عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 74 - (كِتابُ الشَّرِكَةِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الشّركَة، هَكَذَا
وَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَابْن شبويه، وَوَقع فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين: بَاب الشّركَة، وَوَقع فِي
رِوَايَة أبي ذَر: فِي الشّركَة، بِدُونِ لفظ: كتاب، وَلَا
لفظ: بَاب، وَالشَّرِكَة، بِفَتْح الشين وَكسر الرَّاء،
وَكسر الشين وَإِسْكَان الرَّاء، وَفتح الشين وَإِسْكَان
الرَّاء. وَفِيه لُغَة رَابِعَة: شرك، بِغَيْر تَاء
التَّأْنِيث. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا لَهُم فِيهَا من شرك}
(سبأ: 22) . أَي: من نصيب، وَجمع الشّركَة: شرك، بِفَتْح
الرَّاء وَكسر الشين، يُقَال: شركته فِي الْأَمر أشركه
شركَة، وَالِاسْم الشّرك وَهُوَ: النَّصِيب. قَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أعتق شركا لَهُ) ، أَي: نَصِيبا
وَشريك الرجل ومشاركه سَوَاء، وَهِي فِي اللُّغَة
الِاخْتِلَاط على الشُّيُوع أَو على الْمُجَاورَة، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: {وَإِن كثيرا من الخلطاء ليبغي} (ص: 42)
وَفِي الشَّرْع ثُبُوت الْحق لاثْنَيْنِ فَصَاعِدا فِي
الشَّيْء الْوَاحِد كَيفَ كَانَ.
ثمَّ هِيَ تَارَة تحصل بالخلط، وَتارَة بالشيوع الْحكمِي
كَالْإِرْثِ، وَقَالَ أَصْحَابنَا: الشّركَة فِي الشَّرْع
عبارَة عَن العقد على الِاشْتِرَاك واختلاط
النَّصِيبَيْنِ، وَهِي على نَوْعَيْنِ: شركَة الْملك،
وَهِي أَن يملك إثنان عينا أَو إِرْثا أَو شِرَاء أَو هبة
أَو ملكا بِالِاسْتِيلَاءِ، أَو اخْتَلَط مَالهمَا بِغَيْر
صنع أَو خلطاه، خلطاً بِحَيْثُ يعسر التَّمْيِيز أَو
يتَعَذَّر، فَكل هَذَا شركَة ملك وكل وَاحِد مِنْهُمَا:
أَجْنَبِي فِي قسط صَاحبه. وَالنَّوْع الثَّانِي: شركَة
العقد، وَهِي أَن يَقُول أَحدهمَا: شاركتك فِي كَذَا،
وَيقبل الآخر، وَهِي على أَرْبَعَة أَنْوَاع: مُفَاوَضَة،
وعنان، وَتقبل، وَشركَة وُجُوه، وبيانها فِي الْفُرُوع.
1 - (بابُ الشَّرِكَةِ فِي الطَّعامِ والنِّهْدِ
والْعُرُوضِ وكَيْفَ قِسْمَةُ مَا يُكَالُ ويوزَنُ
مُجَازَفَةً أوْ قَبْضَةً قَبْضَةً لما لَمْ يَرَ
الْمُسْلِمُونَ فِي النِّهْدِ بَأْساً أنْ يِأْكُلَ هَذا
بَعْضاً وهذَا بعْضاً وكَذَلِكَ مُجَازَفَةُ الذَّهَبِ
والفضَّةِ والقِرَانِ فِي التَّمْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّركَة فِي الطَّعَام،
وَقد عقد لهَذَا بَاب مُفردا مُسْتقِلّا يَأْتِي بعد
أَبْوَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (والنهد) ،
بِفَتْح النُّون وَكسرهَا وَسُكُون الْهَاء وبدال
مُهْملَة، قَالَ الْأَزْهَرِي فِي (التَّهْذِيب) : النهد
إِخْرَاج الْقَوْم نفقاتهم على قدر عدد الرّفْقَة، يُقَال:
تناهدوا، وَقد ناهد بَعضهم بَعْضًا. وَفِي (الْمُحكم) :
النهد العون، وَطرح نهده مَعَ الْقَوْم أعانهم وخارجهم،
وَقد تناهدوا أَي: تخارجوا، يكون ذَلِك فِي الطَّعَام
وَالشرَاب، وَقيل: النهد إِخْرَاج الرفقاء النَّفَقَة فِي
السّفر وخلطها، وَيُسمى بالمخارجة، وَذَلِكَ جَائِز فِي
جنس وَاحِد وَفِي الْأَجْنَاس، وَإِن تفاوتوا فِي الْأكل،
وَلَيْسَ هَذَا من الرِّبَا فِي شَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ من
بَاب الْإِبَاحَة، وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ النهد،
بِالْكَسْرِ، قَالَ: وَالْعرب تَقول: هَات نهدك،
مَكْسُورَة النُّون. وَحكى عَن عَمْرو بن عبيد عَن الْحسن
أَنه قَالَ: أخرجُوا نهدكم فَإِنَّهُ أعظم للبركة وأحس
لأخلاقكم وَأطيب لنفوسكن. وَفِي (الْمطَالع) : أَن
الْقَابِسِيّ فسره بِطَعَام الصُّلْح بَين الْقَبَائِل،
وَعَن قَتَادَة: مَا أفلس المتلازمان يَعْنِي: المتناهدان،
وَذكر مُحَمَّد بن عبد الْملك التاريخي فِي كتاب (النهد) :
عَن الْمَدَائِنِي وَابْن الْكَلْبِيّ وَغَيرهمَا: أَن أول
من وضع النهد الحضين بن الْمُنْذر الرقاشِي. قلت: الحضين،
بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون: ابْن
الْمُنْذر بن الْحَارِث بن وَعلة بن مجَالد بن يثربي بن
رَيَّان بن الْحَارِث بن مَالك بن شَيبَان بن ذهل، أحد بني
رقاش، شَاعِر فَارسي يكنى أَبَا ساسان، روى عَن عُثْمَان
وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وروى عَنهُ الْحسن
الْبَصْرِيّ وَعبد الله بن الداناج وَعلي بن سُوَيْد
وَابْنه يحيى بن حضين، وَكَانَ أَسِيرًا عِنْد بني أُميَّة
فَقتله أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي. قَوْله: (وَالْعرُوض)
، بِضَم الْعين: جمع عرض بِسُكُون الرَّاء وَهُوَ
الْمَتَاع، ويقابل النَّقْد، وَأَرَادَ بِهِ: الشّركَة فِي
الْعرُوض، وَفِيه خلاف. فَقَالَ أَصْحَابنَا: لَا يَصح
شركَة مُفَاوَضَة وَلَا شركَة عنان إلاَّ بالنقدين وهما:
الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير والتبر. وَقَالَ مَالك: يجوز
فِي الْعرُوض إِذا اتَّحد الْجِنْس، وَعند بعض
الشَّافِعِيَّة: يجوز إِذا كَانَ عرضا مثلِيا. وَقَالَ
مُحَمَّد: يَصح أَيْضا بالفلوس الرائجة. لِأَنَّهَا
برواجها يأحذ حكم النَّقْدَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَأَبُو يُوسُف: لَا يَصح، لِأَن رواجها عَارض. قَوْله:
(وَكَيف قسْمَة مَا يُكَال) أَي: وَفِي بَيَان قسْمَة مَا
يدْخل تَحت الْكَيْل وَالْوَزْن، هَل يجوز مجازفة أَو يجوز
قَبْضَة قَبْضَة، يَعْنِي: مُتَسَاوِيَة، وَقيل: المُرَاد
بهَا مجازفة الذَّهَب بِالْفِضَّةِ وَالْعَكْس، لجَوَاز
(13/40)
التَّفَاضُل فِيهِ، وَكَذَا كل مَا جَازَ
بالتفاضل مِمَّا يُكَال أَو يُوزن من المطعومات
وَنَحْوهَا، هَذَا إِذا كَانَت المجازفة فِي الْقِسْمَة.
وَقُلْنَا: الْقِسْمَة بيع، وَقَالَ ابْن بطال: قسْمَة
الذَّهَب بِالذَّهَب مجازفة وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ
مِمَّا لَا يجوز بِالْإِجْمَاع. وَأما قسْمَة الذَّهَب
مَعَ الْفضة مجازفة، فكرهه مَالك وَأَجَازَهُ
الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ، وَكَذَلِكَ:
لَا يجوز قسْمَة الْبر مجازفة، وكل مَا حرم فِيهِ
التَّفَاضُل. قَوْله: (لما لم ير الْمُسلمُونَ) اللَّام
فِيهِ مَكْسُورَة وَالْمِيم مُخَفّفَة، هَذَا تَعْلِيل
لعدم جَوَاز قسْمَة الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة
بِالْفِضَّةِ مجازفة، أَي: لأجل عدم رُؤْيَة الْمُسلمين
بالنهد بَأْسا، جوزوا مجازفة الذَّهَب بِالْفِضَّةِ
لاخْتِلَاف الْجِنْس، بِخِلَاف مجازفة الذَّهَب بِالذَّهَب
وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ لجَرَيَان الرِّبَا فِيهِ،
فَكَمَا أَن مَبْنِيّ النهد على الْإِبَاحَة، وَإِن حصل
التَّفَاوُت فِي الْأكل، فكذل مجازفة الذَّهَب
بِالْفِضَّةِ وَإِن كَانَ فِيهِ التَّفَاوُت بِخِلَاف
الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، لما
ذكرنَا. قَوْله: (أَن يَأْكُل هَذَا بَعْضًا) تَقْدِيره:
بِأَن يَأْكُل، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَنهم كَمَا جوزوا
النهد الَّذِي فِيهِ التَّفَاوُت، فَكَذَلِك جوزوا مجازفة
الذَّهَب وَالْفِضَّة مَعَ التَّفَاوُت، لما ذكرنَا.
قَوْله: (والقِران فِي التَّمْر) ، بِالْجَرِّ، ويروى:
والإقران، عطف على قَوْله: أَن يَأْكُل هَذَا بَعْضًا،
أَي: بِأَن يَأْكُل هَذَا تمرتين تمرتيين، وَهَذَا تَمْرَة
تَمْرَة.
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي حَدِيث ابْن عمر
فِي كتاب الْمَظَالِم فِي: بَاب إِذا أذن إِنْسَان لآخر
شَيْئا جَازَ.
3842 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ وهْبِ بنِ كَيْسانَ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ بَعَثَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْثاً قِبَلَ السَّاحِلِ
فأمَّرَ عَلَيْهِمْ أبَا عُبَيْدَةَ ابنَ الجَرَّاحِ وهُمْ
ثَلاَثُمائَةٍ وَأَنا فِيهِمْ فخَرَجْنا حتَّى إِذا كُنَّا
بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ فأمَرَ أَبُو
عُبَيْدَةَ بأزْوادِ ذالِكَ الْجَيْشِ فَجُمِعَ ذالِكَ
كُلُّهُ فكانَ مِزْوَدَيْ تَمرٍ فكانَ يُقَوِّتُنا كلَّ
يَوْمٍ قَليلاً قَليلاً حتَّى فَنِيَ فَلَمْ يكُنْ
يُصِيبُنَا إلاَّ تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ فقُلْتُ وَمَا تُغْنِي
تَمْرةٌ فَقَالَ لَقَدْ وجَدْنَا فَقْدَها حينَ فَنيَتْ
قَالَ ثُمَّ انْتَهَيْنَا إلاى الْبَحْرِ فإذَا حُوتٌ
مثْلُ الظَّرِبِ فأكَلَ منْهُ ذالِكَ الْجَيْشُ ثَمَانِيَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ
بِضِلَعَيْنِ مِنْ أضْلاعِهِ فَنُصِبا ثمَّ أمَرَ
بِرَاحِلَةٍ فَرَحُلَتْ ثمَّ مَرَّتْ تَحْتَهُمَا فلَمْ
تُصِبْهُمَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَأمر أَبُو
عُبَيْدَة بأزواد ذَلِك الْجَيْش فَجمع ذَلِك ذَلِك كُله)
وَلما كَانَ يفرق عَلَيْهِم كل يَوْم قَلِيلا قَلِيلا صَار
فِي معنى النهد، وَاعْترض بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذكر
المجازفة، لأَنهم لم يُرِيدُوا الْمُبَايعَة وَلَا
الْبَدَل. وَأجِيب: بِأَن حُقُوقهم تَسَاوَت فِيهِ بعد
جمعه، فتناولوه مجازفة كَمَا جرت الْعَادة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن
إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك، وَفِي الْجِهَاد عَن
صَدَقَة بن الْفضل. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّيْد عَن
عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد ابْن عَبدة بِهِ وَعَن
مُحَمَّد بن حَاتِم عَن ابْن مهْدي عَن مَالك بِهِ وَعَن
أبي كريب عَن أبي أُسَامَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الزّهْد عَن هناد بن السّري، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الصَّيْد وَفِي السّير عَن مُحَمَّد بن آدم وَعَن
الْحَارِث ب مِسْكين. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بعث رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بعثاً) كَانَ هَذَا الْبَعْث فِي رَجَب
سنة ثَمَان لِلْهِجْرَةِ، والبعث، بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره ثاء
مُثَلّثَة: وَهُوَ بِمَعْنى الْمَبْعُوث، من بَاب
تَسْمِيَة الْمَفْعُول بِالْمَصْدَرِ. قَوْله: (قبل
السَّاحِل) ، بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة
أَي: جِهَة السَّاحِل، والساحل شاطىء الْبَحْر. قَوْله:
(فأمَّر) ، بتَشْديد الْمِيم: من التأمير، أَي: جعل أَبَا
عُبَيْدَة أَمِيرا عَلَيْهِم، وَاسم أبي عُبَيْدَة: عَامر
بن عبد الله بن الْجراح، بِفَتْح الْجِيم وَتَشْديد
الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: الفِهري الْقرشِي
أَمِين الْأمة، أحد الْعشْرَة المبشرة، شهد الْمشَاهد
كلهَا، وَثَبت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
يَوْم أحد وَنزع الحلقتين اللَّتَيْنِ دخلتا فِي وَجه
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حلق المنفر
بِفِيهِ، فَوَقَعت ثنيتاه، مَاتَ سنة ثَمَانِي عشرَة فِي
طاعون عمواس، وقبره بغور نيسان عِنْد قَرْيَة تسمى عمتا،
وَصلى عَلَيْهِ معَاذ بن جبل
(13/41)
وَكَانَ سنه يَوْم مَاتَ ثمانياً وَخمسين
سنة. قَوْله: (وهم) ، أَي: الْبَعْث الَّذِي هُوَ الْجَيْش
ثَلَاثمِائَة أنفس. قَوْله: (فني الزَّاد) ، قَالَ
الْكرْمَانِي: إِذا فني فَكيف أَمر بِجمع الأزواد؟
فَأجَاب: بِأَنَّهُ إِمَّا أَن يُرِيد بِهِ فنَاء زَاده
خَاصَّة، أَو يُرِيد بالفناء الْقلَّة. قلت: يجوز أَن
يُقَال معنى: فنى: أشرف على الفناء. قَوْله: (فَكَانَ
مزودي تمر) ، المزود، بِكَسْر الْمِيم: مَا يَجْعَل فِيهِ
الزَّاد، كالجراب. وَفِي رِوَايَة مُسلم: بعثنَا رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وزودنا جراباً من تمر لم
يجد لنا غَيره، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة يُعْطِينَا
تَمْرَة تَمْرَة. قَوْله: (لقد وجدنَا فقدها حِين فنيت) ،
أَي: وجدنَا فقدها مؤثراً شاقاً علينا، وَلَقَد حزنَّا
لفقدها. قَوْله: (ثمَّ انتهينا إِلَى الْبَحْر فَإِذا حوت)
، كلمة: إِذا، للمفاجأة، والحوت يَقع على الْوَاحِد
وَالْجمع، وَقَالَ صَاحب (الْمُنْتَهى) : وَالْجمع حيتان،
وَهِي الْعِظَام مِنْهَا. وَقَالَ ابْن سيدة: الْحُوت
السّمك اسْم جنس، وَقيل: هُوَ مَا عظم مِنْهُ، وَالْجمع
أحوات. وَفِي كتاب الْفراء: جمعه أحوته وأحوات فِي
الْقَلِيل، فَإِذا كثرت فَهِيَ الْحيتَان. قَوْله: (مثل
الظرب) ، بِفَتْح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء:
مُفْرد الظراب، وَهِي الروابي الصغار. وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: الظراب الْجبَال الصغار وَاحِدهَا ظرب، بِوَزْن
كتف، وَقد يجمع فِي الْقلَّة على: أظراب. قَوْله:
(ثَمَانِي عشرَة لَيْلَة) ، كَذَا هُوَ فِي نُسْخَة
الْأصيلِيّ، وَرُوِيَ: ثَمَانِيَة عشر لَيْلَة، وَقَالَ
ابْن التِّين: الصَّوَاب هُوَ الأول. وَرُوِيَ: فأكلنا
مِنْهُ شهرا. وَرُوِيَ: نصف شهر، وَقَالَ عِيَاض: يَعْنِي:
أكلُوا مِنْهُ نصف شهر طرياً، وَبَقِيَّة ذَلِك قديداً.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: من قَالَ شهرا هُوَ الأَصْل وَمَعَهُ
زِيَادَة علم، وَمن روى دونه لم ينف الزِّيَادَة، وَلَو
نفاها قدم الْمُثبت، وَالْمَشْهُور عِنْد الْأُصُولِيِّينَ
أَن مَفْهُوم الْعدَد لَا حكم لَهُ فَلَا يلْزم مِنْهُ نفي
الزِّيَادَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَأَقَمْنَا
عَلَيْهَا شهرا، وَلَقَد رَأَيْتنَا تغترق من وَقب عينه
قلال الدّهن، ونقتطع مِنْهُ الفدر، كالثور، وَلَقَد أَخذ
منا أَبُو عُبَيْدَة ثَلَاثَة عشر رجلا فَأَقْعَدَهُمْ فِي
وَقب عينه وتزودنا من لَحْمه وشائق، فَلَمَّا قدمنَا
الْمَدِينَة أَتَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَذَكرنَا ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: هُوَ رزق أخرجه الله
لكم، فَهَل مَعكُمْ من لَحْمه شيى فتطعمونا؟ قَالَ:
فَأَرْسَلنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مِنْهُ فَأَكله) . قَوْله: (بضلعين) ، ضبط بِكَسْر الضَّاد
وَفتح اللَّام، وَقَالَ فِي (أدب الْكَاتِب) : ضلع وضلع.
