عمدة القاري شرح صحيح البخاري

22 - (بابٌ الجَنَّةُ تَحْتَ بَارِقَةِ السُّيُوفِ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: الْجنَّة تَحت بارقة السيوف، وَهَذَا من بَاب إِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف، يُقَال: برق السَّيْف بروقاً إِذا تلألأ. وَقد تطلق البارقة، وَيُرَاد بهَا نفس السيوف، وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة، نَحْو: شجر الْأَرَاك، وَقيل: كَأَن البُخَارِيّ أَرَادَ بالترجمة أَن السيوف لما كَانَت لَهَا بارقة شُعَاع كَانَ لَهَا أَيْضا ظلّ تحتهَا، وَترْجم: ببارقة، يُرِيد لمع السيوف من قَوْلهم: نَاقَة بروق إِذا لمعت بذنبها من غير لقاح، وَهُوَ مثل: الْجنَّة تَحت ظلال السيوف، وَقَالَ ابْن بطال: هُوَ من البريق، وَهُوَ مَعْرُوف. وَقَالَ الْخطابِيّ: يُقَال: أبرق الرجل بِسَيْفِهِ إِذا لمع بِهِ، وَسمي السَّيْف: إبريقاً، وَهُوَ إفعيل من البريق. وَأخرج الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عمار بن يَاسر بِإِسْنَاد صَحِيح أَنه قَالَ يَوْم صفّين: الْجنَّة تَحت الأبارقة. وَقَالَ بَعضهم: الصَّوَاب البارقة، وَهِي: السيوف اللامعة. قلت: قَالَ الْخطابِيّ: الأبارقة جمع إبريق، وَسمي السَّيْف إبريقاً كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَكَذَلِكَ فسر ابْن الْأَثِير كَلَام عمار: الْجنَّة تَحت الأبارقة، أَي: تَحت السيوف، فَلَا وَجه حِينَئِذٍ لدعوى الصَّوَاب.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ قَالَ أخبرنَا نَبِيُّنَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا قَالَ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صارَ إِلَى الجَنَّةِ

وَجه دُخُوله تَحت التَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن كَون الْمَقْتُول مِنْهُم إِلَى الْجنَّة دَاخل بارقة السيوف، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله فِي الْجِزْيَة بِتَمَامِهِ. قَوْله: (عَن رِسَالَة رَبنَا) ، ثَبت فِي رِوَايَة الْكشميهني وَحده.
وَقَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألَيْسَ قَتْلانَا فِي الجَنَّةِ وقَتْلاهُمْ فِي النَّارِ قَالَ بَلَى

وَجه هَذَا مثل وَجه الْمُعَلق السَّابِق، وَوَصله البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي من حَدِيث سهل بن حنيف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

8182 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا مُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍ وحدَّثنا أبُو إسْحَاقَ عنْ مُوساى ابنِ عُقْبَةَ عنْ سالِمٍ أبي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ الله وكانَ كاتِبَهُ قَالَ كَتبَ إلَيْهِ عبدُ الله بنُ أبِي أوْفَى رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن السيوف لما كَانَت لَهَا بارقة شُعَاع كَانَ لَهَا أَيْضا ظلّ تحتهَا، وَعبد الله بن مُحَمَّد أَبُو جَعْفَر البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَمُعَاوِيَة بن عَمْرو بن الْمُهلب الْأَزْدِيّ الْبَغْدَادِيّ، وَأَصله كُوفِي، وروى عَنهُ البُخَارِيّ فِي الْجُمُعَة بِلَا وَاسِطَة. وَأَبُو إِسْحَاق، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ السبيعِي، وَهَذَا سَهْو، وَلَيْسَ إلاَّ أَبَا إِسْحَاق الْفَزارِيّ، واسْمه: إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، سكن المصيصة من الشَّام، مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ عَن عبد الله بن مُحَمَّد فِي الْجِهَاد فِي موضِعين. وَأخرجه فِي الْجِهَاد أَيْضا عَن يُوسُف بن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن أبي صَالح مَحْبُوب ابْن مُوسَى.
قَوْله: (وَكَانَ كَاتبه) أَي: كَانَ سَالم كَاتب عبد الله بن أبي أوفى، وَقد سَهَا الْكرْمَانِي سَهوا فَاحِشا حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ سَالم كَاتب عمر بن عبيد الله، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الصَّوَاب مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (كتب إِلَيْهِ) أَي: إِلَى عمر بن عبيد الله بن معمر التَّيْمِيّ، وَكَانَ أَمِيرا على حَرْب الْخَوَارِج. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا الحَدِيث لَيْسَ من الْكِتَابَة فِي شَيْء لِأَنَّهُ لم يكْتب لسالم، إِنَّمَا

(14/114)


كَانَت الْكِتَابَة لعمر بن عبيد الله، فَأخْبر بالواقع فَصَارَ وجادة فِيهَا شوب من الِاتِّصَال. قَوْله: (إِن الْجنَّة تَحت ظلال السيوف) أَي: إِن ثَوَاب الله وَالسَّبَب الْموصل إِلَى الْجنَّة عِنْد الضَّرْب بِالسُّيُوفِ فِي سَبِيل الله، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: المُرَاد أَن دُخُول الْجنَّة يكون بِالْجِهَادِ، والظلال جمع: ظلّ، فَإِذا دنى الشَّخْص من الشَّخْص صَار تَحت ظلّ سَيْفه، وَإِذا تدانى الخصمان صَار كل وَاحِد مِنْهُمَا تَحت ظلّ سيف الآخر، فالجنة تُنال بِهَذَا.
تَابَعَهُ الأُوَيْسِيُّ عنِ ابنِ أبِي الزِّنَادِ عنْ مُوساى بنِ عُقْبَةَ

يَعْنِي: الأويسي عبد الْعَزِيز بن عبد الله العامري تَابع مُعَاوِيَة بن عَمْرو الَّذِي رَوَاهُ عَن أبي إِسْحَاق عَن مُوسَى بن عقبَة، وَهَذِه الْمُتَابَعَة رَوَاهَا البُخَارِيّ فِي خَارج (الصَّحِيح) عَن الأويسي، وَرَوَاهُ عَنهُ ابْن أبي عَاصِم فِي كتاب الْجِهَاد. قلت: نسبته إِلَى أويس، بِضَم الْهمزَة وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر السِّين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى أويس بن سعد، أحد أجداد عبد الْعَزِيز الْمَذْكُور.

32 - (بابُ مَنْ طَلَبَ الوَلَدَ لِلْجِهَادِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من نوى عِنْد المجامعة مَعَ أَهله حُصُول الْوَلَد ليجاهد فِي سَبِيل الله فَيحصل لَهُ بذلك أجر لأجل نِيَّته وَإِن لم يحصل لَهُ ولد.

9182 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ هُرْمُزَ قَالَ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنْ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ داوُدَ علَيْهِمَا السَّلاَمُ لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ علَى مِائَةِ امْرَأةٍ أوْ تِسْعٍ وتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ يأتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله فَقَالَ لَهُ صاحِبُهُ قُلْ إنْ شَاءَ الله فَلَمْ يَقُلْ إنْ شاءَ الله فلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلاَّ امْرَأةٌ واحِدَةٌ جاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إنْ شاءَ الله لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله فرْسَاناً أجْمَعُونَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، كَذَا أخرجه البُخَارِيّ مُعَلّقا. وَأخرجه فِي سِتَّة مَوَاضِع مُسندَة: مِنْهَا فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج من طَرِيق اللَّيْث رَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث يحيى بن بكير عَن اللَّيْث، وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم من حَدِيثه.
قَوْله: (لأطوفن اللَّيْلَة) وَوَقع فِي رِوَايَة: لأطيفن. وَقَالَ الْمبرد: كِلَاهُمَا صَحِيح، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الدوران حول الشَّيْء، وَهُوَ هَهُنَا كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَاللَّام فِيهِ للقسم، لِأَن هَذِه اللَّام هِيَ الَّتِي تدخل على جَوَاب الْقسم، وَكَثِيرًا مَا تحذف مَعهَا الْعَرَب الْمقسم بِهِ اكْتِفَاء بدلالتها على الْمقسم بِهِ، لَكِنَّهَا لَا تدل على مقسم بِهِ معِين. قَوْله: (أَو تسع وَتِسْعين) ، شكّ من الرَّاوِي وَفِي لفظ: سِتِّينَ امْرَأَة، وَفِي رِوَايَة (سبعين) ، وَفِي رِوَايَة: (مائَة) ، من غير شكّ وَفِي أُخْرَى: (تِسْعَة وَتِسْعين) ، من غير شكّ وَلَا مُنَافَاة بَين هَذِه الرِّوَايَات لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِك الْقَلِيل نفي الْكثير، وَهُوَ من مَفْهُوم الْعدَد، وَلَا يعْمل بِهِ جُمْهُور أهل الْأُصُول. قَوْله: (بِفَارِس) ، وَفِي رِوَايَة: بِغُلَام. قَوْله: (يُجَاهد) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة فَارس. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ صَاحبه) ، قيل: يُرِيد بِهِ وزيره من الْإِنْس وَالْجِنّ. وَقيل: الْملك، كَمَا ذكره فِي النِّكَاح، وَفِي مُسلم فَقَالَ لَهُ صَاحبه أَو الْملك، وَهُوَ شكّ من أحد رُوَاته، وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَقَالَ لَهُ صَاحبه، بِالْجَزْمِ من غير تردد، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فَإِن كَانَ صَاحبه فيعني بِهِ وزيره من الْإِنْس أَو من الْجِنّ، وَإِن كَانَ الْملك فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ بِالْوَحْي، قَالَ: وَقد أبعد من قَالَ هُوَ خاطره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل: المُرَاد بِصَاحِبِهِ هُوَ الْملك، وَهُوَ الظَّاهِر من لَفظه وَقيل: القرين. وَقيل: صَاحب لَهُ آدَمِيّ. قلت: الصَّوَاب أَنه هُوَ الْملك كَمَا ذكره فِي النِّكَاح كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَلم يقل: إِن شَاءَ الله) ، فَلم يقل سُلَيْمَان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن شَاءَ الله بِلِسَانِهِ، لَا أَنه غفل عَن التَّفْوِيض إِلَى الله تَعَالَى بِقَلْبِه، فَإِنَّهُ لَا يَلِيق بِمنْصب النُّبُوَّة، وَإِنَّمَا هَذَا كَمَا اتّفق لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سُئِلَ عَن الرّوح وَالْخضر وَذي القرنين، فَوَعَدَهُمْ أَن يَأْتِي بِالْجَوَابِ غَدا جَازِمًا بِمَا عِنْده من معرفَة الله تَعَالَى وَصدق وعده فِي تَصْدِيقه وَإِظْهَار كَلمته، لكنه ذهل عَن النُّطْق بهَا، لَا عَن التَّفْوِيض بِقَلْبِه

(14/115)


