عمدة القاري شرح صحيح البخاري

13 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {لاَ يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أولي الضَّرَرِ والْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فَضْل الله الْمُجَاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ علَى القاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاًّ وعَدَ الله الحُسْنَى وفَضَّلَ الله المُجَاهِدِينَ عَلَى القاعِدِينَ} إِلَى قَوْلِهِ {غَفُورَاً رَحِيماً} (النِّسَاء: 59) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان سَبَب نزُول قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} (النِّسَاء: 59) . الْآيَة، والقاعدون جمع قَاعد، وَأَرَادَ بهم القاعدين عَن الْجِهَاد، وَكلمَة: من، للْبَيَان والتبعيض، وَأُرِيد بِالْجِهَادِ غَزْوَة بدر، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ مقَاتل: غَزْوَة تَبُوك، وَالضَّرَر مثل الْعَمى وَالْعَرج وَالْمَرَض. قَوْله: (وَالْمُجَاهِدُونَ) ، عطف على قَوْله: الْقَاعِدُونَ. قَوْله: (وَفضل الله الْمُجَاهدين) ، هَذِه الْجُمْلَة مُوضحَة للجملة الأولى الَّتِي فِيهَا عدم اسْتِوَاء القاعدين والمجاهدين، كَأَنَّهُ قيل: مَا بالهم لَا يستوون؟ فَأُجِيب بقوله: فضل الله الْمُجَاهدين، قَوْله: (دَرَجَة) ، نضب بِنَزْع الْخَافِض، وَقيل: مصدر فِي معنى: تَفْضِيلًا، وَقيل: حَال، أَي ذَوي دَرَجَة. قَوْله: (وكلا) ، أَي: وكل فريق من القاعدين والمجاهدين. قَوْله: (وعد الله الْحسنى) ، أَي: المثوبة الْحسنى، وَهِي الْجنَّة. قَوْله: (إِلَى قَوْله {غَفُورًا رحِيما} (النِّسَاء: 59)) . أَرَادَ بِهِ تَمام الْآيَة وَهُوَ قَوْله: {على القاعدين أجرا عَظِيما دَرَجَات مِنْهُ ومغفرة وَرَحْمَة وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} (النِّسَاء: 59) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أجرا انتصب بِفضل لِأَنَّهُ فِي معنى آجرهم أجرا. قَوْله {دَرَجَات} أَي: فِي الْجنَّة. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَيجوز أَن ينْتَصب دَرَجَات، نصب دَرَجَة، كَمَا نقُول: ضربه أسواطاً بِمَعْنى: ضربات، كَأَنَّهُ قيل: وفضلهم تَفْضِيلًا. قَوْله: {ومغفرة وَرَحْمَة} بدل من أجرا {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} (النِّسَاء: 59) . لِلْفَرِيقَيْنِ. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي أَن الله تَعَالَى ذكر فِي أول الْكَلَام دَرَجَة، وَفِي آخِره دَرَجَات؟ قلت: الأولى: لتفضيل الْمُجَاهدين على أولى الضَّرَر. وَالثَّانيَِة: للتفضيل على غَيرهم. وَقيل: الأولى دَرَجَة الْمَدْح والتعظيم، وَالثَّانيَِة منَازِل الْجنَّة.

1382 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ البَرَاءَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُولُ لَمَّا نَزَلَتْ {لاَ يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النِّسَاء: 59) . دَعَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْداً فَجاءَ بِكَتِفٍ فكَتَبَهَا وشَكَا ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ فَنَزَلَتْ: {لاَ يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أولِي الضَّرَرِ} (النِّسَاء: 59) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين سَبَب نزُول قَوْله: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ ... } (النِّسَاء: 59) . إِلَى آخِره، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ عَمْرو بن عبد الله السبيعِي الْهَمدَانِي الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار.
قَوْله: ((زيدا) ، هُوَ زيد بن ثَابت الْأنْصَارِيّ النجاري. قَوْله: (بكتف) ، بِفَتْح الْكَاف وَكسر التَّاء: وَهُوَ عظم عريض يكون فِي أصل كتف الْحَيَوَان من النَّاس وَالدَّوَاب، كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهِ لقلَّة الْقَرَاطِيس عِنْدهم. قَوْله: (ابْن أم مَكْتُوم) ، هُوَ عَمْرو بن قيس العامري، وَاسم أمه عَاتِكَة المخزومية. قَوْله: (ضرارته) ، أَي: ذهَاب بَصَره.
وَفِيه: اتِّخَاذ الْكَاتِب، وَتَقْيِيد الْعلم.

2382 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ حدَّثني صالِحُ بنُ كَيْسَانَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدِ السَّاعِدِيِّ أنَّهُ قَالَ رأيْتُ مَرْوَانَ بنَ الحَكَمِ جالِساً فِي الْمَسْجِدِ فأقْبَلْتُ حتَّى جَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ فأخْبَرَنا أنَّ زَيْدَ بنَ ثابِتٍ أخْبَرَهُ أنَّ رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمْلى علَيْهِ {لاَ يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {والمُجَاهِدُونَ ي سَبِيلِ الله} قَالَ فَجاءَهُ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وهْوَ يُمِلُّهَا عَليَّ فَقَالَ يَا رسولَ الله لَوْ أسْتَطِيعُ الجِهَادَ لَجَاهَدْتُ وكانَ رَجُلاً أعْمَى

(14/129)


