عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 65 - (كِتَابُ الجِهَادِ والسيَرِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْجِهَاد، وَلم يَقع
لفظ: كتاب، لأكْثر الروَاة، وَإِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَة
ابْن شبويه والنسفي، وَلم تقع الْبَسْمَلَة إلاَّ فِي
رِوَايَة النَّسَفِيّ مُقَدّمَة. وَالْجهَاد، بِكَسْر
الْجِيم، أَصله فِي اللُّغَة الْجهد وَهُوَ الْمَشَقَّة،
وَفِي الشَّرْع بذل الْجهد فِي قتال الْكفَّار لإعلاء كلمة
الله تَعَالَى، وَالْجهَاد فِي الله بذل الْجهد فِي أَعمال
النَّفس وتدليلها فِي سَبِيل الشَّرْع، وَالْحمل عَلَيْهَا
مُخَالفَة النَّفس من الركون إِلَى الدعة وَاللَّذَّات
وَاتِّبَاع الشَّهَوَات، وَهَذَا الْكتاب مَذْكُور هُنَا
فِي جَمِيع النّسخ والشروح خلا ابْن بطال فَإِنَّهُ ذكره
عقيب الْحَج وَالصَّوْم قبل الْبيُوع، وَلما وصل إِلَى
هُنَا وصل بِكِتَاب الْأَحْكَام.
1 - (بابُ فَضْلِ الجِهَادِ والسِّيَرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْجِهَاد وَفِي بَيَان
السّير، وَهُوَ بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء
آخر الْحُرُوف: جمع سيرة، وَهِي الطَّرِيقَة وَمِنْه: سيرة
القمرين، أَي: طريقتهما، وَذكر السّير هُنَا لِأَنَّهُ
يجمع سير النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وطرقه فِي
مغازيه وسير أَصْحَابه وَمَا نقل عَنْهُم فِي ذَلِك.
وقَوْلُ الله تَعَالَى: {إنَّ الله اشْتَرَي مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أنْفُسَهُمْ وأمْوَالَهُمْ بأنَّ لَهُمُ
الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فيَقْتُلُونَ
ويُقْتَلُونَ وعْداً علَيْهِ حَقَّاً فِي التَّوْرَاةِ
والإنْجِيلِ والْقُرآنِ ومَنْ أوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله
فاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}
(التَّوْبَة: 111) . إلَى قَوْلِهِ {وبَشِّرِ
المُؤْمِنِينَ} (التَّوْبَة: 211) .
وَقَول الله، مجرور عطفا على فضل الْجِهَاد، وَهَاتَانِ
آيتان من سُورَة بَرَاءَة أولاهما هُوَ قَوْله: {إِن الله
اشْترى} إِلَى قَوْله: {الْفَوْز الْعَظِيم} (التَّوْبَة:
111) . وَالثَّانيَِة هُوَ قَوْله: {التائبون العابدون}
إِلَى قَوْله: {وَبشر الْمُؤمنِينَ} (التَّوْبَة: 211) .
وَالْمَذْكُور هُنَا هَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ
وَابْن شبويه وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة
الْآيَتَانِ جَمِيعًا مذكورتان بتمامهما، وَفِي رِوَايَة
أبي ذَر الْمَذْكُور إِلَى قَوْله: {وَعدا عَلَيْهِ حَقًا}
(التَّوْبَة: 111) . من الْآيَة الأولى ثمَّ قَالَ إِلَى
قَوْله: {والحافظون لحدود الله وَبشر الْمُؤمنِينَ}
(التَّوْبَة: 21) . قَوْله: {إِن الله اشْترى. .}
(التَّوْبَة: 111) . إِلَى آخِره، قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب
الْقرظِيّ وَغَيره: قَالَ عبد الله بن رَوَاحَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، يَعْنِي: لَيْلَة الْعقبَة: اشْترط لِرَبِّك
وَلِنَفْسِك مَا شِئْت، فَقَالَ: اشْترط لرَبي أَن
تُصَدِّقُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا، وَاشْترط
لنَفْسي أَن تَمْنَعُونِي مِمَّا تمْنَعُونَ مِنْهُ
أَنفسكُم وَأَمْوَالكُمْ. قَالُوا: فَمَا لنا إِذا فعلنَا
ذَلِك؟ قَالَ: الْجنَّة. قَالُوا: ربح البيع، لَا نقِيل
وَلَا نَسْتَقِيل، فَنزلت: {إِن الله اشْترى من
الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ} (التَّوْبَة: 111) .
الْآيَة، وَالْمرَاد: أَن الله أَمرهم بِالْجِهَادِ
بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم ليجازيهم بِالْجنَّةِ، فَعبر
عَنهُ بِالشِّرَاءِ لما تضمن من عوض ومعوض، وَلما جوزوا
بِالْجنَّةِ على ذَلِك عبر عَنهُ بِلَفْظ الشِّرَاء
تجوزاً، وَالْبَاء فِي: بِأَن، للمقابلة وَالتَّقْدِير
باستحقاقهم الْجنَّة. قَوْله: {يُقَاتلُون فِي سَبِيل
الله} (التَّوْبَة: 111) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فِيهِ
معنى الْأَمر. كَقَوْلِه: {تجاهدون فِي سَبِيل الله
بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ} (الصَّفّ: 11) . قَوْله: {فيقتلون
وَيقْتلُونَ} (التَّوْبَة: 111) . أَي: سَوَاء قَتَلُوا
أوْ قُتِلوا أَو اجْتمع لَهُم هَذَا وَهَذَا، فقد وَجَبت
لَهُم الْجنَّة. قَوْله: {وَعدا عَلَيْهِ حَقًا}
(التَّوْبَة: 111) . وَعدا: مصدر مُؤَكد أخبر بِأَن هَذَا
الْوَعْد الَّذِي وعده للمجاهدين فِي سَبِيل الله وعد
ثَابت، وَقد أثْبته فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل كَمَا
أثْبته فِي الْقُرْآن. قَوْله: {وَمن أوفى بعهده من الله}
(التَّوْبَة: 211) . أَي: لَا أحد أعظم وَفَاء بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهِ من الله، فَإِنَّهُ لَا يخلف الميعاد.
قَوْله: {فاستبشروا} (التَّوْبَة: 111) . أَي: افرحوا
بِهَذَا البيع، أَي: فليبشر من قَامَ بِمُقْتَضى هَذَا
العقد، ووفى هَذَا الْعَهْد بالفوز الْعَظِيم وَالنَّعِيم
الْمُقِيم. قَوْله: {التائبون} (التَّوْبَة: 211) . رفع
على الْمَدْح أَي: هم التائبون، وَهَذَا نعت للْمُؤْمِنين
الْمَذْكُورين، يَعْنِي: التائبون من الذُّنُوب كلهَا،
التاركون للفواحش، {العابدون} (التَّوْبَة: 211) . أَي:
القائمون بِعبَادة رَبهم، وَقيل: بطول الصَّلَاة، وَقيل:
بِطَاعَة الله. قَوْله: {الحامدون} (التَّوْبَة: 211) .
أَي: على دين الْإِسْلَام. وَقيل: على السَّرَّاء
وَالضَّرَّاء. قَوْله: {السائحون} (التَّوْبَة: 211) .
أَي: الصائمون، كَذَا قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن
عَاصِم عَن ذَر عَن عبد الله بن مَسْعُود، وَكَذَا قَالَ
الضَّحَّاك، وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا أَحْمد بن
إِسْحَاق حَدثنَا أَبُو أَحْمد حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن
يزِيد عَن الْوَلِيد بن عبد الله عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، (قَالَت: سياحة هَذِه الْأمة الصّيام) .
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء
وَالضَّحَّاك وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَآخَرُونَ، (وَقَالَ
الْحسن الْبَصْرِيّ: السائحون الصائمون شهر رَمَضَان) .
(14/78)
وَقَالَ أَبُو عَمْرو الْعَبْدي: السائحون
الَّذين يديمون الصّيام من الْمُؤمنِينَ، وَقد ورد فِي
حَدِيث مَرْفُوع نَحْو هَذَا، فَقَالَ ابْن جرير: حَدثنِي
مُحَمَّد بن عبد الله بن بزيغ حَدثنَا حَكِيم بن حزَام
حَدثنَا سُلَيْمَان عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
السائحون: هم الصائمون، وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من
حَدِيث أبي أُمَامَة أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله!
إئذن لي فِي السياحة. فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (سياحة أمتِي الْجِهَاد فِي سَبِيل الله) . وَعَن
عِكْرِمَة أَنه قَالَ: (هم طلبة الْعلم) ، وَقَالَ عبد
الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم: هم الْمُهَاجِرُونَ رَوَاهُمَا
ابْن أبي حَاتِم، وَلَيْسَ المُرَاد من السياحة مَا قد
يفهمهُ من تعبد بِمُجَرَّد السياحة فِي الأَرْض والتفرد
فِي شَوَاهِق الْجبَال والكهوف والبراري، فَإِن هَذَا
لَيْسَ بمشروع إلاَّ فِي أَيَّام الْفِتَن والزلازل فِي
الدّين. قَوْله: {الآمرون بِالْمَعْرُوفِ} (التَّوْبَة:
211) . وَهُوَ طَاعَة الله {والناهون عَن الْمُنكر}
(التَّوْبَة: 211) . وَهُوَ مَعْصِيّة الله، وَإِنَّمَا
دخلت الْوَاو فِيهَا لِأَنَّهَا الصّفة الثَّامِنَة،
وَالْعرب تعطف الْوَاو على السَّبْعَة، ذكره جمَاعَة من
الْمُفَسّرين. وَقيل: إِن الْوَاو إِنَّمَا دخلت على
الناهين لِأَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه تبعا
وضمناً، لَا قصدا، فَلَو قَالَ الناهون بِغَيْر: وَاو،
لأشبه أَن يُرِيد النَّهْي الَّذِي هُوَ تبع، فَلَمَّا ذكر
الْوَاو بَين أَن المُرَاد: الآمرون قصدا والناهون عَن
الْمُنكر قصدا، وَلذَلِك دخلت الْوَاو أَيْضا. فِي
{والحافظون لحدود الله} (التَّوْبَة: 211) . إِذْ لَو لم
يذكر: الْوَاو، لأوهم أَن الْمَعْنى: يحفظون حُدُود الله
من الْأَشْيَاء الَّتِي تقدم ذكرهَا، فَإِن فِي كل شَيْء
حدا لله، عز وَجل، فَقَالَ: والحافظون، ليَكُون إِخْبَارًا
لحفظهم الْحُدُود فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَغَيرهَا.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ الحُدُودُ الطَّاعَةُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ
بن أبي طَلْحَة عَنهُ، فِي قَوْله: {تِلْكَ حُدُود الله}
(الْبَقَرَة: 781، 922، 032، النِّسَاء: 312، الطَّلَاق:
1) . يَعْنِي: طَاعَة الله، وَكَأَنَّهُ تَفْسِير باللازم،
لِأَن من أطَاع الله وقف عِنْد امْتِثَال أمره وَاجْتنَاب
نَهْيه.
2872 - حدَّثنا الحَسَنُ بنُ صَبَّاحٍ قَالَ حدَّثنا
مُحَمَّدُ بنُ سابِقٍ قَالَ حدَّثنا مالِكُ بنُ مِغوَلٍ
قَالَ سَمِعْتُ الوَلِيدَ بنَ العَيْزَارِ ذَكَرَ عنْ أبِي
عَمْرٍ والشَّيْبَانِيِّ قَالَ قَالَ عبدُ الله بنُ
مَسْعُودٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ سألْتُ رسولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْتُ يَا رسولَ الله أيُّ
العَمَلِ أفْضَلُ قَالَ الصَّلاةُ عَلى مِيقاتِهَا قُلْتُ
ثُمَّ أيُّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ قُلْتُ ثُمَّ
أَي قَالَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله فسَكَتُّ عنْ
رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ
لَزَادَنِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْجِهَاد فِي سَبِيل
الله) . والْحَدِيث مضى فِي أَوَائِل: مَوَاقِيت
الصَّلَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْوَلِيد عَن
شُعْبَة عَن الْوَلِيد بن الْعيزَار. أَخْبرنِي، قَالَ:
سَمِعت أَبَا عَمْرو الشَّيْبَانِيّ ... إِلَى آخِره،
وَاسم أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ سعد بن إِيَاس وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ وَاخْتِلَاف الْأَحَادِيث فِي
أفضل الْأَعْمَال لاخْتِلَاف السَّائِلين وَاخْتِلَاف
مقاصدهم، أَو باخْتلَاف الْوَقْت أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى
بعض الْأَشْيَاء. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إِنَّمَا خص، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، هَذِه الثَّلَاثَة بِالذكر
لِأَنَّهَا عنوان على مَا سواهَا من الطَّاعَات، فَإِن من
ضيع الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة حَتَّى خرج وَقتهَا من غير
عذر مَعَ خفَّة مؤونتها وعظيم فَضلهَا فَهُوَ لما سواهَا
أضيع، وَمن لم يبر وَالِديهِ مَعَ وفور حَقّهمَا عَلَيْهِ
كَانَ لغَيْرِهِمَا أقل برا، وَمن ترك جِهَاد الْكفَّار
مَعَ شدَّة عداوتهم للدّين كَانَ لجهاد غَيرهم من
الْفُسَّاق أترك.
3872 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
يَحْيى بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا سفْيَانُ قَالَ حدَّثني
مَنْصُورٌ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولَكِنْ
جِهَادٌ ونِيَّةٌ وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَكِن جِهَاد
وَنِيَّة) إِلَى آخِره، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف
بِابْن الْمَدِينِيّ، وَيحيى بن سعيد هُوَ الْقطَّان
(14/79)
وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب لَا يحل
الْقِتَال بِمَكَّة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بأتم مِنْهُ:
عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور ...
إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ولنتكلم
أَيْضا بعض شَيْء.
فَقَوله: (لَا هِجْرَة) ، يَعْنِي: من مَكَّة، وَأما
الْهِجْرَة عَن الْمَوَاضِع الَّتِي لَا يَتَأَتَّى فِيهَا
أَمر الدّين فَهِيَ وَاجِبَة اتِّفَاقًا، وَقَالَ
الْخطابِيّ: كَانَت الْهِجْرَة على مَعْنيين: أَحدهمَا:
أنَّهُم إِذا أَسْلمُوا وَأَقَامُوا بَين قَومهمْ أَو
ذَوا، فَأمروا بِالْهِجْرَةِ إِلَى دَار الْإِسْلَام ليسلم
لَهُم دينهم وَيَزُول الْأَذَى عَنْهُم، وَالْآخر:
الْهِجْرَة من مَكَّة، لِأَن أهل الدّين بِالْمَدِينَةِ
كَانُوا قَلِيلا ضعيفين، وَكَانَ الْوَاجِب على من أسلم
أَن يهاجروا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
لَكِن إِن حدث حَادث اسْتَعَانَ بهم فِي ذَلِك، فَلَمَّا
فتحت مَكَّة اسْتغنى عَن ذَلِك، إِذْ كَانَ مُعظم الْخَوْف
من أَهلهَا، فَأمر الْمُسلمُونَ أَن يقيموا فِي أوطانهم
ويكونوا على نِيَّة الْجِهَاد، مستعدين، لِأَن ينفروا إِذا
استنفروا. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: كلمة: لَكِن، تَقْتَضِي
مُخَالفَة مَا بعْدهَا لما قبلهَا، أَي: أَن الْمُفَارقَة
عَن الأوطان الْمُسَمَّاة بِالْهِجْرَةِ الْمُطلقَة
انْقَطَعت، لَكِن الْمُفَارقَة بِسَبَب الْجِهَاد بَاقِيَة
مدى الدَّهْر، وَكَذَا الْمُفَارقَة بِسَبَب نِيَّة
خَالِصَة لله، عز وَجل. كَطَلَب الْعلم والفرار لدينِهِ.
انْتهى. وَذكر غير وَاحِد من الْعلمَاء أَن أَنْوَاع
الْهِجْرَة خَمْسَة أَقسَام: الأول: الْهِجْرَة إِلَى أَرض
الْحَبَشَة. الثَّانِي: الْهِجْرَة من مَكَّة إِلَى
الْمَدِينَة. الثَّالِث: هِجْرَة الْقَبَائِل إِلَى رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الرَّابِع: هِجْرَة من
أسلم من أهل مَكَّة. الْخَامِس: هِجْرَة مَا نهى الله
عَنهُ، وَبَقِي من الْهِجْرَة ثَلَاثَة أَنْوَاع أخر،
وَهِي: الْهِجْرَة الثَّانِيَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة،
وهجرة من كَانَ مُقيما بِبِلَاد الْكفْر وَلَا يقدر على
إِظْهَار الدّين، فَتجب عَلَيْهِ الْهِجْرَة، وَالْهجْرَة
إِلَى الشَّام فِي آخر الزَّمَان عِنْد ظُهُور الْفِتَن،
على مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة شهر
قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عمر، سَمِعت رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (لتكونن هِجْرَة بعد هِجْرَة
إِلَى مهَاجر أبيكم إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام) الحَدِيث.
وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا قَالَ:
وَفِي الْبَاب عَن أبي سعيد، وَعبد الله بن عَمْرو، وَعبد
الله بن حبشِي. أما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ أَحْمد فِي
(مُسْنده) من رِوَايَة أبي البخْترِي الطَّائِي عَن أبي
سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَنه قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة: {إِذا جَاءَ
نصر الله وَالْفَتْح} (الْفَتْح: 1) . قَرَأَهَا رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى خَتمهَا. (وَقَالَ:
النَّاس حيّز، وَأَنا وأصحابي حيّز. وَقَالَ: لَا هِجْرَة
بعد الْفَتْح، وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة) . قلت: الحيز،
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف الْمَكْسُورَة، وَفِي آخِره زَاي، وَالْمعْنَى:
النَّاس فِي نَاحيَة وَأَنا وأصحابي فِي نَاحيَة. وَأما
حَدِيث عبد الله بن عَمْرو فَأخْرجهُ البُخَارِيّ على مَا
سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ. وَأما حَدِيث عبد الله بن حبشِي فَأخْرجهُ
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عبيد بن عُمَيْر
عَن عبد الله بن حبشِي الْخَثْعَمِي: أَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ: أَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ:
(طول الْقُنُوت) ، قيل: فَأَي صَدَقَة أفضل؟ قَالَ: (جهد
الْمقل) قيل: فَأَي الْهِجْرَة أفضل؟) قَالَ: (من هجر مَا
حرم الله عَلَيْهِ) الحَدِيث.
قلت: وَفِي الْبَاب عَن جمَاعَة آخَرين، وهم: عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان،
وفضالة بن عبيد، وَزيد ابْن ثَابت، وَرَافِع بن خديج،
ومجاشع بن مَسْعُود، وغزية بنت الْحَارِث وَقيل: الْحَارِث
بن غزيَّة وَعبد الله بن وقدان السَّعْدِيّ، وجنادة بن أبي
أُميَّة، وَعبد الله بن عمر، وَجَابِر بن عبد الله،
وثوبان، وَمُحَمّد بن حبيب النصري، وفديك، وواثلة بن
الْأَسْقَع، وَصَفوَان بن أُميَّة، ويعلى بن مرّة، وَعمر
بن الْخطاب، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَابْن مَسْعُود، وَأَبُو
مَالك الْأَشْعَرِيّ، وَعَائِشَة، وَأَبُو فَاطِمَة رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم.
أما حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَأخْرجهُ أَحْمد
وَالطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة مَالك بن يخَامر عَن ابْن
السَّعْدِيّ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: (لَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة مَا دَامَ الْعَدو
يُقَاتل) ، فَقَالَ مُعَاوِيَة وَعبد الرَّحْمَن ابْن
عَوْف وَعبد الله بن عَمْرو: إِن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الْهِجْرَة خصلتان: إِحْدَاهمَا
تهجر السَّيِّئَات، وَالْأُخْرَى تهَاجر إِلَى الله
وَرَسُوله، وَلَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة مَا تقبلت
التَّوْبَة) ، وَرَوَاهُ الْبَزَّار مُقْتَصرا على حَدِيث
عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَمُعَاوِيَة وَحده، رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ بِلَفْظ: (لَا تَنْقَطِع
الْهِجْرَة حَتَّى تَنْقَطِع التَّوْبَة، وَلَا تَنْقَطِع
التَّوْبَة حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا) . وَأما
حَدِيث فضَالة بن عبيد فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة
عَمْرو بن مَالك عَن فضَالة بن عبيد عَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (المُهَاجر من هجر الْخَطَايَا
والذنُوب) . وَأما حَدِيث زيد بن ثَابت وَرَافِع بن خديج
فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من رِوَايَة أبي البخْترِي
عَن أبي سعيد عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِحَدِيث فِيهِ: (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلَكِن جِهَاد
وَنِيَّة) . فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: كذبت،
(14/80)
وَعِنْده رَافع بن خديج وَزيد بن ثَابت،
وهما قاعدان مَعَه على السرير، فَقَالَ أَبُو سعيد: لَو
شَاءَ هَذَانِ لحدثاك، فَرفع عَلَيْهِ مَرْوَان الدرة
ليضربه، فَلَمَّا رَأيا ذَلِك قَالَا: صدق. وَأما حَدِيث
مجاشع بن مَسْعُود فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من
رِوَايَة يحيى بن إِسْحَاق عَن مجاشع بن مَسْعُود: أَنه
أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِابْن أَخ لَهُ
ليبايعه على الْهِجْرَة، (فَقَالَ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: لَا بل على الْإِسْلَام، فَإِنَّهُ لَا
هِجْرَة بعد الْفَتْح) . وَأما حَدِيث غزيَّة بن الْحَارِث
فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة عبد
الله ابْن رَافع عَن غزيَّة بن الْحَارِث أَنه سمع
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (لَا هِجْرَة
بعد الْفَتْح، إِنَّمَا هِيَ ثَلَاث: الْجِهَاد
وَالنِّيَّة والحشر) . وَأما حَدِيث عبد الله بن وقدان
السَّعْدِيّ فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة بشر بن
عبيد الله عَن عبد الله بن وقدان السَّعْدِيّ، قَالَ: وفدت
على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كلنا نطلب
حَاجَة، وَكنت آخِرهم دُخُولا على رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي تركت مَن
خَلْفي وهم يَقُولُونَ: إِن الْهِجْرَة قد انْقَطَعت.
قَالَ: (لن تَنْقَطِع الْهِجْرَة مَا قوتل الْكفَّار) .
وَأما حَدِيث جُنَادَة بن أُميَّة فَأخْرجهُ أَحْمد من
رِوَايَة أبي الخيران جُنَادَة بن أبي أُميَّة، حَدثهُ:
أرجلاً من أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: قَالَ بَعضهم: إِن الْهِجْرَة قد انْقَطَعت،
فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِك قَالَ: فَانْطَلَقت إِلَى رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت: يَا رَسُول الله
{إِن نَاسا يَقُولُونَ: إِن الْهِجْرَة قد انْقَطَعت}
فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن
الْهِجْرَة لَا تَنْقَطِع مَا كَانَ الْجِهَاد) . وَأما
حَدِيث عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ أَحْمد فِي (مُسْنده)
فِي رِوَايَة شهر، قَالَ: سَمِعت عبد الله بن عمر سَمِعت
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لتكونن
هِجْرَة بعد هِجْرَة إِلَى مهَاجر أبيكم إِبْرَاهِيم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . وَأما حَدِيث جَابر بن
عبد الله فَأخْرجهُ فِي مُسْنده عَن حجاج عَن أبي الزبير
عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِلَفْظ المُهَاجر من هجر مَا نهى الله
عَنهُ وَأما حَدِيث ثَوْبَان فَأخْرجهُ الْبَزَّار فِي
(مُسْنده) من رِوَايَة أبي الْأَشْعَث الصَّنْعَانِيّ عَن
ابْن عُثْمَان عَن ثَوْبَان، قَالَ: قَالَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تَنْقَطِع الْهِجْرَة مَا
قوتل الْكفَّار، وَأما حَدِيث مُحَمَّد بن حبيب النصري
فَأخْرجهُ الْبَزَّار أَيْضا من رِوَايَة أبي إِدْرِيس
الْخَولَانِيّ عَن ابْن السَّعْدِيّ عَن مُحَمَّد بن حبيب
النصري، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَذكره بِلَفْظ الَّذِي قبله. وَأما حَدِيث فديك
فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة
الزُّهْرِيّ عَن صَالح بن بشير بن فديك: أَن جده فديكاً
أَتَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أقِم الصَّلَاة وَآت
الزَّكَاة واهجر السوء واسكن من أَرض قَوْمك حَيْثُ شِئْت)
وَهَذَا مُرْسل، فَإِن صَالح بن بشير لم يسْندهُ إِلَى
جده، وَإِنَّمَا روى الْقِصَّة من عِنْده مُرْسلَة. وَأما
حَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ
أَيْضا من رِوَايَة عَمْرو بن عبد الله الْحَضْرَمِيّ عَن
وَاثِلَة بن الْأَسْقَع، قَالَ: خرجت مُهَاجرا إِلَى
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث،
وَفِيه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ:
مَا حَاجَتك؟ قلت: الْإِسْلَام. فَقَالَ: هُوَ خير لَك.
قَالَ: وتهاجر؟ قلت: نعم. قَالَ: هِجْرَة الْبَادِيَة أَو
هِجْرَة الباتة؟ قلت: أَيهمَا أفضل؟ قَالَ: هِجْرَة
الباتة، وهجرة الباتة أَن تثبت مَعَ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وهجرة الْبَادِيَة أَن ترجع إِلَى باديتك
... الحَدِيث. وَأما حَدِيث صَفْوَان بن أُميَّة فَأخْرجهُ
النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه
عَن صَفْوَان بن أُميَّة، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله
{إِنَّهُم يَقُولُونَ: إِن الْجنَّة لَا يدخلهَا إلاَّ من
هَاجر. قَالَ: (لَا هِجْرَة بعد فتح مَكَّة، لَكِن جِهَاد
وَنِيَّة وَإِذا استنفرتم فانفروا) . وَأما حَدِيث يعلى بن
أُميَّة فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبد
الرَّحْمَن بن أُميَّة عَن يعلى بن أُميَّة. قَالَ: جِئْت
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأبي أُميَّة،
فَقلت: يَا رَسُول الله} بَايع أبي على الْهِجْرَة.
فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(أُبَايِعهُ على الْجِهَاد، وَقد انْقَطَعت الْهِجْرَة) .
وَأما حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأخْرجهُ
الْأَئِمَّة السِّتَّة، وَهُوَ حَدِيث: الْأَعْمَال
بِالنِّيَّاتِ ... الحَدِيث. وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة
فَأخْرجهُ وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَأخْرجهُ
الطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد رِجَاله ثِقَات. وَأما حَدِيث
أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا
من رِوَايَة عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن أبي مَالك
الْأَشْعَرِيّ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: إِن الله أَمرنِي أَن آمركُم بِخمْس كَلِمَات:
عَلَيْكُم بِالْجِهَادِ والسمع وَالطَّاعَة وَالْهجْرَة
... الحَدِيث. وَأما حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، فَأخْرجهُ مُسلم من رِوَايَة عَطاء عَنْهَا،
قَالَت: سُئِلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
الْهِجْرَة. فَقَالَ: (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح) . وَأما
حَدِيث أبي فَاطِمَة، فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة
كثير بن مرّة أَن أَبَا فَاطِمَة حَدثهُ
(14/81)
أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله! حَدثنِي
بِعَمَل أستقيم عَلَيْهِ وأعمله) . قَالَ لَهُ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عَلَيْك بِالْهِجْرَةِ
فَإِنَّهُ لَا مثل لَهَا) .
4872 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ قَالَ
حدَّثنا حَبيبُ بنُ أبِي عُمْرَةَ عنْ عائِشَةَ بِنْتِ
طَلْحَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
أنَّهَا قالتْ يَا رسولَ الله ترَى الجِهَادَ أفْضَلَ
العَمَلِ أفَلاَ نُجَاهِدُ قَالَ لَكِنَّ أفْضلَ الجِهَادِ
حَجٌّ مَبْرُورٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (ترى الْجِهَاد
أفضل الْعَمَل) من حَيْثُ أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
لم يرد عَلَيْهَا أَفضَلِيَّة الْجِهَاد من حَيْثُ هُوَ
جِهَاد، وَلكنه جعل الْحَج المبرور من أفضل الْجِهَاد،
وَمَعَ هَذَا كَون الْحَج أفضل الْجِهَاد فِي حقهن
(لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جهادكن الْحَج) ،
وخَالِد هُوَ ابْن عبد الله الطَّحَّان، وحبِيب ضد الْعَدو
ابْن أبي عمْرَة الْأَسدي القصاب. والْحَدِيث قد مضى فِي
كتاب الْحَج فِي: بَاب فضل الْحَج المبرور، فَإِنَّهُ
أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك عَن
خَالِد ... إِلَى آخِره، وَالْحج المبرور الَّذِي لَا
إِثْم فِيهِ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
5872 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ قَالَ أخبرنَا
عَفَّانُ قَالَ حدَّثنَا هَمَّامٌ قَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ
بنُ جُحَادَةَ قَالَ أخْبَرنِي أَبُو حَصين أنَّ ذَكْوَانَ
قَالَ حدَّثَهُ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ حدَّثَهُ قَالَ جاءَ رجُلٌ إِلَى رسولِ الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ دُلَّنِي عَلى عمَلٍ يَعْدِلُ
الجِهَادَ قَالَ لَا أجِدُهُ قَالَ هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا
خَرَجَ المُجَاهِدُ أنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فتَقُومَ ولاَ
تَفْتُرَ وتَصُومَ وَلَا تَفْطِرَ قَالَ ومَنْ يَسْتَطِيعُ
ذَلِكَ. قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ إنَّ فَرَسَ الْمُجَاهِدِ
لَيَسْتَنُّ فِي طِوَلِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ حَسَنَاتٍ.
(الحَدِيث مر سَابِقًا) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: إِسْحَاق بن مَنْصُور،
وَكَذَا وَقع مَنْسُوبا إِلَى أَبِيه فِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ وَابْن عَسَاكِر، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين
غير مَنْسُوب، وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: لم أره
مَنْسُوبا لأحد، وَهُوَ إِمَّا إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه،
وَإِمَّا إِسْحَاق ابْن مَنْصُور. الثَّانِي: عَفَّان،
بتَشْديد الْفَاء: ابْن مُسلم الصفار الْأنْصَارِيّ.
الثَّالِث: همام، بِالتَّشْدِيدِ: ابْن يحيى بن دِينَار
العوذي الْأَزْدِيّ الشَّيْبَانِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد
بن جحادة، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة
الأيامي، وَيُقَال: الْأَزْدِيّ. الْخَامِس: أَبُو
حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الصَّاد
الْمُهْملَة: واسْمه عُثْمَان بن عَاصِم الْأَسدي.
السَّادِس: ذكْوَان، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة: أَبُو
صَالح السمان الزيات. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وبصيغة
الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَن شَيْخه إِن كَانَ ابْن رَاهَوَيْه فَهُوَ
مروزي، وَإِن كَانَ إِسْحَاق ابْن مَنْصُور فَهُوَ مروزي
أَيْضا، وَأَن عَفَّان وَهَمَّام بصريان. وَأَن عُثْمَان
وَمُحَمّد بن جحادة كوفيان، وَأَن ذكْوَان مدنِي.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجِهَاد أَيْضا عَن
أبي قدامَة السَّرخسِيّ عَن عَفَّان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يعدل الْجِهَاد) أَي: يُسَاوِيه
ويماثله. قَوْله: (قَالَ: لَا أَجِدهُ) كَلَام النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: قَالَ: لَا أجد عملا يعدل
الْجِهَاد. قَوْله: (قَالَ: هَل تَسْتَطِيع) ، كَلَام
مُسْتَأْنف من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ
مُسلم: حَدثنَا سعيد بن مَنْصُور حَدثنَا خَالِد بن عبد
الله الوَاسِطِيّ عَن سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه عَن
أبي هُرَيْرَة قَالَ: قيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: مَا يعدل الْجِهَاد فِي سَبِيل الله؟ قَالَ: لَا
تستطيعوه، قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو
ثَلَاثًا، كل ذَلِك يَقُول: لَا تستطيعوه، قَالَ فِي
الثَّالِثَة: (مثل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله كَمثل
الْقَائِل بآيَات الله لَا يفتر من صِيَام وَلَا صَلَاة
حَتَّى يرجع الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله) . وَحذف النُّون
فِي: لَا تستطيعونه، بِغَيْر جازم وَلَا ناصب لُغَة
قَوْله: (فتقوم) ، بِالنّصب عطف على: أَن تدخل، قَوْله:
(وَلَا تفتر، وتصوم وَلَا تفطر) ، كلهَا مَنْصُوبَة.
