عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 8 - (بابُ فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ فِي
سَبِيلِ الله فَمَاتَ فَهْوَ مِنْهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من يصرع، وَكلمَة: من،
مَوْصُولَة تَضَمَّنت معنى الشَّرْط فَلذَلِك دخلت الْفَاء
فِي جوابها، وَهُوَ قَوْله: فَهُوَ مِنْهُم، أَي: من
الْمُجَاهدين. قَوْله: (فَمَاتَ) ، عطف على قَوْله: يصرع،
وَعطف الْمَاضِي على الْمُضَارع قَلِيل. وَقَوله:
(فَمَاتَ) ، سقط من رِوَايَة النَّسَفِيّ.
وقَوْلِ الله تعَالَى {ومنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهَاجِرَاً إلَى الله ورسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ
المَوْتُ فَقَدْ وقَعَ أجْرُهُ علَى الله} (النِّسَاء:
001) . وَقَعَ وجبَ
وَقَول الله، مجرور عطفا على قَوْله: فضل من يصرع، وَقَالَ
أَبُو عمر: روى هشيم عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير، فِي
قَوْله:
(14/96)
{وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله
وَرَسُوله} (النِّسَاء: 001) . قَالَ: كَانَ رجل من
خُزَاعَة يُقَال لَهُ ضَمرَة بن الْعيص بن ضَمرَة بن زنباع
الْخُزَاعِيّ، لما أمروا بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَ مَرِيضا،
فَأمر أَهله أَن يفرشوا لَهُ على سَرِير ويحملوه إِلَى
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فَفَعَلُوا،
فَأَتَاهُ الْمَوْت وَهُوَ بِالتَّنْعِيمِ، فَنزلت هَذِه
الْآيَة. وَقد قيل فِي ضَمرَة هَذَا: أَبُو ضَمرَة بن
الْعيص، قَالَ أَبُو عمر: وَالصَّحِيح أَنه ضَمرَة لَا
أَبُو ضَمرَة، روينَا عَن زيد بن حَكِيم عَن الحكم بن أبان
قَالَ: سَمِعت عِكْرِمَة يَقُول: اسْم الَّذِي خرج من
بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ضَمرَة بن الْعيص،
قَالَ عِكْرِمَة: طلبت اسْمه أَربع عشرَة سنة حَتَّى وقفت
عَلَيْهِ. فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة بَين التَّرْجَمَة
وَالْآيَة؟ قلت: يُدْرِكهُ الْمَوْت، أَعم من أَن يكون
بقتل، أَو وُقُوع من دَابَّته أَو غير ذَلِك. قَوْله:
(وَقع وَجب) ، لم يثبت هَذَا فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي
وَثَبت لغيره، وَقد فسره أَبُو عُبَيْدَة هَكَذَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {فقد وَقع أجره على الله} (النِّسَاء:
001) . أَي: وَجب ثَوَابه.
0082 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يوسُفَ قَالَ حدَّثني
اللَّيْثُ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى عنْ مُحَمَّدِ بنِ
يَحْيَى بنِ حَبَّانَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ عَن خالَتِهِ
أمِّ حرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ قالَتْ نامَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْماً قَرِيباً مِنِّي ثُمَّ
اسْتَيْقَظَ يَتَبَسَّمُ فَقُلْتُ مَا أضْحَكَكَ قَالَ
أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا علَيَّ يَرْكَبُونَ هَذَا
البَحْرَ الأخْضَرَ كالمُلُوكِ علَى الأسِرَّةِ قالَتْ
فادْعُ الله أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فدَعَا لَهَا ثُمَّ
نامَ الْثَّانِيَةَ فَفَعَلَ مِثْلَهَا فقَالَتْ مِثْلَ
قَوْلِهَا فأجابَهَا مِثْلَها فقالَتِ ادْعُ الله أنْ
يَجْعَلنِي مِنْهُمْ فَقَالَ أنْتِ منَ الأوَّلِينَ
فخَرَجَتْ معَ زَوْجِها عُبَادةَ بنِ الصَّامِتِ غازِياً
أوَّلَ مَا رَكِبَ المسْلِمُونَ البَحْرَ معَ مُعَاوِيَةَ
فلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قافِلِينَ فنَزَلُوا
الشَّامَ فقُرِّبَتْ إلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا
فصَرَعَتْهَا فَماتَتْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فصرعتها فَمَاتَتْ) ،
لِأَنَّهَا صرعت فِي سَبِيل الله تَعَالَى. وَيحيى هُوَ
ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَمُحَمّد بن يحيى ابْن حبَان،
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء
الْمُوَحدَة، مر فِي الْوضُوء، وَفِي الْإِسْنَاد تابعيان:
يحيى وَمُحَمّد، وصحابيان: أنس وخالته، وَقد مر الحَدِيث
عَن قريب فِي: بَاب الدُّعَاء بِالْجِهَادِ، وروى ابْن وهب
من حَدِيث عقبَة بن عَامر مَرْفُوعا: (من صرع عَن دَابَّته
فِي سَبِيل الله فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيد) ، وَلما لم يكن
هَذَا الحَدِيث على شَرطه أَشَارَ إِلَيْهِ فِي
التَّرْجَمَة وَلم يُخرجهُ. فَإِن قيل: قَالَ فِي: بَاب
العاء بِالْجِهَادِ: فصرعت عَن دابتها، أَي: بعد الرّكُوب،
وَهنا: فقربت دَابَّة لتركبها فصرعتها، أَي: قبل الرّكُوب.
أُجِيب: بِأَن الْفَاء فصيحة، أَي: فركبتها فصرعتها.
قَوْله: (فَلَمَّا انصرفوا من غزوهم قافلين) أَي: رَاجِعين
من غزوهم. قَوْله: (فنزلوا الشَّام) أَي: متوجهين إِلَى
نَاحيَة الشَّام.
9 - (بابُ منْ يُنْكَبُ فِي سَبِيلِ الله)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من ينكب، وَهُوَ على
الْمَجْهُول من الْمُضَارع من النكبة، وَهُوَ أَن يُصِيب
الْعُضْو شَيْء فيدميه، كَذَا قَالَ بَعضهم. قلت: هَذَا
التَّفْسِير غير صَحِيح، بل النكبة أَعم من ذَلِك، قَالَ
ابْن الْأَثِير: النكبة مَا يُصِيب الْإِنْسَان من
الْحَوَادِث، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: النكبة وَاحِدَة نكبات
الدَّهْر،، تَقول: أَصَابَته نكبة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب
من تنكب، على وزن: تفعل من بَاب التفعل، وَفِي بَعْضهَا
أَيْضا: أَو يطعن، بعد قَوْله: فِي سَبِيل الله.
1082 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ الحَوْضِيُّ قَالَ
حدَّثنا هَمَّامٌ عنْ أسْحَاقَ عنْ أنَسٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ قَالَ بعَثَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عامِرٍ
فِي سَبْعِينَ رَجُلاً فلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ
خَالِي أتَقَدَّمُكُمْ فإنْ أمَّنُونِي حَتَّى
أُبَلِّغُهُمْ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وإلاَّ كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيباً فتَقَدَّمَ فأمَّنُوهُ
فبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إذْ أوْمؤا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ
فأنْفَذَهُ فَقَالَ الله أكبَرُ فُزْتَ ورَبِّ الكعْبَةِ
ثُمَّ مالُو علَى بَقِيَّةِ أصْحَابِهِ فقَتَلُوهُمْ إلاَّ
رَجُلٌ أعْرَجُ صَعِدَ
(14/97)
الجَبَلَ قَالَ هَمَّامٌ فأُرَاهُ آخَرَ
مَعَهُ فأخْبَرَ جِبْرِيلُ عليْهِ السَّلامُ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُمْ قدْ لَقُوا رَبَّهُمْ
فَرَضِيَ عَنْهُمْ وأرْضَاهُمْ فَكُنَّا نَقْرَأُ {أنْ
بَلِّغُوا قَوْمَنَا أنْ قَدْ لَقينا رَبَّنَا فرَضِيَ
عنَّا وأرْضَانَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ فدَعا علَيْهِمْ
أرْبَعِينَ صباحَاً علَى رِعْلٍ وذَكْوَانَ وبَنِي
لِحْيَانَ وبَني عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا الله
ورسُولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي كَون هَذَا الْبَعْث الْمَذْكُور
قد نكبوا فِي سَبِيل الله بِالْقَتْلِ.
وَحَفْص بن عمر بن الْحَارِث أَبُو عمر الحوضي، والحوضي:
نِسْبَة إِلَى حَوْض دَاوُد، وَهِي محلّة بِبَغْدَاد،
وَحَفْص من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَهَمَّام،
بِالتَّشْدِيدِ: ابْن يحيى الْبَصْرِيّ، وَإِسْحَاق هُوَ
ابْن عبد الله بن أبي طَلْحَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن
مُوسَى بن إِسْمَاعِيل.