فأنْزَلَ الله تبارَكَ وتَعالى على رسولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفَخِذُهُ علَى فَخِذِي فثَقُلَتْ علَيَّ حَتَّى خِفْتُ أنْ تُرَضَّ فَخِذِي ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فأنْزَلَ الله عزَّ وجلَّ {غَيْرُ أُولِى الضَّرَرِ} (النِّسَاء: 59) .
(الحَدِيث طرفه فِي: 2954) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، ومروان هُوَ ابْن الحكم، كَانَ أَمِير الْمَدِينَة زمن مُعَاوِيَة. والْحَدِيث من أَفْرَاده. وَمن لطائف إِسْنَاده أَن سهل بن سعد الصَّحَابِيّ يروي عَن مَرْوَان وَهُوَ تَابِعِيّ.
قَوْله: (يملها) ، بِضَم الْيَاء وَكسر الْمِيم وَتَشْديد اللاَّم أَي: يُمْلِيهَا، وَالظَّاهِر أَن ياءه منقلبة عَن إِحْدَى اللامين، قَوْله: لَو استطيع الْجِهَاد، أَصله: لَو اسْتَطَعْت، عدل إِلَى الْمُضَارع إِمَّا لقصد الِاسْتِمْرَار، أَو لغَرَض الِاسْتِمْرَار. قَوْله: (وَكَانَ رجلا أعمى) ، أَي: كَانَ ابْن أم مَكْتُوم. قَوْله: (وَفَخذه) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (أَن ترضَّ) من الرضِّ، بتَشْديد الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَهُوَ الدق الجرش. قَوْله: (ثمَّ سري عَنهُ) ، بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد أَي: كشف وأزيل، قيل: إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صعد وَهَبَطَ فِي مِقْدَار ألف سنة، قبل أَن يجِف الْقَلَم، أَي: بِسَبَب أولى الضَّرَر، حَكَاهُ ابْن التِّين، قَالَ: وَهَذَا يحْتَاج أَن يكون جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يتَنَاوَل ذَلِك من السَّمَاء، وَالْأَمر كَذَلِك، لِأَن الْقُرْآن نزل جملَة وَاحِدَة لَيْلَة الْقدر إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا، ثمَّ نزل بعد ذَلِك مُتَفَرقًا بِحَسب الْحَال.
وَفِيه: أَن من حَبسه الْعذر وَغَيره عَن الْجِهَاد وَغَيره من أَعمال الْبر مَعَ نِيَّة فِيهِ فَلهُ أجر الْمُجَاهِد وَالْعَامِل، لِأَن نَص الْآيَة على المفاضلة بَين الْمُجَاهِد والقاعد، ثمَّ اسْتثْنى من المفضولين أولي الضَّرَر، وَإِذا استثناهم مِنْهَا فقد ألحقهم بالفاضلين، وَقد بَين الشَّارِع هَذَا الْمَعْنى، فَقَالَ: إِن بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سلكنا وَاديا أَو شعبًا إلاَّ وهم مَعنا، حَبسهم الْعذر، وَكَذَا جَاءَ فِيمَن كَانَ يعْمل، وَهُوَ صَحِيح، وَكَذَا من نَام عَن حزبه نوماً غَالِبا كتب لَهُ أجر حزبه، وَكَانَ نَومه صَدَقَة عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمُسَافِر يكْتب لَهُ مَا كَانَ يعْمل فِي الْإِقَامَة، وَهَذَا معنى قَوْله عز وَجل: {إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فَلهم أجر غير ممنون} (النِّسَاء: 59) . أَي: غير مَقْطُوع بزمانة، أَو كبرٍ أَو ضعفٍ إِذْ الْإِنْسَان يبلغ بنيته أجر الْعَامِل إِذا كَانَ لَا يَسْتَطِيع الْعَمَل الَّذِي ينويه.

23 - (بابُ الصَّبْرِ عِنْدَ القِتَالِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الصَّبْر عِنْد الْقِتَال مَعَ الْكفَّار.

3382 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا مُعَاوِيَةُ بنُ عمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا أَبُو إسْحَاقَ عنْ مُوساى بنِ عُقْبَةَ عنْ سالِمِ أبِي النَّضْرِ أنَّ عبدَ الله بنَ أبِي أوْفَى كتَبَ فَقَرَأْتُهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا لَقِيتُمُوهُمْ فاصْبِرُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَاصْبِرُوا) يَعْنِي عِنْد ملاقاة الْكفَّار، وَعبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَمُعَاوِيَة بن عَمْرو بن الْمُهلب الْأَزْدِيّ الْبَغْدَادِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ الْفَزارِيّ واسْمه إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، والْحَدِيث مضى بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد فِي: بَاب الْجنَّة تَحت بارقة السيوف، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (فَاصْبِرُوا) ، يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الصَّبْر عِنْد إِرَادَة الْقِتَال. والشروع فِيهِ، أَو الصَّبْر حَال الْمُقَاتلَة والثبات عَلَيْهِ.

(بابُ التَّحْرِيضِ علَى القِتَالِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التحريض، أَي: الْحَث على الْقِتَال.
وقَوْلِهِ تَعالى {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ علَى القِتَالِ} (الْأَنْفَال: 56) .

وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: التحريض، وَفِي بعض النّسخ: وَقَول الله تَعَالَى، وأوله قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا من الَّذين كفرُوا بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ} (الْأَنْفَال: 56) . قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى أخبرنَا سُفْيَان عَن ابْن شَوْذَب عَن الشّعبِيّ عَن قَوْله: {يَا أَيهَا النبيِّ حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال} (الْأَنْفَال: 56) . أَي: حثهم عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحرض على الْقِتَال عِنْد صفهم

(14/130)


ومواجهة الْعَدو، كَمَا قَالَ لأَصْحَابه يَوْم بدر حِين أقبل الْمُشْركُونَ فِي عَددهمْ وعددهم: قومُوا إِلَى جنَّة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض. الحَدِيث، وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق حَدثنِي ابْن أبي نجيح عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما نزلت هَذِه الْآيَة أَعنِي قَوْله: {يَا أَيهَا النبيِّ حرض الْمُؤمنِينَ} (الْأَنْفَال: 56) . الْآيَة، ثقلت على الْمُسلمين وأعظموا أَن يُقَاتل عشرُون مِائَتَيْنِ، وَمِائَة ألفا، فَخفف الله عَنْهُم، فنسخها بِالْآيَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ: {الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا ... } (الْأَنْفَال: 66) . الْآيَة فَكَانُوا إِذا كَانُوا على الشّطْر من عدوهم لم يَنْبَغِي لَهُم أَن يَفروا من عدوهم، وَإِذا كَانُوا دون ذَلِك لم يجب عَلَيْهِم، وَجَائِز لَهُم أَن يتحوزوا. وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس، نَحْو ذَلِك، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَرُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَالْحسن وَزيد بن أسلم وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي وَالضَّحَّاك نَحْو ذَلِك.

4382 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا مُعاوِيةُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا أبُو إسْحَاقَ عنْ حُمَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أنَساً رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ خَرَجَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الخَنْدَقِ فإذَا المهاجِرُونَ والأنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بارِدَةٍ فلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ فلَمَّا رَأى مَا بِهِمْ مِنَ النَّبَبِ والجوُعِ قَالَ:
(أللهُمَّ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةَ ... فاغْفِرْ لِلأنْصَارِ والمهاجِرَة)

فقالُوا مُجِيبينَ لَهُ:
(نَحْنُ الَّذِينَ بايَعُوا مُحَمَّدَاً ... علَى الجِهَادِ مَا بَقِينا أبَدَاً) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(اللَّهُمَّ إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة)

تحريضهم على مَا هم فِيهِ لكَونه من الْجِهَاد، وَرِجَاله قد ذكرُوا فِي إِسْنَاد الحَدِيث السَّابِق فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
قَوْله: (خرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الخَنْدَق) ، وَكَانَ فِي شَوَّال سنة خمس من الْهِجْرَة، نَص على ذَلِك ابْن إِسْحَاق وَعُرْوَة بن الزبير وَقَتَادَة. وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ: أَنه قَالَ: كَانَت الْأَحْزَاب فِي شَوَّال سنة أَربع، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالك بن أنس، وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما بلغه اجْتِمَاع الْأَحْزَاب وَهِي الْقَبَائِل واتفاقهم على محاربته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ضرب الخَنْدَق على الْمَدِينَة. قَالَ ابْن هِشَام: يُقَال إِن الَّذِي أَشَارَ بِهِ سلمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيّ والسهيلي: أول من حفر الْخَنَادِق منوجهر بن أيرج، وَكَانَ فِي زمن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله (فَإِذا) كلمة إِذْ المفاجأة قَوْله: (مَا بهم) ، أَي: الْأَمر الملتبس بهم. قَوْله: (من النصب) ، أَي: التَّعَب. قَوْله: (والجوع)