فاتفق أَن يتَأَخَّر الْوَحْي عَنهُ، وَرمي بِمَا رمي بِهِ لأجل ذَلِك، ثمَّ علمه الله بقوله تَعَالَى: {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا، إلاَّ أَن يَشَاء الله} (الْكَهْف: 32) . فَكَانَ بعد ذَلِك يسْتَعْمل هَذِه الْكَلِمَة حَتَّى فِي الْوَاجِب. قَوْله: (فَلم تحمل مِنْهُم) ، أَي: من مائَة امْرَأَة. قَوْله: (إلاَّ امْرَأَة وَاحِدَة جَاءَت بشق رجل) وَفِي رِوَايَة: بشق غُلَام، فِي أُخْرَى: نصف إِنْسَان، وَفِي أُخْرَى: فَلم تحمل شَيْئا إلاَّ وَاحِدًا سقط أحدى شقيه. قَوْله: (فُرْسَانًا) حَال، وَهُوَ جمع فَارس. قَوْله: (أَجْمَعُونَ) ، بِالرَّفْع لتأكيد ضمير الْجمع الَّذِي فِي قَوْله: لَجَاهَدُوا، وَيجوز أَجْمَعِينَ بِالنّصب تَأْكِيدًا لقَوْله: فُرْسَانًا، إِن صحت الرِّوَايَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الحض على طلب الْوَلَد لنِيَّة الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، وَقد يكون الْوَلَد بِخِلَاف مَا أمله فِيهِ، وَلَكِن لَهُ الْأجر فِي نِيَّته وَعَمله. وَفِيه: أَن من قَالَ: إِن شَاءَ الله، وتبرأ من مَشِيئَته وَلم يُعْط الْحَظ لنَفسِهِ فِي أَعماله، فَهُوَ حري أَن يبلغ أمله، وَيُعْطى أمْنِيته، وَلَيْسَ كل من قَالَ قولا وَلم يسْتَثْن فِيهِ الْمَشِيئَة بِوَاجِب أَن لَا يبلغ أمله، بل مِنْهُم من شَاءَ الله بإتمام أمله، وَمِنْهُم من يَشَاء أَن لَا يتمه، بِمَا سبق فِي علمه، لَكِن هَذِه الَّتِي أخبر عَنْهَا سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا مِمَّا لَو اسْتثْنى لتم أمله، فَدلَّ هَذَا على أَن الأقدار فِي علم الله، عز وَجل، على ضروب، فقد يقدر للْإنْسَان الرزق وَالْولد والمنزلة إِن فعل كَذَا، أَو قَالَ أَو دَعَا، فَإِن لم يفعل وَلَا قَالَ لم يقدر ذَلِك الشَّيْء. وأصل هَذَا فِي قصَّة يُونُس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فلولا أَنه كَانَ من المسبحين للبث فِي بَطْنه، فَبَان بِهَذَا أَن تسبيحه كَانَ سَبَب خُرُوجه من بطن الْحُوت، وَلَو لم يسبح مَا خرج مِنْهُ. وَفِيه: أَن الِاسْتِثْنَاء ليمضي فِيهِ الْقدر السَّابِق كَمَا سبق وَفِيه أَن الِاسْتِثْنَاء يكون بأثر القَوْل، وَإِن كَانَ فِيهِ سكُوت يسير لم يَنْقَطِع بِهِ دونه فصَال الحائلة بَينه وَبَين الِاسْتِثْنَاء وَالْيَمِين. وَفِيه: مَا كَانَ الله تَعَالَى خص بِهِ الْأَنْبِيَاء من صِحَة البنية وَكَمَال الرجولية مَعَ مَا كَانُوا فِيهِ من المجاهدات فِي الْعِبَادَة، وَالْعَادَة فِي مثل هَذَا لغَيرهم الضعْف عَن الْجِمَاع، لَكِن خرق الله تَعَالَى لَهُم الْعَادة فِي أبدانهم، كَمَا خرقها لَهُم فِي معجزاتهم وأحوالهم، فَحصل لِسُلَيْمَان،

(14/116)


عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الإطاقة أَن يطَأ فِي لَيْلَة مائَة امْرَأَة ينزل فِي كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ مَاء، وَلَيْسَ فِي الْأَخْبَار مَا يحفظ فِيهِ صَرِيحًا غير هَذَا، إلاَّ مَا ثَبت عَن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه أعطي قُوَّة ثَلَاثِينَ رجلا فِي الْجِمَاع. وَفِي (الطَّبَقَات) : أَرْبَعِينَ. وَقَالَ مُجَاهِد: أعطي قُوَّة أَرْبَعِينَ رجلا، كل رجل من أهل الْجنَّة. وَهِي قُوَّة أَكثر من قُوَّة سُلَيْمَان، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ إِذا صلى الْغَدَاة دخل على نِسَائِهِ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ بِغسْل وَاحِد، ثمَّ يبيت عِنْد الَّتِي هِيَ لَيْلَتهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَادِرًا على تَوْفِيَة حُقُوق الْأزْوَاج، وَلَيْسَ يقدر على ذَلِك غَيره مَعَ قلَّة الْأكل. فَإِن قلت: قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: يدْخل على كل نِسَائِهِ فيدنو من كل امْرَأَة مِنْهُنَّ يقبل ويلتمس من غير مَسِيس وَلَا مُبَاشرَة، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن أبي الزِّنَاد عَن هِشَام عَن أَبِيه. قلت: هَذَا ضَعِيف، وَسمعت بعض الْمَشَايِخ الْكِبَار الثِّقَات: أَن كل نَبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، أعطي قُوَّة أَرْبَعِينَ رجلا، وَنَبِينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعطي قُوَّة أَرْبَعِينَ نَبيا فَيكون لَهُ قُوَّة ألف وسِتمِائَة رجل، فَاعْتبر من هَذَا صبره وزهده كَيفَ قنع بتسع نسْوَة. وَفِيه: أَنه لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله، لم يَحْنَث. وَفِيه: دلَالَة على أَنه أقسم على شَيْئَيْنِ: الْوَطْء والولادة، وَفعل الْوَطْء حَقِيقَة وَالِاسْتِيلَاد لم يتم، إِذْ لَو تمّ لم يقل ذَلِك فِيهِ. وَفِيه: أَن هَذَا مَحْمُول على أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُوحِي إِلَيْهِ بذلك، وَهَذَا من خَصَائِص نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي اطِّلَاعه على أَخْبَار الْأَنْبِيَاء السالفة والأمم. وَفِيه: دلَالَة على جَوَاز قَوْله: لَو وَلَوْلَا، بعد وُقُوع الْمَقْدُور، وَقد جَاءَ فِي الْقُرْآن كثير من ذَلِك، وَفِي كَلَام الصَّحَابَة وَالسَّلَف، وَسَيَأْتِي تَرْجَمَة البُخَارِيّ: هَذَا بَاب مَا يجوز من اللو، وَأما النَّهْي عَن ذَلِك، وَأَنَّهَا تفتح عمل الشَّيْطَان فَمَحْمُول على من يَقُول ذَلِك مُعْتَمدًا على الْأَسْبَاب معرضًا عَن الْمَقْدُور أَو متضجراً مِنْهُ. وَفِيه: أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نبه هُنَا على آفَة التَّمَنِّي والإعراض عَن التقويض وَالتَّسْلِيم، وَمن آفته نِسْيَان سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الِاسْتِثْنَاء لَا يكون إلاَّ بِاللَّفْظِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ النِّيَّة، وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَالْعُلَمَاء كَافَّة، وَادّعى بَعضهم أَن قِيَاس قَول مَالك: إِن الْيَمين تَنْعَقِد بِالنِّيَّةِ وَيصِح الِاسْتِثْنَاء بهَا من غير لفظ وَمنع ذَلِك. وَفِيه: جَوَاز الْإِخْبَار عَن الشَّيْء ووقوعه فِي الْمُسْتَقْبل بِنَاء على الظَّن، فَإِن هَذَا الْإِخْبَار رَاجع إِلَى ذَلِك. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: أجَاز أَصْحَابنَا الْحلف على الظَّن الْمَاضِي، وَقَالُوا: يجوز أَن يحلف على خطّ مُوَرِثه إِذا وثق بِخَطِّهِ وأمانته، وجوزوا الْعَمَل بِهِ واعتماده. وَفِيه: اسْتِحْبَاب التَّعْبِير بِاللَّفْظِ الْحسن عَن غَيره، فَإِنَّهُ عبر عَن الْجِمَاع بِالطّوافِ، نعم، لَو دعت ضَرُورَة شَرْعِيَّة إِلَى التَّصْرِيح بِهِ لم يعدل عَنهُ. فَإِن قلت: من أَيْن لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن الله تَعَالَى يخلق من مائَة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مائَة غُلَام؟ لَا جَائِز أَن يكون بِوَحْي، لِأَنَّهُ مَا وَقع وَلَا أَن يكون الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يكون إلاَّ مَا يُرِيد. قلت: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: إِنَّه من جنس التَّمَنِّي على الله وَالسُّؤَال لَهُ، عز وَجل، أَن يفعل، وَالْقسم عَلَيْهِ كَقَوْل أنس بن النَّضر: وَالله لَا تكسر ثنية الرّبيع، قيل: قَول أنس لَيْسَ بتمنٍ، ألاَ تَرَى أَن الشَّارِع سَمَّاهُ قسما، فَقَالَ: (إِن من عباد الله من لَو أقسم على الله لَأَبَره) ، فَسَماهُ قسما وَلم يسمه تمنياً.

42 - (بابُ الشَّجَاعَةِ فِي الحَرْبِ والجبْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مدح الشجَاعَة فِي الْحَرْب، وَفِي بَيَان ذمّ الْجُبْن فِيهِ، وَهُوَ بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي آخِره نون: الْخَوْف، وَأما الْجُبْن الَّذِي يُؤْكَل فَهُوَ بتَشْديد النُّون.

0282 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بنِ واقِدٍ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ ثابِتٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحْسَنَ النَّاسِ وأشْجَعَ النَّاسِ وأجْوَدَ النَّاسِ ولَقَدْ فَزِعَ أهْلُ المَدِينَةِ فكانَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبَقَهُمْ عَلى فَرَسٍ وَقَالَ وجَدْنَاهُ بَحْرَاً..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأَشْجَع النَّاس) أَي: فِي الْحَرْب، وَفسّر ذَلِك بقوله: وَلَقَد فزع أهل الْمَدِينَة ... إِلَى آخِره. وَأحمد بن عبد الْملك بن وَاقد، بِالْقَافِ وبالدال الْمُهْملَة: الْحَرَّانِي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء وبالنون. مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الخدم لِلْمَسْجِدِ، إلاَّ أَنه نسبه ثمَّة إِلَى جده.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وقتيبة فرقهما فِي الْجِهَاد، وَأخرجه أَيْضا فِي الْأَدَب عَن عَمْرو بن مَيْمُون. وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن يحيى بن يحيى وَسَعِيد وَابْن مَنْصُور وَأبي الرّبيع وَأبي كَامِل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجِهَاد عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن قُتَيْبَة وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي صَالح مُحَمَّد بن زنبور الْمَكِّيّ، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ.
قَوْله: (فزع) ، بِكَسْر الزَّاي، يُقَال: فزع يفزع فَزعًا. أَي: خَافَ أهل الْمَدِينَة، وَفِي رِوَايَة لَيْلًا. قَوْله: (سبقهمْ على فرس) يُقَال لَهُ مَنْدُوب، كَانَ لأبي طَلْحَة على مَا يَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (وَجَدْنَاهُ بحراً) ، أَي: كالبحر وَاسع الجري.
وَفِيه: اسْتِعْمَال الْمجَاز حَيْثُ شبه الْفرس بالبحر، لِأَن الجري مِنْهُ لَا يَنْقَطِع كَمَا لَا يَنْقَطِع مَاء الْبَحْر، وَأول من تكلم بِهَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: اسْتِعَارَة الدَّوَابّ للحرب وَغَيره، وركوب الدَّابَّة عُريَانا لاستعجال الْحَرَكَة، ثمَّ إِنَّه ذكر فِي الحَدِيث ثَلَاثَة أَشْيَاء من صِفَات النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي: الأحسنية والأشجعية والأجودية. قَالَ حكماء الْإِسْلَام: للْإنْسَان قوًى ثَلَاث: الْعَقْلِيَّة والغضبية والشهوية، وَكَمَال الْقُوَّة الغضبية الشجَاعَة، وَكَمَال الْقُوَّة الشهوية الْجُود، وَكَمَال الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة الْحِكْمَة. وَالْأَحْسَن إِشَارَة إِلَيْهِ لِأَن حسن الصُّورَة تَابع لاعتدال المزاج، واعتدال المزاج تَابع لصفاة النَّفس الَّذِي بِهِ جودة القريحة، وَهَذِه الثَّلَاث هِيَ أُمَّهَات الْأَخْلَاق.