قَوْله: (قَالَ: وَمن يَسْتَطِيع؟) كَلَام الرجل
الْمَذْكُور. قَوْله: (ليستن) ، أَي: ليمرح بنشاط، وَأَصله
من الاستنان، وَهُوَ الْعَدو. قَالَ الْجَوْهَرِي:
الاستنان أَن يرفع رجلَيْهِ ويطرحهما مَعًا، وَيُقَال: أَن
يلح فِي عدوه مُقبلا أَو مُدبرا، وَمن جملَة الْأَمْثَال:
استنت الفصال حَتَّى القرعى،
(14/82)
يضْرب لمن يتشبه بِمن هُوَ فَوْقه. قَوْله:
(فِي طوله) ، بِكَسْر الطَّاء الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو،
وَهُوَ: الْحَبل الَّذِي تشد بِهِ الدَّابَّة. ويمسك طرفه
وَيُرْسل فِي المرعى. قَوْله: (فَيكْتب لَهُ حَسَنَات)
أَي: يكْتب لَهُ الاستنان حَسَنَات، وحسنات مَنْصُوب على
أَنه مفعول ثَان، وَهَذَا الْقدر ذكره أَبُو حُصَيْن عَن
أبي صَالح، مَوْقُوفا، وَسَيَأْتِي فِي: بَاب الْخَيل
ثَلَاثَة من طَرِيق زيد بن أسلم مَرْفُوعا.
2 - (بابٌ أفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بنَفْسِهِ
ومالِهِ فِي سَبِيلِ الله)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أفضل النَّاس إِلَى آخِره
قَوْله: (مُجَاهِد) صفة لقَوْله مُؤمن وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني يُجَاهد بِلَفْظ الْمُضَارع.
وقَوْلُهُ تعَالى {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ
أدُلُّكُمْ علَى تِجَارَةٍ تنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أليمٍ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَرَسُوله وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
الله بأمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
ويُدْخِلكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ
ومَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ
العَظِيمُ} (الصَّفّ: 01) .
وَقَوله، بِالرَّفْع عطف على قَوْله: أفضل النَّاس،
لِأَنَّهُ مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وخيره قَوْله: مُؤمن،
هَاتَانِ آيتان من سُورَة الصَّفّ فيهمَا إرشاد
للْمُؤْمِنين إِلَى طَرِيق الْمَغْفِرَة. قَالُوا: النداء
بقوله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} (الصَّفّ: 01) .
للمخلصين، وَقيل: عَام. قَوْله: {هَل أدلكم} (الصَّفّ: 01)
. اسْتِفْهَام فِي اللَّفْظ إِيجَاب فِي الْمَعْنى.
قَوْله: {تنجيكم} (الصَّفّ: 01) . أَي: تخلصكم وتبعدكم {من
عَذَاب إليم} (الصَّفّ: 01) . قَرَأَ ابْن عَامر
بِالتَّشْدِيدِ من: التنجية، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ
من الإنجاء. قَوْله: {تؤمنون} (الصَّفّ: 01) . اسْتِئْنَاف
كَأَنَّهُمْ قَالُوا: كَيفَ نعمل؟ فَبين مَا هِيَ؟
فَقَالَ: تؤمنون، وَهُوَ خبر فِي معنى الْأَمر، وَلِهَذَا
أُجِيب بقوله: {يغْفر لكم} (الصَّفّ: 01) . قَوْله:
{وتجاهدون} (الصَّفّ: 01) . عطف على: تؤمنون، وَإِنَّمَا
جِيءَ على لفظ الْخَبَر للإيذان بِوُجُوب الِامْتِثَال،
كَأَنَّهَا وجدت وحصلت. قَوْله: {ذَلِكُم} (الصَّفّ: 01) .
أَي: مَا ذكر من الْإِيمَان وَالْجهَاد {خير لكم} من
أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ {إِن كُنْتُم تعلمُونَ}
(الصَّفّ: 01) . أَنه خير لكم. قَوْله: {يغْفر لكم} قيل:
إِنَّه جَوَاب لقَوْله: {هَل أدلكم} (الصَّفّ: 01) .
وَوَجهه أَن مُتَعَلق الدّلَالَة هُوَ التِّجَارَة، وَهِي
مفسرة بِالْإِيمَان وَالْجهَاد، فَكَأَنَّهُ قيل: هَل
تَتَّجِرُونَ بِالْإِيمَان وَالْجهَاد يغْفر لكم؟ وَعَن
ابْن عَبَّاس: أَنهم قَالُوا: لَو نعلم أحب الْأَعْمَال
إِلَى الله تَعَالَى لعملناها، فَنزلت هَذِه الْآيَة،
فَمَكَثُوا مَا شَاءَ الله يَقُولُونَ: ليتنا نعلم مَا
هِيَ؟ فدلهم الله بقوله: تؤمنون، وَهَذَا يدل على أَن:
تؤمنون، كَلَام مُسْتَأْنف. قَوْله: {ويدخلكم} (الصَّفّ:
01) . عطف على {يغْفر لكم} (الصَّفّ: 01) .
6872 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ
عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني عَطاءُ بنُ يَزِيدَ
اللَّيْثِيُّ أنَّ أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ حدَّثَهُ قَالَ قِيلَ يَا رسولَ الله أيُّ
النَّاسِ أفْضلُ فقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مُؤمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله بِنَفْسِهِ ومالِهِ
قالُوا ثُمَّ مَنْ قالَ مُؤْمِنٌ فِي شعْبٍ مِنَ
الشِّعَابِ يَتَّقِي الله ويدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ.
(الحَدِيث 6872 طرفه فِي: 4946) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مُؤمن مُجَاهِد فِي
سَبِيل الله بِنَفسِهِ وَمَاله) .
وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن
نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة
الْحِمصِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق. وَأخرجه
مُسلم فِي الْجِهَاد عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن وَعَن
مَنْصُور بن أبي مُزَاحم وَعَن عبد بن حميد. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي عمار الْحُسَيْن بن حُرَيْث،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن كثير بن عبيد. وَأخرجه
ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن هِشَام بن عمار.
قَوْله: (مُؤمن مُجَاهِد) أَي: أفضل النَّاس مُؤمن
مُجَاهِد، قَالُوا: هَذَا عَام مَخْصُوص تَقْدِيره: هَذَا
من أفضل النَّاس، وإلاَّ فَالْعُلَمَاء أفضل، وَكَذَا
الصديقون، كَمَا جَاءَت بِهِ الْأَحَادِيث، وَيدل على
ذَلِك أَن فِي بعض طرق النَّسَائِيّ كَحَدِيث أبي سعيد:
أَن من خير النَّاس رجلا عمل فِي سَبِيل الله على ظهر
فرسه. قَوْله: (فِي شعب) ، بِكَسْر الشين المعجم وَسُكُون
الْعين الْمُهْملَة، وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة هُوَ مَا
انفرج بَين الجبلين، وَهُوَ خَارج على سَبِيل الْمِثَال
لَا للقيد بِنَفس الشّعب، وَإِنَّمَا
(14/83)
المُرَاد الْعُزْلَة والإنفراد عَن
النَّاس، وَلما كَانَ الشعاب الْغَالِب عَلَيْهَا حلوها
عَن النَّاس ذكرت مثلا، وَهَذَا كَقَوْلِه فِي الحَدِيث
الآخر: وليسعك بَيْتك.
وَفِيه: فضل الْعُزْلَة والإنفراد عِنْد خوف الْفِتَن على
المخالطة، وَأما عِنْد عدم الْفِتَن فَقَالَ النَّوَوِيّ
مَذْهَب الشَّافِعِي وَأكْثر الْعلمَاء: أَن الِاخْتِلَاط
أفضل بِشَرْط رَجَاء السَّلامَة من الْفِتَن، وَمذهب
طوائف: أَن الاعتزال أفضل. قلت: يدل لقَوْل الْجُمْهُور
(قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمُؤمن الَّذِي يخالط
النَّاس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الْمُؤمن الَّذِي
لَا يخالط النَّاس وَلَا يصبر على أذاهم) ، رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ فِي أَبْوَاب الزّهْد، وَابْن مَاجَه.
7872 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ
عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبرني سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ
أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَثَلُ المُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ
الله وَالله أعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلهِ
كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وتَوَكَّلَ الله
لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأنْ يَتَوَفَّاهُ أنْ
يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ أوْ يَرْجِعَهُ سالِمً مَعَ أجْرٍ
أوْ غَنِيمَةٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجِهَاد عَن عَمْرو
بن عُثْمَان بن سعيد عَن أَبِيه عَن شُعَيْب بِهِ.
قَوْله: (وَالله أعلم بِمن يُجَاهد فِي سَبيله) وَقع جملَة
مُعْتَرضَة يَعْنِي: الله أعلم بِعقد نِيَّته إِن كَانَت
خَالِصَة لإعلاء كَلمته، فَذَلِك الْمُجَاهِد فِي سَبِيل
الله، وَإِن كَانَ فِي نِيَّته حب المَال وَالدُّنْيَا
واكتساب الذّكر بهَا، فقد أشرك مَعَ سَبِيل الله سَبِيل
الدُّنْيَا، وَفِي (الْمُسْتَدْرك) على شَرطهمَا، أَي:
الْمُؤمن أكمل إِيمَانًا. قَالَ: الَّذِي يُجَاهد فِي
سَبِيل الله بِمَالِه وَنَفسه. قَوْله: (كَمثل الصَّائِم
الْقَائِم) زَاد النَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه: الخاشع
الرَّاكِع الساجد، وَفِي (الْمُوَطَّأ) وَابْن حبَان:
كَمثل الصَّائِم الْقَائِم الدَّائِم الَّذِي لَا يفتر من
صِيَام وَلَا صَلَاة حَتَّى يرجع، وَفِي رِوَايَة أَحْمد
وَالْبَزَّار من حَدِيث النُّعْمَان بن بشير مَرْفُوعا:
مثل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله كَمثل الصَّائِم نَهَاره
الْقَائِم ليله، مثله بالصائم لِأَنَّهُ مُمْسك لنَفسِهِ
عَن الْأكل وَالشرب وَاللَّذَّات، وَكَذَلِكَ الْمُجَاهِد
مُمْسك لنَفسِهِ على محاربة الْعَدو وحابس نَفسه على من
يقاتله. قَوْله: (وتوكل الله) ، أَي: ضمن الله بملابسة
التوفي الْجنَّة وبملابسة عدم التوفي الرجع بِالْأَجْرِ
أَو الْغَنِيمَة. قَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي: لَا
يَخْلُو من الشَّهَادَة أَو السَّلامَة، فعلى الأول: يدْخل
الْجنَّة بعد الشَّهَادَة فِي الْحَال، وعَلى الثَّانِي:
لَا يَنْفَكّ من أجر أَو غنيمَة مَعَ جَوَاز الِاجْتِمَاع
بَينهمَا فَهِيَ قَضِيَّة مَانِعَة الْخُلُو لَا مَانِعَة
الْجمع، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (تضمن الله لمن خرج
فِي سَبيله لَا يُخرجهُ إِلَّا إِيمَان بِي. .) وَفِي
رِوَايَة لمُسلم من طَرِيق الْأَعْرَج، عَنهُ بِلَفْظ:
تكفل الله لمن جَاهد فِي سَبيله لَا يُخرجهُ من بَيته
إلاَّ جِهَاد فِي سَبيله وتصديق كَلمته، وَكَذَلِكَ أخرجه
مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن أبي الزِّنَاد) . وَفِي
رِوَايَة الدَّارمِيّ من وَجه آخر عَن أبي الزِّنَاد،
بِلَفْظ: لَا يُخرجهُ إلاَّ الْجِهَاد فِي سَبِيل الله
وتصديق كَلِمَاته، وَلَفظ: الضَّمَان والتكفل والتوكل
والانتداب الَّذِي وَقع فِي الْأَحَادِيث كلهَا بِمَعْنى:
تَحْقِيق الْوَعْد على وَجه الْفضل مِنْهُ، وعبَّر، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بتفضيله بالثواب بِلَفْظ الضَّمَان وَنَحْوه بِمَا جرت
بِهِ الْعَادة بَين النَّاس بِمَا تطمئِن بِهِ النُّفُوس،
وتركن إِلَيْهِ الْقُلُوب. قَوْله: (بِأَن يتوفاه أَن
يدْخلهُ الْجنَّة) ، أَي: بِأَن يدْخلهُ الْجنَّة، و: أَن،
فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّة، تَقْدِيره: ضمن الله
بتوفيه بِدُخُول الْجنَّة، وَفِي رِوَايَة أبي زرْعَة
الدِّمَشْقِي عَن أبي الْيَمَان: إِن توفاه، بِالشّرطِ
وَالْفِعْل الْمَاضِي أخرجه الطَّبَرَانِيّ. قَوْله: (أَن
يدْخلهُ الْجنَّة) أَي: بِغَيْر حِسَاب وَلَا عَذَاب، أَو،
المُرَاد: يدْخلهُ الْجنَّة سَاعَة مَوته وَقَالَ ابْن
التِّين: إِدْخَاله الْجنَّة يحْتَمل أَن يدخلهَا إِثْر
وَفَاته تَخْصِيصًا للشهيد، أَو بعد الْبَعْث، وَيكون
فَائِدَة تَخْصِيصه أَن ذَلِك كَفَّارَة لجَمِيع خَطَايَا
الْمُجَاهِد، وَلَا توزن مَعَ حَسَنَاته، قَوْله: (أَو
يرجعه) ، بِفَتْح الْيَاء تَقْدِيره: أَو أَن يرجعه،
بِالنّصب عطفا على أَن يتوفاه. قَوْله: (سالما) حَال من
الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي يرجعه. قَوْله: (مَعَ أجر أَو
غنيمَة) ، إِنَّمَا أَدخل، وَهَهُنَا قيل: لِأَنَّهُ قد
يرجع مرّة بغنيمة دون أجر، وَلَيْسَ كَذَلِك على مَا
يَجِيء الْآن، بل أبدا يرجع بِالْأَجْرِ كَانَت غنيمَة أَو
لم تكن، قَالَه ابْن بطال. وَقَالَ ابْن التِّين والقرطبي:
إِن، أَو، هُنَا بِمَعْنى المواو الجامعة على مَذْهَب
الْكُوفِيّين، وَقد سَقَطت فِي أبي دَاوُد وَفِي بعض
رِوَايَات مُسلم، وَبِه جزم ابْن عبد الْبر، وَرجحه
التوربشتي شَارِح (المصابيح) وَالتَّقْدِير: أَو يرجعه
بِأَجْر وغنيمة، وَكَذَا وَقع عِنْد النَّسَائِيّ من
طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن سعيد ابْن الْمسيب عَن أبي
هُرَيْرَة، بِالْوَاو أَيْضا، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن:
أَو، على بَابهَا وَلَيْسَت بِمَعْنى: الْوَاو، أَي: أجر
لمن لم يغنم أَو غنيمَة وَلَا أجر، وَهَذَا لَيْسَ
بِصَحِيح لحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ
مَرْفُوعا: (مَا من غَازِيَة تغزو فِي سَبِيل الله
(14/84)
فيصيبون الْغَنِيمَة إلاَّ تعجلوا ثُلثي
أجرهم من الْأُجْرَة، وَيبقى لَهُم الثُّلُث، فَإِن لم
يُصِيبُوا غنيمَة تمّ لَهُم أجرهم) . فَبِهَذَا يدل على
أَنه لَا يرجع أصلا بِدُونِ الْأجر، وَلكنه ينقص عِنْد
الْغَنِيمَة. فَإِن قلت: ضعف هَذَا الحَدِيث لِأَن فِيهِ
حميد بن هانىء وَهُوَ غير مَشْهُور. قلت: هَذَا كَلَام لَا
يلْتَفت إِلَيْهِ لِأَنَّهُ ثِقَة مُحْتَج بِهِ عِنْد
مُسلم، وَقد وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَابْن يُونُس
وَغَيرهمَا، وَلَا يعرف فِيهِ تجريح لأحد.
3 - (بابُ الدُّعَاءِ بالجِهَادِ والشَّهَادَةِ
لِلرِّجَالِ والنِّساءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء بِالْجِهَادِ بِأَن
يَقُول: أللهم ارزقني الْجِهَاد، أَو أللهم اجْعَلنِي من
الْمُجَاهدين. قَوْله: (وَالشَّهَادَة) ، أَي: الدُّعَاء
بِالشَّهَادَةِ، بِأَن يَقُول: أللهم ارزقني الشَّهَادَة
فِي سَبِيلك. قَوْله: (للرِّجَال وَالنِّسَاء) ، مُتَعَلق
بِالدُّعَاءِ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن هَذَا غير
مَخْصُوص بِالرِّجَالِ، وَإِنَّمَا هم وَالنِّسَاء فِي
ذَلِك سَوَاء.
