عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 301 - (بابُ مَنْ أرَادَ غَزْوَةً فوَرَّى
بِغَيْرِهَا ومنْ أحَبَّ الخُرُوجَ يَوْمَ الخَمِيس)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من أَمر من أَرَادَ
غَزْوَة فورى بغَيْرهَا، أَي: بِغَيْر تِلْكَ الْغَزْوَة
الَّتِي أرادها، يُرِيد بذلك غيرَة الْعَدو، وَلِئَلَّا
تسبقه الجواسيس ويحذروهم، وَأَصله من الوردي هُوَ جعل
الْبَيَان وَرَاءه وَحَاصِل الْمَعْنى لِأَنَّهُ ألقِي
الْبَيَان وَرَاء ظَهره، كَأَنَّهُ قَالَ: سأبينه،
وَأَصْحَاب الحَدِيث لَا يضبطون الْهمزَة فِيهِ، وَقَيده
السيرافي فِي (شرح سِيبَوَيْهٍ) بِالْهَمْزَةِ، وَكَانَ
الَّذِي لَا يضْبط فِيهِ الْهمزَة سهلها. قَوْله: (وَمن
أحب) أَي: وَفِي بَيَان أَمر من أحب الْخُرُوج للسَّفر
يَوْم الْخَمِيس، قَالَ بَعضهم: لَعَلَّ الْحِكْمَة فِيهِ
مَا روى من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بورك لأمتي
فِي بكورها يَوْم الْخَمِيس، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف أخرجه
الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث نبيط، بِضَم النُّون وَفتح
الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن شريط، بِفَتْح الشين
الْمُعْجَمَة. قلت: طلب الْحِكْمَة فِي ذَلِك بِالْحَدِيثِ
الضَّعِيف لَا وَجه لَهُ، وَالْحكمَة فِيهِ تعلم من حَدِيث
الْبَاب فَإِنَّهُ صرح فِيهِ أَنه كَانَ يحب أَن يخرج
يَوْم الْخَمِيس، ومحبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاه
لَا تَخْلُو عَن حِكْمَة، فَإِن قلت: روى أَنه خرج فِي بعض
أَسْفَاره يَوْم السبت. قلت: هَذَا لَا يُنَافِي ترك محبته
الْخُرُوج يَوْم الْخَمِيس، فَلَعَلَّ خُرُوجه يَوْم السبت
كَانَ لمَانع من خُرُوجه يَوْم الْخَمِيس، وَلَئِن سلمنَا
عدم الْمَانِع فَنَقُول: لَعَلَّه كَانَ يحب أَيْضا
الْخُرُوج يَوْم السبت، على مَا روى: بَارك الله فِي سبتها
وخميسها، وَلما لم يثبت عِنْد البُخَارِيّ إلاَّ يَوْم
الْخَمِيس، خصّه بِالذكر فَافْهَم فَإِنَّهُ من الدقائق.
7492 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخْبَرَنِي
عبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَبْدِ الله بنِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ
أنَّ عَبْدَ الله بنَ كَعْبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
وكانَ قائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ
بنَ مالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عنْ رَسُولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ولَمْ يَكُنْ رسولُ الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُريدُ غَزْوَةً إلاَّ ورَّى بِغَيْرِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعبد الرَّحْمَن بن عبد
الله بن كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ
الْمَدِينِيّ، سمع جده كَعْبًا وأباه وَعَمه عبد الله فِي
تَوْبَة كَعْب، وروى عَنهُ الزُّهْرِيّ فِي مَوَاضِع،
وَعبد الله بن كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ
الْمَدِينِيّ سمع أَبَاهُ عِنْد الشَّيْخَيْنِ وَابْن
عَبَّاس عِنْد البُخَارِيّ وَكَعب بن مَالك بن أبي كَعْب،
واسْمه: عَمْرو السّلمِيّ الْمدنِي الشَّاعِر صَاحب
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة
الَّذين تَابَ الله عَلَيْهِم، وَأنزل فيهم: {وعَلى
الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا} (التَّوْبَة: 811) . وَذكر
صَاحب (التَّلْوِيح) بعد ذكر هَذَا الحَدِيث والحديثين
اللَّذين بعده: خرجه السِّتَّة، وخرجه البُخَارِيّ مطولا
ومختصراً فِي عشرَة مَوَاضِع.
قَوْله: (وَكَانَ قَائِد كَعْب من بنيه) ، أَي: وَكَانَ
عبد الله بن كَعْب قَائِد أَبِيه كَعْب بن مَالك حِين عمي.
قَوْله: (من بنيه) وهم عبد الله هَذَا وَعبيد الله وَعبد
الرَّحْمَن، وَذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب ثَلَاثَة
أَحَادِيث كلهَا رَاجِعَة إِلَى كَعْب ابْن مَالك كَمَا
ترَاهُ.
8492 - وحدَّثني أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا
عَبْدُ الله أخْبَرَنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أخبرنِي عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ عَبْدِ الله بنِ كَعْبِ
بنِ مالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْب بنَ مالِكٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ يَقولُ كانَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إلاَّ ورَّى
بِغَيْرِهَا حتَّى كانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فغَزَاهَا
(14/216)
رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
حَرٍّ شَدِيدٍ واسْتَقْبَلَ سَفَرَاً بَعِيداً ومَفازاً
واسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوٍّ فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ
أمْرَهُمْ لِيَتَأهَّبُوا أُهْبَةَ عَدُوِّهِمْ
وأخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ..
هَذَا طَرِيق آخر لحَدِيث كَعْب أخرجه عَن أَحْمد بن
مُحَمَّد بن مُوسَى الَّذِي يُقَال لَهُ: ابْن السمسار
مرْدَوَيْه الْمروزِي عَن عبد الله ابْن الْمُبَارك عَن
يُونُس بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ،
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ الرِّوَايَة الأولى صَوَاب،
وَحَدِيث يُونُس مُرْسل، وَقَالَ الجياني: كَذَا هَذَا
الْإِسْنَاد عَن ابْن مرْدَوَيْه عَن ابْن الْمُبَارك فِي
(الْجَامِع) و (التَّارِيخ الْكَبِير) ، وَكَذَا رَوَاهُ
ابْن السكن وَأَبُو زيد ومشايخ أبي ذَر الثَّلَاثَة، وَلم
يلْتَفت الدَّارَقُطْنِيّ إِلَى قَول عبد الرَّحْمَن بن
عبد الله: سَمِعت كَعْبًا، لِأَنَّهُ عِنْده وهم، قَالَ
أَبُو عَليّ: وَقد رَوَاهُ معمر عَن الزُّهْرِيّ على نَحْو
مَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من الْإِرْسَال، قَالَ:
وَمِمَّا يشْهد لقَوْل أبي الْحسن مَا ذكره الذهلي فِي
(الْعِلَل) : سمع الزُّهْرِيّ من عبد الرَّحْمَن بن كَعْب
وَمن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن كَعْب، وَسمع من
أَبِيه عبد الله بن كَعْب، وَلَا أَظن سمع عبد الرَّحْمَن
بن عبد الله من جده شَيْئا، وَإِنَّمَا رِوَايَته عَن
أَبِيه وَعَمه، قَالَ الجياني: وَالْغَرَض من هَذَا كُله
الِاسْتِدْرَاك على البُخَارِيّ حَيْثُ خرجه على
الِاتِّصَال، وَهُوَ مُرْسل، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَو
كَانَ بدل: ابْن، كلمة: عَن، لصَحَّ الِاتِّصَال يَعْنِي:
لَو قَالَ أَخْبرنِي عبد الرَّحْمَن بن عبد الله عَن كَعْب
بن مَالك لِأَن عبد الرَّحْمَن سمع من أَبِيه عبد الله،
وَهُوَ من كَعْب، قَالَ: وَكَذَا لَو حذف عبد الله من
الْبَين. قلت: يحْتَمل أَن يكون ذكر: ابْن، مَوضِع: عَن
تصحيفاً من بعض الروَاة.
قَوْله: (حَتَّى كَانَت غَزْوَة تَبُوك) وَكَانَت فِي سنة
تسع من الْهِجْرَة فِي رَجَب مِنْهَا. قَوْله:
(وَمَفَازًا) ، الْمَفَازَة الْمهْلكَة، سميت بذلك تفاؤلاً
بالفوز والسلامة، كَمَا قَالُوا: للديغ: سليم، وَذكر ابْن
الْأَنْبَارِي عَن ابْن الْأَعرَابِي: أَنَّهَا مَأْخُوذَة
من قَوْلهم قد فوز الرجل: إِذا هلك، وَقيل: لِأَن من
قطعهَا فَازَ وَنَجَا. قَوْله: (فَجلى للْمُسلمين أمره) ،
بِالْجِيم أَي: أظهره لِيَتَأَهَّبُوا لذَلِك، وَهُوَ مخفف
اللَّام، يُقَال: جليت الشَّيْء إِذا كشفته وبينته
وأوضحته، وَفِي (التَّلْوِيح) : ضَبطه الدمياطي فِي حَدِيث
سعد فِي الْمَغَازِي بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ خطأ.
9492 - وعَنْ يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبَرَنِي
عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ كَعْبِ بنِ مالِكٍ أنَّ كَعْبَ بنَ
مالِكٍ رَضيَ الله عنْهُ كانَ يَقُولُ لَقَلَّمَا كانَ
رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَخْرُجُ إذَا خَرَج
فِي سَفَرٍ إلاَّ يَوْمَ الخَمِيسِ..
هَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول عَن عبد الله ابْن
الْمُبَارك عَن يُونُس ... إِلَى آخِره. قَوْله: (لقلما) ،
اللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد، وَقل، فعل ماضٍ دخلت عَلَيْهِ
كلمة: مَا مَعْنَاهُ: يكون خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي السّفر قَلِيلا فِي الْأَيَّام إلاَّ يَوْم
الْخَمِيس، فَإِن أَكثر خُرُوجه فِي السّفر فِيهِ، تَقول:
قل رجل يفعل كَذَا إلاَّ زيد، مَعْنَاهُ قَلِيل من النَّاس
يفعل هَذَا الْفِعْل الأزيد.