1282 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُمَرُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ جُبَيْرِ ابنِ مُطْعِمٍ أنَّ مُحَمَّدَ بنَ جُبَيْرِ قَالَ أَخْبرنِي جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ أنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَعَهُ النَّاسُ مَقْفَلَهُ مِنْ حُنَيْنٍ فَعَلِقَهُ النَّاسُ يَسْألُونَهِ حتَّى اضْطَرُّوهُ إِلَى سَمُرَةٍ فَخَطِفَتْ رِدَاءَهُ فَوَقَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ اعْطُونِي رِدَائي لَوْ كانَ لِي عَدَدُ هاذِهِ العِضَاهِ نَعَماً لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُونِي بَخِيلاً ولاَ كَذُوباً وَلَا جَبَاناً.
(الحَدِيث 1282 طرفه فِي: 8413) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ لَا تجدوني) إِلَى آخِره، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَعمر بن مُحَمَّد بن جُبَير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن مطعم، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من الْإِطْعَام النَّوْفَلِي الْقرشِي، قَالَ الْكرْمَانِي: وَكَثِيرًا يروي

(14/117)


الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بِدُونِ وَاسِطَة عمر. قلت: لم يروِ عَن عمر بن مُحَمَّد بن جُبَير غير الزُّهْرِيّ، وَقد وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ، وَفِيه رد على من زعم أَن شَرط البُخَارِيّ أَن لَا يروي الحَدِيث الَّذِي يُخرجهُ أقل من اثْنَيْنِ، عَن أقل من اثنني، فَإِن هَذَا الحَدِيث مَا رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن جُبَير غير وَلَده، ثمَّ مَا رَوَاهُ عَن عمر غير الزُّهْرِيّ، هَذَا مَعَ تفرد الزُّهْرِيّ بالرواية عَن عمر مُطلقًا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْخمس عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (وَمَعَهُ النَّاس) ، أَي: وَمَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (مقفله) أَي: زمَان قفوله، أَي: رُجُوعه، وَهُوَ: بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْقَاف وَفتح الْفَاء. قَوْله: (من حنين) ، هُوَ وَاد بَين مَكَّة والطائف، وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان. قَوْله: (فعلقه النَّاس) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللَّام الْمَكْسُورَة بعْدهَا قَاف، أَي: فتعلقوا بِهِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فطفقت، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. قَوْله: (يسألونه) ، حَال. قَوْله: (حَتَّى اضطروه) ، أَي: ألجؤه إِلَى سَمُرَة، وَهِي وَاحِدَة السمر، وَهِي شجر طوال متفرق الرؤوس قَلِيل الظل صغَار اورق قصار الشوك جيد الْخشب وَله نوار أصفر وصمغ أَبيض قَلِيل الْمَنْفَعَة، وَيخرج من السمرَة شَيْء يشبه الدَّم، يُقَال: حَاضَت السمرَة، إِذا خرج مِنْهَا ذَلِك. قَوْله: (العضاه) ، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره هَاء: يقرؤ فِي الْوَصْل وَالْوَقْف بِالْهَاءِ، وَهُوَ كل شجر عَظِيم لَهُ شوك، وَوَاحِد العضاه: عضاهة وعضهة وعضة، حذفوا مِنْهَا الْأَصْلِيَّة كَمَا حذفت فِي: شفة، ثمَّ ردَّتْ فِي عضاه كَمَا ردَّتْ فِي شفَاه وتصغر على عضيهة وينسب إِلَيْهَا، فَيُقَال: بعير عضهي للَّذي يرعاها، وبعير عضاهي وإبل عضاهية، وَقَالَ ابْن التِّين: ويقرؤ بِالْهَاءِ وَقفا ووصلاً، وَهُوَ شجر الشوك: كالطلح والعوسج والسدر. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ على ضَرْبَيْنِ: خَالص: كالعرف والطلح وَالسّلم والسيال والسمر والقتاد والغرب، وَغير خَالص: كالشوحط والنبع والشريان والسراء والقشم. قَوْله: (نعما) ، بِفَتْح النُّون وَالْعين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: نعم، بِالرَّفْع، وَجه الرّفْع أَنه اسْم: كَانَ. وَقَوله: (فِي عدد) خَبره، وَوجه النصب أَنه تَمْيِيز، و: كَانَ، تكون تَامَّة، وَالنعَم الْإِبِل خَاصَّة. كَذَا قَالَه أَكثر أهل التَّفْسِير. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: قيل: النعم الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، وَإِن انْفَرَدت الْإِبِل يُقَال لَهَا: نعم، وَإِن انْفَرَدت الْبَقر وَالْغنم لَا يُقَال لَهَا نعم، وَاخْتلف فِي الْأَنْعَام فَقيل: هِيَ جمع: نعم، فَيكون لِلْإِبِلِ خَاصَّة وَقيل: إِذا قلت: أنعام، دخل تَحْتَهُ الْبَقر وَالْغنم. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: النعم وَاحِد الْأَنْعَام، وَهِي المَال الراعية، قَالَ الْفراء: هُوَ ذكر لَا يؤنث، يَقُولُونَ: هَذَا نعم، وَأَرَادَ، وَيجمع على: نعْمَان، مثل: حمل وحملان، والأنعام تذكر وتؤنث، قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع: مِمَّا فِي بطونه، وَفِي مَوضِع: مِمَّا فِي بطونها، وَجمع الْجمع أناعيم. قَوْله: (ثمَّ لَا تجدوني) ، ويروى: لَا تجدونني، على الأَصْل فِيهِ أَنه لَا بَأْس للرجل الْفَاضِل أَن يخبر عَن نَفسه بِمَا فِيهِ من الْخلال الشَّرِيفَة عِنْدَمَا يخَاف سوء ظن أهل الْجَاهِلِيَّة. قَوْله: (بَخِيلًا) ، قَالَ الْفراء: الْبَخِيل الشحيح، وَقَالَ ابْن مَسْعُود: الْبَخِيل أَن لَا يُعْطي شَيْئا. والشحيح أَخذه مَال أَخِيه بِغَيْر حق. وَقَالَ طَاوُوس: الْبَخِيل أَن يبخل مِمَّا فِي يَده، والشحيح أَن يشح بِمَا فِي أَيدي النَّاس، يحب أَن يكون لَهُ مَا فِي أَيدي النَّاس بالحلال وَالْحرَام. وَقيل: الْبُخْل فِي اللُّغَة دون الشُّح، وَالشح أَشد مِنْهُ، يُقَال: بخل يبخل بخلا وبخلاً، وَقيل: الْبُخْل أَن يضن الْإِنْسَان بِمَالِه أَن يبذله فِي المكارم أَو اللوازم. قَوْله: (وَلَا كذوباً) من كذب كذبا وكذباً، وَهُوَ خلاف الصدْق، فَهُوَ كَاذِب وَكَذَّاب وكذوب وكيذبان

ومكذبان ومكذبانة وكذبة، مِثَال: همزَة وكذبذب مخففاً، وَقد يشدد. قَوْله: (وجباناً) صفة مشبهة من الْجُبْن، وَهُوَ ضد الشجَاعَة، لَا يُقَال: لَا يلْزم من نفي الكذوبية نفي الْكَذِب، وَلَا من نفي البخيلية نفي الْبُخْل، وَلَا من نفي الجبان نفي نفس الْجُبْن لأَنا نقُول: قد تَجِيء هَذِه الأوزان بِمَعْنى: ذِي كَذَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} (فصلت: 64) . وَالتَّقْدِير: وَمَا رَبك بِذِي ظلم، لِأَن نفي الظلامية لَا يَنْفِي نفس الظُّلم وَكَذَلِكَ هَهُنَا فيؤل الْمَعْنى إِلَى نفي هَذِه الْأَشْيَاء بِالْكُلِّيَّةِ، ثمَّ اقتران الْكَذِب مَعَ الجبان، مَعَ أَن مُقْتَضى الْمقَام نفي الْبُخْل فَقَط هُوَ إِشَارَة إِلَى أَنه يَقُول: لَا أكذب فِي نفي الْبُخْل عني، لِأَن نفي الْبُخْل عني لَيْسَ من خوفي مِنْكُم، وَهَذَا من جَوَامِع الْكَلم إِذْ أصُول الْأَخْلَاق: الْحِكْمَة وَالْكَرم والشجاعة، وَأَشَارَ بِعَدَمِ الْكَذِب إِلَى كَمَال الْقُوَّة الْعَقْلِيَّة، أَي: الْحِكْمَة وبعدم الْجُبْن إِلَى كَمَال الْقُوَّة الغضبية أَي: الشجَاعَة وبعدم الْبُخْل إِلَى كَمَال الْقُوَّة الشهوية أَي: الْجُود، وَهَذِه الثَّلَاث هِيَ أُمَّهَات فواضل الْأَخْلَاق، وَالْأول هُوَ مرتبَة الصديقين، وَالثَّانِي هُوَ مرتبَة الشُّهَدَاء، وَالثَّالِث هُوَ مرتبَة الصَّالِحين أللهم اجْعَلْنَا مِنْهُم.

(14/118)


52 - (بابُ مَا يُتَعَوَّذُ مِنَ الجُبْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّعَوُّذ من الْجُبْن، وَكلمَة: مَا، مَصْدَرِيَّة.

2282 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا أَبُو عَوانَةَ قَالَ حدَّثنا عبدُ المَلِكِ بنُ عُمَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو بنَ مَيْمُونٍ الأوْدِيَّ قَالَ كانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤلاَءِ الْكَلِمَاتِ كَما يُعَلِّمُ المُعَلِّمُ الغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ ويَقُولُ إنَّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلاَةِ اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذِ بِكَ مِنَ الجُبْنِ وأعُوذُ بِكَ أنْ أُرَدَّ إِلَى أرْذَلِ العُمُرِ وأعُوذِ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وأعُوذِ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبَاً فَصَدَّقَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أعوذ بك من الْجُبْن) ، وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين: الوضاح الْيَشْكُرِي، وَعَمْرو بن مَيْمُون مر فِي الْوضُوء وَهُوَ الَّذِي رأى قردة زنت فرجمتها القردة، والأودي، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْوَاو وبالدال الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى أود بن معن، هَذَا فِي باهلة، وأود أَيْضا فِي مذْحج، وَهُوَ أود بن صَعب وَسعد هُوَ ابْن أبي وَقاص أحد الْعشْرَة.
والْحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدَّعْوَات عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الِاسْتِعَاذَة وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن يحيى ابْن مُحَمَّد وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّاء وَتَفْسِير الْجُبْن قد مر، وَإِنَّمَا تعوذ مِنْهُ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى عَذَاب الْآخِرَة، لِأَنَّهُ يفر فِي الزَّحْف فَيدْخل تَحت وَعِيد الله فَمن ولَّى فقد بَاء بغضب من الله، وَرُبمَا يفتتن فِي دينه فيرتد لجبن أدْركهُ وَخَوف على مهجته من الْأسر والعبودية.
قَوْله: (أَن أرد) أَي: عَن الرَّد، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة (وأرذل الْعُمر) ، هُوَ الخرف، يَعْنِي: يعود كَهَيْئَته الأولى فِي أَوَان الطفولية، ضَعِيف البنية سخيف الْعقل قَلِيل الْفَهم، وَيُقَال: أرذل الْعُمر: أردؤه، وَهُوَ حَالَة الْهَرم والضعف عَن أَدَاء الْفَرَائِض، وَعَن خدمَة نَفسه فِيمَا يتنظف فِيهِ فَيكون كلاَّ على أَهله ثقيلاً بَينهم، يتمنون مَوته فَإِن لم يكن لَهُ أهل فالمصيبة أعظم. قَوْله: (وفتنة الدُّنْيَا) ، هُوَ أَن يَبِيع الْآخِرَة بِمَا يتعجله فِي الدُّنْيَا من حَال وَمَال. قَوْله: (فَحدثت بِهِ مصعباً) قَائِل هَذَا هُوَ عبد الْملك بن عُمَيْر، وَمصْعَب هُوَ ابْن سعد بن أبي وَقاص. وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) وَفِي رِوَايَة عَمْرو ابْن مَيْمُون هَذِه عَن سعد، لم يذكر البُخَارِيّ مصعباً، وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ، لِأَن هَذَا ثَابت عِنْد البُخَارِيّ فِي جَمِيع الرِّوَايَات فَافْهَم.