وَقَالَ الْهَرَوِيّ: هما لُغَتَانِ، والضلع مُؤَنّثَة،
والوقب، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْقَاف وبالباء
الْمُوَحدَة: هُوَ النقرة الَّتِي يكون فِيهَا الْعين.
قَوْله: (الفدر) ، بِكَسْر الْفَاء وَفتح الدَّال
الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء: جمع فدرة، وَهِي الْقطعَة
من اللَّحْم، (والوشائق) ، بالشين الْمُعْجَمَة: جمع
وشيقة، وَهِي اللَّحْم القديد. وَقيل: الوشيقة أَن يُؤْخَذ
اللَّحْم فيغلى قَلِيلا وَلَا ينضج، فَيحمل فِي
الْأَسْفَار. وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ: (نرصد عيرًا لقريش،
فَأَقَمْنَا بالسَّاحل نصف شهر فأصابنا جوع شَدِيد حَتَّى
أكلنَا الْخبط، فَسُمي ذَلِك الْجَيْش بِجَيْش الْخبط،
فَألْقى لنا الْبَحْر دَابَّة يُقَال لَهَا: العنبر،
فأكلنا مِنْهَا نصف شهر وادَّهنَّا من ودكه حَتَّى ثَابت
إِلَيْنَا أجسامنا) . وَفِي مُسلم: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة:
يَعْنِي بالعنبر ميتَة، ثمَّ قَالَ: لَا بل نَحن رسل
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي سَبِيل الله
عز وَجل، وَقد اضطررتم فَكُلُوا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: جمعُ أبي
عُبيدة الأزواد وقسمتها بِالسَّوِيَّةِ إِمَّا إِن يكون
حكما حكم بِهِ لِما شَاهد من الضَّرُورَة وخوفه من تلف من
لم يبْق مَعَه زَاد، فَظهر لَهُ أَنه وَجب على من مَعَه
أَن يواسي من لَيْسَ لَهُ زَاد، أَو يكون عَن رضَا
مِنْهُم، وَقد فعل مثل ذَلِك غير مرّة سيدنَا رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلذَلِك قَالَ بعض الْعلمَاء
هُوَ سنَّة. وَقَالَ ابْن بطال: إستدل بعض الْعلمَاء
بِهَذَا الحَدِيث بِأَنَّهُ لَا يقطع سَارِق فِي مجاعَة،
لِأَن الْمُوَاسَاة وَاجِبَة للمحتاجين وَخَصه أَبُو عمر
بِسَرِقَة المأكل. وَفِيه: أَن للْإِمَام أَن يواسي بَين
النَّاس فِي الأقوات فِي الْحَضَر بِثمن وَغَيره، كَمَا
فعل ذَلِك فِي السّفر. وَفِيه: قُوَّة إِيمَان هَؤُلَاءِ
الْبَعْث، إِذْ لَو ضعف، وَالْعِيَاذ بِاللَّه، لما
خَرجُوا وهم ثَلَاثمِائَة وَلَيْسَ مَعَهم سوى جراب تمر
أَو مزودي تمر، كَمَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور. قَالَ
عِيَاض: وَيحْتَمل أَن يكون، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
زودهم الجراب زَائِدا عَمَّا كَانَ مَعَهم من الزَّاد من
أَمْوَالهم، وَيحْتَمل أَنه لم يكن فِي أَزْوَادهم تمر غير
هَذَا الجراب، وَكَانَ مَعَهم غَيره من الزَّاد. وَقيل:
يحْتَمل أَن الجراب الَّذِي زودهم الشَّارِع كَانَ على
سَبِيل الْبركَة، فَلِذَا كَانُوا يأخذونه تَمْرَة
تَمْرَة. وَفِيه: فضل أبي عُبَيْدَة، وَلِهَذَا سَمَّاهُ
الشَّارِع: أَمِين هَذِه الْأمة. وَفِيه: النّظر فِي
الْقَوْم وَالتَّدْبِير فِيهِ وَفضل الصَّحَابَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم، على مَا كَانَ فيهم من الْبُؤْس
وَقد اسْتَجَابُوا لله وَلِلرَّسُولِ من بَعْدَمَا
أَصَابَهُم الْقرح. وَفِيه: رضاهم بِالْقضَاءِ وطاعتهم
للأمير. وَفِيه: جَوَاز الشّركَة فِي الطَّعَام خلط
الأزواد فِي السّفر إِذا كَانَ ذَلِك أرْفق بهم.
(13/42)
4842 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مَرْحُومٍ قَالَ
حدَّثنا حاتِمُ بنُ إسْمَاعِيلَ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي
عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ
خَفَّتْ أزْوَادُ الْقَوْمِ وأمْلَقُوا فأتَوُا النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَحْرِ إبِلِهِمْ فأذِنَ
لَهُمْ فَلَقِيَهُمْ عُمَرُ فأخْبَرُوهُ فَقَالَ مَا
بَقاؤُكُمْ بَعْدَ إبِلِكُمْ فدَخَلَ عَليّ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رسولَ الله مَا
بَقَاؤُهُمْ بعْدَ إبِلِهِمْ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نادِ فِي النَّاسِ فَيَأْتُونَ بِفَضْلِ
أزْوَادِهِمْ فَبُسِطَ لِذالِكَ نِطْعٌ وجَعَلُوهُ علَي
النِّطْعِ فقامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فدَعا
وبَرَّكَ علَيْهِ ثُمَّ دَعَاهُمْ بِأوْعِيَتِهِمْ
فاحْتَثاى النَّاسُ حتَّى فرَغُوا ثمَّ قَالَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أشْهَدْ أنْ لَا إلاه إلاَّ الله
وأنِّي رسولُ الله.
(الحَدِيث 4842 طرفه فِي: 2892) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَيَأْتُونَ
بِفضل أَزْوَادهم) وَمن قَوْله: (فَدَعَا وبرَّك عَلَيْهِ)
فَإِن فِيهِ جمع أَزْوَادهم وَهُوَ فِي معنى النهد، ودعا
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهَا بِالْبركَةِ.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مَرْحُوم
هُوَ بشر بن عُبَيْس بن مَرْحُوم بن عبد الْعَزِيز
الْعَطَّار. الثَّانِي: حَاتِم بن إِسْمَاعِيل أَبُو
إِسْمَاعِيل. الثَّالِث: يزِيد بن أبي عبيد مولى سَلمَة بن
الْأَكْوَع، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة سِتّ أَو سبع
وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: سَلمَة بن الْأَكْوَع،
واسْمه سِنَان بن عبد الله الْأَسْلَمِيّ، وكنيته: أَبُو
مُسلم، وَقيل: أَبُو عَامر، وَقيل: أَبُو إِيَاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل
فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه
بَصرِي وَأَن حاتماً كُوفِي سكن الْمَدِينَة وَأَن يزِيد
مدنِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن
بشر بن مَرْحُوم أَيْضا وَهُوَ من أَفْرَاده، وَقَالَ
الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْعَبَّاس
حَدثنَا أَحْمد بن يُونُس حَدثنَا النَّضر ابْن مُحَمَّد
حَدثنَا عِكْرِمَة بن عمار عَن إِيَاس بن سَلمَة عَن
أَبِيه بِمَعْنى هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَقَالَ أَحْمد بن
حَنْبَل: عِكْرِمَة عَن إِيَاس صَحِيح، أَو مَحْفُوظ أَو
كلَاما نَحْو هَذَا. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : يُرِيد
الْإِسْمَاعِيلِيّ: بِنَحْوِهِ، مَا روينَاهُ من عِنْد
الطَّبَرَانِيّ: حَدثنَا أَبُو حُذَيْفَة حَدثنَا مُحَمَّد
بن الْحسن بن كيسَان حَدثنَا عِكْرِمَة بن عمار عَن إِيَاس
بن سَلمَة عَن أَبِيه، قَالَ: غزونا مَعَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، هوَازن فأصابنا جهد شَدِيد حَتَّى
هممنا بنحر بعض ظهرنا، وَفِيه: فتطاولت لَهُ، يَعْنِي
للأزواد، أنظر كم هُوَ؟ فَإِذا هُوَ كربض الشَّاة، قَالَ:
فحشونا جربنَا، ثمَّ دَعَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، بنطفة من مَاء فِي أَدَاة فَأمر بهَا فصبت فِي قدح،
فَجعلنَا نتطهر بِهِ حَتَّى تطهرنا جَمِيعًا. قَوْله:
(كربض الشَّاة) بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة
وبالضاد الْمُعْجَمَة: وَهُوَ مَوضِع الْغنم الَّذِي تربض
فِيهِ، أَي: تمكث فِيهِ، من ربض فِي الْمَكَان يربض إِذا
لصق بِهِ وَأقَام ملازماً لَهُ. قَوْله جربنَا بِضَم
الْجِيم وَسُكُون الرَّاء جمع جراب. قَوْله: (بنطفة من
مَاء) النُّطْفَة، يُقَال للْمَاء الْكثير والقليل، وَهُوَ
بِالْقَلِيلِ أخص.
قَوْله: (خفت أزواد الْقَوْم) أَي: قلَّت، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي: أزودة الْقَوْم. قَوْله: (وأملقوا) أَي:
افتقروا، يُقَال: أملق إِذا افْتقر. قَوْله: (نطع) ، فِيهِ
أَربع لُغَات. قَوْله: (وبرَّك) ، بتَشْديد الرَّاء أَي
دَعَا بِالْبركَةِ عَلَيْهِ. قَوْله: (بِأَوْعِيَتِهِمْ) ،
جمع وعَاء. قَوْله: (فأحتثى النَّاس) ، بِسُكُون الْحَاء
الْمُهْملَة بعْدهَا تَاء مثناة من فَوق ثمَّ ثاء مثبتة:
من الاحتثاء من حثا يحثو حثوا، وحثى يحثي حثياً إِذا حفن
حفْنَة. قَوْله: (ثمَّ قَالَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَن
هَذَا كَانَ معْجزَة لَهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي
رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ فِي (دلائله) من حَدِيث عبد
الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة الْأنْصَارِيّ عَن أَبِيه،
وَفِيه: فَمَا بَقِي فِي الْجَيْش وعَاء إلاَّ ملؤه
وَبَقِي مثله، فَضَحِك حَتَّى بَدَت نواجده وَقَالَ: أشهد
أَن لَا إلاه إلاَّ الله، وَأَنِّي رَسُول الله، لَا يلقى
الله عبد مأمن بهما إلاَّ حُجِبَ من النَّار.
5842 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسفَ قَالَ حدَّثنا
الأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثنا أبُو النَّجَاشِيِّ قَالَ
سَمِعْتُ
(13/43)
رافِعَ بنَ خَدِيجٍ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فنَنْحَرُ جَزُوراً فيُقْسَمُ عَشْرَ قِسْمٍ
فَنَأْكُلُ لَحْمَاً نَضِيحاً قَبْلَ أنْ تَغْرُبَ
الشَّمْسُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَيقسم عشر قسم)
فَإِن فِيهِ جمع الْأَنْصِبَاء مِمَّا يُوزن مجازفة.
وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، قَالَه الْحَافِظ
أَبُو نعيم، وَالْأَوْزَاعِيّ هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عمر،
وَأَبُو النَّجَاشِيّ، بِفَتْح النُّون وَالْجِيم المخففة
وبالشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء وتخفيفها: واسْمه
عَطاء بن صُهَيْب، وَرَافِع، بِالْفَاءِ: ابْن خديج،
بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الدَّال الْمُهْملَة
وبالجيم.
والْحَدِيث مضى من هَذَا الْوَجْه فِي كتاب مَوَاقِيت
الصَّلَاة فِي: بَاب وَقت الْمغرب، والمتن غير الْمَتْن.
قَوْله: (عشر قسم) بِكَسْر الْقَاف وَفتح السِّين: جمع
قسْمَة. قَوْله: (لَحْمًا نضيجاً) ، بِفَتْح النُّون وَكسر
الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره جِيم أَي: مستوياً.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: النضيج الْمَطْبُوخ، فعيل
بِمَعْنى مفعول.
وَفِيه: قسْمَة اللَّحْم من غير ميزَان لِأَنَّهُ من بَاب
الْمَعْرُوف، وَهُوَ مَوْضُوع للْأَكْل. وَقَالَ ابْن
التِّين: فِيهِ: الْحجَّة على من زعم أَن أول وَقت
الْعَصْر مصير ظلّ الشَّيْء مثلَيْهِ. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: إِن وَقت الْعَصْر عِنْد مصير الظل مثلَيْهِ
ليسع هَذَا الْمِقْدَار. قلت: هَذَا مُخَالف لما قَالَه
ابْن التِّين على مَا لَا يخفى.
