عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 641 - (بابُ أهْلِ الدَّارِ يُبَيِّتُونَ
فَيُصَابُ الوِلْدَانُ والذَّرَارِيُّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي حكم أهل الدَّار، أَي: أهل دَار
الْحَرْب. قَوْله: (يبيتُونَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من
التبييت، يُقَال: بَيت الْعَدو أَي: أوقع بهم لَيْلًا.
قَوْله: (فيصاب الْولدَان) ، أَي: بِسَبَب التبييت،
والولدان جمع: الْوَلِيد، وَهِي الصَّبِي. قَوْله:
(والذراري) ، بِالرَّفْع وَالتَّشْدِيد عطفا على:
الْولدَان، وَيجوز بِالسُّكُونِ وَالتَّخْفِيف، وَهُوَ
جمع: ذُرِّيَّة، وَجَوَاب الْمَسْأَلَة مَحْذُوف
تَقْدِيره: هَل يجوز ذَلِك أم لَا ... ؟ وحكمهما يعلم من
الحَدِيث.
بَيانَاً لَيْلاً
لَيْسَ من التَّرْجَمَة، بل هُوَ من الْقُرْآن، وَقد جرت
عَادَته أَنه إِذا وَقع فِي الْخَبَر لَفْظَة توَافق مَا
وَقع فِي الْقُرْآن أورد تَفْسِيرا للفظ الْوَاقِع فِي
الْقُرْآن، وَهَذِه اللَّفْظَة فِي آيَة فِي سُورَة
الْأَعْرَاف وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَكم من قَرْيَة
أهلكناها فجاءنا بأسنا بياتاً أَو هم قَائِلُونَ}
(الْأَعْرَاف: 4) . أهلكناها أَي: أهلكنا أَهلهَا
بمخالفتهم رسلنَا وتكذيبهم. قَوْله: {بأسنا} أَي: نقمتنا.
قَوْله: {بياتاً} أَي: لَيْلًا {أَو هم قَائِلُونَ} من
القيلولة وَهِي الاسْتِرَاحَة وسط النَّهَار. وَقَالَ بعض
الشُّرَّاح، مَوضِع بياتاً، نياماً، بنُون وَمِيم، من
النّوم، وَجعل هَذِه اللَّفْظَة من التَّرْجَمَة، فَقَالَ:
وَالْعجب لزيادته فِي التَّرْجَمَة نياماً، وَمَا هُوَ فِي
الحَدِيث إلاَّ ضمنا، لِأَن الْغَالِب أَنهم إِذا أوقع بهم
فِي اللَّيْل لم يخلوا من نَائِم، وَمَا الْحَاجة إِلَى
كَونهم نياماً أَو أيقاظاً وهما سَوَاء؟ إلاَّ أَن قَتلهمْ
نياماً أَدخل فِي الغيلة، فنبه على جَوَازهَا مثل هَذَا.
انْتهى. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا من قَول
البُخَارِيّ مَا لم يقلهُ، وَالَّذِي رَأَيْت فِي عَامَّة
مَا رَأَيْت من نسخ (كتاب الصَّحِيح) : بياتاً بباء
مُوَحدَة وَبعد الْألف تَاء مثناة من فَوق، وَكَأن هَذَا
الْقَائِل وَقعت لَهُ نُسْخَة مصحفة أَو تصحف عَلَيْهِ:
بياتاً،
(14/259)
بنياماً. انْتهى. قلت: هَذَا الْقَائِل لَا
يسْتَحق هَذَا الْمِقْدَار من الْحَط عَلَيْهِ، وَله أَن
يَقُول: رَأَيْت عَامَّة مَا رَأَيْت من نسخ كتاب
(الصَّحِيح) : نياماً بالنُّون وَالْمِيم، وَهَذَا مَحل
نظر وَتَأمل، مَعَ أَنا وَافَقنَا صَاحب (التَّلْوِيح)
فِيمَا قَالَه حَيْثُ قُلْنَا آنِفا، إِن لفظ بياتاً
لَيْسَ من التَّرْجَمَة بل هُوَ من الْقُرْآن.
لَيُبَيِّتَنَّهُ لَيْلاً يُبَيِّتُ لَيْلاً
أكد صَاحب (التَّلْوِيح) كَلَامه الَّذِي ذَكرْنَاهُ الْآن
بِهَاتَيْنِ اللفظتين حَيْثُ قَالَ: يُوضحهُ، أَي: يُوضح
مَا ذكره فِي بعض النّسخ من قَول البُخَارِيّ: لبيتنه
لَيْلًا يبيت لَيْلًا، وَقَالَ بَعضهم: هَذِه الزِّيَادَة
وَقعت عِنْد غير أبي ذَر. قلت: هَذَا كُله لَيْسَ بِوَجْه
قوي فِي الرَّد على ذَلِك الْقَائِل، لِأَنَّهُ لَا يلْزم
من ذكر هَاتين اللفظتين فِي بعض النّسخ أَن يكون لفظ:
بياتاً، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَيجوز أَن يكون بالنُّون
وَالْمِيم، وَيكون من التَّرْجَمَة، ثمَّ ذكر هَاتين
اللفظتين لِكَوْنِهِمَا من الْقُرْآن أما الأولى فَفِي
سُورَة النَّمْل فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا تقاسموا
بِاللَّه لنبيتنه وَأَهله ... } (النَّمْل: 94) . الْآيَة
يَعْنِي: قَالُوا متقاسمين بِاللَّه لنبيتنه، قَرَأَ
حَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِضَم التَّاء على الْخطاب،
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بالنُّون، وَهُوَ من البيات وَهُوَ
مباغتة الْعَدو لَيْلًا. وَأما الثَّانِيَة فَفِي سُورَة
النِّسَاء فِي قَوْله تَعَالَى {بيَّت طَائِفَة مِنْهُم
غير الَّذِي تَقول} (النِّسَاء: 18) . وَهِي فِي
السَّبْعَة، وَهُوَ من التبييت فِي اللَّيْل لِأَنَّهُ
وَقت البيتوتة، فَإِن ذَلِك الْوَقْت أخلى للفكر. وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَة: كل شَيْء قدر بلَيْل تبييت.
2103 - حدَّثنا علِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ عُبَيْدِ الله
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنِ الصَّعْبِ بنِ جَثَّامَةَ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُم قَالَ مَرَّ بِي النَّبِيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بالأبْوَاءِ أوْ بِوَدَّانَ وسُئِلَ عنْ
أهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فيُصَابُ
مِنْ نِسَائِهِمْ وذَرَارِيِّهِمْ قالَ هُمْ مِنْهُمْ
وسَمِعْتُهُ يَقُولُ لاَ حِمَى إلاَّ لله ولِرَسُولِهِ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أنَّهُ سَمِعَ
عُبَيْدَ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثنا الصَّعْبُ
فِي الذَّرَارِيِّ كانَ عَمْرٌ ويُحَدِّثُنَا عنِ ابنِ
شِهَابٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَسَمِعْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبَرنِي عُبَيْدُ
الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ
الصَّعْبِ قالَ هُمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يقُلْ كَمًّ قَالَ
عَمْرٌ وهُمْ مِنْ آبَائِهِمْ.
(انْظُر الحَدِيث 0732) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَسُئِلَ عَن أهل
الدَّار) إِلَى قَوْله: (وسمعته) . وَرِجَاله كلهم قد
ذكرُوا، وَعبيد الله هُوَ ابْن عبد الله ابْن عتبَة بن
مَسْعُود، والصعب ضد السهل ابْن جثامة، بِفَتْح وَتَشْديد
الثَّاء الْمُثَلَّثَة: ابْن قيس بن ربيعَة اللَّيْثِيّ،
مر فِي جَزَاء الصَّيْد.