0592 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ
عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ عنْ أبِيهِ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ يَوْمَ الخَمِيسِ فِي غَزْوَةِ
تَبُوكَ وكانَ يُحِبُّ أنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الخَمِيسِ..
هَذَا طَرِيق آخر عَن عبد الله بن مُحَمَّد المسندي عَن
هِشَام بن يُوسُف عَن معمر بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد أَيْضا عَن
سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس بن يزِيد
عَن الزُّهْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن كَعْب بن مَالك عَن
كَعْب بن مَالك، قَالَ: قَلما كَانَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يخرج فِي سفر إلاَّ يَوْم الْخَمِيس،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد
عَن ابْن وهب عَن يُونُس بن يزِيد بِإِسْنَادِهِ. قَالَ:
قَلما كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج
فِي سفر جِهَاد وَغَيره إلاَّ يَوْم الْخَمِيس.
401 - (بابُ الخُرُوجِ بعْدَ الظُّهْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخُرُوج فِي السّفر بعد
الظّهْر.
(14/217)
1592 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ
قَالَ حدَّثناحَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عنْ أبِي قِلابةَ عَنْ
أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صلَّى بالمَدِينَةِ الظِّهْرَ أرْبَعَاً
والعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وسَمِعْتُهُمْ
يَصْرَخُونَ بِهِما جَميعاً..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد،
وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ، وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر
الْقَاف: عبد الله بن زيد الْجرْمِي. والْحَدِيث مضى فِي
كتاب الْحَج فِي: بَاب رفع الصَّوْت بالإهلال، فَإِنَّهُ
أخرجه هُنَاكَ بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، وَمضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (يصرخون) ، بِفَتْح
الرَّاء وَضمّهَا أَي: يلبّون بِرَفْع الصَّوْت. قَوْله:
(بهما) أَي: بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة.
501 - (بابُ الخُرُوجِ آخِرِ الشَّهْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْخُرُوج إِلَى السّفر
فِي آخر الشَّهْر، وَأَرَادَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة الرَّد
على من كره ذَلِك. وَقَالَ ابْن بطال: إِن أهل
الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يتحرون أَوَائِل الشُّهُور للأعمال
ويكرهون التَّصَرُّف فِي محاق الْقَمَر. قلت: المحاق من
الشَّهْر ثَلَاثَة أَيَّام من آخِره.
وقالَ كُرَيْبٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا انْطَلَقِ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مِنَ المَدِينَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ منْ ذِي القِعْدَةِ
وقَدِمَ مَكَّةَ لأِرْبَع لَيالٍ خَلَوْنَ منْ ذِي
الحِجَّةِ
هَذَا التَّعْلِيق قِطْعَة من حَدِيث وَصلهَا البُخَارِيّ
فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب
. فَإِن قلت: روى أَصْحَاب السّنَن وَابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) عَن صَخْر الغامدي بالغين الْمُعْجَمَة عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (بورك لأمتي
فِي بكورها) . قلت: هَذَا لَا يمْنَع جَوَاز التَّصَرُّف
فِي غير وَقت البكور، وَإِنَّمَا خص البكور بِالْبركَةِ
لكَونه وَقت النشاط. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قصد
البُخَارِيّ بِهَذَا الحَدِيث الرَّد على من كره ذَلِك
عملا بقول المنجم، وَقد اسْتشْكل هَذَا الحَدِيث، وَحَدِيث
عَائِشَة أَيْضا الَّذِي يَأْتِي الْآن، فَقيل: إِن كَانَ
سَفَره ذَلِك يَوْم السبت تبقى أَربع من ذِي الْقعدَة،
لِأَن الْخَمِيس كَانَ أول ذِي الْحجَّة، كَانَ أول ذِي
الْحجَّة، وَإِن كَانَ يَوْم الْخَمِيس فالباقي سِتّ وَلم
يكن خُرُوجه يَوْم الْجُمُعَة لقَوْل أنس: صلى الظّهْر
بِالْمَدِينَةِ أَرْبعا، وَالْجَوَاب أَن الْخُرُوج يَوْم
الْجُمُعَة. وَقَوله: (لخمس بَقينَ) ، أَي: فِي أذهانهم
حَالَة الْخُرُوج بِتَقْدِير تَمَامه، فاتفق إِن كَانَ
الشَّهْر نَاقِصا فَأخْبر بِمَا كَانَ فِي الأذهان يَوْم
الْخُرُوج، لِأَن الأَصْل التَّمام.
2592 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ
يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عبْدِ
الرَّحْمانِ أنَّهَا سَمِعَتْ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهَا تَقولُ خَرَجْنا مَعَ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِخَمْسِ لَيالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي
القَعْدَةِ وَلَا نُرَي إِلَّا الحَجَّ فلَمَّا دَنَوْنَا
مِنْ مَكَّةَ أمَرَ رسوُلُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إذَا طافَ بالبَيْتِ وسَعى
بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ أنْ يَحِلَّ قالَتْ عائِشَةُ
فَدُخِلَ علَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ فقلتُ
مَا هَذَا فقالَ نَحَرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عنْ أزْوَاجِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْلهَا: (خرجنَا مَعَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لخمس لَيَال بَقينَ من ذِي
الْقعدَة) فَإِنَّهَا آخر الشَّهْر، وَهَذَا الحَدِيث مضى
فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب ذبح الرجل الْبَقر عَن
نِسَائِهِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن
يُوسُف عَن مَالك عَن يحيى بن سعيد إِلَى آخِره نَحوه.
قَوْله: (وَلَا نرى) أَي: وَلَا نظن. قَوْله: (فَدخل
علينا) ، بِضَم الدَّال على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله:
(فَقَالَ نحر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ،
ويروى: قَالُوا: وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قالَ يَحْيى فَذَكَرْتُ هذَا الحَدِيثَ لِلْقَاسِمِ بنِ
مُحَمَّدٍ فقالَ أتَتْكَ وَالله بالحَدِيثِ على وجْهِهِ
(14/218)
يحيى هم ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ
الْمَذْكُور فِي سَنَد الحَدِيث، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد
بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله:
(أتتك) أَي: عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن، وَالله أعلم.
601 - (بابُ الخُرُوجِ فِي رَمَضانَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْخُرُوج فِي السّفر
فِي شهر رَمَضَان، وَفِيه رد على من يتوهك كَرَاهَة ذَلِك.
3592 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ قالَ حدَّثني الزُّهْرِيُّ عنْ عُبَيْدِ الله عنِ
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ خَرَجَ
النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رَمَضَانَ فَصامَ
حَتَّى بلَغَ الكَدِيدَ أفْطَرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعلي بن عبد الله الَّذِي
يُقَال لَهُ: ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن
عُيَيْنَة، وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة ابْن
مَسْعُود الْهُذلِيّ. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّوْم
فِي: بَاب من صَامَ أَيَّامًا من رَمَضَان ثمَّ سَافر
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله ابْن يُوسُف عَن
مَالك عَن ابْن شهَاب وَهُوَ الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره
نَحوه، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. و: (الكديد)
بِفَتْح الْكَاف وَكسر الدَّال الْمُهْملَة الأولى مَوضِع
قريب من مَكَّة على نَحْو مرحلَتَيْنِ مِنْهَا.
قالَ سُفْيانُ قالَ الزُّهْرِيُّ أخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ وساقَ الحَدِيثَ
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، قَالَ مُحَمَّد بن
مُسلم الزُّهْرِيّ: أَخْبرنِي عبيد الله، وَأَشَارَ
بِهَذَا إِلَى أَن سُفْيَان قَالَ فِي الحَدِيث
الْمَذْكُور: حَدثنِي الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله فروى عَن
الزُّهْرِيّ بِالتَّحْدِيثِ وروى الزُّهْرِيّ بالعنعنة عَن
عبيد الله، وَهنا قَالَ سُفْيَان: قَالَ الزُّهْرِيّ،
بِلَا تحديث وَلَا عنعنة، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: أَخْبرنِي
عبيد الله ... فروى عَنهُ بِصِيغَة الْإِخْبَار.
قالَ أبُو عَبْدِ الله هَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وإنَّمَا
يُؤْخَذُ بالآخِرِ مِنْ فِعْلِ رَسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا هَكَذَا وَقع فِي بعض النّسخ وَأَبُو عبد الله هُوَ
البُخَارِيّ نَفسه، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن مَذْهَب
الزُّهْرِيّ لَعَلَّه أَن طرُو السّفر فِي رَمَضَان لَا
يُبِيح الْإِفْطَار لِأَنَّهُ شهد الشَّهْر فِي أَوله
كطروه فِي أثْنَاء الْيَوْم، فَقَالَ البُخَارِيّ: يُؤْخَذ
بِالْآخرِ من فعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لِأَنَّهُ نَاسخ للْأولِ، وَقد أفطر عِنْد الكديد.
701 - (بابُ التَّوْدِيعِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة التوديع عِنْد
السّفر، وَلَفظه بتناول توديع الْمُسَافِر للمقيم ويتناول
أَيْضا عَكسه، وَحَدِيث الْبَاب يشْهد للْأولِ وَيُؤْخَذ
الثَّانِي مِنْهُ بطرِيق الأولى، بل هُوَ الْغَالِب فِي
الْوُقُوع.