6842 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدَّثنا
حَمَّادُ بنُ أُسَامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبِي بُرْدَةَ
عنْ أبِي مُوساى قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذَا أرْمَلُوا فِي الغَزْوِ
أوْ قَلَّ طَعامُ عِيَالِهِمْ بالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا
كانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ واحِدٍ ثُمَّ اقْتَسَموهُ
بَيْنَهُمْ فِي إنَاءٍ واحدٍ بالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي
وأنَا مِنْهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (جمعُوا مَا
كَانَ عِنْدهم فِي ثوب وَاحِد ثمَّ اقتسموه بَينهم) وَلَا
يخفى على المتأمل ذَلِك، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه
مضى فِي: بَاب فضل من علم.
وبريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن عبد الله بن أبي
بردة يروي عَن جده أبي بردة واسْمه الْحَارِث، وَقيل:
عَامر، وَقيل: اسْمه كنيته، يروي عَن أَبِيه أبي مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ وَأبي كريب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
السّير عَن مُوسَى بن هَارُون.
قَوْله: (إِن الْأَشْعَرِيين) جمع أشعري، بتَشْديد الْيَاء
نِسْبَة إِلَى الإشعر، قَبيلَة من الْيمن، ويروى: إِن
الأشعرين، بِدُونِ يَاء النِّسْبَة، وَتقول الْعَرَب:
جَاءَك الأشعرون بِحَذْف الْيَاء. قَوْله: (إِذا أرملوا) ،
أَي: إِذا فني زادهم، من الإرمال، بِكَسْر الْهمزَة وَهُوَ
فنَاء الزَّاد وإعواز الطَّعَام، وَأَصله من الرمل،
كَأَنَّهُمْ لصقوا بالرمل من الْقلَّة كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {ذَا مَتْرَبَة} (الْبَلَد: 61) . قَوْله: (فهم
مني) أَي: متصلون بِي، وَكلمَة: من، هَذِه تسمى اتصالية،
نَحْو: لَا أَنا من الدَّد وَلَا الدَّد مني. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ الْمُبَالغَة فِي اتِّحَاد طريقهما
واتفاقهما فِي طَاعَة الله تَعَالَى. وَقيل: المُرَاد
فعلوا فعلي فِي الْمُوَاسَاة.
وَفِيه: منقبة عَظِيمَة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم
بِشَهَادَة سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَأعظم مَا شرفوا بِهِ كَونه أضافهم إِلَيْهِ. وَفِيه:
اسْتِحْبَاب خلط الزَّاد فِي السّفر والحضر أَيْضا،
وَلَيْسَ المُرَاد بِالْقِسْمَةِ هُنَا الْقِسْمَة
الْمَعْرُوفَة عِنْد الْفُقَهَاء، وَإِنَّمَا المُرَاد
هُنَا إِبَاحَة بَعضهم بَعْضًا بموجوده. وَفِيه: فَضِيلَة
الإيثار والمواساة. وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه: جَوَاز هبة
الْمَجْهُول. قلت: لَيْسَ شَيْء فِي الحَدِيث يدل على
هَذَا، وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ مواساة بَعضهم بَعْضًا
وَالْإِبَاحَة، وَهَذَا لَا يُسمى هبة، لِأَن الْهِبَة
تمْلِيك المَال، وَالتَّمْلِيك غير الْإِبَاحَة،
وَأَيْضًا: الْهِبَة لَا تكون إلاَّ بِالْإِيجَابِ
وَالْقَبُول لقِيَام العقد بهما، وَلَا بُد فِيهَا من
الْقَبْض عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء من التَّابِعين
وَغَيرهم، وَلَا يجوز فِيمَا يقسم إلاَّ محوزة مقسومة
كَمَا عرف فِي موضعهَا.
2 - (بابُ مَا كانَ مِنْ خَلِيَطَيْنِ فإنَّهُمَا
يتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بالسَّوِيَّةِ فِي الصَّدَقَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا كَانَ من خليطين، أَي:
مخالطين، وهما الشريكان إِذا كَانَ من أَحدهمَا تصرف من
إِنْفَاق مَال الشّركَة أَكثر مِمَّا أنْفق صَاحبه،
فَإِنَّهُمَا يتراجعان عِنْد الرِّبْح بِقدر مَا أنْفق كل
وَاحِد مِنْهُمَا، فَمن أنْفق قَلِيلا يرجع على من أنْفق
أَكثر مِنْهُ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما
أَمر الخليطين فِي الْغنم بالتراجع بَينهمَا
(13/44)
بِالسَّوِيَّةِ، وهما شريكان، دلّ على أَن
كل شريك فِي مَعْنَاهُمَا. قَوْله: (فِي الصَّدَقَة) ، قيد
بهَا لوُرُود الحَدِيث فِي الصَّدَقَة، لِأَن التراجع لَا
يَصح بَين الشَّرِيكَيْنِ فِي الرّقاب.
7842 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عبْدِ الله بنِ الْمُثَنَّى
قَالَ حدَّثني أبي قَالَ حدَّثني ثُمَامَةُ بنُ عبْدِ الله
بنِ أنَسٍ أَن أنَساً حدَّثَهُ أنَّ أبَا بَكْرٍ
الصِّدِّيقَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كتَبَ لَهُ فرِيضَةَ
الصَّدَقَةِ الَّتِي فرَضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ وَمَا كانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فإنَّهُمَا
يتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بالسَّوِيَّةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَمَا كَانَ من
خليطين) إِلَى آخِره، وَهَذَا الْإِسْنَاد كُله
بِالتَّحْدِيثِ، وَهُوَ غَرِيب، والْحَدِيث بِعَين هَذِه
التَّرْجَمَة وَعين هَؤُلَاءِ الروَاة مضى فِي كتاب
الزَّكَاة فِي: بَاب مَا كَانَ من خليطين، فَإِنَّهُمَا
يتراجعان بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ.
3 - (بابُ قِسْمَةِ الغَنَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قسْمَة الْغنم بِالْعَدْلِ،
وَفِي بعض النّسخ: بَاب قسم الْغنم.
8842 - حدَّثنا علِيُّ بنُ الْحَكَمِ الأنْصَارِيُّ قَالَ
حدَّثنا أبُو عَوانَةَ عنْ سعِيدٍ بنِ مَسْرُوقٍ عنْ
عَبابَةَ بنِ رَفاعَةَ بنِ رافِعِ بنِ خَدِيجٍ عنْ جَدِّهِ
قَالَ كُنَّا معَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذِي
الْحُلَيْفَةِ فأصَابَ النَّاسَ جُوعٌ فأصابُوا إبِلا
وَغنما قَالَ وكانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
أخرَيَاتِ الْقَوْمِ فعَجِلُوا وذبَحُوا ونصَبُوا
الْقُدُورَ فأمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بالقدُورِ فأُكْفِئَتْ ثُمَّ قسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ
الغَنَمِ بِبَعِيرٍ فنَدَّ مِنْها بعيرٌ فطَلبُوهُ
فأعْياهُمْ وكانَ فِي القَوْمِ خَيْل يَسِيرَةٌ فأهْواى
رجُلٌ مِنْهُم بِسَهْمٍ فحَبَسَهُ الله ثمَّ قَالَ إنَّ
لِهاذِهِ الْبَهَائِم أوابِدَ كأوابِدِ الوَحْشِ فَمَا
غلبَكُمْ منْها فاصْنَعُوا بِهِ هاكذا فَقَالَ جدِّي إنَّا
نَرْجُو أوْ نخافُ العدُوَّ غَدا وليْستْ مَعَنا مُدًى
أفَنَذْبَحُ بالْقصبِ قَالَ مَا أنْهرَ الدَّمَ وذُكرَ
اسمُ الله عَلَيْهِ فَكُلُوهُ ليْسَ السِّنَّ والظُّفْرَ
فسأُحَدِّثُكُمْ عنْ ذالِكَ أمَّا السِّنَّ فَعَظْمٌ
وأمَّا الظُّفْرَ فَمُدَي الحَبْشَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ قسم فَعدل عشرَة
من الْغنم بِبَعِير) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن الحكم، بِفَتْح
الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف: الْأنْصَارِيّ.
الثَّانِي: أَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة
وَبعد الْألف نون: واسْمه الوضاح بن عبد الله
الْيَشْكُرِي. الثَّالِث: سعيد بن مَسْرُوق بن عدي
الثَّوْريّ وَالِد سُفْيَان الثَّوْريّ. الرَّابِع:
عَبَايَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء
الْمُوَحدَة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف مَفْتُوحَة:
ابْن رِفَاعَة بن رَافع بن خديج. الْخَامِس: رَافع بن خديج
بن رَافع بن عدي الأوسي الْأنْصَارِيّ الْحَارِثِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده
وَهُوَ مروزي من قَرْيَة تدعى غزا. وَأَن أَبَا عوَانَة
واسطي وَأَن سعيد بن مَسْرُوق كُوفِي وَأَن عَبَايَة
مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة عَبَايَة عَن جده، وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: وَرَوَاهُ أَبُو الْأَحْوَص عَن سعيد بن
مَسْرُوق عَن عَبَايَة بن رِفَاعَة عَن أَبِيه عَن جده،
وَتَابعه عبد الْوَارِث بن سعيد عَن لَيْث بن أبي سليم
ومبارك بن سعيد بن مَسْرُوق، فَقَالَا: عَن عَبَايَة عَن
أَبِيه عَن جده، وَسَيَجِيءُ فِي الذَّبَائِح رِوَايَة
البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَبَايَة بن رِفَاعَة عَن أَبِيه
عَن جده. قلت: رَافع بن خديج روى عَنهُ ابْنه رِفَاعَة بن
رَافع وَابْن ابْنه عَبَايَة بن رِفَاعَة بن رَافع بن
خديج، على خلاف فِيهِ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الشّركَة عَن مُحَمَّد بن وَكِيع وَفِي
الْجِهَاد والذبائح عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي
الذَّبَائِح أَيْضا عَن مُسَدّد وَعَن عَمْرو بن عَليّ
وَعَن عَبْدَانِ وَعَن مُحَمَّد بن سَلام بالقصة
الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة،
(13/45)
وَعَن قبيصَة بِبَعْض الْقِصَّة
الثَّالِثَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَضَاحِي عَن إِسْحَاق
بن إِبْرَاهِيم وَعَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّاء وَعَن
مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن الْوَلِيد وَعَن
ابْن أبي عمر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الذَّبَائِح عَن
مُسَدّد بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الصَّيْد عَن
هناد عَن بنْدَار بالقصة الثَّالِثَة وَعَن مَحْمُود بن
غيلَان بالقصة الأولى وَالثَّانيَِة، وَأَعَادَهُ فِي
السّير عَن هناد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن
مَحْمُود بن غيلَان بهما وَعَن هناد بهما، وَفِي الصَّيْد
عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَفِي الذَّبَائِح عَن هناد
بالقصة الثَّالِثَة وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور بالقصة
الثَّالِثَة وَعَن عَمْرو بن عَليّ بالقصة الثَّانِيَة
وَالثَّالِثَة وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود بهما، وَفِي
الْأَضَاحِي عَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم بِبَعْض
الْقِصَّة الثَّانِيَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الْأَضَاحِي عَن أبي كريب بالقصة الأولى وَفِي الذَّبَائِح
عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير مقطعاً فِي موضِعين.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِذِي الحليفة) ، قَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) ، رَحمَه الله: وَذُو الحليفة هَذِه لَيست
الْمِيقَات إِنَّمَا هِيَ الَّتِي من تهَامَة عِنْد ذَات
عرق، ذكره ياقوت وَغَيره. قلت: فِي رِوَايَة مُسلم هَكَذَا
عَن رَافع بن خديج، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، بِذِي الحليفة من تهَامَة. وَذكر
الْقَابِسِيّ أَنَّهَا المهلَّ الَّتِي بِقرب الْمَدِينَة،
وَقَالَهُ أَيْضا النَّوَوِيّ، وَفِيه نظر من حَيْثُ أَن
فِي الحَدِيث ردا لقولهما، وَقَالَ ابْن التِّين: وَكَانَت
سنة ثَمَان من الْهِجْرَة فِي قَضِيَّة حنين. قَوْله: (فِي
أخريات الْقَوْم) ، أَي: فِي أواخرهم وَأَعْقَابهمْ، وَهِي
جمع أُخْرَى، وَكَانَ يفعل ذَلِك رفقا لمن مَعَه ولحمل
الْمُنْقَطع. قَوْله: (فعجلوا) ، بِكَسْر الْجِيم. قَوْله:
(فأكفئت) ، أَي: قلبت وأميلت وأريق مَا فِيهَا، وَهُوَ من
الإكفاء، قَالَ ثَعْلَب: كفأت الْقدر إِذا كببته،
وَكَذَلِكَ قَالَه الْكسَائي وَأَبُو عَليّ القالي وَابْن
الْقُوطِيَّة فِي آخَرين، فعلى هَذَا إِنَّمَا يُقَال:
فكفئت وأكفئت إِنَّمَا قَالَ على قَول ابْن السّكيت فِي
(الْإِصْلَاح) : لِأَنَّهُ نقل عَن ابْن الْأَعرَابِي
وَأبي عبيد وَآخَرين، يُقَال: أكفئت وَقَالَ ابْن التِّين:
صَوَابه كفئت بِغَيْر ألف من كفأت الْإِنَاء مهموزاً،
وَاخْتلف فِي إمالة الْإِنَاء، فَيُقَال فِيهَا: كفأت
وَأَكْفَأت، وَكَذَلِكَ اخْتلف فِي أكفأت الشَّيْء لوجهه.
وَقد اخْتلف فِي سَبَب أمره بإكفاء الْقُدُور، فَقيل:
إِنَّهُم انتهبوها مالكين لَهَا من غير غنيمَة، وَلَا على
وَجه الْحَاجة إِلَى أكلهَا، يشْهد لَهُ قَوْله فِي
رِوَايَة: فانتهبناها. قلت: وَلَا على وَجه الْحَاجة إِلَى
أكلهَا، فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ ذكر فِي بَاب النهبة:
فأصابتنا مجاعَة، فَهُوَ بَيَان لوجه الْحَاجة. وَقيل:
إِنَّمَا كَانَ لتركهم الشَّارِع فِي أخريات الْقَوْم
واستعجالهم وَلم يخَافُوا من مكيدة الْغدر فحرمهم
الشَّارِع مَا استعجلوه عُقُوبَة لَهُم بنقيضي قصدهم،
كَمَا منع الْقَاتِل من الْمِيرَاث. قَالَه الْقُرْطُبِيّ:
وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أبي دَاوُد: وَتقدم سرعَان النَّاس
فتعجلوا فَأَصَابُوا الْغَنَائِم وَرَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِي آخر النَّاس. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
إِنَّمَا أَمرهم بذلك لأَنهم كَانُوا قد انْتَهوا إِلَى
دَار الْإِسْلَام، وَالْمحل الَّذِي لَا يجوز الْأكل فِيهِ
من مَال الْغَنِيمَة الْمُشْتَركَة، فَإِن الْأكل مِنْهَا
قبل الْقسم إِنَّمَا يُبَاح فِي دَار الْحَرْب، والمأمور
بِهِ من الإراقة إِنَّمَا هُوَ إِتْلَاف المرق عُقُوبَة
لَهُم، وَأما اللَّحْم فَلم يتلفوه، بل يحمل على أَنه جُمع
ورُد إِلَى الْمغنم، وَلَا يظنّ أَنه أَمر بإتلافه
لِأَنَّهُ مَال الْغَانِمين، وَلِأَنَّهُ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن إِضَاعَة المَال. فَإِن قلت: لم
ينْقل أَنهم حملوه إِلَى الْغَنِيمَة؟ قلت: وَلَا نقل
أَيْضا أَنهم أحرقوه وَلَا أتلفوه، فَوَجَبَ تَأْوِيله على
وفْق الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة، بِخِلَاف لحم الْحمر
الْأَهْلِيَّة يَوْم خَيْبَر لِأَنَّهَا صَارَت نَجِسَة.
