عمدة القاري شرح صحيح البخاري

6 - (بابٌ هَلْ يُقْرَعُ فِي الْقِسْمَةِ والاسْتِهامِ فِيه)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يقرع من الْقرعَة بِضَم الْقَاف، وَهِي مَعْرُوفَة. قَوْله: (والاستهام) أَي: أَخذ السهْم، أَي: النَّصِيب، وَلَيْسَ المُرَاد من الاستهام هُنَا الإقراع، وَإِن كَانَ مَعْنَاهُمَا فِي الأَصْل وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا معنى أَن يُقَال: هَل يقرع فِي الإقراع؟ قَوْله: (فِيهِ) قَالَ الْكرْمَانِي: الضَّمِير عَائِد إِلَى الْقسم أَو المَال الَّذِي يدل عَلَيْهَا الْقِسْمَة، وَقَالَ بَعضهم: الضَّمِير يعود إِلَى الْقسم بِدلَالَة الْقِسْمَة. قلت: كِلَاهُمَا بمعزل عَن نهج الصَّوَاب، وَلم يذكر هُنَا قسم وَلَا مَال حَتَّى يعود الضَّمِير إِلَيْهِ، بل الضَّمِير يعود إِلَى الْقِسْمَة والتذكير بِاعْتِبَار أَن الْقِسْمَة هُنَا بِمَعْنى الْقسم، وَفِي (الْمغرب) : الْقِسْمَة اسْم من الاقتسام، وَجَوَاب: هَل، مَحْذُوف تَقْدِيره: نعم يقرع، قَالَ ابْن بطال: الْقرعَة سنة لكل من أَرَادَ الْعدْل فِي الْقِسْمَة بَين الشُّرَكَاء، وَالْفُقَهَاء متفقون على القَوْل بهَا، وَخَالفهُم بعض الْكُوفِيّين، وَقَالُوا: لَا معنى لَهَا لِأَنَّهَا تشبه الأزلام الَّتِي نهى الله عَنْهَا، وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن أبي حنيفَة أَنه جوزها. وَقَالَ: هِيَ فِي الْقيَاس لَا تسقيم، وَلَكنَّا نَتْرُك الْقيَاس فِي ذَلِك للآثار وَالسّنة، وَفِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي الْإِفْك: كَانَ إِذا خرج أَقرع بَين نِسَائِهِ، وَفِي حَدِيث أم الْعَلَاء: أَن عُثْمَان بن مَظْعُون طاولهم سَهْمه فِي السُّكْنَى، حِين أقرعت الْأَنْصَار سُكْنى الْمُهَاجِرين، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء والصف الأول لاستهموا عَلَيْهِ) . وَقَالَ تَعَالَى: {فساهم فَكَانَ من المدحضين} (الصافات: 141) . وَقَالَ إِسْمَاعِيل القَاضِي: لَيْسَ فِي الْقرعَة إبِْطَال شَيْء من الْحق، وَإِذا وَجَبت الْقِسْمَة بَين الشُّرَكَاء فِي أَرض أَو دَار فَعَلَيْهِم أَن يعدلُوا ذَلِك بِالْقيمَةِ ويستهموا، وَيصير لكل وَاحِد مِنْهُم مَا وَقع لَهُ بِالْقُرْعَةِ مجتمعاً مِمَّا كَانَ لَهُ فِي الْملك مشَاعا، فَيصير فِي مَوضِع بِعَيْنِه، وَيكون ذَلِك بِالْعِوَضِ الَّذِي صَار لشَرِيكه. وَإِنَّمَا منعت الْقرعَة أَن يخْتَار كل وَاحِد مِنْهُم موضعا بِعَيْنِه.

3942 - حدَّثنا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثني زَكَرِيَّاءُ قَالَ سَمِعْتُ عامِراً يقُولُ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بنَ بَشِيرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَثَلُ القائِمِ عَلَى حُدُودِ الله والْوَاقِعِ فِيها كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفينَةٍ فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاهَا وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها فكانَ الَّذِينَ فِي أسْفَلِها إذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا علَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقاً ولَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنا فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أرَادُوا هلَكُوا جَميعاً وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعاً.
(الحَدِيث 3942 طرفه فِي: 6862) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (استهموا على سفينة) . وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن الْأَحول الْكُوفِي، وزكرياء هُوَ ابْن زَائِدَة الْهَمدَانِي الْكُوفِي الْأَعْمَى، وعامر هُوَ الشّعبِيّ، والنعمان بن بشير، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْأنْصَارِيّ، مر فِي كتاب الْإِيمَان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشَّهَادَات عَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش عَن الشّعبِيّ بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْفِتَن عَن أَحْمد بن منيع عَن أبي مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
قَوْله: (مثل الْقَائِم على حُدُود الله تَعَالَى) أَي: الْمُسْتَقيم على مَا منع الله تَعَالَى من مجاوزتها، وَيُقَال: الْقَائِم بِأَمْر الله مَعْنَاهُ: الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ والناهي عَن الْمُنكر. وَقَالَ الزّجاج: أصل الْحَد فِي اللُّغَة الْمَنْع، وَمِنْه حد الدَّار، وَهُوَ مَا يمْنَع غَيرهَا من الدُّخُول فِيهَا، والحداد الْحَاجِب والبواب، وَلَفظ

(13/56)


