عمدة القاري شرح صحيح البخاري

3 - (بابُ مَنِ اسْتَوْهَبَ مِنْ أصْحَابِهِ شَيْئاً)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من استوهب من أَصْحَابه شَيْئا، سَوَاء كَانَ عينا أَو مَنْفَعَة. وَالْجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره: جَازَ، بِغَيْر كَرَاهَة إِذا كَانَ يعلم طيب خاطرهم.
وَقَالَ أَبُو سَعيدٍ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْماً

هَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي الرّقية، أخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا بِتَمَامِهِ فِي كتاب الْإِجَارَة فِي: بَاب مَا يعْطى فِي الرّقية، بِفَاتِحَة الْكتاب.

9652 - حدَّثنا ابنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حدَّثني أَبُو حازِمٍ عنْ سَهْلٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسَلَ إِلَى امْرَأةٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ وكانَ لَهَا غُلامٌ نَجَّارٌ قَالَ لَهَا مُرِي عَبْدَكِ فَلْيَعْمَلْ لَنا أعْوَادَ المِنْبَرِ فأمَرَتْ عَبْدَهَا فذَهَبَ فَقَطَعَ مِنَ الطَّرْفَاءِ فصَنَعَ لَهُ مِنْبَراً فلَمَّا قَضاهُ أرْسَلَتْ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَدْ قَضَاهُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسِلِي بِهِ إلَيَّ فَجاؤا بِهِ فاحْتَمَلَهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوَضَعَهُ حيْثُ تَرَوْنَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرسل إِلَى امْرَأَة) إِلَى آخِره فَإِن إرْسَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا وَقَوله لَهَا بِأَن تَأمر غلامها يعْمل أَعْوَاد الْمِنْبَر استيهاب فِيهِ من الْمَرْأَة.
وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الجُمَحِي الْمصْرِيّ، وَأَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة وبالنون: واسْمه مُحَمَّد بن مطرف اللَّيْثِيّ، وَأَبُو حَازِم سَلمَة ابْن دِينَار وَسَهل بن سعد الْأنْصَارِيّ السَّاعِدِيّ.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْجُمُعَة فِي بَاب الْخطْبَة على الْمِنْبَر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (أرسل إِلَى امْرَأَة من الْأَنْصَار) ، وَفِي كثير من النّسخ: إِلَى امْرَأَة من الْمُهَاجِرين، وَقَالَ

(13/128)


ابْن التِّين: أَكثر الرِّوَايَات أَنَّهَا من الْأَنْصَار، ولعلها كَانَت هَاجَرت وَهِي مَعَ ذَلِك أنصارية الأَصْل، وَفِي أصل ابْن بطال أَيْضا من الْأَنْصَار. قَوْله: (فليعمل أَعْوَاد) أَي: ليفعل لنا فعلا فِي أَعْوَاد من نجر وتسوية وخرط يكون مِنْهَا مِنْبَر. قَوْله: (فَلَمَّا قَضَاهُ) ، أَي: صنعه وأحكمه، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْعبارَة عَمَّا يعالج من الْأَشْيَاء ويعتمل تقع بِثَلَاثَة أَلْفَاظ هِيَ: الْفِعْل والصنع والجعل، وأجمعها فِي الْمَعْنى: الْفِعْل، وأوسعها فِي الِاسْتِعْمَال: الْجعل، وأخصها فِي التَّرْتِيب: الصنع. تَقول: فعل فلَان خيرا، وَفعل شرا، وَلَفظ الْجعل يسترسل على الْأَعْيَان وَالصِّفَات، وَلَفظ الصنع يسْتَعْمل غَالِبا فِيمَا يدْخلهُ التَّدْبِير.

0752 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ عنْ أبيهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كُنْتُ يَوْماً جالِساً مَعَ رِجالٍ منْ أصْحابِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَنْزِلٍ فِي طَريقِ مَكَّةَ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نازِلٌ أمامَنا والقَوْمُ مُحْرِمُونَ وأنَا غَيرْرُ مُحْرِمٍ فأبْصَرُوا حِمَاراً وحْشياً وَأَنا مَشْغُولٌ أخْصِفُ نعلِي فَلَمْ يُؤْذُونِي بِهِ وأحَبُّو لوْ أنِّي أبْصَرْتُهُ فالْتَفَتُّ فأبْصَرْتُهُ فقُمْتُ إلاى الفَرَسِ فأسْرَجْتُهُ ثُمَّ رَكِبْتُ ونَسِيتُ السَّوْطَ والرُّمْحَ فَقُلْتُ لَهُمْ ناوِلُونِي السَّوْطَ والرُّمْحَ فَقَالُوا لَا وَالله لَا نُعِينُكَ علَيْهِ بِشَيْءٍ فغَضِبْتُ فنَزَلْتُ فأخَذْتُهُما ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ علَى الحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وقدْ ماتَ فَوَقَعُوا فِيهِ يأكُلُونَهُ ثُمَّ إنَّهُمْ شَكُّوا فِي أكْلِهِمْ إيَّاهُ وهُمْ حُرُمٌ فرُحْنَا وخَبَاتُ العَضُدَ مَعي فأدْرَكْنا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَألْناهُ عنْ ذالِكَ فَقال معَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ فقُلْتُ نَعَمْ فَنَاوَلْتُهُ العَضُدَ فأكَلَهَا حتَّى نَفَّدَهَا وهْوَ مُحْرِمٌ فحدَّثنِي بِهِ زيْدُ بنُ أسْلَمَ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عنْ أبِي قَتادَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَقَالَ: مَعكُمْ شَيْء؟) فَإِنَّهُ فِي معنى الاستيهاب من الْأَصْحَاب، قَالَ ابْن بطال: استيهاب الصَّيْد حسن إِذا علم أَن نَفسه تطيب بِهِ، وَإِنَّمَا طلب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أبي سعيد، وَكَذَا من أبي قَتَادَة وَغَيرهم ليؤنسهم بِهِ وَيرْفَع عَنْهُم اللّبْس فِي توقفهم فِي جَوَاز ذَلِك، وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمَدِينِيّ، وَقد تكَرر ذكره، وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن أبي كثير الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَأَبُو حَازِم هُوَ سَلمَة بن دِينَار وَأَبُو قَتَادَة اسْمه الْحَارِث السّلمِيّ، بِفَتْح السِّين وَاللَّام الْأنْصَارِيّ الخزرجي.
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب إِذا صَاد الْحَلَال فأهدى للْمحرمِ الصَّيْد فَأَكله، وَمضى أَيْضا فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب عَقِيبه، كلهَا مُتَوَالِيَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (وَرَسُول الله) ، الْوَاو، فِيهِ وَالْوَاو فِي: وَالْقَوْم، وَالْوَاو فِي: أَنا غير محرم، كلهَا للْحَال. قَوْله: (وَأَنا مَشْغُول أخصف نَعْلي) جملَة حَالية أَيْضا، وَمعنى: أخصف؛ أخرز. قَالَ تَعَالَى: {وطفقا يخصفان} (الْأَعْرَاف: 22، وطه: 121) . أَي: يلزقا الْبَعْض بِالْبَعْضِ. قَوْله: (فعقرته) من الْعقر وَهُوَ الْجرْح، وَلَكِن المُرَاد هَهُنَا عقره عقراً شَدِيدا حَتَّى مَاتَ مِنْهُ. قَوْله: (ثمَّ جِئْت بِهِ) ، أَي: بالحمار الْمَذْكُور. قَوْله: (وهم حرم) ، جملَة حَالية. قَوْله: (حَتَّى نفدها) ، بتَشْديد الْفَاء وبإهمال الدَّال: يُرِيد أكلهَا حَتَّى أَتَى عَلَيْهَا، يُقَال: نفد الشَّيْء إِذا فني، وَرُوِيَ بِكَسْر الْفَاء المخففة، ورده ابْن التِّين. قَوْله: (فَحَدثني بِهِ) ، قَائِل هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر الرَّاوِي عَن أبي حَازِم، أَي: حَدثنِي بِهَذَا الحَدِيث زيد ابْن أسلم أَبُو أُسَامَة أَيْضا عَن عَطاء بن يسَار ضد الْيَمين أبي مُحَمَّد الْهِلَالِي مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي قَتَادَة الْمَذْكُور عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

4 - (بابُ مَنِ اسْتَسْقى)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من استسقى ماءاً ولبناً وَغَيرهمَا، وَجَوَابه مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا حكمه؟ وَحكمه: يجوز لَهُ ذَلِك مِمَّا تطيب بِهِ نفس الْمَطْلُوب مِنْهُ.

(13/129)


وَقَالَ سَهْلٌ قالَ لِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْقِني

سهل هُوَ ابْن سعد الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث أَوله: ذكر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْرَأَة من الْعَرَب، فَأمر أسيد أَن يُرْسل إِلَيْهَا ... الحَدِيث، وَفِيه: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إسقنا يَا سهل.

5 - (بابُ قُبُولِ هَدِيَّةِ الصَّيْدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز قبُول هَدِيَّة الصَّيْد، أَي: هَدِيَّة صائد الصَّيْد، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يهدي، وَالصَّيْد نَفسه لَا يَهْدِي، بِكَسْر الدَّال، بل يُهدَى، بِفَتْحِهَا.
وقَبِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ أبِي قَتادَةَ عضُدَ الصَّيْدِ

هَذَا التَّعْلِيق ذكره مَوْصُولا فِي: بَاب من استوهب من أَصْحَابه شَيْئا، قبل الْبَاب السَّابِق.

2752 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ هِشامِ بنِ زَيْدِ بنِ أنَسِ بنِ مالِكٍ عنْ أنَس رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أنْفجْنا أرْنَباً بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَسَعى القَوْمُ فلَغَبُوا فأدْرَكْتُها فأخَذْتُهَا فأتَيْتُ بِهَا

(13/130)


أبَا طَلْحةَ فَذَبَحَها وبَعَثَ بِهَا إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَرِكِها أوْ فَخِذَيهَا قَالَ فَخِذَيْها لَا شَكَّ فيهِ فقَبِلَهُ قُلْتُ وأكَلَ مِنْهُ قَالَ وأكلَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ قَبِلَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَقبله) وَهُوَ ظَاهر.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الذَّبَائِح عَن أبي الْوَلِيد وَعَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان. وَأخرجه مُسلم فِي الذَّبَائِح عَن أبي مُوسَى وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن يحيى بن حبيب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وأوله: كنت غُلَاما حزوراً قصدت أرنباً. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد عَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (انفجنا) ، بالنُّون وَالْفَاء وَالْجِيم، أَي: أثرناه من مَكَانَهُ، قَالَ الْجَوْهَرِي: نفج الأرنب إِذا ثار، وأنفجته أَنا، والإنفاج الإثارة، يُقَال: أنفجت الأرنب فِي جُحْره أَي: أثرته فثار، وَأَصله من: أنفجت الأرنب إِذا وَثَبت فوسعت الخطوة. قَالَ الْخَلِيل: نفج اليربوع ينفج وينفج نفوجاً، وينتفج، وَهُوَ أَرْجَى عدوه، والأرنب حَيَوَان مَعْرُوف، وَكَلَام الْجَوْهَرِي يَقْتَضِي أَنه مُذَكّر، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا ثار، وَلم يقل: ثارت. وَكَذَا قَالَ فِي بَاب الْبَاء: الأرنب، وَاحِد الأرانب، وَلم يقل: وَاحِدَة الأرانب. وَالَّذِي فِي حَدِيث الْبَاب يَقْتَضِي تأنيثه، وَهِي الضمائر الَّتِي فِي (أدركتها) إِلَى آخِره، وَهَكَذَا ذكره بعض أهل اللُّغَة بِأَنَّهُ مُؤَنّثَة، وَالصَّحِيح أَنه يكون للمذكر وَالْأُنْثَى، وَبِه صدر كَلَامه صَاحب (الْمُحكم) . ثمَّ قَالَ: والأرنب الْأُنْثَى والخزر الذّكر. وَقَالَ الْجَوْهَرِي فِي بَاب الزَّاي: الخزز ذكر الأرانب، وَالْجمع: خزان، مثل صرد وصردان. قَوْله: (بمر الظهْرَان) ، الْبَاء فِيهِ تتَعَلَّق: بأنفجنا، وَمر الظهْرَان، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء وَفتح الظَّاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْهَاء، قَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ مَوضِع قريب من مَكَّة. انْتهى. وَهُوَ الَّذِي يعرف الْيَوْم: بِبَطن مر، قَالَ الْجَوْهَرِي: وبطن مر، مَوضِع، وَهُوَ من مَكَّة على مرحلة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَمر، بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: قَرْيَة ذَات نخل وَزرع، والظهران، بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْهَاء وبالراء وَالنُّون: اسْم للوادي، وَهُوَ على خَمْسَة أَمْيَال من مَكَّة إِلَى جِهَة الْمَدِينَة. وَقَالَ الْبكْرِيّ: مر مُضَاف إِلَى: الظهْرَان، وَبَينه وَبَين الْبَيْت سِتَّة عشر ميلًا. وَقَالَ سعيد ابْن الْمسيب: كَانَت منَازِل عك مر الظهْرَان، وببطن مر تخزعت خُزَاعَة عَن أخواتها فَبَقيت بِمَكَّة، وسارت أخوتها إِلَى الشَّام أَيَّام سيل العرم. وَقَالَ كثير عزة: سميت مر لمرارة مَائِهَا. قَوْله: (فلغبوا) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسرهَا وبالفتح أشهر، وَمَعْنَاهُ: تعبوا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة: فتعبوا، من التَّعَب وَهُوَ الإعياء. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: تَقول الْعَرَب: لغبت ألغب لغوباً: أعييت. وَقَالَ الدَّاودِيّ: لغبوا عطشوا، وَقَالَ ابْن التِّين: وَلم يذكرهُ غَيره. قَوْله: (أَبَا طَلْحَة) ، هُوَ زوج أم أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَاسْمهَا: أم سليم. قَوْله: (بوركها) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الرَّاء، وبكسر الْوَاو وَإِسْكَان الرَّاء: هُوَ مَا فَوق الْفَخْذ، وَهُوَ بِكَسْر الْخَاء وسكونها. قَوْله: (أَو فخذيها) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (قَالَ فخذيها لَا شكّ فِيهِ) ، وفاعل: قَالَ، هُوَ: شُعْبَة، لِأَن ابْن بطال قَالَ: شُعْبَة فخذيها لَا شكّ فِيهِ، ثمَّ قَالَ: فِيهِ دَلِيل على أَن شُعْبَة شكّ فِي الفخذين أَولا ثمَّ استيقن، وَكَذَلِكَ شكّ أخيراً فِي الْأكل فَأوقف حَدِيثه على الْقبُول. قلت: يُشِير بِهَذَا إِلَى أَنه لَا يشك فِي فخذيها، وَإِنَّمَا الشَّك بَين الْوَرِكَيْنِ والفخذين. قَوْله: (ثمَّ قَالَ بعد قبله) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه شكّ فِي أكله وَلم يشك فِي قبُوله، وَفِي (التَّوْضِيح) : شُعْبَة شكّ فِي الفخذين أَولا ثمَّ استيقن، وَكَذَلِكَ شكّ أخيراً فِي الْأكل. قلت: وَلم يشك فِي الْقبُول.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: إِبَاحَة السَّعْي لطلب الصَّيْد. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (من تبع الصَّيْد غفل) . قلت: المُرَاد بِهِ: من تَمَادى بِهِ طلب الصَّيْد إِلَى أَن فَاتَتْهُ الصَّلَاة أَو غَيرهَا من مصَالح دينه ودنياه. وَفِيه: أَنه إِذا طلب جمَاعَة الصَّيْد فأدركه بَعضهم وَأَخذه يكون ملكا لَهُ، وَلَا يُشَارِكهُ فِيهِ من شَاركهُ فِي طلبه، وَفِيه فِي لفظ التِّرْمِذِيّ وَغَيره: (فذبحها بمروة) ، صِحَة الذّبْح بالمروة وَنَحْوهَا إِذا كَانَ لَهَا حد يذكى بِهِ الصَّيْد، فَإِن قَتله بثقله لم يحل. وَفِيه: أَنه لَا بَأْس بإهداء الصاحب لصَاحبه الشَّيْء الْيَسِير، وَإِن كَانَ المهدى إِلَيْهِ عَظِيما، إِذا علم من حَاله محبَّة ذَلِك مِنْهُ. وَفِيه: الْأَخْبَار عَمَّن أهْدى إِلَيْهِ شَيْء مِمَّا يُؤْكَل فَقبله، أَنه أكله، كَمَا فعل أنس. وَفِيه: إِبَاحَة أكل الأرنب، وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وكافة الْعلمَاء إلاَّ مَا حُكيَ عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَعِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس: أَنهم كَرهُوا