4592 - وقالَ ابنُ وَهْبٍ أخْبَرَنِي عَمْرٌ وعنْ بُكَيْرٍ
عنْ سُلَيُمَانَ بنِ يَسارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ قالَ بَعَثَنَا رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَعْثٍ وَقَالَ لَنا إنْ
لَقِيتُمْ فُلاناً وفُلاناً لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ
سَمَّاهُما فَحَرِّقُوهُما بالنَّارِ قَالَ ثُمَّ
أتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أرَدْنَا الخُرُوجَ فَقَالَ
إنِّي كُنْتُ أمَرْتُكُمْ أَن تُحَرِّقُوا فُلاناً
وفُلاناً بالنَّارِ وإنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِها
إِلَّا الله فإنْ أخَذْتُمُوهُما فاقْتُلُوهُما.
(الحَدِيث 4592 طرفه فِي: 6103) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ أتيناه نودعه)
وَهُوَ توديع الْمُسَافِر للمقيم فِي ظَاهر الحَدِيث، وَقد
مر الْكَلَام فِيهِ الْآن، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن
وهب الْمصْرِيّ، وَعَمْرو، بِفَتْح الْعين: هُوَ ابْن
الْحَارِث الْمصْرِيّ، وَبُكَيْر، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة: تَصْغِير بكر بن عبد الله بن الْأَشَج،
وَسليمَان بن يسَار ضد الْيَمين.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه هُنَا مُعَلّقا، وَأخرجه أَيْضا
فِي كتاب الْجِهَاد بعد عدَّة أَبْوَاب مُسْندًا، وَترْجم
بقوله: بَاب لَا يعذب بِعَذَاب الله، ثمَّ قَالَ: حَدثنَا
قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا اللَّيْث عَن بكير عَن
سُلَيْمَان عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
إِلَى آخِره نَحوه، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَزَاد أَبُو دَاوُد وَيزِيد بن
خَالِد عَن اللَّيْث. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن
الْحَارِث بن مِسْكين وَيُونُس بن عبد الْأَعْلَى،
كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث
(14/219)
وَزَاد النَّسَائِيّ وَذكر آخر، كِلَاهُمَا
عَن بكير.
قَوْله: (عَن بكير عَن سُلَيْمَان) ، وَفِي رِوَايَة
أَحْمد من حَدِيث هَاشم بن الْقَاسِم عَن اللَّيْث حَدثنِي
بكير بن عبد الله بن الْأَشَج، وأوضح بنسبته وبالتحديث.
قَوْله: (عَن أبي هُرَيْرَة) كَذَا وَقع فِي جَمِيع الطّرق
عَن اللَّيْث لَيْسَ لين سُلَيْمَان بن يسَار وَأبي
هُرَيْرَة أحد، وَكَذَا وَقع عِنْد النَّسَائِيّ وَرَوَاهُ
مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي السِّيرَة وَأدْخل بَين
سُلَيْمَان وَأبي هُرَيْرَة رجلا وَهُوَ أَبُو إِسْحَاق
الدوسي، وَأخرجه الدَّارمِيّ وَابْن السكن وَابْن حبَان
فِي (صَحِيحه) من طَرِيق ابْن إِسْحَاق، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَقد ذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق بَين
سُلَيْمَان بن يسَار وَبَين أبي هُرَيْرَة رجلا فِي هَذَا
الحَدِيث، وروى غير وَاحِد مثل رِوَايَة اللَّيْث وَحَدِيث
اللَّيْث بن سعد أشبه وَأَصَح. انْتهى. وَسليمَان بن يسَار
صَحَّ سَمَاعه من أبي هُرَيْرَة، وَهَذَا الرجل ذكره أَبُو
أَحْمد الْحَاكِم فِي (الكنى) فِيمَن تكنى بِأبي إِسْحَاق
وَلم يقف لَهُ على إسم، وَلم يذكر لَهُ رَاوِيا غير
سُلَيْمَان بن يسَار، وَقَالَ: حَدِيثه فِي أهل الْحجاز،
وَذكره صَاحب (الْمِيزَان) فِي الكنى، وَقَالَ: أَبُو
إِسْحَاق الدوسي عَن أبي هُرَيْرَة مَجْهُول، وَسَماهُ
ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) إِبْرَاهِيم فِي رِوَايَته
هَذَا الحَدِيث: عَن عبد الرَّحْمَن بن سُلَيْمَان عَن أبي
إِسْحَاق بن يزِيد بن حبيب عَن بكير بن عبد الله بن
الْأَشَج، فَذكره. قَوْله: (فِي بعث) ، أَي: فِي جَيش،
وَكَانَ أَمِير هَذَا الْبَعْث حَمْزَة بن عَمْرو
الْأَسْلَمِيّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد
بن حَمْزَة بن عَمْرو الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه أَن رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أمره على سَرِيَّة، قَالَ:
فَخرجت فِيهَا، وَقَالَ: إِن وجدْتُم فلَانا فاحرقوه
بالنَّار، فوليت فناداني فَرَجَعت إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِن
وجدْتُم فلَانا فَاقْتُلُوهُ وَلَا تحرقُوهُ، فَإِنَّهُ
لَا يعذب بالنَّار إلاَّ رب النَّار. وَهَذَا كَمَا
رَأَيْت ذكر فلَانا بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة
البُخَارِيّ وَغَيره: فلَانا وَفُلَانًا وهما: هَبَّار بن
الْأسود وَالرجل الَّذِي سبق مِنْهُ إِلَى زَيْنَب بنت
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا سبق وَكَانَ
زَوجهَا أَبُو الْعَاصِ بن الرّبيع لما أسره الصَّحَابَة
ثمَّ أطلقهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من
الْمَدِينَة شَرط عَلَيْهِ أَن يُجهز إِلَيْهِ ابْنَته
زَيْنَب فجهزها، فتبعها هَبَّار بن الْأسود ورفيقه فنخسا
بَعِيرهَا فَأسْقطت ومرضت من ذَلِك، وَفِي رِوَايَة سعيد
بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن أبي نجيح: أَن
هَبَّار بن الْأسود أصَاب زَيْنَب بنت رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْء وَهِي فِي خدرها، فَأسْقطت،
فَبعث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَرِيَّة
فَقَالَ: إِن وجدتموه فَاجْعَلُوهُ بَين حزمتي حطب ثمَّ
أشعلوا فِيهِ النَّار. ثمَّ قَالَ: إِنِّي لأستحيى من
الله، لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يعذب بِعَذَاب الله، فَكَانَ
إِفْرَاد هَبَّار هُنَا بِالذكر لكَونه كَانَ الأَصْل فِي
ذَلِك، وَالْآخر كَانَ تبعا لَهُ، وَسَماهُ ابْن السكن فِي
رِوَايَته من طَرِيق إِبْنِ إِسْحَاق: نَافِع بن عبد قيس،
وَكَذَا نَص عَلَيْهِ ابْن هِشَام فِي سيرته، وَحكى
السُّهيْلي عَن (مُسْند الْبَزَّار) أَنه: خَالِد بن عبد
قيس، قيل: لَعَلَّه تصحف عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ
نَافِع، كَذَلِك هُوَ فِي النّسخ الْمُعْتَمدَة من مُسْند
الْبَزَّار، وَكَذَلِكَ أوردهُ ابْن بشكوال من (مُسْند
الْبَزَّار) وَأخرجه مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي شيبَة
فِي تَارِيخه من طَرِيق ابْن لَهِيعَة كَذَلِك، وَأما
هَبَّار، فَهُوَ بِفَتْح الْهَاء وَتَشْديد الْبَاء
الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء: ابْن الْأسود بن الْمطلب بن
أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي الْقرشِي الْأَسدي، قَالَ
أَبُو عمر: ثمَّ أسلم هَبَّار بعد الْفَتْح وَحسن
إِسْلَامه وَصَحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكر
الزبير أَنه لما أسلم وَقدم مُهَاجرا جعلُوا يَسُبُّونَهُ،
فَذكر ذَلِك لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ: سبّ من سبك فَانْتَهوا عَنهُ. قَوْله: (وَإِن
النَّار لَا يعذِّب بهَا إلاَّ الله) هُوَ خبر بِمَعْنى
النَّهْي، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن لَهِيعَة: وَإنَّهُ
لَا يَنْبَغِي، وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق: ثمَّ
رَأَيْت أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يعذب بالنَّار إلاَّ الله،
وَقَالَ الْمُهلب: لَيْسَ نَهْيه عَن التحريق بالنَّار على
معنى التَّحْرِيم، وَإِنَّمَا هُوَ على سَبِيل التَّوَاضُع
لله تَعَالَى، وَالدَّلِيل على أَنه لَيْسَ بِحرَام سمل
أعين الرُّعَاة بالنَّار فِي مصلى الْمَدِينَة بِحَضْرَة
الصَّحَابَة، وتحريق الْخَوَارِج بالنَّار، وَأكْثر
عُلَمَاء الْمَدِينَة يجيزون تحريق الْحُصُون على أَهلهَا
بالنَّار، وَقَول أَكْثَرهم بتحريق المراكب، وروى ابْن
شاهين من حَدِيث صَالح بن حبَان عَن ابْن بُرَيْدَة عَن
أَبِيه: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث رجلا
إِلَى رجل كذب عَلَيْهِ ...