قَوْله: (فَعدل) هَذَا مَحْمُول على أَنه كَانَ يحْسب
قيمتهَا يَوْمئِذٍ، وَلَا يُخَالف قَاعِدَة الْأُضْحِية من
إِقَامَة بعير مقَام سبع شِيَاه، لِأَن هَذَا هُوَ
الْغَالِب فِي قيمَة الشَّاة وَالْإِبِل المعتدلة. قَوْله:
(فندَّ) ، بِفَتْح النُّون وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة،
أَي: نفر، وَذهب على وَجهه شارداً، يُقَال: ندَّ يندُّ ندا
وندوداً. قَوْله: (فأعياهم) ، أَي: أعجزهم، يُقَال: أعيى
إِذا أعجز، وعيى بأَمْره إِذا لم يهتد لوجهه، وأعياني
هُوَ، قَوْله: (يسيرَة) ، أَي: قَليلَة. قَوْله: (فَأَهوى)
، أَي: قصد، قَالَ الْأَصْمَعِي: أهويت بالشَّيْء إِذا
أَوْمَأت إِلَيْهِ. قَوْله: (أوابد) ، جمع آبدة، بِالْمدِّ
وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة المخففة، يُقَال مِنْهُ: أبدت
تأبُد، بِضَم الْبَاء وتأبِد بِكَسْرِهَا، وَهِي الَّتِي
نفرت من الْإِنْس وتوحشت. وَقَالَ الْقَزاز: مَأْخُوذَة من
الْأَبَد، وَهِي الدَّهْر لطول مقَامهَا. وَقَالَ أَبُو
عبيد: أخذت من تأبدت الدَّار تأبداً، وأبدت تأبد أبوداً:
إِذا خلا مِنْهَا أَهلهَا. قَوْله: (مِنْهَا) ، أَي: من
الأوابد. قَوْله: (فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) أَي: إرموه
بِالسَّهْمِ. قَوْله: (قَالَ جدي إِنَّا نرجو أَو نَخَاف)
، قَالَ الْكرْمَانِي: نرجو بِمَعْنى نَخَاف، وَلَفظ: أَو
نَخَاف، شكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ ابْن التِّين: هما
سَوَاء. قَالَ تَعَالَى: {فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه}
(الْكَهْف: 11) .
(13/46)
أَي: يخافه. وَقَوله: (جدي) هُوَ جد
عَبَايَة بن رِفَاعَة بن رَافع بن خديج، وعباية الَّذِي
هُوَ أحد الروَاة يَحْكِي عَن جده رَافع بن خديج أَنه
قَالَ: نرجو، أَو قَالَ: إِنَّا نَخَاف، والرجاء هُنَا
بِمَعْنى الْخَوْف. قَوْله: (مدي) ، بِضَم الْمِيم، جمع
مدية وَهِي السكين. قَوْله: (أفنذبح بالقصب؟) وَفِي
رِوَايَة لمُسلم: فنذكي بالليط، بِكَسْر اللَّام وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالطاء الْمُهْملَة: هِيَ قطع
الْقصب، قَالَه الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
قشوره، الْوَاحِد ليطة. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) : أنذكي
بالمروة. فَإِن قلت: مَا معنى هَذَا السُّؤَال عِنْد
لِقَاء الْعَدو؟ قلت: لأَنهم كَانُوا عازمين على قتال
الْعَدو وصانوا سيوفهم وأسنتهم وَغَيرهَا عَن
اسْتِعْمَالهَا، لِأَن ذَلِك يفْسد الْآلَة، وَلم يكن
لَهُم سكاكين صغَار معدة للذبح. قَوْله: (مَا أنهر الدَّم)
، أَي: مَا أسَال وأجرى الدَّم، وَكلمَة: مَا، شَرْطِيَّة
وموصولة، وَالْحكمَة فِي اشْتِرَاط الإنهار التَّنْبِيه
على أَن تَحْرِيم الْميتَة لبَقَاء دَمهَا، وَيُقَال: معنى
أنهر الدَّم أساله وصبه بِكَثْرَة، وَهُوَ مشبه بجري
المَاء فِي النَّهر، وَعند الْخُشَنِي: مَا انهز، بالزاي،
من النهز، وَهُوَ الدّفع وَهُوَ غَرِيب. قَوْله: (فكلوه)
الْفَاء جَوَاب الشَّرْط أَو لتَضَمّنه مَعْنَاهُ. قَوْله:
(لَيْسَ السن وَالظفر) ، كلمة: لَيْسَ، بِمَعْنى إلاَّ،
وإعراب مَا بعده النصب. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هما
منصوبان على الِاسْتِثْنَاء: بليس، وَفِيه مَا فِيهِ.
قَوْله: (فسأحدثكم) ، أَي: سأبين لكم الْعلَّة فِي ذَلِك،
وَلَيْسَت السِّين هُنَا للاستقبال بل للاستمرار، كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى: {سَتَجِدُونَ آخَرين} (النِّسَاء:
19) . وَزعم الزَّمَخْشَرِيّ أَن السِّين إِذا دخلت على
فعل مَحْبُوب أَو مَكْرُوه أفادت أَنه وَاقع لَا محَالة.
قَوْله: (أما السن فَعظم) ، قَالَ التَّيْمِيّ: الْعظم
غَالِبا لَا يقطع إِنَّمَا يجرح ويدمي فتزهق النَّفس من
غير أَن يتَيَقَّن وُقُوع الذَّكَاة، فَلهَذَا نهى عَنهُ،
وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَا يجوز بالعظم لِأَنَّهُ
يَتَنَجَّس بِالدَّمِ، وَهُوَ زَاد إِخْوَاننَا من
الْجِنّ، وَلِهَذَا نهى عَن الِاسْتِنْجَاء بِهِ. وَقَالَ
الْبَيْضَاوِيّ: هُوَ قِيَاس حذف عَنهُ فقدمه الثَّانِيَة
لظهورها عِنْدهم وَهِي أَن كل عظم لَا يحل الذّبْح بِهِ
قَوْله (وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة) الْمَعْنى فِيهِ أَن
لَا يتشبه بهم لأَنهم كفار، وَهُوَ شعار لَهُم. وَفِي
الحَدِيث: من تشبه بِقوم فَهُوَ مِنْهُم، رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد. وَقَالَ الْخطابِيّ: ظَاهره يُوهم أَن مدى
الْحَبَشَة لَا تقع بهَا الذَّكَاة، وَلَا خلاف أَن مُسلما
لَو ذكى بمدية حبشِي كَافِر جَازَ، فَمَعْنَى الْكَلَام:
أَن أهل الْحَبَشَة يدمون مذابح الشَّاة بأظفارهم حَتَّى
تزهق النَّفس خنقاً وتعذيباً ويحلونها مَحل الذَّكَاة،
فَلذَلِك ضرب الْمثل بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على أَنْوَاع:
الأول: عدم جَوَاز الْأكل من الْغَنِيمَة قبل الْقِسْمَة
عِنْد الِانْتِهَاء إِلَى دَار الْإِسْلَام.
الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز قسم الْغنم وَالْبَقر وَالْإِبِل
بِغَيْر تَقْوِيم، وَبِه قَالَ مَالك والكوفيون، وَأَبُو
ثَوْر إِذا كَانَ ذَلِك على التَّرَاضِي. وَقَالَ
الشَّافِعِي: لَا يجوز قسم شَيْء من الْحَيَوَان بِغَيْر
تَقْوِيم، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك على طَرِيق
الْقيمَة، أَلاَ ترى أَنه عدل عشرَة من الْغنم بِبَعِير،
وَهَذَا معنى التَّقْوِيم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَذِه
الْغَنِيمَة لم يكن فِيهَا غير الْإِبِل وَالْغنم، وَلَو
كَانَ فِيهَا غير ذَلِك لقوم جَمِيعًا وقسمه على الْقيمَة.
الثَّالِث: فِيهِ أَن مَا ند من الْحَيَوَان الْإِنْسِي لم
يقدر عَلَيْهِ جَازَ أَن يذكي بِمَا يذكى بِهِ الصَّيْد،
وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَهُوَ قَول
عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وطاووس
وَعَطَاء وَالشعْبِيّ وَالْأسود بن يزِيد وَالنَّخَعِيّ
وَالْحكم وَحَمَّاد وَالثَّوْري وَأحمد والمزني وَدَاوُد،
وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَالْجُمْهُور ذَهَبُوا إِلَى حَدِيث
أبي العشراء عَن أَبِيه قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! أما
تكون الذَّكَاة إلاَّ فِي اللبة وَالْحلق؟ قَالَ: لَو طعنت
فِي فَخذهَا لأجزأ عَنْك. قلت: حَدِيث أبي العشراء رَوَاهُ
الْأَرْبَعَة، فَأَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن يُونُس عَن
حَمَّاد بن سَلمَة عَن أبي العشراء، وَالتِّرْمِذِيّ عَن
أَحْمد بن منيع عَن يزِيد بن هَارُون عَن حَمَّاد بن
سَلمَة، وَالنَّسَائِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم
الدَّوْرَقِي عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن حَمَّاد بن
سَلمَة وَابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع
عَن حَمَّاد بن سَلمَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد أَن
رَوَاهُ: قَالَ أَحْمد بن منيع: قَالَ يزِيد هَذَا فِي
الضَّرُورَة، وَقَالَ أَيْضا: هَذَا حَدِيث غَرِيب لَا
نعرفه إلاَّ من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة، وَلَا نَعْرِف
لأبي العشراء عَن أَبِيه غير هَذَا الحَدِيث، وَاخْتلفُوا
فِي اسْم أبي العشراء، فَقَالَ بَعضهم: اسْمه أُسَامَة بن
قهطم، وَيُقَال: يسَار بن برز، وَيُقَال: ابْن بلز،
وَيُقَال: اسْمه عُطَارِد، وَقَالَ أَبُو عَليّ
الْمَدِينِيّ: الْمَشْهُور أَن اسْمه أُسَامَة بن مَالك بن
قطهم، فنسب إِلَى جده، وقهطم بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون
الْهَاء والطاء الْمُهْملَة، وَقَالَ ابْن الصّلاح فِيمَا
نَقله من خطّ الْبَيْهَقِيّ وَغَيره بِكَسْر الْقَاف،
وَقيل: قحطم بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَقَالَ مَالك
وَرَبِيعَة وَاللَّيْث: لَا يُؤْكَل إلاَّ بِذَكَاة
الْإِنْسِي بالنحر أَو الذّبْح، استصحاباً لمشروعية أصل
ذَكَاته، لِأَنَّهُ، وَإِن كَانَ قد لحق بالوحش فِي
الِامْتِنَاع
(13/47)
فَلم يلْتَحق بهَا لَا فِي النَّوْع وَلَا
فِي الحكم، أَلا يرى أَن مملك مَالِكه باقٍ عَلَيْهِ،
وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب أَيْضا، وَقَالَ مَالك:
لَيْسَ فِي الحَدِيث أَن السهْم قَتله، وَإِنَّمَا قَالَ:
حَبسه، ثمَّ بعد أَن حَبسه صَار مَقْدُورًا عَلَيْهِ،
فَلَا يُؤْكَل إلاَّ بِالذبْحِ، وَلَا فرق بَين أَن يكون
وحشياً أَو إنسياً. وَقَوله: (فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا) ،
قَالَ مَالك: نقُول بِمُوجبِه، أَي: نرميه ونحبسه فَإِن
أدركناه حَيا ذكيناه، وَإِن تلف بِالرَّمْي فَهَل نأكله
أَو لَا؟ وَلَيْسَ فِي الحَدِيث تعْيين أَحدهمَا، فلحق
بالمجملات، فَلَا ينْهض حجَّة. وَقَالُوا: فِي حَدِيث أبي
العشراء لَيْسَ بِصَحِيح، لِأَن التِّرْمِذِيّ قَالَ فِيهِ
مَا ذَكرْنَاهُ الْآن. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: لَا يصلح
هَذَا إلاَّ فِي المتردية والمستوحشة، قَالُوا: وَلَئِن
سلمنَا صِحَّته لما كَانَ فِيهِ حجَّة، إِذْ مقتضاة جَوَاز
الذَّكَاة فِي أَي عُضْو كَانَ مُطلقًا فِي الْمَقْدُور
على تذكيته وَغَيره، وَلَا قَائِل بِهِ فِي الْمَقْدُور
عَلَيْهِ، فَظَاهره لَيْسَ بِمُرَاد قطعا، وَقَالَ
شَيخنَا، رَحمَه الله: لَيْسَ الْعَمَل على عُمُوم هَذَا
الحَدِيث. وَلَعَلَّه خرج جَوَابا بالسؤال عَن المتوحش
والمتردي الَّذِي لَا يقدر على ذبحه، وَقد روى أَبُو
الْحسن الْمَيْمُونِيّ أَنه سَأَلَ أَحْمد بن حَنْبَل عَن
هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي غلط. قلت: فَمَا
تَقول؟ قَالَ: أما أَنا فَلَا يُعجبنِي وَلَا أذهب
إِلَيْهِ إلاَّ فِي مَوضِع ضَرُورَة، كَيفَ مَا أمكنتك
الذَّكَاة لَا يكون إلاَّ فِي الْحلق أَو اللبة، قَالَ:
فَيَنْبَغِي للَّذي يذبح أَن يقطع الْحلق أَو اللبة. قلت:
روى مُحَمَّد بن الْحسن عَن أبي حنيفَة عَن سعيد بن
مَسْرُوق عَن عَبَايَة بن رِفَاعَة بن رَافع عَن ابْن عمر:
أَن بَعِيرًا تردى فِي بِئْر بِالْمَدِينَةِ، فَلم يقدر
على منحره، فوجىء بسكين من قبل خاصرته، فَأخذ مِنْهُ ابْن
عمر عشيراً بِدِرْهَمَيْنِ. العشير: لُغَة فِي الْعشْر:
كالنصيف وَالنّصف. وَقيل: العشير الإمعاء، وَمَعَ هَذَا
قَول الْجَمَاعَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ فِيهِ الْكِفَايَة فِي الِاحْتِجَاج بِهِ.