3282 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أبي قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ أللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والْكَسَلِ والجُبْنِ والْهَرَمِ وأعُوِذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا والْمَمَاتِ وأعُوذِ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (والجبن) ومعتمر هُوَ ابْن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ، وَأَبُو سُلَيْمَان بن طرحان الْبَصْرِيّ مولى لبني مرّة، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَة.
والْحَدِيث أخرجه أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن مُسَدّد عَن مُعْتَمر. وَأخرجه مُسلم فِي الدَّعْوَات عَن يحيى بن أَيُّوب وَعَن كَامِل وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَعَن أبي كريب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُسَدّد بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الِاسْتِعَاذَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى بِهِ.
قَوْله: (من الْعَجز) هُوَ ضد الْقُدْرَة، وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف فِي معنى الْعَجز، فَأهل الْكَلَام يجعلونه مَالا استطاعة لأحد على مَا يعجز عَنهُ، لِأَنَّهَا عِنْدهم مَعَ الْفِعْل، وَأما الْفُقَهَاء فَيَقُولُونَ: إِنَّه هُوَ مَا يَسْتَطِيع أَن يعمله إِذا أَرَادَ، لأَنهم يَقُولُونَ: إِن الْحَج لَيْسَ على الْفَوْر، وَلَو كَانَ على المهلة عِنْد أهل الْكَلَام لم يَصح مَعْنَاهُ، لِأَن الِاسْتِطَاعَة لَا تكون إلاَّ مَعَ الْفِعْل، وَالَّذين يَقُولُونَ بِالْمُهْمَلَةِ يجْعَلُونَ الِاسْتِطَاعَة قبل الْفِعْل. قَوْله: (والكسل) هُوَ ضعف الهمة وإيثار الرَّاحَة للبدن على التَّعَب، وَإِنَّمَا استعيذ مِنْهُ لِأَنَّهُ يبعد عَن الْأَفْعَال الصَّالِحَة. قَوْله: (والهرم) ، قَالَ الْكرْمَانِي ضد الشَّبَاب، وَفِي (الْمغرب) : الْهَرم كبر السن الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى تماوت الْأَعْضَاء وتساقط القوى، وَإِنَّمَا استعاذ مِنْهُ لكَونه من الأدواء الَّتِي لَا دَوَاء لَهَا. قَوْله: (من فتْنَة المحيى) المحيي وَالْمَمَات مصدران ميميان بِمَعْنى الْحَيَاة وَالْمَوْت، وفتنة المحيى أَن يفتتن بالدنيا ويشتغل بهَا عَن

(14/119)


الْآخِرَة، وفتنة الْمَمَات أَن يخَاف عَلَيْهِ من سوء الخاتمة عِنْد الْمَوْت، وَعَذَاب الْقَبْر مِمَّا يعرض لَهُ عِنْد مساءلة الْملكَيْنِ ومشاهدة أَعماله السَّيئَة فِي أقبح الصُّور، أعاذنا الله مِنْهُ بمنه وَكَرمه.

62 - (بابُ منْ حَدَّثَ بِمَشَاهِدِهِ فِي الحَرْبِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من حدث بمشاهده، وَهُوَ جمع: مشْهد، مَوضِع الشُّهُود، أَي: الْحُضُور فِي الْحَرْب، أَرَادَ بِهَذَا أَن للرجل أَن يحدث بِمَا تقدم لَهُ من العناء فِي إِظْهَار الْإِسْلَام وإعلاء كَلمته ليتأسى بذلك المتأسي، ويقتدي بِهِ، وليرغب النَّاس فِي ذَلِك. وَأما الَّذِي يحدث لإِظْهَار شجاعته والافتخار بِمَا صنع فَذَلِك لَا يجوز.
قالَهُ أبُو عُثْمَانَ عَنْ سَعْدٍ
أَي: قَالَ ذَلِك أَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن النَّهْدِيّ، بِفَتْح النُّون عَن سعد بن أبي وَقاص، وَهَذَا تَعْلِيق ذكره مَوْصُولا فِي الْمَغَازِي.

4282 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدثنَا حاتِمٌ عنْ مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ عنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ قَالَ صَحِبْتُ طَلْحَةَ بنَ عُبَيْدِ الله وسَعْدَاً والمقْدَادَ بنَ الأسْوَدِ وعبْدَ الرَّحْمانِ بنَ عَوْفٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُم فَمَا سَمِعْتُ أحَدَاً مِنْهُمْ يُحَدِّثُ عنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أنِّي سَمِعْتُ طَلْحَةَ يُحَدِّثُ عنْ يَوْمِ أُحُدٍ.
(الحَدِيث 4282 طرفه فِي: 2604) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (سَمِعت طَلْحَة يحدث عَن يَوْم أحد) .
وحاتم هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل الْكُوفِي، سكن الْمَدِينَة وَمر فِي الْوضُوء، وَمُحَمّد بن يُوسُف بن عبد الله ابْن أُخْت نمر، وَأمه ابْنة السَّائِب بن يزِيد، سمع جده السَّائِب بن يزِيد، والسائب هَذَا صَحَابِيّ صَغِير ابْن صحابيين حج بِهِ أَبوهُ وَأمه مَعَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع، وَهُوَ ابْن سبع سِنِين، وَيُقَال: ابْن عشر سِنِين، مر فِي جَزَاء الصَّيْد وَفِيه سِتَّة من الصَّحَابَة.
قَوْله: (وسعداً) أَي: وصحبت سَعْدا، وَهُوَ سعد بن أبي وَقاص. قَوْله: (فَمَا سَمِعت أحدا مِنْهُم) ، أَي: هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة الْمَذْكُورين (يحدث عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَالَ ابْن بطال وَغَيره: كَانَ كثير من كبار الصَّحَابَة لَا يحدثُونَ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خشيَة الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان لِئَلَّا يدخلُوا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من نقل عني مَا لم أقل فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار، فاحتاطوا على أنفسهم أخذا بقول عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أقلوا الحَدِيث عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا شريككم. قَوْله: (إِلَّا أَنِّي سَمِعت طَلْحَة يحدث عَن يَوْم أحد) يَعْنِي: مَا سَمِعت طَلْحَة يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا كَانَ يحدث عَن مشاهده يَوْم أحد، لِأَنَّهُ كَانَ من أهل النجدة وثبات الْقدَم فِي الْحَرْب، وَعَن أبي عُثْمَان النَّهْدِيّ: أَنه لم يبْق مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الْأَيَّام غير طَلْحَة وَسعد، وَلِهَذَا حدث طَلْحَة عَن مشاهده يَوْم أحد ليقتدي بِهِ، ويرغب النَّاس فِي مثل فعله.

72 - (بابُ وُجُوبِ النَّفِيرِ وَمَا يَجِبُ مِنَ الجِهَادِ والنِّيَّةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب النفير، بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء، أَي: الْخُرُوج إِلَى قتال الْكفَّار، وأصل النفير مُفَارقَة مَكَان إِلَى مَكَان لأمر حرك ذَلِك. قَوْله: (وَمَا يجب من الْجِهَاد) ، أَي: وَفِي بَيَان الْقدر الْوَاجِب من الْجِهَاد. قَوْله: (وَالنِّيَّة) ، أَي: وَفِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة النِّيَّة فِي ذَلِك.
وقَوْلِهِ {انْفِرُوا خِفافاً وثِقالاً وجاهِدُوا بأمْوالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لوْ كانَ عَرَضَاً قَرِيباً وسَفَراً قاصِدَاً لاتَّبَعُوكَ ولَكِنْ بَعُدَتْ علَيْهِمُ الشُّقَّةُ وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه} (التَّوْبَة: 14) الْآيَة.

وَقَوله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: (وجوب النفير) ، أَي: وَقَول الله تَعَالَى، وَفِي بعض النّسخ: وَقَول الله، عز وَجل. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أَبِيه عَن أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح: هَذِه الْآيَة: {انفروا خفافاً وثقالاً} (التَّوْبَة: 14) . أول مَا نزل من سُورَة بَرَاءَة، وَقَالَ

(14/120)


أَبُو مَالك الْغِفَارِيّ وَابْن الضَّحَّاك: هَذِه أول آيَة نزلت من بَرَاءَة، ثمَّ نزل أَولهَا وَآخِرهَا، وَفِي التَّفْسِير، قَالَ جمَاعَة من الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: لما نزلت آيَة الْجِهَاد منا الثقيل وَذُو الْحَاجة والضيعة والشغل، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {انفروا خفافاً ثقالاً} (التَّوْبَة: 14) . وَيُقَال: كَانَ الْمِقْدَاد عَظِيما سميناً، جَاءَ إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشكى إِلَيْهِ، وَسَأَلَ أَن يَأْذَن لَهُ، فَنزلت انفروا ... الْآيَة، أَمر الله بالنفير الْعَام مَعَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام غَزْوَة تَبُوك لقِتَال أَعدَاء الله من الرّوم الْكَفَرَة من أهل الْكتاب، وحتَّم على الْمُؤمنِينَ فِي الْخُرُوج مَعَه على كل حَال فِي المنشط وَالْمكْره والعسر واليسر، فَقَالَ: {انفروا خفافاً وثقالاً} (التَّوْبَة: 14) . وَعَن أبي طَلْحَة: كهولاً وشباناً، مَا سمع الله عذر أحد، ثمَّ خرج إِلَى الشَّام فقاتل حَتَّى قتل، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَمُقَاتِل ابْن حَيَّان وَزيد بن أسلم. وَقَالَ مُجَاهِد: شباناً وشيوخاً وأغنياء ومساكين. وَقَالَ الحكم بن عتيبة: مشاغيل وَغير مشاغيل. وَعَن ابْن عَبَّاس: انفروا نشاطاً وَغير نشاط. وَكَذَا قَالَ قَتَادَة، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: فِي الْعسر واليسر، وَقيل: الْخفاف أهل اليسرة، والثقال أهل الْعسرَة. وَقيل: أصحاء ومرضى، وَقيل: مقلين من السِّلَاح ومكثرين. وَقيل: رجَالًا وركباناً، وَقيل: عزباناً ومتأهلين. وَقَالَ السّديّ: لما نزلت هَذِه الْآيَة اشْتَدَّ على النَّاس شَأْنهَا، فنسخها الله تَعَالَى فَقَالَ: {لَيْسَ على الضُّعَفَاء وَلَا على المرضى وَلَا على الَّذين لَا يَجدونَ مَا يُنْفقُونَ حرج إِذا نصحوا الله وَرَسُوله} (التَّوْبَة: 19) . وخفافاً، جمع خَفِيف، و: ثقالاً، جمع ثقيل وانتصابهما على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: انفروا. قَوْله: {جاهدوا بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ} (التَّوْبَة: 14) . إِيجَاب للْجِهَاد بهما إِن إمكن، أَو بِأَحَدِهِمَا على حسب الْحَال. قَوْله: {ذَلِكُم خير لكم} (التَّوْبَة: 14) . يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، لأنكم تغرمون فِي النَّفَقَة قَلِيلا فيغنمكم أَمْوَال عَدوكُمْ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يدّخر لكم من الْكَرَامَة فِي الْآخِرَة إِن كُنْتُم تَعْمَلُونَ أَن الله يُرِيد الْخَيْر. قَوْله: {لَو كَانَ عرضا قَرِيبا ... } (التَّوْبَة: 14) . الْآيَة نزلت فِي الْمُنَافِقين فِي غَزْوَة تَبُوك، وَالْمعْنَى: لَو كَانَ مَا دعوا إِلَيْهِ غنيمَة قريبَة وسفراً قَاصِدا، أَي: سهلاً قَرِيبا لاتبعوك طَمَعا فِي المَال، وَلَكِن بَعدت عَلَيْهِم الشقة أَي: السّفر الْبعيد. وَقَرَأَ ابْن عُمَيْر عبيد، بِكَسْر الشين، وَهِي لُغَة قيس قَوْله: وسيحلفون بِاللَّه، أَي: يحلفُونَ بِاللَّه لكم إِذا رجعتم إِلَيْهِم: لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ أَي: لَو قَدرنَا، وَكَانَ لنا سَعَة من المَال لخرجنا مَعكُمْ، وَذَلِكَ كذب مِنْهُم ونفاق لأَنهم كَانُوا مياسير ذَوي أَمْوَال. قَالَ الله تَعَالَى: {يهْلكُونَ أنفسهم وَالله يعلم أَنهم لَكَاذِبُونَ} (التَّوْبَة: 24) . وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يهْلكُونَ أنفسهم إِمَّا أَن يكون بَدَلا من سيحلفون، أَو حَالا بِمَعْنى مهلكين، وَالْمعْنَى: أَنهم يوقعونها فِي الْهَلَاك بحلفهم الْكَاذِب، وَبِمَا يحلفُونَ عَلَيْهِ من التَّخَلُّف.
وقَوْلِهِ {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مالَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفُرُوا فِي سَبِيلِ لله أثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أرَضِيتُمْ بالحياةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} إِلَى قَوْلِهِ {علَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التَّوْبَة: 83) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله الأول. هَذَا شُرُوع فِي عتاب من تخلف عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك حِين طابت الثِّمَار والظلال فِي شدَّة الْحر وحمارة القيظ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا ... } (التَّوْبَة: 83) . الْآيَة، قَوْله: إثَّاقلتم، أَصله تثاقلتم، ادغمت التَّاء فِي الثَّاء فسكنت الأولى، فَأتى بِأَلف الْوَصْل ليتوصل بهَا إِلَى النُّطْق بالساكن، مَعْنَاهُ: تكاسلتم وملتم إِلَى الْمقَام فِي الدعة والخفض وَطيب الثِّمَار. قَوْله: {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} (التَّوْبَة: 83) . أَي: بدل الْآخِرَة، ثمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَمَا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا} (التَّوْبَة: 83) . هَذَا تزهيد من الله فِي الدُّنْيَا وترغيب فِي الْآخِرَة بِأَن مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجنَّة، لانْقِطَاع ذَلِك ودوام هَذَا، ثمَّ توعد على ترك الْخُرُوج فَقَالَ: أَلا تنفرُوا: أَي: أَلا تخْرجُوا مَعَ نَبِيكُم إِلَى الْجِهَاد يعذبكم عذَابا أَلِيمًا ويستبدل قوما غَيْركُمْ لنصرة نبيه وَإِقَامَة دينه. قَوْله: {وَلَا تضروه شَيْئا} أَي: وَلَا تضروا الله تَعَالَى بتوليتكم عَن الْجِهَاد ونكولكم وتثاقلكم عَنهُ، وَالله على كل شَيْء قدير أَي: قَادر على الِانْتِصَار من الْأَعْدَاء بدونكم.
ويُذْكَرُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ انْفِرُوا ثُبَاتٍ سَرَايا مُتَفَرِّقِينَ يُقالُ أحَدُ الثُّبَاتِ ثُبَةٌ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ، وَذكره إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد الشَّامي فِي تَفْسِيره عَنهُ، وَمَعْنَاهُ: أخرجُوا ثبات، يَعْنِي سَرِيَّة بعد سَرِيَّة، أَو انفروا مُجْتَمعين. قَوْله: (ثبات) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهُوَ جمع: ثبة، وَهِي الْجَمَاعَة، وَجَاء جمعهَا أَيْضا: ثبون وثبون وأثابي، وأصل: ثبة، ثبي، على وزن: فعل، بِضَم الْفَاء وَفتح الْعين. وَفِي (التَّوْضِيح) :