وَقَالَ عُمَرُ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي بَلَدِ رسولِكَ
هَذَا التَّعْلِيق مُطَابق للدُّعَاء بِالشَّهَادَةِ فِي
التَّرْجَمَة، وَقد مضى هَذَا مَوْصُولا فِي آخر الْحَج
بأتم مِنْهُ، رَوَاهُ عَن يحيى ابْن بكير عَن اللَّيْث عَن
خَالِد بن يزِيد عَن سعيد بن أبي هِلَال عَن زيد بن أسلم
عَن أَبِيه عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أللهم
ارزقني شَهَادَة فِي سَبِيلك وَاجعَل موتِي فِي بلد
رَسُولك. وَأخرجه ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات الْكَبِير)
عَن حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، زوج النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا سَمِعت أَبَاهَا يَقُول:
أللهم ارزقني قتلا فِي سَبِيلك، ووفاةً فِي بَلْدَة نبيك،
قَالَت: قلت: وأنَّى ذَاك؟ قَالَ: إِن الله يَأْتِي
بأَمْره أنَّى شَاءَ.
9872 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ عنْ مالِكٍ عنْ
إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله ابنِ أبي طَلْحَةَ عنْ أنَسِ
ابنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ سَمِعَهُ
يَقولُ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْخُلُ
عَلى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحانَ فَتُطْعِمُهُ وكانَتْ
أُمُّ حَرامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ فَدَخَلَ
علَيْهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأطْعَمَتْهُ
وجَعَلَتْ تَفْلِي رَأسَهُ فَنامَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهْوَ يَضْحَكُ قالَتْ
فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رسولَ الله قَالَ ناسٌ مِنْ
أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ الله
يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ مُلُوكاً علَى
الأسِرَّةِ أَو مِثْلَ الْمُلُوكِ على الأسِرَّةِ شَكَّ
إسْحَاقُ قالَتْ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله ادْعُ الله أنْ
يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فدَعَ لَهَا رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وضَعَ رأسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهْوَ
يَضْحَكُ فَقُلْتُ وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رسولَ الله قَالَ
ناسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عليَّ غُزاةً فِي سَبِيلِ
الله كَمَا قَالَ فِي الأوَّلِ قالَتْ فَقُلْتُ يَا رسولَ
الله ادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أنْتِ
مِنَ الأوَّلِينَ فرَكِبَتِ البَحْرَ فِي زَمانِ
مُعَاوِيَةَ بنِ أبِي سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عنْ
دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ فَهَلَكَتْ.
. .
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَن
الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ تمني الشَّهَادَة، وَإِنَّمَا فِيهِ
تمني الْغَزْو. وَأجِيب: بِأَن الثَّمَرَة الْعُظْمَى من
الْغَزْو هِيَ الشَّهَادَة، وَقيل: حَاصِل الدُّعَاء
بِالشَّهَادَةِ أَن يَدْعُو الله أَن يُمكن مِنْهُ
كَافِرًا يعْصى الله فيقتله، وَاعْترض بِأَن تمني
مَعْصِيّة الله لَا تجوز إلاَّ لَهُ وَلَا لغيره، ووجَّه
بَعضهم بِأَن الْقَصْد من الدُّعَاء نيل الدرجَة المرفوعة
الْمعدة. للشهداء، وَأما قتل الْكَافِر فَلَيْسَ مَقْصُود
الدَّاعِي، وَإِنَّمَا هُوَ من ضروريات الْوُجُود، لِأَن
الله تَعَالَى أجْرى حكمه أَن لَا ينَال تِلْكَ الدرجَة
إلاَّ شَهِيد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الرُّؤْيَا عَن عبد الله بن يُوسُف أَيْضا
وَفِي الاسْتِئْذَان عَن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم
أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، وَأخرجه
(14/85)
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن
مُوسَى عَن معن، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد
بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن عبد
الرَّحْمَن بن الْقَاسِم ستتهم عَن مَالك بِهِ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. وَأخرج التِّرْمِذِيّ أَيْضا
هَذَا الحَدِيث من مُسْند أم حرَام من رِوَايَة عبد الله
بن عبد الرَّحْمَن أبي طوالة عَن أنس عَن أم حرم، وَقد
اخْتلف فِيهِ على أنس فَقيل: عَنهُ عَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَقيل: عَن أنس عَن أم حرَام، وَاخْتلف
فِيهِ أَيْضا على أبي طوالة، فَقَالَ زَائِدَة بن قدامَة:
عَن أبي طوالة عَن أنس عَن أم حرَام عَن النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر: عَن
أبي طوالة عَن أنس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة عَطاء بن يسَار عَن
أُخْت أم سليم الرميصاء قَالَت: نَام رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ... ثمَّ ذكر مَعْنَاهُ، وَالْحَاصِل أَن
الْأَئِمَّة السِّتَّة، مَا خلا التِّرْمِذِيّ، أخرجُوا
هَذَا الحَدِيث عَن أم حرَام من رِوَايَة مُحَمَّد بن يحيى
بن حبَان عَن أنس بن مَالك عَن أم حرَام، وَهِي خَالَة
أنس، قَالَت: أَتَانَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَوْمًا ... الحَدِيث.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يدْخل على أم حرَام) ، حرَام ضد حَلَال بنت
ملْحَان، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون اللَّام وَبِالْحَاءِ
الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون: ابْن خَالِد بن زيد بن حرَام
بن جُنْدُب بن عَامر بن غنم بن عدي بن النجار، زوج عبَادَة
بن الصَّامِت وَأُخْت أم سليم، وَخَالَة أنس بن مَالك،
وَقَالَ أَبُو عمر: وَلَا أَقف لَهَا على اسْم صَحِيح،
وأظنها أرضعت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأم سليم
أَرْضَعَتْه أَيْضا، إِذْ لَا يشك مُسلم أَنَّهَا كَانَت
مِنْهُ بِمحرم، وَقد أَنبأَنَا غير وَاحِد من شُيُوخنَا
عَن أبي مُحَمَّد بن فطيس عَن يحيى بن إِبْرَاهِيم بن مزبن
قَالَ: إِنَّمَا استجاز رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن تفلي أم حرَام رَأسه لِأَنَّهَا كَانَت مِنْهُ
ذَات محرم من قبل خالاته، لِأَن أم عبد الْمطلب كَانَت من
بني النجار، وَقَالَ يُونُس بن عبد الْأَعْلَى: قَالَ لنا
وهب: أم حرَام إِحْدَى خالات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم من الرضَاعَة، قَالَ أَبُو عمر: فَأَي ذَلِك كَانَ
فَأم حرم محرم مِنْهُ. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ غَيره:
إِنَّمَا كَانَت خَالَة لِأَبِيهِ أَو لجده، وَذكر ابْن
الْعَرَبِيّ عَن بعض الْعلمَاء أَن هَذَا مَخْصُوص بسيدنا
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو يحمل دُخُوله
عَلَيْهَا: أَنه كَانَ قبل الْحجاب، إلاَّ أَن قَوْله:
تفلي رَأسه، يضعف هَذَا. وَزعم ابْن الْجَوْزِيّ أَنه سمع
بعض الْحفاظ يَقُول: كَانَت أم سليم أُخْت آمِنَة من
الرضَاعَة وَقَالَ الْحَافِظ الدمياطي: لَيْسَ فِي
الحَدِيث مَا يدل على الْخلْوَة بهَا، فَلَعَلَّ ذَاك
كَانَ مَعَ ولد أَو خَادِم أَو زوج أَو تَابع، وَالْعَادَة
تَقْتَضِي المخالطة بَين المخدوم وَأهل الْخَادِم، سِيمَا
إِذا كنَّ مسنَّات، مَعَ مَا ثَبت لَهُ عَلَيْهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من الْعِصْمَة، وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قبل
الْحجاب، لِأَنَّهُ كَانَ فِي سنة خمس، وَقتل أَخِيهَا
حرَام الَّذِي كَانَ رَحمهَا لأَجله كَانَ سنة أَربع.
وَقَالَ أَبُو عمر: حرَام ابْن ملْحَان قتل يَوْم بِئْر
مَعُونَة، قَتله عَامر بن الطُّفَيْل. قَوْله: (تَحت
عبَادَة بن الصَّامِت) أَي: كَانَت امْرَأَته، والصامت
ابْن قيس بن أَصْرَم بن فهر بن ثَعْلَبَة بن غنم بن سَالم
بن عَوْف بن الْخَزْرَج الْأنْصَارِيّ السالمي، يكنى:
أَبَا الْوَلِيد، قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: أول من ولي قَضَاء
فلسطين عبَادَة بن الصَّامِت، مَاتَ عبَادَة سنة أَربع
وَثَلَاثِينَ بالرملة، وَقيل: بِبَيْت الْمُقَدّس، وَهُوَ
ابْن اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة. قَوْله: (تفلي رَأسه) ،
بِفَتْح التَّاء وَإِسْكَان الْفَاء وَكسر اللَّام،
يَعْنِي: تفتش الْقمل من رَأسه وتقتله، من: فلى يفلي من
بَاب ضرب يضْرب، فلياً مصدرة، والفلي أَخذ الْقمل من
الرَّأْس. قَوْله: (وَهُوَ يضْحك) ، جملَة وَقعت حَالا،
وَكَذَا قَوْله: (غزَاة) ، وَهُوَ جمع غَازِي، كقضاة جمع
قَاضِي. قَوْله: (ثبج هَذَا الْبَحْر) ، بِفَتْح الثَّاء
الْمُثَلَّثَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا جِيم، قَالَ
الْخطابِيّ: ثبج الْبَحْر: مَتنه ومعظمه، وثبج كل شَيْء
وَسطه، وَقيل: ثبج الْبَحْر ظَهره، يُوضحهُ بعض مَا جَاءَ
فِي الرِّوَايَات: يركبون ظهر هَذَا الْبَحْر، وَقيل: ثبج
الْبَحْر: هوله، والثبج مَا بَين الْكَتِفَيْنِ. قَوْله:
(ملوكاً) ، نصب بِنَزْع الْخَافِض أَي: مثل مُلُوك على
الأسرة، وَهُوَ جمع سَرِير، قَالَ أَبُو عمر: أَرَادَ أَنه
رأى الْغُزَاة فِي الْبَحْر على الأسرة فِي الْجنَّة،
ورؤيا الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَحي يشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى: {على الأرائك متكئون} (ي
س: 65) . وَبِه جزم ابْن بطال حَيْثُ قَالَ: إِنَّمَا
رَآهُمْ ملوكاً على الأسرة فِي الْجنَّة فِي رُؤْيَاهُ،
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن يكون خَبرا عَن حَالهم
فِي غزوهم أَيْضا. قَوْله: {شكّ إِسْحَاق} ، وَهُوَ
إِسْحَاق بن عبد الله الرَّاوِي عَن أنس. قَوْله: (ثمَّ
وضع رَأسه ثمَّ اسْتَيْقَظَ) ، قيل: رُؤْيَاهُ الثَّانِيَة
كَانَت فِي شُهَدَاء الْبر، فوصف حَال الْبر وَالْبَحْر
بِأَنَّهُم مُلُوك على الأسرة، حَكَاهُ ابْن التِّين
وَغَيره، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون حالتهم فِي الدُّنْيَا
كالملوك على الأسرة، وَلَا يبالون بِأحد. قَوْله: (أَنْت
من الْأَوَّلين) ، خطاب لأم حرَام، وَأَرَادَ بالأولين: هم
الَّذين عرضوا أَولا، وهم الَّذين يركبون ثبج الْبَحْر.
قَوْله: (فِي زمن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان) ، وَكَانَت
غزت مَعَ زَوجهَا فِي أول غَزْوَة كَانَت إِلَى الرّوم فِي
الْبَحْر مَعَ مُعَاوِيَة زمن عُثْمَان بن عَفَّان
(14/86)
سنة ثَمَان وَعشْرين، وَقَالَ ابْن زيد:
سنة سبع وَعشْرين، وَقيل: بل كَانَ ذَلِك فِي خلَافَة
مُعَاوِيَة على ظَاهره، وَالْأول أشهر، وَهُوَ مَا ذكره
أهل السّير، وَفِيه: هَلَكت، وَقَالَ الْكرْمَانِي، رَحمَه
الله تَعَالَى، وَاخْتلفُوا فِي أَنه مَتى جرت الْغَزْوَة
الَّتِي توفيت فِيهَا أم حرَام؟ فَقَالَ البُخَارِيّ
وَمُسلم: فِي زمن مُعَاوِيَة، وَقَالَ القَاضِي: أَكثر أهل
السّير أَن ذَلِك كَانَ فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فعلى هَذَا يكون معنى قَوْلهَا: فِي زمن
مُعَاوِيَة، زمَان، غَزْوَة مُعَاوِيَة فِي الْبَحْر، لَا
زمَان خِلَافَته، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: إِن مُعَاوِيَة
غزا تِلْكَ الْغَزْوَة بِنَفسِهِ. انْتهى. قلت: كَانَ عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد منع الْمُسلمين من الْغَزْو
فِي الْبَحْر شَفَقَة عَلَيْهِم، واستأذنه مُعَاوِيَة فِي
ذَلِك فَلم يَأْذَن لَهُ، فَلَمَّا ولي عُثْمَان، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، استأذنه فَأذن لَهُ. وَقَالَ: لَا
تكره أحدا، من غزاه طَائِعا فاحمله، فَسَار فِي جمَاعَة من
الصَّحَابَة مِنْهُم أَبُو ذَر وَعبادَة بن الصَّامِت
وَمَعَهُ زَوجته أم حرَام بنت ملْحَان وَشَدَّاد بن أَوْس
وَأَبُو الدَّرْدَاء فِي آخَرين، وَهُوَ أول من غزا
الجزائر فِي الْبَحْر، وَصَالَحَهُ أهل قبرس على مَال،
وَالأَصَح أَنَّهَا فتحت عنْوَة، وَلما أَرَادوا الْخُرُوج
مِنْهَا قدمت لأم حرَام بغلة لتركبها فَسَقَطت عَنْهَا،
فَمَاتَتْ. هُنَالك، فقبرها هُنَالك يعظمونه ويستسقون
بِهِ، وَيَقُولُونَ: قبر الْمَرْأَة الصَّالِحَة. قَوْله:
(حِين خرجت من الْبَحْر) ، أَرَادَ بِهِ حِين خُرُوجهَا من
الْبَحْر إِلَى نَاحيَة الجزيرة، لِأَنَّهَا دفنت هُنَاكَ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز دُخُول الرجل
على محرمه وملامسته إِيَّاهَا وَالْخلْوَة بهَا،
وَالنَّوْم عِنْدهَا. وَفِيه: إِبَاحَة مَا قَدمته
الْمَرْأَة إِلَى ضيفها من مَال زَوجهَا، لِأَن الْأَغْلَب
أَن مَا فِي الْبَيْت من الطَّعَام هُوَ للرجل، قَالَ ابْن
بطال: وَمن الْمَعْلُوم أَن عبَادَة وكل الْمُسلمين يسرهم
وجود سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
بَيته، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك من
مَال زَوجهَا لعلمه أَنه كَانَ يسر بذلك، وَيحْتَمل أَن
يكون من مَالهَا، وَاعْتَرضهُ الْقُرْطُبِيّ فَقَالَ: حِين
دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أم حرَام لم تكن زوجا
لعبادة، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهر اللَّفْظ، إِنَّمَا
تزوجته بعد ذَلِك بِمدَّة، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة عِنْد
مُسلم: فَتَزَوجهَا عبَادَة بعد. وَفِيه: جَوَاز فلي
الرَّأْس وَقتل الْقمل، وَيُقَال قتل الْقمل وَغَيره من
المؤذيات مُسْتَحبّ. وَفِيه: نوم القائلة، لِأَنَّهُ يعين
الْبدن لقِيَام اللَّيْل. وَفِيه: جَوَاز الضحك عِنْد
الْفَرح، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحك فَرحا
وسروراً بِكَوْن أمته تبقى بعده متظاهرين، وَأُمُور
الْإِسْلَام قَائِمَة بِالْجِهَادِ حَتَّى فِي الْبَحْر.
