عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 7 - (بابٌ إذَا قَالَ رجُلٌ لِعَبْدِهِ
هُوَ لله ونَوَى الْعِتْقَ والإشْهَادُ فِي العِتْقِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ رجل لعَبْدِهِ هُوَ
لله، هَذَا هَكَذَا روى الْأصيلِيّ وكريمة، وَفِي رِوَايَة
غَيرهمَا: بَاب إِذا قَالَ لعَبْدِهِ، الْفَاعِل مُضْمر،
وَهُوَ رجل أَو شخص. قَوْله: (وَنوى الْعتْق) ، أَي:
وَالْحَال أَنه نوى عتق العَبْد بِهَذَا اللَّفْظ،
وَجَوَاب إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: صَحَّ أَو عتق العَبْد.
قَوْله: (وَالْإِشْهَاد) بِالرَّفْع، وَفِيه حذف
تَقْدِيره: وَبَاب يذكر فِيهِ الْإِشْهَاد فِي الْعتْق،
فَيكون ارتفاعه بِالْفِعْلِ الْمُقدر، وَتَكون هَذِه
الْجُمْلَة أَعنِي: قَوْلنَا: وَبَاب يذكر فِيهِ
الْإِشْهَاد على الْعتْق معطوفة على: بَاب إِذا قَالَ أَي
بَاب يذكر فِيهِ، إِذا قَالَ، وَلَفظ: بَاب، منون فِي
الظَّاهِر، وَفِي الْمُقدر، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه، وَمن
جر الْإِشْهَاد فقد جر مَا لَا يُطيق حمله.
0352 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله بنِ نُمَيْرٍ
عنْ مُحَمَّدِ بنِ بِشْرٍ عنْ إسْمَاعِيلَ عنْ قَيْسٍ عنْ
أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ لَمَّا
أقْبَلَ يُرِيدُ الأسْلامَ ومَعَهُ غُلامُهُ ضَلَّ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُما مِنْ صاحِبِهِ فأقْبَلَ بَعْدَ ذَلِكَ
وأبُو هُرَيْرَةَ جالِسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلاَمُكَ قَدْ أتَاكَ فَقَالَ
أما أنِّي أُشْهِدُكَ أنَّهُ حُرٌّ فَهْوَ حينَ يَقُولُ:
(يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وعَنائِها ... علَى أَنَّهَا
مِنْ دَارَةِ الكُفْرِ نَجَّتِ)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أما أَنِّي أشهدك أَنه
حر) ، وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد الأحمسي البَجلِيّ،
وَاسم أبي خَالِد سعد، وَقيس هُوَ ابْن أبي حَازِم،
بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: واسْمه عَوْف، قدم
الْمَدِينَة بَعْدَمَا قبض النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَهَؤُلَاء كلهم كوفيون
قَوْله: (يُرِيد الْإِسْلَام) جملَة حَالية، وَكَذَلِكَ
قَوْله: (وَمَعَهُ غُلَامه) ، جملَة حَالية إسمية أَي:
وَمَعَ أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (ضل) ، أَي: تاه كل وَاحِد
مِنْهُمَا ذهب إِلَى نَاحيَة وَفَسرهُ الْكرْمَانِي بقوله:
ضَاعَ، وَتَبعهُ بَعضهم على ذَلِك وَلَيْسَ مَعْنَاهُ
إلاَّ مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (أما) ، بِفَتْح الْهمزَة
وَتَخْفِيف الْمِيم وتستعمل هَذِه الْكَلِمَة على
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن تكون حرف استفتاح بِمَنْزِلَة
أَلا. وَالثَّانِي: أَن تكون بِمَعْنى حَقًا. وَأما، هُنَا
على هَذَا الْمَعْنى. قَوْله: (أَنِّي) ، بِفَتْح الْهمزَة
كَمَا تفتح الْهمزَة بعد قَوْلهم: حَقًا، لِأَنَّهَا
بِمَعْنَاهُ. قَوْله: (فَهُوَ حِين يَقُول) ، أَي:
الْوَقْت الَّذِي وصل فِيهِ إِلَى الْمَدِينَة. قَوْله:
(يَا لَيْلَة) ، هَذَا من بَحر الطَّوِيل، وَقد دخله
الخرم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة وَسُكُون
الرَّاء، وَهُوَ حذف الْحَرْف من أول الْجُزْء، وللطويل
ثَمَانِيَة أَجزَاء وَقد حذف الْحَرْف من أول جزئه وَهُوَ:
يَا لَيْلَة، لِأَن تَقْدِيره: فيا لَيْلَة، لِأَن وَزنه
فيالي: فعولن، لَهُ من طو: مفاعيلن، لَهَا و: فعول،
عنائها: مفاعلن. وَفِيه الْقَبْض، وَقَول الْكرْمَانِي:
وَلَا بُد من زِيَادَة وَلَو أوفاء فِي أول الْبَيْت
ليَكُون مَوْزُونا، كَلَام من يقف على علم الْعرُوض، لِأَن
مَا جَازَ حذفه كَيفَ يُقَال فِيهِ لَا بُد من إثْبَاته؟
قَوْله: (عنائها) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وبتخفيف
النُّون وبالمد: أَي تعبها ومشقتها. قَوْله: (دارة
(13/90)
الْكفْر) ، هِيَ دَار الْحَرْب، والدارة
أخص من الدَّار، ويروى: (دَاره) ، بِالْإِضَافَة إِلَى
الضَّمِير، وَحِينَئِذٍ يكون الْكفْر بَدَلا مِنْهُ بدل
الْكل من الْكل، وَكَثِيرًا مَا تسْتَعْمل الدارة فِي
أشعار الْعَرَب، كَمَا قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(وَلَا سِيمَا يَوْم بدارة جلجل)
ودارات كَثِيرَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم عَن الْأَصْمَعِي:
الدارة جوفة تحف الْجبَال، وَقَالَ عَنهُ فِي مَوضِع آخر:
الدارة رمل مستدير قدر ميلين تحفه الْجبَال. وَقَالَ
الهجري: الدارة النبكة السهلة حفتها جبال، وَمِقْدَار
الدارة خَمْسَة أَمْيَال فِي مثلهَا. قلت: النبكة، بِفَتْح
النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَالْكَاف: وَهِي أكمة
محددة الرَّأْس، وَيجمع على: نبك، بِالتَّحْرِيكِ. فَإِن
قلت: الشّعْر لمن؟ قلت: ظَاهره أَنه لأبي هُرَيْرَة،
وَلكنه غير مَشْهُور بالشعر. وَحكى ابْن التِّين: أَنه
لغلامه، وَحكى الفاكهي فِي (كتاب مَكَّة) : عَن مقدم بن
حجاج السوَائِي أَن الْبَيْت الْمَذْكُور لأبي مرْثَد
الغنوي فِي قصَّة لَهُ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون أَبُو
هُرَيْرَة قد تمثل بِهِ. وَالله أعلم.
وَقَالَ الْمُهلب: لَا خلاف بَين الْعلمَاء فِيمَا علمت
إِذا قَالَ رجل لعَبْدِهِ: هُوَ حر، أَو: هُوَ لله، وَنوى
الْعتْق أَنه يلْزمه الْعتْق. وكل مَا يفهم بِهِ عَن
الْمُتَكَلّم أَنه أَرَادَ بِهِ الْعتْق لزمَه وَنفذ
عَلَيْهِ، وروى ابْن أبي شيبَة عَن هشيم عَن مُغيرَة: أَن
رجلا قَالَ لغلامه: أَنْت لله. فَسئلَ الشّعبِيّ
وَالْمُسَيب بن رَافع وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان،
فَقَالُوا: هُوَ حر. وَعَن إِبْرَاهِيم كَذَلِك، وَقَالَ
إِبْرَاهِيم: وَإِن قَالَ: إِنَّك لحر النَّفس، فَهُوَ حر،
وَعَن الْحسن: إِذا قَالَ: مَا أَنْت إلاَّ حر، نِيَّته.
وَعَن الشّعبِيّ مثله.
وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: الْعتْق عِنْد بُلُوغ الأمل
والنجاة مِمَّا يخَاف، كَمَا فعل أَبُو هُرَيْرَة حِين
أَنْجَاهُ الله من دَار الْكفْر وَمن ضلاله فِي اللَّيْل
عَن الطَّرِيق، وَكَانَ إِسْلَام أبي هُرَيْرَة فِي سنة
سِتّ من الْهِجْرَة.
(13/91)
2352 - حدَّثنا شِهَابُ بنُ عَبَّادٍ قَالَ
حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ حُمَيْدٍ عنْ إسْمَاعِيلَ عنْ
قَيْسٍ قَالَ لَ مَّا أقْبَلَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ ومَعَهُ غُلاَمَهُ وهْوَ يَطْلُبُ الإسْلامَ
فَضَلَّ أحَدُهُمَا صاحِبَهُ بِهاذَا وَقَالَ أما أنِّي
أشْهِدُكَ أنَّهُ لله.
هَذَا طَرِيق آخر عَن شهَاب بن عباد، بِفَتْح الْعين
وَتَشْديد الْبَاء: الْعَبْدي الْكُوفِي أَبُو عَمْرو عَن
إِبْرَاهِيم بن حميد بن عبد الرَّحْمَن الرُّؤَاسِي من قيس
غيلَان الْكُوفِي ... إِلَى آخِره. قَوْله: (وَهُوَ يطْلب
الْإِسْلَام) جملَة حَالية، وَيحْتَمل أَن يكون حَقِيقَة،
وَإِن لم يسلم وَأسلم بعد، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد
يظْهر الْإِسْلَام. قَوْله: (فضل) ، أَصله التَّعْدِيَة
بالحرف لِأَنَّهُ قَالَ فِي الطَّرِيق الأول. فضل كل
وَاحِد مِنْهُمَا عَن صَاحبه، وَيكون نصب (صاحبَه) هُنَا
بِنَزْع الْخَافِض، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَاخْتَارَ مُوسَى قومَه سبعين} (الْأَعْرَاف: 551) .
أَي: من قومه، وَالتَّقْدِير هُنَا: فضل أَحدهمَا عَن
صَاحبه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد جَاءَ مُتَعَدِّيا
بِنَفسِهِ فِي الْأَشْيَاء الثَّابِتَة، كَمَا يُقَال:
ضللت الْمَسْجِد وَالدَّار، إِذا لم يعرف موضعهما قلت:
هَذَا من بَاب التَّوَسُّع، كَمَا يُقَال: دخلت
الْمَسْجِد، حَتَّى قيل: إِن الصَّوَاب: فأضل أَحدهمَا
صَاحبه.
8 - (بابُ أُمِّ الوَلَدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم أم الْوَلَد، وَلم يذكر
الحكم مَا هُوَ، فَكَأَنَّهُ تَركه للْخلاف فِيهِ. قَالَ
أَبُو عمر: اخْتلف السّلف وَالْخلف من الْعلمَاء فِي عتق
أم الْوَلَد وَفِي جَوَاز بيعهَا، فالثابت عَن عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، عدم جَوَاز بيعهَا، وروى مثل ذَلِك
عَن عُثْمَان وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَهُوَ قَول أَكثر
التَّابِعين مِنْهُم: الْحسن وَعَطَاء ومحاهد وَسَالم
وَابْن شهَاب وَإِبْرَاهِيم، وَإِلَى ذَلِك ذهب مَالك
وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَأَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ، فِي أَكثر كتبه، وَقد أجَاز بيعهَا فِي
بعض كتبه، وَقَالَ الْمُزنِيّ: قطع فِي أَرْبَعَة عشر
موضعا من كتبه بِأَن لَا تبَاع، وَهُوَ الصَّحِيح من
مذْهبه، وَعَلِيهِ جُمْهُور أَصْحَابه، وَهُوَ قَول أبي
يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر وَالْحسن بن صَالح وَأحمد
وَإِسْحَاق وَأبي عبيد وَأبي ثَوْر، وَكَانَ أَبُو بكر
الصّديق وَعلي بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير
وَجَابِر وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، يجيزون بيع أم الْوَلَد، وَبِه قَالَ دَاوُد،
وَقَالَ جَابر وَأَبُو سعيد: (كُنَّا نبيع أُمَّهَات
الْأَوْلَاد على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
، وَذكر عبد الرَّزَّاق: أَنبأَنَا ابْن جريج أَخْبرنِي
أَبُو الزبير سمع جَابِرا، يَقُول: (كُنَّا نبيع أُمَّهَات
الْأَوْلَاد وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فِينَا لَا يرى بذلك بَأْسا) . وأنبأنا ابْن جريج
أَنبأَنَا عبد الرَّحْمَن بن الْوَلِيد أَن أَبَا إِسْحَاق
الْهَمدَانِي أخبرهُ أَن أَبَا بكر الصّديق (كَانَ يَبِيع
أُمَّهَات الْأَوْلَاد فِي آمارته وَعمر فِي نصف إمارته) .
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: (تعْتق فِي نصيب وَلَدهَا) ، وَقد
رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير. قَالَ: وَقد
رُوِيَ عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي
مَارِيَة سريته: لما ولدت إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، قَالَ: (أعْتقهَا وَلَدهَا) ، من وَجه لَيْسَ
بِالْقَوِيّ وَلَا يُثبتهُ أهل الحَدِيث، وَكَذَا حَدِيث
ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه
قَالَ: (إيما أمة ولدت من سَيِّدهَا فَإِنَّهَا حرَّة إِذا
مَاتَ سَيِّدهَا) ، فَقيل لَهُ: عَمَّن هَذَا؟ قَالَ: (عَن
الْقُرْآن هَذَا) ، قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيهَا
الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي
الْأَمر مِنْكُم} (النِّسَاء: 95) . وَكَانَ عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، من أولي الْأَمر، وَقد قَالَ:
أعْتقهَا وَلَدهَا وَإِن كَانَ سِقطاً.
قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أنْ تَلِدَ الأمَةِ
رَبَّها
هَذَا التَّعْلِيق مر مَوْصُولا مطولا فِي كتاب الْإِيمَان
فِي: بَاب سُؤال جِبْرِيل النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، عَن الْإِيمَان، وَتقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَجه إِيرَاد هَذَا هُنَا هُوَ أَن مِنْهُم من اسْتدلَّ
على جَوَاز بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وَمِنْهُم من منع
ذَلِك فَكَانَ البُخَارِيّ أَرَادَ بِذكرِهِ هَذَا
الْإِشَارَة إِلَى ذَلِك، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور
أَنه لَا يدل على الْجَوَاز وَلَا الْمَنْع. وَقَالَ
النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) وَقد اسْتدلَّ إمامان من كبار
الْعلمَاء على ذَلِك، اسْتدلَّ أَحدهمَا على الْإِبَاحَة،
وَالْآخر على الْمَنْع، وَذَلِكَ عَجِيب مِنْهُمَا، وَقد
أنكر عَلَيْهِمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ كل مَا أخبر، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بِكَوْنِهِ من عَلَامَات السَّاعَة يكون
محرما أَو مذموماً كتطاول الرعاء فِي الْبُنيان وفشو
المَال وَكَون خمسين امْرَأَة لَهُنَّ قيم وَاحِد لَيْسَ
بِحرَام بِلَا شكّ، وَإِنَّمَا هَذِه عَلَامَات، والعلامة
لَا يشْتَرط فِيهَا شَيْء من ذَلِك، بل تكون بِالْخَيرِ
وَالشَّر والمباح وَالْمحرم وَالْوَاجِب وَغَيره. انْتهى.
