عمدة القاري شرح
صحيح البخاري بسمِ الله الرحْمانِ الرَّحِيم
05 - (كتابُ الْمُكَاتَبِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْمكَاتب، وَوَقع
هَكَذَا: فِي الْمكَاتب، من غير ذكر لفظ: كتاب، وَلَا لفظ:
بَاب، والبسملة مَوْجُودَة عِنْد الْكل. وَالْمكَاتب،
بِفَتْح التَّاء: هُوَ الرَّقِيق الَّذِي يكاتبه مَوْلَاهُ
على مَال يُؤَدِّيه إِلَيْهِ بِحَيْثُ إِنَّه إِذا
أَدَّاهُ عتق، وَإِن عجز رد إِلَى الرّقّ، وبكسر التَّاء:
هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي بَينهمَا عقد الْكِتَابَة،
وَالْكِتَابَة أَن يَقُول الرجل لمملوكه: كاتبتك على ألف
دِرْهَم مثلا، وَمَعْنَاهُ: كتبت لَك على نَفسِي أَن تعْتق
مني إِذا وفيت المَال، وكتبت لي على نَفسك أَن تفي بذلك،
أَو كتبت عَلَيْك وَفَاء المَال، وكتبت على الْعتْق.
واشتقاقها من: الْكتب، وَهُوَ الْجمع، يُقَال: كتبت
الْكتاب إِذا جمعت بَين الْكَلِمَات والحروف، وسمى هَذَا
العقد كِتَابَة لما يكْتب فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي
ذَكرْنَاهُ. فَإِن قلت: سَائِر الْعُقُود يُوجد فِيهَا
معنى الْكِتَابَة، فَلِمَ لَا تسمى بِهَذَا الإسم؟ قلت:
لِئَلَّا تبطل التَّسْمِيَة كالقارورة، سميت بِهَذَا الإسم
لقرار الْمَائِع فِيهَا، وَلم يسم الْكوز وَنَحْوه
قَارُورَة، وَإِن كَانَ يقر الْمَائِع فِيهِ، لِئَلَّا
تبطل الْأَعْلَام وَالْكِتَابَة شرعا عقد بَين الْمولى
وَعَبده، بِلَفْظ الْكِتَابَة أَو مَا يُؤدى مَعْنَاهُ من
كل وَجه يُوجب التَّحْرِير يدا فِي الْحَال ورقبة فِي
المَال، وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ: الْكِتَابَة إسلامية وَلم
تكن تعرف فِي الْجَاهِلِيَّة، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهَا
كَانَت متعارفة قبل الْإِسْلَام فأقرها النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة فِي كَلَامه على
حَدِيث بَرِيرَة: قيل: إِن بَرِيرَة أول مُكَاتبَة فِي
الْإِسْلَام، وَقد كَانُوا يتكاتبون فِي الْجَاهِلِيَّة
بِالْمَدِينَةِ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاخْتلف فِي أول
من كُوتِبَ فِي الْإِسْلَام فَقيل: سلمَان الْفَارِسِي،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَاتب أَهله على مائَة ودية
نجمها لَهُم، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا
غرستها فاذنِّي. قَالَ: فَلَمَّا غرستها آذنته فَدَعَا
فِيهَا بِالْبركَةِ، فَلم تفت مِنْهَا ودية وَاحِدَة.
وَقيل: أول من كُوتِبَ أَبُو المؤمل، فَقَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (أعينوه) ، فَقضى كِتَابَته وفضلت عِنْده،
فاستفتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ:
عَلَيْهِ السَّلَام: (انفقها فِي سَبِيل الله) . وَأول من
كُوتِبَ من النِّسَاء: بَرِيرَة، وَأول من كُوتِبَ بعد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو أُميَّة، مولى
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ سِيرِين مولى أنس.
(بابُ إثْم منْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ الْمُكَاتَبَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من قذف مَمْلُوكه
الَّذِي كَاتبه، كَذَا وَقع فِي هَذَا الْبَاب هُنَا فِي
بعض النّسخ، وَلم يذكر فِيهِ حَدِيث أصلا وَلَا لَهُ وَجه
فِي دُخُوله أَبْوَاب الْمكَاتب، وَقد ترْجم فِي كتاب
الْحُدُود: بَاب قذف الْمَمْلُوك، وَأورد فِيهِ حَدِيثه،
على مَا يَجِيء بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قيل:
كَانَ البُخَارِيّ ترْجم بِهَذَا الْبَاب وأخلى بَيَاضًا
ليكتب فِيهِ الحَدِيث الْوَارِد فِيهِ، فَكَأَنَّهُ لما لم
يظفر بِهِ تَركه هَكَذَا.
(13/116)
1 - (بابُ المُكَاتَبِ ونُجومِهِ فِي كلِّ
سَنَةٍ نَجْمٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَمر الْمكَاتب، وَأمر نجومه،
وَهُوَ جمع نجم، وَهُوَ فِي الأَصْل: الطالع، ثمَّ سمي
بِهِ الْوَقْت، وَمِنْه قَول الشَّافِعِي: أقل التَّأْجِيل
نجمان، أَي: شَهْرَان، ثمَّ سمي بِهِ مَا يُؤدى بِهِ من
الْوَظِيفَة، يُقَال: دين منجم، جعل نجوماً، وَقَالَ
الرَّافِعِيّ: النَّجْم فِي الأَصْل الْوَقْت، وَكَانَت
الْعَرَب يبنون أُمُورهم على طُلُوع النَّجْم لأَنهم لَا
يعْرفُونَ الْحساب، فَيَقُول أحدهم: إِذا طلع نجم الثريا
أدّيت حَقك، فسميت الْأَوْقَات نجوماً، ثمَّ سمى الْمُؤَدى
فِي الْوَقْت نجماً، وَقيل: أصل هَذَا من نُجُوم الأنواء،
لأَنهم كَانُوا لَا يعْرفُونَ الْحساب، وَإِنَّمَا يحفظون
أَوْقَات السّنة بالأنواء. قَوْله: (فِي كل سنة نجم) ،
يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون: نجم، مَرْفُوعا
بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبره هُوَ قَوْله مقدما: فِي كل سنة،
وَتَكون الْجُمْلَة فِي مَحل الرّفْع على الخبرية.
وَالْوَجْه الثَّانِي: يَأْتِي على رِوَايَة النَّسَفِيّ
أَن لَفْظَة نجم سَاقِطَة، وَهُوَ أَن يكون قَوْله: فِي كل
سنة، نصبا على الْحَال من: نجومه، وَقَالَ بَعضهم: عرف من
التَّرْجَمَة اشْتِرَاط التَّأْجِيل فِي الْكِتَابَة،
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، بِنَاء على أَن الْكِتَابَة
مُشْتَقَّة من الضَّم، وَهُوَ ضم بعض النُّجُوم إِلَى بعض،
وَأَقل مَا يحصل بِهِ الضَّم نجمان، ثمَّ ذكر بعد أسطر:
وَلم يرد المُصَنّف أَي: البُخَارِيّ بقوله: فِي كل سنة
نجم، أَن ذَلِك شَرط فِيهِ، فَإِن الْعلمَاء اتَّفقُوا على
أَنه لَو وَقع النَّجْم بِالْأَشْهرِ جَازَ، وَفِيه مَا
فِيهِ.
وقَوْلِهِ {والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا
مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ
فِيهِمْ خَيْراً وآتُوهُمْ مِنْ مالِ الله الَّذِي
آتاكُمْ} (النُّور: 33) .
هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي سُورَة النُّور. وَقيل
قَوْله: {وَالَّذين يَبْتَغُونَ وليستعفف الَّذين لَا
يَجدونَ نِكَاحا حَتَّى يغنيهم الله من فَضله وَالَّذين
يَبْتَغُونَ} (النُّور: 23) . وَبعده: {وَلَا تكْرهُوا
فَتَيَاتكُم على الْبغاء} إِلَى قَوْله: {غَفُور رَحِيم}
(النُّور: 43) . وَلما ذكر الله تَعَالَى تَزْوِيج
الْحَرَائِر وَالْإِمَاء والأحرار وَالْعَبِيد ذكر حَال من
يعجز عَن ذَلِك، ثمَّ قَالَ: {وَالَّذين يَبْتَغُونَ}
(النُّور: 33) . أَي: يطْلبُونَ، من: البغية، وَهُوَ
الطّلب. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَالَّذين يَبْتَغُونَ،
مَرْفُوع على الإبتداء أَو مَنْصُوب بِفعل مُضْمر يفسره:
فكاتبوهم، كَقَوْلِك: زيدا فَاضْرِبْهُ، وَدخلت الْفَاء
لتضمن معنى الشَّرْط. قَوْله: {الْكتاب} (النُّور: 33) .