وَفِيه: دلَالَة على ركُوب الْبَحْر للغزو، وَقَالَ سعيد
بن الْمسيب: كَانَ أَصْحَاب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يتجرون فِي الْبَحْر، مِنْهُم: طَلْحَة وَسَعِيد بن
زيد، وَهُوَ قَول جُمْهُور الْعلمَاء إلاَّ عمر بن الْخطاب
وَعمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
فَإِنَّهُمَا منعا من ركُوبه مُطلقًا. وَمِنْهُم من حمله
على ركُوبه لطلب الدُّنْيَا لَا للآخرة، وَكره مَالك
ركُوبه للنِّسَاء مُطلقًا، لما يخَاف عَلَيْهِنَّ من أَن
يطلع مِنْهُنَّ أم يطلعن على عَورَة، وَخَصه بَعضهم بالسفن
الصغار دون الْكِبَار، والْحَدِيث يخدش فِيهِ. فَإِن قلت:
روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يركب الْبَحْر إلاَّ
حَاجا أَو مُعْتَمِرًا أَو غازياً، فَإِن تَحت الْبَحْر
نَارا، وَتَحْت النَّار بحراً) . قلت: هَذَا حَدِيث
ضَعِيف، وَلما رَوَاهُ الْخلال فِي (علله) من حَدِيث لَيْث
عَن مُجَاهِد عَن عبد الله بن عمر يرفعهُ، قَالَ: قَالَ
ابْن معِين: هَذَا عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
مُنكر. وَفِيه: إِبَاحَة الْجِهَاد للنِّسَاء فِي
الْبَحْر، وَقد ترْجم البُخَارِيّ لذَلِك، على مَا
سَيَأْتِي. وَفِيه: أَن الْوَكِيل أَو المؤتمن إِذا علم
أَنه يسر صَاحب الْمنزل فِيمَا يَفْعَله فِي مَاله جَازَ
لَهُ فعل ذَلِك، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي عَطِيَّة
الْمَرْأَة من مَال زَوجهَا بِغَيْر إِذْنه، وَقد مر هَذَا
فِي الْوكَالَة. وَفِيه: أَن الْجِهَاد تَحت راية كل
إِمَام جَائِز ماضٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه: تمني
الْغَزْو وَالشَّهَادَة حَيْثُ قَالَت أم حرَام: أُدْعُ
الله أَن يَجْعَلنِي مِنْهُم. وَفِيه: أَنه من أَعْلَام
نبوته وَذَلِكَ أَنه أخبر فِيهِ بضروب الْغَيْب قبل
وُقُوعهَا، مِنْهَا: جِهَاد أمته فِي الْبَحْر، وضحكه دَال
على أَن الله تَعَالَى يفتح لَهُم ويغنمهم. وَمِنْهَا
الْإِخْبَار بِصفة أَحْوَالهم فِي جهادهم، وَهُوَ قَوْله:
(يركبون ثبج هَذَا الْبَحْر) ، وَمِنْهَا قَوْله لأم
حرَام: أَنْت من الْأَوَّلين، فَكَانَ كَذَلِك. وَمِنْهَا:
الْإِخْبَار بِبَقَاء أمته من بعده، وَأَن يكون لَهُم
شَوْكَة، وَأَن أم حرَام تبقى إِلَى ذَلِك الْوَقْت، وكل
ذَلِك لَا يعلم إلاَّ بِوَحْي عَليّ أُوحِي بِهِ إِلَيْهِ
فِي نَومه. وَفِيه: أَن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم
الصَّلَاة وَالسَّلَام، حق. وَفِيه: الضحك المبشر إِذا بشر
بِمَا يسر، كَمَا فعل الشَّارِع. قَالَ الْمُهلب: وَفِيه:
فضل لمعاوية وَأَن الله قد بشر بِهِ نبيه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي النّوم، لِأَنَّهُ أول من غزا فِي
الْبَحْر وَجعل من غزا تَحت رايته من الْأَوَّلين. وَفِيه:
أَن الْمَوْت فِي سَبِيل الله شَهَادَة، وَقَالَ ابْن أبي
(شيبَة) : حَدثنَا يزِيد
(14/87)
ابْن هَارُون حَدثنَا أنس بن عون عَن ابْن
سِيرِين عَن أبي الْعَجْفَاء السّلمِيّ، قَالَ: قَالَ عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قَالَ مُحَمَّد صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من قتل فِي سَبِيل الله أَو مَاتَ فَهُوَ
فِي الْجنَّة. وَفِيه: دلَالَة على أَن من مَاتَ فِي
طَرِيق الْجِهَاد من غير مُبَاشرَة ومشاهدة، لَهُ من
الْأجر مثل مَا للمباشر، وَكَانَت النِّسَاء إِذا غزون
يسقين المَاء ويداوين الكلمى ويصنعن لَهُم طعامهم وَمَا
يصلحهم، فَهَذِهِ مُبَاشرَة. وَفِيه: أَن الْمَوْت فِي
سَبِيل الله وَالْقَتْل سَوَاء، أَو قَرِيبا من السوَاء
فِي الْفضل، قَالَه أَبُو عمر، قَالَ: وَإِنَّمَا قلت: أَو
قَرِيبا من السوَاء، لاخْتِلَاف النَّاس فِي ذَلِك، فَمن
أهل الْعلم من جعل الْمَيِّت فِي سَبِيل الله والمقتول
سَوَاء، وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {وَالَّذين هَاجرُوا فِي
سَبِيل الله ثمَّ قتلوا أَو مَاتُوا ليرزقنهم الله رزقا
حسنا} (الْحَج: 85) . وَبِقَوْلِهِ: {وَمن يخرج من بَيته
مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت
فقد وَقع أجره على الله} (النِّسَاء: 001) . وَبِقَوْلِهِ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث عبد الله بن عتِيك:
(من خرج مُجَاهدًا فِي سَبِيل الله فخرَّ عَن دَابَّته أَو
لدغته حَيَّة أَو مَاتَ حتف أَنفه فقد وَقع أجره على الله)
وَفِي مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة، يرفعهُ: من قتل فِي سَبِيل
الله فَهُوَ شَهِيد، وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث بَقِيَّة
عَن عبد الرَّحْمَن بن ثَابت بن ثَوْبَان عَن أَبِيه عَن
مَكْحُول عَن ابْن غنم عَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من وقصه فرسه أَو بعيره
أَو لدغته هَامة أَو مَاتَ على فرَاشه، على أَي حتف شَاءَ
الله، فَهُوَ شَهِيد، وَأخرجه الْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح
على شَرط مُسلم، وَذكر الْحلْوانِي فِي (كتاب الْمعرفَة) ،
فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو عَليّ الْحَنَفِيّ حَدثنَا
إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن مهَاجر عَن عبد الْملك بن
عُمَيْر، قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: من حَبسه السُّلْطَان، وَهُوَ ظَالِم لَهُ، وَمَات
فِي محبسه ذَلِك فَهُوَ شَهِيد، وَمن ضربه السُّلْطَان
ظَالِما فَمَاتَ من ضربه ذَلِك فَهُوَ شَهِيد، وكل موت
يَمُوت بِهِ الْمُسلم فَهُوَ شَهِيد، غير أَن الشَّهَادَة
تتفاضل. وروى الْحَاكِم من حَدِيث كَعْب بن عجْرَة، قَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر يَوْم بدر، وَرَأى
قَتِيلا: يَا عمر! إِن للشهداء سادة وأشرافاً وملوكاً،
وَإِن هَذَا مِنْهُم. وَاخْتلفُوا فِي شَهِيد الْبَحْر:
أهوَ أفضل أم شَهِيد الْبر؟ فَقَالَ قوم: شَهِيد الْبر،
وَقَالَ قوم: شَهِيد الْبَحْر، قَالَ أَبُو عمر: وَلَا
خلاف بَين أهل الْعلم أَن الْبَحْر إِذا ارتج لم يجز
ركُوبه لأحد بِوَجْه من الْوَجْه، فِي حِين ارتجاجه،
وَالَّذين رجحوا: شَهِيد الْبَحْر، احْتَجُّوا بِمَا
رَوَاهُ ابْن أبي عَاصِم فِي كتاب الْجِهَاد عَن الْحسن
ابْن الصَّباح، حَدثنَا يحيى بن عباد حَدثنَا يحيى بن عبد
الْعَزِيز عَن عبد الْعَزِيز بن يحيى حَدثنَا سعيد بن
صَفْوَان عَن عبد الله ابْن الْمُغيرَة بن عبد الله بن أبي
بردة: سَمِعت عبد الله بن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الشَّهَادَة تكفر كل شَيْء إلاَّ
الدّين، والغزو فِي الْبَحْر يكفر ذَلِك كُله. وَمن حَدِيث
عبد الله بن صَالح عَن يحيى بن أَيُّوب عَن يحيى بن سعيد
عَن عَطاء بن يسَار عَن ابْن عَمْرو مَرْفُوعا: غَزْوَة
فِي الْبَحْر خير من عشر غزوات فِي الْبر، وروى أَبُو
دَاوُد من حَدِيث يعلى بن شَدَّاد عَن أم حرَام عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: الْمَائِدَة
فِي الْبَحْر الَّذِي يُصِيبهُ الْقَيْء وَله أجر شَهِيد،
وَالْغَرق لَهُ أجر شهيدين. وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث
أبي الدَّرْدَاء أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: غَزْوَة فِي الْبَحْر مثل عشر غزوات فِي الْبر،
وَالَّذِي يسدر فِي الْبَحْر كالمتشحط فِي دَمه فِي سَبِيل
الله. وروى ابْن مَاجَه أَيْضا من حَدِيث سليم بن عَامر،
قَالَ: سَمِعت أَبَا أُمَامَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: شَهِيد الْبَحْر مثل
شهيدين فِي الْبر، والمائد فِي الْبَحْر كالمتشحط فِي دَمه
فِي الْبر، وَمَا بَين الموجتين كقاطع الدِّينَا فِي
طَاعَة الله تَعَالَى، فَإِن الله وكل ملك لمَوْت بِقَبض
الْأَرْوَاح إلاَّ شَهِيد الْبَحْر، فَإِنَّهُ يتَوَلَّى
قبض أَرْوَاحهم وَيغْفر لشهيد الْبر الذُّنُوب كلهَا إلاَّ
الدَّين، ولشهيد الْبَحْر الذُّنُوب والدَّين. قَوْله:
المائد هُوَ الَّذِي يدار بِرَأْسِهِ من ريح الْبَحْر
واضطراب السَّفِينَة بالأمواج. قَوْله: (الْغَرق) ،
بِكَسْر الرَّاء: الَّذِي يَمُوت بِالْغَرَقِ، وَقيل: هُوَ
الَّذِي غَلبه المَاء وَلم يغرق: فَإِذا غرق فَهُوَ غريق.
قَوْله: (الْغَرق) ، بِكَسْر الرَّاء: الَّذِي يَمُوت
بِالْغَرَقِ، وَقيل: هُوَ الَّذِي غَلبه المَاء وَلم يغرق:
فَإِذا غرق فَهُوَ غريق. قَوْله: (وَالَّذِي يسدر) ، من
السدر، بِالتَّحْرِيكِ: كالدوار، وَكَثِيرًا مَا يعرض
لراكب الْبَحْر، يُقَال: سدر يسدر سدراً. قَوْله:
(كالمتشحط فِي دَمه) ، وَهُوَ الَّذِي يتمرغ ويضطرب ويتخبط
فِي دَمه.
4 - (بابُ دَرَجَاتِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ الله)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان دَرَجَات الْمُجَاهدين فِي
سَبِيل الله، والمجاهد فِي سَبِيل الله هُوَ الَّذِي
يُجَاهد لإعلاء كلمة الله ونصرة الدّين من غير الْتِفَات
إِلَى الدُّنْيَا.
(14/88)
يُقالُ هَذِهِ سَبِيلِي وهاذَا سَبِيلِي
غَرَضه من هَذَا أَن السَّبِيل يذكر وَيُؤَنث، وَبِذَلِك
جزم الْقُرَّاء فِي قَوْله تَعَالَى: {ليضل عَن سَبِيل
الله بِغَيْر علم ويتخذها هزوا} (لُقْمَان: 6) .
وَالضَّمِير يعود إِلَى آيَات الْقُرْآن، وَإِن شِئْت
جعلته للسبيل لِأَنَّهَا قد تؤنث. قَالَ الله تَعَالَى:
{قل هَذِه سبيلي} (يُوسُف: 801) . وَفِي قِرَاءَة أبي بن
كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: {وَإِن يرَوا سَبِيل
الرشد لَا يتخذوها سَبِيلا} (الْأَعْرَاف: 641) . وَقَالَ
ابْن سَيّده: السَّبِيل الطَّرِيق وَمَا وضح مِنْهُ، وسبيل
الله طَرِيق الْهدى الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ، وَيجمع على:
سبل.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله غُزَّاً واحِدُها غاز هُمْ دَرجاتٌ
لَهُمْ درَجَاتٌ
هَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَأَبُو عبد الله
هُوَ البُخَارِيّ. قَوْله: (غزى) ، بِضَم الْغَيْن
وَتَشْديد الزَّاي جمع غاز أَصله غزى، كسبق جمع سَابق،
وَجَاء مثل: حَاج وحجيج، وقاطن وقطين، وغزاء مثل فَاسق
وفساق. قَوْله: (هم دَرَجَات لَهُم دَرَجَات) ، فسر
قَوْله: هم دَرَجَات، بقوله: لَهُم دَرَجَات أَي: لَهُم
منَازِل، وَقيل: تَقْدِيره ذووا دَرَجَات.
0972 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ صالِحٍ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحٌ
عنْ هِلاَلِ بنَ عَلَيٍّ عنْ عَطاءِ بنِ يَسارٍ عَنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من آمَنَ بِاللَّه
وبِرَسُولِهِ وأقامَ الصَّلاة وصامَ رمضَانَ كانَ حَقَّاً
علَى الله أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ
الله أوْ جَلَسَ فِي أرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا
فقالُوا يَا رسولَ الله أفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ قَالَ
إنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أعَدَّهَا الله
لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ الله مَا بَيْنَ
الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ فإذَا
سألْتُمُ الله فاسْألُوهُ الفِرْدَوْسَ فإنَّهُ أوْسَط
الجَنَّةِ وأعْلاى الجَنَّةِ أُرَاهُ قَالَ وفَوْقَهُ
عَرْشُ الرَّحْمانِ تفَجَّرُ أنْهَارُ الجَنَّةِ.
(الحَدِيث 0972 طرفه فِي: 3247) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن فِي الْجنَّة مائَة
دَرَجَة) إِلَى قَوْله: (مَا بَين الدرجتين) .