قلت: وَجه اسْتِدْلَال الْمُجِيز أَن ظَاهر قَوْله:
(13/92)
(رَبهَا) ، أَن المُرَاد بِهِ سَيِّدهَا
لِأَن وَلَدهَا من سَيِّدهَا يتنزل منزلَة سَيِّدهَا لمصير
مآل الْإِنْسَان إِلَى وَلَده غَالِبا، وَوجه اسْتِدْلَال
الْمَانِع أَن هَذَا إِخْبَار عَن غَلَبَة الْجَهْل فِي
آخر الزَّمَان حَتَّى تبَاع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، فيكثر
تردد الْأمة فِي الْأَيْدِي حَتَّى يَشْتَرِيهَا وَلَدهَا
وَهُوَ لَا يدْرِي، فَيكون فِيهِ إِشَارَة إِلَى تَحْرِيم
بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وَلَا يخفى تعسف
الْوَجْهَيْنِ.
3352 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عُرْوَةَ بنُ الزُّبَيْرِ
أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ إنَّ
عُتْبَةَ بنَ أبِي وقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أخِيهِ سَعْدِ بنِ
أبِي وقَّاصٍ أنْ يَقْبِضَ إلَيْهِ ابنَ وَلِيدَةِ
زَمْعَةَ قَالَ عُتْبَةُ إنَّهُ ابْني فلَمَّا قَدِمَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَمَنَ الْفَتْحِ
أخَذَ سَعْدٌ ابنُ ولِيدَةِ زَمْعَةَ فَأقْبَلَ بِهِ إلَى
رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأقْبَلَ معَهُ
بِعَبْدِ بنِ زَمْعَةَ فقالَ سَعْدٌ يَا رسُولَ الله هَذَا
ابنُ أخِي عَهِدَ إلَيَّ أنَّهُ ابْنُهُ فَقَالَ عبدُ بنُ
زَمْعَةَ يَا رسولَ الله هَذَا أخِي ابنُ ولِيدَةِ زَمعَة
وُلدَ عَلى فِراشِهِ فنَظَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى ابنُ وليدَةِ زَمْعَةَ فإذَا هُوَ أشْبَهُ
النًّاسِ بهِ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بنَ زَمْعَةَ مِنْ أجْلِ أنَّهُ
وُلِدَ علَى فِرَاشِ أَبِيه وَقَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بنْتَ
زَمْعَةَ مِمَّا رَأى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ وكانتْ
سَوْدَةُ زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (هَذَا أخي، ولد على
فرَاش أبي) وَحكمه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَنَّهُ
أَخُوهُ، فَإِن فِيهِ ثُبُوت أميَّة الْوَلَد. فَإِن قلت:
لَيْسَ فِيهِ تعرض لحريتها وَلَا لرقيتها. قلت:
التَّرْجَمَة فِي بَاب أم الْوَلَد مُطلقًا من غير تعرض
للْحكم، كَمَا ذكرنَا فَتحصل الْمُطَابقَة من هَذِه
الْحَيْثِيَّة، وَقيل: فِيهِ: إِشَارَة إِلَى حريَّة أم
الْوَلَد لِأَنَّهُ جعلهَا فراشا، فسوى بَينهَا وَبَين
الزَّوْجَة فِي ذَلِك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: زَاد فِي بعض
النّسخ بعد تَمام الحَدِيث، قَالَ أَبُو عبد الله: سمى
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أمة زَمعَة أمة
ووليدة، فَدلَّ على أَنَّهَا لم تكن عتيقة بِهَذَا
الحَدِيث. قلت: هَذَا يدل على أَن ميله إِلَى عدم عتق أم
الْوَلَد بِمَوْت السَّيِّد، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي:
وَقد يُقَال غَرَض البُخَارِيّ فِيهِ بَيَان أَن بعض
الْحَنَفِيَّة لَا يَقُولُونَ بِأَن الْوَلَد للْفراش فِي
الْأمة إِذْ لَا يلحقون الْوَلَد بالسيد إلاَّ
بِإِقْرَارِهِ، بل يخصصونه بفراش الْحرَّة، فَإِذا
أَرَادوا تَأْوِيل مَا فِي هَذَا الحَدِيث فِي بعض
الرِّوَايَات من أَن الْوَلَد للْفراش يَقُولُونَ: إِن أم
الْوَلَد الْمُتَنَازع فِيهَا كَانَت حرَّة لَا أمة، ثمَّ
إِن هَذَا الحَدِيث مضى فِي أَوَائِل كتاب الْبيُوع فِي:
بَاب تَفْسِير الشُّبُهَات، وَمضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ، وَلَكِن نذْكر هُنَا بعض شيى لزِيَادَة
الْفَائِدَة.
وَقَالَ ابْن بطال: الْقَضِيَّة مشكلة من جِهَة أَن عبدا
ادّعى على أمة ولدا بقوله: أخي، وَلم يَأْتِ بِبَيِّنَة
تشهد على إِقْرَار أَبِيه، فَكيف قبل دَعْوَاهُ؟ فَذهب
مَالك وَالشَّافِعِيّ إِلَى: أَن الْأمة إِذا وَطئهَا
مَوْلَاهَا فقد لزمَه كل ولد تَجِيء بِهِ بعد ذَلِك، إدعاه
أم لَا. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا يلْزم مَوْلَاهَا
إلاَّ أَن يقرَّ بِهِ، وَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (هولك) ، وَلم يقل: هُوَ أَخُوك،
فَيجوز أَن يُرِيد بِهِ: هُوَ مَمْلُوك لَك بِحَق مَا لَك
عَلَيْهِ من الْيَد، وَلِهَذَا أَمر سَوْدَة بالاحتجاب
مِنْهُ، فَلَو جعله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ابْن زَمعَة
لما حجب مِنْهُ أُخْته. وَقَالَت طَائِفَة: مَعْنَاهُ:
هُوَ أَخُوك كَمَا ادعيت، قَضَاء مِنْهُ فِي ذَلِك
بِعَمَلِهِ، لِأَن زَمعَة كَانَ صهره فَألْحق وَلَده بِهِ
لما علمه من فراسته، لَا أَنه قضى بذلك لاستلحاق عبد لَهُ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: (هُوَ لَك) ، أَي: بِيَدِك عَلَيْهِ
لَا إِنَّك تملكه، وَلَكِن يمنه مِنْهُ كل من سواك، كَمَا
قَالَ فِي اللّقطَة: هِيَ لَك تدفع غَيْرك عَنْهَا حَتَّى
يَجِيء صَاحبهَا، وَلما كَانَ لعبد شريك وَهُوَ أُخْته
سَوْدَة، وَلم يعلم مِنْهَا تَصْدِيق فِي ذَلِك، ألزم
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عبدا مَا أقرَّ بِهِ
على نَفسه، وَلم يَجْعَل ذَلِك حجَّة على أُخْته، فَأمرهَا
بالاحتجاب. وَقَالَ الشَّافِعِي: رُؤْيَة ابْن زَمعَة
لسودة مُبَاحَة، لكنه كرهه للشُّبْهَة، وأمرها بالتنزه
عَنهُ اخْتِيَارا. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ لَك ملك،
يَعْنِي عبدا لِأَنَّهُ بَان وليدة أَبِيك، وكل أمة تَلد
من غير سَيِّدهَا فولدها عبد، وَلم ينْقل فِي الحَدِيث
اعْتِرَاف سَيِّدهَا بِوَطْئِهَا، وَلَا شهد بذلك
عَلَيْهِ، فَلم يبْق إلاَّ الْقَضَاء بِأَنَّهُ عبد تبيع
لأمه، لَا أَنه قضى لَهُ بِبَيِّنَة. وَأجَاب ابْن الْقصار
بجوابين: أَحدهمَا: أَنه كَانَ يدعى: عبد بن زَمعَة، أَنه
حر وَأَنه أَخُوهُ ولد على فرَاش أَبِيه،
(13/93)
فَكيف يقْضِي لَهُ بِالْملكِ؟ وَلَو كَانَ
مَمْلُوكا لعتق بِهَذَا القَوْل. وَالْآخر: أَنه لَو قضى
لَهُ بِالْملكِ لم يقل الْوَلَد للْفراش، لِأَن
الْمَمْلُوك لَا يلْحق بالفراش، ولكان يَقُول: هُوَ ملك
لَك. وَقَالَ الْمُزنِيّ: يحْتَمل أَن يكون أجَاب فِيهِ
على الْمَسْأَلَة. فأعلمهم بالحكم أَن هَذَا يكون إِذا
ادّعى صَاحب فرَاش وَصَاحب زنا، لَا أَنه قَبِلَ قَول سعد
على أَخِيه عتبَة، وَلَا على زَمعَة قَول ابْنه عبد بن
زَمعَة أَنه أَخُوهُ، لِأَن كل اُحْدُ مِنْهُمَا أخبر عَن
غَيره، وَقد قَامَ الْإِجْمَاع على أَنه لَا يقبل إِقْرَار
أحد على غَيره، فَحكم بذلك ليعرفهم الحكم فِي مثله إِذا
نزل. قَوْله: (أَخذ سعد ابْن وليدة زَمعَة) أَي: أَخذ سعد
بن أبي وَقاص، وَهُوَ مَرْفُوع منون. وَقَوله: (ابْن
وليدة) ، مَنْصُوب على أَنه مفعول، وَيَنْبَغِي أَن يكْتب:
ابْن، بِالْألف. قَوْله: (هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة) ،
بِرَفْع عبد، وَيجوز نَصبه، وَكَذَا: ابْن، وَكَذَا
قَوْله: يَا سَوْدَة بنت زَمعَة. قلت: أما وَجه الرّفْع
وَالنّصب فَهُوَ أَن تَوَابِع الْمَبْنِيّ المفردة من
التَّأْكِيد وَالصّفة وَعطف الْبَيَان ترفع على لَفظه،
وتنصب على مَحَله بَيَانه: أَن لفظ عبد فِي: يَا عبد،
منادى مَبْنِيّ على الضَّم، فَإِذا أكذ أَو اتّصف أَو عطف
عَلَيْهِ يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ، كَمَا عرف فِي
مَوْضِعه. قَوْله: (احتجبي مِنْهُ يَا سَوْدَة) ، أشكل
مَعْنَاهُ قَدِيما على الْعلمَاء. فَذهب أَكثر الْقَائِلين
بِأَن الْحَرَام لَا يحرم الْحَلَال، وَأَن الزِّنَا لَا
تَأْثِير لَهُ فِي التَّحْرِيم، وَهُوَ قَول عبد الْملك بن
الْمَاجشون، إلاَّ أَن قَوْله: كَانَ ذَلِك مِنْهُ على
وَجه الِاحْتِيَاط والتنزه، وَأَن للرجل أَن يمْنَع
امْرَأَته من رُؤْيَة أَخِيهَا، هَذَا قَول الشَّافِعِي.
وَقَالَت طَائِفَة: كَانَ ذَلِك مِنْهُ لقطع الذريعة بعد
حكمه بِالظَّاهِرِ، فَكَأَنَّهُ حكم بحكمين: حكم ظَاهر
وَهُوَ: الْوَلَد للْفراش، وَحكم بَاطِن، وَهُوَ: الاحتجاب
من أجل الشّبَه. كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بِأَخ لَك يَا
سَوْدَة إلاَّ فِي حكم الله تَعَالَى، فَأمرهَا بالاحتجاب
مِنْهُ. قلت: وَمن هَذَا أَخذ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد: أَن وَطْء الزِّنَا محرم،
وَمُوجب للْحكم وَأَنه يجْرِي مجْرى الْوَطْء الْحَلَال
فِي التَّحْرِيم مِنْهُ، وحملوا أمره، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لسودة بالاحتجاب على الْوُجُوب، وَهُوَ أحد قولي
مَالك. وَفِي قَوْله الآخر: الْأَمر هَهُنَا للاستحباب،
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأبي ثَوْر، وَذَلِكَ لأَنهم
يَقُولُونَ: إِن وَطْء الزِّنَا لَا يحرم شَيْئا وَلَا
يُوجب حكما، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم، وَذكر فِي حكم أم
الْوَلَد سَبْعَة أَقْوَال: الأول: يجوز عتقهَا على مَال
صرح بِهِ ابْن الْقصار فِي (فَتَاوِيهِ) الثَّانِي: يجوز
بيعهَا مُطلقًا، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ. الثَّالِث:
يجوز لسَيِّدهَا بيعهَا فِي حَيَاته، فَإِذا مَاتَ عتقت،
وَحكي ذَلِك عَن الشَّافِعِي. الرَّابِع: أَنَّهَا تبَاع
فِي الدّين، وَفِيه حَدِيث سَلامَة بن معقل فِي (سنَن أبي
دَاوُد) . الْخَامِس: أَنَّهَا تبَاع، وَلَكِن إِن كَانَ
وَلَدهَا مَوْجُودا عِنْد موت أَبِيه سَيِّدهَا حسب من
نصِيبه إِن كَانَ ثمَّ مشارك لَهُ فِي التَّرِكَة، وَهُوَ
مَذْهَب ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. السَّادِس: أَنه يجوز بيعهَا
بِشَرْط الْعتْق، وَلَا يجوز بِغَيْرِهِ. السَّابِع:
أَنَّهَا إِن عَقَّت وأبِقَتْ لم يجز بيعهَا، وَإِن فجرت
أَو كفرت جَازَ بيعهَا. حُكيَ عَن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَحكى الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي
التَّوَقُّف.
9 - (بابُ بَيْعِ المُدَبِّرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْمُدبر: هَل يجوز أم
لَا؟ وَقد ذكر هَذِه التَّرْجَمَة بِعَينهَا فِي كتاب
الْبيُوع.
4352 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إياسٍ قَالَ حدَّثنا
شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا عَمْرُ ابنُ دِينارٍ قَالَ
سَمِعْتُ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى
عنهُما قَالَ أعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْداً لَهُ عنْ
دُبُرٍ فَدَعَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ
فَباعَهُ قَالَ جابِرٌ ماتَ الغُلامُ عامَ أوَّلَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث يُوضح حكم
التَّرْجَمَة أَيْضا أَنه أطلقها، فَدلَّ أَن مذْهبه
جَوَاز بيع الْمُدبر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب
الْبيُوع مُسْتَوفى.
قَوْله: (عَن دبر) بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وسكونها،
وَاسم العَبْد: يَعْقُوب، وَالْمُعتق: أَبُو مَذْكُور،
وَالْمُشْتَرِي: نعيم النحام. وَالثمن ثَمَانمِائَة
دِرْهَم. قَوْله: (عَام أول) ، بِالصرْفِ وَعدم الصّرْف،
لِأَنَّهُ إِمَّا: أفعل أَو فوعل، وَيجوز بِنَاؤُه على
الضَّم، وَهَذِه الْإِضَافَة من إِضَافَة الْمَوْصُوف
إِلَى صفته، وَأَصله عَاما أول، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ
اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ، فلنذكر هُنَا أَيْضا يعَض
شَيْء. فَقَالَ قوم: يجوز بيع الْمُدبر وَيرجع فِيهِ مَتى
شَاءَ، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وطاووس، وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر،
وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الحَدِيث، قَالُوا: وَهُوَ مَذْهَب
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَرُوِيَ عَنْهَا
أَنَّهَا باعت مُدبرَة لَهَا سحرتها.