مَنْصُوب، وَأَنه مفعول: يَبْتَغُونَ. الْكتاب
وَالْمُكَاتبَة، كالعتاب والمعاتبة، وَهِي مفاعلة بَين
اثْنَيْنِ، وهما: السَّيِّد وَعَبده، فَيُقَال: كَاتب
يُكَاتب مُكَاتبَة وكتاباً، كَمَا يُقَال: قَاتل يُقَاتل
مقاتلة وقتالاً، وَمعنى: يَبْتَغُونَ الْكتاب، أَي:
الْمُكَاتبَة. قَوْله: (فكاتبوهم) خبر الْمُبْتَدَأ:
الَّذين يَبْتَغُونَ. ثمَّ إِن هَذَا الْأَمر عِنْد
الْجُمْهُور على النّدب، وَقَالَ دَاوُد: على الْوُجُوب
إِذا سَأَلَهُ العَبْد أَن يكاتبه، وَرُوِيَ ذَلِك عَن
عِكْرِمَة أَيْضا. وَقَالَ عَطاء: يجب عَلَيْهِ، إِن علم
أَن لَهُ مَالا، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَقيل:
هُوَ أَمر إِيجَاب فرض على الرجل أَن يُكَاتب عَبده
الَّذِي قد علم مِنْهُ خيرا إِذا سَأَلَهُ ذَلِك
بِقِيمَتِه وَأكْثر، وَهُوَ قَول دَاوُد وَمُحَمّد بن جرير
من الْفُقَهَاء، وَهِي رِوَايَة الْعَوْفِيّ عَن ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَاحْتج من نصر
هَذَا القَوْل بِمَا روى قَتَادَة: أَن سِيرِين سَأَلَ أنس
بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يكاتبه، فلكأ
عَلَيْهِ فَشَكَاهُ إِلَى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
فعلاه بِالدرةِ وَأمره بِالْكِتَابَةِ على مَا يَجِيء
وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِأَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي غُلَام
لحويطب بن عبد الْعُزَّى يُقَال لَهُ: صبيح، سَأَلَ
مَوْلَاهُ أَن يكاتبه فَأبى عَلَيْهِ، فَأنْزل الله
تَعَالَى هَذِه الْآيَة، فكاتبه حويطب على مائَة دِينَار
ووهب لَهُ مِنْهَا عشْرين دِينَارا فأداها، وَقتل يَوْم
حنين فِي الْحَرْب. انْتهى. قلت: سِيرِين، بِكَسْر السِّين
الْمُهْملَة مولى أنس بن مَالك، وَهُوَ من سبي عين
التَّمْر الَّذين أسرهم خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: فلكأ عَلَيْهِ، أَي: توقف
وتباطىء، وَكَذَلِكَ تلكأ. قَوْله: فعلاه بِالدرةِ، وَهِي
بِكَسْر الدَّال وَتَشْديد الرَّاء، وَهِي الْآلَة الَّتِي
يضْرب بهَا. وقصة سِيرِين رَوَاهَا ابْن سعد، فَقَالَ:
أخبرنَا مُحَمَّد بن حميد الْعَبْدي عَن معمر عَن
قَتَادَة، قَالَ: سَأَلَ سِيرِين أَبُو مُحَمَّد أنس بن
مَالك الْكِتَابَة فَأبى أنس، فَرفع عمر بن الْخطاب
عَلَيْهِ الدرة، وَقَالَ: كَاتبه، فكاتبه، وَقَالَ:
أخبرنَا معمر بن عِيسَى حَدثنَا مُحَمَّد بن عمر وَسمعت
مُحَمَّد بن سِيرِين: كَاتب أنس أبي على أَرْبَعِينَ ألف
دِرْهَم. وَحُوَيْطِب بن عبد الْعُزَّى الْقرشِي العامري
أَبُو مُحَمَّد، وَقيل: أَبُو الْأصْبع من الْمُؤَلّفَة
قُلُوبهم شهد حنيناً ثمَّ حمد إِسْلَامه وعمَّر مائَة
وَعشْرين سنة وَله رِوَايَة. وصبيح غُلَامه، بِفَتْح
الصَّاد الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، وقصته
رَوَاهَا سَلمَة ابْن الْفضل عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن
خَالِد عبد الله بن صبيح عَن أَبِيه، قَالَ: كنت مَمْلُوكا
لحويطب، فَسَأَلته فَنزلت: {وَالَّذين
(13/117)
يَبْتَغُونَ} (النُّور: 33) . الْآيَة.
وَحجَّة الْجُمْهُور فِي هَذَا أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد
على أَن السَّيِّد لَا يجْبر على بيع عَبده وَإِن ضوعف
لَهُ فِي الثّمن، وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالأحرى وَالْأولَى
أَن لَا يخرج عَن ملكه بِغَيْر عوض، لَا يُقَال: إِنَّهَا
طَرِيق الْعتْق والشارع متشوف إِلَيْهِ فحالف البيع، لأَنا
نقُول: التشوف إِنَّمَا هُوَ فِي مَحل مَخْصُوص، وَأَيْضًا
الْكسْب لَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أعتقني مجَّانا. وَأما
الْآثَار الَّتِي دلّت على الْوُجُوب فَسَيَأْتِي
الْكَلَام فِيهَا، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: {إِن علمْتُم فيهم خيرا} (النُّور: 33) .
اخْتلفُوا فِي المُرَاد بِالْخَيرِ، فَقَالَ الثَّوْريّ:
هُوَ الْقُوَّة على الاحتراف وَالْكَسْب لأَدَاء مَا
كوتبوا عَلَيْهِ، وَعَن اللَّيْث مثله، وَكره ابْن عمر
كِتَابَة من لَا حِرْفَة لَهُ، وَكَذَا رُوِيَ عَن سلمَان،
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الصدْق والأمان وَالْوَفَاء،
وَقَالَ بَعضهم: الصّلاح وَإِقَامَة الصَّلَاة، وَقَالَ
مُجَاهِد: المَال، وَكَذَا نقل عَن عَطاء وَأبي رزين،
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي (المُصَنّف) :
وَكتب عمر إِلَى عُمَيْر بن سعد أَنه: من قبل من
الْمُسلمين أَن يكاتبوا أرقَّاءهم على مَسْأَلَة النَّاس،
وَقَالَ ابْن حزم: قَالَت طَائِفَة: المَال، فَنَظَرْنَا
فِي ذَلِك فَوَجَدنَا مَوْضُوع كَلَام الْعَرَب الَّذِي
نزله بِهِ الْقُرْآن أَنه: لَو أَرَادَ، عز وَجل، المَال
لقَالَ: إِن علمْتُم لَهُم خيرا، أَو عِنْدهم، أَو مَعَهم
خيرا، لِأَن بِهَذِهِ الْحُرُوف يُضَاف المَال إِلَى من
هُوَ لَهُ فِي لُغَة الْعَرَب، وَلَا يُقَال أصلا: فِي
فلَان مَال، فَعلمنَا أَنه تَعَالَى لم يرد بِهِ المَال،
فصح أَنه الدّين. وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ، أَنه سُئِلَ: أاكاتب وَلَيْسَ لي مَال؟ فَقَالَ:
نعم، فصح عِنْده أَن الْخَيْر عِنْده لم يكن المَال.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: من قَالَ: إِنَّه المَال، لَا يَصح
عندنَا، لِأَن العَبْد نَفسه مَال لمَوْلَاهُ، فَكيف يكون
لَهُ مَال؟ وَالْمعْنَى عندنَا: إِن علمْتُم فيهم الدّين
والصدق وعلمتم أَنهم يعاملونكم على أَنهم متعبدون
بِالْوَفَاءِ لكم بِمَا عَلَيْهِم من الْكتاب والصدق فِي
الْمُعَامَلَة، فكاتبوهم. قَوْله: {وَآتُوهُمْ من مَال
الله الَّذِي آتَاكُم} (النُّور: 33) . أَي: أعطوهم من
المَال الَّذِي أَعْطَاكُم الله تَعَالَى. اخْتلف فِي
المخاطبين من هم؟ فَقيل: الْأَغْنِيَاء الَّذين يجب
عَلَيْهِم الزَّكَاة، أمروا أَن يُعْطوا المكاتبين، وَقيل:
السَّادة أمروا بإعانتهم، وَهُوَ أَن يحط عَنْهُم من مَال
الْكِتَابَة شَيْئا. وَاخْتلف فِي الإيتاء: هَل هُوَ
وَاجِب؟ فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه وَاجِب، وَقَالَ
أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَيْسَ بِوَاجِب، وَالْأَمر فِيهِ
على النّدب والحض أَن يضع الرجل عَن عَبده من مَال
كِتَابَته شَيْئا مُسَمّى بِهِ يَسْتَعِين على الْخَلَاص،
وَاخْتلفُوا فِيهِ أَيْضا: هَل هُوَ مِقْدَار معِين؟
فَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ غير مُقَدّر وَلكنه وَاجِب،
كَمَا ذكرنَا، وَهُوَ الْمَنْقُول عَن سعيد بن جُبَير،
وَقَالَ أَحْمد: هُوَ ربع المَال، وَهُوَ الْمَرْوِيّ
أَيْضا عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَعَن ابْن مَسْعُود: الثُّلُث، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: وَآتُوهُمْ، أَمر للْمُسلمين على وَجه
الْوُجُوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الَّذِي جعل
الله لَهُم من بَيت المَال، كَقَوْلِه: وَفِي الرّقاب،
عِنْد أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَقيل: معنى: آتوهم،
أسلفوهم. وَقيل: أَنْفقُوا عَلَيْهِم بعد أَن يؤدوا أَو
يعتقوا، وَهَذَا كُله مُسْتَحبّ، وَقَالَ ابْن بطال: قَول
الْجُمْهُور أولى، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم
يَأْمر موَالِي بَرِيرَة بإعطائها شَيْئا، وَقد كوتبت
وبيعت بعد الْكِتَابَة، وَلَو كَانَ الإيتاء وَاجِبا
لَكَانَ مُقَدرا كَسَائِر الْوَاجِبَات، حَتَّى إِذا
امْتنع السَّيِّد من جعله ادَّعَاهُ عِنْد الْحَاكِم،
فَأَما دَعْوَى المجهور فَلَا يحكم بهَا، وَلَو كَانَ
الإيتاء وَاجِبا وَهُوَ غير مُقَدّر لَكَانَ الْوَاجِب
للْمولى على الْمكَاتب هُوَ الْبَاقِي بعد الْحَط، فَأدى
ذَلِك إِلَى جهل مبلغ الْكِتَابَة، وَذَلِكَ لَا يجوز.
وَقَالَ رَوْحٌ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ:
أوَاجِبٌ عَلَيَّ إذَا عَلِمْتُ لَهُ مَالا أنْ
أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا أرَاهُ إلاَّ واجِباً
روح هُوَ ابْن عبَادَة، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن
عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي
رَبَاح. وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن حزم من طَرِيق
إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق، حَدثنَا عَليّ بن عبد الله،
قَالَ: حَدثنَا روح بن عبَادَة حَدثنَا ابْن جريج بِهِ.
وَقَالَ عَمْرُو بنُ دِينَارٍ قُلْتُ لِعَطاءٍ تأثِرُهُ
عنْ أحَدٍ قَالَ لَا ثُمَّ أخْبرني أنَّ مُوسَى بنَ أنَسٍ
أخْبرَهُ أنَّ سِيرينَ سألَ أنَساً الْمُكَاتَبَةَ وكانَ
كَثيرَ المالِ فأباى فانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ كاتِبْهُ فَأبى فضَرَبَهُ
بالدِّرَّةِ ويَتْلُو عُمَرٌ {فَكاتِبُوهُمْ إنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} (النُّور: 33) فكَاتَبَهُ
(13/118)
هَكَذَا وَقع: قَالَ عَمْرو، بِدُونِ
الضَّمِير الْمَنْصُوب بعد قَالَ فِي النّسخ المروية عَن
الْفربرِي، وَظَاهره يدل على أَن هَذَا الْأَثر من عَمْرو
بن دِينَار عَن عَطاء، قيل: لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن
النُّسْخَة الْمُعْتَمد عَلَيْهَا من رِوَايَة النَّسَفِيّ
عَن البُخَارِيّ هَكَذَا، وَقَالَهُ عَمْرو بن دِينَار،
بالضمير الْمَنْصُوب بعد: قَالَ، أَي: قَالَ القَوْل
الْمَذْكُور عَمْرو بن دِينَار، وفاعل: قلت، هُوَ ابْن
جريج لَا عَمْرو بن دِينَار، حَاصله أَن عَمْرو ببن
دِينَار قَالَ مثل مَا قَالَ عَطاء فِي سُؤال ابْن جريج
عَنهُ، لَا أَن عمرا سَأَلَ ذَلِك عَن عَطاء مثل مَا
سَأَلَ ابْن جريج. قَوْله: (تأثره) أَي: ترويه عَن أحد من:
أثر يأثر أثرا، يُقَال: أثرت الحَدِيث أَثَره إِذا ذكرت
عَن غَيْرك، وَمِنْه قيل: حَدِيث مأثور، أَي: يَنْقُلهُ
خلف عَن سلف. قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: لَا آثره عَن أحد.