التِّرْمِذِيّ: مثل الْقَائِم على حُدُود الله تَعَالَى والمدهن فِيهَا أَي: الغاش فِيهَا، ذكره ابْن فَارس، وَقيل: هُوَ كالمصانعة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ودوا لَو تدهن فيدهنون} (الْقَلَم: 9) . وَقيل: المدهن المتلين لمن لَا يَنْبَغِي التلين لَهُ. قَوْله: (وَالْوَاقِع فِيهَا) أَي: فِي الْحُدُود، أَي: التارك للمعروف المرتكب للْمُنكر. قَوْله: (استهموا) أَي: اتخذ كل وَاحِد مِنْهُم سَهْما، أَي: نَصِيبا من السَّفِينَة بِالْقُرْعَةِ. قَوْله: (على من فَوْقهم) ، أَي: على الَّذين فَوْقهم. قَوْله: (وَلم نؤذ) ، من الْأَذَى، وَهُوَ الضَّرَر. قَوْله: (من فَوْقنَا) أَي: الَّذين سكنوا فَوْقنَا. قَوْله: (فَإِن يتركوهم وَمَا أَرَادوا) . أَي: فَإِن يتْرك الَّذين سكنوا فَوْقهم إِرَادَة الَّذين سكنوا تَحْتهم من الْخرق، وَالْوَاو، بِمَعْنى: مَعَ، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (هَلَكُوا) ، جَوَاب الشَّرْط وَهُوَ قَوْله: فَإِن ... قَوْله: (هَلَكُوا جَمِيعًا) أَي: كلهم الَّذين سكنوا فَوق وَالَّذين سكنوا أَسْفَل، لِأَن بخرق السَّفِينَة تغرق السَّفِينَة وَيهْلك أَهلهَا. قَوْله: (وَإِن أخذُوا على أَيْديهم) أَي: وَإِن منعوهم من الْخرق نَجوا أَي: الآخذون (ونجوا جَمِيعًا) يَعْنِي: جَمِيع من فِي السَّفِينَة، وَلَو لم يذكر قَوْله: (ونجوا جَمِيعًا) ، لكَانَتْ النجَاة اخْتصّت بالآخذين فَقَط، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل كلهم نَجوا لعدم الْخرق، وَهَكَذَا إِذا أُقِيمَت الْحُدُود وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهي عَن الْمُنكر تحصل النجَاة للْكُلّ وإلاَّ هلك العَاصِي بالمعصية وَغَيرهم بترك الْإِقَامَة.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَحْكَام فِيهِ: جَوَاز الضَّرْب بِالْمثلِ وَجَوَاز الْقرعَة، فَإِنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ضرب الْمثل هُنَا بالقوم الَّذين ركبُوا السَّفِينَة، وَلم يذم المستهمين فِي السفية وَلَا أبطل فعلهم، بل وضيه وَضرب بِهِ مثلا لمن نجى من الهلكة فِي دينه. وَفِيه: تَعْذِيب الْعَامَّة بذنوب الْخَاصَّة وَاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة بترك النَّهْي عَن الْمُنكر مَعَ الْقُدْرَة. وَفِيه: أَنه يجب على الْجَار أَن يصبر على شَيْء من أَذَى جَاره خوف مَا هُوَ أَشد. وَفِيه: إِثْبَات الْقرعَة فِي سُكْنى السفية إِذا تشاحوا، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا نزلُوا مَعًا. فَأَما من سبق مِنْهُم فَهُوَ أَحَق. وَذكر ابْن بطال هُنَا مَسْأَلَة الدَّار الَّتِي لَهَا علوا وسفل لمناسبة بَينهَا وَبَين أهل السَّفِينَة، فَقَالَ: وَأما حكم الْعُلُوّ والسفل يكون بَين رجلَيْنِ، فيعتل السّفل وَيُرِيد صَاحبه هَدمه فَلَيْسَ لَهُ هَدمه إلاَّ من ضَرُورَة، وَلَيْسَ لرب الْعُلُوّ أَن يَبْنِي على سفله شَيْئا لم يكن قبل إلاَّ الشَّيْء الْخَفِيف الَّذِي لَا يضر صَاحب السّفل، فَلَو انْكَسَرت خَشَبَة من سفل الْعُلُوّ فَلَا يدْخل مَكَانهَا أَسْفَل مِنْهَا، قَالَ أَشهب: وَبَاب الدَّار على صَاحب السّفل، فَلَو انْهَدم السّفل أجبر صَاحبه على بنائِهِ وَلَيْسَ على صَاحب الْعُلُوّ أَن يَبْنِي السّفل، فَإِن أَبى صَاحب السّفل أَن يَبْنِي قيل لَهُ: بِعْ مِمَّن يَبْنِي. انْتهى. قلت: الَّذِي ذكره أَصْحَابنَا أَنه لَيْسَ لصَاحب الْعُلُوّ إِذا انْهَدم السّفل أَن يَأْخُذ صَاحب السّفل بِالْبِنَاءِ، لَكِن يُقَال لصَاحب الْعُلُوّ: ابْن السّفل إِن شِئْت حَتَّى يبلغ مَوْضِعه علوك ثمَّ ابْن علوك، وَلَيْسَ لصَاحب السّفل أَن يسكن حَتَّى يُعْطي قيمَة بِنَاء السّفل، وَذُو الْعُلُوّ يسكن علوه، والسفل كَالرَّهْنِ فِي يَده وسقف السّفل بِكُل آلاته لصَاحب السّفل وَلِصَاحِب الْعُلُوّ سكناهُ، وَصَاحب الْعُلُوّ إِذا بنى السّفل فَلهُ أَن يرجع بِمَا أنْفق على صَاحب السّفل، وَإِن كَانَ صَاحب السّفل يَقُول: لَا حَاجَة لي إِلَى السّفل.

7 - (بابُ شَرِكَةِ الْيَتِيمِ وأهْلِ الْمِيرَاثِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم شركَة الْيَتِيم وَأهل الْمِيرَاث، وَحكمه مَا قَالَه ابْن بطال: شركَة الْيَتِيم ومخالطته فِي مَاله لَا يجوز عِنْد الْعلمَاء، إلاَّ أَن يكون للْيَتِيم فِي ذَلِك رُجْحَان. قَالَ تَعَالَى: {ويسألونك عَن الْيَتَامَى قل: إصْلَاح لَهُم خير وَإِن تخالطوهم فإخوانكم وَالله يعلم الْمُفْسد من المصلح} (الْبَقَرَة: 022) .

4942 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله الْعامِرِيُّ الأُوَيْسيُّ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنْ صالحٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أخبرَني عُرْوةُ أنَّهُ سألَ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يونُسُ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّهُ سَألَ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: {وإنْ خِفْتُمْ} إِلَى {ورُباع} (النِّسَاء: 3) . فقالتْ يَا ابنَ أُخْتِي هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجْرِ ولِيِّهَا تُشَارِكُهُ فِي مالِهِ فيُعْجِبُهُ مالُها وجَمالُها فيُرِيدُ ولِيُّها أَن يَتَزوَّجَهَا بغَيْرِ أنْ يُقْسطَ فِي صَداقِهَا فيُعْطِيهَا مثْلَ مَا يُعْطِيها غَيْرُهُ فَنُهوا

(13/57)