الرَّابِع: فِيهِ: من شَرط الذَّكَاة إنهار الدَّم، وَلم
يخص بِشَيْء من الْعُرُوق فِي شَيْء من الْكتب السِّتَّة
إلاَّ فِي رِوَايَة رَوَاهَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه)
من رِوَايَة من لم يسم عَن رَافع بن خديج، قَالَ: سَأَلت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الذَّبِيحَة
بالليطة، فَقَالَ: كل مَا فرى الْأَوْدَاج إلاَّ السن أَو
الظفر، وَلَا شكّ أَن ذَلِك مَخْصُوص بمَكَان الذّبْح
والنحر لغَلَبَة الدَّم فِيهِ، ولكونه أسْرع إِلَى إزهاق
نفس الْحَيَوَان وإراحته من التعذيب. وَاخْتلف الْعلمَاء
فِيمَا يجب قطعه فِي الذّبْح، وَهُوَ أَرْبَعَة:
الْحُلْقُوم والمرىء والودجان فَاشْترط قطع الْأَرْبَعَة:
اللَّيْث وَدَاوُد وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر من
أَصْحَاب الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة، وَلَو اكْتفى
الشَّافِعِي وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنهُ بِقطع
الْحُلْقُوم والمريء فَقَط، وَاكْتفى مَالك بالحلقوم
والودجين، وَاكْتفى أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي
رِوَايَة بِقطع ثَلَاثَة من الْأَرْبَعَة، وَعَن أبي
يُوسُف: اشْتِرَاط الْحُلْقُوم واثنين من الثَّلَاثَة
الْبَاقِيَة، وَعنهُ أَيْضا اشْتِرَاط الْحُلْقُوم والمري
وَأحد الودجين، وَاشْترط مُحَمَّد بن الْحسن أَكثر كل
وَاحِد من الْأَرْبَعَة.
الْخَامِس: فِيهِ اشْتِرَاط التَّسْمِيَة لِأَنَّهُ قرنها
بالذكاة وعلق الْإِبَاحَة عَلَيْهَا، فقد صَار كل وَاحِد
مِنْهُمَا شرطا وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي فِي عدم
اشْتِرَاط التَّسْمِيَة، فَقَالَ: لَو ترك التَّسْمِيَة
عَامِدًا أَو نَاسِيا، تُؤْكَل ذَبِيحَته، وَبِه قَالَ
أَحْمد فِي رِوَايَة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : قَالَ
مَالك: لَا يُؤْكَل فِي الْوَجْهَيْنِ. قلت: لَيْسَ
كَذَلِك مذْهبه، بل مذْهبه مَا ذكره ابْن قدامَة فِي
(الْمُغنِي) : أَن عِنْد مَالك يحل إِذا تَركهَا نَاسِيا،
وَلَا يحل إِذا تَركهَا عَامِدًا. قلت: هَذَا هُوَ مثل
مَذْهَبنَا، فَإِن عندنَا إِذا تَركهَا عَامِدًا فالذبيحة
ميتَة لَا تُؤْكَل، وَإِن تَركهَا نَاسِيا أكل مَا ذبحه،
وَالْمَشْهُور عَن أَحْمد مثل قَوْلنَا، ومذهبنا مَرْوِيّ
عَن ابْن عَبَّاس وطاووس وَابْن الْمسيب وَالْحسن
وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى،
وَفِي التَّفْسِير فِي سُورَة الْأَنْعَام وَدَاوُد بن
عَليّ يحرم مَتْرُوك التَّسْمِيَة نَاسِيا، وَقَالَ فِي
(النَّوَازِل) : وَفِي قَول بشر لَا يُؤْكَل إِذا ترك
التَّسْمِيَة عَامِدًا أَو نَاسِيا. وَقَالَ الْقَدُورِيّ
فِي (شَرحه لمختصر الْكَرْخِي) : وَقد اخْتلف الصَّحَابَة
فِي النسْيَان، فَقَالَ عَليّ وَابْن عَبَّاس: إِذا ترك
التَّسْمِيَة أكل، وَقَالَ ابْن عمر: لَا يُؤْكَل،
وَالْخلاف فِي النسْيَان يدل على اتِّفَاقهم فِي الْعمد.
فَإِن قلت: كَيفَ صُورَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا؟ قلت:
أَن يعلم أَن التَّسْمِيَة شَرط وَتركهَا مَعَ ذكرهَا، أما
لَو تَركهَا من لم يعلم باشتراطها فَهُوَ فِي حكم
النَّاسِي، ذكره فِي (الْحَقَائِق) وَكَذَلِكَ الحكم على
الْخلاف إِذا تَركهَا عمدا عِنْد إرْسَال الْبَازِي
وَالْكَلب وَالرَّمْي، قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) :
وَهَذَا القَوْل من الشَّافِعِي مُخَالف للْإِجْمَاع،
لِأَنَّهُ لَا خلاف فِيمَن كَانَ قبله فِي حُرْمَة
مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا، وَإِنَّمَا الْخلاف
بَينهم فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة نَاسِيا. والْحَدِيث
الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْمُسلم
يَكْفِيهِ اسْمه، فَإِن نسي أَن يُسَمِّي حِين يذبح فليسم
وليذكر اسْم الله ثمَّ ليَأْكُل) . حَدِيث ضَعِيف لِأَن
فِي سَنَده مُحَمَّد بن يزِيد بن سِنَان، قَالُوا: كَانَ
صَدُوقًا، وَلَكِن كَانَ شَدِيد الْغَفْلَة. وَقَالَ ابْن
الْقطَّان: وَفِي سَنَده معقل بن عبد الله وَهُوَ وَإِن
كَانَ من رجال مُسلم لكنه أَخطَأ فِي رفع هَذَا الحَدِيث،
وَقد رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور وَعبد الله
(13/48)
بن الزبير الْحميدِي عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن أبي الشعْثَاء عَن عِكْرِمَة عَن
ابْن عَبَّاس. قَوْله: وَكَذَلِكَ الحَدِيث الَّذِي
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي سَلمَة عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: سَأَلَ رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: الرجل منا يذبح وينسى أَن يُسَمِّي الله؟ قَالَ:
(اسْم الله على كل مُسلم) ، وَفِي لفظ: (على فَم كل مُسلم)
، ضَعِيف لِأَن فِي سَنَده مَرْوَان بن سَالم، ضعفه أَحْمد
وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا. فَإِن قلت: روى
أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا عبد الله بن دَاوُد
عَن ثَوْر بن يزِيد عَن الصَّلْت عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (ذَبِيحَة الْمُسلم حَلَال، ذكر
اسْم الله أَو لم يذكر) قلت: هَذَا مُرْسل، وَهُوَ لَيْسَ
بِحجَّة عِنْده، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: وَفِيه مَعَ
الْإِرْسَال أَن الصَّلْت السدُوسِي لَا يعرف لَهُ حَال،
وَلَا يعرف بِغَيْر هَذَا، وَلَا روى عَنهُ غير ثَوْر بن
يزِيد.
السَّادِس: فِيهِ: عدم جَوَاز الذّبْح بِالسِّنِّ وَالظفر،
وَيدخل فِيهِ ظفر الْآدَمِيّ وَغَيره من كل
الْحَيَوَانَات، وَسَوَاء الْمُتَّصِل والمنفصل بِحَسب
ظَاهر الحَدِيث، وَسَوَاء الطَّاهِر وَالنَّجس. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: ويلتحق بِهِ سَائِر الْعِظَام من كل حَيَوَان
الْمُتَّصِل والمنفصل. وَقيل: كل مَا صدق عَلَيْهِ اسْم
الْعظم فَلَا تجوز الذَّكَاة بِشَيْء مِنْهُ، وَهُوَ قَول
النَّخعِيّ وَالْحسن بن صَالح وَاللَّيْث وَأحمد
وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وصاحباه: لَا يجوز بِالسِّنِّ والعظم المتصلين، وَيجوز
بالمنفصلين، وَعَن مَالك رِوَايَات أشهرها: جَوَازه بالعظم
دون السن كَيفَ كَانَا، وَالثَّانيَِة كمذهب الشَّافِعِي،
وَالثَّالِثَة كمذهب أبي حنيفَة، وَالرَّابِعَة: يجوز
بِكُل شَيْء بِالسِّنِّ وَالظفر. وَعَن ابْن جريج جَوَاز
التذكية بِعظم الْحمار دون القرد، وَقَالَ صَاحب
(الْهِدَايَة) : وَيجوز الذّبْح بالظفر والقرن وَالسّن
إِذا كَانَ منزوعاً وينهر الدَّم ويفري الْأَوْدَاج، وَذكر
فِي (الْجَامِع الصَّغِير) : مُحَمَّد عَن يَعْقُوب عَن
أبي حنيفَة أَنه قَالَ: أكره هَذَا الذّبْح وَإِن فعل
فَلَا بَأْس بِأَكْلِهِ، وَاحْتج أَصْحَابنَا فِي ذَلِك
بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه
عَن سماك بن حَرْب عَن مري ابْن قطري عَن عدي بن حَاتِم،
قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! أَرَأَيْت أَحَدنَا أصَاب
صيدا وَلَيْسَ مَعَه سكين، أيذبح بالمروة وشقة الْعَصَا؟
فَقَالَ: (أمرر الدَّم بِمَا شِئْت وَاذْكُر اسْم الله) .
وَفِي لفظ النَّسَائِيّ: أنهر الدَّم. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ
أَحْمد فِي (مُسْنده) قَالَ الْخطابِيّ: ويروى: أمره،
قَالَ: وَالصَّوَاب: أمرر، بِسُكُون الْمِيم وَتَخْفِيف
الرَّاء. قلت: وَبِهَذَا اللَّفْظ رَوَاهُ ابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَقَالَ:
صَحِيح على شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ، وَقَالَ السُّهيْلي
فِي (الرَّوْض الْأنف) : أَمر الدَّم، بِكَسْر الْمِيم،
أَي: أسله، يُقَال: دم مائر أَي: سَائل، قَالَ: هَكَذَا
رَوَاهُ النقاش وَفَسرهُ، وَرَوَاهُ أَبُو عبيد بِسُكُون
الْمِيم، وَجعله من: مريت الضَّرع وَالْأول أشبه بالمعني،
وَجمع الطَّبَرَانِيّ بَين الرِّوَايَات الثَّلَاث، وَفِيه
رِوَايَة رَابِعَة عِنْد النَّسَائِيّ فِي (سنَنه
الْكُبْرَى) : أهرق، فَيكون الْجَمِيع بِرِوَايَة أبي عبيد
خمس رِوَايَات. بَيَان ذَلِك: أَن الأولى: أمرر من
الإمرار، وَالثَّانيَِة: أَمر من المير، أجوف يائي،
وَالثَّالِثَة: أنهر، من الإنهار، وَالرَّابِعَة: أهرق، من
الإهراق. وَأَصله: أرق من الإراقة، وَالْهَاء زَائِدَة.
وَالْخَامِسَة: من المري، نَاقص يائي، وَالْجَوَاب عَن
قَوْله: لَيْسَ السن وَالظفر، أَنه مَحْمُول على غير
المنزوع، فَإِن الْحَبَشَة كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَلِك
إِظْهَارًا للجلادة، فَإِنَّهُم لَا يقلمون ظفراً ويحدون
الْأَسْنَان بالمبرد ويقاتلون بالخدش والعض،
وَلِأَنَّهُمَا إِذا ذكرا مطلقين يُرَاد فيهمَا غير
المنزوع، أما المنزوع فيذكر مُقَيّدا، يُقَال: سنّ منزوع
وظفر منزوع، وَقَالَ ابْن الْقطَّان فِي الحَدِيث
الْمَذْكُور: شكّ فِي موضِعين: فِي اتِّصَاله، وَفِي
قَوْله: أما السن فَعظم، هَل هُوَ من كَلَام النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لَا؟ ثمَّ روى عَن أبي دَاوُد
هَذَا الحَدِيث، وَفِيه: قَالَ رَافع: وَسَأُحَدِّثُكُمْ
عَن ذَلِك، أما السن فَعظم، وَأما الظفر فمدى الْحَبَشَة،
وَلم يكن أَيْضا فِي حَدِيث مُسلم. أما السن من كَلَام
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصا.
السَّابِع: أَن حكم الصيال حكم الندود، وَفِي
(الْمُنْتَقى) : فِي الْبَعِير إِذا صال على إِنْسَان
فَقتله وَهُوَ يُرِيد الذَّكَاة حل أكله.
الثَّامِن: أَن الذَّكَاة لَا بُد فِيهَا من آلَة حادة
تجْرِي الدَّم، وَأَنه لَا يَكْفِي فِي ذَلِك الرض
وَالدَّفْع بالشَّيْء الثقيل الَّذِي لَا حد لَهُ، وَإِن
أَزَال الْحَيَاة، وَهَذَا مجمع عَلَيْهِ، وَسَوَاء فِي
ذَلِك الْحَدِيد والنحاس والزجاج والقصب وَالْحجر، وكل مَا
لَهُ حد إلاَّ مَا يسْتَثْنى مِنْهُ فِي الحَدِيث وَالله
أعلم. التَّاسِع: اسْتدلَّ بقوله مَا أنهر الدَّم على أَنه
يجزىء فِيمَا شرع ذبحه النَّحْر، وَفِيمَا شرع نَحره
الذّبْح، وَهُوَ قَول كَافَّة الْعلمَاء إلاَّ دَاوُد
ومالكاً فِي إِحْدَى الرِّوَايَات عَنهُ، وَعَن مَالك:
الْكَرَاهَة فِي رِوَايَة، وَعنهُ فِي رِوَايَة:
التَّفْرِقَة، فيجزىء ذبح المنحور وَلَا يجزىء نحر
الْمَذْبُوح.
الْعَاشِر: أَجمعُوا على أَفضَلِيَّة نحر الْإِبِل وَذبح
الْغنم، وَاخْتلفُوا فِي الْبَقر، وَالصَّحِيح إلحاقها
بالغنم وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، وَقيل: يتَخَيَّر فِيهَا
بَين الْأَمريْنِ.
(13/49)
4 - (بابُ القِرَآنِ فِي التَّمْرِ بَيْنَ
الشُّرَكَاءِ حتَّى يَسْتَأْذِنَ أصْحَابَهُ)
هَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا مَوْجُودَة فِي النّسخ
المتداولة بَين النَّاس، قيل: لَعَلَّ، حَتَّى، بِمَعْنى:
حِين، فتحرفت أَو سقط من التَّرْجَمَة شَيْء، أما لفظ
النَّهْي من أَولهَا أَو: لَا يجوز، قبل: حَتَّى. قلت: لَا
يحْتَاج إِلَى ظن التحريف فِيهِ، بلَى فِيهِ حذف، وَبَاب
الْحَذف شَائِع ذائع تَقْدِيره: هَذَا فِي بَيَان حكم
القِران الْكَائِن فِي التَّمْر الْكَائِن بَين
الشُّرَكَاء، لَا يَنْبَغِي لأحد مِنْهُم
أَن يقرن حَتَّى يسْتَأْذن أَصْحَابه، وَذَلِكَ من بَاب
حسن الْأَدَب فِي الْأكل، لِأَن الْقَوْم الَّذين وضع بَين
أَيْديهم التَّمْر كالمتساوين فِي أكله، فَإِن اسْتَأْثر
أحدهم بِأَكْثَرَ من صَاحبه لم يجز لَهُ ذَلِك، وَمن هَذَا
الْبَاب جعل الْعلمَاء النَّهْي عَن النهبة فِي طَعَام
الأعراس وَغَيرهَا، لما فِيهِ من سوء الْأَدَب والاستئثار
بِمَا لَا يطيب عَلَيْهِ نفس صَاحب الطَّعَام، وَقَالَ أهل
الظَّاهِر: إِن النَّهْي عَنهُ على الْوُجُوب، وفاعله عَاص
إِذا كَانَ عَالما بِالنَّهْي، وَلَا نقُول: إِنَّه أكل
حَرَامًا، لِأَن أَصله الْإِبَاحَة، وَدَلِيل الْجُمْهُور
أَنه إِنَّمَا وضع بَين أَيدي النَّاس للْأَكْل،
فَإِنَّمَا سَبيله سَبِيل المكارمة لَا على التشاح،
لاخْتِلَاف النَّاس فِي الْأكل، فبعضهم يَكْفِيهِ
الْيَسِير، وَبَعْضهمْ لَا يَكْفِيهِ أضعافه، وَلَو كَانَت
سُهْمَانهمْ سَوَاء لما سَاغَ لمن لَا يشبعه الْيَسِير أَن
أكل أَكثر من مثل نصيب من يشبعه الْيَسِير، وَلما لم يتشاح
النَّاس فِي هَذَا الْمِقْدَار علم أَن سَبِيل هَذِه
المكارمة، لَا على معنى الْوُجُوب.