وَيحيى بن صَالح الوحاظي أَبُو زَكَرِيَّاء الشَّامي
الدِّمَشْقِي، وَيُقَال: الْحِمصِي، وَهُوَ من جملَة
الْأَئِمَّة الْحَنَفِيَّة أَصْحَاب الإِمَام أبي حنيفَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وفليح، بِضَم الْفَاء وَفتح
اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء
مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان، وَكَانَ اسْمه عبد الْملك
ولقبه فليح فغلب عَلَيْهِ واشتهر بِهِ، وهلال بن عَليّ
هُوَ هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن أبي
هِلَال الفِهري الْمدنِي، وَعَطَاء بن يسَار ضد الْيَمين.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن
إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن فليح عَن أَبِيه
بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فَقَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة
وَأحمد بن عَبدة الضَّبِّيّ، قَالَا: حَدثنَا عبد
الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار
عَن معَاذ بن جبل: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: (من صَامَ رَمَضَان وَصلى الصَّلَوَات وَحج
الْبَيْت لَا أَدْرِي أذكر الزَّكَاة أم لَا إلاَّ كَانَ
حَقًا على الله أَن يغْفر لَهُ إِن هَاجر فِي سَبِيل الله
أَو مكث بأرضه الَّتِي ولد بهَا، قَالَ معَاذ: أَلا أخبر
بهَا النَّاس؟ فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: ذَر النَّاس يعْملُونَ، فَإِن فِي الْجنَّة مائَة
دَرَجَة مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَين السَّمَاء
وَالْأَرْض، والفردوس أَعلَى الْجنَّة وأوسطها، وَفَوق
ذَلِك عرش الرَّحْمَن، وَمِنْهَا تفجر أَنهَار الْجنَّة
فَإِذا سَأَلْتُم الله فَاسْأَلُوهُ الفردوس. قَوْله: (عَن
عَطاء بن يسَار) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين،
وَقَالَ أَبُو عَامر الْعَقدي: عَن فليح عَن هِلَال عَن
عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة، بدل: عَطاء بن يسَار، أخرجه
أَحْمد وَإِسْحَاق فِي (مسنديهما) عَنهُ، وَهُوَ وهم من
فليح فِي حَال تحديثه لأبي عَامر، وَعند فليح بِهَذَا
الْإِسْنَاد حَدِيث غير هَذَا، وَهُوَ فِي الْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر
حَدثنَا مُحَمَّد بن فليح، قَالَ: حَدثنِي أبي عَن هِلَال
بن عَليّ عَن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي عمْرَة عَن أبي
هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الحَدِيث
على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (وَأقَام الصَّلَاة وَصَامَ رَمَضَان) ، وَقَالَ
ابْن بطال: هَذَا الحَدِيث كَانَ قبل فرض الزَّكَاة
وَالْحج، فَلذَلِك لم يذكر فِيهِ. وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) : وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن الزَّكَاة فرضت
قبل خَيْبَر، وَهَذَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة، وَلم
يَأْتِ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلاَّ
بِخَيْبَر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّ الزَّكَاة
وَالْحج لم يَكُونَا واجبين فِي ذَلِك الْوَقْت، أَو على
التسامح. انْتهى. قلت: هَذَا أَيْضا تبع ابْن بطال، وَقد
ثَبت
(14/89)
الْحَج فِي التِّرْمِذِيّ فِي حَدِيث معَاذ
بن جبل، وَقَالَ فِيهِ: لَا أَدْرِي أذكر الزَّكَاة أم
لَا. قَوْله: أَو على التسامح، يُمكن أَن يكون جَوَابا
لعدم ذكر الزَّكَاة وَالْحج، لِأَن الزَّكَاة لَا تجب
إلاَّ على الْغَنِيّ بِشَرْطِهِ، وَالْحج يجب فِي الْعُمر
مرّة على التَّرَاخِي. قَوْله: (كَانَ حَقًا على الله)
قَالَ الْكرْمَانِي: أَي كالحق. قلت: مَعْنَاهُ حق بطرِيق
الْفضل وَالْكَرم لَا بطرِيق الْوُجُوب. قَوْله: (أَو جلس
فِي أرضه) ، وَفِي بعض النّسخ: أَو جلس فِي بَيته، فِيهِ
تأنيس لمن حرم الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، فَإِن لَهُ من
الْإِيمَان بِاللَّه والتزام الْفَرَائِض مَا يوصله إِلَى
الْجنَّة لِأَنَّهَا هِيَ غَايَة الطالبين، وَمن أجلهَا
بذل النُّفُوس فِي الْجِهَاد خلافًا لما يَقُوله بعض جهلة
المتصوفة. وَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أنس يرفعهُ: (من
طلب الشَّهَادَة صَادِقا أعطيها وَلَو لم تصبه) ، وَعند
الْحَاكِم (من سَأَلَ الْقَتْل صَادِقا ثمَّ مَاتَ أعطَاهُ
الله أجر شَهِيد) ، وَعند النَّسَائِيّ بِسَنَد جيد عَن
معَاذ يرفعهُ: من سَأَلَ الله من عِنْد نَفسه صَادِقا ثمَّ
مَاتَ أَو قتل فَلهُ أجر شَهِيد) . قَوْله: (قَالُوا: يَا
رَسُول الله) قيل: الَّذِي خاطبه بذلك معَاذ بن جبل، كَمَا
فِي حَدِيث التِّرْمِذِيّ الَّذِي مضى، أَو أَبُو
الدَّرْدَاء، كَمَا وَقع عِنْد الطَّبَرَانِيّ. قَوْله:
(إِن فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة) ، قَالَ الْكرْمَانِي:
قيل: لما سوى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين
الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَعَدَمه فِي دُخُول الْجنَّة،
وَرَأى استبشار السَّامع بذلك لسُقُوط مشاق الْجِهَاد
عَنهُ استدرك. بقوله: (إِن فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة) ،
كَذَا وَكَذَا، وَأما الْجَواب فَهُوَ من الأسلوب
الْحَكِيم أَي: بشرهم بِدُخُول الْجنَّة بِالْإِيمَان،
وَلَا تكتف بذلك، بل زد عَلَيْهَا بِشَارَة أُخْرَى،
وَهُوَ الْفَوْز بدرجات الشُّهَدَاء، وبل بشرهم أَيْضا
بالفردوس. قلت: قَوْله: وَأما الْجَواب ... إِلَى آخِره،
من كَلَام الطَّيِّبِيّ، وَاعْترض عَلَيْهِ بَعضهم بقوله:
لَو لم يرد الحَدِيث إلاَّ كَمَا وَقع هُنَا لَكَانَ مَا
قَالَ متجهاً، لَكِن وَردت فِي الحَدِيث زِيَادَة دلّت على
أَن قَوْله: فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة، تَعْلِيل لترك
الْبشَارَة الْمَذْكُورَة، فَعِنْدَ التِّرْمِذِيّ من
رِوَايَة معَاذ الْمَذْكُورَة، قلت: يَا رَسُول الله أَلا
أخبر النَّاس، قَالَ: ذَر النَّاس يعْملُونَ فَإِن فِي
الْجنَّة مائَة دَرَجَة) ، فَظهر أَن المُرَاد: لَا تبشر
النَّاس بِمَا ذكرته من دُخُول الْجنَّة لمن آمن وَعمل
الْأَعْمَال الْمَفْرُوضَة عَلَيْهِ، فيقفوا عِنْد ذَلِك،
وَلَا يتجاوزه إِلَى مَا هُوَ أفضل مِنْهُ من الدَّرَجَات
الَّتِي تحصل بِالْجِهَادِ، وَهَذِه هِيَ النُّكْتَة فِي
قَوْله: (أعدهَا للمجاهدين) . انْتهى. قلت: كَلَام
الطَّيِّبِيّ مُتَّجه، والاعتراض عَلَيْهِ غير وَارِد
أصلا، لِأَن قَوْله: لَكِن وَردت فِي الحَدِيث زِيَادَة
... إِلَى آخِره، غير مُسلم لِأَن الزِّيَادَة
الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث معَاذ بن جبل وَكَلَام
الطَّيِّبِيّ وَغَيره فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وكل
وَاحِد من الْحَدِيثين مُسْتَقل بِذَاتِهِ، والراوي
مُخْتَلف فَكيف يكون مَا فِي حَدِيث معَاذ تعليلاً لما فِي
حَدِيث أبي هُرَيْرَة، على أَن حَدِيث معَاذ هَذَا لَا
يعادل حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَلَا يدانيه، فَإِن عَطاء بن
يسَار لم يدْرك معَاذًا، قَالَ التِّرْمِذِيّ: عَطاء لم
يدْرك معَاذ بن جبل، معَاذ قديم الْمَوْت، مَاتَ فِي
خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (كَمَا
بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) ، وَفِي رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة شريك عَن مُحَمَّد بن جحادة عَن
عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة مَا بَين
كل دَرَجَتَيْنِ مائَة عَام. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن
غَرِيب، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من هَذَا الْوَجْه:
خَمْسمِائَة عَام، وروى التِّرْمِذِيّ، قَالَ: حَدثنَا
قُتَيْبَة، قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة عَن دراج عَن أبي
الْهَيْثَم عَن أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: إِن فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة لَو أَن
الْعَالمين اجْتَمعُوا فِي إِحْدَاهُنَّ لوسعتهم. قَالَ:
هَذَا حَدِيث غَرِيب. قَوْله: (الفردوس) ، قيل: هُوَ
الْبُسْتَان الَّذِي يجمع مَا فِي الْبَسَاتِين كلهَا من
شجر وزهر ونبات. وَقيل: هُوَ متنزه أهل الْجنَّة. وَفِي
التِّرْمِذِيّ: هُوَ ربوة الْجنَّة. وَقيل: الَّذِي فِيهِ
الْعِنَب، يُقَال: كرم مفردس، أَي: معرش، وَقيل: هُوَ
الْبُسْتَان بالرومية، فَنقل إِلَى الْعَرَبيَّة، وَهُوَ
مُذَكّر وَإِنَّمَا أنث فِي قَوْله تَعَالَى: {يَرِثُونَ
الفردوس هم فِيهَا خَالدُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 11) .
قَالَ الجواليقي عَن أهل اللُّغَة: وَقَالَ الزّجاج:
الفردوس الأودية الَّتِي تنْبت ضروباً من النَّبَات وَهُوَ
لفظ سرياني، وَقيل: أَصله بالنبطية فرداساً وَقيل: الفردوس
يعد بَابا من أَبْوَاب الْجنَّة. قَوْله: (أَوسط الْجنَّة)
، أَي: أفضلهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} (الْبَقَرَة: 341) . أَي: خياراً.
وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يُرِيد متوسط الْجنَّة،
وَالْجنَّة قد حفت بهَا من كل جِهَة. قَوْله: (وَأَعْلَى
الْجنَّة) يَعْنِي: أرفعها، لِأَن الله مدح الْجنان إِذا
كَانَت فِي علو، وَقَالَ: {كَمثل جنَّة بِرَبْوَةٍ}
(الْبَقَرَة: 562) . وَقَالَ ابْن حبَان: المُرَاد بالأوسط
السعَة، وبالأعلى الْفَوْقِيَّة، وَقيل: الْحِكْمَة فِي
الْجمع بَين الْأَعْلَى والأوسط أَنه أَرَادَ
بِأَحَدِهِمَا الْحسي وبالآخر الْمَعْنَوِيّ. وَقَالَ
بَعضهم: المُرَاد بالأوسط هُنَا الأعدل، وَالْأَفْضَل
كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا}
(الْبَقَرَة: 341) . فعلى هَذَا فعطف الْأَعْلَى عَلَيْهِ
للتَّأْكِيد. انْتهى. قلت: سُبْحَانَ الله، هَذَا كَلَام
عَجِيب، وليت شعري هَل أَرَادَ بالتأكيد التَّأْكِيد
اللَّفْظِيّ أَو التَّأْكِيد الْمَعْنَوِيّ، وَلَا يَصح
أَن يُرَاد أَحدهمَا على المتأمل. قَوْله:
(14/90)
(أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ،
وَهَذَا من كَلَام يحيى بن صَالح شيخ البُخَارِيّ، فِيهِ
وَقد رَوَاهُ غَيره: عَن فليح بِغَيْر شكّ مِنْهُم: يُونُس
بن مُحَمَّد عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره. قَوْله:
(وَمِنْه) أَي: من الفردوس، وَقد وهم من أعَاد الضَّمِير
إِلَى الْعَرْش. قَوْله: (تفجر) أَصله: تتفجر بتاءين فحذفت
إِحْدَاهمَا، أَي: تتشقق.
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ فُلَيْحٍ عنْ أبِيهِ وفَوْقَهُ عَرْشُ
الرَّحْمانِ
أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى أَن مُحَمَّد بن فليح
روى هَذَا الحَدِيث عَن أَبِيه فليح بِإِسْنَادِهِ هَذَا،
فَلم يشك كَمَا شكّ يحيى بن صَالح، بقوله: أرَاهُ فَوْقه
عرش الرَّحْمَن، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ
فِي التَّوْحِيد عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن
مُحَمَّد بن فليح عَن أَبِيه، وَقَالَ الجياني فِي نُسْخَة
أبي الْحسن الْقَابِسِيّ: قَالَ البُخَارِيّ حَدثنَا
مُحَمَّد بن فليح وَهُوَ وهم لِأَن البُخَارِيّ لم يدْرك
مُحَمَّدًا هَذَا إِنَّمَا يروي عَن أبي الْمُنْذر
وَمُحَمّد بن بشار عَنهُ، وَالصَّوَاب: قَالَ مُحَمَّد بن
فليح مُعَلّق كَمَا روته الْجَمَاعَة.
1972 - حدَّثنا مُوساى قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ قَالَ
حدَّثنا أَبُو رجاءٍ عنْ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم رأيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ
أتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فأدْخَلاني دَارَاً
هِيَ أحْسَنُ وأفْضَلُ لَمْ أرَ قَطُّ أحْسَنَ مِنْهَا
قالاَ أمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (هِيَ أحسن
وَأفضل) إِلَى آخِره، ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل،
وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم: هُوَ ابْن حَازِم، وَأَبُو
رَجَاء اسْمه عمرَان بن ملْحَان العطاردي الْبَصْرِيّ
أدْرك زمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعمر أَكثر
من مائَة وَعشْرين سنة، مَاتَ سنة خمس وَمِائَة، وَهَذَا
الحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب مَا قيل
فِي أَوْلَاد الْمُشْركين، مطولا بِعَين هَذَا
الْإِسْنَاد، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
5 - (بابُ الغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ فِي سَبِيلِ الله)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الغدوة، وَهِي من طُلُوع
الشَّمْس إِلَى الزَّوَال، وَهِي بِالْفَتْح: الْمرة
الْوَاحِدَة من الْغَد، وَهُوَ الْخُرُوج فِي أَي وَقت
كَانَ من أول النَّهَار إِلَى انتصافه، والروحة من
الزَّوَال إِلَى اللَّيْل، وَهُوَ بِالْفَتْح. الْمرة
الْوَاحِدَة من الرواح، وَهُوَ الْخُرُوج فِي أَي وَقت
كَانَ من زَوَال الشَّمْس إِلَى غُرُوبهَا. قَوْله: (فِي
سَبِيل الله) ، وَهُوَ الْجِهَاد.
وقابُ قَوْسِ أحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ
وقاب، بِالْجَرِّ عطفا على الغدوة الْمَجْرُور
بِالْإِضَافَة تَقْدِيره: وَفِي بَيَان فضل قدر قَوس
أحدكُم فِي الْجنَّة. قَالَ صَاحب (الْعين) : قاب الْقوس
قدر طولهَا، وَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ مَا بَين السيَّة
والمقبض، وَعَن مُجَاهِد: قدر ذِرَاع، والقوس الذِّرَاع:
بلغَة أزدشنة، وَقيل: الْقوس ذِرَاع يُقَاس بِهِ. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: قاب الْقوس، مَا بَين الْوتر والقوس، وَفِي
(الْمُخَصّص) : الْقوس أُنْثَى وتصغر بِغَيْر هَاء،
وَالْجمع: أقواس، وَقِيَاس وقسي وقسى، وَيُقَال: لكل قَوس
قابان، وَيُقَال: الْأَشْهر أَن القاب قدر، وَكَذَلِكَ:
القيب والقاد، والقيد، وَعين القاب: وَاو.
2972 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ
قَالَ حدَّثنا حُمَيْدٌ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قالَ لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ الله أوْ رَوْحَة خَيْرٌ مِنَ
الدُّنْيَا وَمَا فِيها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، ووهيب تَصْغِير وهب
هُوَ ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَحميد، بِضَم الْحَاء:
هُوَ الطَّوِيل.
والْحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ من هَذَا الْوَجْه.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن نصر بن عَليّ وَمُحَمّد بن
الْمثنى، كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن
حميد. وَأخرجه مُسلم عَن القعْنبِي عَن حَمَّاد بن سَلمَة
عَن ثَابت عَن أنس. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة
مقسم عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَالَ: غدْوَة فِي سَبِيل الله أَو رَوْحَة خير من
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن
غَرِيب. قلت: انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ. وَأخرج
مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي عبد الرَّحْمَن
الحبلي، واسْمه: عبد الله بن
(14/91)
يزِيد، قَالَ: سَمِعت أَبَا أَيُّوب، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: قَالَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: غدْوَة فِي سَبِيل الله، أَو رَوْحَة خير
مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وغربت. وَأخرج الْبَزَّار
وإبو يعلى الْموصِلِي فِي (مسنديهما) من رِوَايَة عَمْرو
بن صَفْوَان عَن عُرْوَة بن الزبير عَن أَبِيه قَالَ قَالَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لغدوة فِي سَبِيل
الله أَو رَوْحَة خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَقَالَ
الذَّهَبِيّ: صَفْوَان بن عَمْرو لَا يعرف، وَأخرج
الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من رِوَايَة الْحسن عَن عمرَان
بن حُصَيْن أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ ... فَذكره، وَفِي إِسْنَاده يُوسُف بن خَالِد
السَّمْتِي وَهُوَ ضَعِيف. وَأخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده)
وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث أبي أُمَامَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مطولا، وَفِيه: وَالَّذِي
نَفسِي بِيَدِهِ لغدوة أَو رَوْحَة فِي سَبِيل الله خير من
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ولمقام أحدكُم فِي الصَّفّ خير
من صلَاته سِتِّينَ سنة. وَإِسْنَاده ضَعِيف.