والْحَدِيث أخرجه بَقِيَّة السِّتَّة، فَمُسلم أخرجه فِي
الْمَغَازِي، وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي الْجِهَاد،
وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي السّير.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بالأبواء) ، بِفَتْح الْهمزَة
وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وبالمد: من عمل الْفَرْع من
الْمَدِينَة، بَينهَا وَبَين الْجحْفَة مِمَّا يَلِي
الْمَدِينَة ثَلَاثَة وَعشْرين ميلًا، سميت بذلك لتبوء
السُّيُول بهَا، وَبِه توفيت أم رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أَو بودان) ، شكّ من الرَّاوِي،
وَهِي: بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الدَّال الْمُهْملَة
وَبعد الْألف نون، وَهِي قَرْيَة جَامِعَة بَينهَا وَبَين
الْأَبْوَاء ثَمَانِيَة أَمْيَال قريب من الْجحْفَة، وَهِي
أَيْضا من عمل الْفَرْع. قَوْله: (وَسُئِلَ) على صِيغَة
الْمَجْهُول وَالْوَاو فِيهِ للْحَال، ويروى: فَسئلَ،
بِالْفَاءِ. قَوْله: (عَن أهل الدَّار) ، أَي: عَن أهل
دَار الْحَرْب، وَفِي رِوَايَة مُسلم: سُئِلَ عَن
الذَّرَارِي من الْمُشْركين يبيتُونَ من نِسَائِهِم
وذراريهم، فَقَالَ: هم مِنْهُم، رَوَاهُ عَن يحيى بن يحيى
عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله
عَن ابْن عَبَّاس عَن الصعب بن جثامة، وَفِي لفظ لَهُ عَن
الصعب، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! إِنَّا نصيب فِي
البيات من ذَرَارِي الْمُشْركين. قَالَ: هم مِنْهُم، وَفِي
لفظ لَهُ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ:
لَو أَن خيلاً غارت من اللَّيْل فأصابت من أَبنَاء
الْمُشْركين؟ قَالَ: هم من آبَائِهِم، وَترْجم مُسلم على
هَذَا: بَاب مَا أُصِيب من ذَرَارِي الْعَدو فِي البيات،
وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَكَذَا هُوَ فِي أَكثر نسخ
بِلَادنَا: سُئِلَ
(14/260)
عَن الذَّرَارِي، وَفِي بَعْضهَا: سُئِلَ
عَن ذَرَارِي الْمُشْركين، وَنقل القَاضِي هَذِه عَن
رِوَايَة جُمْهُور رُوَاة (صَحِيح مُسلم) قَالَ: وَهِي
الصَّوَاب، فَأَما الرِّوَايَة الأولى فَقَالَ: لَيست
بِشَيْء، بل هِيَ تَصْحِيف. قَالَ: وَمَا بعده يبين غلطه.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَلَيْسَت بَاطِلَة كَمَا ادّعى
القَاضِي، بل لَهَا وَجه، وَتَقْدِيره: سُئِلَ عَن حكم
صبيان الْمُشْركين الَّذين يبيتُونَ فيصاب من نِسَائِهِم
وصبيانهم بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: هم من آبَائِهِم، أَي: لَا
بَأْس بذلك، لِأَن أحكاما الْبَلَد جَارِيَة عَلَيْهِم فِي
الْمِيرَاث وَفِي النِّكَاح وَفِي الْقصاص والديات وَغير
ذَلِك، وَالْمرَاد إِذا لم يتَعَمَّد من غير ضَرُورَة.
قَوْله: (يبيتُونَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقعت حَالا
عَن أهل الدَّار من التبييت، وَهُوَ أَن يغار عَلَيْهِم
بِاللَّيْلِ بِحَيْثُ لَا يعرف رجل من امْرَأَة. قَوْله:
(من الْمُشْركين) ، بَيَان الدَّار. قَوْله: (فيصاب من
نِسَائِهِم وذراريهم) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: إِنَّا نصيب
فِي البيات من ذَرَارِي الْمُشْركين، كَمَا مر، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَالْمرَاد بِالذَّرَارِيِّ هُنَا النِّسَاء
وَالصبيان. قلت: كَيفَ يُرَاد من الذَّرَارِي النِّسَاء،
وَهَذَا كَمَا رَأَيْت فِي رِوَايَة البُخَارِيّ عطف
الذَّرَارِي على النِّسَاء؟ قَوْله: (هم مِنْهُم) أَي:
النِّسَاء والذراري من أهل الدَّار من الْمُشْركين.
فَإِن قلت: هَذَا يُخَالف مَا ذكره البُخَارِيّ فِيمَا بعد
عَن ابْن عمر: نهى عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان، وَمَا
رَوَاهُ مُسلم عَن بُرَيْدَة: اغزوا فَلَا تقتلُوا وليداً،
وسيروا وَلَا تمثلوا. وَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن
سَمُرَة: اقْتُلُوا شُيُوخ الْمُشْركين واستبقوا شرخهم.
وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب، وَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ
عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لم يقتلهُمْ فَلَا يقتلهُمْ بقوله لنجدة الحروري،
وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث
ريَاح بِكَسْر الرَّاء وبالياء آخر الْحُرُوف: ابْن
الرّبيع، وَفِيه: فَقَالَ الخالد، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، لَا تقتلن امْرَأَة وَلَا عسيفاً. وَمَا رَوَاهُ
أَحْمد من حَدِيث الْأسود بن سريع، وَفِيه ألاَ لَا
تقتلُوا ذُرِّيَّة أَلا لَا تقتلُوا ذُرِّيَّة، وَمَا
رَوَاهُ أَحْمد أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَفِيه:
وَلَا تقتلُوا الْولدَان وَلَا أَصْحَاب الصوامع، وَمَا
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث أبي
سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان، وَقَالَ: هما
لمن غلب. وَمَا رَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث أبي ثَعْلَبَة
الْخُشَنِي، قَالَ: نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن قتل النِّسَاء والولدان. وَمَا رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد من حَدِيث أنس وَفِيه: لَا تقتلُوا شَيخا فانياً
وَلَا طفْلا وَلَا صَغِيرا وَلَا امْرَأَة، وَمَا رَوَاهُ
أَبُو يعلى الْموصِلِي من حَدِيث جرير بن عبد الله،
وَفِيه: وَلَا تقتلُوا الْولدَان. وَمَا رَوَاهُ
الْبَزَّار فِي (مُسْنده) من حَدِيث ابْن عمر، وَفِيه: لَا
تقتلُوا وليداً. وَمَا رَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث عَوْف
ابْن مَالك، وَفِيه: لَا تقتلُوا النِّسَاء. وَمَا رَوَاهُ
أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث ثَوْبَان مولى رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سمع رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من قتل صَغِيرا أَو كَبِيرا
أَو أحرق نخلا أَو قطع شَجَرَة مثمرة أَو ذبح شَاة
لأَهْلهَا لم يرجع كفافاً. وَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
من حَدِيث كَعْب: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
نهى عَن قتل النِّسَاء والولدان.
قلت: قَالَ الْخطابِيّ: قَوْله: (هم مِنْهُم) يُرِيد فِي
حكم الدّين، فَإِن ولد الْكَافِر مَحْكُوم لَهُ بالْكفْر،
وَلم يرد بِهَذَا القَوْل إِبَاحَة دِمَائِهِمْ تعمداً
لَهَا، وقصداً إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ إِذا لم يُمكن
الْوُصُول إِلَى الْآبَاء إلاَّ بهم، فَإِذا أصيبوا
لاختلاطهم بِالْآبَاءِ لم يكن عَلَيْهِم فِي قَتلهمْ
شَيْء، وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قتل
النِّسَاء وَالصبيان، فَكَانَ ذَلِك على الْقَصْد لَا قتال
فِيهِنَّ، فَإِذا قاتلهن فقد ارْتَفع الْحَظْر وَأحل
دِمَاء الْكفَّار إلاَّ بِشَرْط الحقن. وَلما روى
التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن عمر الَّذِي فِيهِ: نهى عَن قتل
النِّسَاء وَالصبيان، على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله
تَعَالَى، قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد بعض أهل
الْعلم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَغَيرهم، كَرهُوا قتل النِّسَاء والولدان، وَهُوَ قَول
الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ. وَرخّص بعض أهل الْعلم فِي
البيات، وَقتل النِّسَاء فيهم والولدان، وَهُوَ قَول
أَحْمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ شَيخنَا: وَمَا حَكَاهُ
التِّرْمِذِيّ عَن الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ من كَرَاهَة
قتل النِّسَاء وَالصبيان ظَاهر فِي ترك الْقَتْل مُطلقًا
فِي البيات وَغَيره، وَلَيْسَ كَذَلِك. أما قَتلهمْ فِي
غير البيات فَأَجْمعُوا على تَحْرِيمه إِذا لم يقاتلوا،
كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) ، فَإِن
قَاتلُوا فَقَالَ فِي (شرح مُسلم) حِكَايَة عَن جَمَاهِير
الْعلمَاء: يقتلُون، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله
تَعَالَى: بَاب مَا نهى عَن قَتله من النِّسَاء والولدان
فِي دَار الْحَرْب، ثمَّ أخرج عَن تِسْعَة أنفس من
الصَّحَابَة فِي النَّهْي عَن قتل الْولدَان والنسوان،
وَقد مرت أَحَادِيث أَكْثَرهم عَن قريب، ثمَّ قَالَ: فَذهب
قوم إِلَى أَنه لَا يجوز قتل النِّسَاء والولدان فِي دَار
الْحَرْب على كل حَال، وَأَنه لَا يحل أَن يقْصد إِلَى قتل
غَيرهم إِذا كَانَ لَا يُؤمن فِي ذَلِك تلفهم، من ذَلِك
أَن أهل الْحَرْب إِذا تترسوا بصبيانهم وَكَانَ
الْمُسلمُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ رميهم إلاَّ بِإِصَابَة
صبيانهم فَحَرَام عَلَيْهِم رميهم فِي قَول هَؤُلَاءِ،
وَكَذَلِكَ إِن تحَصَّنُوا بحصن وَجعلُوا فِيهِ الْولدَان،
فَحَرَام عَلَيْهِم رمي ذَلِك الْحصن عَلَيْهِم إِذا
كُنَّا نَخَاف فِي ذَلِك تلف نِسَائِهِم
(14/261)
وولدانهم، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِهَذِهِ
الْأَحَادِيث الَّتِي رويناها. قلت: أَرَادَ بالقوم
هَؤُلَاءِ: الْأَوْزَاعِيّ ومالكاً وَالشَّافِعِيّ، فِي
قَول وَأحمد فِي رِوَايَة.