(13/94)
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يجوز، روى ذَلِك عَن
زيد بن ثَابت، وَابْن عمر، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وَسَعِيد
بن الْمسيب وَابْن أبي ليلى وَالنَّخَعِيّ، وَبِه قَالَ
مَالك وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيون:
لَا يُبَاع فِي دين وَلَا فِي غَيره إلاَّ فِي دين قبل
التَّدْبِير، وَيُبَاع بعد الْمَوْت إِذا أغرقه الدّين،
وَكَانَ التَّدْبِير قبل الدّين أَو بعده، وَعَن أبي
حنيفَة: لَا يُبَاع فِي الدّين، وَلَكِن يستسعى
للْغُرَمَاء، فَإِذا أدّى مَا لَهُم عتق، وَقَالَ ابْن
التِّين: وَلم يخْتَلف قَول مَالك وَأَصْحَابه: أَن من دبر
عَبده وَلَا دين عَلَيْهِ أَنه لَا يجوز بَيْعه وَلَا
هِبته وَلَا نقض تَدْبيره مَا دَامَ حَيا، خلافًا
للشَّافِعِيّ. وَفِي (التَّوْضِيح) يخرج الْمُدبر بعد موت
سَيّده من ثلثه. وَقَالَ دَاوُد: يخرج من جَمِيع المَال،
فَإِن لم يحملهُ الثُّلُث رق مَا لم يحملهُ الثُّلُث
مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يسْعَى فِي فكاك رقبته،
فَإِن مَاتَ سَيّده وَعَلِيهِ دين سعى للْغُرَمَاء، وَيخرج
حَيا.
01 - (بابُ بَيْعِ الوَلاءِ وَهِبَتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بيع الْوَلَاء وهبته: هَل
يجوز أم لَا؟ وَحَدِيث الْبَاب يدل على أَنه لَا يجوز،
وَالْوَلَاء بِفَتْح الْوَاو، وبالمد هُوَ حق إِرْث
الْمُعْتق من الْعَتِيق، وَهَذَا يُسمى: وَلَاء
الْعتَاقَة، وَسَببه الْعتْق لَا الْإِعْتَاق، لِأَنَّهُ
إِذا ورث قَرِيبه يعْتق عَلَيْهِ، وَيكون وَلَاؤُه لَهُ
وَلَو كَانَ سَببه الْإِعْتَاق لما ثَبت لَهُ الْوَلَاء،
لِأَنَّهُ لم يُوجد الْإِعْتَاق.
5352 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ
قَالَ أخْبرني عَبْدُ الله بنُ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ
ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما يَقول نَهى رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ بَيْعِ الوَلاءِ وعنْ
هِبَتِهِ.
(الحَدِيث 5352 طرفه فِي: 6576) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين الْإِبْهَام
الَّذِي فِيهَا. وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك
الطَّيَالِسِيّ. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْعتْق عَن
مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْفَرَائِض عَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن
مُحَمَّد بن عبد الْملك قَوْله: (نهى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) ، إِلَى آخِره يَعْنِي وَلَاء الْعتْق
وَهُوَ مَا إِذا مَاتَ الْمُعْتق وَرثهُ مُعْتقه أَو
وَرَثَة مُعْتقه. وَكَانَت الْعَرَب تبيعه وتهبه، فَنهى
عَنهُ الشَّارِع لِأَن الْوَلَاء كالنسب، فَلَا يَزُول
بالإزالة. وفقهاء الْحجاز وَالْعراق مجمعون على أَنه: لَا
يجوز بيع الْوَلَاء وَلَا هِبته، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر.
وَفِيه قَول ثَان: روى أَن مَيْمُونَة بنت الْحَارِث وهبت
وَلَاء مواليها من الْعَبَّاس، وَأَن عُرْوَة ابْتَاعَ
وَلَاء طهْمَان لوَرَثَة مُصعب بن الزبير، وَذكر عبد
الرَّزَّاق عَن عَطاء أَنه: يجوز للسَّيِّد أَن يَأْذَن
لعَبْدِهِ أَن يوالي من شَاءَ، وَهَذَا هُوَ هبة
الْوَلَاء، وَصَحَّ من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا:
الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُورث،
صَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَقَالَ:
صَحِيح الْإِسْنَاد، وَخَالفهُ الْبَيْهَقِيّ فأعله،
وَذكره ابْن بطال من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن
نَافِع عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: الْوَلَاء لحْمَة كالنسب،
وَأوردهُ ابْن التِّين بِزِيَادَة، بِلَفْظ: لَا يحل
بَيْعه وَلَا هِبته، ثمَّ قَالَ: وَعَلِيهِ جَمَاهِير أهل
الْعلم، وَقَامَ الْإِجْمَاع على أَنه: لَا يجوز تَحْويل
النّسَب، وَقد نسخ الله تَعَالَى الْمَوَارِيث بالتبني
بقوله: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إِلَى قَوْله: {ومواليكم}
(الْأَحْزَاب: 5) . وَلعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، من انتسب إِلَى غير أَبِيه، فَكَانَ حكم الْوَلَاء
كَحكم النّسَب فِي ذَلِك، فَكَمَا لَا يجوز بيع النّسَب
وَلَا هِبته، كَذَلِك الْوَلَاء، وَلَا نَقله وَلَا
تحويله، وَإنَّهُ للْمُعْتق كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم.
6352 - حدَّثنا عُثْمانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا
جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ
عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا قالَتِ اشْتَرَيْتُ
بَرِيرَةَ فاشْتَرَطَ أهْلُهَا وَلاءَها فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أعْتِقِيها
فإنَّ الوَلاءَ لِمَنْ أعْطَى الوَرِقَ فأعْتَقْتُها
فَدَعاها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَخَيَّرَها منْ
زَوْجِها فقالَتْ لَوْ أعْطَانِي كَذَا وكذَا مَا ثَبَتُّ
عِنْدَهُ فاخْتارَتْ نَفْسَها..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (فَإِن الْوَلَاء لمن أعْطى الْوَرق) فَهَذَا يدل
على أَن الْوَلَاء لَا ينْقل، فَإِذا لم يجز نَقله لَا
يجوز بَيْعه وَلَا هِبته.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب البيع
وَالشِّرَاء مَعَ النِّسَاء أخرجه من رِوَايَة الزُّهْرِيّ
عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة وَمن رِوَايَة نَافِع عَن ابْن
عمر: أَن عَائِشَة ساومت، وَفِي: بَاب، إِذا اشْترط
شُرُوطًا فِي البيع لَا يحل، من رِوَايَة
(13/95)
مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه
عَن عَائِشَة. وَأخرجه هُنَا عَن عُثْمَان عَن جرير بن عبد
الحميد عَن مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن إِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد عَن عَائِشَة، وَأخرجه
أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن مُحَمَّد بن جرير وَفِيه
أَيْضا عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل عَن أبي عوَانَة.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع وَفِي الْوَلَاء عَن
مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع
وَفِي الطَّلَاق وَفِي الْفَرَائِض عَن قُتَيْبَة عَن جرير
بِهِ، وَذكر قصَّة التَّخْيِير فِي الْبيُوع وَفِي
الطَّلَاق دون الْفَرَائِض.
قَوْله: (بَرِيرَة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر
الرَّاء الأولى، وَكَانَت وليدة لبني هِلَال، كَذَا فِي
رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن أبي الزبير عَن
عُرْوَة، قَوْله: (لم أعْطى الْوَرق) ، بِفَتْح الْوَاو
وَكسر الرَّاء، وَهِي الدَّرَاهِم المضروبة، وَفِي
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: وَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعْطى
الثّمن أَو لمن مَعَه النِّعْمَة. قَوْله: (فَخَيرهَا من
زَوجهَا) لِأَن زَوجهَا كَانَ عبدا على الْأَصَح، وَإِذا
كَانَ زوج الْأمة حرا خيرت عندنَا أَيْضا. وَقَالَ مَالك
وَالشَّافِعِيّ: لَا تخير، وروى مُسلم عَن عَائِشَة أَن
زَوجهَا كَانَ عبدا فَخَيرهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وروى البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا عَنْهَا أَن زوج
بَرِيرَة كَانَ حرا حِين أعتقت، وَالْعَمَل بِهَذَا أولى
لثُبُوت الْحُرِّيَّة لاتفاقهم أَنه كَانَ قتل عبدا. ونقول
بِمُوجب الْحَدِيثين جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ، وَلَا فرق
فِي هَذَا بَين القنة وَأم الْوَلَد والمدبرة
وَالْمُكَاتبَة، وَزفر يخالفنا فِي الْكِتَابَة.
11 - (بابٌ إذَا أُسِرَ أخُو الرَّجُلِ أوْ عَمُّهُ هَلْ
يُفادَى إذَا كانَ مُشْرِكاً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أسر أَخُو الرجل أَو عَمه
هَل يفادى؟ من فاداه يفاديه مفاداة: إِذا أعْطى فداءه،
وأنقذه. وَقيل: المفاداة أَن يَفتكَّ الْأَسير بأسير مثله،
وَفِي (الْمغرب) : فدَاه من الْأسر فدَاء: استنقذه مِنْهُ
بِمَال، والفدية اسْم ذَلِك المَال، والمفاداة بَين
اثْنَيْنِ. وَقَالَ الْمبرد: المفاداة أَن تدفع رجلا
وَتَأْخُذ رجلا وَالْفِدَاء أَن تشتريه. وَقيل: هما
بِمَعْنى قلت: يفادى هُنَا بِمَعْنى: أَن يُعْطي مَالا
ويستنقذ الْأَسير. قَوْله: (إِذا كَانَ) ، أَي: أَخُوهُ
أَو عَمه مُشْركًا من أهل دَار الْحَرْب، وَإِنَّمَا قَالَ
البُخَارِيّ: هَل يفادى؟ بالاستفهام على سَبِيل الاستخبار،
وَلم يبين حكم الْمَسْأَلَة. وَاقْتصر على ذكر أخي الرجل
وَعَمه من بَين سَائِر ذَوي رَحمَه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
ترك بَيَان حكم الْمَسْأَلَة لأجل الْخلاف فِيهِ على مَا
نبينه، وَأما اقْتِصَاره على الْأَخ وَالْعم فَلِأَنَّهُ
استنبط من حَدِيث الْبَاب أَن الْأَخ وَالْعم لَا يعتقان
على من ملكهمَا، وَكَذَلِكَ ابْن الْعم، لِأَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد ملك من عَمه الْعَبَّاس وَمن
ابْن عَمه عقيل بِالْغَنِيمَةِ الَّتِي لَهُ فِيهَا نصيب،
وَكَذَلِكَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد ملك من
أَخِيه عقيل وَعَمه الْعَبَّاس وَلم يعتقا عَلَيْهِ.
وَأما بَيَان الِاخْتِلَاف فِيمَن يعْتق على الرجل إِذا
ملكه، فَذهب مَالك إِلَى أَنه لَا يعْتق عَلَيْهِ إلاَّ
أهل الْفَرَائِض فِي كتاب الله تَعَالَى، وهم: الْوَلَد
ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، وَولد الْوَلَد، وَإِن سفلوا،
وَأَبوهُ وأجداده وجداته من قبل الْأَب وَالأُم وَإِن
بعدوا، وَإِخْوَته لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب أَو لأم، وَبِه
قَالَ الشَّافِعِي إلاَّ فِي الْأُخوة: فَإِنَّهُم لَا
يعتقون، وحجته فِيهِ: أَن عقيلاً كَانَ أَخا عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، فَلم يعْتق عَلَيْهِ بِمَا ملك من
نَفسه من الْغَنِيمَة مِنْهُ. وَعند الْحَنَفِيَّة: كل من
ملك ذَا رحم محرم مِنْهُ عتق عَلَيْهِ، وَذُو الرَّحِم
الْمحرم كل شَخْصَيْنِ يدليان إِلَى أصل وَاحِد بِغَيْر
وَاسِطَة: كالأخوين، أَو أَحدهمَا بِوَاسِطَة، وَالْآخر
بواسطتين، كالعم وَابْن الْعم، وَلَا يعْتق ذُو رحم غير
محرم كبني الْأَعْمَام والأخوال وَبني العمات والخالات،
وَلَا محرم غير ذِي رحم كالمحرمات بالصهرية، أَو الرَّضَاع
إِجْمَاعًا، وَيَقُول الْحَنَفِيَّة قَالَ أَحْمد وَعنهُ
كَقَوْل الشَّافِعِي. وَفِي (حاوي) الْحَنَابِلَة: وَمن
ملك ذَا رحم محرم عتق عَلَيْهِ، وَعنهُ: لَا يعْتق إلاَّ
عَمُود النّسَب. وَحجَّة الْحَنَفِيَّة فِي هَذَا مَا
رَوَاهُ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة من حَدِيث سَمُرَة بن
جُنْدُب، قَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسلم بن
إِبْرَاهِيم ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَا: حَدثنَا
حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن
جُنْدُب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ
مُوسَى فِي مَوضِع آخر: عَن سَمُرَة بن جُنْدُب فِيمَا
يحْسب حَمَّاد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر) ،
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عبد الله بن مُعَاوِيَة
الجُمَحِي الْبَصْرِيّ حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن
قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة: أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ
حر) . وَقَالَ النَّسَائِيّ: أخبرنَا مُحَمَّد بن الْمثنى،
قَالَ: حَدثنَا حجاج وَأَبُو دَاوُد، قَالَا: حَدثنَا
حَمَّاد عَن قَتَادَة عَن الْحسن عَن سَمُرَة: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ملك ذَا محرم
فَهُوَ حر) ، وَقَالَ ابْن مَاجَه: حَدثنَا عقبَة بن مكرم
وَإِسْحَاق بن مَنْصُور، قَالَا: حَدثنَا مُحَمَّد بن بكر
البرْسَانِي عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن قَتَادَة وَعَاصِم
عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر) ،
وَقَالَ بَعضهم: أَشَارَ البُخَارِيّ بترجمة هَذَا الْبَاب
(13/96)
إِلَى تَضْعِيف حَدِيث سَمُرَة هَذَا،
واستنكره ابْن الْمَدِينِيّ، وَرجح التِّرْمِذِيّ
إرْسَاله، وَقَالَ البُخَارِيّ: لَا يَصح. وَقَالَ أَبُو
دَاوُد: وَتفرد بِهِ حَمَّاد، وَكَانَ يشك فِي وَصله،
وَغَيره يرويهِ عَن قَتَادَة عَن الْحسن. قَوْله: وَعَن
قَتَادَة عَن عمر قَوْله: مُنْقَطِعًا، أخرج ذَلِك
النَّسَائِيّ. قلت: مَا وَجه دلَالَة هَذِه التَّرْجَمَة
على ضعف هَذَا الحَدِيث؟ فَمَا هَذِه الدّلَالَة؟ هَل هِيَ
لفظية أَو عقلية؟ والْحَدِيث أخرجه الْحَاكِم فِي
(الْمُسْتَدْرك) من طَرِيق أَحْمد بن حَنْبَل عَن حَمَّاد
بن سَلمَة عَن عَاصِم الْأَحول وَقَتَادَة عَن الْحسن عَن
سَمُرَة مَرْفُوعا، وَسكت عَنهُ، ثمَّ أخرجه عَن ضَمرَة بن
ربيعَة عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر
مَرْفُوعا: (من ملك ذَا رحم فَهُوَ حر) . وَقَالَ: هَذَا
حَدِيث حسن صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، والمحفوط: عَن
سَمُرَة بن جُنْدُب، وَصَححهُ أَيْضا ابْن حزم وَابْن
الْقطَّان، وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا خبر صَحِيح تقوم بِهِ
الْحجَّة كل من رُوَاته ثِقَات. انْتهى. وَلَئِن سلمنَا
مَا قَالُوا، فَمَا يقلون فِي حَدِيث ضَمرَة ابْن ربيعَة
عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَهَذَا فِيهِ الْكِفَايَة فِي
الِاحْتِجَاج؟ فَإِن قلت: قَالُوا: تفرد بِهِ ضَمرَة. قلت:
لَيْسَ انْفِرَاده بِهِ دَلِيلا على أَنه غير مَحْفُوظ
وَلَا يُوجب ذَلِك عِلّة فِيهِ، لِأَنَّهُ من الثِّقَات
المأمونين لم يكن بِالشَّام رجل يُشبههُ، كَذَا قَالَ
أَحْمد بن حَنْبَل. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة
مَأْمُونا لم يكن هُنَاكَ أفضل مِنْهُ، وَقَالَ ابْن
يُونُس: كَانَ فَقِيه أهل فلسطين فِي زَمَانه. والْحَدِيث
إِذا انْفَرد بِهِ مثل هَذَا كَانَ صَحِيحا، وَلَا يضرّهُ
تفرده.