قَوْله: (ثمَّ أَخْبرنِي) الْقَائِل بِهَذَا هُوَ ابْن
جريج، والمخبر هُوَ عَطاء، كَذَا وَقع مُصَرحًا فِي
رِوَايَة إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي (أَحْكَام الْقُرْآن)
وَلَفظه: قَالَ ابْن جريج: وَأَخْبرنِي عَطاء أَن مُوسَى
بن أنس أخبرهُ. . ابْن سِيرِين وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد بن
سِيرِين، وَقد ذكرنَا عَن قريب. وَظَاهره الْإِرْسَال،
لِأَن مُوسَى لم يدْرك وَقت سُؤال سِيرِين من أنس
الْكِتَابَة، وَقد رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق والطبري من وَجه
آخر مُتَّصِل من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة
عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أرادني
سِيرِين على الْمُكَاتبَة فأبيت، فَأتى عمر بن الْخطاب
فَذكر نَحوه. قَوْله: (فَأبى) أَي: امْتنع من فعل
الْكِتَابَة. قَوْله: (فَانْطَلق إِلَى عمر) ، وَفِي
رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: فاستعداه عَلَيْهِ،
وَزَاد فِي آخر الْقِصَّة: فكاتبه أنس، وَقد ذكرنَا عَن
ابْن سعد أَنه: كَاتبه على أَرْبَعِينَ ألف دِرْهَم.
فَإِن قلت: روى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أنس بن سِيرِين
عَن أَبِيه قَالَ: كاتبني أنس على عشْرين ألف دِرْهَم.
قلت: أُجِيب بِأَنَّهُمَا إِن كَانَا محفوظين يحمل
أَحدهمَا على الْوَزْن وَالْآخر على الْعدَد. فَإِن قلت:
ضربُ عمر أنسا، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يدل على
أَن عمر كَانَ يرى بِوُجُوب الْكِتَابَة. قلت: قَالَ ابْن
الْقصار: إِنَّمَا علا عمر أنسا بِالدرةِ على وَجه النصح
لأنس، وَلَو كَانَت الْكِتَابَة لَزِمت أنسا مَا أَبى،
وَإِنَّمَا نَدبه عمر إِلَى الْأَفْضَل. انْتهى. وَفِيه
نظر لَا يخفى، لِأَن الضَّرْب غير موجه على ترك
الْمَنْدُوب، خُصُوصا من مثل عمر لمثل أنس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَا سِيمَا تَلا عمر قَوْله
تَعَالَى {فكاتبوهم} (النُّور: 33) . الْآيَة عِنْد ضربه
إيَّاه.
0652 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ
شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا أَن بَريرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْها
تَسْتَعِينُها فِي كِتَابَتِها وعلَيْها خَمْسَةُ أوَاقِي
نُجِّمَتْ عَلَيْها فِي خَمْسِ سِنينَ فقالَتْ لَهَا
عائِشَةُ ونَفِسَتْ فِيها أرَأيْتِ إنْ عَدَدْتُ لَهُمْ
عَدَّةً واحِدَةً أيَبِيعُكِ أهْلُكِ فأُعْتِقَكِ فَيكونَ
وَلاَؤُكِ لِي فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أهْلِها
فعَرَضَتْ ذَلِكَ علَيْهِمْ فَقَالُوا لاَ إلاَّ أنْ
يَكُونَ لَنا الوَلاَءُ قالَتْ عائِشَةُ فدَخَلْتُ علَى
رسولِ لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ
فقالَ لَها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اشْتَرِيهَا فأعْتِقِيها فإنَّما الوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ
ثُمَّ قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ مَا
بالُ رِجالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتابِ
الله مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتابِ الله
فَهْوَ باطِلٌ شَرْطُ الله أحَقُّ وأوْثَقُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نجمت عَلَيْهَا فِي خمس
سِنِين) ، وَهَذَا الحَدِيث ذكره البُخَارِيّ فِي كِتَابه
فِي عدَّة مَوَاضِع: أَولهَا: فِي كتاب الصَّلَاة فِي:
بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي
الْمَسْجِد، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عَليّ بن عبد
الله عَن سُفْيَان عَن يحيى عَن عمْرَة عَن عَائِشَة ...
الحَدِيث، وَقد ذكرنَا مَا يتَعَلَّق بِكُل وَاحِد فِي
مَوْضِعه، وَذكره هُنَا مُعَلّقا، وَوَصله الذهلي فِي
الزهريات عَن أبي صَالح كَاتب اللَّيْث عَن اللَّيْث،
وَفِيه مقَال من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْمَحْفُوظ
رِوَايَة اللَّيْث لَهُ عَن ابْن شهَاب نَفسه بِغَيْر
وَاسِطَة، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ أَنه
رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث عَن ابْن شهَاب،
وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث
عَن ابْن شهَاب، وَكَذَلِكَ أخرجه الطَّحَاوِيّ، قَالَ:
حَدثنَا يُونُس، قَالَ: أخبرنَا ابْن وهب، قَالَ:
أَخْبرنِي رجال من أهل الْعلم مِنْهُم يُونُس بن يزِيد
وَاللَّيْث بن سعد، عَن ابْن شهَاب حَدثهمْ عَن عُرْوَة بن
الزبير عَن عَائِشَة زوج النَّبِي،
(13/119)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: (جَاءَت
بَرِيرَة) الحَدِيث. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن يُونُس عَن
يزِيد عَن ابْن وهب إِلَى آخِره نَحْو رِوَايَة
الطَّحَاوِيّ، فاشترك النَّسَائِيّ والطَّحَاوِي هُنَا فِي
يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، وَقد علم من هَذَا أَن يُونُس
بن يزِيد رَفِيق اللَّيْث فِيهِ لَا شَيْخه. وَالْوَجْه
الآخر: أَنه وَقع فِيهِ مُخَالفَة للروايات الْمَشْهُورَة،
وَهُوَ قَوْله: (وَعَلَيْهَا خَمْسَة أَوَاقٍ نجمت
عَلَيْهَا فِي خمس سِنِين) ، وَالْمَشْهُور مَا فِي
رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة الَّتِي تَأتي بعد بَابَيْنِ
عَن أَبِيه: (أَنَّهَا كاتبت على تسع أَوَاقٍ كل عَام
أُوقِيَّة) ، وَقد جزم الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن هَذِه
الرِّوَايَة الْمُعَلقَة غلط. قلت: أُجِيب عَنهُ: بِأَن
التسع أصل، وَالْخمس كَانَت بقيت عَلَيْهَا، وَبِهَذَا جزم
الْقُرْطُبِيّ والمحب الطَّبَرِيّ. فَإِن قلت: فِي
رِوَايَة قُتَيْبَة: (وَلم تكن أدَّت من كتَابَتهَا
شَيْئا؟ قلت: أُجِيب: بِأَنَّهَا كَانَت حصلت الْأَرْبَع
أَوَاقٍ قبل أَن تستعين بعائشة، ثمَّ جاءتها وَقد بَقِي
عَلَيْهَا خمس. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يُجَاب بِأَن
الْخمس هِيَ الَّتِي كَانَت اسْتحقَّت عَلَيْهَا لحلول
نجومها من جملَة التسع الأواقي الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث
هِشَام، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي رِوَايَة عمْرَة عَن
عَائِشَة الَّتِي مَضَت فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب ذكر
البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ
أَهلهَا: إِن شِئْت أَعْطَيْت مَا بَقِي. قَوْله: (دخلت
عَلَيْهَا) ، أَي: على عَائِشَة. قَوْله: (تستعينها) ،
جملَة حَالية. قَوْله: (فِي كتَابَتهَا) أَي: فِي مَال
كتَابَتهَا. قَوْله: (أواقي) ، جمع أُوقِيَّة، وَهِي
أَرْبَعُونَ درهما، وَيجوز فِي الْجمع تَشْدِيد الْيَاء
وتخفيفها. قَوْله: (نجمت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، صفة
للأواقي. قَوْله: (ونفست فِيهَا) ، جملَة حَالية
مُعْتَرضَة بَين القَوْل ومقوله، وَهُوَ بِكَسْر الْفَاء
أَي: رغبت، وَمِنْه {فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ}
(المطففين: 62) . وَإِذا قيل: نفست بِهِ، يكون مَعْنَاهُ:
نحلت، ونفست عَلَيْهِ الشَّيْء نفاسة إِذا لم تره لَهُ
أَهلا، ونفست الْمَرْأَة تنفس، من بَاب علم يعلم: إِذا
حَاضَت. قَوْله: (أَرَأَيْت إِن عددت لَهُم عدَّة
وَاحِدَة) ، معنى: أَرَأَيْت: أَخْبِرِينِي، وَمعنى: عددت
لَهُم: عددت الْخمس أواقي، وَفِي رِوَايَة عمْرَة عَن
عَائِشَة: (إِن أحل أهلك أَن أصب لَهُم ثمنك صبة وَاحِدَة
وأعتقك؟) كَذَا فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ. قَوْله:
(شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله تَعَالَى) ، أَي: لَيْسَ
فِي حكم الله تَعَالَى وقضائه فِي كِتَابه أَو سنة
رَسُوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (شَرط الله
أَحَق) ، قَالَ الدَّاودِيّ: شَرط الله هَهُنَا أرَاهُ،
وَالله أعلم، هُوَ قَوْله تَعَالَى: {فإخوانكم فِي الدّين
ومواليكم} (الْأَحْزَاب: 33) . وَقَوله: {وَإِذ تَقول
للَّذي أنعم الله عَلَيْهِ وأنعمت عَلَيْهِ} (الْأَحْزَاب:
73) . وَقَالَ فِي مَوضِع: هُوَ قَوْله: {لَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} (الْبَقَرَة: 881
وَالنِّسَاء: 92) . وَقَوله تَعَالَى: {وَمَا أَتَاكُم
الرَّسُول فَخُذُوهُ} (الْحَشْر: 7) . الْآيَة. وَقَالَ
القَاضِي عِيَاض: وَعِنْدِي أَن الْأَظْهر هُوَ مَا أعلم
بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَوْله: (إِنَّمَا
الْوَلَاء لمن أعتق) ، (وَمولى الْقَوْم مِنْهُم) ،
وَالْوَلَاء لحْمَة كالنسب) ، وَفِي بعض الرِّوَايَات:
(كتاب الله أَحَق) ، يحْتَمل أَن يُرِيد: حكمه، وَيحْتَمل
أَن يُرِيد الْقرَان.