أنْ يَنْكِحُوهُنَّ إلاَّ أنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ ويَبْلُغُوا بِهِنَّ أعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَّاقِ وأُمِرُوا أنْ يَنْكِحُوا مَا طابَ لَهمْ مِنَ النِّسَاءِ سِواهُنَّ. قَالَ عُرْوةُ قالتْ عائِشَةُ ثمَّ إنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعْدَ هاذِهِ الآيَةِ فأنْزَلَ الله {ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ {وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ} والَّذِي ذَكَرَ الله أنَّهُ يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ الآيَةُ الأُولَى الَّتي قَالَ فِيها وإنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ قالَتْ عائِشَةُ وقَوْل الله فِي الآيةِ الأخْرَى وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ يَعْني هِيَ رَغْبَة أحَدِكُمْ بَيَتيمَتِه الَّتي فِي حَجْرِه حِينَ تَكُونُ قَليلَةَ الْمَالِ والْجَمَالِ فَنهوا أنْ يَنْكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مالِها وجَمالِها مِنْ يَتامَى النِّساءِ إلاَّ بالْقِسْطِ مِنْ أجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ (النِّسَاء: 721) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (الْيَتِيمَة تكون فِي حجر وَليهَا تشاركه فِي مَاله) .
ذكر رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: عبد الْعَزِيز بن يحيى بن عَمْرو بن أويس الْقرشِي العامري الأويسي، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى جده أويس. الثَّانِي: إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَبُو إِسْحَاق الْقرشِي الزُّهْرِيّ، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد. الثَّالِث: صَالح بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: اللَّيْث بن سعد. السَّابِع: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الثَّامِن: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال فِي موضِعين. وَفِيه: أَن الطَّرِيق الأول مَوْصُول وَالطَّرِيق الثَّانِي وَهُوَ قَوْله. وَقَالَ اللَّيْث مُعَلّق. وَفِيه: أَن رُوَاة الطَّرِيق الأول كلهم مدنيون ورواة الطَّرِيق الثَّانِي من نسب شَتَّى، فالليث مصري وَيُونُس أيلي وَابْن شهَاب مدنِي، وَكَذَلِكَ عُرْوَة. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ من طَرِيق يُونُس عَن الزُّهْرِيّ فِي الْأَحْكَام عَن عَليّ بن عبد الله وَفِي الشّركَة وَقَالَ اللَّيْث. وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي النِّكَاح عَن أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَسليمَان بن دَاوُد، أربعتهم عَن وهب عَن يُونُس. وَأخرجه النَّسَائِيّ الطَّرِيق الأول عَن سُلَيْمَان بن سيف عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَقَالَ اللَّيْث) ، مُعَلّق وَصله الطَّبَرِيّ فِي تَفْسِيره من طَرِيق عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث مَقْرُونا بطرِيق ابْن وهب عَن يُونُس. قَوْله: (وَإِن خِفْتُمْ إِلَى ... وَربَاع) ، يَعْنِي: سَأَلَ عُرْوَة عَائِشَة عَن تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} (النِّسَاء: 3) . وَمعنى قَوْله: وَإِن خِفْتُمْ، يَعْنِي: إِذا كَانَت تَحت حجر أحدكُم يتيمة وَخَافَ أَن لَا يُعْطِيهَا مهر مثلهَا، فليعدل إِلَى مَا سواهَا من النِّسَاء فَإِنَّهُنَّ كَثِيرَة، وَلم يضيق الله عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة النِّسَاء: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى أخبرنَا هِشَام عَن ابْن جريج أَخْبرنِي هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة: أَن رجلا كَانَت لَهُ يتيمة فنكحها، وَكَانَ لَهَا عذق، وَكَانَ يمْسِكهَا عَلَيْهِ وَلم يكن لَهَا من نَفسه شَيْء، فَنزلت فِيهِ: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 3) . أَحْسبهُ قَالَ: كَانَت شريكته فِي ذَلِك العذق وَفِي مَاله، ثمَّ ذكر البُخَارِيّ عقيب هَذَا الحَدِيث حَدِيث الْبَاب الَّذِي أخرجه عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله الأويسي إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة لمُسلم من حَدِيث هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ ألاَّ تقسطوا فِي الْيَتَامَى} (النِّسَاء: 3) . قَالَت: أنزلت فِي الرجل يكون لَهُ الْيَتِيمَة وَهُوَ وَليهَا ووارثها وَلها مَال وَلَيْسَ لَهَا أحد يُخَاصم دونهَا وَلَا ينْكِحهَا لمالها فيضربها ويسيء صحبتهَا. فَقَالَ: {وَإِن خِفْتُمْ ألاَّ تقسطوا فِي الْيَتَامَى فأنكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} (النِّسَاء: 721) . يَقُول: مَا أحللت لكم، ودع هَذِه الَّتِي تضربها. انْتهى. قَوْله: {مَا طَابَ لكم} (النِّسَاء: 3) . قَرَأَ ابْن أبي عبلة: من طَابَ لكم، وَمعنى: طَابَ حل. قَوْله: {مثنى وَثَلَاث وَربَاع} (النِّسَاء: 3) . معدولات عَن: اثْنَيْنِ وَثَلَاث وَأَرْبع، وَهِي نكرَة ومنعها

(13/58)


عَن الصّرْف للعدل وَالْوَصْف، وَقيل: للعدل والتأنيث لِأَن الْعدَد كُله مؤنث، وَالْوَاو جَاءَت على طَرِيق الْبَدَل كَأَنَّهُ قَالَ: وَثَلَاث بدل من ثِنْتَيْنِ وَربَاع بدل من ثَلَاث، وَلَو جَاءَت: أَو، لجَاز أَن لَا يكون لصَاحب الْمثنى ثَلَاث وَلَا لصَاحب الثَّلَاث رباع، وَالْمقَام مقَام امتنان وَإِبَاحَة، فَلَو كَانَ يجوز الْجمع بَين أَكثر من أَربع لذكره. وَقَالَ الشَّافِعِي: وَقد دلّت سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المبينة عَن الله أَنه: لَا يجوز لأحد غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجمع بَين أَكثر من أَربع، وَهَذَا الَّذِي قَالَه الشَّافِعِي مجمع عَلَيْهِ بَين الْعلمَاء إِلَّا مَا حكى عَن طَائِفَة من الشِّيعَة فِي الْجمع بَين أَكثر من أَربع إِلَى تسع، وَقَالَ بَعضهم: لَا حصر، وَقد يتَمَسَّك بَعضهم بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جمعه بَين أَكثر من أَربع، أما تسع كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأما إِحْدَى عشرَة كَمَا جَاءَ فِي بعض أَلْفَاظ البُخَارِيّ، وَهَذَا عِنْد الْعلمَاء من خَصَائِص رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون غَيره من الْأمة. قَوْله: (فَقَالَت: يَا ابْن أُخْتِي) ، وَذَلِكَ لِأَن عُرْوَة ابْن أَسمَاء أُخْت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (فِي حجر وَليهَا) ، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يجوز أَن يكون من حجر الثَّوْب وَهُوَ طرفه الْمُقدم، لِأَن الْإِنْسَان يُربي وَلَده فِي حجره، وَالْحجر، بِالْفَتْح وَالْكَسْر: الثَّوْب والحضن، والمصدر بِالْفَتْح لَا غير، ووليها: هُوَ الْقَائِم بأمرها. قَوْله: (بِغَيْر أَن يقسط) ، بِضَم الْيَاء، من: الإقساط، وَهُوَ الْعدْل يُقَال: أقسط يقسط فَهُوَ مقسط إِذا عدل، وقسط يقسط من بَاب ضرب يضْرب فَهُوَ قاسط إِذا جَار، فَكَأَن الْهمزَة فِي أقسط للسلب، كَمَا يُقَال شكى إِلَيْهِ فأشكاه. قَوْله: (فنهوا) ، بِضَم النُّون وَالْهَاء، لِأَنَّهُ صِيغَة الْمَجْهُول، وَأَصله نهيوا، فنقلت ضمة الْيَاء إِلَى الْهَاء فَالتقى ساكنان، فحذفت الْيَاء فَصَارَ: نهوا، على وزن: فعوا، لِأَن الْمَحْذُوف لَام الْفِعْل. قَوْله: (ثمَّ إِن النَّاس استفتوا) ، أَي: طلبُوا مِنْهُ الْفَتْوَى فِي أَمر النِّسَاء. الْفَتْوَى والفتيا بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ الإسم، والمفتي من يبين الْمُشكل من الْكَلَام، وَأَصله من الفتي وَهُوَ الشَّاب الْقوي، فالمفتي يقوى ببيانه مَا أشكل. قَوْله: (بعد هَذِه الْآيَة) ، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ} إِلَى {وَربَاع} (النِّسَاء: 3) . قَوْله: فَأنْزل الله تَعَالَى: {ويستفتونك فِي النِّسَاء} (النِّسَاء: 721) . أَي: يطْلبُونَ مِنْك الْفَتْوَى فِي أَمر النِّسَاء. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: قَرَأت على مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب أَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير، قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: ثمَّ إِن النَّاس استفتوا رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد هَذِه الْآيَة فِيهِنَّ، فَأنْزل الله {ويستفتونك فِي النِّسَاء قل الله يفتيكم فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُم فِي الْكتاب} (النِّسَاء: 721) . الْآيَة، قَالَت: وَالَّذِي ذكر الله أَن يُتْلَى عَلَيْهِم فِي الْكتاب الْآيَة الأولى الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فأنكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} (النِّسَاء: 3) . وَبِهَذَا الْإِسْنَاد عَن عَائِشَة قَالَت: وَقَول الله: {وترغبون أَن تنكحوهن} (النِّسَاء: 721) . رَغْبَة أحدكُم عَن يتيمته الَّتِي تكون فِي حجره حِين تكون قَليلَة المَال ... إِلَى آخر مَا سَاقه البُخَارِيّ وَالْمَقْصُود أَن الرجل إِذا كَانَ فِي حجره يتيمة يحل لَهُ تَزْوِيجهَا، فَتَارَة يرغب فِي أَن يَتَزَوَّجهَا، فَأمره الله تَعَالَى أَن يمهرها أُسْوَة أَمْثَالهَا من النِّسَاء، فَإِن لم يفعل فليعدل إِلَى غَيرهَا من النِّسَاء، فقد وسع الله عز وَجل، وَهَذَا الْمَعْنى فِي الْآيَة الأولى الَّتِي فِي أول السُّورَة، وَتارَة لَا يكون للرجل فِيهَا رَغْبَة لدمامتها عِنْده أَو فِي نفس الإمر، فَنَهَاهُ الله، عز وَجل، أَن يعضلها عَن الْأزْوَاج خشيَة أَن يشركوه فِي مَاله الَّذِي بَينه وَبَينهَا، كَمَا قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: {فِي يتامى النِّسَاء اللَّاتِي لَا تؤتوهن مَا كتب لَهُنَّ وترغبون أَن تنكحوهن} (النِّسَاء:؟ ؟) . فَكَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة يكون عِنْده الْيَتِيمَة فيلقي عَلَيْهَا ثَوْبه، فَإِذا فعل ذَلِك بهَا لم يقدر أحد أَن يَتَزَوَّجهَا أبدا، فَإِن كَانَت جميلَة فَهُوَ بهَا تزَوجهَا وَأكل مَالهَا، وَإِن كَانَت دَمِيمَة منعهَا من الرِّجَال حَتَّى تَمُوت، فَإِذا مَاتَت ورثهَا فَحرم ذَلِك وَنهى عَنهُ. قَوْله: (رَغْبَة أحدكُم بيتيمته) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: عَن يتيمته، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَضَبطه الْحَافِظ الدمياطي هَكَذَا.