وقالَ أنَسٌ قَالَ العَبَّاسُ لِلْنَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: فأدَّيْتُ نَفْسِي وفاديْتُ عَقيلاً
هَذَا التَّعْلِيق جُزْء من حَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة
فِي: بَاب الْقِسْمَة، وَتَعْلِيق القنو فِي الْمَسْجِد.
أخرجه هُنَاكَ فَقَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن
عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس، قَالَ: أُتِي النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمَال من الْبَحْرين ...
الحَدِيث، وَفِيه: جَاءَهُ الْعَبَّاس فَقَالَ: يَا رَسُول
الله {أَعْطِنِي، فَإِنِّي فاديت نَفسِي وفاديت عقيلاً ...
إِلَى آخِره. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ مَوْصُولا، فَقَالَ:
أَخْبرنِي أَبُو الطّيب مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله،
حَدثنَا مُحَمَّد بن عِصَام حَدثنَا حَفْص بن عبد الله
حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن طهْمَان ... إِلَى آخِره وعباس عَم
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما أسر فِي وقْعَة
بدر فَأدى نَفسه بِمِائَة أُوقِيَّة من ذهب، قَالَه ابْن
إِسْحَاق، وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) : وَهَذِه
الْمِائَة عَن نَفسه وَعَن بني أَخِيه عقيل وَنَوْفَل،
وروى هِشَام بن الْكَلْبِيّ عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: قَالَ: فدى الْعَبَّاس نَفسه بأَرْبعَة آلَاف
دِرْهَم، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ من كل وَاحِد من الأسرى
أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أضعفوها على الْعَبَّاس، فَقَالَ:
تَرَكتنِي فَقِيرا مَا عِشْت أسأَل الله. قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَأَيْنَ المَال الَّذِي
تركته عِنْد أم الْفضل) ، وَذكره فَقَالَ: يَا ابْن أخي من
أعلمك؟ فوَاللَّه مَا كَانَ عندنَا ثَالِث. فَقَالَ:
(أَخْبرنِي الله) ، فَقَالَ أشهد أَنَّك لصَادِق وَمَا
علمت أَنَّك رَسُول الله قبل الْيَوْم، وَأسلم وَأمر إبني
إخيه، فَأَسْلمَا. قَالَ ابْن عَبَّاس: وَفِيه نزل: {يَا
أَيهَا النَّبِي قل لمن فِي أَيْدِيكُم من الْأُسَارَى أَن
يعلم الله فِي قُلُوبكُمْ} (الْأَنْفَال: 07) . الْآيَة،
وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: عَن يزِيد بن رُومَان عَن عُرْوَة
عَن الزُّهْرِيّ عَن جمَاعَة، سماهم. قَالُوا: بعثت
قُرَيْش إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
فدَاء أسرائهم، ففدى كل قوم أسيرهم بِمَا رَضوا، وَقَالَ
الْعَبَّاس: يَا رَسُول الله قد كنت مُسلما. فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الله أعلم
بِإِسْلَامِك، فَإِن يكن كَمَا تَقول فَالله يجْزِيك،
وَأما ظاهرك فقد كَانَ علينا فافتدِ نَفسك وَابْني أَخِيك
نَوْفَل بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَعقيل بن أبي طَالب
بن عبد الْمطلب، وَحَلِيفك عتبَة بن عَمْرو أخي بني
الْحَارِث بن فهر) قَالَ: مَا ذَاك عِنْدِي يَا رَسُول
الله} قَالَ: (فإين المَال الَّذِي دَفَنته أَنْت وَأم
الْفضل؟ قَالَ: فَقلت لَهَا: إِن أصبت فِي سَفَرِي هَذَا
فَهَذَا المَال الَّذِي دَفَنته لبني الْفضل وَعبد الله
وَقثم) قَالَ: وَالله إِنِّي لأعْلم أَنَّك رَسُول الله
إِن هَذَا شَيْء مَا علمه أحد غَيْرِي وَغير أم الْفضل،
فَاحْسبْ لي يَا رَسُول الله مَا أصبْتُم مني عشْرين
أُوقِيَّة من مَال كَانَ معي. فَقَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا، ذَاك شَيْء أَعْطَانَا الله
مِنْك، ففدى نَفسه وَابْني أَخَوَيْهِ وَحَلِيفه، فَأنْزل
الله عزوجل فِيهِ: {يَا أَيهَا النَّبِي قل لمن فِي
أَيْدِيكُم من الْأُسَارَى ... } (الْأَنْفَال: 07) .
الْآيَة قَالَ الْعَبَّاس: فَأَعْطَانِي الله مَكَان
الْعشْرين أُوقِيَّة فِي الْإِسْلَام عشْرين عبدا، كلهم
فِي يَده مَال يضْرب بِهِ مَعَ مَا أَرْجُو من مغْفرَة
الله، عز وَجل.
وَاخْتلفُوا فِي الَّذِي أسر الْعَبَّاس، فَقيل: ملك من
الْمَلَائِكَة، وَقيل: أسره أَبُو الْيُسْر كَعْب بن
عَمْرو وأخو بني سَلمَة الْأنْصَارِيّ وَكَانَ الْعَبَّاس
جسيماً وَأَبُو الْيُسْر مجموعاً، فَقَالَ لَهُ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَيفَ أسرت الْعَبَّاس؟)
فَقَالَ: أعانني عَلَيْهِ رجل مَا رَأَيْته قطّ، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أعانك عَلَيْهِ ملك
كريم) . وَقيل
(13/97)
أسره عبيد الله بن أَوْس الْأنْصَارِيّ من
بني ظفر وَسمي: بمقرن، قَالَ الْوَاقِدِيّ: وَإِنَّمَا سمي
بِهِ لِأَنَّهُ قرن بَين الْعَبَّاس وَنَوْفَل وَعقيل
بجبل، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: (لقد أعانك عَلَيْهِم ملك كريم) ، وَقَالَ
إِبْنِ إِسْحَاق وَلما أسر الْعَبَّاس بَات رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساهراً تِلْكَ اللَّيْلَة، فَقيل
لَهُ: مَالك لَا تنام؟ فَقَالَ: (يَمْنعنِي أَمر
الْعَبَّاس) ، وَكَانَ موثقًا بالقيد، فأطلقوه فَنَامَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وكانَ عَلِيٌّ لَهُ نَصِيبٌ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ
الَّتِي أصابَ مِنْ أخِيهِ عَقِيلٍ ومِنْ عَمِّهِ عَبَّاسٍ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ ذكره فِي معرض الِاسْتِدْلَال
على أَنه لَا يعْتق الْأَخ وَلَا الْعم بِمُجَرَّد الْملك،
إِذْ لَو عتقا لعتق الْعَبَّاس وَعقيل على عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، فِي حِصَّته من الْغَنِيمَة،
وَأجِيب: بِأَن الْكَافِر لَا يملك بِالْغَنِيمَةِ
ابْتِدَاء، بل يتَخَيَّر فِيهِ بَين الْقَتْل والاسترقاق
وَالْفِدَاء، فَلَا يلْزم الْعتْق بِمُجَرَّد الْغَنِيمَة.
(13/98)
21 - (بابُ عِتْق الْمُشرِكِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم عتق الْمُشرك والمصدر
مُضَاف إِلَى فَاعله، وَالْمَفْعُول مَتْرُوك، وَقَالَ
بَعضهم يحْتَمل أَن يكون مُضَافا إِلَى الْفَاعِل أَو
إِلَى الْمَفْعُول، وعَلى الثَّانِي جرى ابْن بطال،
فَقَالَ: لَا خلاف فِي جَوَاز عتق الْمُشرك تَطَوّعا،
وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي عتقه عَن الْكَفَّارَة. انْتهى.
قلت: الِاحْتِمَال الَّذِي ذكره مَوْجُود، وَلَكِن
المُرَاد الْإِضَافَة إِلَى الْفَاعِل وإلاَّ لَا تقع
الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة. وَقَول ابْن بطال:
لَا خلاف فِي جَوَاز عتق الْمُشرك تَطَوّعا، لَا يسْتَلْزم
تعْيين كَون الْإِضَافَة إِلَى الْمَفْعُول، وَلَو كَانَ
قصد هَذَا يرد لِئَلَّا تنخرم الْمُطَابقَة.
8352 - حدَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
أَبُو أُسَامةَ عنْ هِشَامٍ قَالَ أخْبَرَنِي أبي أنَّ
حكِيمَ ابنَ حِزَامٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أعْتَقَ
فِي الجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبةٍ وحَمَلَ عَلى بَعِيرٍ
فلَمَّا أسْلَمَ حَمَلَ عَلى مائَةِ بَعِيرٍ وأعْتَقَ
مِائَةَ رَقَبةٍ قَالَ فَسَألْتُ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقلْتُ يَا رسولَ الله أرَأيْتَ أشْيَاءَ
كُنْتُ أصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُنْتُ أتَحَنَّثُ
بِها يَعْنِي أتَبَرَّرُ بِها قَالَ فَقَالَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسْلَمْتَ علَى مَا سَلَفَ لَكَ
مِنْ خَيْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة كَمَا نبهنا عَلَيْهِ
الْآن. وَعبيد، بِضَم الْعين: ابْن إِسْمَاعِيل، واسْمه
فِي الأَصْل: عبد الله يعْنى أَبَا مُحَمَّد الْقرشِي
الْكُوفِي وَهُوَ من أَفْرَاده. وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد
بن أُسَامَة. وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير يروي
عَن أَبِيه عُرْوَة. وَحَكِيم، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَكسر الْكَاف: ابْن حزَام، بِكَسْر الْحَاء
الْمُهْملَة وبالزاي المخففة: ابْن خويلد بن أَسد بن عبد
الْعُزَّى بن قصي الْقرشِي الْأَسدي، وَهُوَ ابْن أخي
خَدِيجَة بنت خويلد، وَابْن عَم الزبير بن الْعَوام، ولد
فِي بطن الْكَعْبَة لِأَن أمه صَفِيَّة وَقيل: فَاخِتَة
بنت زُهَيْر بن الْحَارِث دخلت الْكَعْبَة فِي نسْوَة من
قُرَيْش وَهِي حَامِل، فَأَخذهَا الطلق فَولدت حكيماً
بهَا، وَهُوَ من مُسلم الْفَتْح، وعاش مائَة وَعشْرين سنة،
سِتُّونَ سنة فِي الْإِسْلَام وَسِتُّونَ سنة فِي
الْجَاهِلِيَّة، وَمَات سنة أَربع وَخمسين فِي أَيَّام
مُعَاوِيَة، وَقد مضى بعض هَذَا الحَدِيث فِي كتاب
الزَّكَاة فِي: بَاب من تصدق فِي الشّرك ثمَّ أسلم، وَقد
ذكرنَا هُنَاكَ تعدد مَوْضِعه وَأَن مُسلما أخرجه. قَوْله:
(إِن حَكِيم بن حزَام) ، ظَاهره الْإِرْسَال، لِأَن
عُرْوَة لم يدْرك زمن ذَلِك، لَكِن. قَوْله: (قَالَ:
فَسَأَلت) يُوضح الْوَصْل، لِأَن فَاعل: قَالَ، هُوَ:
حَكِيم، فَكَأَن عُرْوَة قَالَ: قَالَ حَكِيم، فَيكون
بِمَنْزِلَة قَوْله عَن حَكِيم، وَالدَّلِيل على ذَلِك
رِوَايَة مُسلم فَإِنَّهُ أخرجه من طَرِيق أبي مُعَاوِيَة
عَن هِشَام، فَقَالَ عَن أَبِيه عَن حَكِيم بن حزَام.