(13/131)


أكلهَا.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد كره بعض أهل الْعلم أكل الأرنب، وَقَالُوا: إِنَّهَا تدمى. انْتهى. قلت: رِوَايَة عَن أَصْحَابنَا كَرَاهَة إكله، وَالأَصَح قَول الْعَامَّة. وَورد فِي إِبَاحَته أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: حَدِيث جَابر بن عبد الله، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ: (أَن غُلَاما من قومه صَار أرنباً فذبحها بمروة، فعلقها، فَسَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن أكلهَا، فَأمره بأكلها. وَمِنْهَا: حَدِيث عمار بن يَاسر، رَوَاهُ أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة ابْن الحوتكية: أَن رجلا سَأَلَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن الأرنب؟ فَأرْسل إِلَى عمار، فَقَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونزلنا فِي مَوضِع كَذَا وَكَذَا، فأهدى لَهُ رجل من الْأَعْرَاب أرنباً فأكلناها، فَقَالَ الْأَعرَابِي: إِنِّي رَأَيْت دَمًا. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا بَأْس) . وَحَدِيث مُحَمَّد بن صَفْوَان رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة الشّعبِيّ عَنهُ: أَنه مر على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأرنبين فعلقهما، فَقَالَ: يَا رَسُول الله {إِنِّي أصبت هذَيْن الأرنبين فَلم أجد حَدِيدَة أذكيهما بهَا، فذكيتهما بمروة، أَفَآكُل؟ قَالَ: (كُلْ) ، لفظ ابْن مَاجَه رَحمَه الله. وَحَدِيث مُحَمَّد بن صَيْفِي، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من رِوَايَة الشّعبِيّ عَنهُ، قَالَ: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأرنبين فذبحتهما بمروة، فَأمرنِي بأكلهما) . وَحَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (المعجم الْكَبِير) من رِوَايَة أبي أُمَامَة بن سهل بن حنيف، قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس: يَقُول: (أهديت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرنباً وَعَائِشَة نَائِمَة، فَرفع لَهَا مِنْهَا الْفَخْذ فَلَمَّا انْتَبَهت أَعْطَاهَا إِيَّاه فأكلته. وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد عَن خَالِد عَن أَبِيه خَالِد بن الْحُوَيْرِث: (أَن عبد الله بن عَمْرو كَانَ بالصفاح قَالَ مُحَمَّد: مَكَان بِمَكَّة وَأَن رجلا جَاءَ بأرنب قد صادها، فَقَالَ: يَا عبد الله بن عَمْرو} مَا تَقول؟ قَالَ: قد جِيءَ بهَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا جَالس، فَلم يأكلها وَلم ينْه عَن أكلهَا، وَزعم أَنَّهَا تحيض. وَحَدِيث عمر وَأبي الدَّرْدَاء وَأبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنه) من رِوَايَة حَكِيم بن جُبَير عَن مُوسَى بن طَلْحَة قَالَ عمر لأبي ذَر وعمار وَأبي الدَّرْدَاء: (أتذكرون يَوْم كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمَكَان كَذَا وَكَذَا فَأَتَاهُ أَعْرَابِي بأرنب؟ فَقَالَ: يَا رَسُول الله {إِنِّي رَأَيْت بهَا دَمًا، فَأمرنَا بأكلها وَلم يَأْكُل، قَالُوا: نعم) الحَدِيث. وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: (جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأرنب قد شواها، فَلم يَأْكُل، وَأمر الْقَوْم أَن يَأْكُلُوا) الحَدِيث. وَحَدِيث خُزَيْمَة ابْن جُزْء، رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله} جِئْت لأسألك عَن أَجنَاس الأَرْض، وَفِيه: قلت يَا رَسُول الله {مَا تَقول فِي الأرنب؟ قَالَ: لَا آكله وَلَا أحرمهُ. قلت: فَإِنِّي آكل مَا لم يحرم، ولِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: تبينت أَنَّهَا تدمي) . وَحَدِيث عبد الله ابْن معقل، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَنهُ أَنه: (سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر حَدِيثا، قلت: يَا رَسُول الله} مَا تَقول فِي الأرنب؟ قَالَ: لَا آكلها وَلَا أحرمهَا.

6 - (بَاب قبُول الهديَّة)

3752 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ ابنِ مَسْعُودٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ عنِ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَة رَضِي الله تَعَالَى عنهُم أنَّهُ أهْداى لرسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِمَاراً وحْشياً وهْوَ بالأبْواءِ أوْ بَودَّانَ فَردَّ عليْهِ فلَمَّا رأى مَا فِي وجْهِهِ قَالَ أمَا إنَّا لَمْ نرُدُّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أنَّا حُرُمٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَنه أهدي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقَالَ بَعضهم: وَشَاهد التَّرْجَمَة مِنْهُ مَفْهُوم. قَوْله: (لم نرده عَلَيْك إلاَّ إِنَّا حرم) ، فَإِن مَفْهُومه أَنه لَو لم يكن محرما لقبله مِنْهُ. انْتهى. قلت: الَّذِي ذكرته أوجه، لِأَن التَّرْجَمَة فِي قبُول هَدِيَّة الصَّيْد، وَالْقَبُول لَا يكون إلاَّ بعد الإهداء، ورد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا لم يكن ... إلاَّ لأجل كَونه محرما، لَا لأجل أَنه لم يجوز قبُولهَا أصلا. نعم هَذَا الَّذِي ذكره رُبمَا يمشي على رِوَايَة أبي ذَر. فَأن عِنْده على رَأس هَذَا الحَدِيث: بَاب قبُول الْهَدِيَّة، وَلَيْسَ هَذَا فِي رِوَايَة البَاقِينَ وَهُوَ الصَّوَاب، وَهَذَا الحَدِيث مر فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب إِذا أهْدى للْمحرمِ حمارا وحشياً حَيا لم يقبل، بِعَين هَذَا الْمَتْن والإسناد، غير أَن هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف، وَهنا: عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. وَالله أعلم.
قَوْله: (بالأبواء) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد: اسْم مَكَان بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. قَوْله: (أَو بودَّان) ، شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد

(13/132)


الدَّال وبالنون: وَهُوَ أَيْضا اسْم مَكَان بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. قَوْله: (إِنَّا لم نرده) ، يجوز فِيهِ فك الْإِدْغَام والإدغام بِفَتْح الدَّال وَضمّهَا، وَإِنَّمَا قبل الصَّيْد من أبي قَتَادَة ورده على الصعب، مَعَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي الْحَالين محرما، لِأَن الْمحرم لَا يملك الصَّيْد وَيملك مَذْبُوح الْحَلَال لِأَنَّهُ كقطعة لحم لم يبْق فِي حكم الصَّيْد.

7 - (بابُ قَبولِ الهَدِيَّةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قبُول الْهَدِيَّة، هَذَا هَكَذَا ثَبت فِي رِوَايَة أبي ذَر، قَالَ بَعضهم: هُوَ تكْرَار بِغَيْر فَائِدَة. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن الْبَاب الَّذِي ثَبت فِي رِوَايَة أبي ذَر على رَأس حَدِيث الصعب بن جثامة، وَهُوَ هَدِيَّة الصَّيْد خَاصَّة، وَهَذَا الْبَاب أَعم من أَن تكون هَدِيَّة الصَّيْد أَو هَدِيَّة غَيره من الْأَشْيَاء الَّتِي تهدى، وَوَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بَاب من قبل الْهَدِيَّة.

4752 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوساى قَالَ حَدثنَا عَبدَةُ قَالَ حدَّثنا هِشامٌ عَنْ أبيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النَّاسَ كانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَداياهُمْ يَوْمَ عائِشَةَ يَبْتَغُونَ بِها أوْ يَبْتَغُونَ بِذالِكَ مَرْضَاةَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَهُوَ وَاضح لمن لَهُ تَأمل وَحسن نظر.
وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد الْفراء الرَّازِيّ، يعرف بالصغير وَعَبدَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن سُلَيْمَان، مر فِي الصَّلَاة. وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة عَن عَائِشَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي كريب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (كَانُوا يتحرون) ، من التَّحَرِّي وَهُوَ الْقَصْد وَالِاجْتِهَاد فِي الطّلب والعزم على تَخْصِيص الشَّيْء بِالْفِعْلِ وَالْقَوْل. قَوْله: (يَوْم عَائِشَة) ، يَعْنِي: يَوْم نوبتها. قَوْله: (يَبْتَغُونَ) ، جملَة حَالية، أَي: يطْلبُونَ من: البغية، وَهُوَ الطّلب. ويروى: (يتبعُون) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق الْمُشَدّدَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة: من الإتباع. قَوْله: (بذلك) أَي: بتحرِّيهم بهداياهم يَوْم عَائِشَة، يَعْنِي: يَوْم يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد عَائِشَة فِي يَوْم نوبتها. قَوْله: (مرضاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِفَتْح الْمِيم، مصدر ميمي بِمَعْنى: الرِّضَا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: جَوَاز تحري الْهِدَايَة ابْتِغَاء مرضاة المهدى إِلَيْهِ. وَفِيه: الدّلَالَة على فضل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.

5752 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا جعْفَرُ بنُ إيَاسٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعيدَ بنَ جبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ خالَةُ ابنِ عَبَّاسٍ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقِطاً وسَمْناً وأضُبّاً فَأكل النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ الأقِطِ والسَّمْنِ وتَرَكَ الضَّبَّ تَقَذُّرَاً قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ فأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَوْ كانَ حَرَاماً مَا أُكِلَ عَلى مائِدَةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأكل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الأقط وَالسمن) وَأكله دَلِيل على قبُول هَدِيَّة أم حفيد، وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس عبد الرَّحْمَن، أَصله من خُرَاسَان، سكن عسقلان، وَهُوَ من أَفْرَاده، وجعفر بن إِيَاس، بِكَسْر الْهمزَة وتحفيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة: الْمَشْهُور بِابْن أبي وحشية ضد الأنسية مر فِي الْعلم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن مُسلم، وَفِيه عَن أبي النُّعْمَان وَفِي الِاعْتِصَام عَن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي الذَّبَائِح عَن بنْدَار وَأبي بكر ابْن نَافِع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن حَفْص بن عَمْرو. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد وَفِي الْوَلِيمَة عَن زِيَاد بن أَيُّوب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أم حفيد) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: وَاسْمهَا هزيلة مصغر: هزلة، بالزاي وَهِي أُخْت مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ، وَكَانَت تسكن الْبَادِيَة. قَوْله: (أقطاً) ، بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْقَاف بعْدهَا طاء مُهْملَة، وَهُوَ لبن يَابِس مجفف مستحجر يطْبخ بِهِ. قَوْله: (وأضباً) ، جمع: ضَب، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، مثل: فلس وأفلس. وَفِي (الْمُحكم) : الضَّب دويبة وَالْجمع: ضباب وأضب، ومضبة على وزن مفعلة كَمَا قَالُوا

(13/133)