8 - (بابُ الشَّرِكَةِ فِي الأرَضينَ وغَيْرِها)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّركَة فِي الْأَرْضين وَغَيرهَا، أَي: وَغير الْأَرْضين كَالدَّارِ والبساتين، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن للشركاء فِي الأَرْض وَغَيرهَا الْقِسْمَة مُطلقًا، خلافًا لمن خصها بِالَّتِي ينْتَفع بهَا إِذا قسمت على مَا يَجِيء بَيَانه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

5942 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا هِشامٌ قَالَ أخْبرنَا مَعْمَرٌ عَن الزُّهْرِيِّ عنْ أبي

(13/59)


سلَمَةَ عنْ جابِرِ بنِ عبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ إنَّما جعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فإذَا وقَعَتِ الحُدُودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (مَا لم يقسم) ، لِأَن هَذَا يشْعر بِأَن مَا لم يقسم يكون بَين الشُّرَكَاء، وَالْقِسْمَة لَا تكون إلاَّ بَينهم، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب شُفْعَة مَا لم يقسم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَهنا: عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي عَن هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ عَن معمر بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (كل مَا لم يقسم) ، أَي: كل مُشْتَرك لم يقسم من الْأَرَاضِي وَنَحْوهَا.

9 - (بابٌ إِذا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الدُّورَ أوْ غَيْرَها فلَيْسَ لَهُمْ رجوَعٌ وَلَا شُفْعَةٌ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا اقتسم الشُّرَكَاء الدّور وَغَيرهَا، أَي: غير الدّور، نَحْو: الْبَسَاتِين وَسَائِر العقارات، وَفِي بعض النّسخ: إِذا اقتسموا، نَحْو: أكلوني البراغيث. قَوْله: (فَلَيْسَ لَهُم رُجُوع) جَوَاب: إِذا، لِأَن الْقِسْمَة عقد لَازم فَلَا رُجُوع فِيهَا. قَوْله: (وَلَا شُفْعَة) أَي: وَلَا شُفْعَة فِي الْقِسْمَة، لِأَن الشُّفْعَة فِي الشّركَة لَا فِي الْقِسْمَة لِأَن الشُّفْعَة لَا تكون فِي شَيْء مقسوم عِنْد الْعلمَاء كَافَّة، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْمشَاع لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا وَقعت الْحُدُود فَلَا شُفْعَة.

6942 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثنا معْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيَّ عنْ أبِي سلَمَةَ ابنِ عبْدِ الرَّحْمانِ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَضَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالشُّفّعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فإذَا وقَعَتِ الحدُودُ وصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ..
قيل لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة لِأَن فِي التَّرْجَمَة لُزُوم الْقِسْمَة وَلَيْسَ فِي الحَدِيث إلاَّ نفي الشُّفْعَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يلْزم من نفي الشُّفْعَة نفي الرُّجُوع إِذْ لَو كَانَ للشَّرِيك الرُّجُوع لعاد مَا يشفع فِيهِ مشَاعا، فَحِينَئِذٍ تعود الشُّفْعَة. والْحَدِيث مضى الْآن وَفِي: بَاب شُفْعَة مَا لم يقسم، كم ذَكرْنَاهُ، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْبَصْرِيّ.