وَفِيه فَوَائِد كصيرة: تكلم الْعلمَاء فِيهِ كثيرا جدا
لِأَنَّهُ رُوِيَ بِوُجُوه مُخْتَلفَة وطرق مُتَغَايِرَة،
حَتَّى أَن مُحَمَّد بن جرير صنف فِي فَوَائده مجلداً،
وَقد ذكرنَا أَكْثَرهَا فِيمَا مضى فِي كتاب الصَّلَاة
وَالزَّكَاة وَغَيرهَا، وَمن أعظم فَوَائده مَا احْتج بِهِ
قوم على فَسَاد البيع بِالشّرطِ، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ، وَذهب قوم إِلَى أَن البيع صَحِيح
وَالشّرط بَاطِل، وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى مفصلا.
2 - (بابُ مَا يَجوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتِبِ ومنِ
اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كتابِ الله تَعَالَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يجوز من شُرُوط الْمكَاتب،
وَمن جملَة شُرُوط الْمكَاتب قبُوله العقد وَذكر مَال
الْكِتَابَة، سَوَاء كَانَ حَالا أَو مُؤَجّلا أَو منجماً.
وَعند الشَّافِعِي: إِذا شَرط حَالا لَا يكون كِتَابَة، بل
يكون عتقا، وَمن شُرُوطه: أَن يكون عَاقِلا بَالغا، وَيجوز
عندنَا أَيْضا إِذا كَانَ صَغِيرا مُمَيّزا بِأَن يعرف أَن
البيع سالب وَالشِّرَاء جالب. وَفِي (شرح الطَّحَاوِيّ)
وَإِذا كَانَ لَا يعقل لَا يجوز إلاَّ إِذا قبل عَنهُ
إِنْسَان فَإِنَّهُ يجوز ويتوقف على إِدْرَاكه، فَإِن أدّى
هَذَا الْقَابِل عتق، وَعند زفر: لَهُ اسْتِرْدَاده وَهُوَ
الْقيَاس، وَلَيْسَ فِي أَحَادِيث الْبَاب إلاَّ ذكر شَرط
الْوَلَاء. قَوْله: (وَمن اشْترط شرطا لَيْسَ فِي كتاب
الله تَعَالَى) وَهُوَ الشَّرْط الَّذِي خَالف كتاب الله
أَو سنة رَسُوله أَو إِجْمَاع الْأمة، وَقَالَ ابْن
خُزَيْمَة: معنى (لَيْسَ فِي كتاب الله تَعَالَى) لَيْسَ
فِي حكم الله جَوَازه أَو وُجُوبه، لَا أَن كل من شَرط
شرطا لم ينْطق بِهِ الْكتاب يبطل، لِأَنَّهُ قد يشْتَرط
فِي البيع الْكَفِيل فَلَا يبطل الشَّرْط، وَيشْتَرط فِي
الثّمن شُرُوطًا من أَوْصَافه أَو من نجومه وَنَحْو ذَلِك
فَلَا يبطل.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: الشَّرْط فِي البيع
أَقسَام: أَحدهَا: يَقْتَضِيهِ إِطْلَاق العقد، كَشَرط
تَسْلِيمه. الثَّانِي: شَرط فِيهِ مصلحَة كَالرَّهْنِ وهما
جائزان اتِّفَاقًا. الثَّالِث:
(13/120)
اشْتِرَاط الْعتْق فِي العَبْد، وَهُوَ
جَائِز عِنْد الْجُمْهُور لحَدِيث عَائِشَة فِي قصَّة
بَرِيرَة. الرَّابِع: مَا يزِيد على مُقْتَضى العقد وَلَا
مصلحَة فِيهِ للْمُشْتَرِي كاستثناء منفعَته فَهُوَ
بَاطِل.
فِيه ابنُ عُمَرَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَعْنِي فِي هَذَا الْبَاب عبد الله بن عمر يروي عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر
فِيهِ عَن ابْن عمر أَي: رُوِيَ عَن ابْن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى
حَدِيث ابْن عمر الَّذِي يَأْتِي فِي آخر الْبَاب.
1652 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنِ
ابنِ شِهابٍ عنْ عُرْوَةَ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا أخبرَتْهُ أنَّ بَرِيرَةَ جاءَتْ
تَسْتَعِينُها فِي كِتابَتِها ولَمْ تَكُنْ قَضتْ مِنْ
كِتَابَتِهَا شَيْئاً قالَتْ لَهَا عائِشَةُ ارْجِعِي إلَى
أهْلِك فإنْ أحَبُّوا أنْ أقْضِي عَنْكِ كِتَابَتَكِ
ويكُونُ وَلاؤكِ لِي فعَلْتُ فَذَكَرَتْ ذالِكَ بَرِيرَةُ
لِأَهْلِهَا فأبَوْا وَقَالُوا إنْ شَاءَتْ أنْ تَحْتَسِبَ
علَيْكِ فَلْتَفْعَلْ ويكُونَ وَلاَؤُكِ لَنا فَذَكَرَتْ
ذالِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
لهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتَاعِي
فأعْتِقي فإنَّمَا الوَلاءُ لِمَنْ أعْتقَ قَالَ ثُمَ قامَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ مَا بالُ
أُناسٍ يَشْتَرِطُونَ شُروطاً لَيْسَتْ فِي كِتابِ الله
مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتابِ الله فَلَيْسَ
لَهُ وإنْ شَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ شَرْطُ الله أحقُّ
وأوْثَقُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: من اشْترط شرطا لَيْسَ
فِي كتاب الله. قَوْله: (إِلَى أهلك) المُرَاد بِهِ هُنَا:
السَّادة. قَوْله: (فعلت) جَوَاب. قَوْله: (فَإِن
أَحبُّوا) . قَوْله: (فَأَبَوا) ، أَي: امْتَنعُوا عَن
كَون الْوَلَاء لعَائِشَة. قَوْله: (أَن تحتسب) ، أَي:
إِذا أَرَادَت الثَّوْب عِنْد الله وَأَن لَا يكون لَهَا
الْوَلَاء. قَوْله: (مَا بَال أنَاس؟) ، أَي: مَا
شَأْنهمْ؟ قَوْله: (وَإِن شَرط مائَة مرّة) ، وَفِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: مائَة شَرط، قَالَ النَّوَوِيّ:
معنى: مائَة شَرط، أَنه لَو: شَرط مائَة مرّة توكيداً
فَهُوَ بَاطِل. قلت: مثل هَذَا يذكر للْمُبَالَغَة. قَالَ
الْقُرْطُبِيّ: قَوْله: وَلَو كَانَ مائَة شَرط، خرج مخرج
التكثير، يَعْنِي: أَن الشُّرُوط الْغَيْر الْمَشْرُوعَة
بَاطِلَة وَلَو كثرت.
3652 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يوسُفَ قَالَ أخْبرنا مالكٌ
عَن نافِعٍ عنْ عبْدِ الله بنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا قَالَ أرادَت عائشَةُ أُمُّ المُؤْمِنينَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا أنْ تَشْتَرِيَ جارِيَةً
لِتُعْتِقَها فَقَالَ أهْلُها على أنَّ ولاءَهَا لَنا
قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَمْنعُ
ذالِك فإنَّمَا الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (على أَن ولاءها
لنا) ، لِأَن هَذَا شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله عز وَجل،
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْبيُوع
عَن عبد الله بن يُوسُف وَفِي الْفَرَائِض عَن إِسْمَاعِيل
وقتيبة فرقهما. وَأخرجه مُسلم فِي الْعتْق عَن يحيى بن
يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفَرَائِض
وَالنَّسَائِيّ فِي الْبيُوع جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (لَا يمنعك) ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: لَا
نَمْنَعك بنُون، وَرِوَايَة مُسلم مثل الأول، وَالله أعلم.
3 - (بابُ اسْتِعانَةِ المُكَاتِبَ وسؤالِهِ النَّاسَ)
هَذَا بَاب فِي بَيَان استعانة الْمكَاتب، أَي: طلبه العون
من غَيره ليعينه بِشَيْء يضمه إِلَى مَال الْكِتَابَة،
يَعْنِي: يجوز لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أقرّ
بَرِيرَة على سؤالها من عَائِشَة واستعانتها مِنْهَا،
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام، لِأَن
الِاسْتِعَانَة تقع بالسؤال وَبِغَيْرِهِ. انْتهى. قلت:
هَذَا كَأَنَّهُ مَا الْتفت إِلَى سين الِاسْتِعَانَة،
فَإِنَّهَا للطلب، والطلب لَا يكون إلاَّ من غَيره.