وَقَالَ أَبُو عمر: اخْتلفُوا فِي رمي الْحُصُون بالمنجنيق
إِذا كَانَ فِيهَا أَطْفَال الْمُشْركين أَو أُسَارَى
الْمُسلمين، فَقَالَ مَالك: لَا يرْمى الْحصن وَلَا تحرق
سفينة الْكفَّار إِذا كَانَ فِيهَا أُسَارَى الْمُسلمين:
قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِذا تترس الْكفَّار بأطفال
الْمُسلمين لم يرموا وَلَا تحرق الْمركب الَّذِي فِيهِ
أُسَارَى الْمُسلمين. وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة
وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ فِي (الصَّحِيح)
وَأحمد وَإِسْحَاق: إِذا كَانَ لَا يُوصل إِلَى قَتلهمْ
إلاَّ بِتَلف الصّبيان وَالنِّسَاء فَلَا بَأْس بِهِ.
وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه
وَالثَّوْري: لَا بَأْس برمي حصون الْمُشْركين وَإِن كَانَ
فِيهَا أُسَارَى من الْمُسلمين وأطفالهم، أَو أَطْفَال
الْمُشْركين، وَلَا بَأْس أَن تحرق السفن ويقصد بِهِ
الْمُشْركُونَ، فَإِن أَصَابُوا وَاحِدًا من الْمُسلمين
بذلك فَلَا دِيَة وَلَا كَفَّارَة. وَقَالَ الثَّوْريّ:
إِن أَصَابُوهُ فَفِيهِ الْكَفَّارَة وَلَا دِيَة. قَوْله:
(وسمعته يَقُول) ، أَي: قَالَ الصعب بن جثامة: سَمِعت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول. . ويروى:
فَيَقُول، وَهِي رِوَايَة أبي ذَر، وبالواو أظهر. قَوْله:
(لَا حمى إلاَّ لله وَلِرَسُولِهِ) ، هَذَا حَدِيث
مُسْتَقل مضى فِي كتاب الْمُسَاقَاة فِي: بَاب لَا حمى
إلاَّ لله وَلِرَسُولِهِ، أخرجه عَن يحيى بن بكير عَن
اللَّيْث عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد
الله بن عتبَة ابْن مَسْعُود عَن ابْن عَبَّاس: أَن الصعب
بن جثامة، قَالَ: إِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم (لَا حمى إلاَّ لله وَلِرَسُولِهِ) وَقد مضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر هَذَا
الحَدِيث فِي أثْنَاء حَدِيث الْبَاب؟ قلت: كَانُوا
يحدثُونَ بالأحاديث على نَحْو مَا كَانُوا يسمعونها،
وَقيل: هَذَا يشبه أَن يكون شَبِيها بِمَا رُوِيَ عَن أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (نَحن الْآخرُونَ
السَّابِقُونَ) ، ثمَّ وَصله بِحَدِيث آخر لَيْسَ فِيهِ
شَيْء من مَعْنَاهُ كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَعَن
الزُّهْرِيّ) ، مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول: حَدثنَا
الصعب فِي الذَّرَارِي ... أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن فِي
هَذِه الرِّوَايَة عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله عَن ابْن
عَبَّاس. قَوْله: (حَدثنَا الصعب فِي الذَّرَارِي) ،
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن فِي هَذِه الرِّوَايَة عَن
الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس: حَدثنَا
الصعب فِي الذَّرَارِي أَي: سُئِلَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، عَن الذَّرَارِي، وَكَذَا وَقع فِي بعض النّسخ
لمُسلم: سُئِلَ عَن الذَّرَارِي، وَقد ذكرنَا عَن قريب عَن
النَّوَوِيّ أَنه قَالَ: المُرَاد بِالذَّرَارِيِّ هُنَا
النِّسَاء وَالصبيان. قَوْله: (كَانَ عَمْرو) ، يحدثنا
أَي: قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: كَانَ عَمْرو بن
دِينَار يحدثنا عَن ابْن شهَاب، وَهُوَ الزُّهْرِيّ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، وَقَالَ
بَعضهم فِي سِيَاق هَذَا الْبَاب عَن الزُّهْرِيّ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يُوهم أَن رِوَايَة
عَمْرو بن دِينَار عَن الزُّهْرِيّ هَكَذَا بطرِيق
الْإِرْسَال، وَبِذَلِك جزم بعض الشُّرَّاح، وَلَيْسَ
كَذَلِك، فقد أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق
الْعَبَّاس بن يزِيد حَدثنَا سُفْيَان، قَالَ: كَانَ
عَمْرو يحدثنا قبل أَن يقدم الزُّهْرِيّ عَن الزُّهْرِيّ
عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس عَن الصعب بن جثامة،
قَالَ: فَقدم علينا الزُّهْرِيّ فَسَمعته يُعِيدهُ ويبديه،
فَذكر الحَدِيث. انْتهى. قلت: أَرَادَ بِبَعْض الشُّرَّاح
الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّه مُرْسل،
وَالصَّوَاب مَعَه، فَإِن صُورَة مَا وَقع هُنَا صُورَة
الْإِرْسَال، وَلَا نزاع فِي ذَلِك بِحَسب الظَّاهِر،
وَلَا ينْدَفع صُورَة الْإِرْسَال هُنَا بِإِخْرَاج
الْإِسْمَاعِيلِيّ كَمَا ذكره. قَوْله: (وَلم يقل كَمَا
قَالَ عَمْرو: هم من آبَائِهِم) ، بَيَان هَذَا الْموضع
هُوَ: أَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة قَالَ: كَانَ عَمْرو بن
دِينَار يحدثنا بِهَذَا الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ مُرْسلا
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: هم من
آبَائِهِم، فسمعناه بعد ذَلِك من الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ:
أَخْبرنِي عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس، عَن الصعب عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: هم
مِنْهُم، وَلم يقل كَمَا قَالَ عَمْرو: من آبَائِهِم.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا نصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي
حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد
الله ابْن عبد الله عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أَخْبرنِي
الصعب بن جثامة، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! إِن
خَيْلنَا وطِئت من نسَاء الْمُشْركين وَأَوْلَادهمْ؟
قَالَ: (هم من آبَائِهِم) ، هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَقد
أخرج ابْن حبَان فِي حَدِيث الصعب زِيَادَة فِي آخِره،
ثمَّ نهى عَنهُ يَوْم حنين، وَأَشَارَ الزُّهْرِيّ إِلَى
نسخ حَدِيث الصعب، وَحكي الْحَازِمِي قولا بِجَوَاز قتل
النِّسَاء وَالصبيان على ظَاهر حَدِيث الصعب، وَزعم أَنه
نَاسخ لأحاديث النَّهْي وَهُوَ غَرِيب. قلت: حَدِيث ريَاح
بن الرّبيع، الَّذِي مر عَن قريب، يدل على أَن النَّهْي
كَانَ مُتَأَخِّرًا عَن حَدِيث الصعب، لِأَن خَالِدا،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّمَا كَانَ مَعَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُقَاتِلًا سنة ثَمَان. وَالله
تَعَالَى أعلم.