. وَفِي امْرَأَة وَاقعهَا فَقَالَ: إِن وجدته حَيا
فاقتله، وَإِن وجدته مَيتا فحرقه بالنَّار، فَوَجَدَهُ لدغ
فَمَاتَ فحرقه. وَفِي الحَدِيث أَن نَبيا من
الْأَنْبِيَاء، صلوَات الله عَلَيْهِم، قرصته نملة، فَأمر
بقرية النَّمْل فأحرقت، فَقَالَ الله لَهُ: هلاَّ نملة
وَاحِدَة؟ قَالَ الْحَكِيم فِي (نَوَادِر الْأُصُول) :
وَهُوَ إِذن فِي إحراقها، لِأَنَّهُ إِذا جَازَ إحراق
وَاحِدَة جَازَ فِي غَيرهَا، وَقَالُوا: لَا حجَّة فِيمَا
ذكر للْجُوَاز، لِأَن قصَّة العرنيين كَانَت قصاصا أَو
مَنْسُوخَة، وتجويز الصَّحَابِيّ معَارض بِمَنْع صَحَابِيّ
آخر، وقصة الْحُصُون والمراكب مُقَيّدَة بِالضَّرُورَةِ
إِلَى ذَلِك إِذا تعين طَرِيقا للظفر بالعدو،
(14/220)
وَمِنْهُم من قَيده بِأَن لَا يكون مَعَهم
نسَاء وَلَا صبيان، وَقيل: حَدِيث الْبَاب يرد هَذَا كُله،
لِأَن ظَاهر النَّهْي فِيهِ التَّحْرِيم، وَهُوَ نسخ
لأَمره الْمُتَقَدّم، سَوَاء كَانَ ذَلِك بِوَحْي أَو
بِاجْتِهَاد مِنْهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ
ابْن الْعَرَبِيّ فِي هَذَا نسخ الحكم قبل الْعَمَل بِهِ.
وَمنع مِنْهُ المبتدعة والقدرية، وَقَالَ الْحَازِمِي:
ذهبت طَائِفَة إِلَى منع الإحراق فِي الْحُدُود، قَالُوا:
يقتل بِالسَّيْفِ، وَإِلَيْهِ ذهب أهل الْكُوفَة
النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وَمن
الْحِجَازِيِّينَ: عَطاء، وَذَهَبت طَائِفَة فِي حق
الْمُرْتَد إِلَى مَذْهَب عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَقَالَت طَائِفَة: من حرق يحرق، وَبِه قَالَ مَالك
وَأهل الْمَدِينَة وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأحمد
وَإِسْحَاق.
وَفِي الحَدِيث: جَوَاز الحكم احتهاداً، ثمَّ الرُّجُوع
عَنهُ، واستحباب ذكر الدَّلِيل عِنْد الحكم لرفع الإلباس.
وَفِيه: نسخ السّنة بِالسنةِ وَهُوَ بالِاتِّفَاقِ.
وَفِيه: جَوَاز نسخ الحكم قبل الْعلم بِهِ، أَو قبل
التَّمَكُّن من الْعَمَل بِهِ، وَفِي الْأَخير خلاف علم
فِي مَوْضِعه. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة توديع الْمُسَافِر
لأكابر أهل بَلَده وتوديع أَصْحَابه لَهُ أَيْضا.
801 - (بابُ السَّمْعِ والطَّاعَةِ للإمَامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب السّمع وَالطَّاعَة
للْإِمَام، زَاد الْكشميهني فِي رِوَايَته: مَا لم يَأْمر
بِمَعْصِيَة، وَهَذَا الْقَيْد مُرَاد وَإِن لم يذكر،
وَنَصّ الحَدِيث يدل عَلَيْهِ.
5592 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حَدَّثَنا يَحْيى عنْ
عُبَيْدِ الله قَالَ حدَّثني نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ صبَّاحٍ قَالَ حدَّثنا
إسْمَاعِيلُ بنُ زَكَرِيَّاءَ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ
نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ السَّمْعُ
والطَّاَعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بالْمَعْصِيَةِ
فإذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلَا طاعَةَ.
(الحَدِيث 5592 طرفه فِي: 4417) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد
الْقطَّان عَن عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر
بن لخطاب عَن نَافِع عَن عبد الله بن عمر، وَأخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَحْكَام، وَأخرجه مُسلم فِي
الْمَغَازِي عَن زُهَيْر ابْن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِي الْجِهَاد عَن مُسَدّد بِهِ. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن
مُحَمَّد بن صباح، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: عَن
إِسْمَاعِيل ابْن زَكَرِيَّاء الخلقاني عَن عبيد الله ...
إِلَى آخِره.
قَوْله: (السّمع) ، أَي: إِجَابَة قَول الْأَمِير، إِذْ
طَاعَة أوامرهم وَاجِبَة مَا لم يَأْمر بِمَعْصِيَة وإلاَّ
فَلَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق، وَيَأْتِي
من حَدِيث عَليّ بِلَفْظ: لَا طَاعَة فِي مَعْصِيّة،
إِنَّمَا الطَّاعَة فِي الْمَعْرُوف.
وَفِي الْبَاب عَن عمرَان بن حُصَيْن أخرجه النَّسَائِيّ،
وَالْحكم بن عمر وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ وَابْن مَسْعُود
وَغَيرهم، وَذكر عِيَاض: أجمع الْعلمَاء على وجوب طَاعَة
الإِمَام فِي غير مَعْصِيّة وتحريمها فِي الْمعْصِيَة،
وَقَالَ ابْن بطال: احْتج بِهَذَا الْخَوَارِج فَرَأَوْا
الْخُرُوج على أَئِمَّة الْجور وَالْقِيَام عَلَيْهِم
عِنْد ظُهُور جَوْرهمْ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور:
أَنه لَا يجب الْقيام عَلَيْهِم عِنْد ظُهُور جَوْرهمْ
وَلَا خلعهم إلاَّ بكفرهم بعد إِيمَانهم، أَو تَركهم
إِقَامَة الصَّلَوَات، وَأما دون ذَلِك من الْجور فَلَا
يجوز الْخُرُوج عَلَيْهِم إِذا استوطن أَمرهم وَأمر
النَّاس مَعَهم، لِأَن فِي ترك الْخُرُوج عَلَيْهِم تحصين
الْفروج وَالْأَمْوَال وحقن الدِّمَاء، وَفِي الْقيام
عَلَيْهِم تفرق الْكَلِمَة، وَلذَلِك لَا يجوز الْقِتَال
مَعَهم لمن خرج عَلَيْهِم عَن ظلم ظهر مِنْهُم، وَقَالَ
ابْن التِّين: فَأَما مَا يَأْمر بِهِ السُّلْطَان من
الْعُقُوبَات فَهَل يسع الْمَأْمُور بِهِ أَن يفعل ذَلِك
من غير ثَبت أَو علم يكون عِنْده بِوُجُوبِهَا؟ قَالَ
مَالك: إِذا كَانَ الإِمَام عدلا كعمر بن الْخطاب أَو عمر
بن الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لم تسمع
مُخَالفَته وَإِن لم يكن كَذَلِك وَثَبت عِنْده الْفِعْل
جَازَ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وصاحباه: مَا أَمر بِهِ
الْوُلَاة من ذَلِك غَيرهم يسعهم أَن يفعلوه فِيمَا كَانَ
ولايتهم إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة عَن مُحَمَّد: لَا يسع
الْمَأْمُور أَن يَفْعَله حَتَّى يكون الْآمِر عدلا،
وَحَتَّى يشْهد بذلك عِنْده عدل سَوَاء إلاَّ فِي الزِّنَا
فَلَا بُد من ثَلَاثَة سَوَاء، وَرُوِيَ نَحْو الأول عَن
الشّعبِيّ، رَحمَه الله.
(14/221)
901 - (بابٌ يُقاتِلُ مِنْ وَراءِ الإمامِ
ويْتَّقَى بِهِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن الإِمَام جنَّة يُقَاتل من
وَرَائه، وَيُقَاتل على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمرَاد
بِهِ الْمُقَاتلَة للدَّفْع عَن الإِمَام سَوَاء كَانَ
ذَلِك من خَلفه أَو قدامه، وَلَفظ: وَرَاء، يُطلق على
الْمَعْنيين. قَوْله: (وَيَتَّقِي بِهِ) ، أَيْضا على
صِيغَة الْمَجْهُول عطف على: يُقَاتل، أَي: يَتَّقِي
بِالْإِمَامِ شَرّ الْعَدو وَأهل الْفساد وَالظُّلم،
وَكَيف لَا وَإنَّهُ يمْنَع الْمُسلمين من أَيدي
الْأَعْدَاء ويحمي بَيْضَة الْإِسْلَام وَيَتَّقِي مِنْهُ
النَّاس وَيَخَافُونَ سطوته.
6592 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قالَ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ
قَالَ حدَّثنا أَبُو الزِّنادِ أنَّ الأعرَجَ حدَّثَهُ
أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
أنَّهُ سَمِعَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقولُ
نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُون. وبهذَا الإسْنَادِ منْ
أطَاعَنِي فَقَدْ أطَاعَ الله ومَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصى
الله ومنْ يُطِعِ الأميرَ فَقَدْ أطَاعَنِي ومنْ يَعْصِ
الأميرَ فقدْ عَصَانِي وإنَّمَا الإمَامُ جُنَّةٌ
يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ ويُتَّقَى بِهِ فإنْ أمَرَ
بِتَقْوَى الله وعَدَلَ فإنَّ لَهُ بِذَلِكَ أجْرَاً وإنْ
قالَ بِغَيْرِهِ فإنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ.
(الحَدِيث 7592 طرفه فِي: 7317) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِنَّمَا الإِمَام
جنَّة يُقَاتل من وَرَائه ويُتقى بِهِ) وَسَنَد هَذَا
الحَدِيث بهؤلاء الرِّجَال قد مر غير مرّة، وَأَبُو
الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن
ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
وَأخرج النَّسَائِيّ بعض الحَدِيث الإِمَام جنَّة فِي
الْبيعَة وَفِي السّير.