01 - (بابُ الاشْتِرَاكِ فِي الذَّهَبِ والْفِضَّةِ وَمَا يَكونُ فِيهِ منَ الصَّرْفِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاشْتِرَاك فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَهُوَ جَائِز إِذا كَانَ من كل وَاحِد من الْإِثْنَيْنِ دَرَاهِم أَو دَنَانِير فَالشَّرْط أَن يخلطا المَال حَتَّى يتَمَيَّز ثمَّ يتصرفان جَمِيعًا، وَيُقِيم كل وَاحِد مِنْهُمَا الآخر مقَام نَفسه، وَهَذَا صَحِيح بِلَا خلاف. وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا كَانَ من أَحدهمَا دَنَانِير وَمن الآخر دَرَاهِم، فَقَالَ مَالك والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: لَا يجوز، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِنَّمَا لم يجز ذَلِك لِأَنَّهُ صرف وَشركَة، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالك، وَحكى ابْن أبي زيد خلاف مَالك فِيهِ، وَأَجَازَهُ سَحْنُون، وَأكْثر قَول مَالك: إِنَّه لَا يجوز، وَقَالَ الثَّوْريّ: يجوز أَن يَجْعَل أَحدهمَا دَنَانِير وَالْآخر دَرَاهِم فيخلطانها، وَذَلِكَ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا قد بَاعَ بِنصْف نصِيبه نصف نصيب صَاحبه. قَوْله: (وَمَا يكون فِيهِ من الصّرْف) وَفِي بعض النّسخ: وَمَا يكون فِي الصّرْف بِدُونِ كلمة: من، وَهَذَا مثل التبر وَالدَّرَاهِم المغشوشة، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَصح فِي كل مثلي، وَهَذَا هُوَ الْأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة. وَقيل: يخْتَص بِالنَّقْدِ الْمَضْرُوب، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَمَا يكون فِيهِ الصّرْف هُوَ بيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ، وَبِالْعَكْسِ، وَسمي بِهِ لصرفه عَن مُقْتَضى الْبياعَات من جَوَاز التَّفَاضُل فِيهِ، وَقيل: من صريفهما، وَهُوَ تصويتهما فِي الْمِيزَان.

8942 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قَالَ حدَّثنا أَبُو عاصِمٍ عنْ عُثْمَانَ يَعْنِي ابنَ الأسْوَدِ قَالَ أخْبَرني سُلَيْمَانُ بنُ أبِي مُسْلِمٍ قَالَ سألْتُ أبَا الْمِنْهَالِ عنِ الصَّرْفِ يدَاً بِيَدٍ فَقَالَ اشْتَرَيْتُ أَنا وشَريكٌ لي

(13/60)


شَيْئاً يدَاً بِيَدٍ ونَسِيئَةٍ فجاءَنا البُراءُ بنُ عازِبٍ فَسَألْناهُ فَقَالَ فَعلْتُ أَنا وشَرِيكي زَيْدُ بن أرْقَمَ فسألْنَا النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذالِكَ فَقَالَ مَا كانَ يَداً بِيَدٍ فَخُذُوهُ وَمَا كانَ نَسيئَةً فَذَرُوهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (اشْتريت أَنا وَشريك لي شَيْئا) ، وَذَلِكَ لِأَن أَبَا الْمنْهَال وشريكه كَانَا يشتريان شَيْئا من الذَّهَب وَالْفِضَّة يدا بيد ونسيئة، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فيهمَا، فسألا عَن حكم ذَلِك لِأَنَّهُ صرف، ثمَّ عملا بِمَا بلغهما من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِن مَا كَانَ يدا بيد فَهُوَ جَائِز، وَمَا كَانَ نَسِيئَة فَلَا يجوز.
والْحَدِيث مر فِي أَوَائِل الْبيُوع فِي: بَاب التِّجَارَة فِي الْبر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من طَرِيقين: الأول: عَن أبي عَاصِم عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن دِينَار عَن ابْن المنهار، وَالْآخر: عَن الْفضل بن يَعْقُوب عَن الْحجَّاج بن مُحَمَّد ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَليّ بن بَحر أبي حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي عَن أبي عَاصِم النَّبِيل، واسْمه: الضَّحَّاك بن مخلد، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ أَيْضا، وروى عَنهُ هُنَا بِوَاسِطَة، وَكَذَلِكَ فِي عدَّة مَوَاضِع يروي عَنهُ بِوَاسِطَة، وَفِي مَوَاضِع يروي عَنهُ بِلَا وَاسِطَة، وَعُثْمَان هُوَ ابْن الْأسود ابْن مُوسَى بن باذان الْمَكِّيّ. وَقَوله: (يَعْنِي: ابْن الْأسود) إِشْعَار مِنْهُ بِأَن شَيْخه لم يقل إلاَّ عُثْمَان فَقَط، وَأما ذكر نسبه فَهُوَ مِنْهُ، وَهَذَا من جملَة الاحتياطات،. وَسليمَان بن أبي مُسلم هُوَ الْأَحول، مر فِي التَّهَجُّد، وَأَبُو الْمنْهَال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون وباللام: عبد الرَّحْمَن.
قَوْله: (شَيْئا يدا بيد ونسيئة) وَلَفظه فِي كتاب الْبيُوع: كنت أتجر فِي الصّرْف. قَوْله: (فَخُذُوهُ) ، بِالْفَاءِ وَكَذَلِكَ: فذروه، بِالْفَاءِ، ويروى: ذروه، بِدُونِ الْفَاء، وَذَلِكَ لِأَن الِاسْم الْمَوْصُول بِالْفِعْلِ المتضمن للشّرط يجوز فِيهِ دُخُول الْفَاء فِي خَبره وَيجوز تَركه. قَوْله: (فذروه) ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الرَّاء، أَي: اتركوه، وَهُوَ من الْأَفْعَال الَّتِي أمات الْعَرَب ماضيها، وَهَذِه هِيَ رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: فَردُّوهُ، بِضَم الرَّاء وَتَشْديد الدَّال من الرَّد.
وَفِيه: رد مَا لَا يجوز وَهُوَ النَّسِيئَة وَهُوَ التَّأْخِير، فَلَا يجوز شَيْء من الصّرْف نَسِيئَة، وَإِنَّمَا يجوز يدا بيد، وَقد مر.

11 - (بابُ مُشَارَكَةِ الذِّمِّيِّ والْمُشْرِكِينَ فِي الْمُزَارَعَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مُشَاركَة الذِّمِّيّ وَالْمُشْرِكين الْمُسلم فِي الْمُزَارعَة. قَوْله: (وَالْمُشْرِكين) من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص، على أَن المُرَاد من الْمُشْركين هم المستأمنون، فيكونون فِي معنى أهل الذِّمَّة، وَأما الْمُشرك الْحَرْبِيّ فَلَا تتَصَوَّر الشّركَة بَينه وَبَين الْمُسلم فِي دَار الْإِسْلَام، على مَا لَا يخفى، وَحكمهَا أَنَّهَا تجوز، لِأَن هَذِه الْمُشَاركَة فِي معنى الْإِجَارَة واستئجار أهل الذِّمَّة جَائِز، وَأما مُشَاركَة الذِّمِّيّ مَعَ الْمُسلم فِي غير الْمُزَارعَة فَعِنْدَ مَالك: لَا يجوز إلاَّ أَن يتَصَرَّف الذِّمِّيّ بِحَضْرَة الْمُسلم، أَو يكون الْمُسلم هُوَ الَّذِي يتَوَلَّى البيع وَالشِّرَاء، لِأَن الذِّمِّيّ قد يتجر فِي الرِّبَا وَالْخمر وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يحل للْمُسلمِ، وَأما أَخذ أَمْوَالهم فِي الْجِزْيَة فللضرورة، إِذْ لَا مَال لَهُم غَيره، وروى مَا قَالَه مَالك عَن عَطاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَبِه قَالَ اللَّيْث وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَعند أَصْحَابنَا: مُشَاركَة الْمُسلم مَعَ أهل الذِّمَّة فِي شركَة الْمُفَاوضَة لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد. خلافًا لأبي يُوسُف، وَقد عرف فِي مَوْضِعه.