للشيوخ: مشيخة، وَفِي الْمثل: أعق من الضَّب، لِأَنَّهُ رُبمَا أكل حسو لَهُ، وَالْأُنْثَى ضبة، والضب لَا يشرب مَاء. قَوْله: (فَأكل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: فَأكل الضَّب. قَوْله: (على مائدة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي الْقَصعَة والمنديل وَنَحْوهمَا، لِأَن أنسا قَالَ: مَا أكل على خوان، وأصل الْمَائِدَة من الميد، وَهُوَ الْعَطاء، يُقَال: مادني يميدني، وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ فاعلة بِمَعْنى مفعولة من الْعَطاء، وَقَالَ الزّجاج، هُوَ عِنْدِي من: ماد يميد إِذا تحرّك. وَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ من ماد يميد إِذا أطْعم، قَالَ: والخوان مِمَّا يُقَال: إِنَّه إسم أعجمي، غير أَنِّي سَمِعت إِبْرَاهِيم بن عَليّ الْقطَّان يَقُول: سُئِلَ ثَعْلَب، وَأَنا أسمع: أَيجوزُ أَن يُقَال: إِن الخوان سمي بذلك لِأَنَّهُ يتخون مَا عَلَيْهِ أَي: ينتقص بِهِ؟ فَقَالَ: مَا يبعد ذَلِك. قَوْله: (تقذراً) ، نصب على التَّعْلِيل، أَي: لأجل التقذر، يُقَال: قذرت الشَّيْء وتقذرته واستقذرته: إِذا كرهته.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الإهداء وَقبُول الْهَدِيَّة. وَفِيه: من احْتج بقول ابْن عَبَّاس على جَوَاز أكل الضَّب لِأَنَّهُ قَالَ: لَو كَانَ حَرَامًا مَا أكل على مائدة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم! قَالَت الشَّافِعِيَّة: وَهُوَ احتجاج حسن، وَهُوَ قَول الْفُقَهَاء كَافَّة، وَنَصّ عَلَيْهِ مَالك فِي (الْمُدَوَّنَة) وَعنهُ رِوَايَة بِالْمَنْعِ، وَقد روى مَالك فِي حَدِيث الضَّب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر ابْن عَبَّاس وخَالِد بن الْوَلِيد بِأَكْلِهِ فِي بَيت مَيْمُونَة، وَقَالا لَهُ: ولِمَ لَا تَأْكُل يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ: (إِنِّي يحضرني من الله حَاضِرَة) ، يَعْنِي الْمَلَائِكَة الَّذين يُنَاجِيهِمْ، ورائحة الضَّب ثَقيلَة، فَلذَلِك تقذره خشيَة أَن تؤذي الْمَلَائِكَة بريحه. وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّه يجوز للْإنْسَان أَن يتقذر مَا لَيْسَ بِحرَام عَلَيْهِ لقلَّة عَادَته بِأَكْلِهِ أَو لوهمه. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : يكره أكل الضَّب لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حِين سَأَلته عَن أكله. قلت: هَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن عَن الْأسود عَن عَائِشَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهدي لَهُ ضَب فَلم يَأْكُلهُ، فَسَأَلته عَن أكله فنهاني، فَجَاءَنِي سَائل على الْبَاب فَأَرَادَتْ عَائِشَة أَن تعطيه، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا لَا تأكليه؟ وَالنَّهْي يدل على التَّحْرِيم، وَرُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل، أخرجه أَبُو دادو فِي الْأَطْعِمَة عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن ضَمْضَم بن زرْعَة عَن سريح بن عبيد عَن أبي رَاشد الحبراني عَن عبد الرَّحْمَن بن شبْل: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن أكل لحم الضَّب. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد ابْن عَيَّاش وَلَيْسَ بِحجَّة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذِرِيّ: إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش وضمضم فيهمَا مقَال، وَقَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ إِسْنَاده بِذَاكَ. قلت: ضَمْضَم حمصي

وَابْن عَيَّاش إِذا روى عَن الشاميين كَانَ حَدِيثه صَحِيحا، كَذَا قَالَ البُخَارِيّ وَيحيى بن معِين وَغَيرهمَا، وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي: بَاب ترك الْوضُوء من الدَّم فِي (سنَنه) ، وَكَيف يَقُول هُنَا: وَلَيْسَ بِحجَّة؟ وَلما أخرج أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث سكت عَنهُ، وَهُوَ حسن صَحِيح عِنْده، وَقد صحّح التِّرْمِذِيّ لِابْنِ عَيَّاش عَن شُرَحْبِيل بن مُسلم عَن أبي أُمَامَة، وشرحبيل شَامي، وروى الطَّحَاوِيّ فِي (شرح الْآثَار) مُسْندًا إِلَى عبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة، قَالَ: نزلنَا أَرضًا كَثِيرَة الضباب فأصابتنا مجاعَة، فطبخنا مِنْهَا وَإِن الْقُدُور لتغلي بهَا إِذْ جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا: ضباب أصبناها. وَقَالَ: إِن أمة من بني إِسْرَائِيل مسخت دَوَاب فِي الأَرْض إِنِّي أخْشَى أَن تكون هَذِه، فأكفؤها. وَقَالَ أَصْحَابنَا: الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت بِإِبَاحَة أكل الضَّب مَنْسُوخَة بأحاديثنا، وَوجه هَذَا النّسخ بِدلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن يكون أحد النصين مُوجبا للحظر وَالْآخر مُوجبا للْإِبَاحَة مثل مَا نَحن فِيهِ، والتعارض ثَابت من حَيْثُ الظَّاهِر، ثمَّ يَنْتَفِي ذَلِك بالمصير إِلَى دلَالَة التَّارِيخ، وَهُوَ أَن النَّص الْمُوجب للحظر يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمُوجب للْإِبَاحَة فَكَانَ الْأَخْذ بِهِ أولى، وَلَا يُمكن جعل الْمُوجب للْإِبَاحَة مُتَأَخِّرًا، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ إِثْبَات النّسخ مرَّتَيْنِ، فَافْهَم.

6752 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا مَعْنٌ قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانِ عنْ مُحَمَّدِ ابنِ زِيادٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أُتِيَ بِطَعامٍ سألَ عنُ أهَدِيَّةٌ أمْ صَدَقَةٌ فإنْ قِيلَ صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا ولَمْ يَأكُلْ وإنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأكَلَ مَعَهُمْ.

(13/134)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِن قيل هَدِيَّة) إِلَى آخِره، لِأَن أكله مَعَهم يدل على قبُول الْهَدِيَّة، وَرِجَاله كلهم قد ذكرُوا، ومعن هُوَ ابْن عِيسَى بن يحيى الْقَزاز الْمدنِي. قَوْله: (إِذْ أُتِي بِطَعَام) ، زَاد أَحْمد وَابْن حبَان من طَرِيق ابْن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد: من غير أَهله. قَوْله: (ضرب بِيَدِهِ) ، أَي: شرع فِي الْأكل مسرعاً، وَمثله ضرب فِي الأَرْض إِذا أسْرع السّير، وَقَالَ ابْن بطال: إِنَّمَا لَا يَأْكُل الصَّدَقَة لِأَنَّهَا أوساخ النَّاس، وَلِأَن أَخذ الصَّدَقَة منزلَة دنية، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى، وَأَيْضًا لَا تحل الصَّدَقَة للأغنياء، وَقَالَ تَعَالَى: {ووجدك عائلاً فأغنى} (الضُّحَى: 7) .

7752 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ قَتادَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَحْمٍ فَقِيلَ تُصُدِّقَ علَى بَرِيرَةَ قالَ هُوَ لهَا صَدَقةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ.
(انْظُر الحَدِيث 5941) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلنَا هَدِيَّة) ، أَي: حَيْثُ أَهْدَت بَرِيرَة إِلَيْنَا فَهُوَ هَدِيَّة، وَذَلِكَ لِأَن الصَّدَقَة يجوز فِيهَا تصرف الْفَقِير بِالْبيعِ والهدية وَغير ذَلِك لصِحَّة ملكه لَهَا، كتصرفات سَائِر الْملاك فِي أملاكهم، وغندر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون: هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر، وَقد تكَرر ذكره. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الزّهْد عَن وَكِيع. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عَمْرو بن مَرْزُوق. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعمريّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم.

8752 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حدَّثنا غُنْدَرٌ قالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الْقَاسِمِ قَالَ سَمِعْتُهُ مِنْهُ عنِ القَاسِمِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّها أرادَتْ أنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ وأنَّهُمْ اشْتَرَطُوا ولاءَها فَذُكِرَ لِلنَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرِيها فأعْتِقِيهَا فإنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ وأُهْدِيَ لَها لَحْمٌ فقالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ هُوَ لَها صَدَقَة وَلنَا هَدِيَّةٌ وخُيِّرَتْ قَالَ عبدُ الرَّحْمانِ زَوْجُها حُرٌّ أوْ عَبْدٌ قَالَ شُعْبَةُ ثُمَّ سَألْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ عنْ زَوْجِها قَالَ لاَ أدْرِي أحُرٌّ أمْ عَبْدٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلنَا هَدِيَّة) لِأَن التَّحْرِيم يتَعَلَّق بِالصّفةِ لَا بِالذَّاتِ، وَقد تغير مَا تصدق بِهِ على بَرِيرَة بانتقاله إلاَّ إِلَى ملكهَا وَخُرُوجه عَن ملك الْمُتَصَدّق.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْعتْق عَن أَحْمد بن عُثْمَان النَّوْفَلِي، وَفِي الزَّكَاة بِقصَّة الْهَدِيَّة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن غنْدر، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع وَفِي الْفَرَائِض عَن مُحَمَّد بن بشار بِهِ، وَفِي الطَّلَاق والشروط عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل، وَقد مر الْكَلَام فِي معنى صدر الحَدِيث فِي مَوَاضِع كَثِيرَة.
قَوْله: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا تصدق بِهِ على بَرِيرَة، هُوَ لَهَا صَدَقَة وَلنَا هَدِيَّة) ، هَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر الْهَرَوِيّ، فَقيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا تصدق بِهِ على بَرِيرَة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هُوَ لنا صَدَقَة وَلنَا هَدِيَّة) . قَوْله: (وخيرت) أَي: بَرِيرَة صَارَت مخيرة بَين أَن تفارق زَوجهَا وَأَن تبقى تَحت نِكَاحهَا. قَوْله: (قَالَ عبد الرَّحْمَن) ، هُوَ عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم الرَّاوِي الْمَذْكُور. قَوْله: (لَا أَدْرِي أحرٌّ أم عبد؟) أَي: قَالَ عبد الرَّحْمَن: لَا أَدْرِي زوج بَرِيرَة هَل هُوَ حر أَو عبد، وَالْمَشْهُور أَنه عبد، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَعَلِيهِ أهل الْحجاز، وَهُوَ مَا ذكره النَّسَائِيّ عَن ابْن عَبَّاس، واسْمه: مغيث، وَخَالف أهل الْعرَاق، فَقَالُوا: كَانَ حرا، وَالله تَعَالَى أعلم، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ.

9752 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ أبُو الحَسَنِ قَالَ أخْبَرنا خالِدُ بنُ عَبْدِ الله عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرينَ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قالَتْ دَخَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَقَالَ لَهًّ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قالَتْ لاَ إلاَّ شَيْءٌ بَعَثَتْ بِهِ أُمُّ عَطِيَّةَ مِنَ الشَّاةِ الَّتِي بَعَثْتَ إلَيْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ قَالَ إنَّها قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّها.
(انْظُر الحَدِيث 6441 وطرفه) .

(13/135)


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى قَوْله: إِنَّهَا بلغت محلهَا، لِأَن مَعْنَاهُ قد زَالَ عَنْهَا حكم الصَّدَقَة وَصَارَت حَلَالا لنا، وخَالِد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطَّحَّان الوَاسِطِيّ، يروي عَن خَالِد بن مهْرَان الْحذاء، وَأم عَطِيَّة اسْمهَا نسيبة، بِضَم النُّون، وَقيل: بِفَتْحِهَا، وَكَذَا وَقع بِالْفَتْح فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة وهب بن بَقِيَّة عَن خَالِد بن عبد الله. والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب إِذا تحولت الصَّدَقَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن خَالِد عَن حَفْصَة بنت سِيرِين عَن أم عَطِيَّة الْأَنْصَارِيَّة ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بعثت بِهِ أم عَطِيَّة) على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَقَوله: (بعثت إِلَيْهَا) على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (محلهَا) ، بِفَتْح الْحَاء، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِكَسْرِهَا، وَهُوَ يَقع على الزَّمَان وَالْمَكَان.

8 - (بابُ مَنْ أهْدَى إِلَى صاحِبِهِ وتَحَرَّى بعْضَ نِسائِهِ دُونَ بَعْضٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إهداء من أهْدى إِلَى أحد من أَصْحَابه، وتحرى أَي قصد بعض نِسَائِهِ، يَعْنِي: أَرَادَ أَن يكون إهداؤه إِلَى صَاحبه يَوْم يكون صَاحبه عِنْد وَاحِدَة مِنْهُنَّ.