قَوْله: (من بني سليم) ، قَالَ الدمياطي: هُوَ وهم، فَإِن
بني سليم مَبْعُوث إِلَيْهِم، والمبعوث هم الْقُرَّاء، وهم
من الْأَنْصَار. وَقَالَ الْكرْمَانِي: بَنو سليم، بِضَم
الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف، قيل: إِنَّه وهم من الْمُؤلف، إِذْ الْمَبْعُوث
إِلَيْهِم هم من بني سليم لِأَن رعلاً هُوَ ابْن مَالك بن
عَوْف بن امرىء الْقَيْس بن بهثة، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وبالمثلثة: ابْن سليم بن
مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن خصفة، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة
ثمَّ الصَّاد الْمُهْملَة وَالْفَاء المفتوحات. وذكوان
هُوَ ابْن ثَعْلَبَة بن بهثة. وَعصيَّة هُوَ ابْن خفاف،
بِضَم الْمُعْجَمَة وخفة الْفَاء الأولى: ابْن امرىء
الْقَيْس بن بهثة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: رعل وذكوان
قبيلتان من بني سليم، وَعصيَّة بطن من بني سليم. وَقَالَ
بَعضهم: الْوَهم من حَفْص بن عمر شيخ البُخَارِيّ، فقد
أخرجه هُوَ فِي الْمَغَازِي: عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
عَن همام، فَقَالَ: بعث أَخا لأم سليم فِي سبعين رَاكِبًا،
وَكَانَ رَئِيس الْمُشْركين عَامر بن الطُّفَيْل، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الطُّفَيْل هُوَ ابْن مَالك بن خصفة، فَهُوَ
إِذن هُوَ أَبُو سليم، وَأما بَنو عَامر فهم أَوْلَاد
عَامر بن صعصعة، بالمهملات، ثمَّ قَالَ: إعلم أَنه لَا وهم
فِي كَلَام البُخَارِيّ، إِذْ يجوز أَن يُقَال: إِن
أَقْوَامًا، هُوَ مَنْصُوب بِإِسْقَاط الْخَافِض، أَي:
إِلَى أَقوام من بني سليم منضمين إِلَى بني عَامر. فَإِن
قلت: أَيْن مفعول بعث؟ قلت: اكْتفى بِصِيغَة الْمَفْعُول
عَن الْمَفْعُول أَي بعث بعثاً أَو طَائِفَة، فِي جملَة
سبعين أَو كلمة: فِي، تكون زَائِدَة، وَسبعين هُوَ
الْمَفْعُول، وَمثله قَوْله:
(وَفِي الرَّحْمَن للضعفاء كافٍ)
أَي: الرَّحْمَن كافٍ وَقَالَ تَعَالَى: {لقد كَانَ لكم
فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} (الْأَحْزَاب: 12) .
وَأهل الْمعَانِي يسمونها: بفي، التجريدية. وَقد يُجَاب
أَيْضا: بِأَن: من لَيْسَ بَيَانا بل ابتدائية، أَي: بعث
من جهتهم، أَو بعث بعثاً يساويهم بَنو سليم. انْتهى. قلت:
هَذَا كُله تعسف، أما النصب بِنَزْع الْخَافِض فَهُوَ خلاف
الأَصْل، وَإِن كَانَ مَوْجُودا فِي الْكَلَام، وَأما حذف
الْمَفْعُول فشائع ذائع، لَكِن لَا بُد من نُكْتَة فِيهِ،
وَأما القَوْل بِزِيَادَة كلمة: فِي، فَغير صَحِيح،
وَالَّذِي أجَازه خصّه بِالضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَة
هَهُنَا، وَأما تمثيله بقول الشَّاعِر:
(وَفِي الرَّحْمَن للضعفاء كافٍ)
فَلَا يتم، لِأَنَّهُ من بَاب الضَّرُورَة، على أَنه يُمكن
أَن يُقَال: إِن كافٍ بمعني: كِفَايَة، لِأَن وزن كافٍ فِي
الأَصْل: فَاعل، وَيَأْتِي بِمَعْنى الْمصدر، كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ لوقعتها كَاذِبَة} (الْوَاقِعَة:
2) . أَي: تكذب، فَإِن كَاذِبَة على وزن فاعلة، وَهُوَ
بِمَعْنى الْمصدر. قَوْله: (فِي سبعين رجلا) ، قَالَ
التوربشتي: كَانُوا من أوراع النَّاس ينزلون الصّفة
يتعلمون الْقُرْآن، وَكَانُوا ردأ للْمُسلمين إِذا نزلت
بهم نازلة، بَعثهمْ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِلَى أهل نجد لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَام، فَلَمَّا
نزلُوا بِئْر مَعُونَة، بِفَتْح الْمِيم وبالنون، قصدهم
عَامر بن الطُّفَيْل فِي أَحيَاء من بني سليم، وهم: رعل
وذكوان وَعصيَّة، فَقَتَلُوهُمْ. قلت: كَانَت سَرِيَّة
بِئْر مَعُونَة فِي صفر من سنة أَربع من الْهِجْرَة،
وَأغْرب محكول حَيْثُ قَالَ: إِنَّهَا كَانَت بعد
الخَنْدَق. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: فَأَقَامَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد أحد بَقِيَّة شَوَّال وَذُو
الْقعدَة وَذُو الْحجَّة وَالْمحرم، ثمَّ بعث أَصْحَاب
بِئْر مَعُونَة فِي صفر على رَأس أَرْبَعَة أشهر من أحد،
قَالَ مُوسَى بن عقبَة. وَكَانَ أَمِير الْقَوْم الْمُنْذر
بن عَمْرو، وَيُقَال: مرْثَد بن أبي مرْثَد. قَوْله:
(خَالِي) ، هُوَ حرَام ضد حَلَال ابْن ملْحَان. قَوْله:
(وإلاَّ) أَي: وَإِن لم يُؤمنُوا. قَوْله: (فَبَيْنَمَا
يُحَدِّثهُمْ) أَي: يحدث بني سليم. قَوْله: (إِذْ) ،
جَوَاب: بَيْنَمَا. قَوْله: (أومؤا) أَي: أشاروا. قَوْله:
(فأنفذه) ، بِالْفَاءِ والذال الْمُعْجَمَة، من: نفذ
السهْم من الرَّمية. قَوْله: (إِلَّا رجل أعرج) ، ويروى:
رجلا، بِالنّصب. وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض
الرِّوَايَات: كتب، بِدُونِ الْألف على اللُّغَة الربيعية.
قَوْله: (قَالَ همام) ، وَهُوَ من رُوَاة الحَدِيث
الْمَذْكُور فِي سَنَده. قَوْله: (فَأرَاهُ) ، أَي:
أَظُنهُ و: يرى بِالْوَاو وَأرَاهُ. قَوْله: (فَكُنَّا
نَقْرَأ: أَن بلغُوا)
(14/98)
إِلَى آخِره، أنزل الله تَعَالَى على
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَقهم هَذَا ثمَّ
نسخ بعد ذَلِك. قَوْله: (فَدَعَا) أَي: النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ صباحاً فِي
الْقُنُوت. قَوْله: (على رعل) ، بدل من: عَلَيْهِم،
بِإِعَادَة الْعَامِل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {للَّذين
استضعفوا لمن آمن مِنْهُم} (الْأَعْرَاف: 57) . ورعل،
بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة، وذكوان،
بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الْكَاف،
وَعصيَّة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد
الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: جَوَاز الدُّعَاء على أهل
الْغدر وانتهاك الْمَحَارِم، والإعلان بإسمهم
وَالتَّصْرِيح بذكرهم. وَجَاء من حَدِيث أنس فِي بَاب
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل
الله أَمْوَاتًا} (آل عمرَان: 961) . أَنه دَعَا عَلَيْهِم
ثَلَاثِينَ صباحاً، وَهنا: فَدَعَا عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ
صباحاً، وَفِي (الْمُسْتَدْرك) : قنت رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عشْرين يَوْمًا.
2082 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أبُو
عَوَانَةَ عنِ الأسْوَدِ بنِ قَيْسٍ عنْ جُنْدَبِ ابنِ
سُفْيَانَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ
فِي بَعْضِ المَشَاهِدِ وقَدْ دَمِيَتْ إصْبَعُهُ فَقَالَ:
(هلْ أنْتِ إلاَّ إصْبَعٌ دَميتِ ... وفِي سَبِيلِ الله
مَا لَقِيتِ)
(الحَدِيث 2082 طرفه فِي: 6416) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَقد دميت إصبعه) ،
لِأَنَّهُ نكب فِي إصبعه، وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح
الْعين: الوضاح الْيَشْكُرِي، وَالْأسود ابْن قيس أَخُو
عَليّ بن قيس البَجلِيّ الْكُوفِي، وجندب، بِضَم الْجِيم
وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّال وَضمّهَا: ابْن عبد الله
بن سُفْيَان البَجلِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَدَب عَن أبي
نعيم عَن الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن
يحيى بن يحيى وقتيبة، كِلَاهُمَا عَن أبي عوَانَة وَعَن
أبي بكر وَإِسْحَاق كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير وَفِي الشَّمَائِل
عَن ابْن أبي عمر عَن ابْن عُيَيْنَة وَفِي الشَّمَائِل
عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن عَمْرو بن
مَنْصُور.