9842 - حدَّثنا خَلاَّدُ بنُ يَحْيَى قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا جَبَلَةُ بنُ سُحَيْمٍ قَالَ
سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
يَقُولُ نهَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ
يَقْرُنَ الرَّجُلُ بَيْنَ التَّمْرَتَيْنِ جَمِيعاً حتَّى
يَسْتَأْذِنَ أصْحابَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وخلاد بِفَتْح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام: ابْن يحيى بن صَفْوَان
أَبُو مُحَمَّد السّلمِيّ الْكُوفِي، سكن مَكَّة. وَهُوَ
من أَفْرَاده، وَقد مر فِي الْغسْل، وسُفْيَان هُوَ
الثَّوْريّ، وجبلة، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة
وَاللَّام المفتوحات: ابْن سحيم، بِضَم السِّين
الْمُهْملَة وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف: التَّيْمِيّ، وَيُقَال: الشَّيْبَانِيّ، مر
فِي كتاب الصَّوْم فِي بَاب: إِذا رَأَيْتُمْ الْهلَال.
وَهَذَا الحَدِيث وَالَّذِي بعده عَن جبلة عَن ابْن عمر،
فَالْأول: عَن سُفْيَان عَن جبلة، وَالثَّانِي: عَن
شُعْبَة عَن جبلة، وَقد ذكره فِي الْمَظَالِم فِي: بَاب
إِذا أذن إِنْسَان لآخر شَيْئا جَازَ، عَن شُعْبَة أَيْضا
عَن جبلة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
0942 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ
جَبَلَةَ قَالَ كُنَّا بالْمَدِينَةِ فأصابَتْنَا سَنَةٌ
فَكانَ ابنُ الزُّبَيْر يَرْزُقنا التَّمْرَ وكانَ ابنُ
عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا فيَقُولُ لَا تَقْرُنُوا فإنَّ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَى عنِ الإقْرَانِ
إلاَّ أَن يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ مِنْكُم أخاهُ.
أَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ.
قَوْله: (سنَة) ، أَي جَدب وَغَلَاء. (وَابْن الزبير) هُوَ
عبد الله بن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا. قَوْله: (يرزقنا التَّمْر) ، أَي: يقوتنا بِهِ
يُقَال: رزقته رزقا فارتزق، كَمَا يُقَال: قته فاقتات،
والرزق اسْم لكل مَا ينْتَفع بِهِ حَتَّى الدَّار
وَالْعَبْد، وَأَصله فِي اللُّغَة: الْحَظ والنصيب، وكل
حَيَوَان يَسْتَوْفِي رزقه حَلَالا أَو حَرَامًا. قَوْله:
(لَا تقرنوا) ، من قرن يقرن من بَاب ضرب يضْرب، ويروى عَن
جبلة قَالَ: كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فِي بعث الْعرَاق،
فَكَانَ ابْن الزبير يرزقنا التَّمْر، وَكَانَ ابْن عمر
يمر وَيَقُول: لَا تقارنوا إلاَّ أَن يسْتَأْذن الرجل
أَخَاهُ، هَذَا لأجل مَا فِيهِ من الْغبن، وَلِأَن ملكهم
فِيهِ سَوَاء، ويروى نَحوه عَن أبي هُرَيْرَة فِي أَصْحَاب
الصّفة. قَوْله: (نهى عَن الإقران) ، ويروى: (عَن القِران)
، وَالنَّهْي فِيهِ للتنزيه، وَقَالَت الظَّاهِرِيَّة:
للتَّحْرِيم.
5 - (بابُ تَقْوِيمِ الأشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ
بِقيمَةِ عَدْلٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم تَقْوِيم الْأَشْيَاء
نَحْو: الْأَمْتِعَة وَالْعرُوض بَين الشُّرَكَاء حَال
كَون التَّقْوِيم بِقِيمَة عدل، وَحكمه أَنه: يجوز بِلَا
خلاف، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي قسمتهَا بِغَيْر تَقْوِيم،
فَأَجَازَهُ الْأَكْثَرُونَ إِذا كَانَ على سَبِيل
التَّرَاضِي، وَمنعه الشَّافِعِي.
1942 - حدَّثنا عِمْرَانُ بنُ مَيْسَرَةَ قَالَ حدَّثنَا
عبْدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عنْ نافِعٍ عنِ
ابنِ
(13/50)
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
أعْتَقَ شِقْصاً لَهُ مِنْ عَبْدٍ أوْ شِرْكَاً أوْ قَالَ
نَصِيباً وكانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَهُ بِقِيمَةِ
الْعَدْلِ فَهْوَ عَتِيقٌ وإلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا
عتَقَ قَالَ لاَ أدْرِي قَوْلَهُ عتَقَ مِنْهُ مَا عتَقَ
قَوْلٌ مِنْ نافِعٍ أوْ فِي الْحَدِيثِ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بِقِيمَة الْعدْل) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عمرَان بن ميسرَة ضد
الميمنة مر فِي الْعلم. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد
التَّمِيمِي الْعَنْبَري. الثَّالِث: أَيُّوب بن أبي
تَمِيمَة السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن
عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَن عبد الْوَارِث وَأَيوب
بصريان وَأَن نَافِعًا مدنِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْعتْق عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن
زيد. وَأخرجه مُسلم فِي النذور عَن زُهَيْر بن حَرْب،
وَفِيه وَفِي الْعتْق عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وَأبي
كَامِل الجحدري. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعتْق عَن أبي
الرّبيع بِهِ وَعَن مُؤَمل بن هِشَام. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن أَحْمد بن منيع عَن
إِسْمَاعِيل بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع عَن
عَمْرو بن عَليّ وَفِي الْعتْق عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم وَعَن عَمْرو بن زُرَارَة وَعَن مُحَمَّد بن
يحيى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (شِقْصا) بِكَسْر الشين
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْقَاف وبالصاد الْمُهْملَة:
وَهُوَ النَّصِيب قَلِيلا أَو كثيرا. وَيُقَال لَهُ:
الشقيص أَيْضا، بِزِيَادَة الْيَاء، مثل: نصف ونصيف،
وَيُقَال لَهُ أَيْضا: الشّرك بِكَسْر الشين أَيْضا،
وَقَالَ ابْن دُرَيْد، الشّقص هُوَ الْقَلِيل من كل شَيْء،
وَقَالَ الْقَزاز: لَا يكون إلاَّ الْقَلِيل من الْكثير،
وَقَالَ فِي (الْجَامِع) : الشّقص النَّصِيب والسهم، تَقول
لي فِي هَذَا المَال شقص، أَي: نصيب قَلِيل، وَالْجمع
أشقاص، وَقد شقصت الشَّيْء إِذا جزأته، وَقَالَ ابْن
سَيّده: وَقيل: هُوَ الْحَظ وَجمعه شقاص، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: الشّقص والسهم والنصيب والحظ كُله وَاحِد.
قلت: وَفِيه تحرز الرَّاوِي عَن مُخَالفَة لفظ الحَدِيث
وَإِن أصَاب الْمَعْنى، لِأَن النَّصِيب والشرك والشقص
بِمَعْنى وَاحِد، وَلما شكّ فِيهِ الرَّاوِي أَتَى
بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ تحرياً وتحرزاً عَن الْمُخَالفَة،
وَقد اخْتلف فِي وجوب ذَلِك واستحبابه، وَلَا خلاف فِي
الِاسْتِحْبَاب، وَذهب غير وَاحِد إِلَى جَوَاز
الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى للْعَالم بِمَا يحِيل
الْأَلْفَاظ دون غَيره. قَوْله: (من عبد) ، يتَنَاوَل
الذّكر وَالْأُنْثَى، فَأَما الذّكر فبالنص، وَأما
الْأُنْثَى، فَقيل: إِن اللَّفْظ يَتَنَاوَلهَا أَيْضا
بِالنَّصِّ، فَإِن إِطْلَاق لفظ: العَبْد، يتَنَاوَل كلا
مِنْهُمَا، قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَذَلِكَ لِأَنَّهَا
صفة، فَيُقَال: عبد وَعَبدَة، فَإِذا أطلقت القَوْل
يتَنَاوَل الذّكر وَالْأُنْثَى وَقيل: إِنَّمَا يثبت ذَلِك
فِي الْأُنْثَى بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ، إِذْ الْمَعْنى
الْمَوْجُود فِي الذّكر مَوْجُود فِي الْأُنْثَى، لِأَن
وصف الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة لَا تَأْثِير لَهُ فِي
الْوَصْف الْمُقْتَضِي للْحكم، وَقَالَ إِمَام
الْحَرَمَيْنِ: أَدْرَاك كَون الْأمة فِيهِ كَالْعَبْدِ
حَاصِل للسامع قبل التفطن لوجه الْجمع. قلت: فِي (صَحِيح
البُخَارِيّ) التَّصْرِيح بالأمة من رِوَايَة مُوسَى بن
عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُفْتِي فِي
العَبْد أَو الْأمة، يكون بَين الشُّرَكَاء فَيعتق أحدهم
نصِيبه مِنْهُ، وَفِي آخِره: يخبر ذَلِك عَن ابْن عمر عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسَيَأْتِي فِي
الحَدِيث الثَّانِي فِي الْبَاب: من أعتق شقيصاً من
مَمْلُوك، وَهَذَا شَامِل للْعَبد وَالْأمة أَيْضا، وَحكى
عَن ابْن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه تَخْصِيص هَذَا الحكم
بالعبيد دون الْإِمَاء، قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا
القَوْل شَاذ مُخَالف للْعُلَمَاء كَافَّة. قَوْله:
(وَكَانَ لَهُ) ، أَي: للْمُعْتق. قَوْله: (ثمنه) ، أَي:
ثمن العَبْد بِتَمَامِهِ. قَوْله: (بِقِيمَة الْعدْل) ،
وَهُوَ أَن يقوّم على أَن كُله عبد، وَلَا يقوّم بِعَيْب
الْعتْق. قَالَه أصبغ وَغَيره، وَقيل: يقوم على أَنه مَسّه
الْعتْق، وَفِي لفظ: قوم عَلَيْهِ بِأَعْلَى الْقيمَة،
وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَلَا وكس وَلَا شطط. قَوْله:
(فَهُوَ عَتيق) ، أَي: العَبْد كُله عَتيق، أَي: معتوق
بعضه بِالْإِعْتَاقِ وَبَعضه بِالسّرَايَةِ. قَوْله:
(وإلاَّ) أَي: وَإِن لم يكن لَهُ مَا يبلغ ثمنه فقد عتق
مِنْهُ مَا عتق، أَي: مَا عتقه، يَعْنِي: الْمِقْدَار
الَّذِي عتقه، وَالْعين مَفْتُوحَة فِي: عتق الأول، وَعتق،
الثَّانِي. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يجوز ضم الْعين فِي
الثَّانِي، وَتعقبه ابْن التِّين. فَقَالَ: هَذَا لم يقلهُ
غَيره وَلَا يعرف عتق بِالضَّمِّ، لِأَن الْفِعْل لَازم
صَحِيح، لِأَنَّهُ يُقَال: عتق العَبْد عتقا وعتاقة
وعتاقاً فَهُوَ عَتيق، وهم عُتَقَاء، وَأعْتقهُ مَوْلَاهُ.
وَفِي (الْمغرب) : وَقد يُقَام الْعتْق مقَام الْإِعْتَاق،
وَقَالَ ابْن الْأَثِير؛ يُقَال: أعتقت العَبْد أعْتقهُ
عتقا وعتاقة، فَهُوَ مُعتق وَأَنا معتِق، وَعتق فَهُوَ
عَتيق أَي: حررته
(13/51)
وَصَارَ حرا. قَوْله: (قَالَ: لَا أَدْرِي)
أَي: قَالَ أَيُّوب، قَالَه الطرقي، وَكَذَا فِي (صَحِيح
الْإِسْمَاعِيلِيّ) : قَالَ أَيُّوب، فَذكره، قَالَ: وَفِي
رِوَايَة الْمُعَلَّى عَن حَمَّاد عَن أَيُّوب، قَالَه
نَافِع.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على أَنْوَاع:
الأول: فِي بَيَان مَسْأَلَة التَّرْجَمَة، وَهُوَ
التَّقْوِيم فِي قسْمَة الرَّقِيق، فَعِنْدَ أبي حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ: لَا تجوز قسمته إلاَّ بعد التَّقْوِيم،
واحتجا بِهَذَا الحَدِيث وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي بعده،
قَالَا: أجَاز صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقويمه فِي البيع
لِلْعِتْقِ، فَكَذَلِك تقويمه فِي الْقِسْمَة، وَقَالَ
مَالك وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: يجوز قسمته بِغَيْر
تَقْوِيم إِذا تراضوا على ذَلِك، وحجتهم أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قسم غَنَائِم حنين وَكَانَ أَكْثَرهَا
السَّبي والماشية، وَلَا فرق بَين الرَّقِيق وَسَائِر
الْحَيَوَانَات، وَلم يذكر فِي شَيْء من السَّبي تَقْوِيم.
قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة: أَن الرَّقِيق لَا يقسم إلاَّ
إِذا كَانَ مَعَه شَيْء آخر للتفاوت فِيهِ، والتفاوت فِي
الْآدَمِيّ فَاحش لتَفَاوت الْمعَانِي الْبَاطِنَة كالذهن
والكياسة وَالْأَمَانَة والفروسية وَالْكِتَابَة، فيعتذر
التَّعْدِيل إلاَّ إِذا كَانَ مَعَه شَيْء آخر،
فَحِينَئِذٍ يقسم قسْمَة الْجَمِيع من غير رضَا
الشُّرَكَاء، فَيجْعَل الرَّقِيق تبعا كَبيع الشّرْب
وَالطَّرِيق، وَنَحْوهمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُف
وَمُحَمّد: يقسم الرَّقِيق جبرا، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي
وَمَالك وَأحمد لِاتِّحَاد الْجِنْس، وَإِنَّمَا
التَّفَاوُت فِي الْقيمَة وَذَا لَا يمْنَع صِحَة
الْقِسْمَة كَمَا فِي الْإِبِل وَالْبَقر ورقيق الْغنم،
وَالْجَوَاب من جِهَة أبي حنيفَة: أَن التَّفَاوُت فِي
الْحَيَوَانَات يقل عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس، أَلا يرى أَن
الذّكر وَالْأُنْثَى من بني آدم جِنْسَانِ، وَمن
الْحَيَوَانَات جنس وَاحِد؟ أَلا يرى أَنه إِذا اشْترى
شخصا على أَنه عبد فَإِذا هُوَ جَارِيَة لَا ينْعَقد
العقد، وَلَو اشْترى غنما أَو إبِلا على أَنه ذكر، فَإِذا
هُوَ انثى ينْعَقد العقد، بِخِلَاف الْمَغَانِم، لِأَن حق
المغانمين فِي الْمَالِيَّة حَتَّى كَانَ للْإِمَام بيعهَا
وَقِسْمَة ثمنهَا بَينهم، وَفِي الرَّقِيق شركَة الْملك
يتَعَلَّق بِالْعينِ والمالية، فافترق حكمهمَا، فَلَا يجوز
قِيَاس أَحدهمَا على الآخر.
