حكم الشَّرْع، فَإِن الْكِتَابِيّ إِذا بذل الْجِزْيَة وَجب قبُولهَا فَلَا يجوز بعد ذَلِك إكراهه على الْإِسْلَام وَلَا قَتله؟ قلت: هَذَا الحكم الَّذِي كَانَ بَيْننَا يَنْتَهِي بنزول عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فَإِن قلت: هَذَا يدل على أَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ينْسَخ الحكم الَّذِي كَانَ فِي شرعنا، وَالْحَال أَنه تَابع لشرع نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: لَيْسَ هُوَ بناسخ، بل نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي بَين بالنسخ. وَأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يفعل ذَلِك بِأَمْر نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأما ترك الْجِزْيَة فَإِنَّهَا كَانَت تُؤْخَذ فِي زَمَاننَا لحاجتنا إِلَى المَال. وَأما فِي زمن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فيكثر المَال وتفتح الْكُنُوز حَتَّى لَا يلتقي أحد من يقبل مِنْهُ فَلذَلِك يتْرك الْجِزْيَة. قَوْله: (وَيفِيض) ، بِالْفَاءِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: من فاض المَاء والدمع وَغَيرهمَا يفِيض فيضاً: إِذا كثر، وَقيل: السَّبَب فِي فيضان المَال: نزُول البركات، وَظُهُور الْخيرَات، وَقلة الرغبات لقصر الآمال لعلمهم بِقرب يَوْم الْقِيَامَة.

23 - (بابٌ هَلْ تُكْسَرُ الدِّنَانُ الَّتِي فِيها الْخَمْرُ أوْ تُخَرَّقُ الزِّقَاقُ فإنْ كَسَرَ صَنَماً أوْ صَلِيباً أوْ طُنْبُوراً أوْ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِخَشَبِهِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل تكسر الدنان الَّتِي فِيهَا الْخمر؟ والدنان، بِكَسْر الدَّال: جمع الدن، بِفَتْح الدَّال وَتَشْديد النُّون. قَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ الخب. قلت: هَذَا تَفْسِير الشَّيْء بِمَا هُوَ أخْفى مِنْهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: والخب الخابية فَارسي مُعرب. قلت: هُوَ فِي اللُّغَة الفارسية خم، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْمِيم، فعرب وَقيل: حب، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة. وَفِي دستور اللُّغَة فِي: بَاب الْحَاء المضمومة: الْحبّ خم ودستي. قَوْله: (الَّتِي فِيهَا الْخمر) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة الدنان، وَجَوَاب: هَل، مَحْذُوف وَإِنَّمَا لم يذكرهُ لِأَن فِيهِ خلافًا وتفصيلاً. بَيَانه: أَن قَوْله: هَل تكسر الدنان الَّتِي فِيهَا الْخمر؟ أَعم من أَن يكون لمُسلم أَو لذِمِّيّ أَو لحربي، فَإِن كَانَ الدن لمُسلم فَفِيهِ الْخلاف: فَعِنْدَ أبي يُوسُف وَأحمد فِي رِوَايَة: لَا يضمن، ويستدل لَهما فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا حميد بن مسْعدَة حَدثنَا الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان، قَالَ: سَمِعت ليثاً يحدث عَن يحيى بن عباد عَن أنس عَن أبي طَلْحَة أَنه قَالَ: يَا نَبِي الله {إِنِّي اشْتريت خمرًا لأيتام فِي حجري} قَالَ: (أهرق الْخمر وَكسر الدنان) ، ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ الثَّوْريّ هَذَا الحَدِيث عَن السّديّ عَن يحيى بن عباد عَن أنس: أَن أَبَا طَلْحَة كَانَ عِنْده، وَهَذَا أصح من حَدِيث اللَّيْث، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: يضمن، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة، لِأَن الإراقة بِدُونِ الْكسر مُمكنَة. وَأجِيب: عَن الحَدِيث: بِأَنَّهُ ضَعِيف، ضعفه ابْن الْعَرَبِيّ، وَقَالَ: لَا يَصح لَا من حَدِيث أبي طَلْحَة وَلَا من حَدِيث أنس أَيْضا، لِتَفَرُّد السّديّ بِهِ، وَفِيه اللَّيْث بن أبي سليم

(13/28)


وَفِيه مقَال، وَقَالَ شَيخنَا: مَا قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ مَرْدُود، فالسدي هُوَ الْكَبِير واسْمه إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن وَثَّقَهُ يحيى بن سعيد الْقطَّان، وَأحمد وَالنَّسَائِيّ وَابْن عدي، وَاحْتج بِهِ مُسلم. قلت: قَول التِّرْمِذِيّ هَذَا أصح من حَدِيث اللَّيْث، يدل على أَن حَدِيث اللَّيْث أَيْضا صَحِيح، وَلَكِن حَدِيث السّديّ أصح. وَالظَّاهِر أَنه لم يُصَرح بِصِحَّتِهِ لأجل اللَّيْث، وَاسم أبي طَلْحَة: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ، وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء، مِنْهُم الشَّافِعِي: إِن الْأَمر بِكَسْر الدنان مَحْمُول على النّدب. وَقيل: لِأَنَّهَا لَا تعود تصلح لغيره لغَلَبَة رَائِحَة الْخمر وطعمها، وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بذلك الزّجر، قَالَ شَيخنَا، رَحمَه الله تَعَالَى: يحْتَمل أَنهم لَو سَأَلُوهُ أَن يبقوها ويغسلوها لرخص لَهُم. وَإِن كَانَ الدن لذِمِّيّ فعندنا يضمن بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا، لِأَنَّهُ مَال مُتَقَوّم فِي حَقهم، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد: لَا يضمن لِأَنَّهُ غير مُتَقَوّم فِي حق الْمُسلم، فَكَذَا فِي حق الذِّمِّيّ. وَإِن كَانَ الدن لحربي فَلَا يضمن بِلَا خلاف إلاَّ إِذا كَانَ مستأمناً.
قَوْله: (أَو تخرق) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة على صِيغَة الْمَجْهُول، عطف على قَوْله: (هَل تكسر الدنان؟) . والزقاق، بِكَسْر الزَّاي: جمع زق جمع الْكَثْرَة، وَجمع الْقلَّة أزقاق، وَفِيه أَيْضا الْخلاف الْمَذْكُور فَإِن كَانَ شقّ زق الْخمر لمُسلم يضمن عِنْد مُحَمَّد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعند أبي يُوسُف لَا يضمن لِأَنَّهُ من جملَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ مَالك: زق الْخمر لَا يطهره المَاء لِأَن الْخمر غاص فِي دَاخله، وَقَالَ غَيره: يطهره، ويبنى على هَذَا الضَّمَان وَعَدَمه، وَالْفَتْوَى على قَول أبي يُوسُف خُصُوصا فِي هَذَا الزَّمَان، وَقد روى أَحْمد من حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: أَخذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفرة وَخرج إِلَى السُّوق وَبهَا زقاق خمر جلبت من الشَّام، فشق بهَا مَا كَانَ من تِلْكَ الزقاق. قَوْله: (فَإِن كسر صنماً) ، وَفِي بعض النّسخ: وَإِن كسر، بِالْوَاو، وَفِي بَعْضهَا: وَإِذا كسر، وعَلى تَقْدِير جَوَاب الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يجوز ذَلِك أم لَا؟ أَو هَل يضمن أم لَا؟ وَإِنَّمَا لم يُصَرح بِذكر الْجَواب لمَكَان الْخلاف فِيهِ أَيْضا. فَقَالَ أَصْحَابنَا: إِذا أتلف على نَصْرَانِيّ صليباً فَإِنَّهُ يضمن قِيمَته صليباً. يَعْنِي: حَال كَونه صليباً لَا حَال كَونه صَالحا لغيره، لِأَن النَّصْرَانِي مقرّ على ذَلِك، فَصَارَ كَالْخمرِ الَّتِي هم مقرون عَلَيْهَا. وَقَالَ أَحْمد: لَا يضمن، وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن كَانَ بعد الْكسر يصلح لنفع مُبَاح لَا يضمن، وإلاَّ لزمَه مَا بَين قِيمَته قبل الْكسر وَقِيمَته بعده، لِأَنَّهُ أتلف مَا لَهُ قيمَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصَّنَم مَا يتَّخذ إِلَهًا من دون الله، وَقيل: مَا كَانَ لَهُ جسم أَو صُورَة، وَإِن لم يكن لَهُ جسم وَلَا صُورَة فَهُوَ وثن. وَقَالَ فِي بَاب الْوَاو: الوثن كل مَا لَهُ جثة معمولة من جَوَاهِر الأَرْض أَو من الْخشب وَالْحِجَارَة كصورة الْآدَمِيّ يعْمل وَينصب ويعبد، والصنم الصُّورَة بِلَا جثة، وَمِنْهُم من لم يفرق بَينهمَا، وَأطلقهُمَا على الْمَعْنيين، وَقد يُطلق الوثن على غير الصُّورَة. قَوْله: (أَو طنبور) ، بِضَم الطَّاء وَقد يفتح وَالضَّم أشهر، وَهُوَ آلَة مَشْهُورَة من آلَات الملاهي، وَهُوَ فَارسي مُعرب. قَوْله: (أَو مَا لَا ينْتَفع بخشبه) قَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي: أَو كسر شَيْئا لَا يجوز الِانْتِفَاع بخشبه قبل الْكسر، كآلات الملاهي المتخذة من الْخشب، فَهُوَ تَعْمِيم بعد تَخْصِيص، وَيحْتَمل أَن يكون: أَو، بِمَعْنى: إِلَى أَن، يَعْنِي: فَإِن كسر طنبوراً إِلَى حد لَا ينْتَفع بخشبه وَلَا ينْتَفع بعد الْكسر، أَو عطف على مُقَدّر، وَهُوَ: كسراً ينْتَفع بخشبه أَي: كسر كسراً ينْتَفع بخشبه وَلَا ينْتَفع بعد الْكسر. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَلَا يخفى تكلّف هَذَا الْأَخير وَبعد الَّذِي قبله. انْتهى.
قلت: الْكرْمَانِي جعل لكلمة: أَو، هُنَا ثَلَاث معَان. مِنْهَا: أَن يكون للْعَطْف على مَا قبله، فَيكون من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص. وَمِنْهَا: أَن يكون بِمَعْنى: إِلَى أَن، كَمَا فِي قَوْلك: لألزمنك أَو تقضيني حَقي، وينتصب الْمُضَارع بعْدهَا، وَهُوَ كثير فِي كَلَام الْعَرَب، وَلَا بعد فِيهِ. وَمِنْهَا: أَن يكون مَعْطُوفًا على شَيْء مُقَدّر، وَهَذَا أَيْضا بَاب وَاسع فَلَا تكلّف فِيهِ، وَإِنَّمَا يكون التَّكَلُّف فِي مَوضِع يُؤْتى بالْكلَام بِالْجَرِّ الثقيل.
وَالْكَلَام فِي هَذَا الْفَصْل أَيْضا على الْخلاف وَالتَّفْصِيل، فَقَالَ أَصْحَابنَا: من كسر لمُسلم طنبوراً أَو بربطاً أَو طبلاً أَو مِزْمَارًا أَو دفاً فَهُوَ ضَامِن، وَبيع هَذِه الْأَشْيَاء جَائِز عِنْد أبي حنيفَة، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد: لَا يضمن وَلَا يجوز بيعهَا، وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي عَنهُ بالتفصيل: إِن كَانَ بعد الْكسر يصلح لنفع مُبَاح يضمن، وإلاَّ فَلَا، وَعَن بعض أَصْحَابنَا: الِاخْتِلَاف فِي الدُّف والطبل الَّذِي يضْرب للهو، وَأما طبل الْغُزَاة والدف الَّذِي يُبَاح ضربه فِي الْعرس فَيضمن بالِاتِّفَاقِ. وَفِي (الذَّخِيرَة) للحنفية: قَالَ أَبُو اللَّيْث: ضرب الدُّف فِي الْعرس مُخْتَلف فِيهِ، فَقيل: يكره، وَقيل) لَا. وَأما الدُّف الَّذِي يضْرب فِي زَمَاننَا مَعَ الصنجات والجلاجلات فمكروه بِلَا خلاف.