قَوْله: (الْمشَاهد) ، أَي: الْمَغَازِي، وَسميت بهَا
لِأَنَّهَا مَكَان الشَّهَادَة. قَوْله: (وَقد دميت
أُصْبُعه) ، يُقَال: دمي الشَّيْء يدمى دَمًا، ودمياً،
فَهُوَ دم، مثل: فرق يفرق فرقا فَهُوَ فرق، وَالْمعْنَى:
أَن إصبعه جرحت فَظهر مِنْهَا الدَّم. قَوْله: (هَل
أَنْت؟) مَعْنَاهُ: مَا أَنْت إلاَّ إِصْبَع دمِيتِ. قَالَ
النَّوَوِيّ: الرِّوَايَة الْمَعْرُوفَة كسر التَّاء،
وسكنها بَعضهم، والإصبع فِيهَا عشر لُغَات: تثليث
الْهمزَة، مَعَ تثليث الْبَاء، والعاشرة: أصبوع. قَوْله:
(دميت) ، بِفَتْح الدَّال: صفة للإصبغ، والمستثنى فِيهِ
أَعم عَام الصّفة أَي: مَا أَنْت يَا إِصْبَع مَوْصُوفَة
بِشَيْء إلاَّ بِأَن دميت، كَأَنَّهَا لما توجعت خاطبها
على سَبِيل الِاسْتِعَارَة أَو الْحَقِيقَة معْجزَة تسلياً
لَهَا، أَي: تثبتي فَإنَّك مَا ابْتليت بِشَيْء من
الْهَلَاك وَالْقطع سوى أَنَّك دميت، وَلم يكن ذَلِك
أَيْضا هدرا بل كَانَ فِي سَبِيل الله وَرضَاهُ. قيل:
كَانَ ذَلِك فِي غَزْوَة أحد. وَفِي (صَحِيح مُسلم) :
كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَار فنكبت
أُصْبُعه، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: قَالَ أَبُو
الْوَلِيد: لَعَلَّه غازياً فتصحف، كَمَا قَالَ فِي
الرِّوَايَة الْأُخْرَى: فِي بعض الْمشَاهد، وكما جَاءَ
فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: يمشي إِذا أَصَابَهُ حجر،
فَقَالَ القَاضِي: قد يُرَاد بِالْغَارِ الْجمع والجيش لَا
الْكَهْف، وَمِنْه قَول عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
مَا ظَنك بامرىء جمع بَين هذَيْن الغارين؟ أَي العسكرين
قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) هَذَا شعر وَقد نفى الله
تَعَالَى عَنهُ أَن يكون شَاعِر أفلت أجابوا عَنهُ
بِوُجُوه بِأَنَّهُ رجز، وَالرجز لَيْسَ بِشعر، كَمَا هُوَ
مَذْهَب الْأَخْفَش، وَإِنَّمَا يُقَال لصانعه: فلَان
الراجز، وَلَا يُقَال: الشَّاعِر، إِذْ الشّعْر لَا يكون
إلاَّ بَيْتا تَاما مقفًى على أحد أَنْوَاع الْعرُوض
الْمَشْهُورَة. وَبِأَن الشّعْر لَا بُد فِيهِ من قصد
ذَلِك، فَمَا لم يكن مصدره عَن نِيَّة لَهُ وروية فِيهِ،
وَإِنَّمَا هُوَ على اتِّفَاق كَلَام يَقع مَوْزُونا بِلَا
قصد إِلَيْهِ لَيْسَ مِنْهُ كَقَوْلِه: {وجفان كالجواب
وقدور راسيات} (سبإ: 31) . وكما يحْكى عَن السُّؤَال:
اختموا صَلَاتكُمْ بِالدُّعَاءِ وَالصَّدَََقَة، وَعَن بعض
المرضى وَهُوَ يعالج الكي ويتضور: إذهبوا بِي إِلَى
الطَّبِيب، وَقُولُوا: قد اكتوى. وَبِأَن الْبَيْت
الْوَاحِد لَا يُسمى شعرًا، وَقَالَ بَعضهم: {وَمَا علمناه
الشّعْر} (يس: 96) . هُوَ رد على الْكفَّار الْمُشْركين
فِي قَوْلهم: بل هُوَ شَاعِر، وَمَا يَقع على سَبِيل
الندرة لَا يلْزمه هَذَا الإسم، إِنَّمَا الشَّاعِر هُوَ
الَّذِي ينشد الشّعْر ويشبب، ويمدح ويذم ويتصرف فِي
الأفانين وَقد برأَ الله تَعَالَى رَسُوله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، وصان قدره عَنهُ، فَالْحَاصِل
أَن الْمَنْفِيّ هُوَ صَنْعَة الشاعرية لَا غير، وَفِي
(التَّوْضِيح) : هَل أنتِ إلاَّ اصبع ... إِلَى آخِره، رجز
مَوْزُون، وَقد يَقع على لِسَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مِقْدَار الْبَيْت من الشّعْر أَو الْبَيْتَيْنِ من الرجز
كَقَوْلِه:
(أَنا النَّبِي لَا كذِب ... أَنا ابنُ عبد المُطلب)
(14/99)
فَلَو كَانَ هَذَا شعرًا لَكَانَ خلاف
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمناه الشّعْر وَمَا يَنْبَغِي
لَهُ} (يس: 96) . وَالله يتعالى أَن يَقع شَيْء من خَبره
أَن يُوجد على خلاف مَا أخبر بِهِ، وَوُقُوع الْكَلَام
الْمَوْزُون فِي النَّادِر من غير قصد لَيْسَ بِشعر، لِأَن
ذَلِك غير مُمْتَنع على أحد من الْعَامَّة، والباعة، أَن
يَقع لَهُ كَلَام مَوْزُون، فَلَا يكون بذلك شَاعِرًا مثل
قَوْلهم:
(إسقني فِي الكوزِ مَاء يَا فلَان ... واسرِجِ الْبَغْل
وجئني بِالطَّعَامِ)
فَهَذَا الْقدر لَيْسَ بِشعر، وَالرجز لَيْسَ بِشعر،
قَالَه القَاضِي أَبُو بكر بن الطّيب وَغَيره، وَقَالَ
ابْن التِّين: هَذَا الشّعْر لِابْنِ رَوَاحَة، وَفِيه
نظر، وَقيل: لما دَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
للوليد بن الْوَلِيد، بَاعَ مَاله بِالطَّائِف وَهَاجَر
على رجلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَة، فَقَدمهَا وَقد تقطعت
رجلَانِ وأصابعه، فَقَالَ:
(هَل أَنْت إلاَّ اصبع دميت ... وَفِي سَبِيل الله مَا
لقِيت)
(يَا نفس إِن لَا تقتلي تموتي)
وَمَات فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت:
الْوَلِيد هَذَا أَخُو خَالِد بن الْوَلِيد، سيف الله،
وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ مُصعب: شهد مَعَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمْرَة الْقَضِيَّة، وَكتب إِلَى
أَخِيه خَالِد، وَكَانَ خَالِد خرج من مَكَّة فأراً
لِئَلَّا يرى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأَصْحَابه بِمَكَّة، كَرَاهِيَة لِلْإِسْلَامِ وَأَهله،
فَسَأَلَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَلِيد،
وَقَالَ: لَو أَتَانَا خَالِد لأكرمناه، وَمَا مثله سقط
عَلَيْهِ الْإِسْلَام فِي غَفلَة، فَكتب بذلك الْوَلِيد
إِلَى أَخِيه خَالِد، فَوَقع الْإِسْلَام فِي قلب خَالِد،
وَكَانَ سَبَب هجرته.
01 - (بابُ مَنْ يُجْرَحُ فِي سَبيلِ الله عَزَّ وَجَلَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من يجرح فِي سَبِيل الله،
ويجرح، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع.
3082 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ والَّذِي نَفْسِي بِيدِهِ لاَ
يُكْلَمُ أحَدٌ فِي سَبِيلِ الله وَالله أعْلَمُ بِمَنْ
يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلاَّ جاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ
واللَّوْنُ لَوْنُ الدَمِ والرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ.
(انْظُر الحَدِيث 732 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يكلم أحد) إِلَى
آخِره، لِأَن الْكَلم هُوَ الجرخ على مَا نذكرهُ.
وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مر غير مرّة، وَأَبُو
الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان،
والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، والْحَدِيث مضى فِي
كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب مَا يَقع من النَّجَاسَات فِي
السّمن وَالْمَاء، وَلَكِن بِغَيْر هَذَا الْوَجْه،
وَالْمعْنَى وَاحِد.
قَوْله: (لَا يكلم) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من الْكَلم
وَهُوَ الْجرْح. قَوْله: (فِي سَبِيل الله) ، يُرِيد بِهِ
الْجِهَاد وَيدخل فِيهِ كل من جرح فِي ذَات الله وكل مَا
دَافع فِيهِ الْمَرْء بِحَق فأصيب، فَهُوَ مُجَاهِد.
قَوْله: (وَالله أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله) ، جملَة
مُعْتَرضَة أَشَارَ بهَا إِلَى التَّنْبِيه على شَرْطِيَّة
الْإِخْلَاص فِي نيل هَذَا الثَّوَاب. قَوْله: (واللون) ،
الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَكَذَا فِي قَوْله: وَالرِّيح.
وَفِيه: أَن الشَّهِيد يبْعَث فِي حَالَته وهيئته الَّتِي
قبض عَلَيْهَا، وَالْحكمَة فِيهِ أَن يكون مَعَه شَاهد
فضيلته ببذله نَفسه فِي طَاعَة الله تَعَالَى. وَفِيه: أَن
الشَّهِيد يدْفن بدمائه وثيابه وَلَا يزَال عَنهُ الدَّم
بِغسْل وَلَا غَيره ليجيء يَوْم الْقِيَامَة كَمَا وصف
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ
نظر، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من غسل الدَّم فِي الدُّنْيَا
أَن لَا يبْعَث كَذَلِك. قلت: فِي نظره نظر، لِأَن أحدا
مَا ادّعى الْمُلَازمَة، بل المُرَاد أَن لَا تَتَغَيَّر
هَيئته الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا، وَفِيه: دلَالَة أَن
الشَّيْء إِذا حَال عَن حَالَة إِلَى غَيرهَا كَانَ الحكم
إِلَى الَّذِي حَال إِلَيْهِ، وَمِنْه المَاء تحل بِهِ
نَجَاسَة، فغيرت أحد أَوْصَافه يُخرجهُ عَن المَاء
الْمُطلق، وَمِنْه إِذا استحالت الْخمر إِلَى الْخلّ أَو
بِالْعَكْسِ.