45 - (حَدثنَا عبيد بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا أَبُو
أُسَامَة عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة
(13/121)
رَضِي الله عَنْهَا قَالَت جَاءَت بَرِيرَة
فَقَالَت إِنِّي كاتبت أَهلِي على تسع أَوَاقٍ فِي كل عَام
أُوقِيَّة فأعينيني فَقَالَت عَائِشَة إِن أحب أهلك أَن
أعدهَا لَهُم عدَّة وَاحِدَة وأعتقك فعلت وَيكون ولاؤك لي
فَذَهَبت إِلَى أهليها فَأَبَوا ذَلِك عَلَيْهَا فَقَالَت
إِنِّي قد عرضت ذَلِك عَلَيْهِم فَأَبَوا إِلَّا أَن يكون
الْوَلَاء لَهُم فَسمع بذلك رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرته فَقَالَ
خذيها فأعتقيها واشترطي لَهُم الْوَلَاء فَإِنَّمَا
الْوَلَاء لمن أعتق قَالَت عَائِشَة فَقَامَ رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي النَّاس فَحَمدَ
الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ أما بعد فَمَا بَال رجال
مِنْكُم يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله فأيما شَرط
لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل وَإِن كَانَ مائَة
شَرط فقضاء الله أَحَق وَشرط الله أوثق مَا بَال رجال
مِنْكُم يَقُول أحدهم أعتق يَا فلَان ولي الْوَلَاء
إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي
قَوْله فأعينيني. وَعبيد بن إِسْمَاعِيل أَبُو مُحَمَّد
الْهَبَّاري الْقرشِي الْكُوفِي وَهُوَ من أَفْرَاده
وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد ابْن أُسَامَة وَهِشَام بن
عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام
رَضِي الله عَنْهُم قَوْله " فأعينيني " كَذَا هُوَ
بِصِيغَة الْأَمر للمؤنث فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني فأعيتني بِصِيغَة الْمَاضِي من
الإعياء وَهُوَ الْعَجز وَالْمعْنَى فأعيتني تسع أَوَاقٍ
لعجزي عَن تَحْصِيلهَا وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة
وَغَيره من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام
فأعتقيني بِصِيغَة الْأَمر من الْإِعْتَاق وَالثَّابِت فِي
طَرِيق مَالك وَغَيره عَن هِشَام هُوَ الأول قَوْله "
واشترطي " قَالَ الْكرْمَانِي فَإِن قلت هَذَا مُشكل من
حَيْثُ أَن هَذَا الشَّرْط يفْسد العقد وَمن حَيْثُ
أَنَّهَا خدعت البائعين حَيْثُ شرطت لَهُم مَا لَا يحصل
لَهُم وَكَيف أذن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لعَائِشَة فِي ذَلِك (قلت) أول بِأَن مَعْنَاهُ اشترطي
عَلَيْهِم كَقَوْلِه تَعَالَى وَإِن أسأتم فلهَا أَو أظهري
لَهُم حكم الْوَلَاء وَبِأَن المُرَاد التوبيخ لَهُم
لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد بَين
لَهُم أَن هَذَا الشَّرْط لَا يَصح فَلَمَّا لجوا فِي
اشْتِرَاطه قَالَ ذَلِك أَي لَا تبالي بِهِ سَوَاء شرطتيه
أم لَا وَالأَصَح أَنه من خَصَائِص عَائِشَة لَا عُمُوم
لَهُ وَالْحكمَة فِي إِذْنه ثمَّ إِبْطَاله أَن يكون ألمغ
فِي قطع عَادَتهم وزجرهم عَن مثله انْتهى قلت اخْتلف
الْعلمَاء فِي ذَلِك فَمنهمْ من أنكر الشَّرْط فِي
الحَدِيث فروى الْخطابِيّ فِي المعالم بِسَنَدِهِ إِلَى
يحيى بن أكتم أَنه أنكر وَعَن الشَّافِعِي فِي الْأُم
الْإِشَارَة إِلَى تَضْعِيف رِوَايَة هِشَام المصرحة
بالاشتراط لكَونه انْفَرد بهَا دون أَصْحَاب أَبِيه ورد
مَا نقل عَن يحيى بِمَا حكى الْخطابِيّ عَن ابْن خُزَيْمَة
أَن قَول يحيى بن أكتم غلط وَكَذَلِكَ رد مَا نقل عَن
الشَّافِعِي بِأَن الَّذِي فِي الْأُم ومختصر الْمُزنِيّ
وَغَيرهمَا عَن الشَّافِعِي كَرِوَايَة الْجُمْهُور
واشترطي بِصِيغَة الْأَمر للمؤنث من الشَّرْط وَقَالَ
الطَّحَاوِيّ حَدثنِي الْمُزنِيّ بِهِ عَن الشَّافِعِي
بِلَفْظ واشرطي بِهَمْزَة قطع بِغَيْر تَاء مثناة من فَوق
ثمَّ وَجهه بِأَن مَعْنَاهُ أظهري لَهُم حكم الْوَلَاء
والإشراط بِكَسْر الْهمزَة الْإِظْهَار قَالَ بَعضهم
وَأنكر غَيره هَذِه الرِّوَايَة قلت لَا مجَال لإنكارها
لِأَن كل وَاحِد من الطَّحَاوِيّ والمزني ثِقَة ثَبت لَا
يشك فِيمَا روياه وَلَا يلْزم أَن يكون هَذَا الَّذِي
نَقله الطَّحَاوِيّ عَن الْمُزنِيّ أَن يكون الشَّافِعِي
ذكره فِي الْأُم والمزني أعرف بِحَالهِ قَوْله " فقضاء
الله أَحَق " أَي حكم الله أَحَق بالاتباع من الشُّرُوط
الْمُخَالفَة لَهُ قَوْله " وَشرط الله أوثق " أَي
بِاتِّبَاع حُدُوده الَّتِي حَدهَا وَهنا أفعل التَّفْضِيل
لَيْسَ على بَابه لِأَنَّهُ لَا مُشَاركَة بَين الْحق
وَالْبَاطِل وَقد يرد أفعل لغير التَّفْضِيل كثيرا -
4 - (بابُ بَيْعِ المُكَاتِبِ إذَا رَضِيَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز بيع الْمكَاتب، وَفِي
رِوَايَة السَّرخسِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: بَاب بيع
الْمُكَاتبَة، وَالْأول أصح لقَوْله: إِذا رَضِي
بِالْبيعِ، وَلَو لم يعجز نَفسه، وَهُوَ قَول أَحْمد
وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَأبي ثَوْر
وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير
وَابْن الْمُنْذر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ
فِي أصح الْقَوْلَيْنِ، وَبَعض الْمَالِكِيَّة: لَا يجوز.
وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : قَالَ مَالك: لَا
يجوز بيع الْمكَاتب إلاَّ أَن يعجز عَن الْأَدَاء فَإِن لم
يعجز عَن الْأَدَاء فَلَيْسَ لَهُ وَلَا لسَيِّده بَيْعه،
وَقَالَ ابْن شهَاب
(13/122)
وَأَبُو الزِّنَاد وَرَبِيعَة: لَا يجوز
بَيْعه إلاَّ بِرِضَاهُ، فَإِن رَضِي بِالْبيعِ فَهُوَ عجز
مِنْهُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعَطَاء
وَاللَّيْث وَأحمد وَأَبُو ثَوْر: يجوز بَيْعه على أَن
يمْضِي فِي كِتَابَته، فَإِن أدّى عتق وَكَانَ وَلَاؤُه
للَّذي ابتاعه، وَإِن عجز فَهُوَ عبد لَهُ. وَقَالَ أَبُو
حنيفَة وَأَصْحَابه: لَا يجوز بيع الْمكَاتب مَا دَامَ
مكَاتبا حَتَّى يعجز، وَلَا يجوز بيع كِتَابَته، قَالَ:
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي بِمصْر، وَكَانَ بالعراق يَقُول:
يجوز بَيْعه، وَأما بيع كِتَابَته فَغير جَائِز بِحَال.
وقالتْ عائِشَةُ هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِي علَيْهِ شَيْءٌ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا
يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب
عَن عمرَان ابْن بشير عَن سَالم عَن عَائِشَة، قَالَت:
إِنَّك عبد مَا بَقِي عَلَيْك شَيْء. قَالَ: وَحدثنَا
أَبُو بشر حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة وشجاع ابْن الْوَلِيد
عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن سُلَيْمَان بن يسَار، قَالَ:
اسْتَأْذَنت على عَائِشَة، فَقَالَت: كم بَقِي عَلَيْك من
كتابتك؟ قلت: عشر أَوَاقٍ. قَالَت: أَدخل فَإنَّك عبد مَا
بَقِي عَلَيْك شَيْء، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: مَا
بَقِي عَلَيْك دِرْهَم. قلت: سُلَيْمَان بن يسَار أَبُو
أَيُّوب الْهِلَالِي الْمدنِي مولى مَيْمُونَة زوج
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن سعد:
وَيُقَال: إِن سُلَيْمَان بن يسَار نَفسه كَانَ مكَاتبا
لأم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَأما سَالم
الَّذِي فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ أَيْضا فَهُوَ سَالم بن
عبد الله النصري، بالنُّون وَالصَّاد الْمُهْملَة: أَبُو
عبد الله الْمدنِي، وَهُوَ سَالم مولى شَدَّاد بن الْهَاد،
وَهُوَ سَالم مولى مَالك بن أَوْس بن الْحدثَان، مولى
النصريين، وَهُوَ سَالم سبلان، روى عَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة مِنْهُم عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا.
وَقَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الشَّافِعِي عَن سُفْيَان عَن
ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: أَن زيد بن ثَابت قَالَ فِي
الْمكَاتب: هُوَ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم. وَقَالَ
الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا عَليّ بن شيبَة حَدثنَا يزِيد بن
هَارُون أَنبأَنَا سُفْيَان عَن ابْن أبي نجيح عَن
مُجَاهِد: كَانَ زيد بن ثَابت يَقُول: الْمكَاتب عبد مَا
بَقِي عَلَيْهِ شَيْء من كِتَابَته.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ هُوَ عبْدٌ إنْ عاشَ وإنْ ماتَ وإنْ
جَنى مَا بَقِيَ عليْهِ شَيْءٌ
أَي: قَالَ عبد الله بن عمر: هُوَ عبد أَي: الْمكَاتب عبد
... إِلَى آخِره، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الطَّحَاوِيّ عَن
يُونُس: أخبرنَا ابْن وهب أَخْبرنِي أُسَامَة بن زيد
وَمَالك بن أنس عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: الْمكَاتب
عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ من كِتَابَته شَيْء، ذكر فِي أثر
ابْن عمر ثَلَاثَة أَشْيَاء: حَيَاة الْمكَاتب، وَمَوته،
وجنايته.
أما فِي حَيَاته فَإِنَّهُ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ شَيْء
من مَال الْكِتَابَة، وَلَا يعْتق إلاَّ بأَدَاء كل
الْبَدَل عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، إلاَّ عِنْد ابْن
عَبَّاس، فَإِنَّهُ يعْتق بِنَفس العقد، وَهُوَ غَرِيم
الْمولى بِمَا عَلَيْهِ من بدل الْكِتَابَة، وَعند عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يعْتق بِقدر مَا أدّى، وَبِه
قَالَت الظَّاهِرِيَّة، وَيعتق بِأَدَائِهِ جَمِيع
الْكِتَابَة عندنَا، وَإِن لم يقل الْمولى: إِذا أديتها
فَأَنت حر، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد. وَقَالَ
الشَّافِعِي: لَا يعْتق مَا لم يقل كاتبتك على كَذَا إِن
أديته فَأَنت حر.
وَأما فِي مَوته فَإِنَّهُ إِذا مَاتَ وَله مَال لم
تَنْفَسِخ الْكِتَابَة، وَقضى مَا عَلَيْهِ من بدل
الْكِتَابَة وَحكم بِعِتْقِهِ فِي آخر جُزْء من أَجزَاء
حَيَاته، وَمَا بَقِي من ذَلِك فَهُوَ لوَرثَته، وَيعتق
أَوْلَاده المولودون فِي الْكِتَابَة، وَكَذَا المشترون
فِيهَا، وَهَذَا عندنَا، وَهُوَ قَول عَليّ وَابْن
مَسْعُود وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ
وَالشعْبِيّ وَعَمْرو بن دِينَار وَالثَّوْري. وَقَالَ
الشَّافِعِي: تبطل الْكِتَابَة بِمَوْت الْمكَاتب عبدا
وَمَا ترك لمَوْلَاهُ، وَبِه قَالَ أَحْمد. وَهُوَ قَول
قَتَادَة وَأبي سُلَيْمَان، وَإِذا مَاتَ الْمولى لَا تبطل
الْكِتَابَة، وَيُقَال: للْمكَاتب أد المَال إِلَى وَرَثَة
الْمولى على نجومه.