0852 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا قالَتْ كانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمِي وقالتْ أمُّ سَلَمَةَ إنَّ صَواحِبِي اجْتَمَعْنَ فذَكَرَتْ لَهُ فأعْرَضَ عَنْها.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى قَول عَائِشَة: (كَانَ النَّاس يتحرون بهداياهم يومي) وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة ابْن الزبير، وَفِي بعض النّسخ: عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ هُنَا مُخْتَصرا. وَأخرجه فِي فضل عَائِشَة مطولا على مَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن يحيى بن درست.
قَوْله: (يومي) ، أَي: يَوْم نوبتي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأم سَلمَة هِيَ هِنْد إِحْدَى زَوْجَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (إِن صواحبي) أَرَادَت بِهِ بَقِيَّة أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ اجتماعهن عِنْد أم سَلمَة، وقلن لَهَا: خبِّري رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَأْمر النَّاس بِأَن يهدوا لَهُ حَيْثُ كَانَ، فَذكرت ذَلِك أم سَلمَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَعْرض عَنْهَا، يَعْنِي: لم يلْتَفت إِلَى مَا قَالَت لَهُ، ويروى: فَأَعْرض عَنْهُن، أَي: عَن أَزوَاجه الْبَقِيَّة، وَذكر ابْن سعد فِي (طَبَقَات النِّسَاء) من حَدِيث أم سَلمَة، قَالَت: كَانَ الْأَنْصَار يكثرون إلطاف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سعد بن عبَادَة وَسعد بن معَاذ وَعمارَة بن حزم وَأَبُو أَيُّوب، وَذَلِكَ لقرب جوارهم من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

1852 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني أخِي عنْ سُلَيْمَانَ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ نِسَاءَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كُنَّ حِزْبَيْنِ فَحزْبٌ فيهِ عائِشَةُ وحَفْصَةُ وصَفِيَّةُ وسَوْدَةُ والحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وسَائرُ نِساءِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكانَ المُسْلِمُونَ قدْ عَلِمُوا حُبَّ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عائِشَةَ فإذَا كانتْ عِنْدَ أحدهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أنْ يُهْدِيهَا إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخَّرَهَا حتَّى إذَا كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بَعَثَ صاحِبُ الهَدِيَّةِ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا فَكلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقُلْنَ لَهَا كَلِّمِي رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُكَلِّمُ النَّاسَ فيقُولُ مَنْ أَرَادَ أنْ يُهْدِيَ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هدِيَّةً فلْيُهْدِها إليْهِ حَيْثُ كانَ مِنْ بُيُوتِ نِسائِهِ فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلمَة بِما قُلْنَ فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئاً فسَألْنَها فقالَتْ مَا قَالَ لِي شَيْئاً فقُلْنَ

(13/136)


لَهَا فَكَلِّميهِ قالَتْ فكلَّمْتُهُ حِينَ دارَ إلَيْها أَيْضا فلَمْ يَقُلْ لَها شَيْئاً فسألْنَها فقالَتْ مَا قالَ لِي شَيئاً فقُلْنَ لَها كَلِّمِيهِ حتَّى يُكَلِّمَكِ فدَارَ إليْها فكلَّمَتْهُ فَقَالَ لَهَا لَا تُؤْذِيني فِي عائِشَةَ فإنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِني وَأَنا فِي ثوْبِ امْرَأةٍ إلاَّ عائِشَةَ قالتْ فقالتْ أتُوبُ إلاى الله مِنْ أذاكَ يَا رسوُلَ الله ثُمَّ إنَّهُنَّ دَعَوْنَ فاطِمَةَ بِنْتَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأرسلَتْ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقُولُ إنَّ نِساءَكَ يَنْشُدْنَكَ الله العَدْلَ فِي بِنْتِ أبِي بَكْرٍ فكَلَّمَتْهُ فَقَالَ يَا بُنَيَّةَ ألاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ قالَتْ بَلاى فرَجَعَتْ إلَيْهِنَّ فأخْبَرَتْهُنَّ فقُلْنَ ارْجِعِي إلَيْهِ فأبَتْ أنْ تَرْجِعَ فأرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فأتَتْهُ فأغْلَظَتْ وقالتْ إنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ الله العَدْلَ فِي بِنْتِ ابنِ أبِي قُحَافَةَ فرَفَعَتْ صَوْتَها حتَّى تَناوَلَتْ عائِشَةَ وهِيَ قاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا حتَّى أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيَنْظُرُ إِلَى عائِشَةَ هَلْ تَكلَّمُ قَالَ فتَكَلَّمَتْ عائِشَةُ تَرُدُّ علَى زَيْنَبَ حتَّى أسْكَتَتْهَا قالتْ فَنَظَرَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عائشةَ وَقَالَ إنَّها بِنْتُ أبِي بَكْرٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد علمُوا. .) إِلَى قَوْله: (إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بَيت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. الثَّانِي: أَخُوهُ، هُوَ أَبُو بكر عبد الحميد ابْن أبي أويس، مر فِي الْعلم. الثَّالِث: سُلَيْمَان بن بِلَال، مر فِي الْإِيمَان. الرَّابِع: هِشَام بن عُرْوَة. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب وَقد تَابع البُخَارِيّ فِي السَّنَد الْمَذْكُور حميد بن زَنْجوَيْه فِي رِوَايَة أبي نعيم، وَإِسْمَاعِيل القَاضِي فِي رِوَايَة أبي عوَانَة فروياه عَن إِسْمَاعِيل كَمَا قَالَ، وَخَالفهُم مُحَمَّد بن يحيى الذهلي فَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل: حَدثنِي سُلَيْمَان، فَحذف الْوَاسِطَة بَين إِسْمَاعِيل وَسليمَان، وَهُوَ أَخُو إِسْمَاعِيل: عبد الحميد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حزبين) ، تَثْنِيَة حزب، وَهُوَ الطَّائِفَة وَيجمع على أحزاب. قَوْله: (عَائِشَة) ، هِيَ بنت أبي بكر الصّديق، (وَحَفْصَة) هِيَ بنت عمر بن الْخطاب، (وَصفِيَّة) بنت حييّ الْخَيْبَرِية. (وَسَوْدَة) بنت زَمعَة العامرية. قَوْله: (أم سَلمَة) ، هِيَ بنت أبي أُميَّة. قَوْله: (وَسَائِر نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: وَبَقِيَّة نِسَائِهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي الْأَرْبَع: زَيْنَب بنت جحش الأَسدِية، ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، وَأم حَبِيبَة رَملَة بنت أبي سُفْيَان الأموية، وَجُوَيْرِية بنت الْحَارِث الْمُصْطَلِقِيَّة. قَوْله: (يكلم النَّاس) ، يجوز بِالْجَزْمِ وبالرفع. قَوْله: (فَيَقُول) ، تَفْسِير لقَوْله: يكلم. قَوْله: (فليهدها إِلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فليهد، بِلَا ضمير. قَوْله: (بِمَا قُلْنَ) ، أَي: بِالَّذِي قلنه. قَوْله: (حِين دَار إِلَيْهَا) ، أَي: إِلَى عَائِشَة أَرَادَ يَوْم كَونه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي نوبَة عَائِشَة فِي بَيتهَا. قَوْله: (فكلمته) ، أَي: فكلمت أم سَلمَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تؤذيني فِي عَائِشَة) ، كلمة: فِي، هَهُنَا للتَّعْلِيل، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ} (يُوسُف: 23) . وَفِي الحَدِيث: أَن امْرَأَة دخلت النَّار فِي هرة حبستها. قَوْله: (قَالَت: فَقَالَت) ، أَي: قَالَت عَائِشَة فَقَالَت أم سَلمَة: أَتُوب إِلَى الله. قَوْله: (ثمَّ إنَّهُنَّ) أَي: إِن نسَاء النَّبِي اللَّاتِي هن الحزب الآخر. قَوْله: (دعون) ، أَي: طلبن فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: دعين قَوْله: (تَقول) ، أَي: فَاطِمَة تَقول لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن نِسَاءَك ينشدنك الله الْعدْل) أَي: يسألنك بِاللَّه الْعدْل، وَمَعْنَاهُ: التَّسْوِيَة بَينهُنَّ فِي كل شَيْء من الْمحبَّة وَغَيرهَا، هَكَذَا قَالَه بَعضهم، وَلَكِن الْمَعْنى التَّسْوِيَة بَينهُنَّ فِي الْمحبَّة الْمُتَعَلّقَة بِالْقَلْبِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَينهُنَّ فِي الْأَفْعَال المقدورة. وَأَجْمعُوا على أَن محبتهن

(13/137)


لَا تَكْلِيف فِيهَا وَلَا يلْزمه فِيهَا لِأَنَّهَا لَا قدرَة عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُؤمر بِالْعَدْلِ فِي الْأَفْعَال، حَتَّى اخْتلفُوا فِي أَنه: هَل يلْزمه الْقسم بَين الزَّوْجَات أم لَا؟ وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: يناشدنك الله الْعدْل، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن ابْن شهَاب: أَخْبرنِي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِث بن هِشَام، قَالَت: أرْسلت أَزوَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاستأذنت عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجع معي فِي مِرْطِي فَأذن لَهَا، فَقَالَت: يَا رَسُول الله {إِن أَزوَاجك أَرْسلنِي يسألنك الْعدْل فِي بنت أبي قُحَافَة، وَأَنا ساكتة. قَالَت: فَقَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلَسْت تحبين مَا أحب؟) فَقَالَت: بلَى قَالَ: (فأحبي هَذِه) . قَالَت فَاطِمَة حِين سَمِعت ذَلِك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَجَعت إِلَى أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخبرتهن بِالَّذِي قَالَت وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقُلْنَ لَهَا: مَا نرَاك أغنيت عَنَّا من شَيْء، فارجعي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقولِي لَهُ: إِن أَزوَاجك ينشدنك الْعدْل فِي بنت أبي قُحَافَة، فَقَالَت فَاطِمَة: وَالله لَا ُأكَلِّمهُ فِيهَا أبدا. قَالَت عَائِشَة: فَأرْسل أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب بنت جحش، زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي الَّتِي كَانَت تساميني مِنْهُنَّ من الْمنزلَة عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم أرَ امْرَأَة قطّ خيرا فِي الدّين من زَيْنَب وَأتقى لله وأصدق حَدِيثا وأوصل للرحم وَأعظم صَدَقَة، وَأَشد ابتذالاً لنَفسهَا فِي الْعَمَل الَّذِي تصدق بِهِ، وتقرب إِلَى الله مَا عدا سُورَة من حِدة كَانَت فِيهَا تسرع الْفَيْئَة، قَالَت: فاستأذنت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ عَائِشَة على الْحَال الَّذِي دخلت فَاطِمَة عَلَيْهَا وُجُوبهَا فَإِذن لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله} إِن أَزوَاجك أرسلنني يسألنك الْعدْل فِي بنت أبي قُحَافَة. قَالَت: ثمَّ وَقعت بِي فاستطالت عَليّ وَأَنا أرقب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وأرقب طرفه: هَل يَأْذَن لي فِيهَا؟ قَالَت: فَلم تَبْرَح زَيْنَب حَتَّى عرفت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يكره أَن أنتصر، قَالَت: فَلَمَّا وَقعت بهَا لم أنشبها حَتَّى انهيت عَلَيْهَا. قَالَت: فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَبَسم: إِنَّهَا بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا سقت حَدِيث مُسلم بِكَمَالِهِ لِأَنَّهُ كالشرح لحَدِيث البُخَارِيّ مَعَ زيادات فِيهِ، وسأشرح بعض مَا فِيهِ. قَوْله: (يَا بنية) ، تَصْغِير إشفاق. قَوْله: (فَأَتَتْهُ) أَي: فَأَتَت زَيْنَب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فأغلظت) أَي: فِي كَلَامهَا. قَوْله: (فِي بنت أبي قُحَافَة) ، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة وبالفاء: هِيَ كنية وَالِد أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، واسْمه: عُثْمَان بن عَامر بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد ابْن تَمِيم بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب، وَاسم أبي بكر: عبد الله، يلتقي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مرّة بن كَعْب. قَوْله: (حَتَّى تناولت) ، أَي: تعرضت. قَوْله: (وَهِي قَاعِدَة) ، جملَة حَالية، أَي: عَائِشَة قَاعِدَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه مُخْتَصرا من طَرِيق عبد الله الْبَهِي: عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، قَالَت: دخلت عَليّ زَيْنَب بنت جحش فسبتني فردعها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَبت، فَقَالَ: سبيهَا، فسببتها حَتَّى جف رِيقهَا فِي فمها. انْتهى. يحْتَمل أَن تكون هَذِه قَضِيَّة أُخْرَى. قَوْله: (وَقَالَ: إِنَّهَا بنت أبي بكر) ، أَي: إِنَّهَا شريفة عَاقِلَة عارفة كأبيها وَقيل: مَعْنَاهُ هِيَ أَجود فهما وأدق نظرا مِنْهَا. وَفِيه: الِاعْتِبَار بِالْأَصْلِ فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء. وَفِيه: لَطِيفَة أُخْرَى، وَهِي، أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَسَبهَا إِلَى أَبِيهَا فِي معرض الْمَدْح، ونسبت فِيمَا تقدم إِلَى أبي قُحَافَة حَيْثُ لما أُرِيد النّيل مِنْهَا، ليخرج أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من الْوسط إِذْ ذَاك، وَلِئَلَّا يهيج ذكره الْمحبَّة. قَوْله فِي رِوَايَة مُسلم: تساميني، بِالسِّين الْمُهْملَة أَي: تضاهيني فِي الْمنزلَة من السمو وَهُوَ الِارْتفَاع. قَوْله؛ (مَا عدا سُورَة من حِدة) بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَهُوَ العجلة بِالْغَضَبِ، ويروى: من حد، بِدُونِ الْهَاء، وَهُوَ شدَّة الْخلق، وصحف صَاحب (التَّحْرِير) فروى: سَوْدَة، بِالدَّال وَجعلهَا بنت زَمعَة، وَهُوَ ظَاهر الْغَلَط. قَوْله: (تسرع مِنْهَا الْفَيْئَة) ، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْهمزَة، وَهُوَ الرُّجُوع من: فَاء إِذا رَجَعَ، وَمعنى كَلَامهَا أَنَّهَا كَامِلَة الْأَوْصَاف إلاَّ فِي شدَّة خلق بِسُرْعَة غضب، وَمَعَ ذَلِك يسْرع زَوَالهَا عَنْهَا. قَوْله: لم أنشبها أَي: لم أهملها حَتَّى أنحيت، بالنُّون والحاء الْمُهْملَة، أَي قصدتها بالمعارضة، ويروى: حِين أنحيت، وَرجح القَاضِي هَذِه الرِّوَايَة وَمَا ثمَّ مَوضِع ترجح، ويروى: أثختها بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة وبالنون، أَي: قطعتها وغلبتها. قَوْله: (وَتَبَسم) ، جملَة وَقعت حَالا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: فَضِيلَة عَظِيمَة لعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَفِيه: أَنه لَا حرج على الرجل فِي إِيثَار بعض نِسَائِهِ بالتحف، وَإِنَّمَا اللَّازِم الْعدْل فِي الْمبيت وَالنَّفقَة وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور اللَّازِمَة، كَذَا رُوِيَ عَن الْمُهلب، وَاعْترض على ذَلِك بِأَنَّهُ