11 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ
بِنا إلاَّ إحْدَى الحسْنَيَيْنِ} (التَّوْبَة: 25) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى، لِأَن فِيهِ
معنى: الْحَرْب سِجَال، لِأَن المُرَاد من إِحْدَى
الحسنيين إِمَّا الشَّهَادَة أَو الظفر بالكفار، قَالَه
ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وقادة وَآخَرُونَ، وَذَلِكَ أَنا
إِذا قابلنا الْكفَّار وَوَقع بَيْننَا وَبينهمْ حروب،
فَإِن غلبنا وظفرنا بهم تكون لنا الْغَنِيمَة وَالْأَجْر،
وَإِن كَانَ عَكسه تكون لنا الشَّهَادَة، وَهَذَا
بِعَيْنِه، كَون الْحَرْب سجالاً. قَوْله: {قل هَل تربصون}
(التَّوْبَة: 25) . أَي: قل يَا مُحَمَّد! هَل تنتظرون
بِنَا إلاَّ إِحْدَى الحسنيين؟ وهما: الظفر أَو
الشَّهَادَة؟
(14/100)
والحَرْبُ سِجَالٌ
مناسبته لِلْآيَةِ ظَاهِرَة لِأَنَّهَا تَتَضَمَّن
مَعْنَاهُ كَمَا ذَكرْنَاهُ، وسجال، بِكَسْر السِّين،
يَعْنِي: تَارَة لنا وَتارَة علينا، فَفِي غلبتنا يكون
الْفَتْح، وَفِي غلبتهم تكون الشَّهَادَة، وَهَذَا مُطَابق
لِمَعْنى الْآيَة، وكل فتح يَقع إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
أَو غنيمَة فَإِنَّهُ من إِحْدَى الحسنيين، وكل قَتِيل
يقتل فِي سَبِيل الله إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَهُوَ من
إِحْدَى الحسنيين، وَإِنَّمَا يَبْتَلِي الله
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، ليعظم لَهُم الْأجر
وَالثَّوَاب، وَلمن مَعَهم، وَلِئَلَّا تخرق الْعَادة
الْجَارِيَة بَين الْخلق وَلَو أَرَادَ الله خرقها لأهْلك
الْكفَّار كلهم بِغَيْر حَرْب، والسجال جمع: سجل، فِي
الأَصْل وَهُوَ الدَّلْو إِذا كَانَ ملآن مَاء، وَلَا تكون
الفارغة سجلاً، وسجال هُنَا من المساجلة، وَهِي: المناولة
فِي الْأَمر، وَهُوَ أَن يفعل كل من المتساجلين مثل
صَاحبه، فَتَارَة لَهُ وَتارَة لصَاحبه.
4082 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ
عُبَيْدِ الله ابنِ عَبْدِ الله أنَّ عَبْدَ الله بنَ
عَبَّاسٍ أخْبَرَهُ أنَّ أَبَا سُفْيانَ أخْبَرَهُ أنَّ
هِرِقْلَ قَالَ لَهُ سألْتُكَ كَيْفَ كانَ قِتَالُكُمْ
إيَّاهُ فزَعَمْتَ أنَّ الحَرْبَ سِجَالٌ ودُوَلٌ
فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونِ لَهُمُ
العَاقِبَةُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَزَعَمت أَن الْحَرْب
بَيْنكُم سِجَال) ، وَقد ذكرنَا أَن فِي معنى: إِحْدَى
الحسنيين معنى: الْحَرْب سِجَال، وكل وَاحِد مِنْهُمَا
يتَضَمَّن معنى الآخر، فَتحصل الْمُطَابقَة، وَلَا يحْتَاج
هَهُنَا إِلَى تَطْوِيل الشُّرَّاح الَّذِي يشوش على ذهن
النَّاظر فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي ذكره قِطْعَة من حَدِيث
أبي سُفْيَان فِي قصَّة هِرقل، وَقد مر فِي أول الْكتاب
مطولا، وَمر الْكَلَام فِيهِ مَبْسُوطا. قَوْله: (ودول) ،
جمع دولة، وَمَعْنَاهُ: رُجُوع الشَّيْء إِلَيْك مرّة
وَإِلَى صَاحبك أُخْرَى تتداولانه، وَقَالَ أَبُو عمر:
وَهِي بِالْفَتْح الظفر فِي الْحَرْب، وبالضم: مَا يتداوله
النَّاس من المَال، وَعَن الْكسَائي بِالضَّمِّ مثل
الْعَارِية، يُقَال: اتخذوه دولة يتداولونه، وبالفتح من
دَال عَلَيْهِم الدَّهْر دولة، ودالت الْحَرْب بهم، وَقيل:
الدولة، بِالضَّمِّ: الإسم، وبالفتح: الْمصدر. وَقَالَ
الْقَزاز: الْعَرَب تَقول: الْأَيَّام دوَل ودول ودول،
ثَلَاث لُغَات، وَفِي (الباهر) لِابْنِ عديس عَن
الْأَحْمَر: جَاءَ بالدولة والتؤلة، تهمز وَلَا تهمز،
وَفِي (البارع) عَن أبي زيد: دولة، بِفَتْح الدَّال
وَسُكُون الْوَاو، و: دوَل، بِفَتْح الدَّال، وَالْوَاو،
وَبَعض الْعَرَب يَقُول: دوَل. قَوْله: (فَكَذَلِك تبتلى)
أَي: تختبر. قَوْله: (ثمَّ تكون لَهُم الْعَاقِبَة) ،
عَاقِبَة الشَّيْء آخر أمره.
21 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {مِنَ المُؤْمِنِينَ
رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ
مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الْأَحْزَاب: 32) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله عز وَجل، وَإِنَّمَا
ذكر هَذِه الْآيَة لِأَن الْمَذْكُور فِي الحَدِيث: (رجال
صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ وَمَا بدلُوا تبديلاً)
. وَالْآيَة الْمَذْكُورَة نزلت فيهم على مَا نذكرهُ عَن
قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: {من الْمُؤمنِينَ
رجال} (الْأَحْزَاب: 32) . جملَة إسمية من الْمُبْتَدَأ،
أَعنِي: رجال وَالْخَبَر أَعنِي من المؤمينين، وَذكر
الواحدي من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن يحيى الْبَغْدَادِيّ عَن
أبي سِنَان عَن الضَّحَّاك عَن النزال بن سُبْرَة عَن
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالُوا لَهُ:
حَدثنَا عَن طَلْحَة، فَقَالَ: ذَاك امْرُؤ نزلت فِيهِ
آيَة من كتاب الله تَعَالَى: {فَمنهمْ من قضى نحبه
وَمِنْهُم من ينْتَظر} (الْأَحْزَاب: 32) . طَلْحَة مِمَّن
قضى نحبه لَا حِسَاب عَلَيْهِ فِيمَا يسْتَقْبل. وَمن
حَدِيث عِيسَى بن طَلْحَة: أَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، مر عَلَيْهِ طَلْحَة فَقَالَ: هَذَا
مِمَّن قضى نحبه، وَقَالَ مقَاتل فِي تَفْسِيره: {رجال
صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} (الْأَحْزَاب: 32) .
لَيْلَة الْعقبَة، بِمَكَّة {فَمنهمْ من قضى نحبه}
(الْأَحْزَاب: 32) . يَعْنِي: أَجله فَمَاتَ على الْوَفَاء
يَعْنِي: حَمْزَة وَأَصْحَابه، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، المقتولين بِأحد {وَمِنْهُم من ينْتَظر} يَعْنِي:
من الْمُؤمنِينَ من ينْتَظر أَجله، يَعْنِي: على الْوَفَاء
بالعهد {وَمَا بدلُوا} (الْأَحْزَاب: 32) . كَمَا بدل
المُنَافِقُونَ. وَفِي (تَفْسِير النَّفْسِيّ) : والنحب
يَأْتِي على وُجُوه: النّذر، أَي: قضى نَذره، والخطر إِي:
فرغ من خطر الْحَيَاة، لِأَن الْحَيّ على خطر مَا عَاشَ،
وَالسير السَّرِيع أَي: سَار بِسُرْعَة إِلَى أَجله،
والنوبة، أَي: قضى نوبَته، و: النَّفس، أَي: فرغ من
أنفاسه، وَالنّصب أَي: فرغ من نصب الْعَيْش وجهده، وَهَذَا
كُله يعود إِلَى مَعَاني الْمَوْت وانقضاء
(14/101)
الْحَيَاة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
قَضَاء النحب عبارَة عَن الْمَوْت، لِأَن كل حَيّ لَا بُد
لَهُ أَن يَمُوت، فَكَأَنَّهُ نذر لَازم فِي رقبته، فَإِذا
مَاتَ فقد قضى نحبه، أَي: نَذره.
5082 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَعِيدٍ الخُزَاعِيُّ قَالَ
حدَّثنا عبْدُ الأعْلى عنْ حُمَيْدٍ قَالَ سألتُ أنَساً
حَدثنَا عَمْرُو بنُ زُرَارَةَ قَالَ حدَّثنا زِيادٌ قَالَ
حدَّثني حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عنهُ
قَالَ غابَ عَمِّي أنَسُ ابنُ النَّضْرِ عنْ قِتَالٍ بدر
فَقَالَ يَا رَسُول الله غبت عَن أول قتال قاتَلْتَ
الْمُشْرِكِينَ لَئِنِ الله أشْهَدَنِي قِتَالَ
الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ الله مَا أصْنَعُ فَلَمَّا
كانَ يَوْمُ أُحُدَ وانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ
أللَّهُمَّ إنِّي أعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ
هاؤُلاءِ يَعْنِي أصْحَابَهُ وأبْرَأُ إليْكَ مِمَّا
صَنَعَ هاؤلاءِ يَعْنِي المُشْرِكِينَ ثُمَّ تَقَدَّمَ
فاسْتَقْبَلَهُ سعدُ بنُ مُعاذٍ فَقَالَ يَا سَعْدُ بنَ
مُعَاذٍ الجَنِّةَ ورَبِّ النَّضْرِ إنِّي أجِدُ رِيحَها
مِنْ دُونِ أُحُدٍ قَالَ سَعْدٌ فَما اسْتَطَعْتُ يَا
رسولَ الله مَا صنَعَ قَالَ أنَسٌ فوَجَدْنا بِهِ بِضْعاً
وثَمانِينَ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ أوْ طَعْنَةً بِرِمْحٍ أوْ
رَمْيَةً بِسَهْمٍ ووَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وقَدْ مَثَّلَ
بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَما عَرَفَهُ أحَدٌ إلاَّ اخْتُهُ
بِبِنَانهِ قَالَ أنَسٌ كُنَّا نُرَى أوْ نَظُنُّ أنَّ
هاذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أشْبَاهِهِ مِنَ
الْمؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا الله علَيْهِ
إِلَى آخِرِ الْآيَة. وقالَ إنَّ أُخْتَهُ وهِيَ تُسَمَّى
الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأةٍ فأمَرَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالقِصَاصِ فَقَالَ أنَسٌ
يَا رسولَ الله والَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ لاَ تُكْسَرُ
ثَنِيّتُها فرَضُوا بالأرَشِ وتَرَكُوا القِصَاص فَقَالَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ مِنْ عِبادِ الله
مَنْ لَوْ أقْسَمَ علَى الله لأبَرَّهُ..