قَوْله: (حمل على مائَة بعير) ، أَي: فِي الْحَج، لما
رُوِيَ: أَنه حج فِي الْإِسْلَام وَمَعَهُ مائَة بَدَنَة
قد جللها بالحبرة، ووقف بِمِائَة عبد، وَفِي أَعْنَاقهم
أطواق الْفضة فَنحر وَأعْتق الْجَمِيع. قَوْله:
(أَرَأَيْت؟) مَعْنَاهُ: أَخْبرنِي. قَوْله: (أتحنث) ،
بِالْحَاء الْمُهْملَة. قَوْله: (يَعْنِي: أتبرَّر بهَا) ،
هَذَا تَفْسِير الْحِنْث، وَهُوَ بِالْبَاء الْمُوَحدَة
وبراءين: أولاهما ثَقيلَة أَي: أطلب بهَا الْبر
وَالْإِحْسَان إِلَى النَّاس، والتقرب إِلَى الله
تَعَالَى. وَالْبر، بِكَسْر الْبَاء: الطَّاعَة
وَالْعِبَادَة، وَهَذَا التَّفْسِير من هِشَام بن عُرْوَة
دلّ عَلَيْهِ رِوَايَة مُسلم حَيْثُ قَالَ: عَن حَكِيم بن
حزَام، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! أَشْيَاء كنت
أَفعَلهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، قَالَ هِشَام: يَعْنِي:
أتبرر بهَا، وَهَذَا صَرِيح أَن الَّذِي فسر بقوله،
يَعْنِي: أتبرر بهَا، هُوَ هِشَام بن عُرْوَة دون غَيره من
الروَاة، وَلَا البُخَارِيّ نَفسه فَافْهَم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن عتق الْمُشرك على وَجه
التَّطَوُّع جَائِز لهَذَا الحَدِيث حَيْثُ جعل عتق
الْمِائَة رَقَبَة فِي الْجَاهِلِيَّة من فعال الْخَيْر
المجازى بهَا عِنْد الله المتقرب بهَا إِلَيْهِ بعد
الْإِسْلَام، وَهُوَ قَوْله: (أسلمت على مَا سلم لَك من
خير) ، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ صِحَة التَّقَرُّب فِي حَال
الْكفْر، بل إِذا أسلم ينْتَفع بذلك الْخَيْر الَّذِي فعله
فِي الْكفْر، وَدلّ ذَلِك على أَن مُسلما لَو أعتق
كَافِرًا لَكَانَ مأجوراً على عتقه، لِأَن حكيماً لما جعل
لَهُ الْأجر على مَا فعل فِي الْجَاهِلِيَّة
بِالْإِسْلَامِ الَّذِي صَار إِلَيْهِ فَلم يكن الْمُسلم
الَّذِي فعل مثل فعله فِي الْإِسْلَام بِدُونِ حَال
حَكِيم، بل هُوَ أولى بِالْأَجْرِ، وَاخْتلف فِي عتق
الْمُشرك فِي كَفَّارَة الْيَمين، وَالظِّهَار، فعندنا
يجوز،
(13/99)
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا
يجوز كَمَا فِي قتل الْخَطَأ، وَعَن أَحْمد كَقَوْلِنَا
وَعنهُ: يجوز مُطلقًا، وَلنَا إِطْلَاق النُّصُوص وَآيَة
الْقَتْل مُقَيّدَة بِالْإِيمَان، وَالْأَصْل فِي كل نَص
أَن يعْمل بِمُقْتَضَاهُ إطلاقاً وتقييداً.
31 - (بابُ مَنْ مَلَكَ مِنَ الْعَرَبِ رَقيقاً فوَهَبَ
وباَعَ وجامعَ وفَداى وسَباى الذُّرِّيَّةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من ملك من الْعَرَب
رَقِيقا، وَالْعرب الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس وَلَا
وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَسَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو
المدن، والأعراب ساكنوا الْبَادِيَة من الْعَرَب الَّذين
لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَ بهَا
إلاَّ لحَاجَة، وَالنّسب إِلَيْهَا أَعْرَابِي وعربي.
وَاخْتلف فِي نسبتهم، وَالأَصَح: أَنهم نسبوا إِلَى عربة،
بِفتْحَتَيْنِ: وَهِي من تهَامَة، لِأَن أباهم
إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نَشأ بهَا.
قَوْله: (فوهب) إِلَى آخِره، تَفْصِيل قَوْله: ملك، فَذكر
خَمْسَة أَشْيَاء: الْهِبَة وَالْبيع وَالْجِمَاع والفدى
والسبي، وَذكر فِي الْبَاب أَرْبَعَة أَحَادِيث وَبَين فِي
كلِّ حديثٍ حُكْمَ كلِّ وَاحِد مِنْهَا غير البيع، وَهُوَ
أَيْضا مَذْكُور فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي بعض طرقه،
كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى،
ومفعولات: وهب وَبَاعَ وجامع وفدى محذوفة. قَوْله: (وسبى)
، عطف على قَوْله: ملك (والذرية) نسل الثقلَيْن، يُقَال:
ذرا الله الْخلق، أَي: خلقهمْ وَأَرَادَ البُخَارِيّ بِعقد
هَذِه التَّرْجَمَة بَيَان الْخلاف فِي استرقاق الْعَرَب،
وَالْجُمْهُور على أَن الْعَرَبِيّ إِذا سبي جَازَ أَن
يسترق، وَإِذا تزوج أمة بِشَرْطِهِ كَانَ وَلَدهَا رَقِيقا
تبعا لَهَا، وَبِه قَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ،
وحجتهم أَحَادِيث الْبَاب، وَبِه قَالَ الْكُوفِيُّونَ:
وَقَالَ الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو ثَوْر: يلْزم
سيد الْأمة أَن يقومه على أَبِيه ويلتزم أَبوهُ بأَدَاء
الْقيمَة، وَلَا يسترق، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب،
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَنه قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: لَا يسترق ولد
عَرَبِيّ من أَبِيه، وَقَالَ اللَّيْث: أما مَا رُوِيَ عَن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من فدَاء ولد الْعَرَب من
الولائد، إِنَّمَا كَانَ من أَوْلَاد الْجَاهِلِيَّة،
وَفِيمَا أقرّ بِهِ الرجل من نِكَاح الْإِمَاء فَأَما
الْيَوْم فَمن تزوج أمة وَهُوَ يعلم أَنَّهَا أمة، فولده
عبد لسَيِّدهَا عَرَبيا كَانَ أَو قريشياً أَو غَيره.
وقوْلِهِ تَعَالَى: {ضرَبَ الله مَثَلاً عبْداً مَمْلُوكاً
لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ومَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا
رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وجَهْرَاً
هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لله بَلْ أكْثَرُهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ} (النَّحْل: 57) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (من ملك) ، لِأَنَّهُ
فِي مَحل الْجَرّ بِالْإِضَافَة، وَفِيه التَّقْدِير
الْمَذْكُور، وَهُوَ: بَاب فِي بَيَان من ملك الْعَرَب،
وَفِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا} (النَّحْل:
57) . وَفِي بعض النّسخ: وَقَول الله تَعَالَى.
قيل: وَجه مُنَاسبَة الْآيَة للتَّرْجَمَة من جِهَة أَن
الله تَعَالَى أطلق العَبْد الْمَمْلُوك وَلم يُقَيِّدهُ
بِكَوْنِهِ عجمياً، فَدلَّ على أَن لَا فرق فِي ذَلِك بَين
الْعَرَبِيّ والعجمي.
قَوْله: {ضرب الله مثلا عبدا مَمْلُوكا} (النَّحْل: 47) .
لما نهى الله تَعَالَى الْمُشْركين عَن ضرب الْأَمْثَال
بقوله: قبل هَذِه الْآيَة: {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال}
(النَّحْل: 47) . أَي: الْأَشْبَاه والأشكال، إِن الله
يعلم مَا يكون قبل أَن يكون وَمَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة، علمهمْ كَيفَ يضْرب الْأَمْثَال، فَقَالَ:
مثلكُمْ فِي إشراككم بِاللَّه الْأَوْثَان من سوَّى بَين
عبد مَمْلُوك عَاجز عَن التَّصَرُّف، وَبَين حر مَالك قد
يرزقه الله مَالا، ويتصرف فِيهِ وَينْفق كَيفَ يَشَاء.
قَوْله: (عبدا مَمْلُوكا) إِنَّمَا ذكر الْمَمْلُوك ليمين
بَينه وَبَين الْحر، لِأَن اسْم العَبْد يَقع عَلَيْهِمَا
إِذْ هما من عباد الله تَعَالَى. قَوْله: (لَا يقدر على
شَيْء) أَي: لَا يملك مَا بِيَدِهِ وَإِن كَانَ بَاقِيا
مَعَه، لِأَن للسَّيِّد انْتِزَاعه مِنْهُ وَيخرج مِنْهُ
الْمكَاتب والمأذون لَهُ، لِأَنَّهُمَا يقدران على
التَّصَرُّف. فَإِن قلت: من، فِي {وَمن رزقناه} (النَّحْل:
57) . مَا هِيَ؟ قلت: الظَّاهِر أَنَّهَا مَوْصُوفَة
كَأَنَّهُ قيل: وحراً رزقناه ليطابق عبدا، وَلَا يمْتَنع
أَن تكون مَوْصُولَة، وَإِنَّمَا قَالَ: هَل يستوون،
بِالْجمعِ، لِأَن الْمَعْنى: هَل يَسْتَوِي الْأَحْرَار
وَالْعَبِيد، فَالْمُرَاد الشُّيُوع فِي الْجِنْس لَا
التَّخْصِيص، ثمَّ قَالَ: {الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا
يعلمُونَ} (النَّحْل: 57) . أَن الْحَمد لي وَجَمِيع النعم
مني. ثمَّ اعْلَم أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي معنى
هَذِه الْآيَة، فَقَالَ مُجَاهِد وَالضَّحَّاك: هَذَا
الْمثل لله تَعَالَى وَمن عبد دونه، وَقَالَ قَتَادَة:
هَذَا الْمثل لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر، فَذهب إِلَى أَن
العَبْد الْمَمْلُوك هُوَ الْكَافِر، لِأَنَّهُ لَا
ينْتَفع فِي الْآخِرَة بِشَيْء من عمله. قَوْله: {وَمن
رزقناه منَّا رزقا حسنا} (النَّحْل: 57) . هُوَ الْمُؤمن.
(13/100)
0452 - حدَّثنا ابنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ
أخْبَرني اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ
ذكَرَ عُرْزَةُ أأ مَرْوانَ والمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ
قَالَ أخبراهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قامَ
حِينَ جاءَهُ وفْدُ هَوازِنَ فَسألُوهُ أنْ يَرُدَّ
إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ وسَبْيَهُمْ فَقَالَ إنَّ مَعِي
مَنْ تَرَوْنَ وأحَبُّ الحَدِيثِ إليَّ أصْدَقُهُ
فاخْتاروا إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمَّا المَالَ وإمَّا
السَّبْيَ وقدْ كُنْتُ اسْتَأنَيْتُ بِهِمْ وكانَ
النبيُّصلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتظرَهُمْ بِضْعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ فلَمَّا
تبَيَّنَ لهمْ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غيرُ
رَادٍّ إلَيْهِمْ إلاَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَالُوا
إنَّا نَخْتارُ سَبْيَنا فقامَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي النَّاسِ فأثْناى علَى الله بِما هُوَ أهْلُهُ
ثُمَّ قَالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ إخْوَانَكُمْ جاؤنا
تائِبينَ وإنِّي رأيْتُ أنْ أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ
فَمَنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يُطَيِّبَ ذالِكَ فلْيَفْعَلْ
ومنْ أحَبَّ أنْ يَكُونَ على حظِّهِ حتَّى نُعْطِيَهُ
إيَّاهُ منْ أوَّلِ مَا يفيءُ الله علَيْنا فلْيَفْعَلْ
فقالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا ذالِكَ قَالَ إنَّا لاَ نَدْرِي
منْ أذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ فارْجِعُوا
حتَّى يَرْفعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أمْرَكُمْ فرَجَعَ
النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُم ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبروهُ أنَّهُمْ
طَيَّبُوا وأذِنُوا فهاذا الَّذِي بلَغَنا عَنْ سَبْيِ
هَوازنَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من ملك رَقِيقا من
الْعَرَب فوهب) وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْوكَالَة فِي:
بَاب إِذا وهب شَيْئا لوكيل أَو شَفِيع قومٍ جَازَ إِلَى
قَوْله: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نَصِيبي
لكم. وَأخرجه هُنَاكَ عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن
عقيل ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن سعيد بن أبي
مَرْيَم عَن اللَّيْث ... إِلَى آخِره. وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (ذكر عُرْوَة) ، هُوَ ابْن الزبير، وَسَيَأْتِي
فِي الشُّرُوط من طَرِيق معمر عَن الزُّهْرِيّ: أَخْبرنِي
عُرْوَة. قَوْله: (أَن مَرْوَان والمسور بن مخرمَة)
مَرْوَان هُوَ ابْن الحكم، قَالَ الْكرْمَانِي: صَحَّ
سَماع مسور من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما
مَرْوَان فقد قَالَ الْوَاقِدِيّ: رأى النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه لم يحفظ عَنهُ شَيْئا، وَقَالَ
ابْن بطال: الحَدِيث مُرْسل، لم يسمع الْمسور من رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا، ومروان لم يره قطّ.
قَوْله: (اسْتَأْنَيْت) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق وَسُكُون الْهمزَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف: أَي انتظرت. قَوْله: (حِين قفل) ، أَي:
حِين رَحل. قَوْله: (حَتَّى يفِيء الله) ، بِفَتْح
الْيَاء، أَي: حَتَّى يرجع الله إِلَيْنَا من مَال
الْكفَّار وَيُعْطِينَا خراجاً أَو غنيمَة أَو غير ذَلِك،
وَلَيْسَ المُرَاد الْفَيْء الاصطلاحي مَخْصُوصًا. قَوْله:
(عُرَفَاؤُكُمْ) جمع عريف، وَهُوَ النَّقِيب وَهُوَ دون
الرئيس. قَوْله: (فَهَذَا الَّذِي بلغنَا عَن سبي هوَازن)
، هُوَ قَول ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَكَانَت هَذِه
الْوَاقِعَة فِي سنة ثَمَان.
1452 - حدَّثنا علِيُّ بنُ الحَسَنِ قَالَ أخْبرنا عبْدُ
الله قَالَ أخْبرنا ابنُ عَوْنٍ قَالَ كتَبْتُ إِلَى
نافِعٍ فكتَبَ إلَيَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أغارَ على بَنِي الْمُصْطَلِقِ وهُمْ غارُّونَ
وأنْعامُهُمْ تُسْقى على الماءِ فقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ
وسباى ذَرَارِيَّهُمْ وأصابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَةَ
قَالَ حدَّثني بِهِ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ وكانَ فِي
ذالِكَ الْجَيْشِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وسبى ذَرَارِيهمْ)
وَفِي التَّرْجَمَة: وسبى الذُّرِّيَّة.
وَعلي بن الْحسن بن شَقِيق، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة
وَكسر الْقَاف الأولى: الْمروزِي، مَاتَ سنة خمس عشرَة
وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك
الْمروزِي، وَابْن عون، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: هُوَ
عبد الله بن عون، مر فِي الْعلم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن يحيى
وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْجِهَاد عَن سعيد بن مَنْصُور عَن إِسْمَاعِيل بن علية.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن مُحَمَّد بن عبد الله
بن بزيع.
(13/101)
قَوْله: (قَالَ كتبت) أَي: قَالَ ابْن عون:
كتبت إِلَى نَافِع فِي أَمر بني المصطلق، فَكتب. . إِلَى
آخِره، قد ذكرنَا فِي: بَاب إِذا اخْتلف الرَّاهِن
وَالْمُرْتَهن أَن الْكِتَابَة حكمهَا حكم الِاتِّصَال لَا
الِانْقِطَاع. قَوْله: (أغار) بالغين الْمُعْجَمَة،
يُقَال: أغار على عدوه إِذا هجم عَلَيْهِ ونهبه، ومصدره
الإغارة، والغارة اسْم من الإغارة. ومادته: غين وواو
وَرَاء. قَوْله: (بني المصطلق) ، بِضَم الْمِيم وَسُكُون
الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَكسر
اللَّام وبالقاف: وَهِي بطن من خُزَاعَة، والمصطلق هُوَ
ابْن سعد بن عَمْرو بن ربيعَة ابْن حَارِثَة بن عَمْرو بن
عَامر، وَيُقَال: إِن المصطلق لقب واسْمه جذيمة، بِفَتْح
الْجِيم وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة: ابْن سعد بن عَمْرو.