(14/262)
741 - (بابُ قَتْلِ الصِّبْيَانِ فِي
الحَرْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي عَن قتل الصّبيان فِي
الْحَرْب لقصورهم عَن فعل الْكفْر، وَلِأَن فِي استبقائهم
انتفاعاً بالرقبية أَو بِالْفِدَاءِ عِنْد من يجوز أَن
يفادى بهم.
4103 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ أخْبَرَنا
اللَّيْثُ عنْ نافِعٍ أنَّ عَبْدَ الله رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ أخبرَهُ أنَّ امْرَأةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ
مَغازِي النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَقْتُولَةً
فأنْكَرَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتْلَ
النِّساءِ والصِّبْيَانِ.
(الحَدِيث 4103 طرفه فِي: 5103) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَالصبيان) أَي: وَقتل
الصّبيان فِي الْحَرْب، وَأحمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن
عبد الله بن يُونُس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي،
وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد، وَعبد الله هُوَ ابْن عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. والْحَدِيث أخرجه
مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن يحيى وقتيبة وَمُحَمّد
بن رمح، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن يزِيد بن
خَالِد ابْن وهب وقتيبة.
841 - (بابُ قَتْلِ النِّساءِ فِي الحَرْبِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان النَّهْي عَن قتل النِّسَاء
فِي الْحَرْب.
5103 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ ل
أِبِي أُسَامَةَ حدَّثَكُمْ عُبَيْدُ الله عنْ نافِعٍ عنِ
ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ وُجِدَتِ
امْرَأةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِي رسولِ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فنَهَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عنْ قَتْلِ النِّساءِ والصِّبْيَانِ.
(انْظُر الحَدِيث 4103) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (عَن قتل النِّسَاء)
وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَأَبُو
أُسَامَة هُوَ حَمَّاد بن أُسَامَة، وَعبيد الله هُوَ ابْن
عبد الله بن عمر بن الْخطاب. والْحَدِيث أخرجه مُسلم
أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر.
قَوْله: (حَدثكُمْ عبيد الله) ، هُوَ سُؤال إِسْحَاق عَن
أبي أُسَامَة عَن تحديث هَذَا الحَدِيث. وَفِيه أَنه إِذا
قَالَ لشيخه: حَدثكُمْ أَو أخْبركُم فلَان؟ فَقَالَ: نعم،
أَو سكت فِي جَوَابه مَعَ قريبنة الْإِجَابَة جَازَت
الرِّوَايَة عَنهُ، وَهنا سكت. وَإِسْحَاق روى هَذَا
الحَدِيث فِي (مُسْنده) بِهَذَا السِّيَاق، وَزَاد فِي
آخِره، فَأقر بِهِ أَبُو أُسَامَة، وَقَالَ: نعم، وَقَالَ
بَعضهم: وعَلى هَذَا فَلَا حجَّة فِيهِ لمن قَالَ فِيهِ:
إِن من قَالَ لشيخه: حَدثكُمْ فلَان؟ فَسكت، جَازَ ذَلِك
مَعَ الْقَرِينَة، لِأَنَّهُ تبين من هَذِه الطَّرِيقَة
الْأُخْرَى أَنه لم يسكت. انْتهى. قلت: قَول أبي أُسَامَة
فِي هَذَا الطَّرِيق، نعم، لَا يسْتَلْزم عدم سُكُوته فِي
الطَّرِيقَة الآخر، فَإِذا فَاتَت الْقَرِينَة الدَّالَّة
على الْإِجَابَة عِنْد سكُوت الشَّيْخ، يكون حكمه حكم
التَّصْرِيح بقوله: نعم، وغرض هَذَا الْقَائِل بِمَا ذكره
الرَّد على الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ جعل السُّكُوت مَعَ
الْقَرِينَة، كالتصريح على مَا ذَكرْنَاهُ.
941 - (بابٌ لَا يُعَذَّبُ بِعَذَابِ الله)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يعذب بِعَذَاب الله،
وَلَا يعذب: على صِيغَة الْمَجْهُول.
6103 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ عنْ بُكَيْرٍ عنْ سُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ عنْ أبي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ قَالَ
بَعَثَنَا رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَعْثٍ
فَقال إنْ وَجَدْتُم فُلانَاً وفُلاناً فأحْرِقُوهُما
بالنَّارِ ثُمَّ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حِينَ أرَدْنَا الخُرُوجَ إنِّي أمَرْتُكُمْ أنْ
تُحَرِّقُوا فُلاناً وفُلاناً وإنَّ النَّارَ لاَ
يُعَذَّبُ بِهَا إلاَّ الله فإنْ وَجَدْتُمُوهَا
فاقْتُلُوهُما.
(الحَدِيث 4592 طرفه فِي: 5103) .
(14/263)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِن
النَّار لَا يعذب بهَا إِلَّا الله) ، وَبُكَيْر، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الله بن الْأَشَج.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْجِهَاد مُعَلّقا
فِي: بَاب التوديع، وَقَالَ ابْن وهب: أَخْبرنِي عَمْرو
عَن بكير عَن سُلَيْمَان ابْن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة ...
الحَدِيث، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله:
(حَدثنَا اللَّيْث عَن بكير) وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن
هِشَام عَن الْقَاسِم: عَن اللَّيْث حَدثنِي بكير بن عبد
الله الْأَشَج، فَأفَاد شَيْئَيْنِ: {أَحدهمَا:
التَّصْرِيح بِالتَّحْدِيثِ، وَالْآخر: نِسْبَة بكير.
قَوْله: (عَن أبي هُرَيْرَة) كَذَا فِي جَمِيع الطّرق عَن
اللَّيْث لَيْسَ بَين سُلَيْمَان بن يسَار وَأبي هُرَيْرَة
فِيهِ أحد، وَكَذَلِكَ أخرجه النَّسَائِيّ من طَرِيق
عَمْرو ابْن الْحَارِث وَغَيره عَن بكير، وَخَالفهُ
مُحَمَّد بن إِسْحَاق فَرَوَاهُ فِي (السِّيرَة) : عَن
يزِيد بن أبي حبيب عَن بكير، فَأدْخل بَين سُلَيْمَان ابْن
يسَار وَأبي هُرَيْرَة: أخبرنَا إِسْحَاق الدوسي، وَقد
ذكرنَا هُنَاكَ أَن ابْن أبي شيبَة سَمَّاهُ: إِبْرَاهِيم.
7103 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ عنْ أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ أنَّ علِيَّاً رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ حَرَّقَ قَوْماً فبَلَغَ ابنَ
عَبَّاسٍ فَقَالَ لَوْ كُنْتُ أَنا لَمْ أُحَرَّقْهُمْ
لأِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ
تُعَذَّبُوا بِعَذَابِ الله ولَقَتَلْتُهُمْ كَما قَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منْ بَدَّلَ دِينَهُ
فاقْتُلُوهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا تعذبوا بِعَذَاب
الله) . وعَلى بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ،
وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَأَيوب هُوَ
السّخْتِيَانِيّ، وَعِكْرِمَة هُوَ مولى ابْن عَبَّاس.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اسْتِتَابَة
الْمُرْتَدين عَن أبي النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحُدُود عَن أَحْمد بن
حَنْبَل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن عَبدة
الضَّبِّيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة عَن
مُحَمَّد بن عبد الله المَخْزُومِي وَعَن عمرَان بن مُوسَى
وَعَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الْحُدُود عَن مُحَمَّد ابْن الصَّباح.