. قَوْله: (قَالَ) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة. .) إِلَى آخِره، وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّمَا قَالَ ابْن رَوَاحَة: لَا هم، بِلَا ألف، وَلَا لَام، فَأتى بِهِ بعض الروَاة على الْمَعْنى، وَهَذَا مَوْزُون. وَقَالَ ابْن التِّين: بِالْألف وَاللَّام ... إِلَى آخِره، فَلَيْسَ بموزون، وَلَا هُوَ رجز. وَقَالَ ابْن بطال: لَيْسَ هُوَ من قَول رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هُوَ من قَول ابْن رَوَاحَة، وَلَو كَانَ من لَفظه لم يكن بذلك شَاعِرًا، وَلَا مِمَّن يَنْبَغِي لَهُ الشّعْر، وَإِنَّمَا يُسَمِّي بِهِ من قصد صناعته وَعلم السَّبَب والوتد والشطر وَجَمِيع مَعَانِيه من الزحاف والخرم وَالْقَبْض وَنَحْو ذَلِك. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن شعراء الْعَرَب لم يَكُونُوا يعلمُونَ مَا ذكره من ذَلِك. قَوْله: (إِن الْعَيْش) ، أَي: الْعَيْش الْمُعْتَبر، أَو الْعَيْش الْبَاقِي. قَوْله: (فَاغْفِر للْأَنْصَار) ويروى (للْأَنْصَار) ، وَيخرج بِهِ عَن الْوَزْن. قَوْله: (بَايعُوا) ، ويروى: (بَايعنَا) .
وَفِيه من الْفَوَائِد: أَن للحفر فِي سَبِيل الله وتحصين الديار وسد الثغور مِنْهَا أجر، كَأَجر الْقِتَال، وَالنَّفقَة فِيهِ محسوبة فِي نفقات الْمُجَاهدين إِلَى سَبْعمِائة ضعف. وَفِيه: اسْتِعْمَال الرجز وَالشعر إِذا كَانَت فِيهِ إِقَامَة النُّفُوس وإثارة الأنفة والمعرة.

(14/131)


43 - (بابُ حَفْرِ الخَنْدَقِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر حفر الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، الخَنْدَق حول الْمَدِينَة.

5382 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عبدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا عبدُ العَزِيزِ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ والأنْصَارُ يَحْفِرُونَ الخَنْدَقَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ ويَنْقُلُونَ التُّرَابَ علَى مُتُونِهِمْ ويَقولونَ:
(نَحْنُ الَّذِينَ بايَعُوا مُحَمَّدَاً ... علَى الإسْلاَمِ مَا بَقينَا أبَدَاً)

والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُجِيبُهُمْ وَيَقُولُ:
(أللَّهُمَّ إنَّهُ لاَ خَيْرَ إلاَّ خَيْرُ الآخِرَة ... فَبارِكْ فِي الأنْصَارِ والمُهَاجِرَه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو المقعد الْبَصْرِيّ، وَعبد الْوَارِث بن سعيد الْبَصْرِيّ، وَعبد الْعَزِيز بن صُهَيْب الْبَصْرِيّ، وَهَؤُلَاء كلهم بصريون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أبي معمر أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب بِتَمَامِهِ وَفِي الرقايق مُخْتَصرا عَن عمرَان بن مُوسَى.
قَوْله: (على متونهم) ، الْمُتُون جمع متن، ومتنا الظّهْر مكتنفا الصلب عَن يَمِين وشمال من عصب وَلحم يذكر وَيُؤَنث، والمتن من الأَرْض مَا صلب وارتفع. قَوْله: (على الْإِسْلَام) ، ويروى: على الْجِهَاد، وَهُوَ الْمَوْزُون، وَالْأول غير مَوْزُون. قَوْله: (وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُجِيبهُمْ) وَفِي الحَدِيث الْمَاضِي فِي الْبَيْت السَّابِق هم يجيبون لَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ تَارَة كَذَا وَتارَة كَذَا.

52 - (حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق قَالَ سَمِعت الْبَراء رَضِي الله عَنهُ يَقُول كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ينْقل وَيَقُول لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا) هَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مضى عَن قريب فِي أول بَاب قَول الله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن حَفْص بن عمر وَفِي الْمَغَازِي عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم وَفِي التَّمَنِّي عَن عَبْدَانِ عَن أَبِيه وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار عَن غنْدر وَعَن أبي مُوسَى عَن ابْن مهْدي وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن عَليّ بن الْحُسَيْن الدرهمي قَوْله " لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا " كَذَا روى وَهُوَ بِاللَّه لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا
53 - (حَدثنَا حَفْص بن عمر قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء رَضِي الله عَنهُ قَالَ رَأَيْت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَوْم الْأَحْزَاب ينْقل التُّرَاب وَقد وارى التُّرَاب بَيَاض بَطْنه وَهُوَ يَقُول
(لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا ... وَلَا تصدقنا وَلَا صلينَا)

(فَأنْزل السكينَة علينا ... وَثَبت الْأَقْدَام إِن لاقينا)

(إِن الألى قد بغوا علينا ... إِذا أَرَادوا فتْنَة أَبينَا)
هَذَا طَرِيق آخر عَن الْبَراء بأتم من الطَّرِيق السَّابِق قَوْله " يَوْم الْأَحْزَاب " سمي بِهِ لِاجْتِمَاع الْقَبَائِل واتفاقهم على محاربة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَوْم الخَنْدَق والأحزاب جمع حزب بِالْكَسْرِ وهم الطوائف من النَّاس قَوْله " فأنزلن " بالنُّون المخففة قَوْله " سكينَة " أَي وقارا ويروى فَنزل السكينَة قَوْله " إِن لاقينا " يَعْنِي مَعَ الْكَافِر قَوْله " إِن الأولى " هُوَ من أَلْفَاظ الموصولات لَا من أَسمَاء الإشارات وَهُوَ جمع للمذكر قَوْله " قد بغوا " أَي ظلمُوا من الْبَغي قَوْله " أَبينَا " من الإباء

(14/132)


وَهُوَ الِامْتِنَاع وَقَوله إِن الأولى إِلَى آخِره لَيْسَ يتزن وَرُوِيَ هَكَذَا أَن الأولى هم قد بغوا علينا وَهُوَ يتزن لِأَن وَزنه مستفعلن مستفعلن فعولن وَقَالَ الدَّاودِيّ وَفِي رِوَايَة أَن الأعادي بغوا علينا وَهُوَ أَيْضا لَا يتزن إِلَّا بِزِيَادَة هم أَو قد -
53 - (بابُ منْ حَبَسَهُ العُذْرُ عنِ الغَزْوِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من حَبسه الْعذر، وَهُوَ الْوَصْف الطاريء على الْمُكَلف الْمُنَاسب للتسهيل عَلَيْهِ، وَجَوَاب: من، مَحْذُوف تَقْدِيره: فَلهُ أجر الْغَازِي.

8382 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثنا حُمَيْدٌ أنَّ أنَساً حدَّثَهُمْ قَالَ رَجِعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ح.