وَعَمْرو هُوَ أَبُو خُزَاعَة، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: سمي
المصطلق لحسن صَوته، مفتعل من الصلق، والصلق شدَّة
الصَّوْت وحدته، من قَوْله عز وَجل: {سلقوكم بألسنة حداد}
(الْأَحْزَاب: 91) . وَيُقَال: صلق بَنو فلَان بني فلَان،
إِذا وَقَعُوا بهم وقتلوهم قتلا ذريعاً، قَوْله: (وهم
غَارونَ) ، جملَة إسمية حَالية بالغين الْمُعْجَمَة
وَتَشْديد الرَّاء، والغارون جمع غَار، أَي: غافل أَي
أَخذهم على غرَّة وبغتة. قَوْله: (وأنعامهم تَسْقِي)
أَيْضا جملَة إسمية حَالية، والأنعام، بِفَتْح الْهمزَة
جمع: نعم، قَالَ الْجَوْهَرِي: النعم وَاحِد الْأَنْعَام،
وَهل المَال الراعية، وَأكْثر مَا يَقع هَذَا الإسم على
الْإِبِل، قَالَ الْفراء: هُوَ ذكر لَا يؤنث، يَقُولُونَ:
هَذَا نعم وَارِد وَيجمع على نعْمَان، والأنعام تذكر وتؤنث
قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع: {مِمَّا فِي بطونه}
(النَّحْل: 66) . وَفِي مَوضِع {مِمَّا فِي بطونها} وَجمع
الْجمع: أناعيم. قَوْله: (تسقى) ، على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: (فَقتل مُقَاتلَتهمْ) أَي: الطَّائِفَة
الْبَالِغين الَّذين هم على صدد الْقِتَال. قَوْله:
(ذَرَارِيهمْ) ، بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها وَهُوَ جمع
ذُرِّيَّة. قَوْله: (يَوْمئِذٍ) ، أَي: يَوْم الإغارة على
بني المصطلق. قَوْله: (جوَيْرِية) ، مصغر جَارِيَة.
وَمن حَدِيثهَا مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: لما قسم رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، سَبَايَا بني المصطلق وَقعت جوَيْرِية بنت
الْحَارِث فِي السهْم لِثَابِت بن قيس بن شماس أَو لِابْنِ
عَم لَهُ، فكاتبته على نَفسهَا وَكَانَت امْرَأَة حلوة
ملاحة لَا يَرَاهَا إحد إلاَّ أخذت بِنَفسِهِ، فَأَتَت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تستعينه فِي
كتَابَتهَا، قَالَت: فوَاللَّه مَا هُوَ إلاَّ أَن
رَأَيْتهَا على بَاب حُجْرَتي، فكرهتها وَعرفت أَنه سيرى
مِنْهَا مَا رَأَيْت، فَدخلت عَلَيْهِ فَقَالَت: يَا
رَسُول الله {أَنا جوَيْرِية بنت الْحَارِث بن أبي ضرار
سيد قومه، وَقد أصابني من البلايا مَا لم يخف عَلَيْك،
فَوَقَعت فِي السهْم لِثَابِت بن قيس بن شماس أَو لِابْنِ
عَم لَهُ، فكاتبته فجئتك استعينك على كتابتي. قَالَ: فَهَل
لَك من خير فِي ذَلِك؟ قَالَت: وَمَا هُوَ يَا رَسُول
الله؟ قَالَ: أَقْْضِي كتابك وأتزوجك؟ قَالَت: نعم يَا
رَسُول الله} قد فعلت. قَالَت: وَخرج الْخَبَر إِلَى
النَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تزوج
جوَيْرِية بنت الْحَارِث، فَقَالَ النَّاس: أصها رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأرسلوا مَا بِأَيْدِيهِم.
قَالَت: فَلَقَد اعْتِقْ بتزويجه إِيَّاهَا مائَة أهل بَيت
من بني المصطلق، فَمَا أعلم امْرَأَة كَانَت أعظم بركَة
على قَومهَا مِنْهَا.
وروى مُوسَى بن عقبَة عَن بعض بني المصطلق: أَن أَبَاهَا
طلبَهَا وافتداها ثمَّ خطبهَا مِنْهُ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَزَوجهُ إِيَّاهَا. وَقَالَ
الْوَاقِدِيّ: وَيُقَال: إِن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، جعل صَدَاقهَا عتق كل أَسِير من بني
المصطلق، وَيُقَال: جعل صَدَاقهَا عتق أَرْبَعِينَ من بني
المصطلق، وَكَانَت جوَيْرِية تَحت مسافع بن صَفْوَان
المصطلقي، وَقيل: صَفْوَان بن مَالك، وَكَانَ اسْمهَا:
برة، فغيرها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فسماها
جوَيْرِية، وَمَاتَتْ فِي ربيع الأول سنة سِتّ وَخمسين
وَلها خمس وَسِتُّونَ سنة.
وَأما غَزْوَة بني المصطلق، فَقَالَ البُخَارِيّ: وَهِي
غَزْوَة الْمُريْسِيع، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَذَلِكَ
سنة سِتّ. وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة: سنة أَربع. انْتهى.
وَقَالَ الصغاني: غَزْوَة الْمُريْسِيع من غزوات رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي سنة خمس من مهاجره،
قَالُوا: إِن بني المصطلق من خُزَاعَة يُرِيدُونَ محاربة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانُوا ينزلون
على بئرٍ لَهُم يُقَال لَهَا: الْمُريْسِيع، بَينهَا
وَبَين الْفَرْع مسيرَة يَوْم، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ:
كَانَت غَزْوَة بني المصطلق لليلتين من شعْبَان سنة خمس
فِي سَبْعمِائة من أَصْحَابه، وَقَالَ ابْن هِشَام:
اسْتعْمل على الْمَدِينَة أَبَا ذَر الْغِفَارِيّ،
وَيُقَال: نميلَة بن عبد الله اللَّيْثِيّ، وَذكر ابْن سعد
ندب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّاس
إِلَيْهِم، فَأَسْرعُوا الْخُرُوج وقادوا الْخَيل، وَهِي
ثَلَاثُونَ فرسا فِي الْمُهَاجِرين مِنْهَا عشرَة، وَفِي
الْأَنْصَار عشرُون، واستخلف على الْمَدِينَة زيد بن
حَارِثَة وَكَانَ مَعَه فرسَان لزار والظرب، وَيُقَال:
كَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَامِل راية
الْمُهَاجِرين، وَسعد بن عبَادَة حَامِل راية الْأَنْصَار،
فَقتلُوا مِنْهُم عشرَة وأسروا سَائِرهمْ، وَقَالَ ابْن
إِسْحَاق: بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن
بني المصطلق يجمعُونَ لَهُ وَقَائِدهمْ الْحَارِث بن أبي
ضرار، أَبُو جوَيْرِية بنت الْحَارِث الَّتِي تزَوجهَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا سمع بهم
خرج إِلَيْهِم حَتَّى لَقِيَهُمْ على مَاء من مِيَاههمْ
يُقَال لَهُ: الْمُريْسِيع، من نَاحيَة قديد إِلَى
السَّاحِل، فتزاحف
(13/102)
النَّاس فَاقْتَتلُوا، فَهزمَ الله بني
المصطلق وَقتل من قتل، وَنفل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَبْنَاءَهُم ونساءهم وَأَمْوَالهمْ،
فأفاءهم عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن سعد: وَأمر رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالأسارى فكتفوا، وَاسْتعْمل
عَلَيْهِم بُرَيْدَة بن الخصيب، وَأمر بالغلام فَجمعت
وَاسْتعْمل عَلَيْهِم شقران مَوْلَاهُ، وَجمع الذُّرِّيَّة
نَاحيَة وَاسْتعْمل على سهم الْخمس وسهمان الْمُسلمين
محيمة بن جُزْء الزبيدِيّ، وَكَانَت الْإِبِل ألفي بعير،
والشياه خَمْسَة آلَاف، وَكَانَ السَّبي مِائَتي بنت،
وَغَابَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَمَانِيَة
وَعشْرين وَقدم الْمَدِينَة هِلَال رَمَضَان، وَقَالَ ابْن
إِسْحَاق: وَأُصِيب بني المصطلق نَاس، وَقتل عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، مِنْهُم رجلَيْنِ مَالِكًا وَابْنه،
وَكَانَ شعار الْمُسلمين يَوْمئِذٍ: يَا مَنْصُور أمت أمت.
2452 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مَال عنْ رَبِيعَةَ بنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمانِ عَن
مُحَمَّدِ بنِ يَحْياى بنِ حَبَّانَ عنِ ابنِ مُحَيْرِيزٍ
قَالَ رأيْتُ أَبَا سعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
فَسألْتُهُ فَقَالَ خرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ
فأصَبْنَا سبْياٍ مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ فاشْتَهَيْنَا
النِّساءَ فاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا العُزْبَةُ وأحْبَبْنا
العَزْلَ فسَألْنا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ مَا عَلَيْكُمْ أنْ لاَ تَفْعَلُوا مَا منْ
نَسَمةٍ كائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إلأ وهْيَ
كائِنَةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله فِيهَا: وجامع، يَعْنِي:
بعد أَن ملك من الْعَرَب سبياً وَرَبِيعَة، بِفَتْح
الرَّاء: الْمَشْهُور بربيعة الرَّأْي شيخ مَالك،
وَمُحَمّد بن يحيى بن حبَان، بِفَتْح الْحَاء وَتَشْديد
الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون: مر فِي الْوضُوء، وَابْن
محيريز هُوَ عبد الله بن محيريز، بِضَم الْمِيم وَفتح
الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة وَكسر
الرَّاء وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة أَيْضا وَفِي آخِره
زَاي. وَمر الحَدِيث فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب بيع
الرَّقِيق، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن
شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي محيريز: أَن أَبَا سعيد
... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (الْعَزْل) ، هُوَ نزع الذّكر من الْفرج عِنْد
الْإِنْزَال. قَوْله: (مَا عَلَيْكُم أَن لَا تَفعلُوا)
يَعْنِي: لَا بَأْس عَلَيْكُم أذا تركْتُم الْعَزْل.
قَوْله: (نسمَة) ، بِفَتْح السِّين، وَهِي: الأنسان، أَي:
مَا من نفس كائنة فِي علم الله إلاَّ وَهِي كائنة فِي
الْخَارِج، لَا بُد من مجيئها من الْعَدَم إِلَى
الْوُجُود، أَي: مَا قدر الله أَن يكون الْبَتَّةَ. وَفِي
الحَدِيث دَلِيل على أَن الصَّحَابَة أطبقوا على وَطْء مَا
وَقع فِي سُهْمَانهمْ من السَّبي، وَهَذَا لَا يكون إلاَّ
بعد الِاسْتِبْرَاء بِإِجْمَاع الْعلمَاء، من وَهَذَا يدل
أَن السباء يقطع الْعِصْمَة بَين الزَّوْجَيْنِ
الْكَافرين.
وَاخْتلف السّلف فِي حكم وَطْء الوثنيات والمجوسيات إِذا
سبين، فَأَجَازَهُ سعيد بن الْمسيب وَعَطَاء وطاووس
وَمُجاهد، وَهَذَا قَول شَاذ لم يلْتَفت إِلَيْهِ أحد من
الْعلمَاء، وَاتفقَ أَئِمَّة الْفَتْوَى على أَنه: لَا
يجوز وَطْء الوثنيات بقوله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا
المشركات حَتَّى يُؤمن} (الْبَقَرَة: 122) . وَإِنَّمَا
أَبَاحَ الله تَعَالَى وَطْء نسَاء أهل الْكتاب خَاصَّة.
بقوله: وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من
قبلكُمْ} (الْمَائِدَة: 5) . وَإِنَّمَا أطبق الصَّحَابَة
على وَطْء سَبَايَا الْعَرَب بعد إسلامهن، لِأَن سبي
هوَازن كَانَ سنة ثَمَان، وَسبي بني المصطلق سنة سِتّ،
وَسورَة الْبَقَرَة من أول مَا نزل بِالْمَدِينَةِ، فقد
علمُوا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى
يؤمنَّ} (الْبَقَرَة: 122) . وتقرر عِنْدهم أَنه لَا يجوز
وَطْء الوثنيات الْبَتَّةَ حَتَّى يسلمن، وروى عبد
الرَّزَّاق: حَدثنَا جَعْفَر بن سُلَيْمَان حَدثنَا يُونُس
ابْن عبيد أَنه سمع الْحسن يَقُول: كُنَّا نغزو مَعَ
أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا
أصَاب أحدهم جَارِيَة من الفىء فَأَرَادَ أَن يُصِيبهَا
أمرهَا فاغتسلت ثمَّ علمهَا الْإِسْلَام وأمرها
بِالصَّلَاةِ واستبرأها بِحَيْضَة، ثمَّ أَصَابَهَا.
وَعُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات
حَتَّى يُؤمن} (الْبَقَرَة: 122) . يَقْتَضِي تَحْرِيم
وَطْء المجوسيات بِالتَّزْوِيجِ وبملك الْيَمين، وعَلى
هَذَا أَئِمَّة الْفَتْوَى وَعَامة الْعلمَاء.
وَأما الْعَزْل فقد اخْتلف فِيهِ قَدِيما وإباحته أظهر فِي
الحَدِيث عِنْد الشَّافِعِي، سَوَاء كَانَت حرَّة أَو أمة
مَعَ الْإِذْن وبدونه، وروى مَالك عَن سعيد بن أبي وَقاص
وَأبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وَزيد بن ثَابت وَابْن
عَبَّاس: أَنهم كَانُوا يعزلون، وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن
ابْن مَسْعُود وَجَابِر، وَذكر مَالك أَيْضا عَن ابْن عمر
أَنه: كره الْعَزْل، وَقيل: رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، الْقَوْلَانِ جَمِيعًا، وَاحْتج من كره
الْعَزْل بِأَنَّهُ: الوأد الْخَفي، كَمَا رُوِيَ عَن
عَائِشَة، وَاتفقَ أَئِمَّة الْفَتْوَى على جَوَاز
الْعَزْل عَن الْحرَّة إِذا أَذِنت فِيهِ لزَوجهَا.
وَاخْتلفُوا فِي الْأمة الْمُزَوجَة، فَقَالَ مَالك
وَأَبُو حنيفَة: الْأذن فِي ذَلِك لمولاها، وَقَالَ أَبُو
يُوسُف: الْإِذْن إِلَيْهَا،
(13/103)
وَقَالَ الشَّافِعِي: يعْزل عَنْهَا
بِدُونِ إِذْنهَا وَبِدُون إِذن مَوْلَاهَا.