(14/121)


وَعند أهل اللُّغَة الثَّبَات الْجَمَاعَات فِي تَفْرِقَة، أَي: حَلقَة حَلقَة كل جمَاعَة ثبة، والثبة مُشْتَقَّة من قَوْلهم: ثبيت الرجل إِذا أثنيت عَلَيْهِ فِي حَيَاته، لِأَنَّك كَأَنَّك قد جمعت محاسنه. وَقَالَ أَبُو عمر: والتثبية: الثَّنَاء على الرجل فِي حَيَاته. قَوْله: (ثبات سَرَايَا مُتَفَرّقين) أَحْوَال، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْحسن الْقَابِسِيّ: ثباتاً، بِالنّصب، وَهُوَ غير صَحِيح، لِأَنَّهُ جمع الْمُؤَنَّث السَّالِم مثل: الهندات، وَالنّصب والجر فِيهِ سَوَاء، والسرايا جمع: سَرِيَّة، وَهِي من يدْخل دَار الْحَرْب مستخفياً. قَوْله: (وَيُقَال وَاحِد الثَّبَات: ثبة) لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن هَذَا مَعْلُوم قطعا أَن ثبات جمع ثبة، وَأما الثبة الَّتِي بِمَعْنى وسط الْحَوْض فَلَيْسَ من بَاب ثبة الَّذِي بِمَعْنى الْجَمَاعَة، لِأَن أصل هَذِه: ثوب، وَهُوَ أجوف واوي، فَلَمَّا حذفت الْوَاو عوض عَنْهَا الْهَاء وَسمي: وسط الْحَوْض بذلك، لِأَن المَاء يثوب إِلَيْهِ أَي: يرجع.

5282 - حدَّثنا عَمرُو بنُ عَلِيٍّ قَالَ حدَّثنا يَحْيى قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثني مَنْصُورٌ عنْ مُجَاهِدٍ عنْ طَاوُسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْمَ الفَتْحِ لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ ولاكِنْ جِهادٌ ونِيَّة وإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفُرُوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة) ، وَعَمْرو بن عَليّ بَحر بن يحيى بن كثير أَبُو حَفْص الْبَاهِلِيّ الْبَصْرِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، والْحَدِيث مضى فِي: بَاب فضل الْجِهَاد بِهَذَا الْإِسْنَاد، غير أَن شَيْخه هُنَاكَ: عَليّ بن عبد الله، وَهنا: عَمْرو بن عَليّ، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

82 - (بابُ الكَافِرِ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ يُسْلِمُ فَيُسَدِّدُ بَعْدُ ويُقْتَلُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْكَافِر الَّذِي يقتل الْمُسلم ثمَّ يسلم، بِضَم الْيَاء أَي: الْقَاتِل. قَوْله: (فيسدد) بِالسِّين الْمُهْملَة أَي: يسدد دينه يَعْنِي: يَسْتَقِيم. قَوْله: (بعدُ) بِضَم الدَّال أَي: بعد قَتله الْمُسلم. قَوْله: (ويُقتل) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: أَو يقتل، وَعَلَيْهَا اقْتصر ابْن بطال والإسماعيلي، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو ثمَّ يصير مقتولاً، وَالْجَوَاب فِيهِ يفهم من الحَدِيث، وَلم يذكرهُ اكْتِفَاء بِهِ.

6282 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرنَا مالِكٌ عنْ أبِي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَضْحِكُ الله إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أحدُهُمَا الآخَرَ يَدْخُلانِ الجَنَّةَ يُقَاتِلُ هذَا فِي سَبيلِ الله فيُقْتَلُ ثُمَّ يَتُوبُ الله عَلى القَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن التَّرْجَمَة كالشرح لِمَعْنى الحَدِيث، وَذَلِكَ أَن الْمَذْكُور فِيهَا: فيسدد، وَفِي الحَدِيث (فيستشهد) وَالشَّهَادَة إِنَّمَا تعْتَبر على وَجه التسديد، وَهُوَ الاسْتقَامَة فِيهَا. وَقَالَ بَعضهم: يظْهر لي أَن البُخَارِيّ أَشَارَ فِي التَّرْجَمَة إِلَى مَا أخرجه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم من طَرِيق أُخْرَى عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّار مُسلم قتل كَافِرًا ثمَّ سدد الْمُسلم وقارب ... الحَدِيث. انْتهى. قلت: التَّرْجَمَة لَا تكون إلاَّ بِمَا يدل على شَيْء من الحَدِيث الَّذِي وضعت التَّرْجَمَة لَهُ، فَكيف تكون التَّرْجَمَة هُنَا والْحَدِيث فِي كتاب آخر أخرجه غَيره؟ والإسناد الْمَذْكُور بِعَين هَؤُلَاءِ الرِّجَال قد ذكر غير مرّة، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي النعوت عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يضْحك الله) ، الضحك وَأَمْثَاله إِذا أطلقت على الله يُرَاد بهَا لوازمها مجَازًا، ولازم الضحك الرِّضَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: الضحك الَّذِي يعتري الْبشر عِنْدَمَا يستخفهم الْفَرح أَو يستفزهم الطَّرب غير جَائِز على الله، عز وَجل وَإِنَّمَا هُوَ مثل ضربه لهَذَا الصنع الَّذِي هُوَ مَكَان التَّعَجُّب عِنْد الْبشر، وَفِي صفة الله تَعَالَى الْإِخْبَار عَن الرِّضَا بِفعل أحد هذَيْن وَالْقَبُول للْآخر، ومجازاتهما على صنيعهما الْجنَّة مَعَ اخْتِلَاف أحوالهما، وتباين مقاصدهما، وَمَعْلُوم أَن الضحك يدل على

(14/122)


الرِّضَا وَقبُول الْوَسِيلَة وإنجاح الطّلبَة، فَمَعْنَاه: أَن الله يجزل الْعَطاء لَهما لِأَنَّهُ هُوَ مُقْتَضى الضحك وموجبه، أَو يكون مَعْنَاهُ: تضحك مَلَائِكَة الله من صنيعهما، لِأَن الإيثار على النَّفس أَمر نَادِر فِي الْعَادة مستغرب فِي الطباع، وَقَالَ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : يُرِيد: أضْحك الله مَلَائكَته من وجود مَا قضى. وَقَالَ ابْن فورك: أَي: يُبْدِي الله من فَضله تَوْفِيقًا لهذين الرجلَيْن، كَمَا تَقول الْعَرَب: ضحِكت الأَرْض من النَّبَات إِذا ظهر فِيهَا، وَكَذَلِكَ قَالُوا للطلع إِذا انفتق عَنهُ: كفري الضحك، لأجل أَن ذَلِك يَبْدُو مِنْهُ الْبيَاض الظَّاهِر كبياض الثغر، وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَرَادَ قبُول أعمالهما ورحمتهما وَالرِّضَا عَنْهُمَا. قَوْله: (إِلَى رجلَيْنِ) ، عدى: بإلى، لتَضَمّنه معنى الإقبال، يُقَال: ضحِكت إِلَى فلَان إِذا تَوَجَّهت إِلَيْهِ بِوَجْه طلق، وَأَنت عَنهُ راضٍ. قلت: هَذَا يدل على أَن المُرَاد بالضحك هُنَا الإقبال بِالْوَجْهِ. قَوْله: (يدخلَانِ الْجنَّة) فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة للرجلين، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق همام عَن أبي هُرَيْرَة، قَالُوا: كَيفَ يَا رَسُول الله؟ . قَوْله: (يُقَاتل هَذَا) ، جملَة مستأنفة، يدل عَلَيْهِ رِوَايَة مُسلم هَذِه، لِأَن الْمَعْنى: قَالُوا: يَا رَسُول الله! كَيفَ يدخلَانِ الْجنَّة؟ فَقَالَ: (يُقَاتل هَذَا فِي سَبِيل الله فَيقْتل) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَزَاد فِي رِوَايَة همام: (فيلج الْجنَّة، ثمَّ يَتُوب الله على الْقَاتِل) ، أَي: فَيسلم. وَفِي رِوَايَة همام: (فيهديه الله إِلَى الْإِسْلَام، ثمَّ يُجَاهد فِي سَبِيل الله فيستشهد) .
وَقَالَ أَبُو عمر: يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث أَن كل من قتل فِي سَبِيل الله فَهُوَ فِي الْجنَّة. وَقَالَ أَيْضا: معنى هَذَا الحَدِيث عِنْد أهل الْعلم: أَن الْقَاتِل الأول كَانَ كَافِرًا. قيل: هُوَ الَّذِي استنبطه البُخَارِيّ فِي تَرْجَمته، وَلَكِن لَا مَانع أَن يكون مُسلما، لعُمُوم قَوْله: (ثمَّ يَتُوب الله على الْقَاتِل) كَمَا لَو قتل مُسلم مُسلما عمدا بِلَا شُبْهَة ثمَّ تَابَ الْقَاتِل وَاسْتشْهدَ فِي سَبِيل الله عز وَجل.

7282 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ قَالَ أخْبرني عَنْبَسَةُ بنُ سَعِيدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أتَيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَما افْتَتَحُوهَا فَقُلْتُ يَا رسولَ الله أسْهِمْ لِي فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بنِ العاصِ لَا تُسْهِمْ لَهُ يَا رسولَ الله فَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ هَذَا قاتِلُ ابنِ قَوْقَلٍ فَقَالَ ابنُ سَعَيدِ بنِ العَاصِ واعَجَبَاً لِوَبْرٍ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قُدُومِ ضأنٍ يَنْعَى عَلَيَّ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ أكْرَمَهُ الله عَلَى يَدَيَّ ولَمْ يُهَنِّيءْ عَلَى يَدَيْهِ قَالَ فِلا أدْرِي أسْهَمَ لَهُ أمْ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ قَالَ سُفْيَانُ وحَدَّثَنِيهِ السَعِيديُّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أبُو عَبْدِ الله السَّعِيديُّ عَمْرُو ابنُ يَحْيَى بنِ سَعِيدِ بنِ عَمْرِو بنِ سَعِيدِ بنِ الْعَاصِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَول ابْن سعيد بن الْعَاصِ، وَهُوَ أبان بن سعيد: أكْرمه الله بيَدي) ، وَأَرَادَ بذلك أَن ابْن قوقل وَهُوَ النُّعْمَان اسْتشْهد بيد أبان فَأكْرمه الله بِالشَّهَادَةِ، وَلم يقتل أبان على كفره فَيدْخل النَّار، بل عَاشَ حَتَّى تَابَ وَأسلم وَكَانَ إِسْلَامه قبل خَيْبَر وَبعد الْحُدَيْبِيَة، وَهَذَا هُوَ عين التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة: هُوَ عبد الله بن الزبير أَبُو بكر، مَنْسُوب إِلَى أحد أجداده: حميد بن زُهَيْر وَهُوَ بطن من قُرَيْش. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عَنْبَسَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة: ابْن سعيد الْأمَوِي. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
وَفِيه: أَرْبَعَة أنفس أَيْضا. الأول: هُوَ قَوْله: بعض بني سعيد بن الْعَاصِ، هُوَ أبان بن سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف الْقرشِي الْأمَوِي، قَالَ الزبير: تَأَخّر إِسْلَامه بعد إِسْلَام أَخَوَيْهِ: خَالِد وَعَمْرو، ثمَّ أسلم أبان وَحسن إِسْلَامه. قَالَ أَبُو عمر: وَكَانَ إِسْلَام أبان بن سعيد بَين الْحُدَيْبِيَة وخيبر، وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق: قتل أبان وَعَمْرو ابْنا سعيد بن الْعَاصِ يَوْم اليرموك، وَلم يُتَابع عَلَيْهِ ابْن إِسْحَاق، وَكَانَت اليرموك يَوْم الِاثْنَيْنِ لخمس مضين من رَجَب سنة خمس عشرَة فِي خلَافَة عمر، وَقَالَ مُوسَى بن عقبَة: قتل أبان يَوْم أجنادين، وَكَانَت وقْعَة أجنادين فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث عشرَة فِي خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقيل: إِنَّه قتل أَيَّام مرج الصفر، وَكَانَ فِي صدر خلَافَة عمر سنة أَربع عشرَة، وَكَانَ الْأَمِير يَوْم مرج الصفر خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الثَّانِي: ابْن قوقل: هُوَ النُّعْمَان بن مَالك بن ثَعْلَبَة بن أَصْرَم، بالصَّاد