قَوْله: (إِن عليا حرق قوما) وَفِي رِوَايَة الْحميدِي أَن
عليا أحرق الْمُرْتَدين، يَعْنِي: الزَّنَادِقَة. وَفِي
رِوَايَة ابْن أبي عمر وَعمر ابْن عباد جَمِيعًا عَن
سُفْيَان. قَالَ: رَأَيْت عَمْرو بن دِينَار وَأَيوب وعمار
الدهني اجْتَمعُوا فتذاكروا الَّذين أحرقهم عَليّ، فَقَالَ
أَيُّوب: فَذكر الحَدِيث، قَالَ: فَقَالَ عمار: لم يحرقهم
وَلَكِن حفر لَهُم حفائر وَحرق بَعْضهَا إِلَى بعض ثمَّ
دخن عَلَيْهِم، وَقَالَ عَمْرو بن دِينَار: أَرَادَ بذلك
الرَّد على عمار الدهني فِي إِنْكَاره أصل التحريق،
وَقَالَ الْمُهلب: لَيْسَ نَهْيه عَن التحريق على
التَّحْرِيم، وَإِنَّمَا هُوَ على سَبِيل التَّوَاضُع،
وَالدَّلِيل على أَنه لَيْسَ بِحرَام سمل الشَّارِع أعين
الرُّعَاة بالنَّار، وتحريق الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. الْفُجَاءَة بالنَّار فِي مصلى الْمَدِينَة
بِحَضْرَة الصَّحَابَة، وتحريق عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، الْخَوَارِج بالنَّار، وَأكْثر عُلَمَاء
الْمَدِينَة يجيزون تحريق الْحُصُون على أَهلهَا بالنَّار،
وَقَول أَكْثَرهم بتحريق المراكب، وَهَذَا كُله يدل على
أَن معنى الحَدِيث على النّدب، وَمِمَّنْ كره رمي أهل
الشّرك بالنَّار: عَمْرو بن عَبَّاس وَابْن عبد الْعَزِيز،
وَهُوَ قَول مَالك، وَأَجَازَهُ عَليّ، وَحرق خَالِد بن
الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، نَاسا من أهل
الرِّدَّة، فَقَالَ عمر للصديق: إنزع هَذَا الَّذِي يعذب
بِعَذَاب الله، فَقَالَ الصّديق: لَا أنزع سَيْفا سَله
الله على الْمُشْركين، وَأَجَازَ الثَّوْريّ رمي الْحُصُون
بالنَّار. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: لَا بَأْس أَن يدخن
عَلَيْهِم فِي المطمورة إِذا لم يكن فِيهَا إلاَّ
الْمُقَاتلَة ويحرقوا ويقتلوا كل قتال، وَلَو لَقِينَاهُمْ
فِي الْبَحْر رميناهم بالنفط والقطران، وَأَجَازَ ابْن
الْقَاسِم رمي الْحصن بالنَّار والمراكب إِذا لم يكن
فِيهَا إلاَّ الْمُقَاتلَة فَقَط. قَوْله: (لَو كنت أَنا)
، خَبره مَحْذُوف أَي: لَو كنت أَنا بدله، وَكَانَ ذَلِك
من عَليّ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَاد. قَوْله: (لِأَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا تعذبوا
بِعَذَاب الله) هَذَا أصرح فِي النَّهْي من الَّذِي قبله.
وَأخرج أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث عَن أَحْمد بن حَنْبَل
وَفِي آخِره: فَبلغ ذَلِك عليا فَقَالَ: وَيْح ابْن
عَبَّاس: وَرَأَيْت فِي نُسْخَة صَحِيحَة: وَيْح أم ابْن
عَبَّاس. قَوْله: (من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ) ، هَذَا يدل
على أَن كل من بدل دينه يقتل وَلَا يحرق بالنارد، وَبِه
احْتج ابْن الْمَاجشون أَن الْمُرْتَد يقتل وَلَا
يُسْتَتَاب، وَجُمْهُور الْفُقَهَاء على استتابته، فَإِن
تَابَ قبلت تَوْبَته، وَاحْتج بِهِ الشَّافِعِي أَيْضا فِي
قَوْله: من انْتقل من كفر إِلَى كفر أَنه يقتل إِن لم
يسلم، وَهَذَا مثل اليهدوي إِذا تنصر أَو النَّصْرَانِي
إِذا تهود، وَعند أبي حنيفَة: لَا يقتل لِأَن الْكفْر كُله
مِلَّة وَاحِدَة، وَاحْتج بِهِ الشَّافِعِي أَيْضا فِي قتل
الْمُرْتَدَّة، وَعند أبي حنيفَة: لَا تقتل بل تحبس.
(14/264)
051 - (بابٌ {فإمَّا مَناً بَعْدُ وإمَّا
فِداءً} (مُحَمَّد: 04) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ التَّخْيِير بَين الْمَنّ
وَالْفِدَاء فِي الأسرى. لقَوْله تَعَالَى: {فإمَّا منا
بعد وَإِمَّا فدَاء} وَأول هَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا
لَقِيتُم الَّذين كفرُوا فَضرب الرّقاب حَتَّى إِذا
أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء
حَتَّى تضع الْحَرْب أَوزَارهَا} (مُحَمَّد: 04) . قَوْله:
{فَإِذا لَقِيتُم} من اللِّقَاء وَهُوَ الْحَرْب. قَوْله:
{فَضرب الرّقاب} (مُحَمَّد: 04) . أَصله: فاضربوا الرّقاب
ضربا، فَحذف الْفِعْل وَقدم الْمصدر فأنيب مناب الْفِعْل
مُضَافا إِلَى الْمَفْعُول، وَفِيه اخْتِصَار مَعَ
إِعْطَاء معنى التوكيد، وَضرب: عبارَة عَن الْقَتْل، لِأَن
الْوَاجِب أَن تضرب الرّقاب خَاصَّة دون غَيرهَا من
الْأَعْضَاء مَعَ أَن فِي هَذِه الْعبارَة من الغلظة
والشدة مَا لَيْسَ فِي لفظ الْقَتْل، وَلَقَد زَاد فِي
هَذِه الغلظة فِي قَوْله: فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق.
قَوْله: {حَتَّى إِذا أثخنتموهم} (مُحَمَّد: 04) . أَي:
أَكثرْتُم قَتلهمْ وأغلظتموه، من الشَّيْء الثخين وَهُوَ
الغليظ وَقيل: أثقلتموهم بِالْقَتْلِ والجراح حَتَّى
أَذهَبْتُم عَنْهُم النهوض، وَقيل: قهرتموهم وغلبتموهم.
قَوْله: {فشدوا الوثاق} (مُحَمَّد: 04) . وَهُوَ بِفَتْح
الْوَاو: اسْم مَا يوثق بِهِ. قَوْله: {فإمَّا منا}
مَنْصُوب بِتَقْدِير: فإمَّا تمنون منا، وَكَذَلِكَ:
وَإِمَّا تفدون فدَاء، وَالْمعْنَى: التَّخْيِير بعد
الْأسر بَين أَن يمنوا عَلَيْهِم فيطلقوهم وَبَين أَن
يفادوهم، وَقَالَ الضَّحَّاك: قَوْله تَعَالَى: {فإمَّا
منا بعد وَإِمَّا فدَاء} (مُحَمَّد: 04) . ناسخة لقَوْله
تَعَالَى: {اقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(التَّوْبَة: 5) . ويروى مثله عَن ابْن عمر، قَالَ:
أَلَيْسَ الله بِهَذَا أمرنَا، قَالَ: {حَتَّى إِذا
أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإمَّا منا بعد وَإِمَّا فدَاء}
(مُحَمَّد: 04) . وَهُوَ قَول عَطاء وَالشعْبِيّ وَالْحسن
الْبَصْرِيّ، كَرهُوا قتل الْأَسير، وَقَالُوا: يمن
عَلَيْهِ أويفادوه، وبمثل هَذَا اسْتدلَّ الطَّحَاوِيّ،
فَقَالَ: ظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي الْمَنّ أَو الْفِدَاء
وَيمْنَع الْقَتْل.
فِيهِ حدِيثُ ثَمامَةَ
أَي: فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء
الْمُثَلَّثَة: ابْن أَثَال، بِضَم الْهمزَة وبالثاء
الْمُثَلَّثَة المخففة، وَقد مر حَدِيثه فِي كتاب
الصَّلَاة فِي: بَاب دُخُول الْمُشرك الْمَسْجِد، وَمر
أَيْضا فِي: بَاب الْمُلَازمَة والإشخاص فِي موضِعين.