وَأما فِي جِنَايَته، فَإِن الْمولى يدْفع قيمَة وَاحِدَة
وَلَا يُزَاد عَلَيْهَا وَإِن تَكَرَّرت الْجِنَايَة،
وَكَذَا فِي أم الْوَلَد والمدير، بِخِلَاف الْقِنّ فَإِن
الدّفع يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الْجِنَايَة.
4652 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عَن يَحْياى بنِ سَعيدٍ عنْ عَمْرَةَ بنْتِ عَبْدِ
الرحْمانِ أنَّ بَرِيرَةَ تَسْتَعِينُ عائِشَةَ أُمَّ
المُؤْمِنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا فقالَتْ لَها إنْ
أحَبَّ أهْلُكِ أنْ أصُبَّ لَهُمْ
(13/123)
ثَمَنَكِ صَبَّةً واحِدَةً فعَلْتُ
فَذَكَرَتْ بَرِيرَةَ ذالِكَ لِأَهْلِهَا فَقَالُوا لاَ
إلاَّ أنْ يَكُونَ الوَلاَءُ لَنا قَالَ مالِكٌ قَالَ
يَحْياى فَزَعَمَتْ عَمْرَةَ أنَّ عائِشَةَ ذَكَرَتْ
ذالِكَ لِرسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
اشْتَرِيهَا وأعْتِقِيهَا فإنَّما الوَلاَءُ لِمَنْ
أعْتَقَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: اشتريها، لِأَن أمره بِالشِّرَاءِ يدل على
جَوَاز البيع، وَهُوَ حجَّة الشَّافِعِي فِي جَوَاز بيع
الْمكَاتب، وَهُوَ قَوْله الْمصْرِيّ، كَمَا ذَكرْنَاهُ
عَن قريب. قَوْله: (إلاَّ أَن يكون الْوَلَاء) ، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: إلاَّ أَن يكون ولاؤك. قَوْله:
(قَالَ يحيى) ، هُوَ ابْن سعيد، وَهُوَ مَوْصُول
بِالْإِسْنَادِ الأول. قَوْله: (فَزَعَمت عمْرَة) أَي:
قَالَت، والزعم يسْتَعْمل بِمَعْنى القَوْل الْمُحَقق.
قَوْله: (فَإِنَّمَا الْوَلَاء) ، أَشَارَ بِكَلِمَة:
إِنَّمَا، الَّتِي هِيَ للحصر: أَن الْوَلَاء لمن أعتق لَا
غير.
5 - (بابٌ إِذا قَالَ المُكاتِبُ اشْتَرِني وأعْتِقْنِي
فاشْتَرَاهُ لِذالِكَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا قَالَ الْمكَاتب لأحد:
اشترني من مولَايَ وأعتقني، فَاشْتَرَاهُ لتِلْك أَي:
لِلْعِتْقِ وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف، تَقْدِيره: جَازَ.
5652 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا عبْدُ
الوَاحِدِ بنُ أيْمَنَ قَالَ حدَّثني أبي أيْمَنُ قَالَ
دخلْتُ علَى عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فقُلْتُ
كُنْتُ لِعُتْبَةَ بنِ أبِي لَهَبٍ وماتَ ووَرِثَنِي
بَنُوهُ وإنَّهُمْ باعُونِي مِنْ ابنِ أبِي عَمْرٍ
وفأعْتَقَنِي ابنُ أبي عَمْرٍ وواشْتَرَطَ بَنُو عُتْبَةَ
الوَلاءَ فقالَتْ دَخَلَتْ بَريرَةُ وهْيَ مُكاتَبَةٌ
فقالتْ اشْتَرِيني وأعْتِقِيني قالَتْ نَعَمْ قالَتْ لَا
يَبِيعُونِي حتَّى يَشْتَرِطُوا ولائِي فقالَتْ لاَ
حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ فَسَمِعَ بِذالِكَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أوْ بَلَغَهُ فذَكَرَ لِعائِشَةَ
فَذَكَرَتْ عائِشَةُ مَا قالَتْ لَها فَقَالَ اشْتَرِيها
وأعْتِقِيهَا ودَعِيهِمْ يَشْترِطُونَ مَا شَاؤُا
فاشْتَرَتْها عائِشَةُ فأعْتَقَتْها واشْتَرَطَ أهلُها
الوَلاءَ فقالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الوَلاءُ
لِمَنْ أعْتَقَ وإنِ اشْتَرَطُوا مِائَةَ شَرْطٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اشتريني وأعتقيني) ،
وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وَقد
تكَرر ذكره، وَعبد الْوَاحِد ابْن أَيمن ضد الْأَيْسَر
المَخْزُومِي الْمَكِّيّ وأيمن الحبشي مولى ابْن أبي
عَمْرو المَخْزُومِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ
وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى خَمْسَة أَحَادِيث،
هَذَا وآخران عَن عَائِشَة، وحديثان عَن جَابر، وَكلهَا
مُتَابعَة. وَلم يروِ عَنهُ غير وَلَده عبد الْوَاحِد،
وإيمن الحبشي هَذَا، غير أَيمن بن نائل الحبشي،
وَكِلَاهُمَا مكيان، غير أَن أَيمن وَالِد عبد الْوَاحِد
نزيل الْمَدِينَة، وأيمن بن نائل نزيل عسقلان،
وَكِلَاهُمَا من التَّابِعين.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الشُّرُوط عَن
خَلاد بن يحيى.
قَوْله: (كنت لعتبة) ، ويروى: (كنت غُلَاما لعتبة) ،
وَلَفظ الْغُلَام مُقَدّر فِي الرِّوَايَة الَّتِي لم يذكر
فِيهَا. وَعتبَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: ابْن أبي لَهب عبد
الْعُزَّى بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي، أسلم يَوْم
الْفَتْح هُوَ وَأَخُوهُ معتب، وَلم يهاجرا من مَكَّة،
وأخوهما عتيبة بِالتَّصْغِيرِ مَاتَ كَافِرًا. قَوْله:
(بنوه) ، أَي: بَنو عتبَة، وهم: الْعَبَّاس وَأَبُو خرَاش
وَهِشَام وَيزِيد. قَوْله: (من ابْن أبي عَمْرو) ، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني والنسفي: من عبد الله بن أبي عَمْرو،
وَزَاد الْكشميهني من عبد الله بن أبي عَمْرو بن عبد الله
المَخْزُومِي. قَوْله: (أَو بلغه؟) ، شكّ من الرَّاوِي
أَي: أَو بلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَوْله:
(فَذكر) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك
لعَائِشَة. قَوْله: (ودعيهم) ، أَي: اتركيهم وَلَا تتعرضي
لَهُم فِيمَا يشترطون مَا شاؤا من الْوَلَاء. قَوْله:
(مائَة شَرط) ، هُوَ بِمَعْنى الْمصدر ليُوَافق
الرِّوَايَة الْأُخْرَى: مائَة مرّة، وَالله أعلم
بِالصَّوَابِ.
(13/124)
بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ
15 - (كتابُ الهِبَةِ وفَضْلِها والتَّحْرِيضِ عَلَيْها)
1 - (بابُ الْهِبَة وفضلها والتحريض عَلَيْهَا)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْهِبَة وَبَيَان
فَضلهَا وَبَيَان التحريض عَلَيْهَا، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني وَابْن شبويه: والتحريض فِيهَا، واستعماله:
بعلى، أَكثر. والتحريض على الشَّيْء: الْحَث والإغراء
عَلَيْهِ، والبسملة مُقَدّمَة على قَوْله: كتاب الْهِبَة،
عِنْد الْكل إلاَّ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، فَإِنَّهَا
مَذْكُورَة بعده، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : أصل
الْهِبَة من هبوب الرّيح أَي: مروره. قلت: هَذَا غلط
صَرِيح بل الْهِبَة مصدر من: وهب يهب، وَأَصلهَا: وهب،
لِأَنَّهُ معتل الْفَاء كالعدة أَصْلهَا: وعد، فَلَمَّا
حذفت الْوَاو تبعا لفعله عوضت عَنْهَا الْهَاء، فَقيل: هبة
وعدة، وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَة: إِيصَال الشَّيْء
للْغَيْر بِمَا يَنْفَعهُ، سَوَاء كَانَ مَالا أَو غير
مَال: يُقَال: وهبت لَهُ مَالا، ووهب الله فلَانا ولدا
صَالحا، وَيُقَال: وهبه مَالا أَيْضا، وَلَا يُقَال: وهب
مِنْهُ، وَيُسمى الْمَوْهُوب: هبة وموهبة، وَالْجمع: هبات
ومواهب، واتهبه مِنْهُ: إِذا قبله، واستوهبه إِيَّاه: إِذا
طلب الْهِبَة وَفِي الشَّرْع: الْهِبَة تمْلِيك المَال
بِلَا عوض، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْهِبَة تمْلِيك بِلَا
عوض، وتحتها أَنْوَاع: كالإبراء: وَهِي هبة الدّين مِمَّن
عَلَيْهِ، وَالصَّدَََقَة: وَهِي الْهِبَة لثواب
الْآخِرَة، والهدية: وَهِي مَا ينْقل إِلَى الْمَوْهُوب
مِنْهُ إِكْرَاما لَهُ. وَأخذ بَعضهم كَلَام الْكرْمَانِي
هَذَا، وَذكر التَّقْسِيم الْمَذْكُور بعد أَن قَالَ:
الْهِبَة تطلق بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ على أَنْوَاع، ثمَّ
قَالَ: وَتطلق الْهِبَة بِالْمَعْنَى الْأَخَص على مَا لَا
يقْصد لَهُ بدل، وَعَلِيهِ ينطبق قَول من عرف الْهِبَة
بِأَنَّهَا: تمْلِيك بِلَا عوض. انْتهى. قلت: تَقْسِيم
الْهِبَة إِلَى الْأَنْوَاع الْمَذْكُورَة لَيْسَ
بِالنّظرِ إِلَى مَعْنَاهَا الشَّرْعِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ
بِالنّظرِ إِلَى مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ، لِأَن الْأَنْوَاع
الْمَذْكُورَة إِنَّمَا تنطبق على الْمَعْنى اللّغَوِيّ
لَا الشَّرْعِيّ، فَافْهَم.