9382 - وحدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ هُوَ ابنُ زَيْدٍ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ فِي غَزاةٍ فَقَالَ إنِّ أقْوَامَاً بالمَدِينَةِ خَلْفَنا مَا سَلَكْنَا شِعْبَاً ولاَ وادِياً إلاَّ وهُمْ مَعَنَا فِيهِ حبَسَهُمْ العُذْرُ.
(انْظُر الحَدِيث 8382 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وحبسهم الْعذر) . وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن أَحْمد بن يُونُس، هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي، عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة أبي خَيْثَمَة الْجعْفِيّ عَن حميد الطَّوِيل عَن أنس. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن حَرْب إِلَى آخِره. وَهَذَا كَمَا رَأَيْت قرن رِوَايَة زُهَيْر بِرِوَايَة حَمَّاد بن زيد، فَفِي رِوَايَة زُهَيْر، فَائِدَتَانِ: أولاهما: التَّصْرِيح بغزوة تَبُوك. وَالْأُخْرَى: بتصريح أنس بِالتَّحْدِيثِ.
قَوْله: (خلفنا) ، بِسُكُون اللَّام، أَي: وَرَاءَنَا، ويروى بتَشْديد اللَّام وَسُكُون الْفَاء: من التخليف. قَوْله: (شعبًا) ، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة: الطَّرِيق فِي الْجَبَل، وَيُسمى الْحَيّ الْعَظِيم أَيْضا شعبًا: بِالْكَسْرِ، والشعب، بِالْفَتْح مَا تفرق من قبائل الْعَرَب والعجم، والشعب أَيْضا الْقَبِيلَة الْعَظِيمَة. قَوْله: (إلاَّ وهم مَعنا فِيهِ) أَي: فِي ثَوَابه، أَي: هم شُرَكَاء فِي الثَّوَاب، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن حَمَّاد بن زيد: إلاَّ وهم مَعكُمْ فِيهِ بِالنِّيَّةِ، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان وَأبي عوَانَة، من حَدِيث جَابر: إلاَّ شَركُوكُمْ فِي الْأجر، بدل قَوْله إلاَّ كَانُوا مَعكُمْ. قَوْله: (الْعذر) ، لمَرض، وَعدم الْقُدْرَة على السّفر. وروى مُسلم من حَدِيث جَابر بِلَفْظ: حَبسهم الْمَرَض، وَهَذَا مَحْمُول على الْأَغْلَب.
وَفِيه: من حَبسه الْعذر من أَعمال الْبر مَعَ نِيَّة فِيهَا يكْتب لَهُ أجر الْعَامِل بهَا، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَن غَلبه النّوم عَن صَلَاة اللَّيْل: إِنَّه يكْتب لَهُ أجر صلَاته، وَكَانَ نَومه صَدَقَة عَلَيْهِ.
وقالَ مُوساى حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ حُمَيْدٍ عنْ مُوساى بنِ أنَسٍ عنْ أبِيهِ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

أَي: قَالَ مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، هُوَ شيخ البُخَارِيّ، وَحَمَّاد هُوَ ابْن سَلمَة يروي عَن حميد عَن مُوسَى بن أنس عَن أَبِيه أنس، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ: أخبرنَا أَبُو يعلى حَدثنَا أَبُو خَيْثَمَة حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة أخبرنَا حميد عَن مُوسَى بن أنس عَن أَبِيه أنس ... فَذكره.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله الأوَّلُ أصَحُّ

أَبُو عبد الله: هُوَ البُخَارِيّ. قَوْله: (الأول) ، السَّنَد الأول الَّذِي فِيهِ حميد عَن أنس بِدُونِ ذكر مُوسَى بن أنس عِنْدِي أصح من الَّذِي فِيهِ مُوسَى بن أنس، ورد عَلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي هَذَا. وَقَالَ: حَمَّاد عَالم بِحَدِيث حميد مقدم فِيهِ على غَيره، وَكَأَنَّهُ قَالَ: هَذَا تَصْرِيح حميد بِحَدِيث أنس لَهُ، وَلَكِن يُمكن أَن يكون حميد سمع هَذَا من مُوسَى عَن أَبِيه ثمَّ لَقِي أنسا فحدثه بِهِ، أَو سمع من أنس فثبته فِيهِ ابْنه مُوسَى، وَالله أعلم.

63 - (بابُ فَضْلِ الصَّوْمِ فِي سَبِيلِ الله)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الصَّوْم فِي سَبِيل الله، أَي: الْجِهَاد، وَقَالَ القررطبي: سَبِيل الله: طَاعَة الله، وَالْمرَاد بِهِ: الصَّوْم مبتغياً وَجه الله.

(14/133)


0482 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْر قَالَ حدَّثنا عبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أخبرَنِي يَحْيى بنُ سَعِيدٍ وسُهَيْلُ بنُ أبي صَالِحٍ أنَّهُما سَمِعَا النُّعْمَانَ بنَ أبِي عَيَّاشٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ مَنْ صَامَ يَوْمَاً فِي سَبيلِ الله بَعَّدَ الله وَجْهَهُ عنِ النَّارِ سَبْعينَ خَرِيفاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْحَاق بن نصر هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ النجاري، وَكَانَ ينزل بِالْمَدِينَةِ بِبَاب بني سعد، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع من كِتَابه، مرّة يَقُول: إِسْحَاق بن نصر، فينسبه إِلَى جده، وَمرَّة يَقُول: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر، فينسبه إِلَى أَبِيه، وَعبد الرَّزَّاق بن همام، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَسُهيْل بن أبي صَالح لم يخرج لَهُ البُخَارِيّ مَوْصُولا إلاَّ هَذَا، وَلم يحْتَج بِهِ، وَلِهَذَا قرنه بِيَحْيَى بن سعيد، وَقد اخْتلف فِي إِسْنَاده على سُهَيْل، فَرَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ عَنهُ هَكَذَا، وَخَالفهُم شُعْبَة فَرَوَاهُ: عَنهُ عَن صَفْوَان بن يزِيد عَن أبي سعيد. أخرجه النَّسَائِيّ والنعمان بن أبي عَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: واسْمه زيد بن الصَّلْت، وَقيل: زيد بن النُّعْمَان الزرقي الْأنْصَارِيّ، وَعَن يحيى: ثِقَة. وَقَالَ ابْن حبَان، كَذَلِك، وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ اسْمه سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعبد الرَّحْمَن بن بشير وَعَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن رمح. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجِهَاد عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَعَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّوْم عَن مُؤَمل بن شهَاب وَعَن الْحسن بن قزعة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن عبد الله بن مُنِير وَعَن أَحْمد بن حَرْب وَعبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن رمح.
قَوْله: (بعد الله وَجهه) ، وَأول النَّوَوِيّ وَغَيره المباعدة من النَّار على المعافاة مِنْهَا، دون أَن يكون المُرَاد الْبعد بِهَذِهِ الْمسَافَة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث. قلت: لَا مَانع من الْحَقِيقَة على مَا لَا يخفى، ثمَّ هَذَا يَقْتَضِي إبعاد النَّار عَن وَجه الصَّائِم، وَفِي أَكثر الطّرق إبعاد الصَّائِم نَفسه، فَإِذا كَانَ المُرَاد من الْوَجْه الذَّات، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كل شَيْء هَالك إلاَّ وَجهه} (الْقَصَص: 88) . يكون مَعْنَاهُمَا وَاحِدًا، وَإِن كَانَ المُرَاد حَقِيقَة الْوَجْه يكون الإبعاد من الْوَجْه فَقَط، وَلَيْسَ فِيهِ أَن يبْقى الْجَسَد أَن يَنَالهُ النَّار، إلأ أَن الْوَجْه كَانَ أبعد من النَّار من سَائِر جسده، وَذَلِكَ لِأَن الصّيام يحصل مِنْهُ الظمإ وَمحله الْفَم، لِأَن الرّيّ يحصل بالشرب فِي الْفَم. قَوْله: (سبعين خَرِيفًا) أَي: سنة، لِأَن السّنة تَسْتَلْزِم الخريف فَهُوَ من بَاب الْكِنَايَة.
وَاخْتلفت الرِّوَايَات فِي مِقْدَار المباعدة من النَّار، فَفِي حَدِيث عقبَة بن عَامر عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخرجه النَّسَائِيّ: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله باعد الله مِنْهُ جَهَنَّم مائَة عَام) . وَفِي حَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) كَذَلِك مائَة عَام، وَكَذَا فِي حَدِيث عبد الله بن سُفْيَان أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا. وَفِي حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخرجه ابْن عدي فِي (الْكَامِل) : (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله تَبَاعَدت عَنهُ جَهَنَّم مسيرَة خَمْسمِائَة عَام) . وَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة، أخرجه التِّرْمِذِيّ وَتفرد بِهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله جعل الله بَينه وَبَين النَّار خَنْدَقًا كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الصَّغِير) عَن أبي الدَّرْدَاء، وَكَذَا رَوَاهُ عَن جَابر، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: أبعده الله من النَّار مسيرَة مائَة سنة حضر الْجواد. وَفِي حَدِيث عتبَة بن النّذر أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله فَرِيضَة باعد الله مِنْهُ جَهَنَّم كَمَا بَين السَّمَوَات وَالْأَرضين السَّبع، وَمن صَامَ يَوْمًا تَطَوّعا باعد الله مِنْهُ جَهَنَّم مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) وَفِي حَدِيث سَلامَة بن قَيْصر، أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْكَبِير) قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاء وَجه الله بعده الله من جَهَنَّم بعد غراب طَار، وَهُوَ فرخ حَتَّى مَاتَ هرماً. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله زحزحه الله عَن النَّار سبعين خَرِيفًا، وَالْآخر يَقُول: أَرْبَعِينَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب. وَفِي حَدِيث سهل بن معَاذ عَن أَبِيه، أخرجه أَبُو يعلى الْموصِلِي: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله مُتَطَوعا فِي غير رَمَضَان بعد من النَّار مائَة عَام سير الْمُضمر الْمجِيد. وَفِي حَدِيث ابْن عَسَاكِر عَن ابْن عمر:

(14/134)


(من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله مُتَطَوعا فَهُوَ بسبعمائة يَوْم) .
فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَين هَذِه الرِّوَايَات؟ قلت: الأَصْل أَن يرجح مَا طَرِيقَته صَحِيحَة، وأصحها رِوَايَة: سبعين خَرِيفًا، فَإِنَّهَا مُتَّفق عَلَيْهَا من حَدِيث أبي سعيد. وَجَوَاب آخر: أَن الله أعلم نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَولا بِأَقَلّ المسافاة فِي الأبعاد، ثمَّ أعلمهُ بعد ذَلِك بِالزِّيَادَةِ على التدريج فِي مَرَاتِب الزِّيَادَة، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك بِحَسب اخْتِلَاف أَحْوَال الصائمين فِي كَمَال الصَّوْم ونقصانه، وَالله أعلم.

73 - (بابُ فَضْلِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيل الله)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله، المُرَاد من سَبِيل الله: الْجِهَاد، وَلَكِن اللَّفْظ أَعم من هَذَا يتَنَاوَل الْجِهَاد وَغَيره.

1482 - حدَّثني سَعْدُ بنُ حَفُصٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ يَحْياى عنْ أبِي سلَمَةَ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَنْ أنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ الله دَعَاهُ خَزَنَةُ الجَنَّةِ كلُّ خَزَنَةِ بابٍ أيْ فُلْ هَلُمَّ قَالَ أبُو بَكْرٍ يَا رسولَ الله ذااك الَّذي لَا تَوَى عَلَيْهِ فَقالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنِّي لأرْجُو أنْ تَكُونَ مِنْهُمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسعد بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الطلحي الْكُوفِي، يُقَال لَهُ: الضخم وَهُوَ من أَفْرَاده، وشيبان، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالباء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن كثير، وَأَبُو سَلمَة هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن آدم. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن مُحَمَّد ابْن رَافع وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم.
قَوْله: (من أنْفق زَوْجَيْنِ) ، أَي: شَيْئَيْنِ من أَي نوع كَانَ، مِمَّا ينْفق. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَالزَّوْج خلاف الْفَرد، وكل وَاحِد مِنْهُمَا يُسمى أَيْضا زوجا. قلت: يَنْبَغِي أَن يُطلق هُنَا على الْوَاحِد قطعا. وَقَالَ الْخطابِيّ: يُرِيد بالزوجين أَن يشفع إِلَى كل شَيْء مَا يشفعه من شَيْء مثله، إِن كَانَ دَرَاهِم فبدرهمين، وَإِن كَانَ دَنَانِير فبدينارين، وَإِن كَانَ سِلَاحا وَغَيره كَذَلِك. وَقَالَ الدَّاودِيّ: يَقع الزَّوْج على الْوَاحِد والإثنين، وَهنا على الْوَاحِد. وَاحْتج بقوله: خلق الزَّوْجَيْنِ، وَاعْتَرضهُ ابْن التِّين، فَقَالَ: لَيْسَ قَوْله ببيِّن. قلت: هَذَا بيّن فَلَا وَجه لاعتراضه. قَوْله: (خَزَنَة الْجنَّة) ، الخزنة جمع: خَازِن، وَهُوَ الَّذِي يخزن تَحت يَده الْأَشْيَاء. قَوْله: (كل خَزَنَة بَاب) ، قَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ من المقلوب. قلت: لَا حَاجَة إِلَى قَوْله: كَأَنَّهُ، بل هُوَ من المقلوب، إِذْ أَصله: خَزَنَة كل بَاب. قَوْله: (أَي فل) كلمة: أَي، حرف نِدَاء. وَقَوله: (فل) ، رُوِيَ بِضَم اللَّام وَفتحهَا، وَأَصله: فلَان، فَحذف مِنْهُ الْألف وَالنُّون بِغَيْر ترخيم، وَلَفظ: فلَان، كِنَايَة عَن اسْم سمي بِهِ الْمُحدث عَنهُ. وَيُقَال فِي النداء: يَا فل، وَإِنَّمَا قُلْنَا: بِغَيْر ترخيم، إِذْ لَو كَانَ ترخيماً لقيل: يَا فَلَا. قَوْله: (هَلُمَّ) ، مَعْنَاهُ: تعال، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد وَالْجمع فِي اللُّغَة الحجازية، وَأهل نجد يَقُولُونَ: هَل هلما هلموا. قَوْله: (لَا توى عَلَيْهِ) أَي: لَا ضيَاع عَلَيْهِ. وَقيل: لَا هَلَاك، من قَوْلك: توى المَال يتوي تِوًى. وَقَالَ ابْن فَارس: التوى يمد وَيقصر، وَأَكْثَرهم على أَنه مَقْصُور. وَقَالَ الْمُهلب فِي هَذَا الحَدِيث: إِن الْجِهَاد أفضل الْأَعْمَال، لِأَن الْمُجَاهِد يُعْطَى أجر الْمُصَلِّي والصائم والمتصدق، وَإِن لم يفعل ذَلِك، وَلِأَن بَاب الريان للصائمين، وَقد ذكر فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْمُجَاهِد يدعى من تِلْكَ الْأَبْوَاب كلهَا بإنفاق قَلِيل من المَال فِي سَبِيل الله. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره إِنَّمَا يتمشى على القَوْل بِأَن المُرَاد بقوله: فِي سَبِيل الله: الْجِهَاد، وَالْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد بِهِ مَا هُوَ أَعم من الْجِهَاد وَغَيره من الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَيُؤَيّد هَذَا مَا جَاءَ فِي الحَدِيث من زِيَادَة أخرجهَا أَحْمد، وَهِي قَوْله، فِيهِ: لكل أهل عمل بَاب يدعونَ بذلك الْعَمَل، وَالله أعلم.