(13/29)


وأُتِيَ شُرَيْحٌ فِي طَنْبُورٍ كُسِرَ فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ
شُرَيْح هُوَ ابْن الْحَارِث الْكِنْدِيّ، أدْرك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يلقه، استقضاه عمر بن الْخطاب على الْكُوفَة، وَأقرهُ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأقَام على الْقَضَاء بهَا سِتِّينَ سنة، وَقضى بِالْبَصْرَةِ سنة، وَمَات سنة ثَمَان وَسبعين وَكَانَ لَهُ عشرُون وَمِائَة سنة. قَوْله: (وأتى شُرَيْح فِي طنبور) ، يَعْنِي: أَتَى إِلَيْهِ اثْنَان أدعى أَحدهمَا على الآخر أَنه كسر طنبوره فَلم يقْض فِيهِ بِشَيْء، أَي: لم يحكم فِيهِ بغرامة. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة من طَرِيق أبي حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء، بِلَفْظ: أَن رجلا كسر طنبور رجل فرفعه إِلَى شُرَيْح فَلم يضمنهُ شَيْئا، وَذكره وَكِيع بن الْجراح عَن سُفْيَان عَن أبي حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء: أَن رجلا كسر طنبور رجل فحاجه إِلَى شُرَيْح فَلم يضمنهُ شَيْئا، وَهَذَا يُوضح أَن جَوَاب التَّرْجَمَة عدم الضَّمَان. وَقَالَ ابْن التِّين: قضى شُرَيْح فِي الطنبور الصَّحِيح يكسر: بِأَن يدْفع لمَالِكه فينتفع بِهِ، وَقَالَ الْمُهلب: وَمَا كسر من آلَات الْبَاطِل وَكَانَ فِيهَا بعد كسرهَا مَنْفَعَة فصاحبها أولى بهَا مَكْسُورَة، إلاَّ أَن يرى الإِمَام حرقها بالنَّار، على معنى التَّشْدِيد والعقوبة على وَجه الِاجْتِهَاد، كَمَا أحرق عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دَار

على بيع الْخمر، وَقد هم الشَّارِع بتحريق دور من يتَخَلَّف عَن صَلَاة الْجَمَاعَة، وَهَذَا أصل فِي الْعقُوبَة فِي المَال إِذا رأى ذَلِك. قيل: هَذَا كَانَ فِي الصَّدْر الأول، ثمَّ نسخ.

7742 - حدَّثنا أبُو عاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي عُبَيدٍ عنْ سلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأى نِيرَاناً تُوقَدُ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ علَى مَا تُوقَدُ هاذِهِ النيرَانُ قالُوا علَى الْحُمُرِ الإنْسِيَّةِ قَالَ اكْسِرُوهَا وأهْرِقُوها قَالُوا ألاَ نُهَرِيقُها ونَغْسِلُهَا قَالَ اغْسِلوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (اكسروها) أَي: الْقُدُور، يدل عَلَيْهِ السِّيَاق، فَلَا يكون إضماراً قبل الذّكر، وَكسر الْقُدُور هُنَا فِي الحكم مثل كسر الدنان الَّتِي فِيهَا الْخمر. وَرِجَاله ثَلَاثَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَهُوَ من تَاسِع ثلاثيات البُخَارِيّ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن القعْنبِي، وَفِي الْأَدَب عَن قُتَيْبَة وَفِي الذَّبَائِح عَن مكي بن إِبْرَاهِيم وَفِي الدَّعْوَات عَن مُسَدّد عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي وَفِي الذَّبَائِح عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن عباد وَفِي الذَّبَائِح عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الذَّبَائِح عَن يَعْقُوب بن حميد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يَوْم خَيْبَر) ، يَعْنِي فِي غَزْوَة خَيْبَر، وَكَانَت سنة سبع وَمن خَيْبَر إِلَى الْمَدِينَة أَربع مراحل. قَوْله: (اكسروها) ، أَي: الْقُدُور، وَقد مر الْآن الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (على الْحمر الأنسية) ، الْحمر بِضَمَّتَيْنِ جمع حمَار، وَأَرَادَ بهَا الأنسية الْحمر الْأَهْلِيَّة. قَوْله: (وأهريقوها) ، بِسُكُون الْهمزَة وَجَاز حذف الْهمزَة أَو الْهَاء وَالْيَاء، ونهريقها، بِفَتْح الْحَاء وسكونها وبسكون الْهَاء وَحذف الْيَاء، قَالَ الْجَوْهَرِي: هرق المَاء يهريقه بِفَتْح الْهَاء، هراقة، أَي: صبه، وَفِي لُغَة أُخْرَى: أهرق المَاء يهرقه إهراقاً، وَفِيه لُغَة أُخْرَى: إهراق يهريق إهراقاً، قَالُوا: قَوْله ألاِ نهرقها؟ بِكَلِمَة: ألاَ، الَّتِي للاستفهام عَن النَّفْي، ويروى: لَا نهريقها، بِالنَّفْيِ. لَا يُقَال: إِن فِيهِ مُخَالفَة لأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لأَنهم فَهموا بالقرائن أَن الْأَمر لَيْسَ للْإِيجَاب. قَوْله: (قَالَ: اغسلواها) أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جوابهم، لَا نهرقها ونغسلها: إغسلوها، إِنَّمَا رَجَعَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أمره بالشيئين، وهما الْأَمر بِالْكَسْرِ، وَالْأَمر بالإهراق إِلَى قَوْله: اغسلوها، وَهُوَ مُجَرّد الْأَمر بِالْغسْلِ، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن اجْتِهَاده قد تغير أَو أوحى إِلَيْهِ بذلك، وَالْيَوْم لَا يجوز فِيهِ الْكسر لِأَن الحكم بِالْغسْلِ نسخ التَّخْيِير، كَمَا أَنه نسخ الْجَزْم بِالْكَسْرِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دَلِيل على نَجَاسَة لحم الْحمر الْأَهْلِيَّة، لِأَن فِيهِ الْأَمر بإراقته، وَهَذَا أبلغ فِي التَّحْرِيم، وَقد كَانَت لُحُوم الْحمر تُؤْكَل قبل ذَلِك. وَاخْتلف الْعلمَاء الَّذين ذَهَبُوا إِلَى إِبَاحَة لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة فِي معنى النَّهْي الْوَارِد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أكلهَا، لأي عِلّة كَانَ هَذَا النَّهْي. فَقَالَ نَافِع وَعبد الْملك بن جريج وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَبَعض الْمَالِكِيَّة: عِلّة النَّهْي لأجل الْإِبْقَاء على الظّهْر لَيْسَ على وَجه التَّحْرِيم. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: مَا

(13/30)


نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر عَن أكل لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة. إلاَّ من أجل أَنَّهَا ظهر، رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة مَوْقُوفا على عبد الرَّحْمَن، وَلم يذكر ابْن عَبَّاس، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَا أَدْرِي، أنهى عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أجل أَنه كَانَ حمولة النَّاس، فكره أَن يذهب حمولتهم أَو حرمه فِي يَوْم خَيْبَر، وَهَذَا يبين أَن ابْن عَبَّاس علم بِالنَّهْي لكنه حمله على التَّنْزِيه تَوْفِيقًا بَين الْآيَة وعمومها، وَبَين أَحَادِيث النَّهْي، وَقَالَ سعيد بن جُبَير وَبَعض الْمَالِكِيَّة: إِنَّمَا منعت الصَّحَابَة يَوْم خَيْبَر من أكل لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة لِأَنَّهَا كَانَت جوالة تَأْكُل القذرات، فَكَانَ نَهْيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لهَذِهِ الْعلَّة، لَا لأجل التَّحْرِيم. وَقَالَ آخَرُونَ: عِلّة النَّهْي كَانَت لاحتياجهم إِلَيْهَا، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث عبد الله بن عمر: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أكل الْحمار الأهلي يَوْم خَيْبَر، وَكَانُوا قد احتاجوا إِلَيْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: عِلّة النَّهْي أَنَّهَا أقيتت قبل الْقِسْمَة، فَمنع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أكلهَا قبل أَن تقسم، وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: وَفِي إِذن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي أكل الْخَيل، وإباحته لذَلِك يَوْم خَيْبَر، دَلِيل على أَن نَهْيه عَن أكل لُحُوم الْحمر يَوْمئِذٍ عبَادَة لغير عِلّة، لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَن الْخَيل أرفع من الْحمير، وَأَن الْخَوْف على الْخَيل وعَلى قِيَامهَا فَوق الْخَوْف على الْحمير، وَأَن الْحَاجة فِي الْغَزْو وَغَيره إِلَى الْخَيل أعظم، وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن أكل لُحُوم الْحمر لم يكن لحَاجَة وضرورة إِلَى الظّهْر وَالْحمل، وَإِنَّمَا كَانَت عبَادَة وَشَرِيعَة، وَالَّذين ذَهَبُوا إِلَى إِبَاحَة أكل لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، وهم: عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة، وَعبيد بن الْحسن وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، وَبَعض الْمَالِكِيَّة، احْتَجُّوا بِحَدِيث غَالب بن أبجر، قَالَ: يَا رَسُول الله! إِنَّه لم يبْق من مَالِي شَيْء استطيع أَن أطْعم مِنْهُ أَهلِي غير حمر لي أَو حمرات لي قَالَ: فأطعم أهلك من سمين مَالك، وَإِنَّمَا قذرت لكم جوال الْقرْيَة. رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ. وَأجِيب عَنهُ: بِأَن هَذَا الحَدِيث مُخْتَلف فِي إِسْنَاده، فَفِي طَرِيق عَن ابْن معقل عَن رجلَيْنِ من مزينة أَحدهمَا: عَن الآخر عبد الله بن عَمْرو بن لويم، بِضَم اللَّام وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره مِيم، وَالْآخر: غَالب بن أبجر، وَقَالَ مسعر: أرِي غَالِبا الَّذِي سَأَلَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن معقل، وَفِي طَرِيق عبد الله بن معقل، وَفِي طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن بشر، وَفِي طَرِيق عبد الله بن بشر، عوض عبد الرَّحْمَن، وَهَذَا اخْتِلَاف شَدِيد فَلَا يُقَاوم الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الَّتِي وَردت بِتَحْرِيم لُحُوم الْأَهْلِيَّة. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا الحَدِيث بِطرقِهِ بَاطِل، لِأَنَّهَا كلهَا من طَرِيق عبد الرَّحْمَن ابْن بشر وَهُوَ مَجْهُول، وَالْآخر: من طَرِيق عبد الله بن عَمْرو بن لويم، وَهُوَ مَجْهُول، أَو من طَرِيق شريك وَهُوَ ضَعِيف، ثمَّ عَن ابْن الْحسن، وَلَا يدْرِي من هُوَ، أَو من طَرِيق سلمى بنت النَّضر الخضرية وَلَا يدْرِي من هِيَ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا حَدِيث مَعْلُول، ثمَّ طول فِي بَيَانه.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله كانَ ابنُ أبي أوَيْسٍ يَقولُ الْحُمُرُ الأنَسِيَّةُ بنَصْبِ الألِفِ والنُّونِ

أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ، نَفسه يَحْكِي عَن شَيْخه إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، واسْمه: عبد الله الأصبحي الْمدنِي ابْن أُخْت مَالك بن أنس، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: الْحمر الأنسية نِسْبَة إِلَى: الْأنس، بِالْفَتْح ضد الوحشة وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَالْمَشْهُور فِيهَا كسر الْهمزَة منسوبة إِلَى الْأنس، وهم بَنو آدم الْوَاحِد أنسي. وَفِي كتاب أبي مُوسَى مَا يدل على أَن الْهمزَة مَضْمُومَة، فَإِنَّهُ قَالَ: هِيَ الَّتِي تألف الْبيُوت، والأنس ضد الوحشة، وَالْمَشْهُور فِي ضد الوحشة الْأنس بِالضَّمِّ، وَقد جَاءَ فِيهِ بِالْكَسْرِ قَلِيلا. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعضهم، بِفَتْح الْهمزَة وَالنُّون وَلَيْسَ بِشَيْء قَالَ ابْن الْأَثِير: إِن أَرَادَ أَن الْفَتْح غير مَعْرُوف فِي الرِّوَايَة فَيجوز، وَإِن أَرَادَ أَنه لَيْسَ بِمَعْرُوف فِي اللُّغَة فَلَا، فَإِنَّهُ مصدر: أنست بِهِ أنسا وأنسة. . وَقَالَ بَعضهم: وَتَعْبِيره عَن الْهمزَة بِالْألف، وَعَن الْفَتْح بِالنّصب جَائِز عِنْد الْمُتَقَدِّمين، وَإِن كَانَ الِاصْطِلَاح أخيراً قد اسْتَقر على خِلَافه، فَلَا تبادر إِلَى إِنْكَاره. انْتهى. قلت: هَذَا لَيْسَ بمصطلح عِنْد النُّحَاة الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين، إِنَّهُم يعبرون عَن الْهمزَة بِالْألف، وَعَن الْفَتْح بِالنّصب، فَمن أدَّعى خلاف ذَلِك، فَعَلَيهِ الْبَيَان، فالهمزة ذَات حَرَكَة، وَالْألف مَادَّة هوائية، فَلَا تقبل الْحَرَكَة. وَالْفَتْح من ألقاب الْبناء، وَالنّصب من ألقاب الْإِعْرَاب، وَهَذَا مِمَّا لَا يخفى على أحد.

(13/31)


8742 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدُ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبِي نَجِيحٍ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ أبِي مَعْمَرٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ دَخلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ وحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمائَةٍ وسِتُّونَ نُصُباً فجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعودٍ فِي يَدِهِ وجَعلَ يَقولُ {جاءَ الْحَقُّ وزَهَقَ الْبَاطِلُ} الْآيَة (الْإِسْرَاء: 18) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَجعل يطعنها بِعُود) ، أَي: يطعن النُصب، وَهِي الَّتِي نصبت لِلْعِبَادَةِ من دون الله، وَهُوَ دَاخل فِي التَّرْجَمَة فِي قَوْله: فَإِن كسر صنماً أَو صليباً.
وَرِجَاله: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَابْن أبي نجيح، بِفَتْح النُّون وَكسر الْجِيم: هُوَ عبد الله بن يسَار ضد الْيَمين وَمُجاهد بن جبر، وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن سَخْبَرَة الْأَزْدِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن صَدَقَة بن الْفضل وَفِي التَّفْسِير عَن الْحميدِي. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَمُحَمّد بن يحيى، الثَّلَاثَة عَن ابْن عُيَيْنَة بِهِ، وَعَن حسن الْحلْوانِي وَعبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن ابْن أبي نجيح. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن أبي عمر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعبيد الله بن سعيد فرقهما، كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، يَعْنِي: فِي غَزْوَة الْفَتْح، وَكَانَت فِي رَمَضَان سنة ثَمَان. قَوْله: (وحول الْكَعْبَة) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (نصبا) . وَقَالَ ابْن التِّين: ضبط فِي رِوَايَة أبي الْحسن، بِضَم النُّون وَالصَّاد، فَيكون على هَذَا جمع: نِصَاب، وَهُوَ صنم أَو حجر ينصب، وَلَيْسَ ببيّنٍ كَونه جمعا، لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بعد سِتِّينَ إلاَّ مُفردا، تَقول عِنْدِي سِتُّونَ ثوبا وَنَحْو ذَلِك، وَلَا تَقول: أثواباً، قَالَ: وَقد قيل: نصب وَنصب بِمَعْنى وَاحِد، فعلى هَذَا يكون جمعا لَا مُفردا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: النصب، بِضَم الصَّاد وسكونها: حجر كَانُوا ينصبونه فِي الْجَاهِلِيَّة ويتخذونه صنماً ويعبدونه، وَالْجمع أنصاب، وَقيل: هُوَ حجر كَانُوا ينصبونه ويذبحون عَلَيْهِ فيحمر بِالدَّمِ، ويروى: (صنماً) ، مَوضِع: (نصبا) . قَوْله: (فَجعل يطعنها) ، جعل من أَفعَال المقاربة وَهِي ثَلَاثَة أَنْوَاع، وَهُوَ من النَّوْع الَّذِي وضع على الشُّرُوع فِيهِ، أَي: فِي الْخَبَر، وَهُوَ كثير. (ويطعنها) بِضَم الْعين على الْمَشْهُور، وَيجوز فتحهَا، قَالَ الْجَوْهَرِي: طعنه بِالرُّمْحِ وَطعن فِي السن يطعن بِالضَّمِّ طَعنا، وَطعن فِيهِ بالْقَوْل يطعن أَيْضا، وَطعن فِي الْمَفَازَة يطعن ويطعن أَيْضا: ذهب. قَوْله: (فِي يَده) فِي مَحل الجرِّ لِأَنَّهُ صفة لعود. قَوْله: (وَجعل) مثل جعل الأول. قَوْله: (وزهق) ، أَي هلك وَمَات، يُقَال: زهقت نَفسه تزهق زهوقاً بِالضَّمِّ خرجت، قَالَ الْجَوْهَرِي: {وزهق الْبَاطِل} (الْإِسْرَاء: 18) . أَي: اضمحل، والزهوق بِالْفَتْح ...

. وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما دخل مَكَّة وجد بهَا ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ صنماً، فَأَشَارَ إِلَى كل صنم بِعصاً. وَقَالَ: {جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل إِن الْبَاطِل كَانَ زهوقا} (الْإِسْرَاء: 18) . وَكَانَ لَا يُشِير إِلَى صنم إلاَّ سقط من غير أَن يمسهُ بعصاه، وروى أَحْمد من حَدِيث جَابر، قَالَ: كَانَ فِي الْكَعْبَة صور فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يمحوها، فَبل عمر ثوبا ومحاها بِهِ، فَدَخلَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا فِيهَا شَيْء. انْتهى. وطعْنُه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَصْنَام عَلامَة أَنَّهَا لَا تدفع عَن نَفسهَا، فَكيف تكون آلِهَة؟
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الطَّبَرِيّ: فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود جَوَاز كسر آلَات الْبَاطِل وَمَا لَا يصلح إلاَّ فِي الْمعْصِيَة حَتَّى تَزُول هيئتها وَينْتَفع برضاضها، وَقَالَ ابْن بطال: آلَات اللَّهْو كالطنابير والعيدان والصلبان والأنصاب، تكسر حَتَّى تغير عَن هيئتها إِلَى خلَافهَا، وَيُقَال: وكل مَا لَا معنى لَهَا إلاَّ التلهي بهَا عَن ذكر الله تَعَالَى، والشغل بهَا عَمَّا يُحِبهُ الله إِلَى مَا يسخطه، يجب أَن يُغير عَن هَيئته الْمَكْرُوهَة إِلَى خلَافهَا من الهيئات الَّتِي يَزُول مَعهَا الْمَعْنى الْمَكْرُوه، وَذَلِكَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كسر الْأَصْنَام والجوهر الَّذِي فِيهَا، وَلَا شكّ أَنه يصلح إِذا غير عَن الْهَيْئَة الْمَكْرُوهَة وَينْتَفع بِهِ بعد الْكسر، وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف كسر آلَات الملاهي، وروى سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: كَانَ أَصْحَاب عبد الله يستقبلون الْجَوَارِي مَعَهُنَّ الدفوف فيخرقونها، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: فِي معنى الْأَصْنَام الْقُبُور المتخذة من الْمدر والخشب وشبههما، وكل مَا يَتَّخِذهُ

(13/32)


النَّاس فِيمَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ إِلَّا للتلهي الْمنْهِي عَنهُ، فَلَا يجوز بيع شَيْء مِنْهُ إلاَّ الْأَصْنَام الَّتِي تكون من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والرصاص إِذا غيرت مِمَّا هِيَ عَلَيْهِ وَصَارَت نقراً أَو قطعا فَيجوز بيعهَا وَالشِّرَاء بهَا.

9742 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِر قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ عِياضٍ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ القَاسِمِ عنْ أبيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّها كانَتِ اتَّخَذعتْ علَى سَهْوَةٍ لَها سِتْراً فِيهِ تَماثيلُ فَهَتَكَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاتَّخَذَتْ مِنْهُ نُمْرُقَتَيْنِ فَكانَتَا فِي الْبَيْتِ يَجْلِسُ عَلَيْهِمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فهتكه) ، أَي: فهتك السّتْر، أَي: شقَّه، وَهَذَا يدْخل فِي قَوْله: فَإِن كسر صنماً، لِأَن التماثيل الَّتِي هِيَ الصُّور كَانَت تعبد كَمَا كَانَ الصَّنَم يعبد.
وَعبيد الله هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، وَالقَاسِم هُوَ مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَوجه إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي الْمَظَالِم هُوَ: أَن هتك السّتْر الَّذِي فِيهِ التماثيل من إِزَالَة الظُّلم، لِأَن الظُّلم وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذ التماثيل والصور، وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه. فَافْهَم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سهوة) ، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء، وَهِي الصّفة الَّتِي تكون بَين يَدي الْبيُوت، وَقيل: هِيَ بَيت صَغِير منحدر فِي الأَرْض. وَقيل: هِيَ الرف أَو الطاق الَّذِي يوضع فِيهِ الشَّيْء، وَقيل: هِيَ الطاق فِي وسط الْبَيْت، وَقيل: هِيَ بَيت صَغِير سمكه مُرْتَفع عَن الأَرْض يشبه الخزانة الصَّغِيرَة يكون فِيهِ الْمَتَاع. قَوْله: (تماثيل) ، جمع تِمْثَال، وَهُوَ مَا يصنع ويصور مشبهاً بِخلق الله تَعَالَى من ذَوَات الرّوح، وَفِي (الْمغرب) : الصُّورَة عَام وَيشْهد لَهُ مَا ذكر فِي الأَصْل أَنه صلى وَعَلِيهِ ثوب وَفِيه تماثيل، كره لَهُ. قَالَ: وَإِذا قطع رَأسهَا فَلَيْسَتْ بتمثال، ثمَّ ذكر حَدِيث الْبَاب، وَقَالَ: من ظن أَن الصُّورَة الْمنْهِي عَنْهَا مَا لَهُ شخص دون مَا كَانَ منسوجاً أَو مَنْقُوشًا فِي ثوب أَو جِدَار، فَهَذَا الحَدِيث يكذب ظَنّه. وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ تماثيل أَو تصاوير) . كَأَنَّهُ شكّ من الرَّاوِي، وَأما قَوْلهم: وَيكرهُ التصاوير والتماثيل، فالعطف للْبَيَان. قَوْله: (فهتكه) ، أَي: شقَّه، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَفِي حَوَاشِي (الْمغرب) : هتك السّتْر تخريقه. قَوْله: (نمرقتين) ، تَثْنِيَة نمرقة، بِضَم النُّون وَالرَّاء وَكسرهَا وَضم النُّون وَفتح الرَّاء: وَهِي وسَادَة صَغِيرَة، وَقد تطلق على الطنفسة، كَذَا فسره الْكرْمَانِي. وَقَوله: (فكانتا فِي الْبَيْت يجلس عَلَيْهِمَا) يُنَافِي ذَلِك تَفْسِيره بالوسادة.

33 - (بابُ مَنْ قاتَلَ دُونَ مالِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من قَاتل دون مَاله، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: عِنْد مَاله. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: دون فِي أَصْلهَا ظرف مَكَان بِمَعْنى تَحت، وَيسْتَعْمل للسَّبَبِيَّة على الْمجَاز، وَوَجهه أَن الَّذِي يُقَاتل على مَاله إِنَّمَا يَجعله خَلفه أَو تَحْتَهُ، ثمَّ يُقَاتل عَلَيْهِ، وَفِي (الصِّحَاح) : دون نقيض فَوق، وَهُوَ تَقْصِير عَن الْغَايَة، وَيكون ظرفا، وَجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره: من قَاتل دون مَاله فَمَاذَا حكمه؟ وَيجوز إِن يكون تَقْدِيره: من قَاتل دون مَاله فَقتل فَهُوَ شَهِيد، وَلم يذكرهُ اكْتِفَاء بِمَا فِي حَدِيث الْبَاب، على عَادَته فِي مثل ذَلِك.

0842 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثنا سَعِيدٌ هُوَ ابنُ أبِي أيُّوبَ قَالَ حدَّثني أَبُو الأسْوَدِ عنْ عِكْرِمَةَ عنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍ وَرَضي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ منْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهْوَ شَهِيدٌ.
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَن الْمُقَاتلَة لَا تَسْتَلْزِم الْقَتْل، وَالشَّهَادَة مرتبَة على الْقَتْل. قلت: قد ذكرت الْآن أَن تَقْدِير التَّرْجَمَة: من قَاتل دون مَاله فَقتل، فَمَاذَا حكمه؟ فَالْجَوَاب: إِنَّه شَهِيد. وَاقْتصر فِي الحَدِيث على لفظ: قتل، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم الْمُقَاتلَة، وَبِهَذَا تتضح الْمُطَابقَة. وَقيل أَيْضا: مَا وَجه إِدْخَال هَذَا الحَدِيث فِي هَذِه الْأَبْوَاب؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ يدل أَن للْإنْسَان أَن يدْفع من قصد مَاله ظلما، فَإِذا قتل صَار شَهِيدا، وَهَذَا النَّوْع دَاخل فِي الْمَظَالِم لِأَن فِيهِ دفع الظُّلم. فَافْهَم.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن يزِيد من الزِّيَادَة الْقرشِي الْعَدوي أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمقري الْقصير مولى آل عمر بن الْخطاب

(13/33)


رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الثَّانِي: سعيد بن أبي أَيُّوب، واسْمه مِقْلَاص الْخُزَاعِيّ، مَوْلَاهُم أَبُو يحيى، وَقد مر فِي التَّهَجُّد. الثَّالِث: أَبُو الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن يَتِيم عُرْوَة، مر فِي الْغسْل. الرَّابِع: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس: عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه سكن مَكَّة وَأَصله من نَاحيَة الْبَصْرَة. وَقيل: من نَاحيَة الأهواز، وَأَن سعيد ابْن أبي أَيُّوب مصري. وَأَن أَبَا الْأسود وَعِكْرِمَة مدنيان. وَفِيه: عَن عِكْرِمَة عَن عبد الله، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن أبي الْأسود أَن عِكْرِمَة أخبرهُ، وَلَيْسَ لعكرمة عَن عبد الله بن عَمْرو فِي البُخَارِيّ غير هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد.
ذكر الِاخْتِلَاف فِي متن هَذَا الحَدِيث: روى البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث عَن الْمقري، فَقَالَ: فَهُوَ شَهِيد، ودحيم وَابْن أبي عمر وَعبد الْعَزِيز بن سَلام كلهم رَوَوْهُ عَن الْمقري، فَقَالُوا: فَلهُ الْجنَّة، وَكلهمْ قَالُوا: مَظْلُوما، وَلم يقلهُ البُخَارِيّ، وَالْأَشْبَه أَن يكون نَقله من حفظه أَو سَمعه من المقريء من حفظه، فجَاء فِي الحَدِيث على مَا جرى بِهِ اللَّفْظ فِي هَذَا الْبَاب، وَمن جَاءَ بِهِ على غير مَا اُعْتِيدَ من اللَّفْظ فِيهِ فَهُوَ بِالْحِفْظِ أولى، وَلَا سِيمَا فيهم مثل دُحَيْم، وَكَذَلِكَ مَا زادوه من قَوْله: مَظْلُوما، فَإِن الْمَعْنى لَا يجوز إلاَّ أَن يكون كَذَلِك، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) : عَن مُحَمَّد بن أَحْمد عَن بشر بن مُوسَى عَن عبد الله بن يزِيد الْمقري بِلَفْظ: من قتل دون مَاله مَظْلُوما، وروى مُسلم هَذَا الحَدِيث وَفِيه قصَّة من حَدِيث سُلَيْمَان الْأَحول: أَن ثَابتا مولى عمر بن عبد الرَّحْمَن أخبرهُ أَنه: لما كَانَ بَين عبد الله بن عَمْرو وَبَين عَنْبَسَة بن أبي سُفْيَان مَا كَانَ تيسروا لِلْقِتَالِ، فَركب خَالِد بن الْعَاصِ إِلَى عبد الله بن عَمْرو فوعظه خَالِد، فَقَالَ عبد الله بن عَمْرو: أما علمت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد؟ قَوْله: تيسروا. أَي: تأهبوا وتهيأوا. وَأخرجه النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد البُخَارِيّ: أَخْبرنِي عبيد الله بن فضَالة بن إِبْرَاهِيم، قَالَ: أخبرنَا عبد الله، وَهُوَ ابْن يزِيد الْمقري، قَالَ: حَدثنَا سعيد، قَالَ: حَدثنِي أَبُو الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن عِكْرِمَة عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من قتل دون مَاله مَظْلُوما فَلهُ الْجنَّة، وَله، فِي رِوَايَة من طَرِيق آخر عَن عِكْرِمَة عَن عبد الله بن عَمْرو، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد، وَهَذَا مَتنه قبل متن حَدِيث البُخَارِيّ، وَإِسْنَاده مُخْتَلف. وَله فِي رِوَايَة أُخْرَى من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة: أَنه سمع عبد الله بن عَمْرو يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: من أُرِيد مَاله بِغَيْر حق فقاتل فَقتل فَهُوَ شَهِيد. وَقَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان، قَالَ: حَدثنَا مُعَاوِيَة بن هِشَام، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن عبد الله بن الْحسن عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن طَلْحَة عَن عبد الله بن عَمْرو، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد. قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن: هَذَا خطأ وَالصَّوَاب الَّذِي قبله. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة عَن عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد.
ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَجَابِر، ثمَّ روى عَن عبد بن حميد عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد حَدثنَا أبي عَن أَبِيه عَن أبي عُبَيْدَة بن مُحَمَّد بن عمار بن يَاسر عَن طَلْحَة بن عبيد الله بن عَوْف عَن سعيد بن زيد، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد، وَمن قتل دون دَمه فَهُوَ شَهِيد، وَمن قتل دون دينه فَهُوَ شَهِيد. وَمن قتل دون أَهله فَهُوَ شَهِيد ثمَّ قَالَ: هَذَا حسن صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَسليمَان بن دَاوُد الْهَاشِمِي، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة سُفْيَان وَابْن إِسْحَاق وإبن مَاجَه من رِوَايَة سُفْيَان فَقَط، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِذكر المَال فَقَط. وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث زيد بن عَليّ بن حُسَيْن عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد. قَالَ شَيخنَا: أوردهُ أَحْمد هَكَذَا فِي مُسْند عَليّ، وَهُوَ يدل على أَن المُرَاد بقوله عَن جده، عَليّ بن حُسَيْن، فعلى هَذَا يكون مُنْقَطِعًا. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أُرِيد مَاله ظلما فَقتل فَهُوَ شَهِيد. وَأما حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من حَدِيث مَيْمُون بن مهْرَان عَن ابْن عمر: من أُتِي عِنْد مَاله فقاتل فقوتل فَهُوَ شَهِيد، وَله

(13/34)


طَرِيق آخر رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي فِي (المعجم) من رِوَايَة أبي قلَابَة عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فَأخْرجهُ ...

. وَأما حَدِيث جَابر فَأخْرجهُ أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) من رِوَايَة مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد.
قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن: سعد بن أبي وَقاص وَعبد الله بن مَسْعُود وَبُرَيْدَة بن الْحصيب وسُويد بن مقرن وَأنس بن مَالك وَعبد الله بن الزبير وَعبد الله بن عَامر بن كريز وفهر بن مطرف ومخارق بن سليم. وَأما حَدِيث سعد فَأخْرجهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من حَدِيث عُبَيْدَة بنت نائل عَن عَائِشَة بنت سعد عَن أَبِيهَا، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد) . وَأما حَدِيث عبد الله بن مَسْعُود فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة أبي وَائِل عَن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قتل دون مظْلمَة فَهُوَ شَهِيد) ، وَرَوَاهُ الْبَزَّار من رِوَايَة أبي وَائِل عَنهُ، وَلَفظه: (من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد) . وَأما حَدِيث بُرَيْدَة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث سُلَيْمَان بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد) . وَأما حَدِيث سُوَيْد بن مقرن فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة سوَادَة بن أبي الْجَعْد عَن أبي جَعْفَر، قَالَ: كنت جَالِسا عِنْد سُوَيْد بن مقرن، فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قتل دون مظلمته فَهُوَ شَهِيد) . وَأما حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: الْمَقْتُول دون مَاله شَهِيد. وَأما حَدِيث عبد الله بن الزبير وَعبد الله بن عَامر فأخرجهما الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة حَنْظَلَة بن قيس عَن عبد الله بن الزبير وَعبد الله بن عَامر بن كريز: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من قتل أَو قَالَ: مَاتَ دون مَاله فَهُوَ شَهِيد. وَأما حَدِيث نهير بن مطرف فَأخْرجهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الْمطلب عَن أَخِيه عَن أَبِيه فهيد بن مطرف: أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله! أَرَأَيْت إِن عدا عَليّ عادٍ؟ قَالَ: تَأمره وتنهاه، قَالَ: فَإِن أَبى، تَأمر بقتاله؟ قَالَ: نعم، فَإِن قَتلك فَأَنت فِي الْجنَّة، وَإِن قتلته فَهُوَ فِي النَّار. وَأما حَدِيث مُخَارق بن سليم فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث قَابُوس بن مُخَارق عَن أَبِيه، قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: الرجل يأتيني فيريد مَالِي؟ قَالَ: ذكِّره بِاللَّه. قَالَ: فَإِن لم يذكر؟ قَالَ: فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِمن حولك من الْمُسلمين. قَالَ: فَإِن لم يكن حَولي أحد من الْمُسلمين؟ قَالَ: فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بالسلطان، قَالَ: فَإِن نأى السُّلْطَان عني؟ قَالَ: قَاتل دون مَالك حَتَّى تكون من شُهَدَاء الْآخِرَة، أَو تمنع مَالك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز قتل القاصد لأخد المَال بِغَيْر حق، سَوَاء كَانَ المَال قَلِيلا أَو كثيرا، لعُمُوم الحَدِيث، وَهَذَا قَول جَمَاهِير الْعلمَاء. وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك: لَا يجوز قَتله إِذا طلب شَيْئا يَسِيرا: كَالثَّوْبِ وَالطَّعَام، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَالصَّوَاب مَا قَالَه الجماهير. وَأما المدافعة عَن الْحَرِيم فواجبة بِلَا خلاف، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِي المدافعة عَن النَّفس بِالْقَتْلِ خلاف فِي مَذْهَبنَا وَمذهب غَيرنَا، والمدافعة عَن المَال جَائِزَة غير وَاجِبَة. وَفِيه: أَن القاصد إِذا قتل لَا دِيَة لَهُ وَلَا قصاص. وَفِيه: أَن الدَّافِع إِذا قتل يكون شَهِيدا. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد رخص بعض أهل الْعلم للرجل أَن يُقَاتل عَن نَفسه وَمَاله. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: يُقَاتل وَلَو دِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ الْمُهلب: وَكَذَلِكَ فِي كل من قَاتل على مَا يحل لَهُ الْقِتَال عَلَيْهِ من أهل أَو دين فَهُوَ كمن قَاتل دون نَفسه وَمَاله، فَلَا دِيَة عَلَيْهِ وَلَا تبعة، وَمن أَخذ فِي ذَلِك بِالرُّخْصَةِ وَأسلم المَال والأهل وَالنَّفس فَأمره إِلَى الله تَعَالَى، وَالله يعذرهُ ويأجره، وَمن أَخذ فِي ذَلِك بالشدة وَقتل كَانَت لَهُ الشَّهَادَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن جمَاعَة من أهل الْعلم أَنهم رَأَوْا قتال اللُّصُوص ودفعهم عَن أنفسهم أَمْوَالهم، وَقد أَخذ ابْن عمر لصاً فِي دَاره، فأصلت عَلَيْهِ السَّيْف، قَالَ سَالم: فلولا أَنا لضربه بِهِ، وَقَالَ النَّخعِيّ: إِذا خفت أَن يبدأك اللص فابدأه. وَقَالَ الْحسن: إِذا طرق اللص بِالسِّلَاحِ فاقتله، وَسُئِلَ مَالك عَن الْقَوْم يكونُونَ فِي السّفر فَتَلقاهُمْ اللُّصُوص؟ قَالَ: يقاتلونهم وَلَو على دانق. وَقَالَ عبد الْملك:

(13/35)


إِن قدر أَن يمْتَنع من اللُّصُوص فَلَا يعطهم شَيْئا. وَقَالَ أَحْمد: إِذا كَانَ اللص مُقبلا، وَأما موليا فَلَا. وَعَن إِسْحَاق مثله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي رجل دخل على رجل لَيْلًا للسرقة ثمَّ خرج بِالسَّرقَةِ من الدَّار، فَاتبعهُ الرجل فَقتله: لَا شَيْء عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: من أُرِيد مَاله فِي مصر أَو فِي صحراء، أَو أُرِيد حريمه، فالاختيار لَهُ أَن يكلمهُ أَو يستغيث، فَإِن منع أَو امْتنع لم يكن لَهُ قِتَاله، فَإِن أَبى أَن يمْتَنع من قَتله من أَرَادَ قَتله، فَلهُ أَن يَدْفَعهُ عَن نَفسه وَعَن مَاله، وَلَيْسَ لَهُ عمد قَتله، فَإِذا لم يمْتَنع فقاتله فَقتله لَا عقل فِيهِ وَلَا قَود وَلَا كَفَّارَة.

43 - (بابٌ إذَا كَسَرَ قَصْعَةً أوْ شَيْئاً لِغَيْرِهِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا كسر شخص قَصْعَة، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الصَّاد: وَهِي إِنَاء من عود، وَقَالَ ابْن سَيّده: وَهِي صَحْفَة تشبع عشرَة، وَهِي وَاحِدَة القصاع والقصع. قَوْله: (أَو شَيْئا) من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، أَي: أَو كسر شَيْئا. وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يضمن الْمثل أَو الْقيمَة؟ هَكَذَا قدره بَعضهم، وَفِيه نظر، لِأَن الْقَصعَة وَنَحْوهَا لَيست من الْمِثْلِيَّات أصلا، وَلَكِن يمشي مَا قَالَه فِي قَوْله: (أَو شَيْئا) ، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون من الْمِثْلِيَّات أَو من ذَوَات الْقيم. قلت: فِي الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفع قَصْعَة صَحِيحَة عوض الْقَصعَة الَّتِي كسرتها عَائِشَة على مَا يَجِيء؟ قلت: لم يكن ذَلِك من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَبِيل الحكم على الْخصم، وَكَانَ دَفعه الْقَصعَة عوض الْمَكْسُورَة تطييباً لقلب صاحبتها، فَلَا يدل ذَلِك على أَن الْقَصعَة وَنَحْوهَا من الْمِثْلِيَّات.

1842 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسائِهِ فأرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيها طَعامٌ فضَرَبَتْ بِيَدِهَا فكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ فَضَمَّهَا وجَعَلَ فِيهَا الطعامَ وَقَالَ كُلُوا وحبَسَ الرَّسولَ والقَصَعةَ حتَّى فَرَغُوا فدَفَعَ القَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وحبَسَ الْمَكْسُورَةَ.
(الحَدِيث 1842 طرفه فِي: 5225) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَكسرت الْقَصعَة) ، وَيحيى بن سعيد الْقطَّان. قَوْله: (كَانَ عِنْد بعض نِسَائِهِ) ، وروى التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة سُفْيَان الثَّوْريّ عَن حميد عَن أنس، قَالَ: أَهْدَت بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما فِي قَصْعَة، فَضربت عَائِشَة الْقَصعَة بِيَدِهَا فَأَلْقَت مَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: طَعَام بِطَعَام وإناء بِإِنَاء، ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَأخرجه أَحْمد عَن ابْن أبي عدي وَيزِيد بن هَارُون عَن حميد بِهِ، وَقَالَ: أظنها عَائِشَة، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: إِنَّمَا أبهمت عَائِشَة تفخيماً لشأنها. قيل: إِنَّه مِمَّا لَا يخفى وَلَا يلتبس إِنَّهَا هِيَ، لِأَن الْهَدَايَا إِنَّمَا كَانَت تهدى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيتهَا، ورد بِأَن هَذَا مُجَرّد دَعْوَى يحْتَاج إِلَى الْبَيَان. وَقَالَ شَيخنَا: لم يَقع فِي رِوَايَة أحد من البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه تَسْمِيَة زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الَّتِي أَهْدَت لَهُ الطَّعَام، وَقد ذكر ابْن حزم من طَرِيق اللَّيْث عَن جرير بن حَازِم عَن حميد عَن أنس: أَن الَّتِي أهدته إِلَيْهِ زَيْنَب بنت جحش، أَهْدَت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي بَيت عَائِشَة ويومها جَفْنَة من حيس، فَقَامَتْ عَائِشَة فَأخذت الْقَصعَة فَضربت بهَا فكسرتها، فَقَامَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى قَصْعَة لَهَا فَدَفعهَا إِلَى رَسُول زَيْنَب، فَقَالَ: هَذِه مَكَان صحفتها. وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة جسرة بنت دجَاجَة عَن عَائِشَة، قَالَت: مَا رَأَيْت صانعاً طَعَاما مثل صَفِيَّة، صنعت لرَسُول الله طَعَاما فَبعثت بِهِ، فأخذني أفكل، يَعْنِي: رعدة، فَكسرت الْإِنَاء، فَقلت: يَا رَسُول الله! مَا كَفَّارَة مَا صنعت؟ قَالَ: إِنَاء مثل إِنَاء وَطَعَام مثل طَعَام. قَالَ الْخطابِيّ: فِي إِسْنَاده مقَال، وَقَالَ الشَّيْخ: يحْتَمل أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ وَقعت لعَائِشَة مرّة مَعَ زَيْنَب وَمرَّة مَعَ صَفِيَّة، فَلَا مَانع من ذَلِك، فَإِن كَانَ ذَلِك وَاقعَة وَاحِدَة رَجعْنَا إِلَى التَّرْجِيح، وَحَدِيث أنس أصح. وَفِي بعض طرقه زَيْنَب، وَالله أعلم. وَذكر أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي الْحَوَاشِي: أَن مُرْسلَة الْقَصعَة أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وروى النَّسَائِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أبي المتَوَكل عَن أم سَلمَة، أَنَّهَا أَتَت بِطَعَام فِي صَحْفَة إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه، فَجَاءَت عَائِشَة متزرة بكساء وَمَعَهَا فهر، ففلقت الصحفة ... الحَدِيث، وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني من طَرِيق عبيد الله الْعمريّ

(13/36)