أَحدهمَا فِي: بَاب التَّوَثُّق مِمَّن يخْشَى معرته،
وَالْآخر فِي: بَاب الرَّبْط وَالْحَبْس فِي الْحرم،
وَسَيَأْتِي أَيْضا مطولا فِي أَوَاخِر كتاب الْمَغَازِي
فِي: بَاب وَفد بني حنيفَة، وَحَدِيث ثُمَامَة ابْن
أَثَال، وَحَاصِله أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بعث
خيلاً قِبَلَ نَجدٍ فَجَاءَت بِرَجُل من بني حنيفَة يُقَال
لَهُ ثُمَامَة بن أَثَال، فربطوه بِسَارِيَة من سواري
الْمَسْجِد، ثمَّ أطلقهُ، وَالله أعلم.
وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ {مَا كانَ لِنَبِيِّ أنْ تَكُونَ
لَهُ أسْرَى} (الْأَنْفَال: 76) .
وَتَمام الْآيَة: {حَتَّى يثخن فِي الأَرْض تُرِيدُونَ عرض
الدُّنْيَا وَالله يُرِيد الْآخِرَة وَالله عَزِيز حَكِيم}
(الْأَنْفَال: 76) . وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر بن
مرْدَوَيْه وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من حَدِيث عبيد
الله بن مُوسَى: حَدثنَا إِسْرَائِيل عَن إِبْرَاهِيم بن
مهَاجر عَن مُجَاهِد عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لم أسر الْأُسَارَى يَوْم بدر:
أسر الْعَبَّاس فِيمَن أسر، أسره رجل من الْأَنْصَار،
قَالَ: وَقد أوعدته الْأَنْصَار إِن يقتلوه، فَبلغ ذَلِك
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وسلموفيه: إِنِّي لم أنم اللَّيْلَة من
أجل عمي الْعَبَّاس، وَقد زعمت الْأَنْصَار أَنهم
قَاتلُوهُ، فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
فآتهم. قَالَ: نعم، فَأتى عمر الْأَنْصَار، فَقَالَ لَهُم:
أرْسلُوا الْعَبَّاس، فَقَالُوا: لَا وَالله لَا نرسله،
فَقَالَ لَهُم عمر: فَإِن كَانَ لرَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رضَا؟ قَالُوا: فَإِن كَانَ لرَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رضَا فَخذه، فَأَخذه عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، فَلَمَّا صَار فِي يَده قَالَ لَهُ:
يَا عَبَّاس! أسلم فوَاللَّه لَئِن تسلم أحب إِلَيّ من أَن
يسلم الْخطاب، وَمَا ذَاك إلاَّ لما رَأَيْت رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعجبهُ إسلامك. قَالَ:
فَاسْتَشَارَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا
بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ أَبُو بكر:
عشيرتك فأرسلهم، فَاسْتَشَارَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فَقَالَ: ففاداهم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَأنْزل الله عز وَجل: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون
لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} (الْأَنْفَال: 76) .
الْآيَة. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم
يخرجَاهُ.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب. مِنْهُم من قَالَ:
لَا يحل قتل أَسِير صبرا، وَإِنَّمَا يمن عَلَيْهِ أَو
يفدى، وَقَالُوا: إِن قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ
الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} (التَّوْبَة:
5) . مَنْسُوخ بقوله: {فإمَّا منَّاً وَإِمَّا فدَاء}
(مُحَمَّد: 4) . وَهُوَ قَول جمَاعَة من التَّابِعين، وَقد
ذَكَرْنَاهُمْ عَن قريب. وَمِنْهُم من قَالَ: لَا يجوز فِي
الأسرى من الْمُشْركين إِلَّا الْقَتْل، وَجعلُوا قَوْله
عز وَجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} (التَّوْبَة: 5) . نَاسِخا لقَوْله:
{فإمَّا منّاً بعد
(14/265)
وإمَّا فدَاء} (مُحَمَّد: 4) . وَهُوَ قَول
مُجَاهِد. وَقَالَ غَيرهم: إِن الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا
محكمتان، وَهُوَ قَول ابْن زيد، وَهُوَ قَول صَحِيح بَين،
لِأَن إِحْدَاهَا لَا تَنْفِي الْأُخْرَى، ينظر الإِمَام
فِي ذَلِك مِمَّا يرَاهُ مصلحَة، أما الْقَتْل وَإِمَّا
الْفِدَاء أَو الْمَنّ، وَكَذَا قَالَ أَبُو عبيد بن
سَلام، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد وَأبي
ثَوْر، قَالَ: وَقد فعل هَذَا كُله سيدنَا رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حروبه.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ اخْتلف قَول أبي حنيفَة فِي هَذَا،
فَروِيَ عَنهُ: أَن الأسرى لَا تفادى وَلَا يردون حَربًا،
لِأَن فِي ذَلِك قُوَّة لأهل الْحَرْب، وَإِنَّمَا يفادون
بِالْمَالِ وَمَا سواهُ مِمَّا لَا قُوَّة لَهُم فِيهِ،
وَرُوِيَ عَنهُ: أَنه لَا بَأْس أَن يفادى بالمشركين
أُسَارَى الْمُسلمين، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد،
وَرَأى أَبُو حنيفَة أَن الْمَنّ مَنْسُوخ، وَقيل: كَانَ
خَاصّا بسيدنا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَقَالَ أَبُو عبيد: وَالْقَوْل فِي ذَلِك عندنَا أَن
الْآيَات جَمِيعًا محكمات لَا مَنْسُوخ فِيهِنَّ، وَذَلِكَ
أَنه عمل بِالْآيَاتِ كلهَا من الْقَتْل والأسر
وَالْفِدَاء حَتَّى توفاه الله تَعَالَى على ذَلِك،
فَكَانَ أول أَحْكَامه فيهم يَوْم بدر، فَعمل بهَا كلهَا
يَوْمئِذٍ، بَدَأَ بِالْقَتْلِ فَقتل عقبَة بن أبي معيط
وَالنضْر بن الْحَارِث فِي قفوله، ثمَّ قدم الْمَدِينَة
فَحكم فِي سَائِرهمْ بِالْفِدَاءِ، ثمَّ حكَّم يَوْم بني
قُرَيْظَة سعد بن معَاذ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقتل
الْمُقَاتلَة وسبى الذُّرِّيَّة، فنفذه رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وأمضاه، ثمَّ كَانَت غزَاة بني
المصطلق، رَهْط جوَيْرِية بنت الْحَارِث، فاستحياهم
جَمِيعًا وأعتقهم، ثمَّ كَانَ فتح مَكَّة فَأمر بقتل ابْن
خطل والقينتين وَأطلق البَاقِينَ، ثمَّ كَانَت حنين فسبى
هوَازن وَمن عَلَيْهِم وَقتل أباغرة الجُمَحِي يَوْم أحد
وَقد كَانَ منَّ عَلَيْهِ يَوْم بدر، وَأطلق ثُمَامَة بن
أَثَال، فَهَذِهِ كَانَت أَحْكَامه، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بالمن وَالْفِدَاء وَالْقَتْل، فَلَيْسَ
شَيْء مِنْهَا مَنْسُوخا، وَالْأَمر فيهم إِلَى الإِمَام
وَهُوَ مُخَيّر بن الْقَتْل والمن وَالْفِدَاء، يفعل
الْأَفْضَل فِي ذَلِك لِلْإِسْلَامِ وَأَهله، وَهُوَ قَول
مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي ثَوْر. انْتهى. وَقَالَ
أَصْحَابنَا: لَا يجوز مفاداة أسرى الْمُشْركين، قَالَ
الله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حِين
وَجَدْتُمُوهُمْ} (التَّوْبَة: 5) . الْآيَة. وَقَوله
تَعَالَى: {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا
بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يحرمُونَ مَا حرم الله وَرَسُوله
وَلَا يدينون دين الْحق من الَّذين أُوتُوا الْكتاب حَتَّى
يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يدٍ وهم صاغرون} (التَّوْبَة: 92)
. وَمَا ورد فِي أسرى بدر كُله مَنْسُوخ، وَلم يخْتَلف أهل
التَّفْسِير ونقلة الْآثَار أَن سُورَة بَرَاءَة بعد
سُورَة مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوَجَبَ أَن
يكون الحكم الْمَذْكُور فِيهَا نَاسِخا للْفِدَاء
الْمَذْكُور فِي غَيرهَا.