قَوْله: (نَحن الْآخرُونَ) أَي: فِي الدُّنْيَا
(السَّابِقُونَ) فِي الْآخِرَة، وَهَذِه الْقطعَة مرت فِي
كتاب الْوضُوء فِي: بَاب الْبَوْل فِي المَاء الدَّائِم،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو
الْيَمَان، قَالَ: أخبرنَا شُعَيْب، قَالَ: أخبرنَا أَبُو
الزِّنَاد أَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج
حَدثهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة أَنه سمع رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: نَحن الْآخرُونَ
السَّابِقُونَ، ثمَّ قَالَ: وبإسناده قَالَ: لَا يبولَنَّ
... الحَدِيث. قَوْله: (بِهَذَا الْإِسْنَاد) أَي:
الْإِسْنَاد الْمَذْكُور، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
من أَطَاعَنِي ... إِلَى آخِره، قَالَ الْخطابِيّ: كَانَت
قُرَيْش وَمن يليهم من الْعَرَب لَا يعْرفُونَ الْإِمَارَة
وَلَا يطيعون غير رُؤَسَاء قبائلهم، فَلَمَّا ولي فِي
الْإِسْلَام الْأُمَرَاء أنكرته نُفُوسهم وَامْتنع بَعضهم
من الطَّاعَة، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُم صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم هَذَا القَوْل ليعلمهم أَن طَاعَة الْأُمَرَاء
الَّذين كَانَ يوليهم وَجَبت عَلَيْهِم لطاعة رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ هَذَا الْأَمر خَاصّا
بِمن بَاشرهُ الشَّارِع بتولية الإِمَام بِهِ كَمَا نبه
عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيّ، بل هُوَ عَام فِي كل أَمِير عدل
للْمُسلمين وَيلْزم مِنْهُ نقيض ذَلِك فِي الْمُخَالفَة
وَالْمَعْصِيَة. قَوْله: (وَإِنَّمَا الإِمَام جنَّة) ،
بِضَم الْجِيم وَتَشْديد النُّون: أَي: ستْرَة، لِأَنَّهُ
يمْنَع الْعَدو من أَذَى الْمُسلمين وَيمْنَع النَّاس
بَعضهم من بعض، وَالْجنَّة: الدرْع، وَسمي الْمِجَن مجناً،
لِأَنَّهُ يستر بِهِ عِنْد الْقِتَال، وَالْإِمَام
كالساتر، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: معنى الإِمَام جنَّة أَن
يَفِي الإِمَام الزلل والسهو كَمَا يقي الترس صَاحبه من
وَقع السِّلَاح، وَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون
أَرَادَ بِهِ جنَّة فِي الْقِتَال، وَفِيمَا يكون مِنْهُ
فِي أمره دون غَيره. قَوْله: (يُقَاتل من وَرَائه) على
صِيغَة الْمَجْهُول كَمَا ذَكرْنَاهُ آنفاف، أَي: يُقَاتل
مَعَه الْكفَّار والبغاة وَسَائِر أهل الْفساد، فَإِن لم
يُقَاتل من وَرَائه وأتى عَلَيْهِ مرج أَمر النَّاس وَأكل
الْقوي الضعيفَ وضعيت الْحُدُود والفرائض، وتطاول أهل
الْحَرْب إِلَى الْمُسلمين. قَوْله: (وَيَتَّقِي بِهِ) ،
مَجْهُول أَيْضا، وَأَصله: يوتقى بِهِ، التَّاء مبدلة من
الْوَاو، وَبعد الْإِبْدَال تُدْغَم التَّاء فِي التَّاء،
لِأَن أَصله من الْوِقَايَة. وَقَالَ الْمُهلب: معنى
يَتَّقِي بِهِ يرجع إِلَيْهِ فِي الرَّأْي وَالْعقل، وَغير
ذَلِك. قَوْله: (وَإِن قَالَ بِغَيْرِهِ) أَي: وَأَن أَمر
بِغَيْر تقوى الله وعدله، وَالتَّعْبِير عَن الْأَمر
بالْقَوْل شَائِع، وَقيل: مَعْنَاهُ، وَإِن فعل
بِغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا لَيْسَ بِظَاهِر،
فَإِنَّهُ قسيم قَوْله: فَإِن أَمر، فَيحمل على أَن
المُرَاد: وَإِن أَمر. قلت: الْعَرَب تجْعَل القَوْل
عبارَة عَن جَمِيع الْأَفْعَال وتطلقه على غير الْكَلَام
وَاللِّسَان، فَتَقول: قَالَ بِيَدِهِ، أَي: أَخذ، وَقَالَ
بِرجلِهِ، أَي: مَشى، وَقَالَ بِالْمَاءِ على يَده، أَي:
قلب، وَقَالَ يثوبه أَي: رَفعه، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا
يُنكر اسْتِعْمَال: قَالَ، هُنَا بِمَعْنى: فعل، وَقَالَ
الْخطابِيّ: قَالَ هُنَا بِمَعْنى: حكم، يُقَال: قَالَ
الرجل واقتال إِذا حكم، ثمَّ قيل: إِنَّه هُنَا مُشْتَقّ
من القيل، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف، وَهُوَ الْملك الَّذِي ينفذ حكمه، وَهَذَا فِي
لُغَة حمير. قَوْله: (فَإِن عَلَيْهِ مِنْهُ) أَي: فَإِن
الوبال الْحَاصِل عَلَيْهِ لَا على الْمَأْمُور، قَالَ
الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون بعضه عَلَيْهِ. قلت:
هَذَا على تَقْدِير أَن تكون من للتَّبْعِيض، وَالظَّاهِر
أَن الْمَأْمُور أَيْضا لَا يَخْلُو عَن
(14/222)
التبعة، على مَا حُكيَ أَن الْحسن
الْبَصْرِيّ وعامر الشّعبِيّ حضرا مجْلِس عمر بن
هُبَيْرَة، فَقَالَ لَهما: إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ يكْتب
إِلَيّ فِي أُمُور، فَمَا تريان؟ فَقَالَ الشّعبِيّ: أصلح
الله الْأَمِير، أَنْت مَأْمُور والتبعة على آمُرك،
فَقَالَ الْحسن: إِذا خرجت من سَعَة قصرك إِلَى ضيق قبرك
فَإِن الله تَعَالَى ينجيك من الْأَمِير، وَلَا ينجيك
الْأَمِير من الله تَعَالَى، وَالله أعلم بِحَقِيقَة
الْحَال.
011 - (بابُ البَيْعَةِ فِي الحَرْبِ أنْ لاَ يَفِرُّوا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْبيعَة فِي الْحَرْب على أَن
لَا يَفروا، أَو فِي بعض النّسخ لَفْظَة: على مَوْجُودَة
وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة، تَقْدِيره: بِأَن لَا يَفروا،
أَي: بِعَدَمِ الْفِرَار.
وَقَالَ بَعْضُهُم على المَوْتِ
أَي: الْبيعَة فِي الْحَرْب على الْمَوْت، وَقَالَ بَعضهم:
كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن لَا تنَافِي بَين
الرِّوَايَتَيْنِ لاحْتِمَال أَن يكون ذَلِك فِي مقامين.
قلت: عدم التَّنَافِي بَينهمَا لَيْسَ من هَذَا الْوَجْه،
بل المُرَاد بالمبايعة على الْمَوْت أَن لَا يَفروا وَلَو
مَاتُوا، وَلَيْسَ المُرَاد أَن يَقع الْمَوْت وَلَا بُد.
لِقَوْلِ الله تعَالى {لَقَدْ رَضِيَ الله علَى
الْمؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
(الْفَتْح: 81) .
هَذَا تَعْلِيل لقَوْله، وَقَالَ بَعضهم: على الْمَوْت،
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن لفظ: يُبَايعُونَك، مُطلق
يتَنَاوَل الْبيعَة على أَن لَا يَفروا وعَلى الْمَوْت،
وَلَكِن المُرَاد الْبيعَة على الْمَوْت بِدَلِيل أَن
سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَهُوَ مِمَّن بَايع تَحت
الشَّجَرَة، أخبر أَنه بَايع على الْمَوْت وَأَرَادَ
بِالْمُؤْمِنِينَ: هم الَّذين ذكرهم الله فِي قَوْله: {إِن
الَّذين يُبَايعُونَك إِنَّمَا يبايعون الله. .}
(الْفَتْح: 01) . الْآيَة، وَقيل: هَذَا عَام فِي كل من
بَايع رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والشجرة
كَانَت سَمُرَة، وَقيل: سِدْرَة، وَرُوِيَ أَنَّهَا عميت
عَلَيْهِم من قَابل فَلم يدروا أَيْن ذهبت، وَكَانَ هَذَا
فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ فِي ذِي الْقعدَة
بِلَا خلاف، وَسميت هَذِه الْبيعَة بيعَة الرضْوَان.
8592 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
جُوَيْرِيَةُ عنْ نافِعٍ قَالَ قَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُما رجَعْنَا مِنَ العَامِ المُقْبِلِ
فَما اجْتَم مِنَّا اثْنَانِ علَى الشَّجَرَةِ الَّتِي
بايَعْنَا تَحْتَها كانَتْ رَحْمةً مِنَ الله فسَألْتُ
نافِعاً علَى أيِّ شَيْءٍ بايَعَهُمْ علَى المَوْتِ قَالَ
لاَ بَلْ بايَعَهُمْ على الصَّبْرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (بل بايعهم على
الصَّبْر) فَإِن الْمُبَايعَة على الصَّبْر هُوَ عدم
الْفِرَار فِي الْحَرْب، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري
التَّبُوذَكِي، وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة ابْن
أَسمَاء الضبعِي الْبَصْرِيّ. وَهَذَا الحَدِيث من
أَفْرَاده.