(13/138)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يفعل ذَلِك، وَإِنَّمَا فعله الَّذين أهدوا لَهُ، وَإِنَّمَا لم يمنعهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لَيْسَ من كَمَال الْأَخْلَاق التَّعَرُّض لمثل هَذَا، على أَن حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشْعر بِأَنَّهُ كَانَ يشركهن فِي ذَلِك، وَلم تقع المنافسة إلاَّ لكَون الْعَطِيَّة تصل إلَيْهِنَّ من بَيت عَائِشَة. وَفِيه: تجرى النَّاس بالهدايا فِي أَوْقَات المسرة ومواضعها من المهدى إِلَيْهِ ليزِيد بذلك فِي سرورة. وَفِيه: أَن الرجل يَسعهُ السُّكُوت بَين نِسَائِهِ إِذا تناظرن فِي ذَلِك وَلَا يمِيل مَعَ بَعضهنَّ على بعض، كَمَا سكت، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين تناظرت زَيْنَب وَعَائِشَة، وَلَكِن قَالَ فِي الْأَخير: إِنَّهَا بنت أبي بكر. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى التَّفْضِيل بالشرف والعز. وَفِيه: جَوَاز التشكي والترسل فِي ذَلِك. وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من مهابته وَالْحيَاء مِنْهُ، حَتَّى راسلنه بِأَعَز النَّاس عِنْده: فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَفِيه: إدلال زَيْنَب بنت جحش على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لكَونهَا كَانَت بنت عمته، كَانَت أمهَا أُمَيْمَة بِالتَّصْغِيرِ بنت عبد الْمطلب. وَقَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ: عذر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِزَيْنَب، قيل: لَا نَدْرِي هَذَا من أَيْن أَخذه؟ وَقيل: يُمكن أَنه أَخذه من مخاطبتها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لطلب الْعدْل مَعَ علمهَا بِأَنَّهُ أعدل النَّاس، لَكِن غلبت عَلَيْهَا الْغيرَة فَلم يؤاخذها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِطْلَاق ذَلِك، وَإِنَّمَا خص زَيْنَب بِالذكر لِأَن فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَت حاملة رِسَالَة خَاصَّة، بِخِلَاف زَيْنَب فَإِنَّهَا شريكتهن فِي ذَلِك، بل كَانَت رأسهن، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تولت إرْسَال فَاطِمَة أَولا ثمَّ سَارَتْ بِنَفسِهَا.
قَالَ البُخَارُيُّ الْكَلامُ الأخِيرُ قَصَّةُ فاطِمَةَ يُذْكَرُ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ رَجُل عنِ الزُّهْرِيَّ عنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ

لما تصرف الروَاة فِي هَذَا الحَدِيث بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْص حَتَّى إِن مِنْهُم من جعله ثَلَاثَة أَحَادِيث. قَالَ البُخَارِيّ: الْكَلَام الْأَخير قصَّة فَاطِمَة ... إِلَى آخِره، يذكرهُ عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن رجل، وَهُوَ مَجْهُول، عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام عَن عَائِشَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الرجل الْمَجْهُول مَذْكُور على طَرِيق الشَّهَادَة والمتابعة، وَاحْتمل فِيهَا مَا لَا يحْتَمل فِي الْأُصُول.
وَقَالَ أبُو مَرْوَانَ عنْ هِشَامٍ عَن عُرْزَةَ كانَ النَّاسُ يَتَحرَّوْنَ يَوْمَ عائِشَةَ وعنْ هِشامٍ عنْ رَجُلٍ منْ قُرَيْشٍ ورَجُلٍ منَ المَوالِي عَن الزُهْرِي عنْ مُحَمَّدِ بنِ عبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشامٍ قالَتْ عائِشَةُ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسْتَأْذَنتْ فاطمَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.

أَبُو مَرْوَان هُوَ يحيى بن أبي زَكَرِيَّا الغساني، سكن واسطاً، مَاتَ سنة تسعين وَمِائَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل: إِنَّه مُحَمَّد بن عُثْمَان العثماني، وَهُوَ وهم. قلت: هَذَا أَيْضا يكنى أَبَا مَرْوَان، لكنه لم يدْرك عَن هِشَام بن عُرْوَة، وَإِنَّمَا يروي عَنهُ بِوَاسِطَة، وروى عَن هِشَام أَيْضا بطرِيق آخر، رَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة عَنهُ عَن عَوْف بن الْحَارِث عَن أَخِيه رميثة

عَن أم سَلمَة: أَن نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَ لَهَا: إِن النَّاس يتحرون بهداياهم يَوْم عَائِشَة ... الحَدِيث. أخرجه أَحْمد.

9 - (بابُ مَا لَا يُرَدُّ مِنَ الهَدِيَّةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يرد من الْهَدِيَّة.

2852 - حدَّثنا أبُو مَعْمَر قَالَ حدَّثنا عبْدُ الوارِثِ قَالَ حدَّثنا عَزْرةُ بنُ ثابِتٍ الأنْصَارِيُّ قَالَ حدَّثني ثُمامَةُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ دَخَلْتُ علَيْهِ فنَاوَلَنِي طِيباً قَالَ كانَ أنَسٌ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ قَالَ وزَعَمَ أنَسٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ.
(الحَدِيث 2852 طرفه فِي: 9295) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه أوضح مَا فِي التَّرْجَمَة من الْإِبْهَام، لِأَن قَوْله: مَا لَا يرد من الْهَدِيَّة، غير مَعْلُوم، فَالْحَدِيث أوضحه

(13/139)


وَهُوَ أَن المُرَاد مِنْهُ الطّيب. قَالَ الْجَوْهَرِي: الطّيب مَا يتطيب بِهِ. قلت: هَذَا بِكَسْر الطَّاء وَسُكُون الْيَاء، وَأما: الطّيب، بِفَتْح الطَّاء وَتَشْديد الْيَاء الْمَكْسُورَة، فَهُوَ خلاف الْخَبيث. تَقول: طَابَ الشَّيْء يطيب طيبَة وتطياباً.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد. الثَّالِث: عزْرَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي وبالراء: ابْن ثَابت الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن عبد الله بن أنس، قَاضِي الْبَصْرَة. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن جده، فَإِن ثُمَامَة روى عَن جده أنس بن مَالك.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن أبي نعيم الْفضل بن دُكَيْن، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَة رد الطّيب: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار، قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي، قَالَ: حَدثنَا عزْرَة بن ثَابت عَن ثُمَامَة بن عبد الله، قَالَ: كَانَ أنس لَا يرد الطّيب. وَقَالَ أنس: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَا يرد الطّيب، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة وَفِي الزِّينَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن وَكِيع.
قَوْله: (قَالَ: دخلت عَلَيْهِ) ، أَي: قَالَ عزْرَة بن ثَابت: دخلت على ثُمَامَة بن عبد الله بن أنس، وَقد وهم صَاحب (التَّوْضِيح) حَيْثُ قَالَ: الضَّمِير فِي: عَلَيْهِ، يرجع إِلَى أنس. قَوْله: (فناولني طيبا) أَي: فناولني ثُمَامَة طيبا، وَقد ذكرنَا أَن الطّيب فِي اللُّغَة مَا يتطيب بِهِ، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عبد الله بن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ثَلَاث لَا ترد: الوسائد والدهن وَاللَّبن) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَهَذَا الَّذِي ذكره أَيْضا مِمَّا لَا يرد وَإِنَّمَا لم يذكرهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ على شَرطه. قَوْله: (قَالَ وَزعم أنس) ، أَي: قَالَ: والزعم يسْتَعْمل لِلْقَوْلِ، قَالَ ابْن بطال، رَحمَه الله: إِنَّمَا كَانَ لَا يرد الطّيب من أجل أَنه ملازم لمناجاة الْمَلَائِكَة، وَلذَلِك كَانَ لَا يَأْكُل الثوم وَمَا يشاكله، قَالَ بَعضهم: لَو كَانَ هَذَا هُوَ السَّبَب فِي ذَلِك لَكَانَ من خَصَائِصه، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن أنسا اقْتدى بِهِ فِي ذَلِك، وَقد ورد النَّهْي عَن رده مَقْرُونا بِبَيَان الْحِكْمَة فِي ذَلِك فِي حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَأَبُو عوَانَة من طَرِيق عبيد الله بن أبي جَعْفَر عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (من عرض عَلَيْهِ طيب فَلَا يردهُ، فَإِنَّهُ خَفِيف الْمحمل طيب الرَّائِحَة) وَأخرجه مُسلم من هَذَا الْوَجْه لَكِن، قَالَ: ريحَان، بدل: طيب. انْتهى. قلت: إِذا انْتَفَت الخصوصية لَا يُنَافِي أَن يكون من جملَة السَّبَب فِي ترك رده اسْتِصْحَاب شَيْء طيب الرَّائِحَة للْملك وللخلق.

01 - (بابُ مَنْ رَأى الهِبَةَ الغائِبَةَ جائزَةً)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من رأى الْهِبَة أَي: الَّتِي توهب، لِأَن نفس الْهِبَة مصدر، كَمَا ذكرنَا، فَلَا يُوصف بالغيبة. وَفِي بعض النّسخ: من رأى الْهَدِيَّة الغائبة جَائِزَة، وَالْأول أصوب على مَا لَا يخفى.

4852 - حدَّثنا سعيدُ بنُ أبِي مَرْيَمَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهاب قَالَ ذَكَرَ عُرْوَةُ أنَّ المِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما ومَرْوانَ قَالَ أخْبِراهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حينَ جاءَهُ وفْدُ هَوازِنَ قامَ فِي النَّاسِ فأثناى علَى الله بِما هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ قالَ أمَّا بَعْدُ فإنَّ إخْوَانَكُمْ جاؤنَا تائبِينَ وإنِّي رأيْتُ أنْ أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ فَمنْ أحَبَّ مِنْكُمْ أنْ يُطَيِّبَ ذالِكَ فَلْيَفْعَلْ ومَنْ أحَبَّ أنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حتَّى نُعْطِيَهُ إيَّاهُ مِنْ أوَّلِ مَا يُفِىءُ الله عَلَيْنا فَقَالَ النَّاسُ طَيَّبْنَا لَكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، فَإِن فِيهِ: أَنهم تركُوا مَا غنموه من السَّبي، من قبل أَن يقسم، وَذَلِكَ فِي معنى الْغَائِب، وتركهم إِيَّاه فِي معنى الْهِبَة، وَفِيه تعسف شَدِيد من وُجُوه: الأول: أَنهم مَا ملكوا شَيْئا قبل الْقِسْمَة، وَإِن كَانُوا استحقوه. وَالثَّانِي: إِطْلَاق الْهِبَة على التّرْك بعيد جدا. وَالثَّالِث: أَنه هبة شَيْء مَجْهُول، لِأَن مَا يسْتَحق كل وَاحِد مِنْهُم قبل الْقِسْمَة غير مَعْلُوم. وَالرَّابِع: توصيف الْهِبَة بالعيبة، وَفِيه مَا فِيهِ، وَهَذِه التعسفات كلهَا من وضع هَذِه التَّرْجَمَة على الْوَجْه الْمَذْكُور.
وَهَذَا الحَدِيث قِطْعَة من حَدِيث الْمسور ومروان فِي قصَّة هوَازن، وَقد مر الحَدِيث فِي كتاب الْعتْق فِي: بَاب من ملك من الْعَرَب رَقِيقا فوهب

(13/140)


وَبَاعَ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (وَمن أحب أَن يكون على حَظه) ، أَي: نصِيبه، وَجَوَاب: من، الَّتِي هِيَ للشّرط مَحْذُوف، يدل عَلَيْهِ السِّيَاق فِي جَوَاب الشَّرْط الأول، وَهُوَ قَوْله: فَلْيفْعَل، وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ: أَن للسُّلْطَان أَن يرفع أَمْلَاك قوم إِذا كَانَ فِي ذَلِك مصلحَة واستئلاف، ورد بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا ذكره، بل فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك بعد تطييب نفوس الْغَانِمين.

11 - (بابُ الْمُكَافَأة فِي الهِبَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْمُكَافَأَة، وَهِي إِعْطَاء الْعِوَض فِي الْهِبَة، والمكافأة مفاعلة من: كافأ يكافيء، وَأَصلهَا بِالْهَمْزَةِ، وَقد يلين، وكل شَيْء سَاوَى شَيْئا حَتَّى يكون مثله فَهُوَ مكافىء لَهُ، وَمِنْه التكافؤ وَهُوَ الاسْتوَاء.

5852 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا عيساى بنُ يُونُسَ عنْ هِشامٍ عنْ أبِيهِ عَن عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالتْ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْبَلُ الهدِيَّةَ ويُثيبُ علَيْها.
مطابقته للتَّرْجَمَة إِنَّمَا تتأتى إِذا أُرِيد بِلَفْظ الْهِبَة فِي التَّرْجَمَة مَعْنَاهَا الْأَعَمّ، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير، يروي عَن أَبِيه عُرْوَة.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن عَليّ بن بَحر وَعبد الرَّحِيم بن مطرف، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْبر عَن يحيى بن أَكْثَم، وَعلي بن خشرم، وَفِي الشَّمَائِل عَن عَليّ بن خشرم وَغير وَاحِد كلهم عَن عِيسَى بن يُونُس بِهِ.
قَوْله: (عَن هِشَام) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: عَن عِيسَى بن يُونُس حَدثنَا هِشَام. قَوْله: (ويثيب عَلَيْهَا) ، من أثاب يثيب أَي: يكافىء عَلَيْهَا بِأَن يُعْطي صَاحبهَا الْعِوَض، والمكافأة على الْهَدِيَّة مَطْلُوبَة اقْتِدَاء بالشارع. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا لَا يجب فِيهَا ثَوَاب مُطلقًا، سَوَاء وهب الْأَعْلَى للأدنى أَو عَكسه، أَو للمساوي. قَالَ الْمُهلب: والهدية ضَرْبَان: للمكافأة، فَهِيَ بيع وَيجْبر على دفع الْعِوَض، وَللَّه تَعَالَى. وللصلة، فَلَا يلْزم عَلَيْهِ مُكَافَأَة، وَإِن فعل فقد أحسن.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَن وهب هبة ثمَّ طلب ثَوَابهَا، وَقَالَ: إِنَّمَا أردْت الثَّوَاب، فَقَالَ مَالك: ينظر فِيهِ، فَإِن كَانَ مثله من يطْلب الثَّوَاب من الْمَوْهُوب لَهُ فَلهُ ذَلِك، مثل هبة الْفَقِير للغني والغلام لصَاحبه، وَالرجل لامْرَأَته وَمن فَوْقه، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يكون لَهُ إِذا لم يشرطه، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي الثَّانِي، وَاحْتج مَالك بِحَدِيث الْبَاب، والاقتداء بِهِ وَاجِب، قَالَ الله تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} (الْأَحْزَاب: 12) . وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) وَابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن أَعْرَابِيًا وهب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأثابه عَلَيْهَا. وَقَالَ: رضيت؟ فَقَالَ: لَا، فزاده، قَالَ: رضيت؟ قَالَ: لَا، فزاده. قَالَ: رضيت؟ قَالَ: نعم. قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنِّي لَا أتهب هبة إلاَّ من قريشي أَو أَنْصَارِي أَو ثقفي، وَعَن أبي هُرَيْرَة نَحوه، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ: حسن. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح على شَرط مُسلم وَهُوَ دَال على الثَّوَاب فِيهَا، وَإِن لم يشرط، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثابه وزاده فِيهِ حَتَّى بلغ رِضَاهُ، وَاحْتج بِهِ من أوجبه، قَالَ: وَلَو لم يكن وَاجِبا لم يثبه وَلم يزده، وَلَو أثاب تَطَوّعا لم تلْزمهُ الزِّيَادَة، وَكَانَ يُنكر على الْأَعرَابِي طلبَهَا. قلت: طمع فِي مَكَارِم أخلافه وعادته فِي الإثابة. وَقَالَ ابْن التِّين: إِذا شَرط الثَّوَاب أجَازه الْجَمَاعَة إلاَّ عبد الْملك، وَله عِنْد الْجَمَاعَة أَن يردهَا مَا لم يتَغَيَّر إلاَّ عِنْد مَالك، فألزمه الثَّوَاب بِنَفس الْقبُول، وَعبارَة ابْن الْحَاجِب: وَإِذا صرح بالثواب فَإِن عيَّنه فَبيع، وَإِن لم يُعينهُ فصححه ابْن الْقَاسِم وَمنعه بَعضهم للْجَهْل بِالثّمن، قَالَ: وَلَا يلْزم الْمَوْهُوب لَهُ إلاَّ قيمتهَا قَائِمَة أَو فَائِتَة، وَقَالَ مطرف: للْوَاهِب أَن يَأْبَى إِن كَانَت قَائِمَة.
لمْ يَذْكُرْ وكِيعٌ ومحاضِرٌ عنْ هشامٍ عَن أبِيهِ عنْ عائِشَةَ

أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى أَن عِيسَى بن يُونُس تفرد بوصل هَذَا الحَدِيث عَن هِشَام، وَأَنه لم يذكر وَكِيع بن الْجراح، ومحاضر، بِضَم الْمِيم وَكسر الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن الْمُوَرِّع، بتَشْديد الرَّاء الْمَكْسُورَة وبالعين الْمُهْملَة: الْكُوفِي، عَن هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة يَعْنِي: لم يسندا إِلَى هِشَام عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، بل أَرْسلَاهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: لَا نَعْرِف هَذَا الحَدِيث مَرْفُوعا

(13/141)


إلاَّ من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس، وَكَذَا قَالَ الْبَزَّار، وَقَالَ الْآجُرِيّ: سَأَلت أَبَا دَاوُد عَنهُ، فَقَالَ: تفرد بوصله عِيسَى بن يُونُس، وَهُوَ عِنْد النَّاس مُرْسل.

21 - (بابُ الهِبَةِ لِلْولدِ وَإِذا أعْطاى بَعْضَ ولَدِه لم يَجُزْ حتَّى يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ ويُعْطِيَ الآخَرِينَ مِثْلَهُ وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم هبة الْوَالِد لوَلَده، وَإِذا أعْطى أَي: الْأَب بعض وَلَده شَيْئا لم يجز حَتَّى يعدل، يَعْنِي: فِي الْعَطاء للْكُلّ وَيُعْطِي الآخرين، أَي: الْأَوْلَاد الآخرين، وَهَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: وَيُعْطى الآخر، بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَصدر التَّرْجَمَة بِالْهبةِ للْوَلَد لدفع إِشْكَال من يَأْخُذ بِظَاهِر حَدِيث: أَنْت وَمَالك لأَبِيك، فَإِن المَال إِذا كَانَ للْأَب فَلَو وهب مِنْهُ شَيْئا لوَلَده كَانَ كَأَنَّهُ وهب مَال نَفسه لنَفسِهِ، وَقَالَ بَعضهم: فَفِي التَّرْجَمَة إِشَارَة إِلَى ضعف هَذَا الحَدِيث أَو إِلَى تَأْوِيله. قلت: بِأَيّ وَجه تدل هَذِه التَّرْجَمَة على ضعف هَذَا الحَدِيث؟ فَلَا وَجه لذَلِك أصلا على أَن الحَدِيث الْمَذْكُور صَحِيح، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي (سنَنه) : حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس حَدثنَا يُوسُف بن إِسْحَاق بن أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر: أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله {إِن لي مَالا وَولدا. وَإِن أبي يُرِيد أَن يجتاح مَال. قَالَ: (أَنْت وَمَالك لأَبِيك) . قَالَ ابْن الْقطَّان: إِسْنَاده صَحِيح. وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ: رِجَاله ثِقَات، وَقَالَ فِي (التَّنْقِيح) : ويوسف بن إِسْحَاق من الثِّقَات الْمخْرج لَهُم فِي (الصَّحِيحَيْنِ) قَالَ: وَقَول الدَّارَقُطْنِيّ فِيهِ: غَرِيب، تفرد بِهِ عِيسَى عَن يُوسُف، لَا يضرّهُ، فَإِن غرابة الحَدِيث والتفرد بِهِ لَا يُخرجهُ عَن الصِّحَّة. وَطَرِيق آخر أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (دَلَائِل النُّبُوَّة) فِي حَدِيث جَابر، قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله} إِن أَبِيه يُرِيد أَن يَأْخُذ ماليه ... الحَدِيث، بِطُولِهِ، وَفِي آخِره: قَالَ: بَكَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ أَخذ بتلابيب ابْنه، وَقَالَ لَهُ: (إذهب، فَأَنت وَمَالك لأَبِيك) . وَفِيه: عَن عَائِشَة أَيْضا، رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخَاصم أَبَاهُ فِي دين لَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنْت وَمَالك لأَبِيك) . وَعَن سَمُرَة بن جُنْدُب أخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) ، فَذكره بِلَفْظ ابْن مَاجَه. وَعَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) عَنهُ مَرْفُوعا بِلَفْظ ابْن مَاجَه، وَفِي سَنَده مقَال. وَعَن ابْن مَسْعُود أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه) : أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لرجل: (أَنْت وَمَالك لأَبِيك) ، وَفِيه مقَال، وَعَن ابْن عمر أخرجه أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) عَنهُ مَرْفُوعا بِلَفْظ ابْن مَسْعُود.
قَوْله: (وَإِذا أعْطى بعض وَلَده) إِلَى قَوْله: (مثله) . وَاخْتلف الْعلمَاء من التَّابِعين وَغَيرهم فِيهِ، فَقَالَ طَاوُوس وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَمُجاهد وَعُرْوَة وَابْن جريج وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَابْن شبْرمَة وَأحمد وَإِسْحَاق وَسَائِر الظَّاهِرِيَّة: أَن الرجل إِذا نحل بعض بنيه دون بعض فَهُوَ بَاطِل. وَقَالَ أَبُو عمر: اخْتلف فِي ذَلِك عَن أَحْمد، وَأَصَح شَيْء عَنهُ فِي ذَلِك مَا ذكره الخرفي فِي (مُخْتَصره) عَنهُ، قَالَ: وَإِذا فضل بعض وَلَده فِي الْعَطِيَّة أَمر برده، فَإِن مَاتَ وَلم يردهُ فقد ثَبت لمن وهب لَهُ، إِذا كَانَ ذَلِك فِي صِحَّته، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث النُّعْمَان ابْن بشير، يَقُول: نَحَلَنِي أبي غُلَاما، فأمرتني أُمِّي أَن أذهب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأشهده على ذَلِك، فَقَالَ: أكل ولدك أَعْطيته؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: فاردده، أخرجه الجماهير غير أبي دَاوُد، وَقَالَ الثَّوْريّ وَاللَّيْث بن سعد وَالقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن الْمُنْكَدر وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ فِي رِوَايَة: يجوز أَن ينْحل لبَعض وَلَده دون بعض، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ مفصلا. قَوْله: (وَلَا يشْهد عَلَيْهِ) ، أَي: على الْأَب، و: لَا يشْهد، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ عطف على قَوْله: لم يجز، وَقَالَ أَيْضا: وَفِي بعض الرِّوَايَات: و: يشْهد، بِدُونِ كلمة: لَا، وَالْأولَى هِيَ الْمُنَاسبَة لحَدِيث عمر، وَقَالَ ابْن بطال: مَعْنَاهُ الرَّد لفعل الْأَب إِذا فضل بعض بنيه، وَأَنه لَا يسع الشُّهُود أَن يشْهدُوا على ذَلِك.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْدِلوا بَيْنَ أوْلاَدِكُمْ فِي العطِيَّةِ
هَذَا التَّعْلِيق يَأْتِي مَوْصُولا فِي الْبَاب الثَّانِي من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِدُونِ قَوْله: فِي الْعَطِيَّة، وروى الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا آدم، قَالَ: حَدثنَا وَرْقَاء عَن الْمُغيرَة عَن الشّعبِيّ، قَالَ: سَمِعت النُّعْمَان

(13/142)


على منبرنا هَذَا يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سووا بَين أَوْلَادكُم فِي الْعَطِيَّة كَمَا تحبون أَن يسووا بَيْنكُم فِي الْبر) .
وهَلْ لِلْوالِدِ أنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّتِهِ وَمَا يأْكُلُ مِنْ مالِ ولدِهِ بالْمَعْرُوفِ وَلَا يتَعَدَّى
هَذَا الَّذِي ذكره مَسْأَلَتَانِ: الأول: أَن الْأَب إِذا وهب لِابْنِهِ، هَل لَهُ أَن يرجع؟ فِيهِ خلاف، فَعِنْدَ طَاوُوس وَعِكْرِمَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: لَيْسَ للْوَاهِب أَن يرجع فِيمَا وهب، إلاَّ الَّذِي ينحله الْأَب لِابْنِهِ، وَغير الْأَب من الْأُصُول كَالْأَبِ، عِنْد الشَّافِعِي فِي الْأَصَح. وَفِي (التَّوْضِيح) : لَا رُجُوع فِي الْهِبَة إلاَّ لِلْأُصُولِ، أَبَا كَانَ أَو أما أَو جدا، وَلَيْسَ لغير الْأَب الرُّجُوع عِنْد مَالك وَأكْثر أهل الْمَدِينَة، إلاَّ أَن عِنْدهم أَن الْأُم لَهَا الرُّجُوع أَيْضا مِمَّا وهبت لولدها إِذا كَانَ أَبوهُ حَيا، هَذَا هُوَ الْأَشْهر عِنْد مَالك، وَرُوِيَ عَنهُ الْمَنْع، وَلَا يجوز عِنْد أهل الْمَدِينَة أَن ترجع الْأُم مَا وهبت ليتيم من وَلَدهَا، كَمَا لَا يجوز الرُّجُوع فِي الْعتْق وَالْوَقْف وأشباهه. انْتهى. وَعند أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: لَا رُجُوع فِيمَا يَهبهُ لكل ذِي رحم محرم بِالنّسَبِ، كالابن وَالْأَخ وَالْأُخْت وَالْعم والعمة. وكل من لَو كَانَ امْرَأَة لَا يحل لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا، وَبِه قَالَ طَاوُوس وَالْحسن وَأحمد وَأَبُو ثَوْر.
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة: أكل الْوَلَد من مَال الْوَلَد بِالْمَعْرُوفِ يجوز. وروى الْحَاكِم مَرْفُوعا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن أطيب مَا أكل الرجل من كَسبه، وَأَن وَلَده من كَسبه، فَكُلُوا من مَال أَوْلَادكُم، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقَالَ: حَدِيث حسن، وَعند أبي حنيفَة: يجوز للْأَب الْفَقِير أَن يَبِيع عَرَضَ ابْنه الْغَائِب لأجل النَّفَقَة، لِأَن لَهُ تملك مَال الابْن عِنْد الْحَاجة، وَلَا يَصح بيع عقاره لأجل النَّفَقَة. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَا يجوز فيهمَا، وَأَجْمعُوا أَن الْأُم لَا تبيع مَال وَلَدهَا الصَّغِير وَالْكَبِير، كَذَا فِي (شرح الطَّحَاوِيّ) .
واشْتَرَى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ عُمَرَ بَعِيراً ثُمَّ أعْطَاهُ ابنَ عُمَرَ وَقَالَ اصْنَعْ بِهِ مَا شِئْتَ
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث مضى فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب إِذا اشْترى شَيْئا فوهب من سَاعَته، فأرجع فراجع إِلَيْهِ تقف عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن بطال: مُنَاسبَة حَدِيث ابْن عمر للتَّرْجَمَة أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَو سَأَلَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يهب الْبَعِير لِابْنِهِ عبد الله لبادر إِلَى ذَلِك، وَلكنه لَو فعل لم يكن عدلا بَين بني عمر، فَلذَلِك اشْتَرَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عمر ثمَّ وهبه لعبد الله، وَهَذَا يدل على مَا بوب لَهُ البُخَارِيّ من التَّسْوِيَة بَين الْأَبْنَاء فِي الْهِبَة.
وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي معنى التَّسْوِيَة: هَل هُوَ على الْوُجُوب أَو على النّدب؟ فَأَما مَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه فأجازوا أَن يخص بعض بنيه دون بعض بالنحلة والعطية، على كَرَاهِيَة من بَعضهم، والتسوية أحب إِلَى جَمِيعهم. وَقَالَ الشَّافِعِي: ترك التَّفْضِيل فِي عَطِيَّة الْأَبْنَاء فِيهِ حسن الْأَدَب، وَيجوز لَهُ ذَلِك فِي الحكم، وَكره الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَأحمد أَن يفضل بعض وَلَده على بعض فِي العطايا، وَكَانَ إِسْحَاق يَقُول مثل هَذَا، ثمَّ رَجَعَ إِلَى مثل قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ الْمُهلب: وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَنه لَا تلْزم المعدلة فِيمَا يَهبهُ غير الْأَب لولد غَيره.