1 - (حَدثنَا عَاصِم بن عَليّ قَالَ حَدثنَا ابْن أبي
ذِئْب عَن المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي
الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ يَا نسَاء المسلمات لَا تحقرن جَارة
لجارتها وَلَو فرسن شَاة) مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ
أَن فِيهِ تحريضا على الْخَيْر إِلَى أحد وَلَو كَانَ
بِشَيْء حقير وَهُوَ دَاخل فِي معنى الْهِبَة من حَيْثُ
اللُّغَة. (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة على رِوَايَة
الْأصيلِيّ وكريمة وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين خَمْسَة
الأول عَاصِم بن عَليّ بن عَاصِم بن صُهَيْب أَبُو
الْحُسَيْن مولى قريبَة بنت مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَاتَ سنة إِحْدَى وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ الثَّانِي مُحَمَّد بن أبي ذِئْب هُوَ
مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب
واسْمه هِشَام الثَّالِث سعيد المَقْبُري الرَّابِع أَبوهُ
كيسَان الْخَامِس أَبُو هُرَيْرَة وكيسان سقط فِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ وَالصَّوَاب إثْبَاته وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ
رَوَاهُ عَن ابْن أبي ذِئْب يحيى الْقطَّان وَأَبُو معشر
عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة من غير ذكر أَبِيه وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي معشر عَن سعيد عَن أبي
هُرَيْرَة لم يقل عَن أَبِيه وَزَاد فِي أَوله " تهادوا
فَإِن الْهَدِيَّة تذْهب وحر الصَّدْر " وَقَالَ غَرِيب
وَأَبُو معشر يضعف وَقَالَ الطرقي أَنه أَخطَأ فِيهِ
حَيْثُ لم يقل عَن أَبِيه (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ
التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي
موضِعين وَفِيه أَن شَيْخه من أهل وَاسِط وَأَنه من
أَفْرَاده وَبَقِيَّة الروَاة مدنيون وَفِيه أَن أحدهم
مَذْكُور بنسبته إِلَى أحد أجداده كَمَا ذكرنَا وَالْآخر
مَذْكُور بنسبته إِلَى مَقْبرَة الْمَدِينَة لأجل سكناهُ
فِيهَا والْحَدِيث أخرجه مُسلم قَالَ حَدثنَا يحيى بن يحيى
قَالَ أخبرنَا اللَّيْث بن سعيد وَحدثنَا قُتَيْبَة بن
سعيد قَالَ حَدثنَا لَيْث عَن سعيد بن أبي سعيد عَن أَبِيه
عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُول " يَا نسَاء المسلمات
لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شَاة " (ذكر
مَعْنَاهُ) قَوْله " يَا نسَاء المسلمات " ذكر عِيَاض فِي
إعرابه ثَلَاثَة أوجه. أَصَحهَا وأشهرها نصب النِّسَاء وجر
المسلمات على الْإِضَافَة قَالَ الْبَاجِيّ وَبِهَذَا
روينَاهُ عَن جَمِيع شُيُوخنَا بالمشرق وَهُوَ من بَاب
إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه والموصوف إِلَى صفته والأعم
إِلَى الْأَخَص كمسجد الْجَامِع وجانب الغربي وَهُوَ عِنْد
الْكُوفِيّين جَائِز على ظَاهره وَعند الْبَصرِيين
(13/125)
يقدرُونَ فِيهِ محذوفا أَي مَسْجِد
الْمَكَان الْجَامِع وجانب الْمَكَان الغربي وَيقدر هُنَا
يَا نسَاء الْأَنْفس المسلمات أَو الْجَمَاعَات
الْمُؤْمِنَات وَقيل تَقْدِيره يَا فاضلات المسلمات كَمَا
يُقَال هَؤُلَاءِ رجال الْقَوْم أَي ساداتهم وأفاضلهم.
الْوَجْه الثَّانِي رفع النِّسَاء وَرفع المسلمات على معنى
النداء وَالصّفة أَي يَا أيتها النِّسَاء المسلمات قَالَ
الْبَاجِيّ كَذَا يرويهِ أهل بلدنا. الْوَجْه الثَّالِث
رفع النِّسَاء وَكسر التَّاء من المسلمات على أَنه
مَنْصُوب على الصّفة على الْموضع كَمَا يُقَال يَا زيد
الْعَاقِل بِرَفْع زيد وَنصب الْعَاقِل قَوْله " جَارة "
الجارة مؤنث الْجَار وَيُقَال للزَّوْجَة جَار لِأَنَّهَا
تجاور زَوجهَا فِي مَحل وَاحِد وَقيل الْعَرَب تكني عَن
الضرة بالجارة تطيرا من الضَّرَر وَمِنْه كَانَ ابْن
عَبَّاس ينَام بَين جَارِيَته قَوْله " لجارتها " ظَاهره
الْمَرْأَة الَّتِي تجاور الْمَرْأَة الَّتِي تسمى جَارة
مؤنث الْجَار وَقَالَ الْكرْمَانِي لجارتها مُتَعَلق
بِمَحْذُوف أَي لَا تحقرن جَارة هَدِيَّة مهداة لجارتها
بَالغ فِيهِ حَتَّى ذكر أَحْقَر الْأَشْيَاء من أبْغض
البغيضين إِذا حمل لفظ الجارة على الضرة وجارتها بالضمير
فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر لَا
تحقرن جَارة لجارة بِلَا ضمير قَوْله " وَلَو فرسن شَاة "
يَعْنِي وَلَو أَنَّهَا تهدي فرسن شَاة وَالْمرَاد مِنْهُ
الْمُبَالغَة فِي إهداء الشَّيْء الْيَسِير لَا حَقِيقَة
الفرسن لِأَنَّهُ لم تجر الْعَادة فِي المهاداة بِهِ
وَالْمَقْصُود أَنَّهَا تهدي بِحَسب الْمَوْجُود عِنْدهَا
وَلَا يستحقر لقلته لِأَن الْجُود بِحَسب الْمَوْجُود
والوجود خير من الْعَدَم هَذَا ظَاهر الْكَلَام وَيحْتَمل
أَن يكون النَّهْي وَاقعا للمهدى إِلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا
تحتقر مَا يهدى إِلَيْهَا وَلَو كَانَ حَقِيرًا والفرسن
بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَكسر السِّين
الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون قَالَ ابْن دُرَيْد هُوَ
ظَاهر الْخُف وَالْجمع فراسن وَفِي الْمُحكم هِيَ طرف خف
الْبَعِير انْتهى حَكَاهُ سِيبَوَيْهٍ فِي الثلاثي وَلَا
يُقَال فِي جمعه فرسنات كَمَا قَالُوا خناصر وَلم
يَقُولُوا خنصرات وَفِي الْمُخَصّص هُوَ عِنْد سِيبَوَيْهٍ
فعلن وَلم يحك فِي الْأَسْمَاء غَيره وَقَالَ أَبُو عبيد
السلَامِي عِظَام الْفرس كلهَا وَفِي الْجَامِع هُوَ من
الْبَعِير بِمَنْزِلَة الظفر من الْإِنْسَان وَفِي المغيث
هُوَ عظم قَلِيل اللَّحْم وَهُوَ للشاة وَالْبَعِير
بِمَنْزِلَة الْحَافِر للدابة وَقيل هُوَ خف الْبَعِير
وَفِي الصِّحَاح رُبمَا استعير للشاة وَقَالَ ابْن السراج
النُّون زَائِدَة وَقَالَ الْأَصْمَعِي الفرسن مَا دون
الرسغ من يَد الْبَعِير وَهِي مُؤَنّثَة. وَفِي الحَدِيث
الحض على التهادي وَلَو باليسير لما فِيهِ من استجلاب
الْمَوَدَّة وإذهاب الشحناء وَلما فِيهِ من التعاون على
أَمر الْمَعيشَة والهدية إِذا كَانَت يسيرَة فَهِيَ أدل
على الْمَوَدَّة وَأسْقط للمؤنة وأسهل على الْمهْدي لإطراح
التَّكْلِيف وَالْكثير قد لَا يَتَيَسَّر كل وَقت
والمواصلة باليسير تكون كالكثير
2 - (حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن عبد الله الأويسي قَالَ
حَدثنَا ابْن أبي حَازِم عَن أَبِيه عَن يزِيد بن رُومَان
عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا
قَالَت لعروة ابْن أُخْتِي إِن كُنَّا لنَنْظُر إِلَى
الْهلَال ثمَّ الْهلَال ثمَّ الْهلَال ثَلَاثَة أهلة فِي
شَهْرَيْن وَمَا أوقدت فِي أَبْيَات رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَار فَقلت يَا خَالَة مَا
كَانَ يعيشكم قَالَت الأسودان التَّمْر وَالْمَاء إِلَّا
أَنه قد كَانَ لرَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - جيران من الْأَنْصَار كَانَت لَهُم منائح
وَكَانُوا يمنحون رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - من ألبانهم فيسقينا) مطابقته للتَّرْجَمَة
تُؤْخَذ من قَوْله وَكَانُوا يمنحون رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ألبانهم وَذَلِكَ لأَنهم
كَانُوا يهْدُونَ إِلَى رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من ألبان منايحهم. وَفِي
الْهَدِيَّة معنى الْهِبَة على مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ.
(ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبد الْعَزِيز بن عبد
الله بن يحيى بن عَمْرو بن أويس بِضَم الْهمزَة وَفتح
الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين
مُهْملَة ونسبته إِلَيْهِ. الثَّانِي عبد الْعَزِيز بن أبي
حَازِم واسْمه سَلمَة بن دِينَار. الثَّالِث أَبوهُ سَلمَة
بن دِينَار. الرَّابِع يزِيد من الزِّيَادَة ابْن رُومَان
بِضَم الرَّاء أَبُو روح مولى آل الزبير بن الْعَوام.
الْخَامِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس
عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ
التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه العنعنة فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه أَن شَيْخه من أَفْرَاده
وَأَنه مَنْسُوب إِلَى أحد أجداده. وَفِيه أَن رُوَاته
كلهم مدنيون. وَفِيه رِوَايَة الرَّاوِي عَن خَالَته.
وَفِيه ثَلَاثَة
(13/126)
من التَّابِعين على نسق وَاحِد. الأول
أَبُو حَازِم سَلمَة. وَالثَّانِي يزِيد بن رُومَان.