(14/123)


الْمُهْملَة: ابْن فهم بن ثَعْلَبَة بن غنم، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون بعْدهَا مِيم: ابْن عَمْرو بن عَوْف الْأنْصَارِيّ الأوسي، وقوقل لقب ثَعْلَبَة. وَقيل: لقب أَصْرَم، وَقد ينْسب النُّعْمَان إِلَى جده، فَيُقَال لَهُ: النُّعْمَان بن قوقل، وقوقل بقافين على وزن: جَعْفَر، شهد بَدْرًا وَقتل يَوْم أحد شَهِيدا، وروى الْبَغَوِيّ فِي (الصَّحَابَة) : أَن النُّعْمَان بن قوقل قَالَ يَوْم أحد: أَقْسَمت عَلَيْك يَا رب أَن لَا تغيب الشَّمْس حَتَّى أَطَأ بعرجتي فِي الْجنَّة، فاستشهد ذَلِك الْيَوْم، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لقد رَأَيْته فِي الْجنَّة) الثَّالِث: السعيدي، وَهُوَ الَّذِي أوضحه البُخَارِيّ بقوله: هُوَ عَمْرو بن يحيى بن سعيد بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ، يكنى أَبَا أُميَّة الْمَكِّيّ. قَالَ يحيى بن معِين: صَالح، وَذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات. الرَّابِع: سعيد بن عَمْرو بن سعيد الْقرشِي أَبُو عُثْمَان الْأمَوِي، روى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، وَعَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، روى عَنهُ ابْن ابْنه عَمْرو بن يحيى الْمَذْكُور، وَقَالَ أَبُو زرْعَة وَالنَّسَائِيّ ثِقَة، وَقَالَ أَبُو حَاتِم صَدُوق.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ بِخَيْبَر) جملَة حَالية، وَكَانَ افتتاحها فِي سنة ...

... قَوْله: (أسْهم لي) ، السَّائِل بِهَذَا هُوَ أَبُو هُرَيْرَة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث أبان بن سعيد ابْن الْعَاصِ على سَرِيَّة من الْمَدِينَة، قِبَل نَجْد، فَقدم أبان وَأَصْحَابه على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِخَيْبَر بعد أَن فتحهَا، فَقَالَ أبان: إقسم لنا يَا رَسُول الله، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَقلت: لَا تقسم لَهُ يَا رَسُول الله! فَقَالَ أبان: أَنْت هُنَا يَا وبر تحدر علينا من رَأس ضال؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إجلس يَا أبان، وَلم يقسم لَهُم، وَفِي لفظ: فَقَالَ سعيد بن الْعَاصِ: يَا عجبا لوبر؟ قَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب: كَذَا عِنْد أبي دَاوُد، فَقَالَ سعيد: وَإِنَّمَا هُوَ ابْن سعيد، واسْمه أبان، قَالَ: وَالصَّحِيح أَن أَبَا هُرَيْرَة هُوَ السَّائِل، كَمَا هُوَ فِي البُخَارِيّ. انْتهى. قلت: على تَقْدِير صِحَة حَدِيث أبي دَاوُد ومقاومته لحَدِيث البُخَارِيّ يحْتَمل أَنَّهُمَا سَأَلَا جَمِيعًا، وَأَن أَحدهمَا جازى الآخر لما أسلفه من قَوْله: لَا تقسم لَهُ. قَوْله: (بعض بني سعيد بن الْعَاصِ) ، هُوَ أبان بن سعيد كَمَا قُلْنَا. قَوْله: (قَاتل ابْن قوقل) ، هُوَ النُّعْمَان بن مَالك، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (وَاعجَبا) بِالتَّنْوِينِ، ويروى بِدُونِهِ، وَكلمَة: واهنا اسْم لأعجب، وانتصاب عجبا بِهِ. قَوْله: (لوبر) ، بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا رَاء، قَالَ ابْن قرقول: كَذَا لأكْثر الروَاة بِسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي دويبة غبراء، وَيُقَال: بَيْضَاء على قدر السنور حَسَنَة الْعَينَيْنِ من دَوَاب الْجبَال، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِك احتقاراً، وضبطها بَعضهم بِفَتْح الْبَاء، وتأوله: جمع وبرة وَهُوَ شعر الْإِبِل أَي: إِن شَأْنه كشأن الْوَبرَة، لِأَنَّهُ لم يكن لأبي هُرَيْرَة عشيرة. وَقَالَ الْخطابِيّ: أَحسب أَنَّهَا تُؤْكَل، لِأَنِّي وجدت بعض السّلف يُوجب فِيهَا الْفِدْيَة. وَقَالَ الْقَزاز: هِيَ سَاكِنة الْبَاء: دويبة أَصْغَر من السنور، طحلاء اللَّوْن، يَعْنِي: تشبه الطحال لَا ذَنْب لَهَا، وَهِي من دَوَاب الْغَوْر، وَالْجمع: وبار، وَفِي (الْمُحكم (: على قدر السنور، وَالْأُنْثَى وبرة، وَالْجمع؛ وبر ووبور ووبار ووبار وابارة. وَفِي (الصِّحَاح) ؛ ترحن فِي الْبيُوت: أَي: تقيم بهَا وتألفها. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي كتاب (المغيث) : يجب على الْمحرم فِي قَتلهَا شَاة لِأَنَّهَا تجتز كالشاة، وَقيل؛ لِأَن لَهَا كرشاً كالشاة، وَفِي (مجمع الغرائب) عَن مُجَاهِد: فِي الْوَبر شَاة، فَذكر مثله. وَفِي (البارع) : لأبي عَليّ بن أبي حَاتِم: الطائيون يَقُولُونَ لما يكون فِي الْجبَال من الحشرات: الْوَبر، وَجَمعهَا: الوبارة، ولغة أُخْرَى الإبارة بِالْكَسْرِ والهمز، وَقَالَ ابْن بطال: وَإِنَّمَا سكت أَبُو هُرَيْرَة عَن أبان فِي قَوْله هَذَا لِأَنَّهُ لم يرمه بِشَيْء ينقص دينه، إِنَّمَا ينقصهُ بقلة الْعَشِيرَة وَالْعدَد أَو لضعف الْمِنَّة. قَوْله: (تدلى علينا) ، أَي: انحدر، وَلَا يخبر بِهَذَا إلاَّ عَمَّن جَاءَ من مَكَان عَال. قَالَ الطَّبَرِيّ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْعَرَب. قَوْله: (من قدوم ضان) ، قَالَ ابْن قرقول: هُوَ بِفَتْح الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال: اسْم مَوضِع، وَضم الْمروزِي الْقَاف وَالْأول أَكثر، وتأوله بَعضهم قدوم ضان، أَي: الْمُتَقَدّم مِنْهَا، وَهِي رؤوسها، وَهُوَ وهم بيِّن. وَقَالَ ابْن بطال: يحْتَمل أَن يكون جمع: قادم مثل: رُكُوع وَرَاكِع، وَسُجُود وَسَاجِد، وَيكون الْمَعْنى: تدلى علينا من جملَة القادمين، أَقَامَ الصّفة مقَام الْمَوْصُوف، وَيكون: من، فِي قَوْله: من قدوم، تبيينا للْجِنْس، كَمَا لَو قَالَ: تدلى علينا من سَاكِني ضان، وَلَا تكون من مرتبطة بتدلي، كَمَا هِيَ مرتبطة بِالْفِعْلِ فِي قَوْلك تدليت من الْجَبَل لِاسْتِحَالَة تدليه من قوم، لِأَنَّهُ لَا يُقَال: تدليت من بني فلَان، قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون قدوم مصدرا وصف بِهِ

(14/124)