3452 - حدَّثنا زُهَيْرُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ
عنْ عُمَارَةَ بنِ الْقَعْقَاعِ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ
أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَا
أزَالُ أُحِبُّ بني تَمِيم ح وحدَّثني ابنُ سَلاَمٍ قَالَ
أخبرنَا جَرِيرُ بنُ عَبْدِ الحَمِيدِ عنِ الْمُغِيرَةِ
عنِ الحَارِثِ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ وعنْ
عُمَارَةَ عنْ أبِي زُرْعَةَ عَن أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
مَا زِلْتُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلاَثٍ سَمِعْتُ
مِنْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ فِيهِمْ
سَمِعْتُهُ يَقولُ هُمْ أشَدُّ أُمَّتِي على الدَّجَّالِ
قَالَ وجاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم هَذهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنا وكانَتْ
سَبِيَّةٌ منْهُمْ عِنْدَ عائِشَةَ فَقَالَ أعْتِقِيها
فإنَّها منْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عليهِ السَّلامُ.
(الحَدِيث 3452 طرفه فِي: 6634) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَبَاعَ، وَلَكِن فِي
بعض طرقه عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق معمر عَن
جرير: كَانَت على عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
نسمَة من بني إِسْمَاعِيل، فَقدم سبي خولان، فَقَالَت
عَائِشَة: يَا رَسُول الله! أبتاع مِنْهُم. قَالَ: لَا،
فَلَمَّا قدم سبي بني العنبر قَالَ: ابتاعي مِنْهُم
فَإِنَّهُم ولد إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام. وَوَقع
عِنْد أبي عوَانَة من طَرِيق الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة
أَيْضا:. وجىء بسبي بني العنبر. انْتهى. وَبَنُو العنبر
بطن من بني تَمِيم، وَقَالَ الرشاطي: الْعَنْبَري فِي
تَمِيم ينْسب إِلَى العنبر بن عَمْرو بن تَمِيم، وَذكر
ابْن الْكَلْبِيّ: أَن العنبر هَذَا هُوَ ولد عَامر بن
عَمْرو، وَفِي تَمِيم أَيْضا: العنبر بن يَرْبُوع بن
حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ عَن شيخين لَهُ
أَحدهمَا: عَن زُهَيْر بن حَرْب عَن جرير، بِفَتْح الْجِيم
وَكسر الرَّاء الأولى: ابْن عبد الحميد عَن عمَارَة، بِضَم
الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن الْقَعْقَاع
عَن أبي زرْعَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء وَفتح
الْعين الْمُهْملَة: واسْمه هرم، وَقيل: عبد الرَّحْمَن،
وَقيل: عَمْرو بن عَمْرو بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ
عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْآخر: عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن
جرير عَن الْمُغيرَة بن مقسم عَن الْحَارِث بن يزِيد من
الزِّيَادَة العكلي، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون
الْكَاف: التَّمِيمِي الْكُوفِي، وَلَيْسَ لَهُ فِي
البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَذكر فِيهِ عمَارَة
مَقْرُونا بِالْحَارِثِ. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه
مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن زُهَيْر بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا زلت أحب بني تَمِيم) ، هِيَ
قَبيلَة كَبِيرَة فِي مُضر تنْسب إِلَى تَمِيم بن مر بن أد
بن طابخة بن الياس بن مُضر. قَوْله: (مُنْذُ ثَلَاث) ،
أَي: من حِين سَمِعت الْخِصَال الثَّلَاث، وَهِي الَّتِي
أَولهَا: هُوَ قَوْله: (هم أَشد أمتِي على الدَّجَّال) .
وَثَانِيها: هُوَ قَوْله: (هَذِه صدقَات قَومنَا)
وَثَالِثهَا: أمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لعَائِشَة
بِعِتْق السبية الْمَذْكُورَة. لكَونهَا من ولد
إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَزَاد فِيهِ أَحْمد من
وَجه آخر عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَمَا كَانَ
قوم من الْأَحْيَاء أبْغض إِلَيّ مِنْهُم فأحببتهم.
انْتهى. وَكَانَ ذَلِك لما كَانَ بَينهم وَبَين قومه فِي
الْجَاهِلِيَّة من الْعَدَاوَة. قَوْله: (يَقُول فيهم)
أَي: فِي بني تَمِيم. قَوْله: (سمعته يَقُول) ، أَي:
سَمِعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (هم
أَشد أمتِي على الدَّجَّال) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من
رِوَايَة الشّعبِيّ عَن أبي هُرَيْرَة: (هم أَشد النَّاس
قتالاً فِي الْمَلَاحِم) ، وَرِوَايَة الشّعبِيّ أَعم من
رِوَايَة أبي زرْعَة، على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَجَاءَت
صَدَقَاتهمْ) ، أَي: صدقَات بني تَمِيم، فَقَالَ: (هَذِه
صدقَات قَومنَا) ، إِنَّمَا نسبهم إِلَيْهِ لِاجْتِمَاع
نسبهم بنسبه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي إلْيَاس بن
مُضر، وروى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من طَرِيق
الشّعبِيّ: عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الحَدِيث: وأُتي
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بنعم من صَدَقَة بني
سعد، فَلَمَّا راعه حسنها، قَالَ: (هَذِه صَدَقَة قومِي) .
انْتهى. وَبَنُو سعد بطن كَبِير من تَمِيم، ينتسبون إِلَى
سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم. قَوْله: (سبية مِنْهُم) ،
أَي: من بني تَمِيم، وسبية على وزن: فعيلة، بِفَتْح
السِّين من السَّبي أَو من السباء، فَإِن كَانَ من الأول
يكون بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَإِن كَانَ من
الثَّانِي يكون بِالْهَمْزَةِ بعد الْبَاء الْمُوَحدَة،
وَلم يدر اسْمهَا، وَوَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من
طَرِيق هَارُون بن مَعْرُوف عَن جرير: نسمَة، بِفَتْح
النُّون وَالسِّين الْمُهْملَة: وَهِي الْإِنْسَان، وَله
(13/104)
من رِوَايَة أبي معمر: (وَكَانَت على
عَائِشَة نسمَة من بني إِسْمَاعِيل) وَفِي رِوَايَة
الشّعبِيّ عِنْد أبي عوَانَة: (وَكَانَ على عَائِشَة
مُحَرر) وبيَّن الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) فِي
رِوَايَة الشّعبِيّ: أَن المُرَاد بِالَّذِي كَانَ
عَلَيْهَا أَنه كَانَ (نذرا) . وَلَفظه: نذرت عَائِشَة أَن
تعْتق محرراً من بني إِسْمَاعِيل، وللطبراني فِي
(الْكَبِير) من حَدِيث رديح، بِضَم الرَّاء وَفتح الدَّال
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره حاء
مُهْملَة: ابْن ذُؤَيْب بن شعثم، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم الثَّاء الْمُثَلَّثَة
وَفِي آخِره مِيم: الْعَنْبَري: أَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: يَا نَبِي الله {إِنِّي نذرت
عتيقاً من ولد إِسْمَاعِيل. فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: إصبري حَتَّى يَجِيء فَيْء بني
العنبر غَدا، فجَاء فَيْء فَبنِي العنبر، فَقَالَ لَهَا:
خذي مِنْهُم أَرْبَعَة، فَأخذت رديحاً وزبيباً وزخيا
وَسمرَة، فَمسح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رؤوسهم
وبرك عَلَيْهِم، ثمَّ قَالَ: يَا عَائِشَة} هَؤُلَاءِ من
بني إِسْمَاعِيل قصدا، وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي تعين
لعتق عَائِشَة من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة، أما رديح وَأما
زخى. قلت: قَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد الصَّحَابَة) :
رديح بن ذُؤَيْب بن شعثم التَّمِيمِي الْعَنْبَري مولى
عَائِشَة روى عَنهُ ابْنه عبد الله وَهَذَا يدل على أَن
الَّذِي اعتقته هُوَ رديح بِلَا ترديد، وزبيب، بِضَم
الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء أَيْضا، وَضَبطه العسكري:
بنُون فِي أَوله، و: هُوَ زنيب بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو
التَّمِيمِي الْعَنْبَري وروى عَنهُ أَبُو دَاوُد فِي كتاب
الْقَضَاء: حَدثنَا أَحْمد بن عَبدة حَدثنَا عمار بن
شُعَيْب بن عبيد الله بن الزَّبِيب الْعَنْبَري، قَالَ:
حَدثنِي أبي، قَالَ: سَمِعت جدي الزَّبِيب يَقُول: بعث
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَيْشًا إِلَى بني
العنبر، فَأخذُوا بركبة من نَاحيَة الطَّائِف واستاقوهم
إِلَى نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فركبت فسبقتهم
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقلت: السَّلَام
عَلَيْك يَا رَسُول الله وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته!
أَتَانَا جندك فأخذونا، وَقد كُنَّا أسلمنَا ... الحَدِيث
بِطُولِهِ. قَوْله: (بركبة) بِضَم الرَّاء وَسُكُون
الْكَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ اسْم مَوضِع
مَعْرُوف، وَهِي غير ركبة الَّتِي بَين مَكَّة
وَالْمَدينَة. وَأما زخي، فبضم الزَّاي وَفتح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْيَاء، ومصغر، وَضَبطه ابْن عون
بالراء، وَذكره الذَّهَبِيّ فِي حرف الزَّاي، وَقَالَ: زخي
الْعَنْبَري، وَغلط من قَالَ: رخي بالراء. وَسمرَة: هُوَ
ابْن عَمْرو بن قرط، بِضَم الْقَاف وَسُكُون الرَّاء.
وَقَالَ الذهبيِّ سَمُرَة بن عَمْرو الْعَنْبَري، أجَاز
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة لَهُ لزبيب
الْعَنْبَري ثمَّ قَالَ سَمُرَة من بلعنبر أَعتَقته
عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قلت: قَضِيَّة
الشَّهَادَة فِي حَدِيث أبي دَاوُد الَّذِي ذكرنَا مِنْهُ
بعضه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز
استرقاق الْعَرَب، وتملكهم كَسَائِر فرق الْعَجم إلاَّ أَن
عِتقهم أفضل. قَالَ ابْن بطال: وَتَمِيم كَانُوا يختارون
مَا يخرجُون فِي الصَّدقَات من أفضل مَا عِنْدهم، فأعجبه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلذَلِك قَالَ: هَذَا القَوْل
على معنى الْمُبَالغَة فِي نصحهمْ لله وَلِرَسُولِهِ فِي
جودة الِاخْتِيَار للصدقة. وَفِيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لبني
تَمِيم، وَكَانَ فيهم فِي الْجَاهِلِيَّة وَصدر
الْإِسْلَام جمَاعَة من الْأَشْرَاف والرؤساء. وَفِيه:
الْإِخْبَار عَمَّا سَيَأْتِي من الْأَحْوَال الكائنة فِي
آخر الزَّمَان.
41 - (بابُ فَضْلِ مَنْ أدَّبَ جارِيَتَهُ وعَلَّمَهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من أدب جَارِيَته،
وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي لفظ: فضل، بل هُوَ:
بَاب من أدَّب جَارِيَته، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ:
وأعتقها أَيْضا.
4452 - حدَّثنا إسْحاقُ بنُ إبْراهِيمَ قَالَ سَمِعَ
مُحَمَّدَ بنَ فضَيْلٍ عنْ مُطَرِّفِ عنِ الشُّعْبِيِّ عنْ
أبِي بُرْدَةَ عنْ أبِي مُوسَى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ
كانَتْ لَهُ جارِيَةٌ فعلَّمَهَا فأحْسَنَ إلَيْهَا ثُمَّ
أعْتَقَهَا وتَزَوَّجَها كانَ لَهُ أجْرَانِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ لَهُ أَجْرَانِ)
، وهما: أجر التَّعْلِيم وَأجر الْعتْق.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إسحاف بن إِبْرَاهِيم
الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه. الثَّانِي: مُحَمَّد بن
فُضَيْل بن غَزوَان. الثَّالِث: مطرف بن طريف
الْحَارِثِيّ، وَيُقَال الحارفي. الرَّابِع: عَامر
الشّعبِيّ. الْخَامِس: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة، واسْمه الْحَارِث بن أبي مُوسَى، وَيُقَال:
عَامر، وَيُقَال إسمه كنيته. السَّادِس: أَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ واسْمه عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة
مَوَاضِع.
(13/105)
وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي سكن نيسابور
والبقية كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن
الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا بأتم مِنْهُ فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب تَعْلِيم
الرجل أمته وَأَهله عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن الْمحَاربي
عَن صَالح بن حَيَّان عَن عَامر الشّعبِيّ ... الحَدِيث.
وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن هناد بن
السّري. وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فعلمها) فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي
والسرخسي، فعالها، أَي: أنْفق عَلَيْهَا، من: عَال الرجل
عِيَاله يعولهم: إِذا أَقَامَ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ
من قوت وَكِسْوَة وَغَيرهمَا. وَقَالَ الْكسَائي: يُقَال:
عَال الرجل يعول إِذا كثر عِيَاله، واللغة الجيدة: أعال
يعيل. قَالَ الْمُهلب فِيهِ: أَن الله تَعَالَى قد ضاعف
لَهُ أجره بِالنِّكَاحِ والتعليم، فَجعله كَمثل أجر
الْعتْق.
وَفِيه: الحض على نِكَاح العتيقة وعَلى ترك الْعُلُوّ فِي
الدُّنْيَا، وَأَن من تواضع لله فِي منكحه، وَهُوَ يقدر
على نِكَاح أهل الشّرف، فَإِن ذَلِك مِمَّا يُرْجَى
عَلَيْهِ جزيل الثَّوَاب. فَإِن قلت: روى الْبَزَّار فِي
(مُسْنده) عَن ابْن عمر: لما نزل قَوْله تَعَالَى: {لن
تنالوا الْبر} (آل عمرَان: 29) . ذكرت مَا أَعْطَانِي الله
فَلم أجد شَيْئا أحب أَلِي من جَارِيَة رُومِية، فأعتقتها،
فَلَو أَنِّي أَعُود فِي شَيْء جعلته لله لنكحتها. قلت:
هَذَا مَحْمُول على من لَا يرغب نِكَاحهَا، لِأَن عَادَة
الْعَرَب الرَّغْبَة عَن تَزْوِيج الْمُعتقَة، وَالْمُعتق
إِذا رغب يكون لغيره فَلَا يكره لَهُ النِّكَاح حِينَئِذٍ،
وَأَيْضًا النِّكَاح لَيْسَ براجع فِي عتقه، لِأَنَّهُ لَا
يملك الْآن إلاَّ مَنْفَعَة الْوَطْء. قَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) : وَقد أجَاز مَالك وَأكْثر أَصْحَابنَا
الرُّجُوع فِي الْمَنَافِع إِذا تصدق بهَا وشرى بهَا،
وَالْحجّة لَهُم حَدِيث الْعَرَايَا، فَكيف إِذا تصدق
بِالرَّقَبَةِ؟ فَإِنَّهُ يجوز شِرَاء مَنْفَعَتهَا، بل
هُوَ أولى من الصَّدَقَة بِالْمَنْفَعَةِ، وَالَّذِي منع
من الرُّجُوع فِي الْمَنَافِع إِذا تصدق بهَا ابْن
الْمَاجشون.