مطابقته لِلْآيَةِ الَّتِي هِيَ تَرْجَمَة من حَيْثُ
إِنَّهَا نزلت فِي الْمَذْكُورين فِيهِ، وَهُوَ ظَاهر.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد ابْن سعيد بن
الْوَلِيد أَبُو بكر الْخُزَاعِيّ، بِضَم الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الزَّاي وبالعين. الثَّانِي: عبد
الْأَعْلَى بن عبد الْأَعْلَى السَّامِي، بِالسِّين
الْمُهْملَة. الثَّالِث: حميد الطَّوِيل. الرَّابِع:
عَمْرو بن زُرَارَة، بِضَم الزَّاي وَتَخْفِيف الراءين
بَينهمَا ألف: ابْن وَاقد الْهِلَالِي. الْخَامِس: زِيَاد،
بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن
عبد الله العامري البكائي، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَتَشْديد الْكَاف وبالهمزة بعد الْألف. قَالَ ابْن معِين:
لَا بَأْس بِهِ فِي الْمَغَازِي خَاصَّة، مَاتَ سنة ثَلَاث
وَثَمَانِينَ وَمِائَة. السَّادِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه:
القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن شَيْخه
مُحَمَّد بن سعيد يلقب بمردويه وَأَنه من أَفْرَاده
وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر
فِي غَزْوَة خَيْبَر، وَهُوَ وَمُحَمّد بن سعيد وَحميد
وَعبد الْأَعْلَى بصريون، وَزِيَاد كُوفِي وَعَمْرو بن
زُرَارَة نيسابوري. وَفِيه: أَن زياداً لم يذكر مَنْسُوبا
فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَهُوَ صَاحب ابْن إِسْحَاق وراوي
الْمَغَازِي عَنهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي البُخَارِيّ غير
هَذَا الْموضع. وَفِيه: طَرِيقَانِ. الأول: فِيهِ رِوَايَة
عبد الْأَعْلَى: بتصريح حميد لَهُ بِالسَّمَاعِ من أنس،
فأمن من التَّدْلِيس. الثَّانِي: فِيهِ سِيَاق الحَدِيث.
والْحَدِيث رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة ثَابت عَن أنس قَالَ
أنس: غَابَ عمي الَّذِي سُميت بِهِ لم يشْهد مَعَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَدْرًا. قَالَ: فشق
عَلَيْهِ، قَالَ: أول مشْهد شهده رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، غبت عَنهُ؟ وَإِن أَرَانِي الله مشهداً
بعد مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليريني
الله مَا أصنع. قَالَ: فهاب أَن يَقُول غَيرهَا قَالَ:
فَشهد مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
(14/102)
يَوْم أحد. قَالَ: فَاسْتقْبل سعد بن
معَاذ، فَقَالَ لَهُ أنس: يَا أَبَا عَمْرو أَيْن؟ واها
لريح الْجنَّة أَجِدهُ دون أحد. قَالَ: فَقَاتلهُمْ حَتَّى
قتل، قَالَ: فَوجدَ فِي جسده بضع وَثَمَانُونَ من بَين
ضَرْبَة وطعنة ورمية. قَالَ: فَقَالَت أُخْته، عَمَّتي
الرّبيع بنت النَّضر، فَمَا عرفت أخي إلاَّ ببنانه، وَنزلت
هَذِه الْآيَة {رجال صدقُوا} (الْأَحْزَاب: 32) . الْآيَة.
قَالَ: وَكَانُوا يرَوْنَ أَنَّهَا نزلت فِيهِ وَفِي
أَصْحَابه.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (غَابَ عمي أنس بن النَّضر) ، قد
مر فِي رِوَايَة مُسلم: قَالَ أنس: غَابَ عمي الَّذِي سميت
بِهِ، وَالنضْر بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة. قَوْله:
(أول قتال) ، لِأَن غَزْوَة بدر هِيَ أول غَزْوَة غزا
فِيهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ،
وَهِي فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة. قَوْله:
(لَئِن الله أشهدني) أَي: أحضرني، وَاللَّام فِي: لَئِن،
مَفْتُوحَة دخلت على أَن الشّرطِيَّة لَا جَزَاء لَهُ،
لفظا، وَحذف فعل الشَّرْط فِيهِ من الْوَاجِبَات،
وَالتَّقْدِير: لَئِن أشهدني الله ... قَوْله: (قتال
الْمُشْركين) ، مَنْصُوب بقوله: أشهدني، قَوْله: (ليرين
الله) ، جَوَاب الْقسم الْمُقدر، لِأَن اللَّام للقسم
وَنون التَّأْكِيد فِيهِ ثَقيلَة وَمَا قبلهَا مَفْتُوحَة،
وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ليريني الله) كَمَا مر، وَفِي
رِوَايَة: ليراني الله، بِالْألف. وَفِي (التلويج) : وَضبط
أَيْضا بِضَم الْيَاء وَكسر الرَّاء، وَمَعْنَاهُ: ليرين
الله النَّاس مَا أصنع ويبرزه لَهُم. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: كَأَنَّهُ ألزم نَفسه إلزاماً مؤكداً، وَلم
يظهره مَخَافَة مَا يتَوَقَّع من التَّقْصِير فِي ذَلِك،
وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي مُسلم فهاب أَن يَقُول غَيره،
وَلذَلِك سَمَّاهُ الله عهدا، بقوله: {صدقُوا مَا
عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} (الْأَحْزَاب: 32) . وَفِي
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ كَرِوَايَة البُخَارِيّ. قَوْله:
(مَا أصنع) ، قَالَ بَعضهم: أعربه النَّوَوِيّ: بَدَلا من
ضمير الْمُتَكَلّم. قلت: هَذَا لَا يَصح إلاَّ فِي
رِوَايَة مُسلم، وَأما فِي رِوَايَة البُخَارِيّ فَهُوَ
مَنْصُوب على المفعولية، وَهَذَا الْقَائِل لم يُمَيّز
بَين الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْإِعْرَاب، فَرُبمَا يضان
النَّاظر فِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَن مَا قَالَه
النَّوَوِيّ فِيهَا، وَلَيْسَ ذَلِك إلاَّ فِي رِوَايَة
مُسلم. فَافْهَم. قَوْله: (وانكشف الْمُسلمُونَ) ، وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَانْهَزَمَ النَّاس. قَوْله:
(أعْتَذر) أَي: من فرار الْمُسلمين. قَوْله: (وَأَبْرَأ) ،
أَي: عَن قتال الْمُشْركين مَعَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَاسْتَقْبلهُ) ، أَي:
فَاسْتقْبل أنس بن النَّضر سعد بن معَاذ سيد الْأَوْس،
وَكَانَ ثَبت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَوْم أحد. قَوْله: (الْجنَّة) ، بِالنّصب، أَي: أُرِيد
الْجنَّة، وبالرفع على تَقْدِير هِيَ مطلوبي. قَوْله:
(وَرب النَّضر) ، أَرَادَ بِهِ وَالِده النَّضر، قيل:
يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ ابْنه، فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ ابْن
يُسمى النَّضر، وَكَانَ إِذْ ذَاك صَغِيرا، وَفِي رِوَايَة
عبد الْوَهَّاب: فوَاللَّه، وَفِي رِوَايَة عبد الله بن
بكر عَن حميد عِنْد الْحَارِث ابْن أبي أُسَامَة عَنهُ:
وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ. قَوْله: (رِيحهَا) ، أَي: ريح
الْجنَّة. قَوْله: (من دون أحد) أَي: عِنْد أحد. قَالَ
ابْن بطال وَغَيره: يحْتَمل أَن يكون على الْحَقِيقَة،
وَأَنه وجد ريح الْجنَّة حَقِيقَة، أَو وجد ريحًا طيبَة
ذكره طيبها بِطيب الْجنَّة، وَيجوز أَن يكون أَرَادَ أَنه
استحضر الْجنَّة الَّتِي أعدت للشهيد، فتصور أَنَّهَا فِي
ذَلِك الْموضع الَّذِي يُقَاتل فِيهِ، فَيكون الْمَعْنى:
إِنِّي لأعْلم أَن الْجنَّة تكتسب فِي هَذَا الْموضع
فاشتاق لَهَا. قَوْله: (قَالَ سعد: فَمَا اسْتَطَعْت يَا
رَسُول الله مَا صنع) قَالَ ابْن بطال: يُرِيد مَا
اسْتَطَعْت أَن أصف مَا صنع من كَثْرَة مَا أبلى فِي
الْمُشْركين. قَوْله: (فَوَجَدنَا بِهِ) وَفِي رِوَايَة
عبد الله بن بكر، قَالَ أنس: فوجدناه بَين الْقَتْلَى
وَبِه. قَوْله: (أَو طعنة) كلمة أَو فِي الْمَوْضِعَيْنِ
للتنويع. قَوْله: (وَقد مثل) بتَشْديد الثَّاء
الْمُثَلَّثَة، من الْمثلَة وَهُوَ قطع الْأَعْضَاء من أنف
وَأذن وَغَيرهمَا. قَوْله: (ببنانه) البنان الإصبع، وَقيل:
طرف الإصبع، وَهُوَ الْأَشْهر. وَوَقع فِي رِوَايَة
مُحَمَّد بن طَلْحَة بِالشَّكِّ: ببنانه أَو بشامته،
بالشين الْمُعْجَمَة وَالْأولَى أَكثر، وَالثَّانيَِة
أوجه. قَوْله: (كُنَّا نرى) ، بِضَم النُّون وَفتح
الرَّاء. قَوْله: (أَو نظن) من الرَّاوِي وهما بِمَعْنى
وَاحِد. وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يزِيد بن هَارُون عَن
حميد: فَكُنَّا نقُول، وَفِي رِوَايَة أَحْمد بن سِنَان
عَن يزِيد: فَكَانُوا يَقُولُونَ، والتردد فِيهِ من حميد،
وَوَقع فِي رِوَايَة ثَابت: وأنزلت هَذِه الْآيَة
بِالْجَزْمِ دون الشَّك. قَوْله: وَقَالَ: إِن أُخْته،
أَي: أُخْت أنس بن النَّضر، وَهِي عمَّة أنس بن مَالك.