2482 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدَّثنا فُلَيْحٌ قَالَ حدَّثنا هِلاَلٌ عنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قامَ عَلى المِنْبَرِ فَقال إنَّمَا أخْشاى علَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكاتِ الأرْضِ ثُمَّ ذَكَرَ زَهْرَةَ الدُّنْيَا فبَدَأ بإحْدَاهُمَا وثَنَّى بالأُخْراى فَقام

(14/135)


رَجُلٌ فَقالَ يَا رسولَ الله أوَ يَأتِي الخَيْرُ بالشَّرِّ فسَكَتَ عَنْهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنا يُوحاى إلَيْهِ وسَكَتَ النَّاسُ كأنَّ علَى رُؤوسِهِمِ الطَّيْرَ ثُمَّ إنَّهَ مَسَحَ عنْ وَجْهِهِ الرُحَضَاءَ فَقال أيْنَ السَّائِلُ آنِفَاً أوَ خَيْرٌ هُوَ ثَلاثَاً إِن الْخَيْر لَا يَأْتِي إلاَّ بالْخَيْرِ وإنَّهُ كلَّمَا يُنْبِتُ الرَّبِيعَ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً أوْ يُلِمُّ إلاَّ آكِلَةَ الخُضَرِ كلَّمَا أكلَتْ حتَّى إذاا امْتَلأتْ خاصِرَتاها اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسُ فثَلَطَتْ وبالَتْ ثُمَّ رَتعَتْ وإنَّ هذَا المالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ونِعْمَ صاحِبُ الْمُسْلِمِ لِمَنْ أخَذَهُ بِحَقِّهِ يَجعَلَهُ فِي سَبِيلِ الله واليَتَامى والمَساكِينِ وابنِ السَّبِيلِ ومَنْ لَمْ يأخُذْهُ بِحَقِّهِ فَهْوَ كالآكِلِ الَّذِي لَا يَشْبَعُ ويَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيداً يَوْمَ القيَامَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَجعله فِي سَبِيل الله) ، وَمُحَمّد بن سِنَان بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون: أَبُو بكر الْعَوْفِيّ الْبَاهِلِيّ الْأَعْمَى، وَهُوَ من أَفْرَاده. وفليح بن سُلَيْمَان، وهلال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال: هِلَال بن أبي هِلَال، وَهُوَ هِلَال بن عَليّ الفِهري الْمَدِينِيّ والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي بَاب الصَّدَقَة على الْيَتَامَى وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ فلنذكر بعض شَيْء لبعد الْمسَافَة.
قَوْله: (فَبَدَأَ بِإِحْدَاهُمَا) أَي: بالبركات. قَوْله: (وثنى بِالْأُخْرَى) أَي: بزهرة الدُّنْيَا. قَوْله: (أوَ يَأْتِي الْخَيْر بِالشَّرِّ؟) أَي: تصير النِّعْمَة عُقُوبَة. قَوْله: (كَأَن على رؤوسهم الطير) قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي: أَن كل وَاحِد صَار كمن على رَأسه طَائِر يُرِيد صَيْده فَلَا يَتَحَرَّك كَيْلا يطير. قَوْله: (الرحضاء) ، بِضَم الرَّاء وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وبالمد: الْعرَاق الَّذِي أدره عِنْد نزُول الْوَحْي عَلَيْهِ، يُقَال: رحض الرجل إِذا أضابه ذَلِك فَهُوَ مرحوض ورحيض. قَوْله: (أوَ خيرٌ هُوَ؟) أَي: المَال هُوَ خير؟ على سَبِيل الْإِنْكَار. قَوْله: (إِن الْخَيْر لَا يَأْتِي إلاَّ بِالْخَيرِ) أَي: الْخَيْر الْحَقِيقِيّ لَا يَأْتِي إلاَّ بِالْخَيرِ، لَكِن هَذَا لَيْسَ خيرا حَقِيقِيًّا لما فِيهِ من الْفِتْنَة والإشغال عَن كَمَال الإقبال إِلَى آخِره. قَوْله: ينْبت، بِضَم الْيَاء، من: الإنبات. قَوْله: (حَبطًا) وَقعت هَذِه اللَّفْظَة فِي الْأُصُول، وَذكر ابْن التِّين أَنه مَحْذُوف، وَهُوَ بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة والطاء الْمُهْملَة، وَهُوَ انتفاخ الْبَطن من دَاء يُصِيب الْآكِل من أكله، وانتصابه على التَّمْيِيز. وَقَالَ ابْن قرقول: حبطت الدَّابَّة إِذا أكلت المرعى حَتَّى ينتفخ جوفها فتموت. قَوْله: (أويلم) ، بِضَم الْيَاء، من: الْإِلْمَام أَي: يقرب أَن يقتل: قَوْله: (إِلَّا آكِلَة الْخضر) ، أَي: إلاَّ الدَّابَّة الَّتِي تَأْكُل الْخضر فَقَط. قَوْله: (فثلطت) ، أَي: النَّاقة إِذا أَلْقَت بعرها رَقِيقا. قَوْله: (خضرَة) تأنيثه إِمَّا بِاعْتِبَار أَنْوَاعه، أَو التَّاء للْمُبَالَغَة: كالعلامة، أَو مَعْنَاهُ: أَن كَانَ المَال كالبقلة الخضرة. قَوْله: (وَنعم صَاحب الْمُسلم) الْمَخْصُوص بالمدح المَال. قَوْله: (وَيكون عَلَيْهِ شَهِيدا) ، وَذَلِكَ بِأَن يَأْتِيهِ فِي صُورَة من يشْهد عَلَيْهِ بالخيانة، كَمَا يَأْتِي على صُورَة شُجَاع أَقرع.

83 - (بابُ فَضْلِ منْ جَهَّزَ غازِياً أوْ خَلَفَهُ بِخَيْرٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من جهز غازياً بِأَن هيأ لَهُ أَسبَاب سَفَره. قَوْله: (أَو خَلفه) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف اللَّام، يُقَال: خلف فلَان فلَانا إِذا كَانَ خَلِيفَته. وَيُقَال: خَلفه فِي قومه خلَافَة.