151 - (بابٌ: لِلأَسِيرِ أنْ يَقْتلَ أَو يَخْدَعَ
الَّذِينَ أسَرُوهُ حتَّى يَنْجُو مِنَ الكَفَرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ هَل للأسير فِي أَيدي
الْكفَّار أَن يقتل ... إِلَخ، وَإِنَّمَا لم يذكر
الْجَواب لمَكَان الِاخْتِلَاف فِي، فَقَالَ الْجُمْهُور:
إِن ائتمنوه يَفِي لَهُم بالعهد، حَتَّى قَالَ مَالك: لَا
يجوز أَن يهرب مِنْهُم، وَخَالفهُ أَشهب فَقَالَ: لَو خرج
بِهِ الْكَافِر ليفادى بِهِ فَلهُ أَن يقْتله. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة: إِعْطَاؤُهُ الْعَهْد على ذَلِك بَاطِل،
وَيجوز لَهُ أَن لَا يَفِي لَهُم بِهِ، وَبِه قَالَ
الطَّبَرِيّ. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: يجوز أَن يهرب من
أَيْديهم وَلَا يجوز أَن يَأْخُذ من أَمْوَالهم، قَالُوا:
وَإِن لم يكن بَينهم عهد جَازَ لَهُ أَن يتَخَلَّص مِنْهُم
بِكُل طَرِيق، وَلَو بِالْقَتْلِ وَأخذ المَال وتحريق
الدَّار وَغير ذَلِك، وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز: إِذا ألجؤه
أَن يحلف أَن لَا يهرب بِطَلَاق أَو عتاق أَنه لَا يلْزمه
ذَلِك لِأَنَّهُ مَكْرُوه، وَرَوَاهُ أَبُو زيد عَن ابْن
الْقَاسِم. وَقَالَ غَيره: لَا معنى لمن فرق بَين يَمِينه
ووعده، لِأَن حَاله حَال الْمُكْره حلف لَهُم أَو وعدهم
أَو عاهدهم سَوَاء أمنوه أَو أخافوه، لِأَن الله تَعَالَى
فرض على الْمُؤمن أَن لَا يبْقى تَحت أَحْكَام الْكفَّار،
وَأوجب عَلَيْهِ الْهِجْرَة من دَارهم، فخروجه على كل وَجه
جَائِز، وَالْحجّة فِي ذَلِك خُرُوج من أبي بَصِير، وتصويب
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعله وَرضَاهُ.
فِيهِ المِسْوَرُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي حكم هَذَا الْبَاب حَدِيث الْمسور بن مخرمَة،
وَفِيه قصَّة أبي بَصِير، وَقد مر حَدِيثه فِي كتاب
الشُّرُوط فِي: بَاب الشُّرُوط فِي الْجِهَاد، مطولا جدا،
وَمن أمره يُؤْخَذ وَجه الْمُطَابقَة لما ترْجم لَهُ.
251 - (بابٌ إذَا حَرَّقَ المُشْرِكُ المُسْلِمَ هَلْ
يُحَرِّقُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا أحرق الْمُشرك الرجل
الْمُسلم، هَل يحرق هَذَا الْمُشرك جَزَاء بِفِعْلِهِ؟
وأحرق يحرق من بَاب الْأَفْعَال، وَفِي بعض النّسخ: إِذا
حرق، بتَشْديد الرَّاء، من التحريق، وَكَذَلِكَ: يحرق،
بِالتَّشْدِيدِ قيل: كَانَ اللَّائِق أَن يذكر هَذِه
(14/266)
التَّرْجَمَة قبل بَابَيْنِ، فَلَعَلَّ
تَأْخِيرهَا من تصرف النقلَة. قلت: ذكر هَذِه التَّرْجَمَة
فِي ذَلِك الْموضع لَيْسَ بِأَمْر مُهِمّ فَلَا يحْتَاج
نسبه ذَلِك إِلَى تصرف النقلَة، ثمَّ قَالَ قَائِل هَذَا
القَوْل: وَيُؤَيّد ذَلِك أَنَّهُمَا أَي: أَن
الْبَابَيْنِ الْمَذْكُورين قبل هَذَا الْبَاب سقطا
جَمِيعًا للنسفي، وَثبتت عِنْده تَرْجَمَة: إِذا أحرق
الْمُشرك، تلو تَرْجَمَة: لَا يعذب بِعَذَاب الله. قلت:
لَا يلْزم من سُقُوط هذَيْن الْبَابَيْنِ عِنْده تأييد مَا
ذكره، لِأَن السَّاقِط مَعْدُوم والمعدوم لَا يُؤَيّد
وَلَا يُؤَكد.
8103 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ
عنْ أيُّوبَ عنْ أبِي قِلابَةَ عنْ أنَس بنِ مالِكٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رهْطاً مِنْ عُكْلٍ ثَمانِيَةً
قَدِمُوا علَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فاجْتَوَوُا المَدِينَةَ فَقَالُوا يَا رسولَ الله ابْغِنا
رِسْلاً قَالَ مَا أجِدُ لَكُمْ إلاَّ أنْ تَلْحَقُوا
بالذَّوْدِ فانْطَلَقُوا فشَرِبُوا مِنْ أبْوَالِهَا
وألْبَانِها حتَّى صَحُّوا وسَمِنُوا وقتَلُوا الرَّاعِيَ
واسْتَاقُوا الذَّوْدَ وكَفَرُوا بَعْدَ إسْلاَمِهِمْ
فأتَى الصَّرِيخُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فبَعَثَ الطَّلَبَ فَما تَرَجَّلَ النَّهَارُ حتَّى أُتِيَ
بِهِمْ فَقَطَّعَ أيْدِيَهُمْ وأرْجُلَهُمْ ثُمَّ أمَرَ
بِمَسامِيرَ فأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ بِها وطَرَحَهُمْ
بالحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَما يُسْقَوْنَ حتَّى ماتُوا.
قَالَ أَبُو قِلابَة قَتَلُوا وسَرَقُو وحارَبُوا الله
ورَسُولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسَعَوْا فِي الأرْضِ
فَسادَاً..
قيل: لَيْسَ فِيهِ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة لِأَنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ أَن هَذَا الرَّهْط من عكل فعلوا ذَلِك براعي
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأجَاب الْكرْمَانِي:
بِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعل بهم مثل مَا
فعلوا بالراعي من سمل الْعين وَنَحْوه، ويؤول: لَا تعذبوا
بِعَذَاب الله، بِمَا إِذا لم يكن فِي مُقَابلَة فعل
الْجَانِي، فالحديثان لموْضِع النَّهْي وَالْجَزَاء.
وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَقد يخرج معنى
التَّرْجَمَة من هَذَا الحَدِيث بِالدَّلِيلِ، وَلَو لم
يَصح سمل العرنيين للرعاء، وَذَلِكَ أَنه، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، لما سمل أَعينهم، والسمل التحريق
بالنَّار، وَاسْتدلَّ مِنْهُ البُخَارِيّ أَنه لما جَازَ
تحريق أَعينهم بالنَّار، وَلَو كَانُوا لم يحرقوا أعين
الرعاء، أَنه أولى بِالْجَوَازِ فِي تحريق الْمُشرك إِذا
أحرق الْمُسلم. قلت: الْأَوْجه مَا قَالَه الْكرْمَانِي:
بِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعل بهم مثل مَا
فعلوا بالراعي من سمل الْعين، وَقد ثَبت ذَلِك فِيمَا
رَوَاهُ مُسلم من وَجه آخر عَن أنس، قَالَ: إِنَّمَا سمل
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أعين العرنيين لأَنهم
سملوا أعين الرعاء، وَلَو اطلع صَاحب (التَّوْضِيح) : على
هَذَا لما قَالَ: لم يَصح سمل العرنيين للرعاء.
قَوْله: (مُعلى) ، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد اللَّام
الْمَفْتُوحَة: ابْن أَسد، كَذَا ثَبت مَنْسُوبا فِي
رِوَايَة الْأصيلِيّ وَغَيره، ووهيب بِضَم الْوَاو وَفتح
الْهَاء: هُوَ ابْن خَالِد، وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ،
وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد
الْجرْمِي.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب أَبْوَال
الْإِبِل وَالدَّوَاب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (عكل) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون
الْكَاف: قَبيلَة مَعْرُوفَة. قَوْله: (ثَمَانِيَة) ،
بِالنّصب، بدل من رهطاً، أَو بَيَان لَهُ. قَوْله:
(فاجتووا) من الاجتواء، وَهُوَ كَرَاهَة الْإِقَامَة.