قَوْله: (الرّبيع) بِضَم الرَّاء وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وقصة
الرّبيع هَذِه مَضَت فِي كتاب الصُّلْح فِي: بَاب الصُّلْح
فِي الدِّيَة. قَوْله: (لَأَبَره) أَي: لأبر قسمه، وَهُوَ
ضد الْحِنْث.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد: جَوَاز بذل النَّفس
فِي الْجِهَاد وَفضل الْوَفَاء بالعهد وَلَو شقّ على
النَّفس حَتَّى يصل إِلَى إهلاكها، وَإِن طلب الشَّهَادَة
لَا يتَنَاوَلهُ النَّهْي عَن الْإِلْقَاء إِلَى
التَّهْلُكَة. وَفِيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لأنس بن النَّضر،
وَمَا كَانَ عَلَيْهِ من صِحَة الْإِيمَان وَكَثْرَة
التوقي والتورع، وَقُوَّة الْيَقِين.
(14/103)
7082 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ
أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثني
إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني أخِي عَن سُلَيْمَانَ أُرَاهُ
عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبِي عَتِيقٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ
خارِجَةَ بنِ زَيْدٍ أنَّ زَيْدَ بنَ ثابِتٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ قَالَ نَسَخْتُ الصُّحُف فِي المَصَاحِفِ
فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأحْزَابِ كُنْتُ أسْمعُ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ بِها فَلَمْ
أجِدْهَا إلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ بنِ ثابِتٍ الأنْصَارِيِّ
الَّذِي جعَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
شَهَادَتَهُ شَهادَةَ رجُلَيْنِ وهْوَ قَوْلُهُ {مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا الله
علَيْهِ} (الْأَحْزَاب: 32) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأخرجه من طَرِيقين:
الأول عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن
أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَهَذَا
السَّنَد بِعَيْنِه قد مر غير مرّة. وَالثَّانِي: عَن
إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن أَخِيه أبي بكر عبد الحميد
عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن مُحَمَّد بن أبي عَتيق ضد
الْجَدِيد عَن ابْن شهَاب هُوَ الزُّهْرِيّ عَن خَارِجَة
بن زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ، والْحَدِيث أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أبي الْيَمَان عَن
شُعَيْب، وَفِي فَضَائِل الْقُرْآن عَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن
بنْدَار عَن ابْن مهْدي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
الْهَيْثَم بن أَيُّوب.
قَوْله: (نسخت الصُّحُف فِي الْمَصَاحِف) الصُّحُف،
بِضَمَّتَيْنِ جمع صحيفَة، والصحيفة قِطْعَة قرطاس
مَكْتُوب والمصحف الكراسة وحقيتها: مجمع الصُّحُف، قَوْله:
(فَلم أَجدهَا إلاَّ مَعَ خُزَيْمَة) لم يرد: أَن حفظهَا
قد ذهب عَن جَمِيع النَّاس فَلم يكن عِنْدهم، لِأَن زيد بن
ثَابت قد حفظهَا، وَلِهَذَا قَالَ: كنت أسمع رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرؤهَا. فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ
إِثْبَات الْآيَة فِي الْمُصحف بقول وَاحِد أَو اثْنَيْنِ
وَشرط كَونه قرانا التَّوَاتُر؟ قلت: كَانَ متواتراً
عِنْدهم، وَلِهَذَا قَالَ: كنت أسمع رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (يقْرَأ بهَا) ، لكنه لم يجدهَا
مَكْتُوبَة فِي الْمُصحف إلاَّ عِنْد خُزَيْمَة. وَيُقَال:
التَّوَاتُر وَعَدَمه، إِنَّمَا يتَصَوَّر أَن فِيمَا بعد
أَصْحَابه لأَنهم إِذا سمعُوا من الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قُرْآن، علمُوا قطعا قرآنيته. قلت:
رُوِيَ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: أشهد
لسمعتها من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد
رُوِيَ عَن أبي بن كَعْب وهلال بن أُميَّة مثله،
فَهَؤُلَاءِ جمَاعَة، وَخُزَيْمَة بن ثَابت بن الْفَاكِه
بن ثَعْلَبَة بن سَاعِدَة بن عَامر بن عنان بن عَامر ابْن
خطمة، واسْمه: عبد الله بن جشم بن مَالك بن الْأَوْس أَبُو
عمَارَة الخطمي الْأنْصَارِيّ، يعرف بِذِي
الشَّهَادَتَيْنِ، كَانَت مَعَه راية بني خطمة يَوْم
الْفَتْح، شهد بَدْرًا وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد،
وَكَانَ مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بصفين
فَلَمَّا قتل عمار جرد سَيْفه فقاتل حَتَّى قتل، وَكَانَت
صفّين سنة سبع وَثَلَاثِينَ. وَقَالَ أَبُو عمر: لما قتل
عمار بصفين قَالَ خُزَيْمَة: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: تقتل عماراً الفئة الباغية.
وَسبب كَون شَهَادَته بشهادتين أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كلم رجلا فِي شَيْء فَأنكرهُ، فَقَالَ خُزَيْمَة
أَنا أشهد، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَشهد وَلم
تستشهد؟ فَقَالَ: نَحن نصدقك على خبر السَّمَاء، فَكيف
بِهَذَا؟ فَأمْضى شَهَادَته وَجعلهَا بشهادتين. وَقَالَ
لَهُ: لَا تعد، وَهَذَا من خَصَائِصه، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ.
31 - (بابٌ عمَلٌ صالِحٌ قَبْلَ القِتالِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَقْدِيم عمل صَالح قبل
الْقِتَال، هَذَا على تَقْدِير إِضَافَة الْبَاب إِلَى
عمل، وَيجوز قطعه عَن الْإِضَافَة، وَيكون التَّقْدِير:
هَذَا بَاب يذكر فِيهِ عمل صَالح قبل الْقِتَال، يَعْنِي:
كَون عمل صَالح قبله.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إنَّمَا تُقَاتِلُونَ
بأعْمَالِكُمْ
أَبُو الدَّرْدَاء اسْمه عُوَيْمِر بن مَالك الخزرجي
الْأنْصَارِيّ، وروى الدينَوَرِي هَذَا التَّعْلِيق من
طَرِيق أبي إِسْحَاق الْفَزارِيّ عَن سعيد بن عبد
الْعَزِيز عَن ربيعَة بن يزِيد أَن أَبَا الدَّرْدَاء
قَالَ: أَيهَا النَّاس! عمل صَالح قبل الْغَزْو فَإِنَّمَا
تقاتلون بأعمالكم، أَي: متلبسين بأعمالكم. فَإِن قلت: مَا
وَجه تَقْسِيم البُخَارِيّ هَذَا حَيْثُ جعل الشّطْر الأول
تَرْجَمَة والشطر الثَّانِي أصلا مُعَلّقا؟ . قلت: نظر
البُخَارِيّ فِي هَذَا دَقِيق، وَذَلِكَ أَنه لما علم
انْقِطَاع الطَّرِيق فِي الشّطْر الأول بَين ربيعَة بن
يزِيد وَأبي الدَّرْدَاء جعله تَرْجَمَة، وَعلم
(14/104)
اتِّصَال الطَّرِيق فِي الشّطْر الثَّانِي
وَعَزاهُ إِلَى أبي الدَّرْدَاء بالجزمم فَإِن قلت: مَا
وَجه الِاتِّصَال؟ قلت: روى عبد الله بن الْمُبَارك فِي
كتاب الْجِهَاد عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز عَن ربيعَة بن
يزِيد عَن ابْن حَلبس عَن أبي الدَّرْدَاء. قَالَ:
إِنَّمَا تقاتلون بأعمالكم، فاقتصر على هَذَا الْمِقْدَار،
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وَفتح
الْبَاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة. وَقَالَ ابْن
مَاكُولَا، يزِيد بن ميسرَة بن حَلبس، يروي عَن أم
الدَّرْدَاء عَن أبي الدَّرْدَاء، وَأَخُوهُ يُونُس بن
ميسرَة بن حَلبس، يروي عَن مُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان
وَأبي إِدْرِيس الْخَولَانِيّ وَغَيرهمَا، وأخوهما أَيُّوب
بن ميسرَة بن حَلبس.
وقَوْلُهُ عزَّ وجَلَّ {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً
عِنْدَ الله أنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ إنَّ الله
يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً
كأنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصَّفّ: 2 4) .