3482 - حدَّثنا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عبدُ الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا الحُسَيْنُ قَالَ حدَّثني يَحْيَى قَالَ حدَّثني أَبُو سلَمَةَ قَالَ حدَّثني بُسْرُ بنُ سعيدٍ قَالَ حدَّثني زَيْدُ بنُ خالِدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ جَهَّزَ غازِياً فِي سَبيلِ الله فَقَدْ غَزَا ومَنْ خَلَفَ غَازِياً فِي سَبِيلِ الله بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. فَقَوله: (من جهز غازياً) ، يُطَابق الْجُزْء الأول للتَّرْجَمَة. وَقَوله: (وَمن خلف غازياً) ، يُطَابق الْجُزْء الثَّانِي لَهَا، وَأَبُو معمر عبد الله بن عَمْرو المقعد، وَقد مر عَن قريب، وَعبد الْوَارِث بن سعيد، وَقد مر مَعَه، وَالْحُسَيْن هُوَ ابْن ذكْوَان الْمعلم، وَهَؤُلَاء كلهم بصريون، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير اليمامي الطَّائِي، وَأَبُو سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَبسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: ابْن سعيد مولى الخضرمي من أهل الْمَدِينَة، مَاتَ سنة مائَة، وَزيد بن خَالِد أَبُو عبد الرَّحْمَن الْجُهَنِيّ.
وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين على الْوَلَاء، وهم: يحيى وَأَبُو سَلمَة وبسرة وَأَبُو سَلمَة روى هُنَا عَن زيد بن خَالِد بِوَاسِطَة، وروى

(14/136)


عَنهُ بِلَا وَاسِطَة أَيْضا عِنْد أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد أَيْضا عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي، وَعَن سعيد ابْن مَنْصُور وَأبي الطَّاهِر بن السَّرْح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي معمر بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أبي زَكَرِيَّاء بن درست. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
وَرُوِيَ فِي الْبَاب عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أخرجه ابْن مَاجَه من رِوَايَة الْوَلِيد عَن عُثْمَان بن عبد الله بن سراقَة عَن عمر بن الْخطاب، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (من جهز غازياً حَتَّى يسْتَقلّ كَانَ لَهُ مثل أجره حَتَّى يَمُوت أَو يرجع) . وَعَن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة رجل لم يسم عَن معَاذ بن جبل، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من جهز غازياً أَو خَلفه فِي أَهله بِخَير فَإِنَّهُ مَعنا) . وَعَن أبي هُرَيْرَة أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة دَاوُد بن الْجراح عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن كثير عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من جهز غازياً فِي سَبِيل الله فَلهُ مثل أجره، وَمن خَلفه فِي أَهله بِخَير فقد غزا) . وَدَاوُد مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ. وَعَن زيد بن ثَابت، أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث بسر بن سعيد عَن زيد بن ثَابت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من جهز غازياً فِي سَبِيل الله فَلهُ مثل أجره، وَمن خلف غازياً فِي أَهله بِخَير أَو أنْفق على أَهله فَلهُ مثل أجره. وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا فِيهِ من حَدِيث سعيد المَقْبُري عَن أَبِيه عَن أبي سعيد قَالَ، عَام بني لحيان: (ليخرج من كل إثنين مِنْكُم رجل، وليخلف الْغَازِي فِي أَهله وَمَاله وَله مثل نصف أجره) . وَفِيه ابْن لَهِيعَة وَتفرد بِهِ. وَعَن سهل بن حنيف: أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن عبد الله بن سهل بن حنيف عَن أَبِيه: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أعَان مُجَاهدًا فِي سَبِيل الله، أَو غازياً فِي عسرته، أَو مكَاتبا فِي رقبته، أظلهُ الله فِي ظله يَوْم لَا ظلّ إلاَّ ظله) . وَعَن جبلة بن حَارِثَة أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) من رِوَايَة شريك عَن أبي إِسْحَاق عَن جبلة بن حَارِثَة، قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، (إِذا لم يغز أعْطى سلاحه عليا أَو أُسَامَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا؟ وَعَن أبي أُمَامَة أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه من رِوَايَة الْحَارِث عَن الْقَاسِم أبي عبد الرَّحْمَن عَن أبي أُمَامَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يغز أَو يُجهز غازياً فِي أَهله بِخَير أَصَابَهُ الله بقارعة) ، زَاد فِي رِوَايَة: (قبل يَوْم الْقِيَامَة) . وَعَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من رِوَايَة مَكْحُول عَن وَاثِلَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من أهل بَيت لَا يَغْزُو مِنْهُم غازياً أَو يُجهز غازياً بسلك أَو بإبرة أَو مَا يعدلها من الْوَرق أَو يخلفه فِي أَهله بِخَير إلاَّ أَصَابَهُم الله بقارعة قبل يَوْم الْقِيَامَة، وَإِسْنَاده ضَعِيف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من جهز) ، بتَشْديد الْهَاء: من التَّجْهِيز، وَقد ذكرنَا أَن مَعْنَاهُ: من هيأ أَسبَاب سَفَره من شَيْء قَلِيل أَو كثير، أَلا يُرى فِي حَدِيث وَاثِلَة الْمَذْكُور آنِفا قَالَ: بسلك أَو بإبرة؟ فَإِن قلت: ذكر فِي حَدِيث ابْن مَاجَه الْمَذْكُور: (حَتَّى يسْتَقلّ) ، والاستقلال لَا يكون إلاَّ بِتمَام التَّجْهِيز. قلت: حَدِيث وَاثِلَة ضَعِيف، كَمَا ذكرنَا، وَلَئِن سلمنَا صِحَّته فَإِنَّهُ وَعِيد فِي ترك التَّجْهِيز أصلا، وَلَا يُعَارض غَيره. قَوْله: (فقد غزا) ، قَالَ ابْن حبَان: مَعْنَاهُ أَنه مثله فِي الْأجر، وَإِن لم يغز حَقِيقَة. ثمَّ أخرجه من وَجه آخر عَن بسر بن سعيد بِلَفْظ: (كتب لَهُ مثل أجره غير أَنه لَا ينقص من أجره شَيْء) . وَقَالَ الطَّبَرِيّ فِيهِ: إِن من أعَان مُؤمنا على عمل بر فللمعين عَلَيْهِ مثل أجر الْعَامِل، وَمثله المعونة على معاصي الله، عز وَجل، للمعين عَلَيْهَا من الْوزر وَالْإِثْم مثل مَا على عاملها،، وَلذَلِك نهى عَن بيع السيوف فِي الْفِتْنَة، وَلعن عاصر الْخمر. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ذهب بعض الْأَئِمَّة إِلَى أَن الْمثل الْمَذْكُور فِي الحَدِيث وَشبهه إِنَّمَا هُوَ بِغَيْر تَضْعِيف، قَالَ: لِأَنَّهُ يجْتَمع فِي تِلْكَ الْأَشْيَاء أَفعَال أخر وأعمال من الْبر كَثِيرَة لَا يَفْعَلهَا الدَّال الَّذِي لَيْسَ عِنْده إلاَّ مُجَرّد النِّيَّة الْحَسَنَة. وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيّكُم خلف الْخَارِج فِي أَهله وَمَاله بِخَير فَلهُ مثل نصف أجر الْخَارِج) . وَقَالَ: (لينبعث من كل رجلَيْنِ أَحدهمَا وَالْأَجْر بَينهمَا) . قلت: هَذَا الحَدِيث أخرجه مُسلم من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا حجَّة فِي هَذَا الحَدِيث لوَجْهَيْنِ. أَحدهمَا: أَنا نقُول بِمُوجبِه، وَذَلِكَ أَنه لم يتَنَاوَل مَحل النزاع، فَإِن الْمَطْلُوب إِنَّمَا هُوَ أَن الناوي للخير المعوق عَنهُ، هَل لَهُ مثل أجر الْفَاعِل من غير تَضْعِيف؟ وَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا اقْتضى مُشَاركَة ومشاطرة فِي المضاعف فانفصلا. وَثَانِيهمَا: أَن الْقَائِم على مَال الْغَازِي