عَن ثَابت عَن أنس أَنهم كَانُوا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيت عَائِشَة إِذْ أَتَى بصحفة خبز وَلحم من بَيت أم سَلمَة، فَوَضَعْنَا أَيْدِينَا وَعَائِشَة تصنع طَعَاما عجلة، فَلَمَّا فَرغْنَا جَاءَت بِهِ وَرفعت صَحْفَة أم سَلمَة فكسرتها. وروى ابْن أبي شيبَة وَابْن مَاجَه، من طَرِيق رجل من بني سواءة غير مُسَمّى عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَصْحَابه فصنعت لَهُ طَعَاما، وصنعت لَهُ حَفْصَة طَعَاما، فسبقتني، فَقلت لِلْجَارِيَةِ: إنطلقي فأكفئي قصعتها. فألقتها. فَانْكَسَرت وانتثر الطَّعَام، فَجَمعه على النطع، فَأَكَلُوا ثمَّ بعث بقصعتي إِلَى حَفْصَة، فَقَالَ: خُذُوا ظرفا مَكَان ظرفكم، وَالظَّاهِر أَنَّهَا قصَّة أُخْرَى، لِأَن فِي هَذِه الْقِصَّة: أَن الْجَارِيَة هِيَ الَّتِي كسرت، وَفِي الَّذِي تقدم أَن عَائِشَة نَفسهَا هِيَ الَّتِي كسرتها، قَوْله: (فَأرْسلت إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ) ، قد تقدم من الْأَحَادِيث أَن الَّتِي أرْسلت دَائِرَة بَين عَائِشَة وَزَيْنَب بنت جحش وَصفِيَّة وَأم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُن، فَإِن كَانَت الْقِصَّة مُتعَدِّدَة فَلَا كَلَام فِيهَا، وإلاَّ فَالْعَمَل بالترجيح، كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (مَعَ خَادِم) ، يُطلق الْخَادِم على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَهنا المُرَاد: الْأُنْثَى، بِدَلِيل تَأْنِيث الضَّمِير فِي قَوْله: (فَضربت بِيَدِهَا فَكسرت الْقَصعَة) . وَذكر هُنَا الْقَصعَة، وَفِي غَيره ذكر الْجَفْنَة والصحفة، كَمَا مر، قَوْله: (فِيهَا طَعَام) ، قد ذكر فِي حَدِيث زَيْنَب: أَنه حيس، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة. وَهُوَ الطَّعَام الْمُتَّخذ من التَّمْر والأقط وَالسمن، وَقد يَجْعَل عوض الأقط: الدَّقِيق أَو الفتيت، وَفِي حَدِيث الطَّبَرَانِيّ: خبز وَلحم. قَوْله: (فَضمهَا) ، أَي: ضم الْقَصعَة الَّتِي انْكَسَرت رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَقَالَ: كلوا) ، أَي: قَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه الَّذين كَانُوا مَعَه. قَوْله: (وَحبس الرَّسُول) ، أَي: أوقف الْخَادِم الَّذِي هُوَ رَسُول إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (والقصعة) ، أَي: حبس الْقَصعَة الْمَكْسُورَة أَيْضا عِنْده. قَوْله: (حَتَّى فرغوا) أَي: حَتَّى فرغت الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا مَعَه من الْأكل. قَوْله: (فَدفع) ، أَي: أَمر بإحضار قَصْعَة صَحِيحَة من عِنْد الَّتِي هُوَ فِي بَيتهَا فَدَفعهَا إِلَى الرَّسُول وَحبس الْقَصعَة الْمَكْسُورَة عِنْده، وَرَأَيْت فِي بعض الْمَوَاضِع فِي أثْنَاء مطالعتي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ الْقَصعَة الْمَكْسُورَة. وَكَانَت قطعا، فاستوت صَحِيحَة فِي كَفه الْمُبَارك كَمَا كَانَت أَولا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن التِّين: احْتج بِهَذَا الحَدِيث من قَالَ: يقْضِي فِي الْعرُوض بالأمثال، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَرِوَايَة عَن مَالك، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: كل مَا صنع الآدميون غرم مثله كَالثَّوْبِ وَبِنَاء الْحَائِط وَنَحْو ذَلِك، وَلَك مَا كَانَ من صنع الله عز وَجل مثل العَبْد وَالدَّابَّة فَفِيهِ الْقيمَة، وَالْمَشْهُور من مذْهبه أَن كل مَا كَانَ لَيْسَ بمكيل وَلَا مَوْزُون فَفِيهِ الْقيمَة، وَمَا كَانَ مَكِيلًا أَو مَوْزُونا، فَيقْضى بِمثلِهِ يَوْم استهلاكه. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فَإِن قيل: الصحفة من ذَوَات الْقيم، فَكيف غرمها؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الظَّاهِر مَا يحويه بَيته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه ملكه فَنقل من ملكه إِلَى ملكه لَا على وَجه الغرامة بِالْقيمَةِ. الثَّانِي: أَن أَخذ الْقَصعَة من بَيت الكاسرة عُقُوبَة، والعقوبة بالأموال مَشْرُوعَة، وَلما اسْتدلَّ ابْن حزم بِحَدِيث الْقَصعَة، قَالَ: هَذَا قَضَاء بِالْمثلِ لَا بِالدَّرَاهِمِ. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَابْن مَسْعُود أَنَّهُمَا قضيا فِيمَن اسْتهْلك فصلاناً بفصلان مثلهَا، وَشبهه دَاوُد بجزاء الصَّيْد فِي العَبْد العَبْد، وَفِي العصفور العصفور. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَن اسْتهْلك عرُوضا أَو حَيَوَانا، فَذهب الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَجَمَاعَة: إِلَى أَن عَلَيْهِ مثل مَا اسْتهْلك، قَالُوا: وَلَا يقْضِي بِالْقيمَةِ إلاَّ عِنْد عدم الْمثل، وَذهب مَالك: إِلَى أَن من اسْتهْلك شَيْئا من الْعرُوض أَو الْحَيَوَان فَعَلَيهِ قِيمَته يَوْم استهلاكه، وَالْقيمَة أعدل فِي ذَلِك، ثمَّ قَالَ: وَاتفقَ مَالك والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، فِيمَن اسْتهْلك ذَهَبا أَو وَرقا أَو طَعَاما مَكِيلًا أَو مَوْزُونا أَن عَلَيْهِ مثل مَا اسْتهْلك فِي صفته ووزنه وَكيله. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة أَن كل مَا كَانَ مثلِيا إِذا اسْتَهْلكهُ شخص يجب عَلَيْهِ مثله، وَإِن كَانَ من ذَوَات الْقيم يجب عَلَيْهِ قِيمَته، والمثلي كالمكيل مثل الْحِنْطَة وَالشعِير، وَالْمَوْزُون كالدراهم وَالدَّنَانِير، وَلَكِن بِشَرْط أَن لَا يكون الْمَوْزُون مِمَّا يضر بالتبعيض، يَعْنِي: غير المصوغ مِنْهُ، فَهُوَ يلْحق بذوات الْقيم، وَغير الْمثْلِيّ كالعدديات المتفاوتة كالبطيخ وَالرُّمَّان والسفرجل وَالثيَاب وَالدَّوَاب، والعددي المتقارب كالجوز وَالْبيض والفلوس كالمكيل. وَالْجَوَاب عَن حَدِيث الْبَاب مَا قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ الْمَذْكُور آنِفا، وَقد ذكرنَا فِي أول الْبَاب مَا يَكْفِي عَن الْجَواب عَن الحَدِيث. وَفِيه: بسط عذر الْمَرْأَة فِي حَالَة الْغيرَة، لِأَنَّهُ لم ينْقل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاتب عَائِشَة على ذَلِك، فَإِنَّمَا قَالَ: (غارت أمكُم) ، وَيُقَال: إِنَّمَا لم يؤدبها، وَلَو بالْكلَام، لِأَنَّهُ فهم أَن المهدية كَانَت

(13/37)


أَرَادَت بإرسالها ذَلِك إِلَى بَيت عَائِشَة أذاها، والمظاهرة عَلَيْهَا، فَلَمَّا كسرتها لم يزدْ على أَن قَالَ: (غارت أمكُم وَجمع الطَّعَام بِيَدِهِ وَقَالَ: قَصْعَة بقصعة وَأما طَعَام بِطَعَام) ، لِأَنَّهُ كَانَ يعلم بإتلافه قبُول لَهُ أَو فِي حكمه، وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر: وَلم يغرم الطَّعَام لِأَنَّهُ كَانَ مهْدي، فإتلافه قبُوله لَهُ، أَو فِي حكم الْقبُول، قيل: فِيهِ نظر لِأَن الطَّعَام لم يتْلف فَإِنَّهُ دعى بقصعة فَوَضعه فِيهَا، وَقَالَ: (كلوا غارت أمكُم) . وَأجِيب: بِأَن هَذَا الطَّعَام إِن كَانَ هَدِيَّة فيستدعى أَن يكون ملكا للمهدي فَلَا غَرَامَة، وَإِن كَانَ ملكا للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِاعْتِبَار أَن مَا كَانَ فِي بيُوت أَزوَاجه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهُوَ ملك لَهُ فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ الغرامة. وَقَالَ ابنُ أبي مَرْيَمَ قَالَ أخبَرَنَا يَحْيَى بنُ أيُّوبَ قَالَ حدَّثنا حُمَيْدٌ قَالَ حدَّثنا أنَسٌ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ابْن أبي مَرْيَم اسْمه سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم، وَهُوَ أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، وَأَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام بَيَان التَّصْرِيح بتحديث أنس لحميد.

53 - (بابٌ إذَا هَدَمَ حائِطاً فَلْيَبْنِ مِثْلَهُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا هدم شخص حَائِط شخص فليبن مثله وَهَذَا بِعَيْنِه، مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر، فَإِنَّهُم قَالُوا: إِذا هدم رجل حَائِطا لآخر فَإِنَّهُ يَبْنِي لَهُ مثله، فَإِن تَعَذَّرَتْ الْمُمَاثلَة رَجَعَ إِلَى الْقيمَة، وَفِي فَتَاوَى الظَّهِيرِيَّة ذكر الإِمَام مُحَمَّد بن الْفضل: إِذا هدم رجل حَائِط إِنْسَان إِن كَانَ من خشب ضمن الْقيمَة، وَإِن كَانَ من طين وَكَانَ عتيقاً قَدِيما فَكَذَلِك، وَإِن كَانَ حَدِيثا جَدِيدا أَمر بإعادته.

2842 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ هُوَ بنُ حازِمٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ رجُلٌ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ يُقالُ لَهُ جُرَيْجٍ يُصَلِّي فَجاءَتْهُ أُمُّهُ فدَعَتْهُ فَأبى أنْ يُجِيبَهَا فَقَالَ أُجِيبُها أوْ أُصَلِّي ثُمَّ أتَتْهُ فقالَتْ أللَّهُمَّ لاَ تُمِتْهُ حتَّى تُرِيهِ الْمُومِساتِ وكانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ فقالَتْ امْرَأةٌ لَأَفْتِنَنَّ جُرَيْجاً فتَعَرَّضَتْ لَهُ فكَلَّمَتْهُ فأبَى فأتَتْ راعِياً فأمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِها فوَلَدَتْ غُلاماً فقالَتْ هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ فأتَوْهُ وكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ فأنْزَلُوهُ وسَبُّوهُ فتَوَضَّأَ وصَلَّى ثُمَّ أتَى الغُلاَمَ فقالَ مَنْ أبُوكَ يَا غُلامُ قَالَ الرَّاعِي قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ لاَ إلاَّ مِنْ طِينٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نَبْنِي صومعتك من ذهب، قَالَ: لَا، إلاَّ من طين) . لِأَنَّهُ كَانَ من طين، وَلم يرض إلاَّ أَن يكون مثله.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، مطولا. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن يزِيد بن هَارُون عَن جرير بن حَازِم.
قَوْله: (جريج) ، بِضَم الْجِيم الأولى: الراهب. قَوْله: (يُصَلِّي) ، خبر: كَانَ. قَوْله: (أَو أُصَلِّي؟) كلمة: أَو، هُنَا للتَّخْيِير. قَوْله: (لَا تمته) بِضَم التَّاء: من الإماتة. قَوْله: (حَتَّى تريه) ، بِضَم التَّاء: من الإراءة. قَوْله: (المومسات) ، أَي: الزواني، وَهُوَ جمع مومسة، وَهِي الْفَاجِرَة وَيجمع على: مياميس أَيْضا وموامس، وَأَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: مياميس، وَلَا يَصح إلاَّ على إشباع الكسرة لتصير: يَاء، كمطفل ومطافل ومطافيل، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَمِنْه حَدِيث أبي وَائِل: أَكثر تبع الدَّجَّال أَوْلَاد المياميس، وَفِي رِوَايَة: أَوْلَاد الموامس، وَقد اخْتلف فِي أصل هَذِه اللَّفْظَة، فبعضهم يَجعله من الْهمزَة، وَبَعْضهمْ يَجعله من الْوَاو، وكل مِنْهُمَا تكلّف لَهُ اشتقاقاً فِيهِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: المومسة الْفَاجِرَة وَلم يذكر شَيْئا غير ذَلِك، وَفِي الْمطَالع المياميس والمومسات: المجاهرات بِالْفُجُورِ، الْوَاحِدَة: مومسة، وبالياء الْمَفْتُوحَة روينَاهُ عَن جَمِيعهم، وَكَذَلِكَ ذكره أَصْحَاب الْعَرَبيَّة فِي