وَقَوله تَعَالَى، يجوز بِالرَّفْع والجر بِحَسب عطفه على
قَوْله: عمل صَالح قبل الْقِتَال، قيل: لَا مُنَاسبَة بَين
التَّرْجَمَة وَالْآيَة. ورد بِأَنَّهَا مَوْجُودَة من
حَيْثُ إِن الله عَاتب من قَالَ بِمَا لَا يفعل، وَأثْنى
على من وفى وَثَبت عِنْد الْقِتَال، والثبات عِنْده من
أصلح الْأَعْمَال. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالْمَقْصُود من
ذكر هَذِه الْآيَة ذكر: صفا أَي: صافين أنفسهم، أَو
مصفوفين، إِذْ هُوَ عمل صَالح قبل الْقِتَال. وَقيل: يجوز
أَن يُرَاد اسْتِوَاء بنيانهم فِي الْبناء حَتَّى
يَكُونُوا فِي اجْتِمَاع الْكَلِمَة كالبنيان. وَقيل:
مَفْهُومه مدح الَّذين قَالُوا وعزموا وقاتلوا، وَالْقَوْل
فِيهِ والعزم عملان صالحان. قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين}
(الصَّفّ: 2 4) . إِلَى آخِره. قَالَ مقَاتل فِي
(تَفْسِيره) قَوْله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا. .}
(الصَّفّ: 2 4) . إِلَى آخِره: يَعِظهُمْ بذلك، وَذَلِكَ
أَن الْمُؤمنِينَ قَالُوا: لَو نعلم أَي الْأَعْمَال أحب
إِلَى الله لعملنا، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الله يحب
الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله} (الصَّفّ: 2 4) . يَعْنِي:
فِي طَاعَته {صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} (الصَّفّ: 2
4) . فَأخْبر الله تَعَالَى بِأحب الْأَعْمَال إِلَيْهِ
بعد الْإِيمَان، فكرهوا الْقَتْل فوعظهم الله وأدبهم
فَقَالَ: {لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصَّفّ: 2
4) . وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : قيل: إِن الرجل كَانَ
يَجِيء إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَقُول:
فعلت كَذَا وَكَذَا، وَمَا فعل فَنزلت: {لم تَقولُونَ مَا
لَا تَفْعَلُونَ} (الصَّفّ: 2 4) . وَقَالَ الضَّحَّاك:
كَانَ الرجل يَقُول: قَاتَلت وَلم يُقَاتل، وطعنت وَلم
يطعن، وَصَبَرت وَلم يصبر، فَنزلت هَذِه الْآيَة. وَقَالَ
ابْن عَبَّاس: كَانَ نَاس من الْمُؤمنِينَ قبل أَن يفْرض
الْجِهَاد يَقُولُونَ: وَدِدْنَا لَو أَن الله تَعَالَى
دلنا على أحب الْأَعْمَال إِلَيْهِ فنعمل بِهِ، فَأخْبرهُم
الله تَعَالَى: أَن أفضل الْأَعْمَال الْجِهَاد، وَكره
ذَلِك نَاس مِنْهُم، وشق عَلَيْهِم الْجِهَاد وتباطؤا
عَنهُ، فَنزلت هَذِه الْآيَة. وَقَالَ ابْن زيد: نزلت فِي
الْمُنَافِقين، كَانُوا يُعِدون الْمُؤمنِينَ النَّصْر
وَيَقُولُونَ: لَو خَرجْتُمْ خرجنَا مَعكُمْ ونصرناكم،
فَلَمَّا خرج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نكصوا
عَنهُ، فَنزلت هَذِه الْآيَة. قَوْله: (لِمَ؟) هِيَ لَام
الْإِضَافَة دَاخِلَة على: مَا، الاستفهامية، كَمَا دخل
عَلَيْهَا غَيرهَا من حُرُوف الْجَرّ فِي قَوْلك: بِمَ
وفيم وَعم وإلام وعلام، وَإِنَّمَا حذفت الْألف لِأَن مَا،
والحرف كشيء وَاحِد، وَوَقع اسْتِعْمَالهَا كثيرا فِي
كَلَام المستفهم. وَقَالَ الْحسن: إِنَّمَا بدأهم
بِالْإِيمَان تهكماً بهم، لِأَن الْآيَة نزلت فِي
الْمُنَافِقين وبإيمانهم. قَوْله: (كبر مقتاً) هَذَا من
أفْصح الْكَلَام وأبلغه فِي مَعْنَاهُ، قصد فِي كبر
التَّعَجُّب من غير لَفظه، وَمعنى التَّعَجُّب تَعْظِيم
الْأَمر فِي قُلُوب السامعين، لِأَن التَّعَجُّب لَا يكون
إلاَّ من شَيْء خَارج عَن نَظَائِره وأشكاله، وَأسْندَ:
كبر، إِلَى: أَن تَقولُوا، وَنصب: مقتاً، على تَفْسِيره،
دلَالَة على أَن قَوْلهم: مَا لَا يَفْعَلُونَ) ، مقت
خَالص لَا شوب فِيهِ لفرط تمكن المقت مِنْهُ، واختير لفظ:
المقت، لِأَنَّهُ أَشد البغض وأبلغه. قَوْله: (صفا) أَي:
صافين أنفسهم أَو مصفوفين. قَوْله: (مرصوص) ، أَي:
كَأَنَّهُمْ فِي تراصهم من غير فُرْجَة بُنيان رص بعضه
إِلَى بعض.
8082 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ
حدَّثنا شَبَابَةُ بنُ سَوَّارِ الفَزَارِيُّ قَالَ
حدَّثنا إسْرَائيلُ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ
البَرَاءَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ أتَى النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلٌ مُقَنَّعٌ بالحَدِيدِ
فقالَ يَا رسولَ الله أُقَاتِلُ واسْلِمُ قَالَ أسْلِمْ
ثُمَّ قاتِلْ فأسْلَمَ ثُمَّ قاتَلَ فقُتِلَ فَقَالَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمِلَ قَلِيلاً وأُجِرَ
كَثِيراً.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أسلم ثمَّ قَاتل)
فَأسلم ثمَّ قَاتل وَقد أَتَى بِالْعَمَلِ الصَّالح بل
بِأَفْضَل الْأَعْمَال وأقواها صلاحاً، وَهُوَ
الْإِسْلَام، ثمَّ قَاتل بعد أَن أسلم. وَمُحَمّد بن عبد
الرَّحِيم أَبُو يحيى كَانَ يُقَال لَهُ: صَاعِقَة.
وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وشبابة بِفَتْح
(14/105)
الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْبَاء
الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى: ابْن سوار،
بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْوَاو بعد الْألف
رَاء: الْفَزارِيّ، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي،
وَقد مر فِي كتاب الْحيض، وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس
بن أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي
وَإِسْرَائِيل هَذَا يروي هُنَا عَن جده أبي إِسْحَاق.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (رجل) قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: اسْمه الأصرم
بِالْمُهْمَلَةِ عَمْرو بن ثَابت الأشْهَلِي وحاله من
الغرائب لِأَنَّهُ دخل الْجنَّة وَلم يسْجد لله سَجْدَة
قطّ. قلت: قَالَ الذَّهَبِيّ فِي: بَاب الْألف: أَصْرَم.
وَيُقَال أصيرم بن ثَابت بن وقش الأشْهَلِي، اسْتشْهد
يَوْم أحد وَقَالَ فِي بَاب الْعين: عَمْرو بن ثَابت بن
وقش الأوسي الأشْهَلِي، ابْن عَم عباد بن بشر، اسْتشْهد
بِأحد. وَقَالَ أَبُو عمر: وَفِي بَاب الْهمزَة: أَصْرَم
الشقري، كَانَ فِي النَّفر الَّذين أَتَوا رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بني شقرة، فَقَالَ لَهُ: مَا
اسْمك؟ فَقَالَ: أَصْرَم فَقَالَ: أَنْت زرْعَة. وَقَالَ
فِي بَاب الْعين: عَمْرو بن ثَابت بن وقش بن رَغْبَة بن
عبد الْأَشْهَل الْأنْصَارِيّ الأشْهَلِي اسْتشْهد يَوْم
أحد، وَهُوَ الَّذِي قيل: إِنَّه دخل الْجنَّة وَلم يصل
لله سَجْدَة، فِيمَا ذكره الطَّبَرِيّ. وَفِيه نظر.
قَوْله: (مقنع) على صِيغَة الْمَفْعُول، أَي: منشى
بالحديد. قَوْله: (وأُجِرَ) على صِيغَة الْمَجْهُول.
وَفِيه: أَن الله تَعَالَى يُعْطي الثَّوَاب الجزيل على
الْعَمَل الْيَسِير تفضلاً مِنْهُ على عباده، فَاسْتحقَّ
بِهَذَا نعيم الْأَبَد فِي الْجنَّة بِإِسْلَامِهِ، وَإِن
كَانَ عمله قَلِيلا، لِأَنَّهُ اعْتقد أَنه لَو عَاشَ
لَكِن مُؤمنا طول حَيَاته، فنفعته نِيَّته، وَإِن كَانَ قد
تقدمها قَلِيل من الْعَمَل، وَكَذَلِكَ الْكَافِر إِذا
مَاتَ سَاعَة كفره يجب عَلَيْهِ التخليد فِي النَّار،
لِأَنَّهُ انضاف إِلَى كفره اعْتِقَاد أَنه يكون كَافِرًا
طول حَيَاته لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ.
41 - (بابُ منْ أتاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فقَتَلَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر من أَتَاهُ سهم غرب، بِفَتْح
الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره بَاء
مُوَحدَة، وَهُوَ إِمَّا صفة لسهم أَو مُضَاف إِلَيْهِ،
فَفِيهِ أَرْبَعَة أوجه. قَالَه الْكرْمَانِي: وَسكت
عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: روى لنا سهم
بِالتَّنْوِينِ وَغرب، بتسكين الرَّاء مَعَ التَّنْوِين،
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَذَا تَقوله الْعَامَّة والأجود:
سهم غرب، بِفَتْح الرَّاء، وَإِضَافَة الغرب إِلَى السهْم.