الفاعلون، وَيكون فِي الْكَلَام حذف وَتَقْدِيره: تدلى علينا من ذَوي قدوم، فَحذف الْمَوْصُوف وَأقَام الْمصدر مقَامه، كَمَا لَو قَالُوا: رجل صَوْم، أَي: ذُو صَوْم، و: من، على هَذَا التَّقْدِير أَيْضا تَبْيِين للْجِنْس، كَمَا كَانَت فِي الْوَجْه الأول. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: تدلى علينا من مَكَان قدوم ضَأْن، ثمَّ حذف الْمَكَان وَأقَام الْقدوم مَكَانَهُ، كَمَا قَالَت الْعَرَب: ذهب بِهِ مَذْهَب، وسلك بِهِ مَسْلَك، يُرِيد الْمَكَان الَّذِي يسْلك فِيهِ وَيذْهب، وَيشْهد لهَذَا رِوَايَة: (من رَأس ضان) ، وَيحْتَمل أَن يكون إسماً لمَكَان قدوم بِفَتْح الْقَاف دون الضَّم لقلَّة الضَّم فِي هَذَا الْبناء فِي الْأَسْمَاء وَكَثْرَة الْفَتْح، وَيحْتَمل أَن يكون قدوم ضَأْن بتَشْديد الدَّال وَفتح الْقَاف: لَو ساعدته رِوَايَة، لِأَنَّهُ من بِنَاء أَسمَاء الْمَوَاضِع، وطرف الْقدوم مَوضِع بِالشَّام، وَعَن ابْن دُرَيْد: قدوم ثنية بسراة أَرض دوس، وَقَالَ أَبُو عبيد: رَوَاهُ النَّاس عَن البُخَارِيّ، ضَأْن، بالنُّون إلاَّ الْهَمدَانِي فَإِنَّهُ رَوَاهُ: (من قدوم ضال) ، بِاللَّامِ وَهُوَ الصَّوَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. والضال السدر الْبري، وَأما إِضَافَة هَذِه الثَّنية إِلَى الضَّأْن فَلَا أعلم لَهَا معنى. وَقد مر عَن أبي دَاوُد أَنه بِاللَّامِ، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: كَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَزعم أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ أَن: ضان، بالنُّون جبل بِأَرْض دوس بلد أبي هُرَيْرَة، وَقيل: ثنية. قَوْله: (ينعي عَليّ) من نعيت على الرجل فعله إِذا عبته عَلَيْهِ. قَوْله: (قتل رجل) ، بِالنّصب مفعول، ينعى: أَي ينعي عَليّ بِأَنِّي قتلت رجلا أكْرمه الله على يَدي، حَيْثُ صَار شَهِيدا بواسطتي، وَلم يكن بِالْعَكْسِ، إِذْ لَو صرت مقتولاً بِيَدِهِ لصرت مهاناً من أهل النَّار، إِذا لم أكن حِينَئِذٍ مُسلما. قَوْله: (قَالَ: فَلَا أَدْرِي أسْهم لَهُ) ، وَهُوَ من قَول ابْن عُيَيْنَة أَو من دونه، إِلَى شيخ البُخَارِيّ، قَالَه ابْن التِّين. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) ، أَي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحميدِي فِي (مُسْنده) : عَن سُفْيَان: وحدثنيه السعيدي أَيْضا، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي عمر: عَن سُفْيَان سَمِعت السعيدي. قَوْله: (وحدثنيه السعيدي) ، مَعْطُوف على قَوْله: حَدثنَا الزُّهْرِيّ، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) ، هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، هَذَا وَقع هَكَذَا ولغير أبي ذَر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: أَن الرجل قد يوبخ بِمَا قد سلف إلاَّ أَن يَتُوب فَلَا توبيخ عَلَيْهِ، وَلَا تَثْرِيب ألاَ يُرى أَن أَبَا هُرَيْرَة لم يوبخ ابْن سعيد بن الْعَاصِ على قتل ابْن قوقل، كَيفَ رد عَلَيْهِ أقبح الرَّد، وَصَارَت لَهُ عَلَيْهِ الْحجَّة، كَمَا صَارَت لآدَم على مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، من أجل أَنه وبخه بعد التَّوْبَة من الذَّنب. وَفِيه: أَن التَّوْبَة تمحو مَا سلف قبلهَا من الذُّنُوب: الْقَتْل وَغَيره، لقَوْله: أكْرمه الله على يَدي وَلم يهنيء على يَدَيْهِ، لِأَن ابْن قوقل وَجَبت لَهُ الْجنَّة بقتل ابْن سعيد لَهُ، وَلم يجب لِابْنِ سعيد النَّار لِأَنَّهُ أسلم وَمَات. ويصحح، هَذَا سُكُوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قَوْله: وَلَو كَانَ غير صَحِيح لما لزمَه السُّكُوت، لِأَنَّهُ بعث للْبَيَان. وَفِيه: قيل: حجَّة على الْكُوفِيّين فِي قَوْلهم فِي المدد: يلْحق بالجيش فِي أَرض الْحَرْب بعد الْغَنِيمَة أَنهم شركاؤهم فِي الْغَنِيمَة وَسَائِر الْعلمَاء إِنَّمَا تجب الْغَنِيمَة عِنْدهم لمن شهد الْوَقْعَة، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأَن سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُسهم لَهُم، وَأَبُو حنيفَة إِنَّمَا يُسهم لمن غَابَ عَن الْوَقْعَة لشغل شغله بِهِ الإِمَام من أُمُور الْمُسلمين، كَمَا فعل بعثمان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حِين قسم لَهُ من غَنَائِم بدر بِسَهْم وَلم يحضرها، لِأَنَّهُ كَانَ غَائِبا فِي حَاجَة الله وَرَسُوله، فَكَانَ كمن حضرها أَو مثل أَن يَبْعَثهُ الإِمَام لقِتَال قوم آخَرين فَيُصِيب الإِمَام غنيمَة بعد مُفَارقَة الرجل إِيَّاه، أَو يبْعَث رجلا، مِمَّن مَعَه فِي دَار الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام ليمده بسلاح وَرِجَال فَلَا يعود ذَلِك الرجل إِلَى الإِمَام حَتَّى يقسم غنيمه، فَهُوَ شريك فِيهَا وَهُوَ كمن حضرها، وَكَذَلِكَ كل من أَرَادَ الْغَزْو فَرده الإِمَام وشغله بِشَيْء من أُمُور الْمُسلمين فَهُوَ كمن حضرها. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: وَأما حَدِيث أبي هُرَيْرَة فَإِنَّمَا ذَلِك وَالله أعلم لِأَنَّهُ وَجه أبان لنجد قبل أَن يتهيأ خُرُوجه إِلَى خَيْبَر، فَتوجه أبان ثمَّ حدث خُرُوجه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى خَيْبَر فَكَانَ مَا غَابَ فِيهِ أبان لَيْسَ هُوَ شغل شغل بِهِ عَن حُضُورهَا بعد إِرَادَته إِيَّاهَا، فَيكون كمن حضرها.

92 - (بابُ منِ اخْتَارَ الغَزْوَ عَلى الصَّوْمِ)

أَي: هَذَا بَاب من اخْتَار الْغَزْو على الصَّوْم لِئَلَّا يضعف بدنه بِالصَّوْمِ عَن الْقيام بِأُمُور الْغَزْو، وَأَيْضًا فالمجاهد يكْتب لَهُ أجر الصَّائِم الْقَائِم، وَقد مثله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالصائم لَا يفْطر والقائم لَا يفتر.

8282 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا ثابتٌ البُنانِيُّ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كانَ أبُو طَلْحَةَ لَا يَصُوم علَى عهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ أجْلِ الغَزْوِ فلَمَّا قُبِضَ

(14/125)


النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ أرَهُ مُفْطِرَاً إلاَّ يَوْمَ فِطْر أوْ أضْحًى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وثابت، بالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن أسلم أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ الْبنانِيّ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف النُّون الأولى وَكسر الثَّانِيَة: نِسْبَة إِلَى بنانة، وهم ولد سعد بن لؤَي، وبنانة زَوْجَة سعد، وَقيل: كَانَت أمة لَهُ.
والْحَدِيث من أَفْرَاده وَأَبُو طَلْحَة زوج أم أنس، واسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَة اعْتمد على قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تقووا لعدوكم بالإفطار وَكَانَ فَارس الْحَرْب وَمن لَهُ الِاجْتِهَاد فِيهَا، فَلذَلِك كَانَ يفْطر ليتقوى على الْعَدو، وَهَذَا يدل على فضل الْجِهَاد على سَائِر أَعمال التَّطَوُّع، فَلَمَّا مَاتَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَوي الْإِسْلَام واشتدت وطأته على الْعَدو، وَرَأى أَنه فِي سَعَة عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ من الْجِهَاد، رأى أَن يَأْخُذ بحظه من الصَّوْم ليجمع لَهُ هَاتَانِ الطاعتان العظيمتان، وليدخل يَوْم الْقِيَامَة من بَاب الريان.
قَوْله: (لم أره مُفطرا) هَذَا من كَلَام أنس، أَي: لم أر أَبَا طَلْحَة يفْطر (إِلَّا يَوْم فطر أَو أضحى) أَي: أَو يَوْم أضحى، وَكَانَ لَا يصومهما للنَّهْي الْوَارِد فِيهِ، وَيدخل فِيهِ صَوْم أَيَّام التَّشْرِيق. قَالُوا: هَذَا خلاف مَا كَانَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاء. فَإِن قلت: روى الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس: أَن أَبَا طَلْحَة أَقَامَ بعد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ سنة لَا يفْطر إلاَّ يَوْم فطر أَو أضحى. قلت: هُنَا مأخذان على الْحَاكِم. أَحدهمَا: أَن أصل الحَدِيث فِي البُخَارِيّ، فَلَا يَصح الِاسْتِدْرَاك. وَالْآخر: أَن هَذَا الْمِقْدَار الَّذِي ذكره فِي حَيَاته بعد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لم يَعش بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ ثَلَاثًا أَو أَرْبعا وَعشْرين سنة، وَصرح بَعضهم بِأَن الزِّيَادَة فِي مِقْدَار حَيَاته بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غلط. قلت: التَّصْرِيح بالغلط غلط، لِأَن أَبَا عمر، قَالَ: قَالَ أَبُو زرْعَة: عَاشَ أَبُو طَلْحَة بِالشَّام بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ سنة يسْرد الصَّوْم، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: سَمِعت أَبَا نعيم يذكر ذَلِك عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس، أَنه يَعْنِي: أَن أَبَا طَلْحَة سرد الصَّوْم بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ سنة.

03 - (بابٌ الشَّهادَةُ سَبْعٌ سِوَى القَتْلِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الشَّهَادَة سبع أَي: سَبْعَة أَنْوَاع، وَكَونهَا سبعا بِاعْتِبَار الشُّهَدَاء، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيث جَابر بن عتِيك عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الشُّهَدَاء سَبْعَة أَنْوَاع سوى الْقَتْل فِي سَبِيل الله تَعَالَى: المطعون شَهِيد، والغريق شَهِيد، وَصَاحب ذَات الْجنب، شَهِيد، والمبطون شَهِيد، والحريق شَهِيد، وَالَّذِي يَمُوت تَحت الْهدم شَهِيد، وَالْمَرْأَة تَمُوت بِجمع شَهِيد ... الحَدِيث ... فِي (الْمُوَطَّأ) . قَوْله: (بِجمع) ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره عين مهلمة: بِمَعْنى الْمَجْمُوع، كالذخر بِمَعْنى المذخور، وَهُوَ أَن تَمُوت الْمَرْأَة وَفِي بَطنهَا ولد، وَقيل: الَّتِي تَمُوت بكرا، وَكسر الْكسَائي الْجِيم. وَفِي حَدِيث الْبَاب: الشُّهَدَاء خَمْسَة على مَا يَأْتِي. وروى الْحَارِث بن أبي أُسَامَة من حَدِيث أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الشُّهَدَاء ثَلَاثَة: رجل خرج بِنَفسِهِ وَمَاله صَابِرًا محتسباً لَا يُرِيد أَن يقتل وَلَا يقتل، فَإِن مَاتَ أَو قتل غفرت لَهُ ذنُوبه كلهَا، ويجار من عَذَاب الْقَبْر، ويؤمن من الْفَزع الْأَكْبَر، ويزوج من الْحور الْعين، ويخلع عَلَيْهِ حلَّة الْكَرَامَة، وَيُوضَع على رَأسه تَاج الْخلد. وَالثَّانِي: رجل خرج بِنَفسِهِ وَمَاله محتسباً يُرِيد أَن يقتل وَلَا يقتل، فَإِن مَاتَ أَو قتل كَانَت ركبته وركبة إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَين يَدي الله، عز وَجل، فِي مقْعد صدق. وَالثَّالِث: رجل خرج بِنَفسِهِ وَمَاله محتسباً يُرِيد أَن يقتل أَو يقتل، فَإِن مَاتَ أَو قتل فَإِنَّهُ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة شاهراً سَيْفه وَاضعه على عَاتِقه وَالنَّاس جاثون على الركب، يَقُول: أفسحوا لنا فَإنَّا قد بذلنا دماءنا لله، عز وَجل، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَو قَالَ ذَلِك لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَو لنَبِيّ من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لتنحى لَهُم عَن الطَّرِيق لما يرى من حَقهم، وَلَا يسْأَل الله شَيْئا إِلَّا أعطَاهُ، وَلَا يشفع فِي أحد إلاَّ شفع فِيهِ وَيُعْطى فِي الْجنَّة مَا أحب ... الحَدِيث بِطُولِهِ.
وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث فضَالة بن عبيد، يَقُول: سَمِعت عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: الشُّهَدَاء أَرْبَعَة: رجل مُؤمن جيد الْإِيمَان لَقِي الْعَدو فَصدق الله حَتَّى قتل، فَذَاك الَّذِي يرفع النَّاس إِلَيْهِ أَعينهم يَوْم الْقِيَامَة، هَكَذَا، وَرفع رَأسه حَتَّى وَقعت قلنسوته، فَمَا أَدْرِي أقلنسوة عمر أَرَادَ أم قلنسوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: وَرجل مُؤمن جيد الْإِيمَان لَقِي الْعَدو فَكَأَنَّمَا ضرب جلده بشوك طلح من الْجُبْن أَتَاهُ سهم غرب فَقتله، فَهُوَ فِي الدرجَة الثَّانِيَة. وَرجل مُؤمن خلط عملا صَالحا فَصدق الله حَتَّى قتل فَذَاك، فِي الدرجَة الثَّالِثَة،

(14/126)