قَوْله: (لغدوة) مُبْتَدأ تخصص بِالصّفةِ وَهُوَ قَوْله:
(فِي سَبِيل الله) ، وَالتَّقْدِير: لغدوة كائنة فِي
سَبِيل الله. قَوْله: (أَو رَوْحَة) ، عطف عَلَيْهِ،
وَكلمَة: أَو، للتقسيم لَا للشَّكّ. قَوْله: (خير) ، خبر
الْمُبْتَدَأ وَاللَّام فِي: لغدوة، لَام التَّأْكِيد.
وَقَالَ بَعضهم: للقسم، وَفِيه نظر. وَقَالَ الْمُهلب:
معنى قَوْله: (خير من الدُّنْيَا) أَن ثَوَاب هَذَا
الزَّمن الْقَلِيل فِي الْجنَّة خير من الدُّنْيَا كلهَا،
وَكَذَا قَوْله: لَقَاب قَوس أحدكُم، أَي: مَوضِع سَوط فِي
الْجنَّة، يُرِيد مَا صغر فِي الْجنَّة من الْمَوَاضِع
كلهَا من بساتينها وأرضها، فَأخْبر أَن قصير الزَّمَان
وصغير الْمَكَان فِي الْآخِرَة خير من طَوِيل الزَّمَان
وكبير الْمَكَان فِي الدُّنْيَا تزهيداً وتصغيراً لَهَا
وترغيباً فِي الْجِهَاد إِذا بِهَذَا الْقَلِيل يُعْطِيهِ
الله فِي الْآخِرَة أفضل من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا،
فَمَا ظَنك بِمن أتعب فِيهِ نَفسه وَأنْفق مَاله. وَقَالَ
غَيره: معنى (خير من الدُّنْيَا) ثَوَاب ذَلِك فِي
الْجنَّة خير من الدُّنْيَا، وَقيل: خير من أَن يتَصَدَّق
بِمَا فِي الدُّنْيَا إِذا ملكهَا، وَقيل: إِذا ملك مَا
فِي الدُّنْيَا وأنفقها فِي وُجُوه الْبر وَالطَّاعَة غير
الْجِهَاد، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أَي الثَّوَاب
الْحَاصِل على مشْيَة وَاحِدَة فِي الْجِهَاد خير لصَاحبه
من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَو جمعت لَهُ بحذافيرها،
وَالظَّاهِر أَنه لَا يخْتَص ذَلِك بِالْغُدُوِّ والرواح
من بلدته، بل يحصل هَذَا حَتَّى بِكُل غدْوَة أَو روجة فِي
طَرِيقه إِلَى الْغَد، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَكَذَا
غدْوَة ورواحه فِي مَوضِع الْقِتَال، لِأَن الْجَمِيع
يُسمى غدْوَة وروحة فِي سَبِيل الله.
3972 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا
مُحَمَّدُ بنُ فُلَيْحٍ قَالَ حدَّثني أبي عنْ هِلاَلِ بنِ
عَلِيٍّ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ أبي عَمْرَةَ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَقابُ قَوْس فِي الجَنَّةِ
خَيْرٌ مِمَّا تَطْلُهُ علَيْهِ الشَّمْسُ وتَغرُبُ.
وَقَالَ لغدْوَةٌ أوْ رَوْحةُ فِي سبيلِ الله خَيْرٌ
مَمَّا تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وتَغْرُبُ..
مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لغدوة
أَو رَوْحَة فِي سَبِيل الله) وللجزء الثَّانِي فِي
قَوْله: (لَقَاب قَوس فِي الْجنَّة خير مِمَّا تطلع
عَلَيْهِ الشَّمْس وتغرب) ، وَمضى الْكَلَام فِي مُحَمَّد
بن فليح وَأَبِيهِ هِلَال بن عَليّ عَن قريب فِي الْبَاب
السَّابِق، وَعبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة الْأنْصَارِيّ
النجاري قَاضِي أهل الْمَدِينَة، وَاسم أبي عمْرَة: عَمْرو
بن مُحصن، وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد كلهم مدنيون.
قَوْله: (لَقَاب قَوس) ، مُبْتَدأ. قَوْله: (فِي الْجنَّة)
صفة قَوس. وَقَوله: (خير) خبر الْمُبْتَدَأ، وَاللَّام
فِي: لَقَاب، للتَّأْكِيد، وَكَذَلِكَ فِي: لغدوة. قَوْله:
(خير مِمَّا تطلع عَلَيْهِ الشَّمْس وتغرب) ، هُوَ معنى
قَوْله: خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَهَذَا مِنْهُ،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا هُوَ على مَا اسْتَقر
فِي النُّفُوس من تَعْظِيم ملك الدُّنْيَا، وَأما
التَّحْقِيق: فَلَا تدخل الْجنَّة مَعَ الدُّنْيَا تَحت
أفعل إلاَّ كَمَا يُقَال: الْعَسَل أحلى من الْخلّ.
4972 - حدَّثنا قَبِيصةُ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ أبِي
حازِمٍ عنْ سهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الرَّوْحَةُ
والغَدْوَةُ فِي سَبيلِ الله أفْضَلُ مِنَ الدُّنْيَا
وَمَا فِيها.
(الحَدِيث 3972 طرفه فِي: 3523) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقبيصَة، بِفَتْح الْقَاف
وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عقبَة، وَقد تكَرر ذكره،
وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء
الْمُهْملَة وبالزاي واسْمه: سَلمَة بن دِينَار الْمدنِي،
وَأَبُو حَازِم الَّذِي روى عَن أبي هُرَيْرَة: سلمَان
الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد أَيْضا عَن أبي بكر
بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه النَّسَائِيّ
عَن عَبدة بن عبد الله
(14/92)
وَأخرجه ابْن ماجة من رِوَايَة زَكَرِيَّاء
بن مَنْصُور عَن أبي حَازِم.
قَوْله: (الروحة والغدوة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: غدْوَة
أَو رَوْحَة، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أبي
غَسَّان عَن أبي حَازِم: لَرَوْحَة، بلام التَّأْكِيد قيل:
الْأَفْضَل هُوَ الْأَكْثَر ثَوابًا، فَمَا مَعْنَاهُ
هَهُنَا إِذْ لَا ثَوَاب فِي الدُّنْيَا؟ وَأجِيب: أَي:
أفضل من صرف مَا فِي الدُّنْيَا كلهَا لَو ملكهَا
إِنْسَان، لِأَنَّهُ زائل ونعيم الْآخِرَة باقٍ.
6 - (بابُ الحُورِ العِينِ وصِفَتِهِنَّ يَحَارُ فِيهَا
الطَّرْفُ شَدِيدَةُ سَوادِ العَيْنِ شَدِيدَةُ بَياضِ
العَيْنِ وزَوَّجْنَاهُمْ أنْكَحْنَاهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْحور الْعين وَبَيَان صفتهن،
وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: الْحور الْعين، بِغَيْر لفظ:
بَاب، فعلى هَذَا يكون الْحور مَرْفُوع بِأَنَّهُ مُبْتَدأ
خَبره مَحْذُوف، تَقْدِيره: الْحور الْعين وصفتهن مَا
نذكرهُ، وَالْعين: مَرْفُوع أَيْضا على الوصفية. وَقَوله:
(وصفتهن) أَيْضا مَرْفُوع عطف على الْحور، والحور بِضَم
الْحَاء جمع الْحَوْرَاء، وَقَالَ ابْن سَيّده: الْحور:
أَن يشْتَد بَيَاض بَيَاض الْعين وَسَوَاد سوادها. وتستدير
حدقتها وترق جفونها ويبيض مَا حولهَا وَقيل: الْحور شدَّة
سَواد المقلة فِي شدَّة بياضها فِي شدَّة بَيَاض الْجَسَد،
وَقيل: الْحور أَن تسود الْعين كلهَا مثل الظباء
وَالْبَقر، وَلَيْسَ فِي بني آدم حور، وَإِنَّمَا قيل
للنِّسَاء: حور الْعُيُون لِأَنَّهُنَّ يشبهن بالظباء
وَالْبَقر، وَقَالَ كرَاع: الْحور أَن يكون الْبيَاض
محدقاً بِالسَّوَادِ كُله، وَإِنَّمَا يكون هَذَا فِي
الْبَقر والظباء ثمَّ يستعار للنَّاس. وَقَالَ
الْأَصْمَعِي: لَا أَدْرِي مَا الْحور فِي الْعين، وَقد
حور حوراً واحور، وَهُوَ أحور، وَامْرَأَة حوراء، وَعين
حوراء، وَالْجمع حور، والأعراب تسمي نسَاء الْأَمْصَار:
حواريات، لبياضهن وتباعدهن عَن قشف الأعرابيات بنظافتهن.
قَوْله: (الْعين) ، بِكَسْر الْعين وَسُكُون الْيَاء: جمع
عيناء، وَهِي: الواسعة الْعين، وَالرجل أعين، وأصل الْجمع
بِضَم الْعين فَكسرت لأجل الْيَاء. قَوْله: (وصفتهن) ،
يَأْتِي بَيَان بعض صفتهن فِي آخر حَدِيث الْبَاب. فَإِن
قلت: مَا وَجه إِدْخَال هَذَا الْبَاب بَين هَذِه
الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة هُنَا؟ قلت: لما ذكر دَرَجَات
الْمُجَاهدين وَذكر أَن فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة، وَذكر
أَيْضا أَن فِيهَا امْرَأَة لَو اطَّلَعت ... إِلَى آخِره،
وَهِي من الْحور الْعين، ترْجم لَهَا بَابا بطرِيق
الاستطراد. قَوْله: (يحار فِيهَا الطّرف) ، كَلَام
مُسْتَأْنف، كَأَن قَائِلا يَقُول: مَا من صفتهن؟ فَقَالَ:
يحار فِيهَا الطّرف، أَي: يتحير فِيهِنَّ الْبَصَر لحسنها،
وَفِي (الْمغرب) : الطّرف تَحْرِيك الجفن بِالنّظرِ،
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الطّرف لَا يثنى وَلَا يجمع
لِأَنَّهُ فِي الأَصْل مصدر، وَقيل: ظن البُخَارِيّ أَن
اشتقاق الْحور من الْحيرَة، حَيْثُ قَالَ: يحار فِيهَا
الطّرف، لِأَن أَصله: يحير، نقلت حَرَكَة الْيَاء إِلَى
مَا قبلهَا، ثمَّ قلبت ألفا ومادته يائية، والحور من
الْحور ومادته واوية، وَقَالَ بَعضهم: لَعَلَّ البُخَارِيّ
لم يرد الِاشْتِقَاق الْأَصْغَر. قلت: لم يقل أحد
الِاشْتِقَاق الْأَصْغَر، وَإِنَّمَا قَالُوا:
الِاشْتِقَاق على ثَلَاثَة أَنْوَاع: اشتقاق صَغِير،
واشتقاق كَبِير، واشتقاق أكبر، وَلَا يَصح أَن يكون الْحور
مشتقاً من الْحيرَة على نوع من الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة،
وَلَا يخفى ذَلِك على من لَهُ بعض يَد من علم الصّرْف.
قَوْله: (شَدِيدَة سَواد الْعين) ، تَفْسِير الْعين
بِالْكَسْرِ فِي قَوْله: بِالْكَسْرِ فِي قَوْله:
الحورالعين، وَكَذَلِكَ قَوْله: (شَدِيدَة بَيَاض الْعين)
وَالْعين فيهمَا بِالْفَتْح. قَوْله: (وزوجناهم: أنكحناهم)
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الدخن:
{كَذَلِك وزوجناهم بحور عين} (الدُّخان: 45) . مُنَاسبَة
للتَّرْجَمَة لِأَنَّهَا فِي الْحور الْعين أَي كَمَا
أكرمناهم بجنات وعيون ولباس كَذَلِك أكرمناهم بِأَن
زوجناهم بحور عين وَتَفْسِيره بقوله: (أنكحناهم) ، قَول
أبي عُبَيْدَة، وَفِي لفظ لَهُ: (زوجناهم: جعلناهم
أَزْوَاجًا) أَي: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، كَمَا تَقول: زوجت
النَّعْل بالنعل.
5972 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
مُعاوِيَةُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا أَبُو إسْحَاقَ عنْ
حُمَيْدٍ قالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
مَا منْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عنْدَ الله خَيْرٌ يَسُرُّهُ
أنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وأنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا
فِيهَا إلاَّ الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ
الشَّهَادَةِ فإنَّهُ يَسُرُّهُ أنْ يَرْجِعَ إِلَى
الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أخْرَى.
(الحَدِيث 5972 طرفه فِي: 7182) .
6972 - قَالَ وسَمِعْتُ أنَسَ بنَ مَالِكٍ عنِ
(14/93)
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ الله أوْ غَدْوةٌ خَيْرٌ مِنَ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ولقابُ قَوْسِ أحَدِكُمْ مِنَ
الجَنَّةِ أوْ مَوْضِعُ قِيْدٍ يَعْنِي سَوْطَهُ خَيْرٌ
مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ولَوْ أنَّ امْرَأةً مِنْ
أهْلِ الجَنَّةِ اطْلَعَتْ إلَى أهْلِ الأرْضِ لأضَاءَتْ
مَا بَيْنَهُمَا ولَمَلأتْهُ رِيحاً ولَنَصِيفُهَا على
رأسِها خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيها.
(انْظُر الحَدِيث 2972 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَلَو أَن
امْرَأَة) إِلَى آخر الحَدِيث، لِأَنَّهُ قَالَ فِي
التَّرْجَمَة: الْحور الْعين وصفتهن، وَالْمَذْكُور فِيهِ
صفتان عظيمتان من صِفَات الْحور الْعين إِحْدَاهمَا.
قَوْله: (وَلَو أَن امْرَأَة من أهل الْجنَّة اطَّلَعت
إِلَى أهل الدُّنْيَا لَأَضَاءَتْ) وَالْأُخْرَى قَوْله:
(وَلنَصِيفهَا) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن
عبد الله أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ البُخَارِيّ
الْمَعْرُوف بالمسندي. الثَّانِي: مُعَاوِيَة بن عَمْرو
الْأَزْدِيّ الْبَغْدَادِيّ، وَقد مر فِي الْجُمُعَة.
الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق: اسْمه: إِبْرَاهِيم بن
مُحَمَّد الْفَزارِيّ، سكن المصيصة من الشَّام. الرَّابِع:
حميد الطَّوِيل. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن
مُعَاوِيَة بن عَمْرو من شُيُوخ البُخَارِيّ يروي عَنهُ
تَارَة بِوَاسِطَة كَمَا هُنَا وَتارَة بِلَا وَاسِطَة،
فَأَنَّهُ روى عَنهُ فِي كتاب الْجُمُعَة بِلَا وَاسِطَة،
وَمن اللطائف فِيهِ أَنه مُشْتَمل على أَرْبَعَة أَحَادِيث
الأول: قَوْله: مَا من عبد يَمُوت ... إِلَى قَوْله: مرّة
أُخْرَى. الثَّانِي: قَوْله: وَسمعت أنس بن مَالك ...
إِلَى قَوْله: وَمَا فِيهَا. الثَّالِث: قَوْله: وَلَقَاب
قَوس أحدكُم. الرَّابِع: قَوْله: وَلَو أَن امْرَأَة إِلَى
آخِره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يَمُوت) ، جملَة وَقعت صفة لعبد،
وَكَذَلِكَ قَوْله: (لَهُ عِنْد الله خير) صفة أُخْرَى.