قَوْله: (من الْعَام الْمقبل) أَي: الَّذِي بعد صلح
الْحُدَيْبِيَة. قَوْله: (فَمَا اجْتمع منا إثنان على
الشَّجَرَة الَّتِي بَايعنَا تحتهَا) أَي: مَا وَافق منا
رجلَانِ على هَذِه الشَّجَرَة أَنَّهَا هِيَ الَّتِي
بَايعنَا تحتهَا، بل خَفِي مَكَانهَا، وَقيل: أشبهت
عَلَيْهِم. قَوْله: (كَانَت رَحْمَة) ، أَي: كَانَت هَذِه
الشَّجَرَة مَوضِع رَحْمَة الله وَمحل رضوانه، قَالَ
تَعَالَى: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ
يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} . (الْفَتْح: 81) . وَقَالَ
النَّوَوِيّ: سَبَب خفائها أَن لَا يفتتن النَّاس بهَا لما
جرى تحتهَا من الْخَيْر، ونزول الرضْوَان والسكينة وَغير
ذَلِك، فَلَو بقيت ظَاهِرَة مَعْلُومَة لخيف تَعْظِيم
الْأَعْرَاب والجهال إِيَّاهَا وعبادتهم إِيَّاهَا،
وَكَانَ خفاؤها رَحْمَة من الله تَعَالَى. قَوْله:
(فَسَأَلت نَافِع اً) السَّائِل هُوَ جوَيْرِية الرَّاوِي.
قَوْله: (على الْمَوْت) ، أَي: أَعلَى الْمَوْت؟ وهمزة
الِاسْتِفْهَام مقدرَة فِيهِ. قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي:
قَالَ نَافِع: لم يكن مُبَايَعَتهمْ على الْمَوْت، بل
كَانَت على الصَّبْر، وَاعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ بِأَن
هَذَا من قَول نَافِع وَلَيْسَ بِمُسْنَد، وَقَالَ بَعضهم:
وَأجِيب: بِأَن الظَّاهِر أَن نَافِعًا إِنَّمَا جزم بِمَا
أجَاب بِهِ لما فهمه من مَوْلَاهُ ابْن عمر، فَيكون
مُسْندًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَة، وَفِيه نظر لَا يخفى.
9592 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّادِ
بنِ تَمِيمٍ عنْ عَبْدِ الله بن زَيْدٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ قالَ لَمَّا كانَ زَمنُ الحَرَّةِ أتاهُ
آتٍ فَقالَ لَهُ إنَّ ابنَ حَنْظَلَةَ يُبايِعُ النَّاسَ
علَى المَوْتِ فقالَ لَا أُبَايِعُ على هَذَا أحَدَاً
بَعْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
(الحَدِيث 9592 طرفه فِي: 7614) .
(14/223)
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تكون
لقَوْله: (وَقَالَ بَعضهم: على الْمَوْت لِأَنَّهُ من
التَّرْجَمَة، وَالْمَفْهُوم من كَلَام عبد الله بن زيد
أَنه بَايع على الْمَوْت، ووهيب بِالتَّصْغِيرِ هُوَ ابْن
خَالِد، وَعَمْرو بن يحيى بن عمَارَة الْمَازِني
الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَعباد بتَشْديد الْبَاء
الْمُوَحدَة ابْن تَمِيم بن زيد بن عَاصِم الْأنْصَارِيّ،
يروي عَن عبد الله بن زيد بن عَاصِم بن كَعْب
الْأنْصَارِيّ الْمَازِني الْمدنِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن
إساعيل عَن أَخِيه أبي بكر. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي
عَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم.
قَوْله: (وَلما كَانَ زمن الْحرَّة) ، وَهِي الْوَاقِعَة
الَّتِي كَانَت بِالْمَدِينَةِ فِي زمن يزِيد بن
مُعَاوِيَة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ، ووقعة الْحرَّة حرَّة
زهرَة، قَالَه السُّهيْلي. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ وَأَبُو
عبيد وَآخَرُونَ: هِيَ حرَّة وأقم، أَطَم شَرْقي
الْمَدِينَة، و: الْحرَّة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَتَشْديد الرَّاء وَهِي فِي الأَصْل كل أَرض كَانَت ذَات
حِجَارَة سود محرقة والحرار فِي بِلَاد الْعَرَب كَثِيرَة
وأشهرها ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ حرَّة، قَالَه ياقوت. وَسبب
وقْعَة الْحرَّة أَن عبد الله بن حَنْظَلَة وَغَيره من أهل
الْمَدِينَة وفدوا إِلَى يزِيد فَرَأَوْا مِنْهُ مَا لَا
يصلح، فَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَة فخلعوه وَبَايَعُوا
عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
وَأرْسل إِلَيْهِم يزيدُ مسلمَ بن عقبَة الَّذِي قيل
فِيهِ: مُسْرِف بن عقبَة، فأوقع بِأَهْل الْمَدِينَة
وقْعَة عَظِيمَة، قتل من وُجُوه النَّاس ألفا وَسَبْعمائة،
وَمن أخلاط النَّاس عشرَة آلَاف سوى النِّسَاء وَالصبيان.
قَوْله: (إِن ابْن حَنْظَلَة) وَهُوَ عبد الله بن
حَنْظَلَة بن أبي عَامر الَّذِي يعرف أَبوهُ بغسيل
الْمَلَائِكَة، وَذَلِكَ أَن حَنْظَلَة قتل شَهِيدا يَوْم
أحد، قَتله أَبُو سُفْيَان بن حَرْب، وَقَالَ: حَنْظَلَة
بحنظلة، يَعْنِي بِأَبِيهِ حَنْظَلَة الْمَقْتُول ببدر،
وَأخْبر رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن
الْمَلَائِكَة غسلته، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ لامْرَأَة حَنْظَلَة: مَا كَانَ شَأْنه؟
قَالَت: كَانَ جنبا وغسلت إِحْدَى شقي رَأسه، فَلَمَّا سمع
لَهِيعَة خرج. فَقتل. فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: رَأَيْت الْمَلَائِكَة تغسله، وعلقت
امْرَأَته تِلْكَ اللَّيْلَة بابنة عبد الله بن حَنْظَلَة،
وَمَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَله سبع سِنِين،
وَقد حفظ عَنهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ابْن حَنْظَلَة
هُوَ الَّذِي كَانَ يَأْخُذ ليزِيد واسْمه عبد الله، أَو
المُرَاد بِهِ نفس يزِيد، لِأَن جده أَبَا سُفْيَان كَانَ
يكنى أَيْضا بِأبي حَنْظَلَة، لَكِن على هَذَا التَّقْدِير
يكون لفظ الْأَب محذوفاً بَين الْأَب وحَنْظَلَة
تَخْفِيفًا، كَمَا أَنه مَحْذُوف معنى، لِأَنَّهُ نِسْبَة
إِلَى الْجد أَو جعله مَنْسُوبا إِلَى الْعم اسْتِخْفَافًا
واستهجاناً واستبشاعاً لهَذِهِ الْكَلِمَة الْمرة. انْتهى.
قلت: الْكرْمَانِي خبط هَهُنَا خبط عشواء وتعسف فِي هَذَا
الْكَلَام من غير أصل، وَالصَّوَاب مَا ذَكرْنَاهُ.
قَوْله: (لَا أبايع على هَذَا أحدا بعد رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنه بَايع
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْمَوْت،
وَلكنه لَيْسَ بِصَرِيح، فَلذَلِك ذكر البُخَارِيّ عَقِيبه
حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع لتصريحه فِيهِ بِأَنَّهُ
بَايعه على الْمَوْت.
0692 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
يَزِيدُ بنُ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ بايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ الشَّجرةِ
فلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ يَا ابنَ الأكْوَعِ ألاَ
تُبَايِعُ قَالَ قُلْتُ قدْ بايَعْتُ يَا رسُولَ الله
قَالَ وأيْضَاً فبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقُلْتُ لَهُ
يَا أبَا مُسْلِمٍ على أيِّ شَيءٍ كُنْتُم تُبَايِعُونَ
يَوْمَئِذٍ قَالَ على المَوْتِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَقَالَ بَعضهم: على
الْمَوْت، الْمَكِّيّ، بتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف
هُوَ اسْمه وَلَيْسَ بِنِسْبَة، وَيزِيد من الزِّيَادَة
ابْن أبي عبيد مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع، والأكوَع اسْمه
سِنَان بن عبد الله.
وَهَذَا الحَدِيث من ثلاثيات البُخَارِيّ الْحَادِي عشر.
وَأخرجه أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة وَفِي
الْأَحْكَام عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي
عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن إِسْحَاق إِبْنِ إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي السّير جَمِيعًا
عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (قَالَ يَا ابْن الْأَكْوَع) أَي: قَالَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا ابْن الْأَكْوَع! ألاَ
تبَايع؟ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك مَعَ أَنه بَايع مَعَ
النَّاس، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَأْكِيد بيعَته لشجاعته
وشهرته بالثبات، فَلذَلِك أمره بتكرير الْمُبَايعَة.
وَقَالَ أَيْضا: أَي بَايع أَيْضا، فَبَايعهُ مرّة
أُخْرَى، وَهُوَ معنى قَوْله: فَبَايَعته الثَّانِيَة،
أَي: الْمرة الثَّانِيَة. قَوْله: (فَقلت لَهُ: يَا با
مُسلم) ، الْقَائِل هُوَ يزِيد بن أبي عبد الرَّاوِي
عَنهُ، وَأَبُو مُسلم كنية سَلمَة بن الْأَكْوَع. قَوْله:
(على الْمَوْت) ، قد ذكرنَا أَن المُرَاد بالمبايعة على
الْمَوْت أَن لَا يَفروا وَلَو مَاتُوا، وَلَيْسَ المُرَاد
أَن يَقع الْمَوْت أَلْبَتَّة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن جَابر بن
(14/224)
عبد الله فِي قَوْله تَعَالَى: {لقد رَضِي
الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة}
(الْفَتْح: 81) . قَالَ جَابر: (بَايعنَا رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، على أَن لَا نفر وَلم نُبَايِعهُ على
الْمَوْت) ، وَسَيَأْتِي عَن عبَادَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، بَايعنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
السّمع وَالطَّاعَة، وَرُوِيَ من حَدِيث معقل بن يسَار،
قَالَ: لقد رَأَيْتنِي يَوْم الشَّجَرَة وَالنَّبِيّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم (يُبَايع النَّاس وَأَنا رَافع غصناً
من أَغْصَانهَا عَن رَأسه وَنحن أَربع عشرَة وَمِائَة) .