9942 - حدَّثنا موساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ بنُ أسْمَاءَ عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أعْطاى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خيْبَرَ الْيَهُودَ أنْ يَعْمَلُوها ويَزْرَعُوها ولَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَهُوَ أَن فِيهِ مُشَاركَة الْيَهُود فِي مُزَارعَة خَيْبَر من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل لَهُم شطر مَا يخرج من الزِّرَاعَة من خَيْبَر، والشطر الْبَاقِي يصرف للْمُسلمين، وَهَؤُلَاء الْيَهُود كَانُوا أهل ذمَّة وأُلحق الْمُشْركُونَ بهم لأَنهم فِي حكم أهل الذِّمَّة لكَوْنهم مستأمنين، كَمَا ذكرنَا. والْحَدِيث قد مضى فِي أَوَائِل كتاب الْمُزَارعَة فِي مَوَاضِع، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَنَذْكُر بعض شَيْء من ذَلِك.
قَوْله: (أَن يعملوها) ، أَي: يزرعوا بَيَاض أرْضهَا، وَلذَلِك سموا الْمُسَاقَاة. وَفِيه: إِثْبَات الْمُسَاقَاة والمزارعة، وَمَالك لَا يُجِيزهُ. قَوْله: (وَلَهُم شطر مَا يخرج مِنْهَا) أَي: من أَرض خَيْبَر الَّتِي يزرعونها.
وَفِيه: دَلِيل على أَن رب الأَرْض وَالشَّجر إِذا بَين حِصَّة نَفسه جَازَ، وَكَانَ الْبَاقِي لِلْعَامِلِ كَمَا لَو بيَّن حِصَّة

(13/61)


الْعَامِل، وَقَالَ بعض الْفُقَهَاء: إِذا سمى حِصَّة نَفسه لم يكن الْبَاقِي لِلْعَامِلِ حَتَّى يُسَمِّي لَهُ حِصَّته، وَاحْتج بِهِ أَحْمد: أَنه إِذا كَانَ الْبذر من عِنْد الْعَامِل جَازَ، وَذهب ابْن أبي ليلى وَأَبُو يُوسُف إِلَى أَنَّهَا جَائِزَة، سَوَاء كَانَ الْبذر من عِنْد الأكار أَو رب الأَرْض. وَقَالَ ابْن التِّين: اسْتدلَّ بِهِ من أجَاز قرض النَّصْرَانِي، وَلَا دَلِيل فِيهِ لِأَنَّهُ قد يعْمل بالربا وَنَحْوه، بِخِلَاف الْمُسلم، وَالْعَمَل فِي النّخل وَالزَّرْع لَا يخْتَلف فِيهِ عمل يَهُودِيّ من نَصْرَانِيّ، وَلَو كَانَ الْمُسلم فَاسِقًا يخْشَى أَن يعْمل بِهِ ذَلِك، كره أَيْضا كالنصراني بل أَشد، وَقَالَ الْمُهلب: وكل مَا لَا يدْخلهُ رَبًّا وَلَا ينْفَرد بِهِ الذِّمِّيّ فَلَا بَأْس بشركة الْمُسلم لَهُ فِيهِ.

21 - (بابُ قِسْمَةِ الْغَنَمِ والْعَدْلِ فِيها)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قسْمَة الْغنم وَالْعدْل فِيهَا، أَي: فِي قسْمَة الْغنم.

0052 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يَزيدَ بنِ أبِي حَبِيبٍ عنْ أبِي الخَيْرِ عنْ عُقْبَةَ بنِ عامِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطَاهُ غنَماً يَقْسِمُها علَى صَحَابَتِهِ وضَحايا فبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكرَهُ لرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ضَحِّ بِهِ أنْتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْمَتْن وبعين هَذَا الْإِسْنَاد فِي أول كتاب الْوكَالَة، غير أَن شَيْخه هُنَاكَ عَمْرو بن خَالِد عَن اللَّيْث، وَهنا قُتَيْبَة عَنهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (عتود) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: وَهُوَ مَا بلغ الرَّعْي وَقَوي وَبلغ حولا، وَهَذِه الْقِسْمَة يجوز فِيهَا من الْمُسَامحَة والمساهلة مَا لَا يجوز فِي الْقِسْمَة الَّتِي هِيَ تَمْيِيز الْحُقُوق، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا وكل عقبَة على تَفْرِيق الضَّحَايَا على أَصْحَابه، وَلم يعين لأحد مِنْهُم شَيْئا بِعَيْنِه، فَكَانَ تفريقاً موكولاً إِلَى اجْتِهَاد عقبَة، وَكَانَ ذَلِك على سَبِيل التَّطَوُّع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا أَنَّهَا كَانَت وَاجِبَة عَلَيْهِ لأَصْحَابه، فَلم يكن على عقبَة حرج فِي قسمتهَا وَلَا لزمَه من أحد مِنْهُم ملامة إِن أعطَاهُ دون مَا أعْطى صَاحبه، وَلَيْسَ كَذَلِك الْقِسْمَة بَين حُقُوقهم الْوَاجِبَة، فَإِنَّهَا مُتَسَاوِيَة فِي الْمَقْسُوم، فَهَذِهِ لَا يكون فِيهَا تغابن وَلَا ظلم على أحد مِنْهُم.
وَفِيه: استيمار الْوَكِيل مَا يصنع بِمَا فضل. وَفِيه: التَّفْوِيض إِلَى الْوَكِيل. وَفِيه: قبُول الْعَطِيَّة والتضحية بهَا.

31 - (بابُ الشَّرِكَةِ فِي الطَّعامِ وغَيْرِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّركَة فِي الطَّعَام وَغَيره، هُوَ كل مَا يجوز تملكه، وَقَالَ بَعضهم: وَغَيره، أَي: من الْمِثْلِيَّات، وَالَّذِي قُلْنَا هُوَ أَعم وَأحسن، وَجَوَاب التَّرْجَمَة: يجوز ذَلِك، لِأَن الشّركَة بيع من الْبيُوع فَيجوز فِي الطَّعَام وَغَيره، وَكره مَالك الشّركَة فِي الطَّعَام بالتساوي أَيْضا فِي الْكَيْل والجودة، لِأَنَّهُ يخْتَلف فِي الصّفة وَالْقيمَة، وَلَا تجوز الشّركَة إلاَّ على الاسْتوَاء فِي ذَلِك، وَلَا يكَاد أَن يجمع فِيهِ ذَلِك فكرهه، وَلَيْسَ الطَّعَام مثل الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم الَّتِي هِيَ على الاسْتوَاء عِنْد النَّاس. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: تجوز الشّركَة بِالْحِنْطَةِ إِذا اشْتَركَا على الْكَيْل وَلم يشتركا على الْقيمَة، وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو ثَوْر الشّركَة بِالطَّعَامِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: تجوز الشّركَة بالقمح وَالزَّيْت لِأَنَّهُمَا يختلطان جَمِيعًا، وَلَا يتَمَيَّز أَحدهمَا من الآخر. وَاخْتلفُوا فِي الشّركَة بالعروض، فجوزها مَالك وَابْن أبي ليلى، ومنعها الثَّوْريّ والكوفيون وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا تجوز الشّركَة فِي كل مَا يرجع فِي حَال المفاضلة إِلَى الْقيمَة إلاَّ أَن يَبِيع نصف عرضه بِنصْف عرض الآخر ويتقابضان.
ويُذْكَرُ أنَّ رَجُلاً ساوَمَ شَيْئاً فغَمَزَهُ آخَرُ فَرَأى عُمَرُ أنَّ لَهُ شَرِكَةً

كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، فَرَأى عمر، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: فَرَأى ابْن عمر، وَالْأول أصح، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق إِيَاس بن مُعَاوِيَة أَن عمر أبْصر رجلا يساوم سلْعَة وَعِنْده رجل، فغمزه حَتَّى اشْتَرَاهَا، فَرَأى عمر أَنَّهَا شركَة، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ لَا يشْتَرط للشَّرِكَة صِيغَة ويكتفي فِيهَا بِالْإِشَارَةِ إِذا ظَهرت الْقَرِينَة، وَهُوَ قَول مَالك، وَعَن

(13/62)


مَالك أَيْضا فِي السّلْعَة تعرض للْبيع فيقف من يَشْتَرِيهَا للتِّجَارَة، فَإِذا اشْتَرَاهَا وَاحِد مِنْهُم واستشركه الآخر لزمَه أَن يشركهُ لِأَنَّهُ انْتفع بترك الزِّيَادَة عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذا غمزه أَو سكت فسكوته رضَا بِالشّركَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُمكنهُ أَن يَقُول: لَا أشركك، فيزيد عَلَيْهِ، فَلَمَّا سكت كَانَ ذَلِك رضَا، وَقَالَ ابْن حبيب: ذَلِك لتجار تِلْكَ السّلْعَة خَاصَّة، كَأَن يَشْتَرِيهَا فِي الأول من أهل تِلْكَ التِّجَارَة أَو غَيرهم. قَالَ: وَرُوِيَ أَن عمر قضى بِمثل ذَلِك. قَالَ: وكل مَا اشْتَرَاهُ لغير تِجَارَة، فَسَأَلَهُ رجل أَن يشركهُ وَهُوَ يَشْتَرِي، فَلَا تلْزمهُ الشّركَة، وَإِن كَانَ الَّذِي استشركه من أهل التِّجَارَة، وَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي مَعَ يَمِينه إِن شراه ذَلِك لغير التِّجَارَة. قَالَ: وَمَا اشْتَرَاهُ الرجل من تِجَارَته فِي حانوته أَو بَيته فَوقف بِهِ نَاس من أهل تِجَارَته فاستشركوه، فَإِن الشّركَة لَا تلْزمهُ. وَنقل ابْن التِّين عَن مَالك فِي رِوَايَة أَشهب فِيمَن يبْتَاع سلْعَة وَقوم وقُوف، فَإِذا تمّ البيع سَأَلُوهُ الشّركَة، فَقَالَ: أما الطَّعَام فَنعم، وَأما الْحَيَوَان فَمَا علمت ذَلِك فِيهِ، زَاد فِي (الْوَاضِحَة) : وَإِنَّمَا رَأَيْت ذَلِك خوفًا أَن يفْسد بَعضهم على بعض إِذا لم يقْض لَهُم بذلك، وَقَالَ أصبغ: الشّركَة بَينهم فِي جَمِيع السّلع من الْأَطْعِمَة وَالْعرُوض والدقيق وَالْحَيَوَان وَالثيَاب، وَاخْتلف فِيمَن حضرها من لَيْسَ من أهل سوقها وَلَا من يتجر بهَا، فَقَالَ مَالك وَأصبغ: لَا شركَة لَهُم، وَقَالَ أَشهب: نعم.

2052 - حدَّثنا أصْبَغُ بنُ الْفَرَجِ قَالَ أخْبَرَني عبْدُ الله بنُ وهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي سعيدٌ عنْ زُهْرَةٍ ابنِ مَعْبَدٍ عنْ جَدِّهِ عبْدِ الله بنِ هِشامٍ وكانَ قدْ أدْرَكَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ يَا رسولَ الله بايِعْهُ فَقَالَ هُوَ صَغِيرٌ فَمَسَحَ رَأْسَهُ ودَعا لَهُ. وعنْ زُهْرَةَ بنِ مَعْبَدٍ أنَّهُ كانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عبْدُ الله بنُ هِشَامً إلَى السُّوقِ فيَشْتَرِي الطَّعامَ فَيلْقَاهُ ابنُ عُمَرَ وابنُ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمْ فَيَقُولانِ لَهُ أشْرِكْنا فإنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدْ دَعا لَكَ بِالْبَرَكَةِ فَيُشْرِكُهُمْ فَرُبَّما أصابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ فيَبْعَثُ بِها إِلَى المَنْزِلِ.
(الحَدِيث 1052 طرفه فِي: 0127) . (الحَدِيث 2052 طرفه فِي: 3536) .
هَذَا الحَدِيث إِلَى آخر الْبَاب حَدِيث وَاحِد غير أَنه ذكر بعد قَوْله: (وَعَن زهرَة بن معبد) وَهُوَ أَيْضا مَوْصُول بالسند الأول، والمطابقة بَينه وَبَين التَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَيَقُولَانِ لَهُ: أشركنا) إِلَى آخِره
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أصبغ بن الْفرج، بِالْجِيم، أَبُو عبد الله، مر فِي الْوضُوء. الثَّانِي: عبد الله بن وهب بن مُسلم أَبُو مُحَمَّد. الثَّالِث: سعيد هُوَ ابْن أبي أَيُّوب الْخُزَاعِيّ، واسْمه أَبُو أَيُّوب مِقْلَاص. الرَّابِع: زهرَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الْهَاء من الْأَسْمَاء الْمُشْتَركَة بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث ابْن معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن هِشَام أَو عقيل، بِفَتْح الْعين. الْخَامِس: جده عبد الله بن هِشَام بن زهرَة التَّيْمِيّ، من بني عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة رَهْط أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهِشَام مَاتَ قبل الْفَتْح كَافِرًا، وَقد شهد عبد الله بن هِشَام فتح مصر فاختط بهَا، ذكره ابْن يُونُس وَغَيره، وعاش إِلَى خلَافَة مُعَاوِيَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مصريون. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن عبد الله بن هِشَام أَيْضا من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده. وَفِيه: سعيد ذكر مُجَردا عَن نسبه، وَفِي رِوَايَة ابْن شبويه: سعيد هُوَ ابْن أبي أَيُّوب. وَفِيه: عَن زهرَة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من رِوَايَة الْمقري: حَدثنِي سعيد حَدثنِي أَبُو عقيل زهرَة بن معبد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن عبد الله عَن ابْن وهب وَفِي الشّركَة أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله عَن عبد الله بن يزِيد عَن سعيد بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي (الْخراج) عَن عبيد الله بن عمر القواريري عَن عبد الله بن يزِيد الْمقري عَن سعيد بِهِ، وَلم يقل: ودعا لَهُ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَكَانَ قد أدْرك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، ذكر ابْن مَنْدَه أَنه أدْرك