قَوْله: خير، أَي: ثَوَاب. قَوْله: (يسره) جملَة وَقعت صفة
لقَوْله: خير، قَوْله: (أَن يرجع) كلمة: أَن،
مَصْدَرِيَّة، و: يرجع، لَازم. قَوْله: (وَأَن لَهُ
الدُّنْيَا) ، بِفَتْح الْهمزَة عطف على: أَن يرجع، وَيجوز
الْكسر على أَن يكون جملَة حَالية. قَوْله: (إلاَّ
الشَّهِيد) ، مُسْتَثْنى من قَوْله: (يسره أَن يرجع)
قَوْله: (لما يرى) بِكَسْر اللَّام التعليلية. قَوْله:
(فَيقْتل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول بِالنّصب عطفا على:
أَن يرجع. قَوْله: (قَالَ: وَسمعت) ، أَي: قَالَ حميد
الرَّاوِي: سَمِعت. قَوْله: (لَرَوْحَة) . وَقَوله:
(وَلَقَاب قَوس) قد مر تفسيرهما عَن قريب. قَوْله: (أَو
مَوضِع قيد) قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ بَعضهم: وَقع فِي
النّسخ: قيد، بِزِيَادَة الْيَاء، وَإِنَّمَا هُوَ بِكَسْر
الْقَاف وَتَشْديد الدَّال لَا غير، وَهُوَ السَّوْط
الْمُتَّخذ من الْجلد الَّذِي لم يدبغ، وَمن رَوَاهُ: قيد،
بِزِيَادَة الْيَاء أَي: مِقْدَاره فقد صحف. قلت: لَا
تَصْحِيف، إِذْ معنى الْكَلَام صَحِيح لَا ضَرُورَة
إِلَيْهِ سلمنَا أَن المُرَاد: الْقد، غَايَة مَا فِي
الْبَاب أَن يُقَال: قلبت إِحْدَى الدالين يَاء، وذكل
كثير، وَفِي بَعْضهَا: قيد، بِدُونِ الْإِضَافَة إِلَى
الضَّمِير مَعَ التَّنْوِين الَّذِي هُوَ عوض من الْمُضَاف
إِلَيْهِ. انْتهى كَلَامه. وَقَالَ بَعضهم: قَوْله:
يَعْنِي سَوْطه، تَفْسِير للقيد غير مَعْرُوف، وَلِهَذَا
جزم بَعضهم أَنه تَصْحِيف، وَأَن الصَّوَاب: قد، بِكَسْر
الْقَاف وَتَشْديد الدَّال وَهُوَ السَّوْط الْمُتَّخذ من
الْجلد. ثمَّ قَالَ: قلت: وَدَعوى الْوَهم فِي التَّفْسِير
أسهل من دَعْوَى التَّصْحِيف فِي الأَصْل، وَلَا سِيمَا
والقيد بِمَعْنى القاب. انْتهى. قلت: قَول من قَالَ: إِن
من رَوَاهُ: قيد، بِزِيَادَة الْيَاء أَي: مِقْدَاره، فقد
صحف هُوَ الظَّاهِر، وَنفى الْكرْمَانِي التَّصْحِيف
بقوله: غَايَة مَا فِي الْبَاب أَن يُقَال: قلبت إِحْدَى
الدالين يَاء، وَذَلِكَ كثير، نَفْيه غير صَحِيح، لِأَن
تَعْلِيله لدعواه تَعْلِيل من لَيْسَ لَهُ، وقُوف على علم
الصّرْف، وَذَلِكَ أَن قلب أحد الحرفين المتماثلين يَاء
إِنَّمَا يجوز إِذا أَمن اللّبْس، وَلَا لبس أَشد من
الَّذِي يدعى أَن فِيهِ قلباً، فالقيد بِالْيَاءِ بعد
الْقَاف هُوَ الْمِقْدَار، وَالْقد بِالْكَسْرِ
وَالتَّشْدِيد هُوَ السَّوْط الْمُتَّخذ من الْجلد،
وَبَينهمَا بَون عَظِيم، وَأما قَول بَعضهم: دَعْوَى
الْوَهم فِي التَّفْسِير ... إِلَى آخِره، فَغير مُتَّجه،
لِأَن الْأَمر بِالْعَكْسِ، أَعنِي: دَعْوَى التَّصْحِيف
فِي الأَصْل أسهل من دَعْوَى الْوَهم فِي التَّفْسِير،
لِأَن التَّفْسِير مَبْنِيّ على صِحَة الأَصْل فَافْهَم،
فَإِن فِيهِ دقة. قَوْله: (وَلَو أَن امْرَأَة من أهل
الْجنَّة) ، ذكر الْعلمَاء أَن الْحور على أَصْنَاف مصنفة:
صغَار وكبار، وعَلى مَا اشتهت نفس أهل الْجنَّة.
وَذكر ابْن وهب عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ أَنه
قَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، لَو أَن امْرَأَة
من الْحور أطلعت سواراً لَهَا لأطفأ نور سوارها نور
الشَّمْس وَالْقَمَر، فَكيف الْمسور؟ وَإِن خلق الله
شَيْئا يلْبسهُ إلاَّ عَلَيْهِ مثل مَا عَلَيْهَا من
ثِيَاب وحلي. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (إِن فِي الْجنَّة
حوراء يُقَال لَهَا: العيناء، إِذا مشت
(14/94)
مَشى حولهَا سَبْعُونَ ألف وصيفة عَن
يَمِينهَا وَعَن يسارها، كَذَلِك، وَهِي تَقول: أَيْن
الآمرون بِالْمَعْرُوفِ والناهون عَن الْمُنكر؟ وَقَالَ
ابْن عَبَّاس: (فِي الْجنَّة حوراء يُقَال لَهَا العيناء،
لَو بزقت فِي الْبَحْر لعذب مَاؤُهُ) . وَقَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (رَأَيْت لَيْلَة الْإِسْرَاء حوراء
جبينها كالهلال، فِي رَأسهَا مائَة ضفيرة، مَا بَين
الضفيرة والضفيرة سَبْعُونَ ألف ذؤابة، والذوائب أضوء من
الْبَدْر وخلخالها مكلل بالدر، وصنوف الْجَوَاهِر وعَلى
جبينها سطران مكتوبان بالدر والجوهر، فِي الأول: بِسم الله
الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَفِي الثَّانِي: من أَرَادَ مثلي
فليعمل بِطَاعَة رَبِّي. فَقَالَ لي جِبْرِيل: هَذِه
وأمثالها لأمتك) . وَقَالَ ابْن مَسْعُود: (إِن
الْحَوْرَاء ليرى مخ سَاقهَا من وَرَاء اللَّحْم والعظم،
وَمن تَحت سبعين حلَّة، كَمَا يرى الشَّرَاب فِي الزّجاج
الْأَبْيَض) . وَرُوِيَ أَن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الْحور: من أَي شَيْء خُلِقْنَ؟
فَقَالَ: (من ثَلَاثَة أَشْيَاء: أسفلهن من الْمسك،
وأوسطهن من العنبر، وأعلاهن من الكافور، وحواجبهن سَواد
خطّ فِي نور) . وَفِي لفظ: سَأَلت جِبْرِيل، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن كَيْفيَّة خَلقهنَّ، فَقَالَ:
يخلقهن رب الْعَالمين من قضبان العنبر والزعفران مضروبات
عَلَيْهِنَّ الْخيام، أول مَا يخلق مِنْهُنَّ نهد من مسك
إذفر أَبيض عَلَيْهِ يلتام الْبدن. وَقَالَ ابْن عَبَّاس:
خلقت الْحَوْرَاء من أَصَابِع رِجْلَيْهَا إِلَى ركبتيها
من الزَّعْفَرَان، وَمن ركبتيها إِلَى ثدييها من الْمسك
الإذفر، وَمن ثدييها إِلَى عُنُقهَا من العنبر الْأَشْهب،
وعنقها من الكافور الْأَبْيَض، تلبس سَبْعُونَ ألف حلَّة
مثل شقائق النُّعْمَان، إِذا أَقبلت يتلألأ وَجههَا ساطعاً
كَمَا تتلألأ الشَّمْس لأهل الدُّنْيَا، وَإِذا أَقبلت ترى
كَبِدهَا من رقة ثِيَابهَا وجلدها، فِي رَأسهَا سَبْعُونَ
ألف ذؤابة من الْمسك، لكل ذؤابة مِنْهَا وصيفة ترفع ذيلها
... وَهَذِه الْأَحَادِيث كلهَا نقلتها من (التَّلْوِيح)
وَمَا وقفت على أَصْلهَا فِيهِ.
قَوْله: (ريحًا) أَي: عطراً. قَوْله: (وَلنَصِيفهَا) ،
بِفَتْح اللَّام الَّتِي هِيَ للتَّأْكِيد، وَفتح النُّون
وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَفِي آخِره فَاء: وَهُوَ الْخمار، بِكَسْر الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْمِيم.
7 - (بابُ تَمَنِّي الشَّهَادَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز تمني الشَّهَادَة.
7972 - حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ أخبرَنا شُعَيْبٌ عَن
الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنِي سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ والَّذيِ نَفْسِي
بِيَدِهِ لَوْلا أنَّ رِجالاً مِنَ المُؤْمِنِينَ لَا
تَطِيبُ أنْفُسُهُمْ أنْ يتَخَلَّفُوا عَنِّي ولاَ أجِدُ
مَا أحْمِلُهُم عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عنُ سريَّةٍ
تَغْزو فِي سَبِيلِ الله والَّذي نَفْسي بِيَدِهِ
لوَدَدْتُ أنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ أحْيَا
ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أحْيَا
ثُمَّ أُقْتَلُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من معنى الحَدِيث، فَإِن
فِيهِ تمني الشَّهَادَة، وَهَذَا السَّنَد بِعَيْنِه قد
مضى غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. وَهَذَا
الحَدِيث رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة من وَجه وَمضى فِي كتاب
الْإِيمَان فِي: بَاب الْجِهَاد من الْإِيمَان.
قَوْله: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَن رجَالًا
من الْمُؤمنِينَ لَا تطيب أنفسهم) ، وَفِي رِوَايَة أبي
زرْعَة وَأبي صَالح: (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي) ،
وَرِوَايَة الْبَاب تفسر المُرَاد بالمشقة الْمَذْكُورَة،
وَهِي أَن نُفُوسهم لَا تطيب بالتخلف، وَلَا يقدرُونَ على
التأهب لعجزهم عَن آلَة السّفر من مركوب وَغَيره، وَتعذر
وجوده عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصرح بذلك
فِي رِوَايَة هما، وَلَفظه: (وَلَكِن لَا أجد سَعَة
فأحملهم، وَلَا يَجدونَ سَعَة فيتبعوني، وَلَا تطيب أنفسهم
أَن يقعدوا بعدِي) . قَوْله: (عَن سَرِيَّة) ، أَي:
قِطْعَة من الْجَيْش يبلغ أقصاها أَرْبَعمِائَة تبْعَث
إِلَى الْعَدو، وَجمعه: السَّرَايَا، سموا بذلك لأَنهم
يكونُونَ خُلَاصَة الْعَسْكَر وخيارهم، من الشَّيْء
السّري: النفيس. قَوْله: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ
لَوَدِدْت) وَوَقع فِي رِوَايَة أبي زرْعَة بِلَفْظ:
(ولددت أَنِّي أقتل) ، بِحَذْف الْقسم. قَوْله: (أَنِّي
أقتل فِي سَبِيل الله) ، اسْتشْكل بَعضهم صُدُور هَذَا
الْيَمين من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَ علمه
بِأَنَّهُ لَا يقتل، وَأجَاب ابْن التِّين بِأَن ذَلِك
لَعَلَّه كَانَ قبل نزُول قَوْله تَعَالَى: {وَالله
يَعْصِمك من النَّاس} (الْمَائِدَة: 76) . وَاعْترض
عَلَيْهِ بِأَن نزُول هَذِه الْآيَة كَانَ فِي أَوَائِل
مَا قدم الْمَدِينَة، وَقد صرح أَبُو هُرَيْرَة
بِسَمَاعِهِ من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَكَانَ قدومه فِي أَوَائِل سنة سبع من
(14/95)
الْهِجْرَة. وَأجَاب بَعضهم بِأَن تمني الْفضل وَالْخَيْر
لَا يسْتَلْزم الْوُقُوع. قلت: أَو هُوَ ورد على
الْمُبَالغَة فِي فضل الْجِهَاد وَالْقَتْل فِيهِ،
وَسَيَجِيءُ عَن أنس فِي الشَّهِيد: (أَنه يتَمَنَّى أَن
يرجع إِلَى الدُّنْيَا فَيقْتل عشر مَرَّات لما يرى من
الْكَرَامَة) ، وروى الْحَاكِم بِسَنَد صَحِيح عَن جَابر:
كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا ذكر
أَصْحَاب أحد، قَالَ: (وَالله لَوَدِدْت أَنِّي غودرت مَعَ
أَصْحَابِي بفحص الْجَبَل) ، وفحص الْجَبَل مَا بسط مِنْهُ
وكشف من نواحيه.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يتَمَنَّى من أَفعَال الْخَيْر مَا يعلم أَنه
لَا يعطاه، حرصاً مِنْهُ على الْوُصُول إِلَى أَعلَى
دَرَجَات الشَّاكِرِينَ، وبذلاً لنَفسِهِ فِي مرضاة ربه،
وإعلاء كلمة دينه، ورغبته فِي الإزدياد من ثَوَاب ربه،
ولتتأسي بِهِ أمته فِي ذَلِك، وَقد يُثَاب الْمَرْء على
نِيَّته، وَسَيَأْتِي فِي كتاب التَّمَنِّي مَا يتمناه
الصالحون مِمَّا لَا سَبِيل إِلَى كَونه. وَفِيه: إِبَاحَة
الْقسم بِاللَّه على كل مَا يَعْتَقِدهُ الْمَرْء بِمَا
يحْتَاج فِيهِ إِلَى يَمِين وَمَا لَا يحْتَاج، وَكَذَا
مَا كَانَ يَقُول فِي كَلَامه: (لَا ومقلب الْقُلُوب) ،
لِأَن فِي الْيَمين بِاللَّه توحيداً وتعظيماً لَهُ
تَعَالَى، وَإِنَّمَا يكره تعمد الْحِنْث. وَفِيه: أَن
الْجِهَاد لَيْسَ بِفَرْض معِين على كل أحد، وَلَو كَانَ
معينا مَا تخلف الشَّارِع وَلَا أَبَاحَ لغيره التَّخَلُّف
عَنهُ، وَلَو شقّ على أمته إِذا كَانُوا يطيقُونَهُ، هَذَا
إِذا كَانَ الْعَدو لم يفجأ الْمُسلمين فِي دَارهم وَلَا
ظهر عَلَيْهِم وإلاَّ فَهُوَ فرض عين على كل من لَهُ
قُوَّة. وَفِيه: أَن الإِمَام والعالم يجوز لَهما ترك فعل
الطَّاعَة إِذا لم يطق أَصْحَابه ونصحاؤه على الْإِتْيَان
بِمثل مَا يقدر عَلَيْهِ، هُوَ مِنْهَا إِلَى وَقت قدرَة
الْجَمِيع عَلَيْهَا، وَذَلِكَ من كرم الصُّحْبَة وآداب
الْأَخْلَاق. وَفِيه: عظم فضل الشَّهَادَة.
8972 - حدَّثنا يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ الصَّفَارُ قل
حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ علَيَّةَ عنْ أيُّوبَ عنْ حُمِيدِ
بنِ هِلاَلٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى
عنهُ قَالَ خطَبَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ
أخذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فأصِيبَ ثُمَّ أخَذَهَا جَعْفَرٌ
فأصِيبَ ثُمَّ أخَذَهَا عَبْدُ الله بنُ رَوَاحَةَ فأصِيبَ
ثُمَّ أخَذَهَا خالِدُ بنُ الوَلِيدِ عنْ غَيْرِ إمْرَةٍ
فَفُتِحَ لَهُ وقالَ مَا يَسُرُّنَا أنَّهُمْ عنْدَنا
قَالَ أيُّوبُ أوْ قالَ مَا يَسُرُّهُمْ أنَّهُمْ عِنْدَنا
وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (مَا يسرهم أَنهم
عندنَا) وَذَلِكَ أَنهم لما رَأَوْا من الْكَرَامَة
بِالشَّهَادَةِ فَلَا يعجبهم أَن يعودوا إِلَى الدُّنْيَا،
كَمَا كَانُوا من غير أَن يستشهدوا مرّة أُخْرَى، ويوسف بن
يَعْقُوب الصفار، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد
الْفَاء وبالراء: الْكُوفِي، مَاتَ فِي سنة إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلم يخرج لَهُ البُخَارِيّ
سوى هَذَا الحَدِيث، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَحميد
بن بِلَال ابْن هُبَيْرَة الْعَدوي الْبَصْرِيّ.
وَهَذَا الحَدِيث قد مر فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب
الرجل ينعى إِلَى أهل الْمَيِّت، وَمضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
قَوْله: (زيد) ، هُوَ زيد بن حَارِثَة، وجعفر هُوَ ابْن
أبي طَالب، وَعبد الله بن رَوَاحَة، بِفَتْح الرَّاء
وَتَخْفِيف الْوَاو وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة. قَوْله:
(عَن غير إمرة) بِكَسْر الْهمزَة، أَي: بِغَيْر أَن يَجعله
أحد أَمِيرا لَهُم. قَوْله: (قَالَ أَيُّوب) هُوَ
الرَّاوِي الْمَذْكُور. قَوْله: (أَو قَالَ) ، شكّ من
أَيُّوب. قَوْله: (تَذْرِفَانِ) ، أَي: تسيلان دمعاً،
وَالْجُمْلَة حَالية. |