51 - (بابُ قَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْعَبِيدَ إخْوانُكُمْ فأطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
العبيد ... إِلَى آخِره، وَلَفظ هَذِه التَّرْجَمَة معنى
حَدِيث أبي ذَر، رَوَاهُ ابْن مَنْدَه بِلَفْظ: إِنَّهُم
إخْوَانكُمْ فَمن لاءمكم مِنْهُم فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا
تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تلبسُونَ. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو الرَّازِيّ،
قَالَ: حَدثنَا جرير عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد عَن مُورق
عَن أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من لاءمكم من
مملوكيكم فأطعموه مِمَّا تَأْكُلُونَ واكسوه مِمَّا تكسون،
وَمن لَا يلائمكم مِنْهُم فبيعوه وَلَا تعذبوا خلق الله،
عز وَجل. وَأخرج مُسلم فِي آخر (صَحِيحه) حَدِيثا طَويلا
عَن أبي الْيُسْر كَعْب بن عَمْرو فِي: بَاب ستْرَة
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه: وَهُوَ
يَقُول، أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أطعموهم
مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تلبسُونَ.
وقَوْلِهِ تعَالَى: {واعبُدُوا الله ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئاً وبالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً وبِذِي القُرْبَى
واليَتَامَى والْمَسَاكِين والجارِ وذِي القُرْبى والجارِ
الْجُنُبِ والصَّاحِبِ بالجَنْبِ وابْنِ السَّبِيلِ وَمَا
مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ إنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ
مُخْتَالاَ فَخُوراً} (النِّسَاء: 63) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على: قَول، فِي قَوْله: بَاب قَول
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذِه الْآيَة فِي
سُورَة النِّسَاء، كَذَا هِيَ إِلَى آخرهَا فِي رِوَايَة
كَرِيمَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وَقَول الله: {واعبدوا
الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين إحساناً
وبذي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين} إِلَى قَوْله:
{مختالاً فخوراً} (النِّسَاء: 63) . فَفِيهَا يَأْمر الله
تَعَالَى بِعِبَادَتِهِ وَحده لَا شريك لَهُ، فَإِنَّهُ
الخالف الرازق الْمُنعم المتفضل على خلقه فِي جَمِيع
الْأَحْوَال، ثمَّ أوصى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدين
بقوله: {وبالوالدين إحسانا} (النِّسَاء: 63) . لِأَنَّهُ
تَعَالَى جَعلهمَا سَببا لخروجك من الْعَدَم إِلَى
الْوُجُود، ثمَّ عطف على الْإِحْسَان إِلَى الْوَالِدين
الْإِحْسَان إِلَى الْقرَابَات من الرِّجَال وَالنِّسَاء،
كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: الصَّدَقَة على الْمِسْكِين
صَدَقَة، وعَلى ذِي الرَّحِم صَدَقَة، وَصله. ثمَّ قَالَ:
واليتامى، لأَنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم، وَمن ينْفق
عَلَيْهِم؟ ثمَّ قَالَ: وَالْمَسَاكِين: وهم المحاويج من
ذَوي الْحَاجَات الَّذين لَا يَجدونَ مَا يقوم بكفايتهم،
فَأمر الله تَعَالَى بمساعدتهم بِمَا تتمّ بِهِ كفايتهم:
(13/106)
وتزول بِهِ ضرورتهم، ثمَّ قَالَ:
{وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى وَالْجَار الْجنب} (النِّسَاء:
63) . قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَالْجَار ذِي القربي، يَعْنِي:
الَّذِي بَيْنك وَبَينه قرَابَة، وَالْجَار الْجنب:
الَّذِي لَيْسَ بَيْنك وَبَينه قرَابَة، وَكَذَا رُوِيَ
عَن عِكْرِمَة وَمُجاهد وَمَيْمُون بن مهْرَان
وَالضَّحَّاك وَزيد بن أسلم وَمُقَاتِل بن حَيَّان
وَقَتَادَة، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق عَن نوف الْبكالِي
{وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى} (النِّسَاء: 63) . يَعْنِي:
الْمُسلم. {وَالْجَار الْجنب} (النِّسَاء: 63) . يَعْنِي:
الْيَهُودِيّ والنصاري، رَوَاهُ ابْن جرير وَابْن أبي
حَاتِم. وَقَالَ جَابر الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ
وَابْن مَسْعُود: {الْجَار ذِي الْقُرْبَى} (النِّسَاء:
63) . الْمَرْأَة، وَقَالَ مُجَاهِد: {وَالْجَار الْجنب}
(النِّسَاء: 63) . يَعْنِي: الرفيق فِي السّفر. ثمَّ
قَالَ: والصاحب بالجنب، قَالَ الثَّوْريّ عَن جَابر
الْجعْفِيّ عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود،
قَالَا: هِيَ الْمَرْأَة، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: كَذَا
رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَإِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ وَالْحسن وَسَعِيد بن جُبَير فِي إِحْدَى
الرِّوَايَات. وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة
وَقَتَادَة: هُوَ الرفيق فِي السّفر، وَقَالَ سعيد بن
جُبَير: هُوَ الرفيق الصَّالح، وَقَالَ زيد بن أسلم: هُوَ
جليسك فِي الْحَضَر ورفيقك فِي السّفر، ثمَّ قَالَ:
{وَابْن السَّبِيل} (النِّسَاء: 63) . وَعَن ابْن عَبَّاس
وَجَمَاعَة: هُوَ الضَّيْف، وَقَالَ مُجَاهِد وَأَبُو
جَعْفَر الباقر وَالْحسن وَالضَّحَّاك: هُوَ الَّذِي يمر
عَلَيْك مجتازاً فِي السّفر. ثمَّ قَالَ: {وَمَا ملكت
أَيْمَانكُم} (النِّسَاء: 63) . هَذَا وَصِيَّة بالأرقاء،
لِأَن الرَّقِيق ضَعِيف الجثة أَسِير فِي أَيدي النَّاس،
وَلِهَذَا ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
جعل يُوصي أمته فِي مرض الْمَوْت يَقُول: الصَّلَاة
الصَّلَاة وَمَا ملكت إيمَانكُمْ، فَجعل يُرَدِّدهَا
حَتَّى مَا يفِيض بهَا لِسَانه، وَهَذَا كَانَ مُرَاد
البُخَارِيّ بِذكرِهِ هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة، وروى
مُسلم من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو أَنه قَالَ لقهرمان
لَهُ: هَل أَعْطَيْت الرَّقِيق قوتهم؟ قَالَ: لَا. قَالَ:
فَانْطَلق فأعطهم، إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: كفى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَن يحبس عَمَّن
يملك قوتهم. قَوْله: {إِن الله لَا يحب من كَانَ مختالاً}
(النِّسَاء: 63) . أَي: فِي نَفسه معجباً متكبراً {فخوراً}
(النِّسَاء: 63) . على النَّاس، يرى أَنه خير مِنْهُم،
فَهُوَ فِي نَفسه كَبِير، وَهُوَ عِنْد الله حقير وَعند
النَّاس بغيض.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الله: ذِي الْقُرْبى القَرِيبُ،
والْجُنُبُ الغَريبُ الجارُ الْجُنُبُ يَعْنِي الصَّاحِبَ
فِي السَّفَرِ
أَبُو عبد الله: هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، هَذَا الَّذِي
فسره هُوَ تَفْسِير أبي عُبَيْدَة فِي كتاب (الْمجَاز) .
5452 - حدَّثنا آدَمُ بنُ أبِي إياسٍ قَالَ حدَّثنا
شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا واصِلٌ الأحْدَبُ قَالَ سَمِعْتُ
المَعْرورَ بنَ سُوَيْدٍ قَالَ رأيْتُ أبَا ذَرٍّ
الغِفَّاريَّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ وعلَيْهِ حُلَّةٌ
وعَلى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْنَاهُ عنْ ذالِكَ فَقَالَ
إنِّي سابَبْتُ رَجُلاً فَشكانِي إِلَى النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ليَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ ثمَّ قَالَ إنَّ
إخْوَانَكُمْ خَوَلُكمْ جعَلَهُمُ الله تَحْتَ أيْدِيكُمْ
فَمنْ كانَ أخوهُ تحْتَ يَدهِ فلْيُطْعِمْهُ مِمَّا
يَأكُلُ ولْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا
تُكَلِّفُوهمْ مَا يَغْلِبُهم فإنْ كلَّفْتُموهُمْ مَا
يَغْلِبُهُم فأعِينُوهُمْ.
(انْظُر الحَدِيث 03 طرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وواصل هُوَ ابْن حَيَّان،
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف: الْكُوفِي، والمعرور، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون
الْعين الْمُهْملَة وَضم الرَّاء الأولى: وَهُوَ من كبار
التَّابِعين، يُقَال: عَاشَ مائَة وَعشْرين سنة، وَقد مر
الحَدِيث فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب الْمعاصِي من أَمر
الْجَاهِلِيَّة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن سُلَيْمَان
بن حَرْب عَن شُعْبَة عَن وَاصل ... إِلَى آخِره وَفِيه
زِيَادَة، وَهِي قَوْله: إِنَّك امْرُؤ فِيك جَاهِلِيَّة.
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.، ولنذكر بعض
شَيْء.
قَوْله: (حلَّة) ، هِيَ وَاحِدَة الْحلَل، وَهِي برود،
الْيمن، وَلَا تسمى حلَّة إلاَّ أَن تكون ثَوْبَيْنِ من
جنس وَاحِد. قَوْله: (ساببت رجلا) قيل: هُوَ بِلَال، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (أعيرته؟) الْهمزَة فِيهِ
للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار. قَوْله: (إِن
إخْوَانكُمْ) ، المُرَاد إخْوَة الْإِسْلَام وَالنّسب،
لِأَن النَّاس كلهم بَنو آدم، عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله:
(خولكم) ، أَي: حشمكم وخدمكم، وَوَاحِد الخول: خائل، وَقد
يكون وَاحِدًا، وَيَقَع على العَبْد وَالْأمة وَهُوَ
مَأْخُوذ من التخويل، وَهُوَ التَّمْلِيك، وَقيل: من
الرِّعَايَة. قَوْله: (تَحت يَده) ، أَي: ملكه، وَإِن
كَانَ العَبْد محترفاً فَلَا وجوب على السَّيِّد. قَوْله:
(فليطعمه) ، أَمر ندب، وَكَذَلِكَ (وليلبسه) وَقيل:
لمَالِك، رَحمَه الله: أيأكل من طَعَام لَا يَأْكُل مِنْهُ
عِيَاله ورقيقه، ويلبس ثيابًا لَا يلبسُونَ؟ قَالَ: أرَاهُ
من ذَلِك فِي سَعَة. قيل لَهُ: فَحَدِيث أبي ذَر؟ قَالَ:
كَانُوا يَوْمئِذٍ لَيْسَ لَهُم هَذَا الْقُوت. قَوْله:
(وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ) ، أَي: لَا
تُكَلِّفُوهُمْ على عمل يَغْلِبهُمْ عَن إِقَامَته،
وَهَذَا وَاجِب، وَكَانَ عمر بن الْخطاب
(13/107)
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَأْتِي الحوائط، فَمن رَآهُ
من العبيد كلف مَا لَا يُطيق وضع عَنهُ، وَمن أقل رزقه
زَاده فِيهِ. قَالَ مَالك: وَكَذَلِكَ يفعل فِيمَن يفعل من
الأجراء وَلَا يطيقه، وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: أوصيكم بالضعيفين: الْمَرْأَة والمملوك،
وَأمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موَالِي أبي طيبَة أَن
يخففوا عَنهُ من خراجه. وَفِي (التَّوْضِيح) :
التَّسْوِيَة فِي الْمطعم والملبس اسْتِحْبَاب، وَهُوَ مَا
عَلَيْهِ الْعلمَاء، فَلَو كَانَ سَيّده يَأْكُل الْفَائِق
ويلبس العالي فَلَا يجب عَلَيْهِ أَن يُسَاوِي مَمْلُوكه
فِيهِ، وَمَا أحسن تَعْلِيل مَالك، وَهُوَ مَا ذَكرْنَاهُ
الْآن من قَوْله: لَيْسَ لَهُم هَذَا الْقُوت، وَإِنَّمَا
كَانَ الْغَالِب من قوتهم التَّمْر وَالشعِير، وَقد صَحَّ
أَن سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ:
للمملوك طَعَامه وَكسوته بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يُكَلف من
الْعَمَل مَا لَا يُطيق، فَإِن زَاد على مَا فرض عَلَيْهِ
من قوته وَكسوته بِالْمَعْرُوفِ كَانَ متفضلاً مُتَطَوعا.
وَقَالَ ربيعَة بن عبد الرَّحْمَن: لَو أَن رجلا عمل
لنَفسِهِ خبيصاً فَأَكله دون خادمه، مَا كَانَ بذلك بَأْس،
وَكَانَ يُفْتِي أَنه: إِذا أطْعم خادمه من الْخبز الَّذِي
يَأْكُل مِنْهُ فقد أطْعمهُ مِمَّا يَأْكُل مِنْهُ، لِأَن:
من، عِنْد الْعَرَب للتَّبْعِيض. وَلَو قَالَ: أطعموهم من
كل مَا تَأْكُلُونَ، لعم الخبيص وَغَيره، وَكَذَا فِي
اللبَاس. قَوْله: (فَإِن كلفْتُمُوهُمْ) فَإِن قلت: إِذا
نهى عَن التَّكْلِيف فَكيف عقبه بقوله: فَإِن
كلفْتُمُوهُمْ؟ قلت: النَّهْي للتنزيه قَالَه
الْكرْمَانِي، وَفِيه نظر، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ:
{لَا يُكَلف الله نفسا إلاَّ وسعهَا} (الْبَقَرَة: 682) .
وَلما لم يُكَلف الله فَوق طاقتنا، وَنحن عبيده، وَجب
علينا أَن نمتثل لحكمه وطريقته فِي عبيدنا، وروى هِشَام بن
عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، مَرْفُوعا: لَا تستخدموا
رقيقكم بِاللَّيْلِ، فَإِن النَّهَار لكم وَاللَّيْل
لَهُم. وروى معمى عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة يرفعهُ
إِلَى سلمَان: أَن رجلأ أَتَاهُ وَهُوَ يعجن، فَقَالَ:
أَيْن الْخَادِم؟ قَالَ: أَرْسلتهُ لحَاجَة، فَلم نَكُنْ
لنجمع عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ: أَن نرسله وَلَا نكفيه عمله،
ووقف عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على
تَاجر لَا يعرفهُ، فَاشْترى مِنْهُ قميصين بِعشْرَة
دَرَاهِم، فَقَالَ لعَبْدِهِ: إختر أَيهمَا شِئْت.
وَفِيه من الْفَوَائِد: النَّهْي عَن سبّ الرَّقِيق
وتعييرهم بِمن ولدهم. وَفِيه: الْحَث على الْإِحْسَان
إِلَيْهِم والرفق بهم، وَيلْحق بالرقيق من كَانَ فِي
مَعْنَاهُ من أجِير ومستخدم فِي أَمر وَنَحْوهمَا، وَفِيه
عدم الترفع على الْمُسلم والإحتقار. وَفِيه: الْمُحَافظَة
على الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر.
وَفِيه: إِطْلَاق الْأَخ على الرَّقِيق. |