(14/137)


وعَلى أَهله نَائِب عَن الْغَازِي فِي عمل لَا يَتَأَتَّى للغازي غَزْوَة، إلاَّ بِأَن يَكْفِي ذَلِك الْعَمَل، فَصَارَ كَأَنَّهُ مبَاشر مَعَه الْغَزْو، فَلَيْسَ مُقْتَصرا على النِّيَّة فَقَط، بل هُوَ عَامل فِي الْغَزْو، وَلما كَانَ كَذَلِك كَانَ لَهُ مثل أجر الْغَازِي كَامِلا وافراً مضاعفاً، بِحَيْثُ إِذا أضيف وَنسب إِلَى أجر الْغَازِي كَانَ نصفا لَهُ، وَبِهَذَا يجْتَمع معنى قَوْله: (من خلف غازياً فِي أَهله بِخَير فقد غزا) ، وَبَين معنى قَوْله فِي اللَّفْظ الأول: (فَلهُ مثل نصف أجر الْغَازِي) ، وَيبقى للغازي النّصْف، فَإِن الْغَازِي لم يطْرَأ عَلَيْهِ مَا يُوجب تنقيصاً لثوابه وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا قَالَ: (من فطر صَائِما كَانَ لَهُ مثل أجر الصَّائِم لَا ينقصهُ من أجره شَيْء) ، وَالله أعلم. وعَلى هَذَا، فقد صَارَت كلمة: نصف، مقحمة هُنَا بَين: مثل، و: أجر، وَكَأَنَّهَا زِيَادَة مِمَّن يسامح فِي إِيرَاد اللَّفْظ بِدَلِيل. قَوْله: (وَالْأَجْر بَينهمَا) . وَيشْهد لَهُ مَا ذَكرْنَاهُ، وَأما من تحقق عَجزه وصدقت نِيَّته فَلَا يَنْبَغِي أَن يخْتَلف أَن أجره يُضَاعف، كَأَجر الْعَامِل الْمُبَاشر.

4482 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا هَمَّامُ عنْ إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ بَيْتَاً بالمَدِينَةِ غَيْرَ بَيْتِ امِّ سُلَيْمٍ إلاَّ علَى أزْوَاجِهِ فَقِيلَ لَهُ فَقَالَ إنِّي أرْحَمُها قُتلَ أخُوها مَعِي.
قيل: لَا مُطَابقَة لجزء التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (أَو خَلفه بِخَير) ، لِأَن ذَلِك أَعم من أَن يكون فِي حَيَاته أَو بعد مَوته، فَفِيهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَلفه فِي أَهله بِخَير بعد وَفَاة أخي أم سليم، وَذَلِكَ من حسن عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: لَا يَخْلُو عَن بعض التَّكَلُّف، وَلَكِن لَهُ وَجه أقرب من هَذَا. وَهُوَ: أَن تجهيز الْغَازِي وَنَظره فِي أَهله من غَايَة الْإِكْرَام للغازي، وَقد حث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك حَتَّى إِنَّه أكْرمه بعد مَوته حَيْثُ كَانَ يدْخل بَيت أم سليم لأجل قتل أَخِيهَا وَهُوَ غازٍ، فَكَأَنَّهُ يُنَبه بِهَذَا على أَن إكرام أهل الْغَازِي الْمَيِّت مَرْغُوب فِيهِ مَعَ الْأجر، فَإِذا كَانَ فِي إكرام أهل الْغَازِي الْمَيِّت هَكَذَا، فَفِي إكرام الْغَازِي الْحَيّ بطرِيق الأولى.
ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل، وَهَمَّام، بِالتَّشْدِيدِ: ابْن يحيى الشَّيْبَانِيّ، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن عبد الله بن أبي طَلْحَة.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن حسن الْحلْوانِي عَن عَمْرو بن عَاصِم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عَن إِسْحَاق بن عبد الله) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: عَن همام أخبرنَا إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة. وَعند الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق حسان بن هِلَال: عَن همام حَدثنَا إِسْحَاق. قَوْله: (لم يكن يدْخل بَيْتا بِالْمَدِينَةِ غير بَيت أم سليم) قَالَ الْحميدِي: لَعَلَّه أَرَادَ على الدَّوَام، وإلاَّ فقد تقدم أَنه كَانَ يدْخل على أم حرَام. وَقَالَ ابْن التِّين: يُرِيد أَنه كَانَ يكثر الدُّخُول على أم سليم، وإلاَّ فقد دخل على أُخْتهَا أم حرَام، وَلَعَلَّ أم سليم كَانَت شَقِيقَة الْمَقْتُول، أَو وجدت عَلَيْهِ أَكثر من أم حرَام، وَأم سليم هِيَ أم أنس، وَقد ذكرنَا أَن فِي اسْمهَا اخْتِلَافا، فَقيل: سهلة، وَقيل: رميلة، وَقيل: رميثة، وَقيل: مليكَة، وَيُقَال: الغميصاء، والرميصاء، وَأما أم حرَام، فقد قَالَ أَبُو عمر: لَا أَقف لَهَا على اسْم، صَحِيح. قَوْله: (إِنِّي أرحمها) إِلَى آخِره. قَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ صَار قتل الْأَخ سَببا للدخول على الأجنية. قلت: لم تكن أَجْنَبِيَّة، كَانَت خَالَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الرَّضَاع، وَقيل: من النّسَب، فالمحرمية كَانَت سَببا لجَوَاز الدُّخُول. وَقَالَ بَعضهم: الْعلَّة الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث أولى من غَيره، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا قَالَه الْكرْمَانِي قلت: لم يبين فِي وَجه الْأَوْلَوِيَّة مَا هُوَ. قَوْله: (قتل أَخُوهَا معي) ، أَخُوهَا هُوَ حرَام بن ملْحَان، قتل يَوْم بِئْر مَعُونَة، وَالْمرَاد بقوله معي، أَي: مَعَ عسكري، أَو معي نصْرَة للدّين، لِأَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن فِي غَزْوَة بِئْر مَعُونَة، وَسَتَأْتِي قصَّتهَا فِي كتاب الْمَغَازِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.