وَالثَّالِث عُرْوَة. وَفِيه رِوَايَة الرَّاوِي عَن
أَبِيه والْحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن يحيى
بن يحيى. (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " ابْن أُخْتِي " يَعْنِي
يَا ابْن أُخْتِي وحرف النداء مَحْذُوف وَفِي رِوَايَة
مُسلم وَالله يَا ابْن أُخْتِي وَأم عُرْوَة أَسمَاء بنت
أبي بكر الصّديق وَهِي أُخْت عَائِشَة بنت أبي بكر رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم قَوْله " إِن كُنَّا " إِن هَذِه
مُخَفّفَة من أَن المثقلة فَتدخل على الجملتين فَإِن دخلت
على الاسمية جَازَ إعمالها خلافًا للكوفيين وَإِن دخلت على
الفعلية وَجب إهمالها وَالْأَكْثَر أَن يكون الْفِعْل
مَاضِيا نَاسِخا وَهَهُنَا كَذَلِك لِأَنَّهَا دخلت على
الْمَاضِي النَّاسِخ لِأَن كَانَ من النواسخ وَاللَّام فِي
لنَنْظُر عِنْد سِيبَوَيْهٍ والأكثرين لَام الِابْتِدَاء
دخلت لتوكيد النِّسْبَة وتخليص الْمُضَارع للْحَال وللفرق
بَين أَن المخففة من المثقلة وَأَن النافية وَلِهَذَا
صَارَت لَازِمَة بعد أَن كَانَت جَائِزَة وَزعم أَبُو
عَليّ وَأَبُو الْفَتْح وَجَمَاعَة أَنَّهَا لَام غير لَام
الِابْتِدَاء اجتلب للْفرق قَوْله " ثَلَاثَة أهلة "
بِالنّصب تَقْدِيره نرى ثَلَاثَة أهلة ونكملها فِي
شَهْرَيْن بِاعْتِبَار رُؤْيَة الْهلَال فِي أول الشَّهْر
الأول ثمَّ بِرُؤْيَتِهِ فِي أول الشَّهْر الثَّانِي ثمَّ
بِرُؤْيَتِهِ فِي أول الشَّهْر الثَّالِث فَيصدق عَلَيْهِ
ثَلَاثَة أهلة وَلَكِن الْمدَّة سِتُّونَ يَوْمًا وَفِي
الرقَاق من طَرِيق هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه بِلَفْظ
كَانَ يَأْتِي علينا الشَّهْر مَا نوقد فِيهِ نَارا وَفِي
رِوَايَة ابْن ماجة من طَرِيق أبي سَلمَة عَن عَائِشَة
بِلَفْظ لقد كَانَ يَأْتِي على آل مُحَمَّد الشَّهْر مَا
يرى فِي بَيت من بيوته الدُّخان قَوْله " وَمَا أوقدت "
على صِيغَة الْمَجْهُول من الإيقاد قَوْله " يَا خَالَة "
بِضَم التَّاء لِأَنَّهُ منادى مُفْرد قَوْله " مَا كَانَ
يعيشكم " بِضَم الْيَاء من أعاشه الله تَعَالَى عيشة
وَقَالَ النَّوَوِيّ بِفَتْح الْعين وَكسر الْيَاء
الْمُشَدّدَة قَالَ وَفِي بعض النّسخ الْمُعْتَمدَة
يَعْنِي فِي نسخ مُسلم فَمَا كَانَ يقيتكم من الْقُوت صرح
بذلك القونوي فِي مُخْتَصر شرح مُسلم وَقَالَ بَعضهم وَفِي
بعض النّسخ مَا يغنيكم بِسُكُون الْمُعْجَمَة بعْدهَا نون
مَكْسُورَة ثمَّ تَحْتَانِيَّة سَاكِنة انْتهى (قلت)
كَأَنَّهُ صحف عَلَيْهِ فَجعله من الاغناء وَلَيْسَ هُوَ
الْأَمْن الْقُوت فعلى قَوْله تكون هَذِه رِوَايَة
رَابِعَة فتحتاج إِلَى الْبَيَان قَوْله " الأسودان المَاء
وَالتَّمْر " وَهُوَ من بَاب التغليب إِذْ المَاء لَيْسَ
أسود وأطلقت عَائِشَة على التَّمْر أسود لِأَنَّهُ غَالب
تمر الْمَدِينَة وَقَالَ ابْن سيدة فسر أهل اللُّغَة
الأسودين بِالْمَاءِ وَالتَّمْر وَعِنْدِي أَنَّهَا
إِنَّمَا أَرَادَت الْحرَّة وَاللَّيْل قيل لَهما الأسودان
لاسودادهما وَذَلِكَ أَن وجود التَّمْر وَالْمَاء عِنْدهم
شبع ورى وخصب وَإِنَّمَا أَرَادَت عَائِشَة أَن تبالغ فِي
شدَّة الْحَال بِأَن لَا يكون مَعهَا إِلَّا اللَّيْل
والحرة وَهَذَا أذهب فِي سوء الْحَال من وجود التَّمْر
وَالْمَاء وَقيل الأسودان المَاء وَاللَّبن وضاف مرْثَد
الْمدنِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قوم فَقَالَ لَهُم
مالكم عندنَا إِلَّا الأسودان قَالُوا إِن فِي ذَلِك
لمقنعا المَاء وَالتَّمْر فَقَالَ مَا ذَلِك أردْت وَالله
إِنَّمَا أردْت الْحرَّة وَاللَّيْل (قلت) الْحرَّة
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء البقل
الَّذِي يُؤْكَل غير مطبوخ قَوْله " منائح " جمع منيحة
بِفَتْح الْمِيم وَكسر النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة وَهِي نَاقَة أَو شَاة
تعطيها غَيْرك ليحتلبها ثمَّ يردهَا عَلَيْك وَقد تكون
المنيحة عَطِيَّة للرقبة بمنافعها مُؤَبّدَة مثل الْهِبَة
وَقَالَ الْفراء منحته منيحة وَهِي النَّاقة وَالشَّاة
يُعْطِيهَا الرجل لآخر يحلبها ثمَّ يردهَا وَزعم بَعضهم
أَن المنيحة لَا تكون إِلَّا نَاقَة وَقَالَ أَبُو عبيد
المنيحة عِنْد الْعَرَب على وَجْهَيْن أَن يُعْطي الرجل
صَاحب صلَة فَيكون لَهُ وَأَن يمنحه نَاقَة أَو شَاة
ينْتَفع بحلبها ووبرها وصوفها زَمنا ثمَّ يردهَا وَقَالَ
إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ الْعَرَب تَقول منحتك النَّاقة
وأنحلتك الْوَبر وأعريتك النَّخْلَة وأعمرتك الدَّار
وَهَذِه كلهَا هبة مَنَافِع يعود بعْدهَا مثلهَا قَوْله "
يمنحون " من الْمنح وَهُوَ الْعَطاء يُقَال منحه يمنحه من
بَاب فَتحه يَفْتَحهُ ومنحه يمنحه من بَاب ضربه يضْربهُ
وَالِاسْم المنحة بِالْكَسْرِ وَهِي الْعَطِيَّة. وَفِي
الحَدِيث زهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - فِي الدُّنْيَا وَالصَّبْر على التقلل وَأخذ الْبلْغَة
من الْعَيْش وإيثار الْآخِرَة على الدُّنْيَا. وَفِيه
حجَّة لمن آثر الْفقر على الْغنى. وَفِيه أَن السّنة
مُشَاركَة الْوَاجِد المعدم
2 - (بابُ القَلِيلِ مِنَ الهِبَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْقَلِيل من الْهِبَة،
وَأَرَادَ بِهِ أَن المهدى إِلَيْهِ بِشَيْء قَلِيل لَا
يستقله وَلَا يردهُ لقلته.
(13/127)
8652 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ
أبِي عَدِيٍّ عنْ شُعْبَةَ عنْ سُلَيْمَانَ عنْ أبِي
حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لوْ دُعِيتُ إلَى
ذِرَاعٍ أوْ كُرَاعٍ لأجَبْتُ ولوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِراعٌ
أوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ.
(الحَدِيث 8652 طرفه فِي: 8715) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَلَو أهدي
إِلَيّ ذِرَاع أَو كرَاع لقبلت) وَذَلِكَ يدل على أَن
الْقَلِيل من الْهَدِيَّة جَائِز وَلَا يرد، والهدية فِي
معنى الْهِبَة من حَيْثُ اللُّغَة كَمَا ذكرنَا. وَابْن
أبي عدي هُوَ مُحَمَّد بن أبي عدي واسْمه إِبْرَاهِيم
الْبَصْرِيّ. وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش. وَأَبُو حَازِم
هُوَ سُلَيْمَان الْأَشْجَعِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده وَأخرجه فِي الْأَنْكِحَة
بِلَفْظ: لَأَجَبْت، وَلَو أهْدى إِلَيّ ذِرَاع لقبلت،
والكراع من حد الرسغ، وَهُوَ فِي الْبَقر وَالْغنم
بِمَنْزِلَة الوظيف فِي الْفرس وَالْبَعِير، وَهُوَ مستدق
السَّاق، يذكر وَيُؤَنث، وَادّعى ابْن التِّين أَن الكراع
من الدَّوَابّ مَا دون الكعب من غير الْإِنْسَان، وَمن
الْإِنْسَان مَا دون الرّكْبَة، وَعَن ابْن فَارس: كرَاع
كل شَيْء طرفه. وَقَالَ أَبُو عبيد: الأكارع قَوَائِم
الشَّاة، وأكارع الأَرْض أطرافها القاصية، شبه بأكارع
الشَّاة أَي: قَوَائِمهَا، وَقَالَ بَعضهم: قيل: الكراع
اسْم مَكَان. قلت: الَّذِي قَالَه هُوَ الْغَزالِيّ، ذكره
فِي (الْإِحْيَاء) بِلَفْظ: كرَاع الغميم، وَترد ذَلِك
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس مَرْفُوعا: لَو أهدي
إِلَيّ كرَاع لقبلته، ثمَّ صَححهُ وَادّعى صَاحب (التنقيب
على التَّهْذِيب) أَن سَبَب هَذَا الحَدِيث أَن أم حَكِيم
الْخُزَاعِيَّة قَالَت: يَا رَسُول الله! أتكره
الْهَدِيَّة؟ فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا أقبح
رد الْهَدِيَّة، لَو دعيت إِلَى كرَاع لَأَجَبْت، وَلَو
أهدي إِلَيّ ذِرَاع لقبلت. قلت: الحَدِيث رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيّ رَحمَه الله. وَقَالَ ابْن بطال: أَشَارَ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالْكُرَاعِ والفرسن
إِلَى الحض على قبُول الْهَدِيَّة، وَلَو قلَّت لِئَلَّا
يمْتَنع الْبَاعِث من المهاداة، لاحتقار المهدى إِلَيْهِ.
انْتهى. والذراع أفضل من الكراع، وَكَانَ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يحب أكله، وَلِهَذَا سمَّ فِيهِ،
وَإِنَّمَا كَانَ يُحِبهُ لِأَنَّهُ مبادي الشَّاة وَأبْعد
من الْأَذَى. |