وَقَالَ: لم نُبَايِعهُ على الْمَوْت.
3692 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ سَمِعَ مُحَمَّدَ
بنَ فُضَيْلٍ عنْ عاصِمٍ عنْ أبِي عُثْمانَ عنْ مُجَاشِعٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ أتَيْتُ النَّبِيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أنَا وأخِي فَقُلْتُ بايعْنَا على
الهِجْرَةِ فَقالَ مَضَتِ الهِجْرَةُ لأِهْلِهَا فَقُلْتُ
عَلامَ تبَايِعُنا قَالَ علَى الإسْلامِ والجِهَادِ.
. .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَالْجهَاد)
لِأَن مُبَايَعَتهمْ على الْجِهَاد لم تكن إلاَّ على أَن
لَا يَفروا، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن
رَاهَوَيْه، وَمُحَمّد بن فُضَيْل، بِضَم الْفَاء مصغر فضل
ابْن غَزوَان أَبُو عبد الرَّحْمَن الضَّبِّيّ مَوْلَاهُم
الْكُوفِي، وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان الْأَحول،
وَأَبُو عُثْمَان هُوَ عبد الرَّحْمَن بن مل النَّهْدِيّ،
بالنُّون الْبَصْرِيّ، وَقد مر غير مرّة ومجاشع، بِضَم
الْمِيم وَتَخْفِيف الْجِيم وَكسر الشين الْمُعْجَمَة
وَفِي آخِره عين مُهْملَة: ابْن مَسْعُود السّلمِيّ، بِضَم
السِّين، وَفِي بعض النّسخ أَبوهُ مَسْعُود مَذْكُور،
ومجاشع هَذَا قتل يَوْم الْجمل، وَكَانَ لَهُ فرس يسابق
عَلَيْهَا، وَقد أَخذ فِي غَايَة وَاحِدَة خمسين ألف
دِينَار.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن
عَمْرو بن خَالِد وَعَن مُحَمَّد بن أبي بكر وَفِي
الْجِهَاد أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى. وَأخرجه
مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَعَن
سُوَيْد بن سعيد وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
قَوْله: (وَأخي) ، أَخُوهُ اسْمه: مجَالد بِضَم، الْمِيم
وَتَخْفِيف الْجِيم: ابْن مَسْعُود السّلمِيّ، قَالَ أَبُو
عمر: لَهُ صُحْبَة وَلَا أعلم لَهُ رِوَايَة، كَانَ
إِسْلَامه بعد إِسْلَام أَخِيه، بعد الْفَتْح، ذكر ابْن
أبي حَاتِم عَن أَبِيه: أَن مجَالد بن مَسْعُود قتل يَوْم
الْجمل، وَأَنه رُوِيَ عَنهُ أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ
وَقَالَ أَبُو عمر لم يقل فِي مجاشع أَنه قتل يَوْم الْحمل
قَوْلهم وَلَا شكّ أَنه قتل يَوْم الْجمل وَلَا تبعد
رِوَايَة أبي عُثْمَان عَنْهُمَا، كَذَا قَالَ فِي
(الِاسْتِيعَاب) قَوْله: (بَايعنَا) ، بِكَسْر الْيَاء:
أَمر من بَايع، يُخَاطب بِهِ مجاشع النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَأَجَابَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بقوله: (مَضَت الْهِجْرَة لأَهْلهَا) ، وهم الَّذين
هَاجرُوا قبل الْفَتْح، وَحَدِيث مجاشع كَانَ بعد
الْفَتْح، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد
قَالَ: (لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح إِنَّمَا هُوَ جِهَاد
وَنِيَّة) ، فَكَانَ من بَايع قبل الْفَتْح لزمَه
الْجِهَاد أبدا مَا عَاشَ إلاَّ لعذر يجوز لَهُ
التَّخَلُّف، وَأما من أسلم بعد الْفَتْح فَلهُ أَن
يُجَاهد وَله أَن يتَخَلَّف بنية صَالِحَة. كَمَا قَالَ:
(جِهَاد وَنِيَّة) ، إلاَّ أَن ينزل عَدو أَو ضَرُورَة،
فَيلْزم الْجِهَاد كل أحد. قَوْله: (فَقلت علامَ تبايعنا؟)
أَي: على أَي شَيْء تبايعنا؟ وَأَصله: على مَا، لِأَن:
مَا، الاستفهامية جرت فَيجب حذف الْألف عَنْهَا وإبقاء
الفتحة دَلِيلا عَلَيْهَا، نَحْو: فيمَ، وإلامَ، وعلامَ،
وَعلة حذف الْألف الْفرق بَين الِاسْتِفْهَام وَالْخَبَر،
وَأما قِرَاءَة عِكْرِمَة وَعِيسَى {عَمَّا يتساءلون}
(النبأ: 1) . فنادر. وَقَالَ ابْن التِّين: كَانَ من هَاجر
إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الْفَتْح
من غير أهل مَكَّة وَبَايَعَهُ على الْمقَام
بِالْمَدِينَةِ كَانَ عَلَيْهِ الْمقَام بهَا حَيَاته، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمن لم يشْتَرط الْمقَام من غير أهل
مَكَّة بَايع وَرجع إِلَى مَوْضِعه، كَفعل عمر بن
(14/225)
حريب ووفد عبد الْقَيْس وَغَيرهم، وَكَانَت
الْهِجْرَة فرضا على أهل مَكَّة إِلَى الْفَتْح، ثمَّ
زَالَت الْهِجْرَة الَّتِي توجب الْمقَام مَعَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى وَفَاته ثمَّ يرجع
المُهَاجر كَمَا فعل صَفْوَان. قَوْله: (قَالَ: على
الْإِسْلَام) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: أُبَايِعكُم على الْإِسْلَام وَالْجهَاد إِذا
احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَالله أعلم.
111 - (بابُ عَزْمِ الإمامِ عَلَى النَّاسِ فِيما
يُطِيقُون)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن عزم الإِمَام على النَّاس
إِنَّمَا يكون فِيمَا يطيقُونَهُ، يَعْنِي: وجوب طَاعَة
الإِمَام إِنَّمَا يكون عِنْد الطَّاقَة والعزم هُوَ
الْأَمر الْجَازِم الَّذِي لَا تردد فِيهِ.
4692 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ قَالَ حدَّثنا
جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنْ أبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ
عَبْدُ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَقدْ أتَانِي
اليَوْمَ رَجُلٌ فَسَألَنِي عنْ أمْرٍ مَا دَرَيْتُ مَا
أرُدُّ علَيْهِ فَقالَ أرَأيْتَ رَجُلاً مُؤدِياً نَشِيطاً
يَخْرُجُ مَعَ أُمَرَائِنَا فِي المَغَازِي فَيَعْزِمُ
علَيْنَا فِي أشْيَاءَ لَا نُحْصِيهَا فَقُلْتُ لَهُ
وَالله مَا أدْرِي مَا أقُولُ لَكَ إلاَّ أنَّا كُنَّا
مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعَسَى أنْ لَا
يَعْزِمَ علَيْنَا فِي أمْرٍ إلاَّ مَرَّةً حتَّى
نَفْعَلَهُ وإنَّ أحَدَكُمْ لَنْ يَزَالَ بِخَيْرٍ مَا
اتَّقَى الله وإذَا شَكَّ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ سألَ رَجلاٍ
فَشنَاهُ مِنْهُ وأوْشَكَ أنْ لَا تَجِدُوهُ والَّذِي لاَ
إلَهَ إلاَّ هُوَ مَا أذْكُرُ مَا غَبَرَ مِنَ الدُّنْيَا
إلاَّ كالثَّغْبِ شُرِبَ صَفْوُهُ وبَقِيَ كَدَرُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فِي أَشْيَاء
لَا نحصيها) أَي: لَا نطيقها من قَوْله تَعَالَى: {علم أَن
لن تحصوه} (المزمل: 02) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: وَيحْتَمل
أَن يُرِيد: لَا نَدْرِي هَل هُوَ طَاعَة أم مَعْصِيّة؟
قلت: الْمَعْنى الأول هُوَ الْأَوْجه، لِأَن الْمُطَابقَة
للتَّرْجَمَة لَا تحصل إلاَّ بِهِ، وَرِجَاله قد ذكرُوا
غير مرّة، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَعبد الله
هُوَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرِجَال
هَذَا الْإِسْنَاد كلهم كوفيون.