وَرجل مُؤمن أسرف على نَفسه، لَقِي الْعَدو فَصدق الله حَتَّى قتل فَذَاك فِي الدرجَة الرَّابِعَة. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت فِي تَرْجَمَة الْبَاب الشَّهَادَة سبع. وَفِي حَدِيث جَابر بن عتِيك: سَبْعَة، مُوَافق للتَّرْجَمَة، وَفِي حَدِيث الْبَاب: خَمْسَة، وَفِي حَدِيث أنس بن مَالك: ثَلَاثَة، وَفِي حَدِيث عمر بن الْخطاب: أَرْبَعَة.
وَجَاءَت أَحَادِيث أُخْرَى فِي هَذَا الْبَاب. مِنْهَا: فِي (الصَّحِيح) : من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد، وَمن قتل دون أَهله فَهُوَ شَهِيد، وَمن قتل دون دينه فَهُوَ شَهِيد، وَمن قتل دون دَمه فَهُوَ شَهِيد، وَمن وقصه فرسه أَو لدغته هَامة أَو مَاتَ على فرَاشه على أَي حتف شَاءَ الله فَهُوَ شَهِيد، وَمن حَبسه السُّلْطَان ظَالِما لَهُ أَو ضربه فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيد، وكل موتَة يَمُوت بهَا الْمُسلم فَهُوَ شَهِيد. وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: المرابط يَمُوت فِي فرَاشه فِي سَبِيل الله فَهُوَ شَهِيد، والشرق شَهِيد، وَالَّذِي يفترسه السَّبع شَهِيد. وَعند ابْن أبي عمر، من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَمن تردى من الْجبَال شَهِيد، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: وَصَاحب النظرة وَهُوَ الْمعِين والغريب شهيدان، قَالَ: وحديثهما حسن، وَلما ذكر الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيث ابْن عمر: الْغَرِيب شَهِيد، صَححهُ، وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة من مَاتَ مَرِيضا مَاتَ شَهِيدا وَوُقِيَ فتْنَة الْقَبْر، الحَدِيث، وَسَنَده جيد على رأى الْحَاكِم. وروى الْبَزَّار بِسَنَد صَحِيح عَن عبَادَة بن الصَّامِت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: من عشق وعف وكتم وَمَات مَاتَ شَهِيدا. وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث سُوَيْد بن مقرن: من قتل دون مظْلمَة فَهُوَ شَهِيد، وَعند التِّرْمِذِيّ، من حَدِيث معقل بن يسَار: من قَالَ حِين يصبح ثَلَاث مَرَّات: أعوذ بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَقَرَأَ ثَلَاث آيَات من آخر سُورَة الْحَشْر، فَإِن مَاتَ من يَوْمه مَاتَ شَهِيدا، وَقَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب. وَعند الثَّعْلَبِيّ من حَدِيث يزِيد الرقاشِي عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (من قَرَأَ آخر سُورَة الْحَشْر فَمَاتَ من ليلته مَاتَ شَهِيدا) ، وَعند الأجري: (يَا أنس {إِن اسْتَطَعْت أَن تكون أبدا على وضوء فافعل، فَإِن ملك الْمَوْت إِذا قبض روح العَبْد وَهُوَ على وضوء كتب لَهُ شَهَادَة) . وَعند أبي نعيم عَن ابْن عمر: (من صلى الضُّحَى وَصَامَ ثَلَاثَة أَيَّام من كل شهر وَلم يتْرك الْوتر كتب لَهُ أجر شَهِيد) . وَعَن جَابر: (من مَاتَ يَوْم الْجُمُعَة أَو لَيْلَة الْجُمُعَة أجِير من عَذَاب الْقَبْر، وَجَاء يَوْم الْقِيَامَة وَعَلِيهِ طَابع الشُّهَدَاء) ، قَالَ أَبُو نعيم: غَرِيب من حَدِيث جَابر. وَعند أبي مُوسَى، من حَدِيث عبد الْملك بن هَارُون بن عنبرة عَن أَبِيه عَن جده، يرفعهُ، فَذكر حَدِيثا فِيهِ: (والسل شَهِيد، والغريب شَهِيد) . وَفِي كتاب (الْأَفْرَاد والغرائب) : للدارقطني، من حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: (المحموم شَهِيد) . وَفِي (كتاب الْعلم) لأبي عمر: عَن أبي ذَر وَأبي هُرَيْرَة: (إِذا جَاءَ الْمَوْت طَالب الْعلم وَهُوَ على حَاله مَاتَ شَهِيدا) . وَفِي (الْجِهَاد) لِابْنِ أبي عَاصِم، من حَدِيث أبي سَلام عَن ابْن معانق الْأَشْعَرِيّ، عَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ: مَرْفُوعا: (من خرج بِهِ خراج فِي سَبِيل الله كَانَ عَلَيْهِ طَابع الشُّهَدَاء) وَفِي (التَّمْهِيد) : عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن فنَاء أمتِي بالطعن والطاعون) قَالَت: يَا رَسُول الله} أما الطعْن فقد عَرفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُون؟ قَالَ: (غُدَّة كَغُدَّة الْبَعِير تخرج فِي المراق والآباط، من مَاتَ مِنْهَا مَاتَ شَهِيدا) . وَفِي بِبَعْض الْآثَار: (المجنوب شَهِيد) ، يُرِيد صَاحب ذَات الْجنب. وَفِي الحَدِيث: (إِنَّهَا نخسة من الشَّيْطَان) .
وَهَذَا كَمَا رَأَيْت ترتقي الشُّهَدَاء إِلَى قريب من أَرْبَعِينَ. فَإِن قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الْعدَد الْمُخْتَلف صَرِيحًا، وَالْأَحَادِيث الْأُخَر أَيْضا. قلت: أما ذكر الْعدَد الْمُخْتَلف فَلَيْسَ على معنى التَّحْدِيد، بل كل وَاحِد من ذَلِك بِحَسب الْحَال وبحسب السُّؤَال وبحسب مَا تجدّد الْعلم فِي ذَلِك من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَن التَّنْصِيص على الْعدَد الْمعِين لَا يُنَافِي الزِّيَادَة، وَمَعَ هَذَا: الشَّهِيد الْحَقِيقِيّ هُوَ قَتِيل المعركة وَبِه أثر. أَو قَتله أهل الْحَرْب أَو أهل الْبَغي أَو قطاع الطَّرِيق، سَوَاء كَانَ الْقَتْل مُبَاشرَة أَو تسبباً أَو قَتله الْمُسلمُونَ ظلما وَلم يجب بقتْله دِيَة، فَالْحكم فِيهِ أَن يُكفن وَيصلى عَلَيْهِ وَلَا يغسل ويدفن بدمه وَثيَاب إلاَّ مَا لَيْسَ من جنس الْكَفَن: كالفرو والحشو وَالسِّلَاح الْمُعَلق عَلَيْهِ، وَيُزَاد وَينْقص، هَذَا كُله عِنْد أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة. وَعند الشَّافِعِي: من مَاتَ فِي قتال أهل الْحَرْب فَهُوَ شَهِيد، سَوَاء كَانَ بِهِ أثر أَو لَا، وَمن قتل ظلما فِي غير قتال الْكفَّار أَو خرج فِي قِتَالهمْ وَمَات بعد انْفِصَال الْقِتَال، وَكَانَ بِحَيْثُ يقطع بِمَوْتِهِ فَفِيهِ قَولَانِ: فِي قَول: لم يكن شَهِيدا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَفِي (المغنى) : إِذا مَاتَ فِي المعترك فَإِنَّهُ لَا يغسل،

(14/127)


رِوَايَة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم، وَلَا نعلم فِيهِ خلافًا إِلَّا عَن الْحسن وَابْن الْمسيب فَإِنَّهُمَا قَالَا: يغسل الشَّهِيد وَلَا يعْمل بِهِ، وَأما مَا عدا مَا ذَكَرْنَاهُمْ الْآن فهم شُهَدَاء حكما لَا حَقِيقَة، وَهَذَا فضل من الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة بِأَن جعل مَا جرى عَلَيْهِم تمحيصاً لذنوبهم وَزِيَادَة فِي أجرهم بَلغهُمْ بهَا دَرَجَات الشُّهَدَاء الْحَقِيقِيَّة ومراتبهم، فَلهَذَا يغسلون وَيعْمل بهم مَا يعْمل بِسَائِر أموات الْمُسلمين. وَفِي (التَّوْضِيح) : الشُّهَدَاء ثَلَاثَة أَقسَام: شَهِيد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَهُوَ الْمَقْتُول فِي حَرْب الْكفَّار بِسَبَب من الْأَسْبَاب، وشهيد فِي الْآخِرَة دون أَحْكَام الدُّنْيَا، وهم من ذكرُوا آنِفا. وشهيد فِي الدُّنْيَا دون الْآخِرَة، وَهُوَ من غل فِي الْغَنِيمَة وَمن قتل مُدبرا أَو مَا فِي مَعْنَاهُ.

9282 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبَرَنَا مالِكٌ عنْ سُمَيٍّ عنْ أبي صالِحٍ عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ المَطعُونُ والْمَبْطُونُ والغَرِقُ وصاحِبُ الْهَدْمِ والشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ الله..
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، لِأَن التَّرْجَمَة سبع، وَفِي الحَدِيث: خَمْسَة، وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا يدل على أَن البُخَارِيّ مَاتَ وَلم يهذب كتاب. وَأجِيب: بِأَن البُخَارِيّ أَرَادَ التَّنْبِيه على أَن الشَّهَادَة لَا تَنْحَصِر فِي الْقَتْل بل لَهَا أَسبَاب أخر، وَتلك الْأَسْبَاب اخْتلف الْأَحَادِيث فِيهَا، فَفِي بَعْضهَا: خَمْسَة، وَهُوَ الَّذِي صَحَّ عِنْد البُخَارِيّ، وَوَافَقَ شَرطه، وَفِي بَعْضهَا سبع، لَكِن لم يُوَافق شَرطه فنبه عَلَيْهِ فِي التَّرْجَمَة إِيذَانًا بِأَن الْوَارِد فِي عَددهَا من الْخَمْسَة أَو السَّبْعَة لَيْسَ على معنى التَّحْدِيد الَّذِي لَا يزِيد وَلَا ينقص، بل هُوَ إِخْبَار عَن خُصُوص فِيمَا ذكر، وَالله أعلم بحصرها. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْجَواب أَن بعض الروَاة نسي الْبَاقِي وَتمّ كَلَامه. قلت: وَفِيه نظر لَا يخفى. وَقَالَ بَعضهم: هَذِه التَّرْجَمَة لفظ حَدِيث آخر أخرجه مَالك من رِوَايَة جَابر بن عتِيك. قلت: قد ذكرنَا حَدِيثه عَن قريب، وَهَذَا لَيْسَ بِجَوَاب يجدي، لِأَن الْمَطْلُوب وجود الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين حَدِيث الْبَاب، لَا بَينهَا وَبَين حَدِيث آخر خَارج عَن الْكتاب، وَالْأَوْجه الْأَقْرَب مَا ذكرنَا بقولنَا. وَأجِيب: بِأَن البُخَارِيّ ... إِلَى آخِره.
وَسمي، بِضَم السِّين وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: أَبُو عبد الله، مولى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة الْقرشِي الْمدنِي، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات السمان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة وَفِي المرضى عَن أبي عَاصِم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز عَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (المطعون) ، هُوَ: الَّذِي مَاتَ فِي الطَّاعُون، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ الْمَوْت من الوباء. قَوْله: (والمبطون) ، أَي: العليل بالبطن. قَوْله: (وَالْغَرق) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء، وَهُوَ الَّذِي يَمُوت بِالْغَرَقِ، وَقيل: هُوَ الَّذِي غَلبه المَاء وَلم يغرق، فَإِذا غرق فَهُوَ غريق. قَوْله: (وَصَاحب الْهدم) ، قَالَ ابْن الْأَثِير: الْهدم، بِالتَّحْرِيكِ: الْبناء المهدوم فعل بِمَعْنى مفعول وبالسكون الْفِعْل نَفسه. قَوْله: (والشهيد فِي سَبِيل الله) ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: يلْزم مِنْهُ حمل الشَّيْء على نَفسه، التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي لِأَن قَوْله: (خَمْسَة) خبر للمبتدأ، أَو الْمَعْدُود بعده بَيَان لَهُ، وَأجَاب بِأَنَّهُ من بَاب قَول الشَّاعِر:
(أَنا أَبُو النَّجْم وشعري شعري)

فَافْهَم ...

0382 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخْبرنا عبْدُ الله قَالَ أخْبرنا عاصِمٌ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سيرِينَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
(الحَدِيث 0382 طرفه فِي: 2375) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن أحد السَّبْعَة الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة، وَاحِد الْخَمْسَة الَّتِي فِي الحَدِيث السَّابِق. وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد السّخْتِيَانِيّ الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي، وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان الْأَحول، وَحَفْصَة بنت سِيرِين هِيَ أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطِّبّ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْجِهَاد عَن حَامِد بن عمر.
قَوْله: (الطَّاعُون) ، هُوَ الْمَرَض الْعَام والوباء الَّذِي يفْسد لَهُ الْهَوَاء فتفسد بِهِ الأمزجة والأبدان، وَقيل: الطَّاعُون هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ الطعْن، وَهُوَ الوجع الْغَالِب الَّذِي ينطفي بِهِ الرّوح، كالذبحة وَنَحْوهَا، وروى أُسَامَة عَن رَسُول الله،

(14/128)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (والطاعون رجز أرسل على من كَانَ قبلكُمْ) ، وَإِنَّمَا سمي طاعوناً لعُمُوم مصابه وَسُرْعَة قَتله، فَيدْخل فِيهِ مثله مِمَّا يصلح اللَّفْظ لَهُ.