(13/63)


من حَيَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سِتّ سِنِين. قَوْله: (وَذَهَبت بِهِ أمه زَيْنَب بنت حميد) ، بِضَم الْحَاء: ابْن زُهَيْر بن الْحَارِث بن أَسد بن عبد الْعُزَّى، وَهِي من الصحابيات. قَوْله: (بَايعه) أَمر من الْمُبَايعَة، وَهِي المعاقدة على الْإِسْلَام، كَأَن كل وَاحِد من الْمُبَايِعين بَاعَ مَا عِنْده من صَاحبه وَأَعْطَاهُ خَالِصَة نَفسه وطاعته ودخيلة أمره، وَعلل، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لترك الْمُبَايعَة بقوله: هُوَ صَغِير، وَلكنه مسح رَأسه ودعا لَهُ. قَوْله: (وَعَن زهرَة) ، قد ذكرنَا أَنه مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. قَوْله: (فَيَقُولَانِ لَهُ) ، أَي: يَقُول ابْن عمر وَابْن الزبير لعبد الله بن هِشَام: أشركنا، بِفَتْح الْهمزَة يَعْنِي: إجعلنا شَرِيكَيْنِ لَك فِي الطَّعَام الَّذِي اشْتَرَيْته. قَوْله: (فيشركهم) ، بِضَم الْيَاء، أَي: فيجعلهم شُرَكَاء مَعَه فِيمَا اشْتَرَاهُ. قَوْله: (فَرُبمَا أصَاب الرَّاحِلَة) ، أَي: من الرِّبْح. قَوْله: (كَمَا هِيَ) ، أَي: بِتَمَامِهَا.
وَفِيه من الْفَوَائِد: مسح رَأس الصَّغِير. وَفِيه: ترك مبايعة من لم يبلغ، وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَكَانَ يُبَايع الْمُرَاهق الَّذِي يُطيق الْقِتَال. وَفِيه: الدُّخُول فِي السُّوق لطلب المعاش وَطلب الْبركَة حَيْثُ كَانَت. وَفِيه: الرَّد على جهلة المتزهدة فِي اعْتِقَادهم أَن السعَة من الْحَلَال مذمومة، نبه عَلَيْهِ ابْن الْجَوْزِيّ. وَفِيه: أَن الصَّغِير إِذا عقل شَيْئا من الشَّارِع كَانَ ذَلِك صُحْبَة، قَالَه الدَّاودِيّ. وَقَالَ ابْن التِّين: فِيهِ نظر. وَفِيه: أَن النِّسَاء كن يذْهبن بالأطفال إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: طلب التِّجَارَة وسؤال الشّركَة. وَفِيه: معْجزَة من معجزات النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي: إِجَابَة دُعَائِهِ فِي عبد الله بن هِشَام. وَفِيه: أَن لفظ: أَشْرَكتك، إِذا أطلق يكون تشريكاً فِي النّصْف، قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَه الْفُقَهَاء.
قالَ أبُو عَبْدِ الله إِذا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ أشْرِكْنِي فإذَا سَكَتَ فَهْوَ شَرِيكُهُ بالْنِّصْفِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه أَرَادَ أَنه إِذا رأى رجل رجلا يَشْتَرِي شَيْئا فَقَالَ لَهُ: أشركني فِيمَا اشْتَرَيْته، فَسكت الرجل وَلم يرد عَلَيْهِ بِنَفْي وَلَا إِثْبَات، يكون شَرِيكا لَهُ بِالنِّصْفِ، لِأَن سُكُوته يدل على الرِّضَا.

41 - (بابُ الشَّرِكَةِ فِي الرَّقِيقِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّركَة فِي الرَّقِيق، قَالَ ابْن الْأَثِير: الرَّقِيق الْمَمْلُوك فعيل بِمَعْنى مفعول، وَقد يُطلق على الْجَمَاعَة، تَقول: رق العَبْد وأرقه واسترقه. وَفِي (الْمغرب) : الرَّقِيق العَبْد، وَقد يُقَال للعبيد وَمِنْه هَؤُلَاءِ: رقيقي، ورق العَبْد رقا: صَار رَقِيقا، واسترقه اتَّخذهُ رَقِيقا.

3052 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ بنُ أسْمَاءَ عنُ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أعْتَقَ شِرْكاً لَهُ فِي مَمْلُوكٍ وجَبَ علَيْهِ أنْ يُعْتِقَ كُلَّهُ إنْ كانَ لَهُ مالٌ قدْرَ ثَمَنِهِ يُقَامُ قِيمَةَ عَدْلٍ ويُعْطاى شُرَكَاؤُهُ حِصَّتَهُمْ ويُخَلَّى سَبِيلُ الْمُعْتَقِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (من أعتق شركا لَهُ) لِأَن الاعتاق يبْنى على صِحَة الْملك، فَلَو لم تكن الشّركَة فِي الرَّقِيق صَحِيحَة لما ترَتّب عَلَيْهَا صِحَة الْعتْق، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب تَقْوِيم الْأَشْيَاء بَين الشُّرَكَاء بِقِيمَة عدل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عمرَان بن ميسرَة عَن عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب عَن نَافِع، وَقد ذكر هُنَاكَ من أخرجه غَيره، وَالْبُخَارِيّ أخرج حَدِيث ابْن عمر فِي الْعتْق من طرق كَثِيرَة ووجوه مُخْتَلفَة فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة. قَوْله: (وَجب عَلَيْهِ أَن يعْتق كُله إِن كَانَ لَهُ مَال) ، بِهِ تعلق الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق: أَن الضَّمَان لَا يجب على أحد الشَّرِيكَيْنِ للْآخر لقيمة نصِيبه إِلَّا إِذا كَانَ مُوسِرًا. قَوْله: (سَبِيل الْمُعْتق) ، بِفَتْح التَّاء وَقد مر الْبَحْث فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى.

4052 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثنا جَرِيرُ بنُ حازِمٍ عنْ قَتادَةَ عنِ النَّضْرِ بنِ أنَسٍ عنْ بَشيرِ ابنِ نَهِيكٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أعْتَقَ شِقْصاً لَهُ فِي عَبْدٍ

(13/64)


أُعْتِقَ كلُّهُ إنْ كانَ لَهُ مَالٌ وإلاَّ يُسْتَسْعَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ علَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مقل مَا ذكرنَا فِي الحَدِيث الَّذِي قبله، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي: بَاب تَقْوِيم الْأَشْيَاء، عَن قريب فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن بشر بن مُحَمَّد عَن عبد الله عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة ... إِلَى آخِره وَأخرج البُخَارِيّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا من طرق كَثِيرَة ووجوه مُخْتَلفَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ وَمَا يتَعَلَّق بِالْحَدِيثين الْمَذْكُورين. قَوْله: (يستسع) ، وَفِي رِوَايَة: يستسعى، بإشباع الْعين بِالْألف، وَفِي أُخْرَى استسعى على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي، وَالله أعلم.