(13/38)


الْوَاو وَالْمِيم وَالسِّين، وَرَوَاهُ ابْن الْوَلِيد عَن ابْن السماك: المآميس، بِالْهَمْز، فَإِن صَحَّ الْهَمْز فَهُوَ من: مَاس الرجل، إِذا لم يلْتَفت إِلَى موعظة، ومأس مَا بَين يَدي الْقَوْم: أفسد، وَهَذَا بِمَعْنى المجاهرة والاستهتار، وَيكون وَزنه على هَذَا: فعاليل. قَوْله: (فِي صومعته)

. قَوْله: (فكلمته) ، أَي: فِي ترغيبه فِي مباشرتها. قَوْله: (فَولدت) ، فِيهِ حذف كثير تَقْدِيره: فأمكنته من نَفسهَا، يَعْنِي: زنى بهَا فحبلت ثمَّ ولدت غُلَاما، فَقَالَت: أَي الْمَرْأَة، هُوَ، أَي: الْغُلَام، من جريج. قَوْله: (ثمَّ أَتَى الْغُلَام) ، بِالنّصب أَي: الطِّفْل الَّذِي فِي المهد قبل زمَان تكَلمه. قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: قَالَ جريج: لَا تبنوها إلاَّ من طين، وَقَالَ ابْن مَالك: فِيهِ شَاهد على حذف المجزوم: بِلَا، كَمَا قدرناه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الِاحْتِجَاج بِأَن شرع من قبلنَا شرع لنا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاحْتج البُخَارِيّ بِهِ على التَّرْجَمَة بِنَاء على أَن شرع من قبلنَا شرع لنا، وَفِيه نظر، لِأَن شرعنا أوجب الْمثل فِي الْمِثْلِيَّات، والحائط مُتَقَوّم لَا مثلي. انْتهى. قلت: شرع من قبلنَا يلْزمنَا مَا لم يقص الله علينا بالإنكار، وَقد قُلْنَا: إِن الْحَائِط إِذا كَانَ من خشب يكون من ذَوَات الْقيم، وَإِن كَانَ من الطين وَالْحجر يبْنى بِأَن يُعَاد مثله. وَفِيه: أَن الطِّفْل يدعى غُلَاما وَفِيه: أَنه أحد من تكلم فِي المهد، وَقَالَ الضَّحَّاك: تكلم فِي المهد سِتَّة: شَاهد يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَابْن ماشطة فِرْعَوْن، وَعِيسَى، وَيحيى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَصَاحب جريج، وَصَاحب الْأُخْدُود. وَفِيه: الْمُطَالبَة، كَمَا طالبت بَنو إِسْرَائِيل جريجاً بِمَا ادَّعَتْهُ الْمَرْأَة عَلَيْهِ، وأصل هَذِه الْمُطَالبَة أَن أهل تِلْكَ الْبَلدة كَانُوا يعظمون أَمر الزِّنَا، فَظهر أَمر تِلْكَ الْمَرْأَة فِي الْبَلَد، فَلَمَّا وضعت حملهَا أخبر الْملك أَن امْرَأَة قد ولدت من الزِّنَا، فَدَعَاهَا فَقَالَ لَهَا: من أَيْن لَك هَذَا الْوَلَد؟ قَالَت: من جريج الراهب، قد واقعني. فَبعث الْملك أعوانه إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَنَادَوْهُ فَلم يجبهم حَتَّى جاؤا إِلَيْهِ بالمرو والمساحي وهدموا صومعته وَجعلُوا فِي عُنُقه حبلاً وجاؤا بِهِ إِلَى الْملك، فَقَالَ لَهُ الْملك: إِنَّك قد جعلت نَفسك عابداً ثمَّ تهتك حَرِيم النَّاس وتتعاطى مَا لَا يحل لَهُ؟ قَالَ: أَي شَيْء فعلت؟ قَالَ: إِنَّك زَنَيْت بِامْرَأَة كَذَا. فَقَالَ: لم أفعل، فَلم يصدقوه وَحلف على ذَلِك فَلم يصدقوه، فَقَالَ: فردوني إِلَى أُمِّي، فَردُّوهُ إِلَيْهَا فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّاهُ إِنَّك دَعَوْت الله عَليّ فَاسْتَجَاب الله دعاءك، فَادّعى الله أَن يكْشف عني بدعائك. فَقَالَت: أللهم إِن كَانَ جريج إِنَّمَا أَخَذته بدعوتي فاكشف عَنهُ، فَرجع جريج إِلَى الْملك، فَقَالَ: أَيْن هَذِه الْمَرْأَة؟ وَأَيْنَ هَذَا الصَّبِي؟ فجاؤا بهما، فسألوهما، فَقَالَت الْمَرْأَة: بلَى هَذَا الَّذِي فعل بِي، فَوضع جريج يَدَيْهِ على رَأس الصَّبِي، وَقَالَ: بِحَق الَّذِي خلقك أَن تُخبرنِي من أَبوك؟ فَتكلم الصَّبِي بِإِذن الله تَعَالَى، وَقَالَ: إِن أبي فلَان الرَّاعِي، فَلَمَّا سَمِعت الْمَرْأَة بذلك اعْترفت، وَقَالَت: كنت كَاذِبَة، وَإِنَّمَا فعل بِي فلَان الرَّاعِي. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَن الْمَرْأَة كَانَت حَامِلا لم تضع بعد، فَقَالَ لَهَا: أَيْن أصبتك؟ قَالَت: تَحت شَجَرَة، وَكَانَت الشَّجَرَة بِجنب صومعته، قَالَ جريج: أخرجُوا إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَة، ثمَّ قَالَ: يَا شَجَرَة {أَسأَلك بِالَّذِي خلقكك أَن تخبريني من زنى بِهَذِهِ الْمَرْأَة؟ فَقَالَ كل غُصْن مِنْهَا: راعي الْغنم، ثمَّ طعن بإصبعه فِي بَطنهَا، وَقَالَ: يَا غُلَام} من أَبوك؟ فَنَادَى من بَطنهَا: أبي راعي الْغنم، فَعِنْدَ ذَلِك اعتذر الْملك إِلَى جريج، وَقَالَ: إئذن لي أَن أبني صومعتك بِالذَّهَب؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فبالفضة؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن بالطين كَمَا كَانَ، فبنوه بالطين كَمَا كَانَ، هَكَذَا سَاق هَذِه الْقِصَّة الإِمَام أَبُو اللَّيْث السَّمرقَنْدِي فِي كتاب (تَنْبِيه الغافلين) ، وَذكر أَبُو اللَّيْث عَن يزِيد بن حَوْشَب الفِهري عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَو كَانَ جريج الراهب فَقِيها لعلم أَن إِجَابَة أمه أفضل من عبَادَة ربه) . وَفِيه: إِثْبَات الْكَرَامَة للأولياء. وَقَالَ ابْن بطال: يُمكن أَن يكون جريج نَبيا، لِأَن النُّبُوَّة كَانَت مُمكنَة فِي بني إِسْرَائِيل غير ممتنعة عَلَيْهِم، وَلَا نَبِي بعد نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَيْسَ يجْرِي من الْآيَات بعده مَا يكون خرقاً للْعَادَة وَلَا قلب الْعين، وَإِنَّمَا يكون كَرَامَة لأوليائه، مثل: دعز مجابة ورؤيا صَالِحَة وبركة ظَاهِرَة وَفضل بَين وتوفيق من الله تَعَالَى إِلَى الْإِبْرَاء مِمَّا اتهمَ بِهِ الصالحون وامتحن بِهِ المتقون. وَفِيه: أَن دُعَاء الْأُم أَو الْأَب على وَلَده، إِذا كَانَ بنية خَالِصَة، قد يُجَاب، وَإِن كَانَ فِي حَال الضجر. وَفِيه: أَيْضا خلاص الْوَلَد من بلية باتلي بهَا ببركة دُعَاء وَالِديهِ. وَفِيه: دَلِيل أَن الْوضُوء كَانَ لغير هَذِه الْأمة أَيْضا إلاَّ أَن هَذِه الْأمة قد خصت بالغرة والتحجيل خلافًا لمن خصها بِأَصْل الْوضُوء.
بِسْمِ الله الرحْمانِ الرَّحِيم

(13/39)