الثَّانِي: احْتج مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور: أَنه إِذا كَانَ عبد بَين
اثْنَيْنِ فَأعتق أَحدهمَا نصِيبه، فَإِن كَانَ لَهُ مَال
غرم نصيب صَاحبه وَعتق العَبْد من مَاله، وَإِن لم يكن
لَهُ مَال عتق من العَبْد مَا عتق وَلَا يستسعى. قَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا قَول أهل الْمَدِينَة، وَعند أبي
حنيفَة أَن شَرِيكه مُخَيّر، إِمَّا أَنه يعْتق نصِيبه أَو
يستسعى العَبْد وَالْوَلَاء فِي الْوَجْهَيْنِ لَهما، أَو
يضمن الْمُعْتق قيمَة نصِيبه لَو كَانَ مُوسِرًا، أَو يرجع
بِالَّذِي ضمن على العَبْد، وَيكون الْوَلَاء للْمُعْتق،
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: لَيْسَ لَهُ إلاَّ الضَّمَان
مَعَ الْيَسَار، أَو السّعَايَة مَعَ الْإِعْسَار، وَلَا
يرجع الْمُعْتق على العَبْد بِشَيْء، وَالْوَلَاء
للْمُعْتق فِي الْوَجْهَيْنِ وَاحْتج أَبُو حنيفَة بِمَا
رَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا: من أعتق شِقْصا لَهُ فِي
مَمْلُوك فخلاصه عَلَيْهِ فِي مَاله إِن كَانَ لَهُ مَال،
وإلاَّ قوم عَلَيْهِ واستسعى بِهِ غير مشقوق، أَي لَا يشدد
عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ مُسلم أَيْضا فَثَبت السّعَايَة بذلك،
وَقَالَ ابْن حزم: على ثُبُوت الِاسْتِسْعَاء ثَلَاثُونَ
صحابياً. وَقَوله: وإلاَّ فقد عتق مِنْهُ مَا عتق، لم تصح
هَذِه الزِّيَادَة عَن الثِّقَة أَنه من قَول النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى قَالَ أَيُّوب وَيحيى بن سعيد
الْأنْصَارِيّ: أهوَ شَيْء فِي الحَدِيث أَو قَالَه نَافِع
من قبله؟ وهما الراويان لهَذَا الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حزم
فِي (الْمحلى) : هِيَ مكذوبة.
وَاعْلَم أَن هَهُنَا أَرْبَعَة عشر مذهبا. الأول: مَذْهَب
عُرْوَة وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالْأسود بن يزِيد
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَزفر: أَن من أعتق شركا لَهُ
فِي عبد ضمن قيمَة حِصَّة شَرِيكه مُوسِرًا كَانَ أَو
مُعسرا، وَرووا ذَلِك عَن عبد الله بن مَسْعُود وَعمر بن
الْخطاب. الثَّانِي: مَذْهَب ربيع: أَن من أعتق حِصَّة
لَهُ من عبد بَينه وَبَين آخر لم ينفذ عتقه، نَقله أَبُو
يُوسُف عَنهُ. الثَّالِث: مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَعبد
الرَّحْمَن بن يزِيد وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَعَمْرو بن
دِينَار: أَنه ينفذ عتق من أعتق وَيبقى من لم يعْتق على
نصِيبه يفعل فِيهِ مَا شَاءَ. الرَّابِع: مَذْهَب عُثْمَان
اللَّيْثِيّ، فَإِنَّهُ ينفذ عتقِ الَّذِي أعتق فِي نصِيبه
وَلَا يلْزمه شَيْء لشَرِيكه إلاَّ أَن تكون جَارِيَة
رائعة. إِنَّمَا تلتمس للْوَطْء، فَإِنَّهُ يضمن للضَّرَر
الَّذِي أَدخل على شَرِيكه. الْخَامِس: مَذْهَب الثَّوْريّ
وَاللَّيْث وَالنَّخَعِيّ فِي قَول، فَإِنَّهُم قَالُوا:
إِن شَرِيكه بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أعتق وَإِن شَاءَ ضمن
الْمُعْتق. السَّادِس: مَذْهَب ابْن جريج وَعَطَاء بن أبي
رَبَاح فِي قَول: إِنَّه إِن أعتق أحد الشَّرِيكَيْنِ
نَصبه استسقى العَبْد سَوَاء كَانَ الْمُعْتق مُعسرا أَو
مُوسِرًا السَّابِع مَذْهَب عبد الله بن أبي يزِيد أَنه
أَن أعتق مُشْركًا لَهُ فِي عبد وَهُوَ مُفلس، فَأَرَادَ
العَبْد أَخذ نصِيبه بِقِيمَتِه فَهُوَ أولى بذلك إِن نقد.
الثَّامِن: مَذْهَب ابْن سِيرِين أَنه: إِذا أعتق نصِيبه
فِي عبد فباقيه يعْتق من بَيت مَال الْمُسلمين. التَّاسِع:
مَذْهَب مَالك: أَن الْمُعْتق إِن كَانَ مُوسِرًا قوم
عَلَيْهِ حصص شركائه، وأغرمها لَهُم. وَأعْتق كُله بعد
التَّقْوِيم لَا قبله، وَإِن شَاءَ الشَّرِيك أَن يعْتق
حِصَّته فَلهُ ذَلِك، وَلَيْسَ لَهُ أَن يمسِكهُ رَقِيقا،
وَلَا أَن يكاتبه، وَلَا أَن يَبِيعهُ، وَلَا أَن يدبره
وَإِن كَانَ مُعسرا، فقد عتق مَا أعتق وَالْبَاقِي رَقِيق
يَبِيعهُ الَّذِي هُوَ لَهُ إِن شَاءَ أَو
(13/52)
يمسِكهُ رَقِيقا أَو يكاتبه أَو يَهبهُ أَو
يدبره، وَسَوَاء أيسر الْمُعْتق بعد عتقه أَو لم يوسر.
الْعَاشِر: مَذْهَب الشَّافِعِي فِي قَول، وَأحمد
وَإِسْحَاق: أَن الَّذِي أعتق إِن كَانَ مُوسِرًا قوم
عَلَيْهِ حِصَّة من شركه، وَهُوَ حر كُله حِين أعتق
الَّذِي أعتق نصِيبه، وَلَيْسَ لمن يشركهُ أَن يعتقهُ،
وَلَا أَن يمسِكهُ وَإِن كَانَ مُعسرا. فقد عتق مَا عتق
وَبَقِي سائره مَمْلُوكا يتَصَرَّف فِيهِ مَالِكه كَيفَ
شَاءَ. الْحَادِي عشر: مَذْهَب عبد الله بن شبْرمَة
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حَيّ وَسَعِيد بن الْمسيب
وَسليمَان بن يسَار وَالشعْبِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ
وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَقَتَادَة كمذهب أبي يُوسُف
وَمُحَمّد، وَقد ذَكرْنَاهُ. الثَّانِي عشر: مَذْهَب أبي
حنيفَة، وَقد ذَكرْنَاهُ. الثَّالِث عشر: مَذْهَب بكير بن
الْأَشَج فَإِنَّهُ قَالَ فِي رجلَيْنِ بَينهمَا عبد
فَأَرَادَ أَحدهمَا أَن يعْتق أَو يُكَاتب: فَإِنَّهُمَا
يتقاومانه. الرَّابِع عشر: مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة، أَنه
إِذا أعتق أحد نصِيبه من العَبْد الْمُشْتَرك يعْتق كُله
حِين تلفظ بذلك، فَإِن كَانَ لَهُ مَال يَفِي بِقِيمَة
حِصَّة شَرِيكه على حسب طاقته، لَيْسَ للشَّرِيك غير
ذَلِك، وَلَا لَهُ أَن يعْتق، وَالْوَلَاء للَّذي أعتق
أَولا، وَلَا يرجع العَبْد على من أعْتقهُ بِشَيْء مِمَّا
سعى فِيهِ، حدث لَهُ مَال أَو لم يحدث.
النَّوْع الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على صِحَة عتق الْمُوسر
وتبرعاته من الصَّدَقَة وَنَحْوهَا، وَهُوَ قَول جُمْهُور
الْعلمَاء، وَذهب بَعضهم إِلَى أَنه إِذا كَانَ مُعسرا لَا
يَصح عتق نصِيبه وَيبقى العَبْد جَمِيعه فِي الرّقّ،
وَحَكَاهُ القَاضِي عِيَاض، وَقد ادّعى ابْن عبد الْبر
الإتفاق على خِلَافه، فَقَالَ: وَقد أجمع الْعلمَاء على
القَوْل بنفوذ الْعتْق من الشَّخْص، سَوَاء كَانَ
الْمُعْتق مُعسرا أَو مُوسِرًا.
النَّوْع الرَّابِع: يسْتَدلّ بِعُمُوم قَوْله: من أعتق،
على أَن الحكم فِيهِ عَام فِي جَمِيع من يَصح مِنْهُ
الْعتْق، سَوَاء كَانَ الْمُعْتق أَو الشَّرِيك أَو
العَبْد الْمُعْتق مُسلما أَو كَافِرًا.
النَّوْع الْخَامِس: فِيهِ أَن المَال الْغَائِب كالحاضر،
لِأَنَّهُ مَالك عَلَيْهِ، فَيعتق عَلَيْهِ حِصَّة شَرِيكه
بِالسّرَايَةِ ويطالبه بِقِيمَة حِصَّته، وَفِيه خلاف
للمالكية.
النَّوْع السَّادِس: قَالَ شَيخنَا: فِي قَوْله: مَا يبلغ
ثمنه، حجَّة لأحد الْوَجْهَيْنِ لأَصْحَاب الشَّافِعِي
أَنه إِذا ملك مَا يبلغ بعض ثمن حِصَّة شَرِيكه أَنه لَا
يعْتق عَلَيْهِ.
النَّوْع السَّابِع: فِي أَن المُرَاد بقوله: فَكَانَ لَهُ
من المَال مَا يبلغ ثمنه، وَهُوَ مَا يفضل عَن قوت يَوْمه
وقوت من يلْزمه نَفَقَته، وسكنى يَوْمه، ودست ثوب كَمَا
هُوَ الْمُعْتَبر فِي الدُّيُون، وَهُوَ قَول الجماهير من
الْعلمَاء، وَبِه جزم الرَّافِعِيّ فَإِنَّهُ قَالَ:
وَلَيْسَ الْيَسَار الْمُعْتَبر فِي هَذَا الْبَاب كاليسار
الْمُعْتَبر فِي الْكَفَّارَة الْمرتبَة، وَكَذَا قَالَ
ابْن الْمَاجشون من الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ أَشهب: يُبَاع
عَلَيْهِ ثِيَاب ظَهره وَلَا يتْرك لَهُ إلاَّ مَا
يُصَلِّي فِيهِ، وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يُبَاع عَلَيْهِ
منزله الَّذِي يسكنهُ وشوار بَيته، وَلَا يتْرك لَهُ إلاَّ
كسْوَة ظَهره، وعيشة الْأَيَّام.
النَّوْع الثَّامِن: فِي قَوْله: من أعتق، دَلِيل على أَنه
لَا فرق بَين أَن يكون من أعتق نصِيبه وَاحِدًا أَو أَكثر.
النَّوْع التَّاسِع: قَالَ شَيخنَا: إِذا وَقع الْعتْق من
وَاحِد فَأكْثر مَعًا وَكَانُوا موسرين فَيقوم عَلَيْهِم
على قدر الحصص أَو على عدد الرؤوس، فِيهِ خلاف عِنْد
الشَّافِعِيَّة والمالكية، وَالأَصَح عِنْد أَصْحَاب
الشَّافِعِي أَنه: على عدد الرؤوس كالشفعة، وَصحح ابْن
الْعَرَبِيّ أَن هَذَا على قدر الحصص.
النَّوْع الْعَاشِر: قَالَ شَيخنَا أَيْضا إِن فِي قَوْله:
(من أعتق شِقْصا لَهُ) دَلِيل أَن تقدم كِتَابَة شَرِيكه
لعَبْدِهِ فِي حِصَّته لَا يمْنَع من سرَايَة الْعتْق فِي
نصيب شَرِيكه، لِأَن الْمكَاتب عبد، وَهُوَ الصَّحِيح
الْمَشْهُور، كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ. . وَعَن صَاحب
(التَّقْرِيب) رِوَايَة وَجه أَو قَول: أَنه لَا يسري إِذْ
لَا سَبِيل إِلَى إبِْطَال الْكِتَابَة.
النَّوْع الْحَادِي عشر: قَالَ شَيخنَا أَيْضا: وَفِيه
أَيْضا أَن تعلق الرَّهْن بِحِصَّة الشَّرِيك لَا يمْنَع
من السَّرَايَة، وَهُوَ الصَّحِيح كَمَا قَالَ
الرَّافِعِيّ.
النَّوْع الثَّانِي عشر: قَالَ شَيخنَا أَيْضا: فِيهِ أَن
تقدم تَدْبِير الشَّرِيك بِحِصَّتِهِ على إِعْتَاق
الشَّرِيك الْمُوسر بِحِصَّتِهِ، لَا يمْنَع السَّرَايَة
أَيْضا، وَفِيه قَولَانِ للشَّافِعِيّ، والأقوى كَمَا
قَالَ الرَّافِعِيّ: أَنه لَا يمْنَع، وَالْقَوْل
الثَّانِي: أَنه يمْنَع.
النَّوْع الثَّالِث عشر: فِيهِ: أَيْضا أَن تقدم
اسْتِيلَاء الشَّرِيك وَهُوَ مُعسر لَا يمْنَع سرَايَة
إِعْتَاق شَرِيكه.
النَّوْع الرَّابِع عشر: اسْتدلَّ بِهِ ابْن عبد الْبر
لقَوْل مَالك وَأَصْحَابه: إِن من أفسد شَيْئا من الْعرُوض
الَّتِي لَا تكال وَلَا توزن فَإِنَّمَا عَلَيْهِ قيمَة
مَا اسْتهْلك من ذَلِك لَا مثله، لِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لم يُوجب على من أعتق نصِيبه نصف عبد مثله
لشَرِيكه، قَالَ مَالك: الْقِسْمَة أعدل فِي ذَلِك،
وَهَذَا قَول أبي حنيفَة أَيْضا.
(13/53)
النَّوْع الْخَامِس عشر: قَالَ شَيخنَا:
الحَدِيث مَحْمُول على مَا إِذا أعتق نصِيبه فِي حَالَة
الصِّحَّة، فَإِذا أعتق حِصَّته فِي الْمَرَض وَمَات
فَإِنَّهُ لَا ينفذ وَلَا يسري على الْمُوسر إلاَّ مَا
احتمله ثلث مَاله، وَكَذَلِكَ لَو أوصى بِعِتْق نصِيبه أَو
بِبَعْض حِصَّته فَإِنَّهُ لَا يسري عَلَيْهِ شَيْء زَائِد
على ذَلِك، لَا فِي حِصَّته وَلَا فِي حِصَّة شَرِيكه،
لِأَنَّهُ قد انْقَطع ملكه بِالْمَوْتِ.
النَّوْع السَّادِس عشر: شَرط السَّرَايَة الَّتِي هِيَ من
خَواص الْعتْق أَن يحصل الْعتْق فِي حِصَّته
بِاخْتِيَارِهِ حَتَّى لَو ورت سقطا من قَرِيبه الَّذِي
يعْتق عَلَيْهِ لم يسر وَلم يقوم عَلَيْهِ نصيب شَرِيكه،
بِخِلَاف مَا إِذا اشْتَرَاهُ أَو اتهبه، قَالَه
الرَّافِعِيّ.