6852 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ حُمَيْدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ ومُحَمَّدِ بنِ النُّعْمَانِ بنَ بَشِيرٍ أنَّهُما حدَّثاه عنِ النُّعْمانِ ابنَ بَشيرٍ أنَّ أبَاهُ أَتى بِهِ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إنِّي نَحَلْتُ ابْني هذَا غُلاماً فَقَالَ أكُلَّ ولَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ قَالَ لَا قَالَ فارْجِعْهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن التَّرْجَمَة فِيمَا إِذا أعْطى لبَعض وَلَده لم يجز حَتَّى يعدل وَيُعْطِي الآخرين مثله، والْحَدِيث يتَضَمَّن هَذَا على مَا لَا يخفى.
ذكر رِجَاله: عبد الله بن يُوسُف التنيسِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَقد تكَرر ذكره، وَمَالك بن أنس وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَحميد، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد مر فِي الْإِيمَان، وَمُحَمّد بن النُّعْمَان بن بشير الْأنْصَارِيّ، ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات التَّابِعين، وَقَالَ الْعجلِيّ: هُوَ تَابِعِيّ ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ أَبَا دَاوُد، والنعمان، بِضَم النُّون: ابْن بشير ضد

(13/143)


النذير ابْن سعد بن ثَعْلَبَة بن الْجلاس، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف اللَّام: الْأنْصَارِيّ الخزرجي، وَأَبوهُ بشير من الْبَدْرِيِّينَ، قيل: إِنَّه أول من بَايع أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من الْأَنْصَار بالخلافة، وَقتل يَوْم عين التَّمْر مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة ثِنْتَيْ عشرَة بعد انْصِرَافه من الْيَمَامَة.
حَتَّى ص 441
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة التَّثْنِيَة فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التابعيين عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم مدنيون إلاَّ شَيْخه فَإِنَّهُ فِي الأَصْل من دمشق وَسكن تنيس. وَفِيه: عَن النُّعْمَان بن بشير، كَذَا هُوَ لأكْثر أَصْحَاب الزُّهْرِيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق الْأَوْزَاعِيّ عَن ابْن شهَاب: أَن مُحَمَّد بن النُّعْمَان وَحميد بن عبد الرَّحْمَن حَدثنَا عَن بشير بن سعلة، فَجعله من مُسْند بشير، فشذ بذلك، وَالْمَحْفُوظ أَنه عَنْهُمَا عَن النُّعْمَان بن بشير، وروى هَذَا الحَدِيث عَن النُّعْمَان عدد كثير من التَّابِعين، مِنْهُم: عُرْوَة بن الزبير عِنْد مُسلم، وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَأَبُو الضُّحَى عِنْد النَّسَائِيّ وَابْن حبَان وَأحمد والطَّحَاوِي، والمفضل بن الْمُهلب عِنْد أَحْمد وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، وَعبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود عِنْد أَحْمد، وَعون بن عبد الله عِنْد أبي عوَانَة، وَالشعْبِيّ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان وَغَيرهم، وَرَوَاهُ عَن الشّعبِيّ عدد كثير أَيْضا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِبَة من رِوَايَة الشّعبِيّ عَن النُّعْمَان عَن حَامِد ابْن عمر، وَفِي الشَّهَادَات عَن عَبْدَانِ عَن ابْن الْمُبَارك. وَأخرجه مُسلم من حَدِيث مَالك فِي الْفَرَائِض عَن يحيى بن يحيى عَنهُ وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عمر وَعَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح وَعَن حَرْمَلَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبد بن حميد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَحْكَام عَن نصر بن عَليّ وَسَعِيد بن عبد الرحمان وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النَّحْل عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن هَاشم عَن الْوَلِيد بن مُسلم وَعَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان وَعَن عَمْرو بن عُثْمَان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن هِشَام بن عمار، وَمن طَرِيق الشّعبِيّ أخرجه مُسلم فِي الْفَرَائِض عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن أبي بكر عَن عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن أَحْمد بن عُثْمَان. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْبيُوع عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النَّحْل عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْملك وَعَن مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن. وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي وَفِي الْقَضَاء عَن مُحَمَّد بن قدامَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام عَن بكر بن خلف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن أَبَاهُ) هُوَ: بشير بن سعد. قَوْله: (إِنِّي نحلت) ، بالنُّون والحاء الْمُهْملَة، يُقَال: نحله أنحله نحلاً، بِضَم النُّون، أَي: أَعْطيته، ونحلت للْمَرْأَة مهرهَا أنحلها نحلة، بِكَسْر النُّون، هَكَذَا اقْتصر فِي النحلة على الْكسر، وَحكى غَيره فِيهَا الْوَجْهَيْنِ: الضَّم وَالْكَسْر، والنحلى، بِالضَّمِّ على وزن: فعلى: الْعَطِيَّة. قَوْله: (هَذَا غُلَاما)

. قَوْله: (أكل ولدك؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار، و: كل، مَنْصُوب بقوله: نحلت، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: أَلَك ولد سواهُ؟ قَالَ: نعم. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: أكل بنيك؟ . فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: لَا مُنَافَاة بَينهمَا، لِأَن لفظ: الْوَلَد، يَشْمَل مَا لَو كَانُوا ذُكُورا أَو إِنَاثًا وذكورا، وَأما لفظ: الْبَنِينَ، فالذكور فيهم ظَاهر، وَإِن كَانَ فيهم إناث فَيكون على سَبِيل التغليب، وَلم يذكر مُحَمَّد بن سعد لبشير بن سعد وَالِد النُّعْمَان ولدا غير النُّعْمَان، وَذكر لَهُ بِنْتا اسْمهَا: أبيَّة، مصغر أبي. وَالله أعلم. قَوْله: (قَالَ: فأرجعه) ، أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرجع مَا نحلته لابنك. اخْتلف فِي هَذَا اللَّفْظ، فَفِي بعض الرِّوَايَات: فاردده، وَفِي رِوَايَة: فَرده، وَفِي رِوَايَة: فَرد عطيته، وَفِي رِوَايَة: اتَّقوا الله واعدلوا بَين أَوْلَادكُم، وَفِي رِوَايَة: قاربوا بَين أَوْلَادكُم، روى: قاربوا بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ جمَاعَة على أَن من نحل بعض بنيه دون بعض فَهُوَ بَاطِل، فَعَلَيهِ أَن يرجع حَتَّى يعدل بَين أَوْلَاده، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً وَبَقِي الْكَلَام فِي تَحْقِيق هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من غير

(13/144)


وَجه عَن النُّعْمَان بن بشير، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن النُّعْمَان، وَحميد بن عبد الرَّحْمَن عَن النُّعْمَان مثل حَدِيث الْبَاب ثمَّ قَالَ: وَاحْتج بِهِ قوم على أَن الرجل إِذا نحل بعض بنيه دون بعض أَنه بَاطِل، ثمَّ قَالَ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، وَحَاصِل كَلَامه أَنهم جوزوا ذَلِك، ثمَّ قَالَ مَا ملخصه: إِن الحَدِيث الْمَذْكُور لَيْسَ فِيهِ أَن النُّعْمَان كَانَ صَغِيرا حِينَئِذٍ، وَلَعَلَّه كَانَ كَبِيرا، وَلم يكن قَبضه. وَقد روى أَيْضا على معنى غير مَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهُوَ أَن النُّعْمَان قَالَ: انْطلق بِي أبي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونحلني نحلاً ليشهده على ذَلِك، فَقَالَ: (أَو كل ولدك نحلته مثل هَذَا؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: أَيَسُرُّك أَن يَكُونُوا إِلَيْك فِي الْبر كلهم سَوَاء؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: فَأشْهد على هَذَا غَيْرِي) . فَهَذَا لَا يدل على فَسَاد العقد الَّذِي كَانَ عقده للنعمان، وَأما امْتِنَاعه عَن الشَّهَادَة فَلِأَنَّهُ كَانَ متوقياً عَن مثل ذَلِك، وَلِأَنَّهُ كَانَ إِمَامًا، وَالْإِمَام لَيْسَ من شَأْنه أَن يشْهد، وَإِنَّمَا من شَأْنه أَن يحكم. وَقد اعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون الإِمَام لَيْسَ من شَأْنه أَن يشْهد أَن يمْتَنع من تحمل الشَّهَادَة، وَلَا من أَدَائِهَا إِذا تعيّنت عَلَيْهِ. قلت: لَا يلْزم أَيْضا أَن لَا يمْتَنع من تحمل الشَّهَادَة، فَإِن التَّحَمُّل لَيْسَ بمتعين، لَا سِيمَا فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن مقَامه أجل من ذَلِك، وكلامنا فِي التَّحَمُّل لَا فِي الْأَدَاء، إِذا تحمل. فَافْهَم. ثمَّ روى الطَّحَاوِيّ حَدِيث النُّعْمَان الْمَذْكُور من رِوَايَة الشّعبِيّ عَنهُ كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره برد الشَّيْء، وَإِنَّمَا فِيهِ الْأَمر بالتسوية. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (فَرجع فَرد عطيته؟) قلت: رده عطيته فِي هَذِه الرِّوَايَات بِاخْتِيَارِهِ هُوَ لَا بِأَمْر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سمع عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَاتَّقُوا الله واعدلوا بَين أَوْلَادكُم) . فَإِن قلت: فِي حَدِيث الْبَاب الْأَمر بِالرُّجُوعِ صَرِيحًا حَيْثُ قَالَ: (فارجعه) قلت: لَيْسَ الْأَمر على الْإِيجَاب، وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب الْفضل وَالْإِحْسَان، ألاَ ترى إِلَى حَدِيث أنس رَوَاهُ الْبَزَّار فِي (مُسْنده) عَنهُ: (أَن رجلا كَانَ عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجَاء ابْن لَهُ فَقبله وَأَجْلسهُ على فَخذه، وجاءته بنية لَهُ فأجلسها بَين يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ألاَ سويت بَينهمَا؟) انْتهى. وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الْوُجُوب، وَإِنَّمَا هُوَ من بَاب الْإِنْصَاف وَالْإِحْسَان.

31 - (بابُ الإشْهَادِ فِي الهِبَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِشْهَاد فِي الْهِبَة.

7852 - حدَّثنا حامِدُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثناأبُو عَوَانَةَ عنْ حُصَيْنٍ عنْ عامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بنَ بَشيرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما وهْوَ علَى المِنْبَرِ يقُولُ أعْطَانِي أبي عَطِيَّةً فَقَالَت عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ لَا أرْضاى حتَّى تُشْهِدَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأتى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إنِّي أعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَواحَةَ عَطِيَّةً فأمَرَتْنِي أنْ أُشْهِدَكَ يَا رسولَ الله قَالَ أعْطَيْت سائرَ ولدِكَ مثْلَ هاذَا قَالَ لَا قَالَ فاتَّقُوا الله واعْدِلُوا بَيْنَ أوْلادِكُمْ قَالَ فرَجَعَ فرَدَّ عَطِيَّتَهُ.
(انْظُر الحَدِيث 6852 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، وَهُوَ ظَاهر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ شَارِح التراجم: فَإِن قيل: لَيْسَ فِي حَدِيث النُّعْمَان مَا يدل على أكل الرجل مَال وَلَده، قُلْنَا: إِذا جَازَ للوالد انتزاع ملك وَلَده الثَّابِت بِالْهبةِ لغير حَاجَة، فَلِأَن يجوز عِنْد الْحَاجة أولى.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: حَامِد بن عمر بن حَفْص بن عبيد الله الثَّقَفِيّ. الثَّانِي: أَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: الوضاح بن عبد الله الْيَشْكُرِي. الثَّالِث: حُصَيْن، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ. الرَّابِع: عَامر بن شُرَحْبِيل الشّعبِيّ. الْخَامِس: النُّعْمَان بن بشير.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَأَبُو عوَانَة واسطي وحصين وعامر كوفيان. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ على الْمِنْبَر) ، جملَة حَالية، وَكَذَا قَوْله: (يَقُول) . قَوْله: (أَعْطَانِي أبي عَطِيَّة) ، وَكَانَ الْعَطِيَّة غُلَاما صرح بِهِ مُسلم فِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، قَالَ: حَدثنَا النُّعْمَان بن بشير، قَالَ وَقد أعطَاهُ أَبوهُ غُلَاما، فَقَالَ لَهُ

(13/145)


النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا هَذَا الْغُلَام؟) فَقَالَ أعطانيه أبي. قَالَ: فَكل أخوته أَعْطيته كَمَا أَعْطَيْت هَذَا؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَرده. وَكَذَا صرح بِهِ فِي حَدِيث جَابر رَوَاهُ مُسلم عَنهُ، قَالَ: قَالَت امْرَأَة بشير: إنحل ابْني غلامك وَأشْهد لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث. فَإِن قلت: روى ابْن حبَان من رِوَايَة ابْن حريز، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء وَفِي آخِره زَاي، على وزن كريم، وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا عَن الشّعبِيّ: أَن النُّعْمَان خطب بِالْكُوفَةِ، فَقَالَ: إِن وَالِدي بشير بن سعد أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِن عمْرَة بنت رَوَاحَة نفست بِغُلَام، وَإِنِّي سميته النُّعْمَان، وَأَنَّهَا أَبَت أَن تربيه حَتَّى جعلت لَهُ حديقة من أفضل مَال هُوَ لي، فَإِنَّهَا قَالَت: أشهد على ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... وَفِيه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا أشهد على جور) قلت: وفْق ابْن حبَان بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِالْحملِ على وَاقِعَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا: عِنْد ولادَة النُّعْمَان، وَكَانَت الْعَطِيَّة حَدِيثَة، وَالْأُخْرَى: بعد أَن كبر النُّعْمَان، وَكَانَت الْعَطِيَّة عبدا. وَقَالَ بَعضهم: يُعَكر عَلَيْهِ أَنه يبعد أَن ينسى بشير بن سعد، مَعَ جلالته، الحكم فِي الْمَسْأَلَة حَتَّى يعود إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستشهد على الْعَطِيَّة الثَّانِيَة بعد أَن قَالَ لَهُ فِي الأولى: لَا أشهد على جور. قلت: لَا بُعد فِي هَذَا أصلا، فَإِن الْإِنْسَان مَأْخُوذ من النسْيَان، وهموم أَحْوَال الدُّنْيَا وغم أَحْوَال الْآخِرَة تنسي أَن نِسْيَان، وَالنِّسْيَان غَالب، حَتَّى قيل: إِن الْإِنْسَان مَأْخُوذ من النسْيَان. قَوْله: (عمْرَة بنت رَوَاحَة) ، بِفَتْح الرَّاء: الْأَنْصَارِيَّة زَوْجَة بشير أم النُّعْمَان، وَهِي أُخْت عبد الله بن رَوَاحَة. قَوْله: (حَتَّى تُشهِد) من الْإِشْهَاد، وَسَيَأْتِي فِي الشَّهَادَات من حَدِيث الشّعبِيّ سَبَب سُؤال شَهَادَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظه: عَن النُّعْمَان، قَالَ: سَأَلت أُمِّي أبي بعض الموهبة لي من مَاله، وَلَفظ مُسلم عَن الشّعبِيّ: حَدثنِي النُّعْمَان بن بشير أَن أمه ابْنة رَوَاحَة سَأَلت أَبَاهُ بعض الموهبة من مَاله، فالتوى بهَا سنة أَي: مطلها ثمَّ بدا لَهُ. وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان من هَذَا الْوَجْه: بعد حَوْلَيْنِ، والتوفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ، بِأَن يُقَال: إِن الْمدَّة كَانَت سنة وشيئاً، فجبر الْكسر تَارَة وألغى أُخْرَى، ثمَّ فِي رِوَايَة مُسلم: فَأخذ أبي بيَدي، وَأَنا يَوْمئِذٍ غُلَام، فَأتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ، قَالَ: انْطلق بَين أبي يحملني إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والتوفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَن يُقَال: إِنَّه أَخذ بِيَدِهِ فَمشى مَعَه بعض الطَّرِيق، وَحمله فِي بَعْضهَا لصِغَر سنه. قَوْله: (فَرجع فَرد عَلَيْهِ عطيته) ،، وَفِي رِوَايَة لمُسلم: فَرجع أبي فَرد تِلْكَ الصَّدَقَة. وَسَيَأْتِي فِي الشَّهَادَات. قَالَ: لَا تشهدني على جور. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: وَلَا تشهدني إِذا فَإِنِّي لَا أشهد على جور، وَفِي رِوَايَة لَهُ: وَإِنِّي لَا أشهد إلاَّ على حق. وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: فَأشْهد على هَذَا غَيْرِي، وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق من طَرِيق طَاوُوس مُرْسلا: لَا أشهد إلاَّ على الْحق، لَا أشهد بِهَذِهِ. وَفِي رِوَايَة عُرْوَة عِنْد النَّسَائِيّ: فكره أَن يشْهد لَهُ، وَقد ذكرنَا وَجه امْتِنَاعه عَن الشَّهَادَة عَن قريب، وَاخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِي هَذِه الْقِصَّة الْوَاحِدَة يرجع إِلَى معنى وَاحِد.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ من أوجب التَّسْوِيَة فِي عَطِيَّة الْأَوْلَاد، وَبِه صرح البُخَارِيّ، وَهُوَ قَول طَاوُوس وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ بِهِ بعض الْمَالِكِيَّة. ثمَّ الْمَشْهُور عِنْد هَؤُلَاءِ: أَنَّهَا بَاطِلَة، وَعَن أَحْمد: يَصح وَيجب عَلَيْهِ أَن يرجع، وَعنهُ: يجوز التَّفَاضُل إِن كَانَ لَهُ سَبَب، كاحتياح الْوَلَد لزمانته أَو دينه أَو نَحْو ذَلِك. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: تجب التَّسْوِيَة إِن قصد بالتفضيل الْإِضْرَار، وَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن التَّسْوِيَة مُسْتَحبَّة، فَإِن فضل بَعْضًا صَحَّ وَكره، وحملوا الْأَمر على النّدب وَالنَّهْي على التَّنْزِيه.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي صفة التَّسْوِيَة، فَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن وَأحمد وَإِسْحَاق وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَبَعض الْمَالِكِيَّة: الْعدْل إِن يُعْطي الذّكر حظين كالميراث، وَقَالَ غَيرهم: لَا يفرق بَين الذّكر وَالْأُنْثَى، وَظَاهر الْأَمر بالتسوية يشْهد لَهُم، واستأنسوا بِحَدِيث أخرجه سعيد بن مَنْصُور وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (سووا بَين أَوْلَادكُم فِي الْعَطِيَّة، فَلَو كنت مفضلاً أحدا لفضلت النِّسَاء) . وَأجَاب عَن حَدِيث النُّعْمَان من حمل الْأَمر بالتسوية على النّدب بِوُجُوه:
الأول: أَن الْمَوْهُوب للنعمان كَانَ جَمِيع مَال وَالِده، فَلذَلِك مَنعه، ورد هَذَا بِأَن كثيرا من طرق حَدِيث النُّعْمَان صَرِيح بالبعضية، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَمن أبعد التأويلات أَن النَّهْي إِنَّمَا يتَنَاوَل من وهب جَمِيع مَاله لبَعض وَلَده، كَمَا ذهب إِلَيْهِ سَحْنُون، وَكَأَنَّهُ لم يسمع فِي نفس هَذَا الحَدِيث أَن الْمَوْهُوب كَانَ غُلَاما، وَأَنه وهبه لَهُ لما سَأَلته الْأُم الْهِبَة من بعض مَاله، قَالَ: وَهَذَا يعلم مِنْهُ على الْقطع أَنه كَانَ لَهُ مَال غَيره.
الثَّانِي: أَن الْعَطِيَّة الْمَذْكُورَة لم تتنجز، وَإِنَّمَا جَاءَ بشير وَالِد النُّعْمَان يستشير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَشَارَ إِلَيْهِ بِأَن لَا يفعل، فَترك، حَكَاهُ

(13/146)


الطَّحَاوِيّ. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي أَكثر طرق الحَدِيث مَا ينابذه. قلت: هَذَا كَلَام من لَا إنصاف لَهُ، لِأَنَّهُ يقْصد بِهَذَا تَضْعِيف مَا قَالَه، مَعَ أَنه لم يقل هَذَا إلاَّ بِحَدِيث شُعَيْب، يرويهِ شيخ البُخَارِيّ عَنهُ، وَهُوَ شُعَيْب بن أبي ضَمرَة، فَإِنَّهُ رَوَاهُ حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا فَهد، قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان، قَالَ: حَدثنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: حَدثنِي حميد بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن النُّعْمَان أَنَّهُمَا سمعا النُّعْمَان ابْن بشير، يَقُول: نَحَلَنِي أبي غُلَاما ثمَّ مَشى أبي حَتَّى إِذا أدخلني على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله {إِنِّي نحلت إبني غُلَاما فَإِن أَذِنت أَن أجيزه لَهُ أجزت، ثمَّ ذكر الحَدِيث، فَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن بشيراً نحل ابْنه غُلَاما، وَلكنه لم يُنجزهُ حَتَّى اسْتَشَارَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك، فَلم يَأْذَن لَهُ بِهِ فَتَركه.
الثَّالِث: أَن النُّعْمَان كَانَ كَبِيرا وَلم يكن قبض الْمَوْهُوب، فَجَاز لِأَبِيهِ الرُّجُوع. ذكره الطَّحَاوِيّ أَيْضا. وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ خلاف مَا فِي أَكثر طرق الحَدِيث أَيْضا، قَوْله: أرجعه، فَإِنَّهُ يدل على تقدم وُقُوع الْقَبْض. انْتهى. قلت: هَذَا أَيْضا طعن فِي كَلَام الطَّحَاوِيّ من غير وَجه وَمن غير إنصاف، لِأَنَّهُ لم يقل هَذَا أَيْضا إلاَّ وَقد أَخذه من حَدِيث يُونُس بن عبد الْأَعْلَى شيخ مُسلم عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة شيخ الشَّافِعِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن النُّعْمَان وَحميد بن عبد الرَّحْمَن أخبراه أَنَّهُمَا سمعا النُّعْمَان بن بشير يَقُول: نَحَلَنِي أبي غُلَاما، فأمرتني أُمِّي أَن أذهب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأُشهدَه على ذَلِك ... الحَدِيث، فَهَذَا يدل على أَن النُّعْمَان كَانَ كَبِيرا، إِذْ لَو كَانَ صَغِيرا كَيفَ كَانَت أمه تَقول لَهُ: إذهب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَقَول هَذَا الْقَائِل: إرجعه، يدل على تقدم الْقَبْض، غير دَال على الْقَبْض حَقِيقَة، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه قَالَ لبشير: إرجع عَمَّا قلت بنحل ابْنك النُّعْمَان دون أخوته.
الرَّابِع: أَن قَوْله: أشهِد، فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَغَيره، وَلَا يدل على أَن الْأَمر بالتسوية يدل على الْوُجُوب، لِأَن أَمر التوبيخ يدل عَلَيْهِ أَلْفَاظ كَثِيرَة فِي الحَدِيث يعرف بِالتَّأَمُّلِ.
الْخَامِس: أَن عمل الخليفتين أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على عدم التَّسْوِيَة قرينَة ظَاهِرَة فِي أَن الْأَمر للنَّدْب. أما أثر أبي بكر فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يُونُس، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب أَن مَالِكًا حَدثهُ عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنَّهَا قَالَت أَن أَبَا بكر الصّديق نحلهَا جدَاد عشْرين وسْقا من مَاله بِالْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة قَالَ: وَالله يَا بنية} مَا من أحد من النَّاس أحب إِلَيّ غنى بعدِي مِنْك، وَلَا أعز عَليّ فقرا بعدِي مِنْك، وَإِنِّي كنت نحلتك جدَاد عشْرين وسْقا، فَلَو كنت جددته وأحرزته كَانَ لَك، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال الْوَارِث، وَإِنَّمَا هما أَخَوَاك وَأُخْتَاك، فَاقْتَسمُوهُ على بَيَان كتاب الله تَعَالَى. فَقَالَت عَائِشَة: وَالله يَا أبتِ {لَو كَانَ كَذَا وَكَذَا لتركته، إِنَّمَا هِيَ أَسمَاء، فَمن الْأُخْرَى؟ فَقَالَ: ذُو بطن بنت خَارِجَة، أَرَاهَا جَارِيَة. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي (سنَنه) من حَدِيث شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة بن الزبير، أَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نَحَلَنِي جدَاد عشْرين وسْقا من مَاله، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة جلس فاحتبى، ثمَّ تشهد ثمَّ قَالَ: أما بعد} أَي بنية ... إِن أحب النَّاس إِلَيّ غنى بعدِي لأنتِ، وَإِنِّي كنت نحلتك جدَاد عشْرين وسْقا من مَالِي، فوددت وَالله لَو أَنَّك كنت خزنته وجددته، وَلَكِن إِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال الْوَارِث، وَإِنَّمَا هما أَخَوَاك وَأُخْتَاك. فَقلت: يَا أبتاه هَذِه أَسمَاء، فَمن الْأُخْرَى؟ قَالَ: ذُو بطن ابْنة خَارِجَة، أَرَاهَا جَارِيَة، فَقلت لَو أَعْطَيْتنِي مَا هُوَ كَذَا إِلَى كَذَا لرددته إِلَيْك. قَالَ الشَّافِعِي: وَفضل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَاصِمًا بِشَيْء، وَفضل ابْن عَوْف ولد أم كُلْثُوم. وَأما أثر عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَذكره الطَّحَاوِيّ أَيْضا كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ عَن الشَّافِعِي، رَحمَه الله، وَأخرج عبد الله بن وهب فِي (مُسْنده) ، وَقَالَ: بَلغنِي عَن عَمْرو بن دِينَار أَن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف نحل ابْنَته من أم كُلْثُوم بنت عقبَة ابْن أبي معيط أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم، وَله ولد من غَيرهَا. قلت: هَذَا مُنْقَطع.
السَّادِس: هُوَ الْجَواب الْقَاطِع أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على جَوَاز إِعْطَاء الرجل مَاله لغير وَلَده، فَإِذا جَازَ لَهُ أَن يخرج جَمِيع وَلَده من مَاله جَازَ لَهُ أَن يخرج عَن ذَلِك لبَعْضهِم، ذكره ابْن عبد الْبر، قيل: فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ قِيَاس مَعَ وجود النَّص. قلت: إِنَّمَا يمْنَع ذَلِك ابْتِدَاء، وَأما إِذا عمل بِالنَّصِّ على وَجه من الْوُجُوه، ثمَّ إِذا قيس ذَلِك الْوَجْه إِلَى وَجه آخر، لَا يُقَال: إِنَّه عمل بِالْقِيَاسِ مَعَ وجود النَّص. فَافْهَم.
وَفِي الحَدِيث من الْفَوَائِد: النّدب إِلَى التَّأْلِيف بَين الْأُخوة وَترك مَا يُوقع بَينهم الشحناء وَيُورث العقوق للآباء. وَفِيه: إِن الْعَطِيَّة إِذا كَانَت من الْأَب لصغير لَا يحْتَاج إِلَى الْقَبْض، فَيَكْفِي قبُوله لَهُ. وَفِيه: كَرَاهَة تحمل الشَّهَادَة فِيمَا لَيْسَ بمباح. وَفِيه: أَن الْإِشْهَاد فِي الْهِبَة مَشْرُوع، وَلَيْسَ بِوَاجِب. وَفِيه: جَوَاز الْميل إِلَى بعض الْأَوْلَاد والزوجات دون بعض، لِأَن هَذَا أَمر قلبِي وَلَيْسَ باختياري. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة

(13/147)


استفسار الْحَاكِم والمفتي عَمَّا يحْتَمل ذَلِك، كَقَوْلِه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلَك ولد غَيره؟ وأفكلهم أَعْطيته؟) . وَفِيه: جَوَاز تَسْمِيَة الْهِبَة صَدَقَة. وَفِيه: أَن للْأُم كلَاما فِي مصلحَة الْوَلَد. وَفِيه: الْمُبَادرَة إِلَى قبُول قَول الْحق وأمرَ الْحَاكِم والمفتي بتقوى الله كل حَال. وَفِيه: إِشَارَة إِلَى سوء عَاقِبَة الحرض أَن عمْرَة لَو رضيت بِمَا وهبه زَوجهَا لولدها لما رَجَعَ فِيهِ، فَلَمَّا اشْتَدَّ حرصها فِي تثبيت ذَلِك أفْضى إِلَى بُطْلَانه.