وَقَالَ ابْن السّكيت: يُقَال: أَصَابَهُ سهم غرب إِذا لم
يدر من أَي جِهَة رمى بِهِ، وَقد روى عَن أبي زيد: إِن
جَاءَ من حَيْثُ لَا يعرف فَهُوَ سهم غرب، بِسُكُون
الرَّاء، فَإِن رمى بِهِ إِنْسَان فَأصَاب غَيره فَهُوَ
غرب، بِفَتْح الرَّاء، وَذكره الْأَزْهَرِي بِفَتْح
الرَّاء لَا غير. وَقَالَ ابْن سَيّده: يُقَال أَصَابَهُ
سهم غرب، وَغرب إِذا كَانَ لَا يدْرِي من رَمَاه. وَفِي
(الْمُنْتَهى) : سهم غرب وَغرب بتسكين الرَّاء وَفتحهَا
يُضَاف وَلَا يُضَاف إِذا أَصَابَهُ سهم لَا يعرف من
رَمَاه وَمثله سهم عرض، فَإِن عرف فَلَيْسَ بغرب وَلَا
عرض، وبنحوه ذكر الْقَزاز وَابْن دُرَيْد، فعلى هَذَا لَا
يُقَال فِي السهْم الَّذِي أصَاب حَارِثَة: غرب، لِأَن
راميه قد عرف. وَالله أعلم.
9082 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
حُسَيْنُ بنُ مُحَمَّدٍ أَبُو أحْمَدَ قَالَ حدَّثنا
شَيْبَانُ عنْ قَتَادَةَ قَالَ حدَّثنا أنَسُ بنُ مالِكٍ
أنَّ أمَّ الرَّبِيعَ بِنٍّ البَرَاءِ وهْيَ أمُّ
حَارِثَةَ بنِ سُرَاقَةَ أتَتِ النَّبِيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ يَا نَبِيَّ الله ألاَ
تُحَدِّثُنِي عَن حارِثَةَ وكانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ
أصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فإنْ كانَ فِي الجَنَّةِ صَبَرْتُ
وإنْ كانَ غَيْرَ ذالِكَ اجْتَهَدْتُ علَيْهِ فِي
البُكَاءِ قَالَ يَا أُمَّ حارِثَةَ إنَّهَا جِنانٌ فِي
الجَنَّةِ وإنَّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلى..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن عبد الله،
قَالَ الْكرْمَانِي: نسبه البُخَارِيّ إِلَى جده وَهُوَ
مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله الذهلي بِضَم الذَّال
الْمُعْجَمَة، قلت: كَذَا جزم بِهِ الكلاباذي، وَوَقع فِي
رِوَايَة أبي عَليّ بن السكن: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد
الله ابْن الْمُبَارك المخرمي، بِضَم الْمِيم وَفتح
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الرَّاء. قلت: كِلَاهُمَا
من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وحسين بن مُحَمَّد ابْن بهْرَام
التَّمِيمِي الْمروزِي، سكن بَغْدَاد وَمَات سنة أَربع
عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وشيبان، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة
أَبُو مُعَاوِيَة النَّحْوِيّ، وَقد مر.
(14/106)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن أم الرّبيع بنت الْبَراء) ،
كَذَا وَقع لجَمِيع رُوَاة البُخَارِيّ، وَهَذَا وهم نبه
عَلَيْهِ غير وَاحِد آخِرهم الْحَافِظ الدمياطي،
وَالصَّوَاب أَنَّهَا أم حَارِثَة بن سراقَة بن الْحَارِث
بن عدي بن مَالك بن عدي بن عَامر بن غنم بن عدي ابْن
النجار، وَالربيع بنت النَّضر أُخْت أنس بن النَّضر بن
ضَمْضَم بن زيد بن حرَام بن جُنْدُب بن عَامر بن غنم بن
عدي وَهِي عمَّة أنس بن مَالك بن النَّضر بن ضَمْضَم،
وَهِي الَّتِي كسرت ثنية امْرَأَة، وَقد مر بَيَانه.
قَوْله: (وَهِي أم حَارِثَة بن سراقَة) ، وَهَذَا هُوَ
الْمُعْتَمد عَلَيْهِ. وَقد روى التِّرْمِذِيّ وَابْن
خُزَيْمَة عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة فَقَالَ
أنس: إِن الرّبيع بنت النَّضر أَتَت النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ ابْنهَا حَارِثَة بن سراقَة
أُصِيب يَوْم بدر ... الحَدِيث، وَقَالَ ابْن الْأَثِير
فِي (جَامع الْأُصُول) : الَّذِي وَقع فِي كتب النّسَب
والمغازي وَأَسْمَاء الصَّحَابَة: أَن أم حَارِثَة هِيَ
الرَّبيع بنت النَّضر، عمَّة أنس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. قلت: وَكَذَا بَينه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي
(مستخرجه) وَأَبُو نعيم وَغَيرهمَا، وحارثة هُوَ الَّذِي
قَالَ لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَيفَ
أَصبَحت يَا حَارِثَة؟ قَالَ: أَصبَحت مُؤمنا بِاللَّه
حَقًا ... الحَدِيث، وَفِيه: يَا رَسُول الله أدع لي
بِالشَّهَادَةِ. فجَاء يَوْم بدر ليشْرب من الْحَوْض
فَرَمَاهُ حبَان، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد
الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عرقة، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء لابعدها قَاف، بِسَهْم فَأصَاب
حنجرته فَقتله. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ:
وَكَانَ خرج نظاراً وَهُوَ غُلَام، وَقَول ابْن مَنْدَه:
شهد بَدْرًا وَاسْتشْهدَ بِأحد، رد عَلَيْهِ. وَقد تصدى
الْكرْمَانِي للجواب عَن قَول من قَالَ بالوهم، فَقَالَ:؛
لَا وهم للْبُخَارِيّ، إِذْ لَيْسَ فِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ إلاَّ هَكَذَا، قَالَ أنس: إِن أم حَارِثَة
ابْن سراقَة أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهُوَ ظَاهر، وَكَأَنَّهُ كَانَ فِي رِوَايَة الْفربرِي
حَاشِيَة غير صَحِيحَة لبَعض الروَاة، فألحقت بِالْمَتْنِ،
ثمَّ إِنَّه على تَقْدِير وجوده وَصِحَّته عَن البُخَارِيّ
يحْتَمل إحتمالات أَن يكون للربيّع ولد يُسمى بِالربيعِ
بِالتَّخْفِيفِ من زوج آخر غير سراقَة اسْمه: الْبَراء،
وَأَن تكون بنت الْبَراء خَبرا، لِأَن، وَضمير: هِيَ،
رَاجع إِلَى الربيِّع، وَأَن تكون: بنت، صفة لأم الرّبيع،
وَهِي المخاطبة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فاطلق الْأُم على الْجدّة تجوزاً، وَإِن تكون إِضَافَة
الْأُم إِلَى الرّبيع للْبَيَان أَي: الْأُم الَّتِي هِيَ
الربيّع، وَبنت مصحف من عَمه، إِذْ الرّبيع هِيَ عمَّة
الْبَراء بن مَالك وارتكاب بعض هَذِه التكلفات أولى من
تخطئة الْعُدُول الثِّقَات. انْتهى. قلت: هَذِه تعسفات،
والأنساب مَا تعرف بالاحتمالات، والعدول الثِّقَات غير
معصومين من الْخَطَأ، وَدَعوى الْأَوْلَوِيَّة غير
صَحِيحَة. قَوْله: (اجتهدت عَلَيْهِ فِي الْبكاء) ، قَالَ
الْخطابِيّ: أقرها النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
هَذَا، يَعْنِي: يُؤْخَذ مِنْهُ الْجَوَاز. وَأجِيب بِأَن
هَذَا كَانَ قبل تَحْرِيم النوح، فَلَا دلَالَة، فَإِن
تَحْرِيمه كَانَ عقيب غَزْوَة أحد، وَهَذِه الْقِصَّة
كَانَت عقيب غَزْوَة بدر، وَوَقع فِي رِوَايَة سعيد بن أبي
عرُوبَة: (اجتهدت فِي الدُّعَاء) ، بدل قَوْله: (فِي
الْبكاء) وَهُوَ خطأ. وَفِي رِوَايَة حميد الْآتِيَة فِي
صفة الْجنَّة من الرقَاق: فَإِن كَانَ فِي الْجنَّة فَلم
أبك عَلَيْهِ. قَوْله: (إِنَّهَا جنان فِي الْجنَّة) ،
كَذَا هُنَا، وَفِي رِوَايَة سعيد بن أبي عرُوبَة:
(إِنَّهَا جنان فِي جنَّة) وَفِي رِوَايَة أبان عِنْد
أَحْمد: (إِنَّهَا جنان كَثِيرَة فِي جنَّة) ، وَفِي
رِوَايَة حميد: (إِنَّهَا جنان كَثِيرَة) فَقَط
وَالضَّمِير فِي: إِنَّهَا، ضمير مُبْهَم يفسره مَا بعده
كَقَوْلِهِم: هِيَ الْعَرَب تَقول مَا تشَاء، وَلما قَالَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمه مَا قَالَ،
رجعت وَهِي تضحك، وَتقول: بخ، بخٍ لَك يَا حَارِثَة،
وَهُوَ أول من قتل من الْأَنْصَار يَوْم بدر، وَعَن أبي
نعيم كَانَ كثير الْبر بِأُمِّهِ. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: دخلت الْجنَّة فَرَأَيْت حَارِثَة لذَلِك الْبر،
قيل: فِيهِ نظر، لِأَن الْمَقْتُول فِيهِ هَذَا هُوَ
حَارِثَة بن النُّعْمَان كَمَا بَينه أَحْمد فِي مُسْنده.
قَوْله: (الفردوس) ، هُوَ الْبُسْتَان الَّذِي يجمع مَا
فِي الْبَسَاتِين من شجر وزهر ونبات، وَقيل: هُوَ رُومِية
معربة، وَالْجنَّة الْبُسْتَان، وَيُقَال: هِيَ النّخل
الطوَال. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: كل شجر متكاثف يستر بعضه
بَعْضًا فَهُوَ جنَّة، مُشْتَقّ من: جننته، إِذا سترته. |