2942 - حدَّثنا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخْبرنا عبْدُ
الله قَالَ أخبرنَا سَعيدُ بنُ أبِي عُرُوبَةَ عنْ
قَتادَةَ عنِ النَّضْرِ بنِ أنَسٍ عنْ بَشيرِ بنِ نَهِيكٍ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أعْتَقَ شَقِيصاً مِنْ
مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ فِي مالِه فإنْ لَمْ
يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ
ثُمَّ اسْتَسْعَى غَيْرَ مَشْقُوقٍ علَيْهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قوم الْمَمْلُوك قيمَة
عدل) .
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: بشر، بِكَسْر الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد
أَبُو مُحَمَّد، مر فِي الْوَحْي. الثَّانِي: عبد الله بن
الْمُبَارك. الثَّالِث: سعيد بن أبي عرُوبَة، بِفَتْح
الْعين الْمُهْملَة وَضم الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة:
واسْمه مهْرَان الْيَشْكُرِي. الرَّابِع: قَتَادَة بن
دعامة. الْخَامِس: النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون
الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن أنس بن مَالك النجاري
الْأنْصَارِيّ. السَّادِس: بشير، بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَكسر الشين الْمُعْجَمَة: ابْن نهيك، بِفَتْح
النُّون وَكسرهَا وبالكاف: السَّلُولي، وَيُقَال:
السدُوسِي. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن
شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ وَشَيْخه مروزيان والبقية
بصريون، وَقَالَ الْخَطِيب: رَوَاهُ يزِيد بن هَارُون عَن
سعيد عَن قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس بِلَفْظ: من أعتق
نَصِيبا لَهُ من عبد وَلم يكن لَهُ مَال استسعى العَبْد
فِي ثمن رقبته غير مشقوق عَلَيْهِ، هَكَذَا رَوَاهُ يزِيد،
قصر عَن بعض الْأَلْفَاظ الَّتِي ذكرهَا عبد الله بن بكر
عَن ابْن أبي عرُوبَة، وَقد رَوَاهُ سعيد بن الْمُبَارك
وَيزِيد بن زُرَيْع وَمُحَمّد بن بشر الْعَبْدي وَيحيى
الْقطَّان وَمُحَمّد ب أبي عدي فَأحْسنُوا سِيَاقه،
واستوفوا أَلْفَاظه، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أبان بن يزِيد
وَجَرِير بن حَازِم ومُوسَى بن خلف عَن قَتَادَة،
وَرَوَاهُ شُعْبَة عَن قَتَادَة فَلم يذكر استسعاء
العَبْد، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ روح بن عبَادَة ومعاذ بن
هِشَام كِلَاهُمَا عَن هِشَام الدستوَائي عَن قَتَادَة،
إلاَّ أَن معَاذًا لم يذكر فِي إِسْنَاده النَّضر،
إِنَّمَا قَالَ: عَن قَتَادَة عَن بشير بن نهيك، وَرَوَاهُ
مُحَمَّد بن كثير الْعَبْدي عَن همام عَن قَتَادَة. وروى
أَبُو عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن يزِيد الْمصْرِيّ عَن
همام معنى ذَلِك إلاَّ أَنه زَاد فِيهِ ذكر الِاسْتِسْعَاء
وَجعله من قَول قَتَادَة، وميزه من كَلَام النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: وَكَانَ قَتَادَة يَقُول:
إِن لم يكن لَهُ مَال استسعى. وَفِي لفظ عِنْد
الْإِسْمَاعِيلِيّ: أَن رجلا أعتق شِقْصا من مَمْلُوكه
فغرمه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَقِيَّة ثمنه،
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِن كَانَ الِاسْتِسْعَاء على
مَا يذهب إِلَيْهِ الْكُوفِي مِنْهُ فقد جمع بَين حَدِيثي
ابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة، وهما متدافعان وجعلهما
صَحِيحَيْنِ، وَهَذَا بعيد جدا، وَالْقَوْل فِي ذَلِك أحد
قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: إِن قَوْله: استسعى العَبْد، لَيْسَ
فِي الْخَبَر الْمسند، وَإِنَّمَا هُوَ لِقَتَادَة، فدرج
فِي الْخَبَر على مَا رَوَاهُ همام عَن قَتَادَة، وَأما
أَن يكون استسعاء العَبْد السَّيِّد يستسعيه فِي قومه غير
مشقوق عله أَن الْعتْق لم يكمل فِيهِ فَإِنَّهُ لم يبين
فِي الْخَبَر من يستسعيه، وَتبين أَن الْعتْق لم ينفذ
فِيهِ فَصَارَ سَيّده هُوَ الَّذِي يستسعيه. قلت: أَبُو
هُرَيْرَة روى هَذَا الحَدِيث كَمَا رَوَاهُ ابْن عمر
وَزَاد عَلَيْهِ شَيْئا بيَّن بِهِ كَيفَ حكم مَا بَقِي من
العَبْد بعد نصيب الْمُعْتق، كَمَا هُوَ مشروح فِيهِ،
فَكَانَ هَذَا الحَدِيث فِيهِ مَا فِي حَدِيث ابْن عمر.
وَفِيه: وجوب السّعَايَة على العَبْد إِذا كَانَ مُعْتقه
مُعسرا، وسنزيد فِيهِ عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْعتْق عَن مُسَدّد وَعَن أَحْمد بن أبي
رَجَاء وَفِي الشّركَة أَيْضا عَن أبي النُّعْمَان.
وَأخرجه مُسلم فِي الْعتْق وَفِي النذور عَن مُحَمَّد بن
مُوسَى وَمُحَمّد بن بشار، وَفِي النذور أَيْضا عَن عبيد
الله بن
(13/54)
معَاذ وَفِي الْعتْق أَيْضا عَن عَليّ بن
خشرم وَفِي النذور أَيْضا عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
وَعلي بن خشرم وَفِيهِمَا أَيْضا عَن عَمْرو النَّاقِد
وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَفِي الْعتْق أَيْضا عَن
هَارُون بن عبد الله. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعتْق
عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن
مُحَمَّد بن كثير وَعَن أَحْمد بن عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن
الْمثنى عَن معَاذ وَلم يذكر النَّضر بن أنس فِي
إِسْنَاده، وَعَن نصر بن عَليّ وَعَن عَليّ بن عبد الله
وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَفِي حَدِيث أبان وَابْن أبي
عرُوبَة ذكر الِاسْتِسْعَاء. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الْأَحْكَام عَن عَليّ بن خشرم بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن
بشار وَفِيه ذكر الِاسْتِسْعَاء، قَالَ: وَرَوَاهُ شُعْبَة
عَن قَتَادَة وَلم يذكر فِيهِ أَمر السّعَايَة. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْعتْق عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن
مُحَمَّد بن بشار وَعَن هناد وَعَن نصر بن عَليّ وَعَن
المؤمل بن هِشَام وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله، وَفِيه ذكر
السّعَايَة وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن
إِسْمَاعِيل وَلم يذكر النَّضر بن أنس فِي إِسْنَاده وَلَا
قصَّة الِاسْتِسْعَاء وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام
عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر بَيَان مَا فِي حَدِيثي أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر
الْمَذْكُورين: قد ذكرنَا عَن قريب أَن فِي حَدِيث أبي
هُرَيْرَة زِيَادَة وَهِي: وجوب السّعَايَة على العَبْد
إِذا كَانَ الْمُعْتق مُعسرا. فَإِن قلت: قَالَ
الْخطابِيّ: قَوْله: استسعى غير مشقوق عَلَيْهِ لَا
يُثبتهُ أهل النَّقْل مُسْندًا عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، ويزعمون أَنه من قَول قَتَادَة، وَقد
تَأَوَّلَه بعض النَّاس فَقَالَ: معنى السّعَايَة أَن
يستسعي العَبْد لسَيِّده أَي: يستخدم، وَكَذَلِكَ معنى
قَوْله: غير مشقوق عَلَيْهِ، أَي: لَا يحمل فَوق مَا
يلْزمه من الْخدمَة إلاَّ بِقدر مَا فِيهِ من الرّقّ،
وَلَا يُطَالب بِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَيْضًا لم يذكر ابْن
أبي عرُوبَة بالسعاية فِي رِوَايَته عَن قَتَادَة، وَفِيه
اضْطِرَاب، فَدلَّ على أَنه لَيْسَ من متن الحَدِيث
عِنْده، وَإِنَّمَا هُوَ من كَلَام قَتَادَة، وَيدل على
صِحَة ذَلِك حَدِيث ابْن عمر، وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد
الْبر: روى أَبُو هُرَيْرَة هَذَا الحَدِيث على خلاف مَا
رَوَاهُ ابْن عمر، وَاخْتلف فِي حَدِيثه، وَهُوَ حَدِيث
يَدُور على قَتَادَة عَن النَّضر بن أنس عَن بشير ابْن
نهيك عَن أبي هُرَيْرَة، وَاخْتلف أَصْحَاب قَتَادَة
عَلَيْهِ فِي الِاسْتِسْعَاء، وَهُوَ الْموضع الْمُخَالف
لحَدِيث ابْن عمر من رِوَايَة مَالك وَغَيره، وَاتفقَ
شُعْبَة وَهَمَّام على ترك ذكر السّعَايَة فِي هَذَا
الحَدِيث، وَالْقَوْل قَوْلهم فِي قَتَادَة عِنْد جَمِيع
أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ إِذا خالفهم فِي قَتَادَة غَيرهم،
وَأَصْحَاب قَتَادَة الَّذين هم حجَّة فِيهِ هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَة، فَإِن اتّفق هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة لم يعرج
على من خالفهم فِي قَتَادَة، وَإِن اخْتلفُوا نظر، فَإِن
اتّفق مِنْهُم اثْنَان وَانْفَرَدَ وَاحِد فَالْقَوْل قَول
الْإِثْنَيْنِ، لَا سِيمَا إِذا كَانَ أَحدهمَا شُعْبَة،
وَلَيْسَ أحد بِالْجُمْلَةِ فِي قَتَادَة مثل شُعْبَة
لِأَنَّهُ كَانَ يوقفه على الْإِسْنَاد وَالسَّمَاع، وَقد
اتّفق شُعْبَة وَهِشَام فِي هَذَا الحَدِيث على سُقُوط ذكر
الِاسْتِسْعَاء فِيهِ، وتابعهما همام، وَفِي هَذَا
تَقْوِيَة لحَدِيث ابْن عمر، وَهُوَ حَدِيث مدنِي صَحِيح
لَا يُقَاس بِهِ غَيره، وَهُوَ أولى مَا قيل بِهِ فِي
هَذَا الْبَاب.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: ضعف الشَّافِعِي السّعَايَة
بِوُجُوه: مِنْهَا: أَن شُعْبَة وهشاماً رواياه عَن
قَتَادَة وَلَيْسَ فِيهِ استسعاء وهما أحفظ. وَمِنْهَا:
أَنه سمع بعض أهل الْعلم يَقُول: لَو كَانَ حَدِيث سعيد
مُنْفَردا لَا يُخَالِفهُ غَيره مَا كَانَ ثَابتا. قلت:
تَابع ابْن أبي عرُوبَة على رِوَايَته عَن قَتَادَة يحيى
بن أبي صبيح، رَوَاهُ الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة
عَن ابْن أبي عرُوبَة وَيحيى بن صبيح عَن قَتَادَة على مَا
رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن مُحَمَّد بن النُّعْمَان عَن
الْحميدِي، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة شيخ الشَّافِعِي عَن سعيد بن أبي عرُوبَة وَيحيى
بن صبيح، بِفَتْح الصَّاد: الْخُرَاسَانِي الْمقري،
كِلَاهُمَا عَن قَتَادَة كَذَلِك، وَقد ذكر الْبَيْهَقِيّ
أَيْضا فِي (سنَنه) : أَن الْحجَّاج وَأَبَان ومُوسَى بن
خلف وَجَرِير بن حَازِم رَوَوْهُ عَن قَتَادَة كَذَلِك،
يَعْنِي: ذكرُوا فِيهِ الِاسْتِسْعَاء، وَإِذا سكت شُعْبَة
وَهِشَام عَن الِاسْتِسْعَاء لم يكن ذَلِك حجَّة على ابْن
أبي عرُوبَة، لِأَنَّهُ ثِقَة قد زَاد عَلَيْهِمَا شَيْئا،
فَالْقَوْل قَوْله، كَيفَ وَقد وَافقه على ذَلِك جمَاعَة؟
وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا خبر فِي غَايَة الصِّحَّة، فَلَا
يجوز الْخُرُوج عَن الزِّيَادَة الَّتِي فِيهِ، وَقد
رَوَاهُ عَنهُ يزِيد ابْن هَارُون وَعِيسَى بن يُونُس
وَجَمَاعَة كَثِيرَة، ذكرهم صَاحب (التَّمْهِيد) وَلم
يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فِي أَمر السّعَايَة، مِنْهُم:
عَبدة بن سُلَيْمَان وَهُوَ أثبت النَّاس سَمَاعا من ابْن
أبي عرُوبَة، وَقَالَ صَاحب (الاستذكار) ، وَمِمَّنْ
رَوَاهُ عَنهُ كَذَلِك روح بن عبَادَة وَيزِيد بن زُرَيْع
وَعلي بن مسْهر وَيحيى بن سعيد وَمُحَمّد بن بكر وَيحيى بن
أبي عدي، وَلَو كَانَ هَذَا الحَدِيث غير ثَابت كَمَا
زَعمه الشَّافِعِي لما أخرجه الشَّيْخَانِ فِي
(صَحِيحَيْهِمَا) وَقَالَ شَارِح (الْعُمْدَة) : الَّذين
لم يَقُولُوا بالاستسعاء تعللوا فِي تَضْعِيفه بتعللات على
الْبعد، وَلَا يُمكنهُم الْوَفَاء بِمِثْلِهَا فِي
الْمَوَاضِع الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَى الِاسْتِدْلَال
فِيهَا بِأَحَادِيث يرد عَلَيْهِم فِيهَا مثل تِلْكَ
التعللات.
(13/55)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (شقيصاً) ، بِفَتْح الشين
الْمُعْجَمَة وَكسر الْقَاف: بِمَعْنى الشّقص، وَهُوَ
النَّصِيب، وَقد ذكرنَا أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنى
وَاحِد كالنصيف وَالنّصف. قَوْله: (فَعَلَيهِ خلاصه) ،
أَي: فَعَلَيهِ أَدَاء قيمَة الْبَاقِي من مَاله ليتخلص من
الرّقّ. قَوْله: (قيمَة عدل) ، قد مضى تَفْسِيره. قَوْله:
(غير مشقوق) ، أَي: غير مُكَلّف عَلَيْهِ فِي
الِاكْتِسَاب، حَاصله: يُكَلف العَبْد بالاستسعاء قدر نصيب
الشَّرِيك الآخر بِلَا تَشْدِيد، فَإِذا دَفعه إِلَيْهِ
عتق، وَمعنى هَذَا الحَدِيث مثل معنى حَدِيث ابْن عمر، غير
أَن فِيهِ زِيَادَة هِيَ: الِاسْتِسْعَاء، وَثَبت هَذَا
عِنْد الشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا، وروى ابْن
عدي فِي (الْكَامِل) من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن
أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: (من أعتق شِقْصا من رَقِيق كَانَ عَلَيْهِ أَن
يعْتق نَفسه، فَإِن لم يكن لَهُ مَال يستسعى العَبْد)
وَالله أعلم. |