قَوْله: (رجل فَاعل: أَتَانِي، وَلم يدر اسْمه. قَوْله:
(مَا أرد عَلَيْهِ)) ، جملَة فِي مَحل نصب على أَنَّهَا
مفعول قَوْله: مَا دَريت. قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي:
أَخْبرنِي. قَوْله: (مُؤديا) بِضَم الْمِيم وَسُكُون
الْهمزَة وَكسر الدَّال، يَعْنِي: ذَا أَدَاة للحرب
كَامِلَة، وَلَا يجوز حذف الْهمزَة مِنْهُ حَتَّى لَا
يتَوَهَّم أَنه من: أودى، إِذا هلك، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
مَعْنَاهُ: قَوِيا مُتَمَكنًا، وَكَذَا فسره الدَّاودِيّ،
وَالْأول أظهر. قَوْله: (نشيطاً) بِفَتْح النُّون وَكسر
الشين الْمُعْجَمَة من: النشاط، وَهُوَ الْأَمر الَّذِي
تنشط لَهُ وتخف إِلَيْهِ وتؤثر فعله. قَوْله: (لَا نحصيها)
، قد مر تَفْسِيره. قَوْله: (يخرج) ، قَالَ بَعضهم: كَذَا
فِي الرِّوَايَة بالنُّون. قلت: مُجَرّد الدَّعْوَى أَن
الرِّوَايَة بالنُّون لَا يسمع، بل يحْتَاج ذَلِك إِلَى
الْبُرْهَان، بل الظَّاهِر أَنه بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف،
وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يعود إِلَى قَوْله: رجل،
وَأَيْضًا فَإِن فِي رِوَايَة النُّون قلقاً فِي
التَّرْكِيب على مَا لَا يخفى. فَإِن قلت: إِذا كَانَ يخرج
الْيَاء، كَانَ مُقْتَضى الْكَلَام أَن يَقُول: مَعَ
أمرائه، بِلَفْظ الْغَائِب ليُوَافق: رجلا. قلت: هَذَا من
بَاب الِالْتِفَات، وَهُوَ نوع من أَنْوَاع البديع،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: معنى رجلا أَن أَحَدنَا يخرج مَعَ
أمرائنا، وَالَّذِي قلت: هُوَ الْأَوْجه، فَلَا حَاجَة
إِلَى هَذَا التعسف. قَوْله: (فيعزم علينا) ، أَي:
الْأَمِير يشدد علينا فِي أَشْيَاء لَا نطيقها. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فيعزم إِن كَانَ بِلَفْظ الْمَجْهُول فَهُوَ
ظَاهر، يَعْنِي: لَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير الْفَاعِل
ظَاهرا هَذَا إِن كَانَ جَاءَت بِهِ رِوَايَة. قَوْله:
(حَتَّى نفعله) ، غَايَة لقَوْله: لَا يعزم، أَو للعزم
الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ الْمُسْتَثْنى، وَهُوَ مرّة،
وَحَاصِل السُّؤَال أَن قَوْله: أَرَأَيْت، بِمَعْنى:
أَخْبرنِي، كَمَا ذكرنَا، وَفِيه نَوْعَانِ من
التَّصَرُّف: إِطْلَاق الرُّؤْيَة وَإِرَادَة الْإِخْبَار،
وَإِطْلَاق الِاسْتِفْهَام وَإِرَادَة الْأَمر،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَخْبرنِي عَن حكم هَذَا الرجل: يجب
عَلَيْهِ مطاوعة الْأَمِير أم لَا؟ فَجَوَابه: وجوب
المطاوعة، وَيعلم ذَلِك من الِاسْتِثْنَاء، إِذْ لَوْلَا
صِحَّته لما أوجبه الرَّسُول عَلَيْهِم، وَيحْتَمل عزمه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الْمرة على ضَرُورَة
كَانَت باعثة لَهُ عَلَيْهِ. قَوْله: (وَإِذا شكّ فِي
نَفسه شَيْء) هُوَ من بَاب الْقلب، وَأَصله: شكّ نَفسه فِي
شَيْء، أَو شكّ بِمَعْنى لصق. وَقَوله: شَيْء، أَي: مِمَّا
تردد فِيهِ أَنه جَائِز أَو غير جَائِز. قَوْله: (فشفاه
مِنْهُ) ، أَي: أَزَال مرض التَّرَدُّد فِيهِ، وَأجَاب
لَهُ بِالْحَقِّ. قَوْله: (وأوشك) ، أَي: كَاد أَن لَا
يَجدوا فِي الدُّنْيَا أحدا، يُفْتِي بِالْحَقِّ ويشفي
الْقُلُوب عَن الشّبَه
(14/226)
والشكوك. قَوْله: (مَا غبر) ، بالغين
الْمُعْجَمَة أَي: مَا بَقِي، والغبور من الأضداد:
الْبَقَاء والمضي، وَقَالَ قوم: الْمَاضِي غابر
وَالْبَاقِي غبر، وَهُوَ هُنَا يحْتَمل الْأَمريْنِ،
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هُوَ بالماضي هُنَا أشبه
لقَوْله: مَا أذكر. قَوْله: (إلاَّ كالثغب) ، بِفَتْح
الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة،
وَيجوز فتحهَا، وَهُوَ المَاء المستنقع فِي الْموضع
المطمئن، وَالْجمع ثغاب شبه بَقَاء الدُّنْيَا بباقي
غَدِير ذهب صَفوه، وَبَقِي كدره، وَإِذا كَانَ هَذَا فِي
زمن ابْن مَسْعُود، وَقد مَاتَ هُوَ قبل مقتل عُثْمَان،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَوُجُود تِلْكَ الْفِتَن
الْعَظِيمَة فَمَاذَا يكون اعْتِقَاده فِيمَا جَاءَ بعد
ذَلِك، ثمَّ بعد ذَلِك وهلم جراً؟ قَالَ الْقَزاز: ثغب
وثغب وَالْفَتْح أَكثر من الإسكان، وَفِي (الْمُنْتَهى) :
بِالتَّحْرِيكِ أفْصح، وَهُوَ مَوضِع المَاء. وَقيل:
الغدير الَّذِي يكون فِي غلظ من الأَرْض أَو فِي ظلّ جبل
لَا يُصِيبهُ حر الشَّمْس فيبرد مَاؤُهُ يُرِيد عبد الله
مَا ذهب من خير الدُّنْيَا وَبَقِي من شَرّ أَهلهَا،
وَالْجمع ثغبان وثغبان مثل حمل وحملان، وَمن سكن قَالَ:
ثغاب. وَفِي (الْمُحكم) : الثغب بَقِيَّة المَاء العذب فِي
الأَرْض، وَقيل: هُوَ أخدُود يحتفره المائل من عل فَإِذا
انحطت حفرت أَمْثَال الْقُبُور، والديار فيمضي السَّيْل
عَنْهَا ويغادر المَاء فِيهَا فتصفقه الرّيح، فَلَيْسَ
شَيْء أصغى مِنْهُ وَلَا أبرد، فَسُمي المَاء بذلك
الْمَكَان، وَقيل: كل غَدِير ثغب، وَالْجمع أثغاب، وَقَالَ
الْمُهلب: هَذَا الحَدِيث يدل على شدَّة لُزُوم النَّاس
طَاعَة الإِمَام وَمن يَسْتَعْمِلهُ.
211 - (بابٌ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا
لَمْ يُقَاتِلْ أوَّلَّ النَّهَارِ أخَّرَ القِتَال حتَّى
تَزُولَ الشَّمْسُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: كَانَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره، وَالْحكمَة فِيهِ أَن
الشَّمْس إِذا زَالَت تهب ريَاح النَّصْر ويتمكن من
الْقِتَال بِوَقْت الْإِبْرَاد وهبوب الرِّيَاح، لِأَن
الْحَرْب كلما استحرت وحمي الْمُقَاتِلُونَ بحركتهم فِيهَا
وَمَا حملوه من سِلَاحهمْ هبت أَرْوَاح الْعشي فبردت من
حرهم ونشطتهم، وخففت أجسامهم بِخِلَاف اشتداد الْحر. وَقد
روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث النُّعْمَان بن مقرن قَالَ:
غزوت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ إِذا
طلع الْفجْر إمسك حَتَّى تطلع الشَّمْس، فَإِذا طلعت
قَاتل، فَإِذا انتصف النَّهَار أمسك حَتَّى تَزُول
الشَّمْس، فَإِذا زَالَت الشَّمْس قَاتل حَتَّى الْعَصْر،
ثمَّ يمسك حَتَّى يُصَلِّي الْعَصْر، ثمَّ يُقَاتل.
وَكَانَ يُقَال: عِنْد ذَلِك تهيج ريَاح النَّصْر
وَيَدْعُو الْمُؤْمِنُونَ لجيوشهم فِي صلَاتهم، وروى
أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى،
قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب أَن
ينْهض إِلَى عدوه عِنْد زَوَال الشَّمْس. وروى
الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عتبَة بن غَزوَان السّلمِيّ،
قَالَ: كُنَّا نشْهد مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، الْقِتَال فَإِذا زَالَت الشَّمْس قَالَ لنا:
إحملوا فحملنا. وروى أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا لم يلق
الْعَدو أول النَّهَار أخر حَتَّى تهب الرِّيَاح، وَيكون
عِنْد مَوَاقِيت الصَّلَاة.
5692 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
مُعَاوِيَةُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا أَبُو إسْحَاقَ
عنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ عنْ سَالِمٍ أبِي النضْرِ مَوْلى
عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ الله وكانَ كاتِبَاً لَهُ قالَ كَتَبَ
إلَيْهِ عبْدُ الله بنُ أبِي أوْفَى رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا فقَرَأتُهُ أنَّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي بَعْضِ أيَّامِه الَّتي لَقِيَ فِيها انْتَظَر
حتَّى مالَتِ الشَّمْسِ. ثُمَّ قالَ فِي النَّاسِ قَالَ
أيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقاءَ الَعدُوِّ
وسَلُوا الله العَافِيَةَ فإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فاصْبِرُوا
واْعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ
ثُمَّ قَالَ أللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ ومُجْرِيَ
السَّحابِ وهازِمَ الأحْزَابِ اِهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا
علَيْهِمْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (انْتظر حَتَّى مَالَتْ
الشَّمْس) أَي: حَتَّى زَالَت. وَعبد الله بن مُحَمَّد
المسندي، وَمُعَاوِيَة بن عَمْرو بن الْمُهلب الْأَزْدِيّ
الْبَغْدَادِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد
الْفَزارِيّ ومُوسَى بن عقبَة إِلَى آخِره. وَهَذَا
السَّنَد بِعَين هَؤُلَاءِ الرِّجَال قد مر فِي الْجِهَاد
فِي: بَاب الصَّبْر عِنْد الْقِتَال، مَعَ بعض الحَدِيث،
وَمضى أَيْضا كَذَلِك فِي: بَاب الْجنَّة تَحت بارقة
السيوف، وَاقْتصر فِيهِ على قَوْله: وَاعْلَمُوا أَن
الْجنَّة تَحت ظلال السيوف، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
قَوْله: (منزل الْكتاب) أَي: يَا منزل الْقُرْآن، وَقد
وَقع السجع اتِّفَاقًا من غير قصد.
(14/227)
|