قَوْله: (ابغنا) أَي: أعنا، مُشْتَقّ من الإبغاء يُقَال:
أبغيتك الشَّيْء إِذا أعنتك على طلبه. قَوْله: (رسلًا) ،
بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة: وَهُوَ
الدّرّ من اللَّبن. قَوْله: (بالذود) ، بِفَتْح الذَّال
الْمُعْجَمَة: وَهُوَ من الْإِبِل مَا بَين الثَّلَاث
إِلَى الْعشْرَة، قَوْله: (الصَّرِيخ) هُوَ صَوت المستغيث
أَو الصَّارِخ. قَوْله: (فَبعث الطّلب) بِفَتْح اللَّام
جمع طَالب. . قَوْله: (فَمَا ترجل النَّهَار) ، أَي: مَا
ارْتَفع النَّهَار. (حَتَّى أُتِي بهم) ، أَي: بالثمانية
الْمَذْكُورين. قَوْله: (فأحميت) ، كَذَا وَقع من الإحماء
مزِيد الثلاثي وَهُوَ الصَّوَاب فِي اللُّغَة، فَلَا
يُقَال: فحميت من الثلاثي. قَوْله: (بِالْحرَّةِ) ،
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء مَوضِع
بِالْمَدِينَةِ، وَقد مر غير مرّة. قَوْله: (قَالَ أَبُو
قلَابَة) ، هُوَ الرَّاوِي الْمَذْكُور. قَوْله: (سرقوا) ،
لم يكن هَذَا سَرقَة إِنَّمَا كَانَ حرابة، وَهَذَا ظَاهر
لَا يخفى.
351 - (بَاب)
كَذَا وَقع بِغَيْر تَرْجَمَة، وَهُوَ كالفصل من الْبَاب
الَّذِي قبله، وَقد مر نَحْو هَذَا كثيرا، وَهُوَ غير
مُعرب لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ بالتركيب.
(14/267)
9103 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ
حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سَعيدِ
ابنِ المُسَيَّبِ وَأبي سلَمَةَ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ قرَصَتْ نَمْلَةٌ نِبِيَّاً
مِنَ الأنْبِيَاءِ فأمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فأحْرِقَتْ
فأوْحَى الله إلَيْهِ أنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أحْرَقَتْ
أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ الله.
(الحَدِيث 9103 طرفه فِي: 9133) .
وَجه مناسبته بِمَا قبله من حَيْثُ إِنَّه لَا يجوز
الْمُجَاوزَة بالتحريق إِلَى من لَا يسْتَحق ذَلِك،
فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبر فِيهِ أَن الله،
عز وَجل، عَاتب هَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بإحراقه تِلْكَ الْأمة من النَّمْل، وَلم يكتف بإحراق
النملة الَّتِي قرصته، فَلَو أحرقها وَحدهَا لما عوتب
عَلَيْهِ.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة. والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي
الْحَيَوَان عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة بن
يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن أَحْمد بن
صَالح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّيْد عَن وهب بن
بَيَان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي الطَّاهِر
وَأحمد بن عِيسَى وَعَن مُحَمَّد بن يحيى.
قَوْله: (قرصت) بِالْقَافِ أَي: لدغت. قَوْله: (نَبيا)
قَالَ الْكرْمَانِي: قيل: ذَلِك النَّبِي كَانَ مُوسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (بقرية النَّمْل)
، الْقرْيَة: الْمُجْتَمع. قَوْله: (أَن قرصتك؟) بِفَتْح
الْهمزَة وبهمزة الِاسْتِفْهَام ملفوظة أَو مقدرَة،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ جَازَ إحراق النَّمْل قصاصا
وَهُوَ لَيْسَ بمكلف، ثمَّ إِن جَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة
مثلهَا، ثمَّ إِن القارص نملة وَاحِدَة، وَلَا تزر
وَازِرَة وزر أُخْرَى. قلت: لَعَلَّه كَانَ فِي شَرعه
جَائِزا، وَيُقَال: المؤذي طبعا يقتل شرعا قِيَاسا على
الأفعى. فَإِن قلت: لَو كَانَ جَائِزا لما ذمّ عَلَيْهِ.
قلت: يحْتَمل أَن يذل على ترك الأولى وحسنات الْأَبْرَار
سيئات المقربين. انْتهى. قلت: قَوْله: لَعَلَّه كَانَ فِي
شَرعه جَائِزا، فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ حكم بالتخمين،
وَالْأولَى أَن يُقَال: لَعَلَّه لم يكن يعلم حِينَئِذٍ
أَنه لَا يجوز، وَقَوله: المؤذي طبعا، لَيْسَ النَّمْل
بمؤذ طبعا، لِأَن قرصها يحْتَمل أَنه كَانَ على سَبِيل
الِاتِّفَاق. وَقَوله: يحْتَمل أَن يذم على ترك الأولي،
لَا يُقَال فِي حق نَبِي أَن الله ذمه على فعل بل يُقَال:
عاتبه.
وَفِي الحَدِيث: تَسْبِيح النَّمْل فَيدل ذَلِك على أَن
جَمِيع الْحَيَوَانَات تسبح الله تَعَالَى. كَمَا قَالَ
فِي كِتَابه الْكَرِيم: {وَإِن من شَيْء إلاَّ يسبح
بِحَمْدِهِ} (الْإِسْرَاء: 44) . الْآيَة، وَقَالَ ابْن
التِّين: وَهُوَ دَلِيل لمن قَالَ: لَا يحرق النَّمْل،
وَأَجَازَهُ ابْن حبيب، وَأما إِن أدَّت ضَرُورَة إِلَى
ذَلِك فَجَائِز أَن تحرق أَو تغرق.
451 - (بابُ حَرْقِ الدُّورِ والنَّخِيل)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز إحراق دور الْمُشْركين
ونخيلهم، قَالَ بَعضهم: كَذَا وَقع فِي جَمِيع النّسخ: حرق
الدّور، وضبطوه بِفَتْح أَوله وَإِسْكَان الرَّاء وَفِيه
نظر، لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي الْمصدر حرق، وَإِنَّمَا
يُقَال: تحريق وإحراق، لِأَنَّهُ رباعي، فَلَعَلَّهُ كَانَ
بتَشْديد الرَّاء بِلَفْظ الْفِعْل الْمَاضِي، وَهُوَ
المطابق للفظ الحَدِيث، وَالْفَاعِل مَحْذُوف تَقْدِيره:
النَّبِي بِفِعْلِهِ أَو بِإِذْنِهِ، وعَلى هَذَا فَقَوله:
الدّور، مَنْصُوب بالمفعولية، والنخيل كَذَلِك نسقاً
عَلَيْهِ. انْتهى. قلت: دَعْوَاهُ النّظر فِي الضَّبْط
الْمَذْكُور فِي جَمِيع النّسخ فِيهَا نظر، لِأَنَّهُ لم
يبين أَن الَّذين ضبطوه هَكَذَا هم النساخ أَو الْمَشَايِخ
أَصْحَاب هَذَا الْفَنّ، فَإِن كَانُوا هم النساخ فَلَا
اعْتِبَار لضبطهم، وَإِن كَانُوا الْمَشَايِخ فَهُوَ
صَحِيح لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون لفظ حرق بِهَذَا الضَّبْط
إسماً للإحراق، فَلَا يكون مصدرا حَتَّى لَا يرد مَا ذكره،
لِأَن الحرق بالضبط الْمَذْكُور مصدر حرقت الشَّيْء حرقاً
إِذا بردته، وحككت بعضه بِبَعْض، وَأما الَّذِي يسْتَعْمل
فِي النَّار فَلَا يُقَال إلاَّ أحرقته من الإحراق أَو
حرقته بِالتَّشْدِيدِ من التحريق. وَقَوله: لِأَنَّهُ
رباعي غير مصطلح عِنْد الصرفيين لِأَنَّهُ لَا يُقَال:
رباعي، عِنْدهم إلاَّ لما كَانَ حُرُوفه الْأَصْلِيَّة على
أَرْبَعَة أحرف، وَإِنَّمَا يُقَال لمثل هَذَا: ثلاثي
مزِيد فِيهِ. وَقَوله: فَلَعَلَّهُ كَانَ ... إِلَى آخِره،
فِيهِ تعسف وتكلف جدا، لِأَن فِيهِ إضماراً قبل الذّكر،
ثمَّ تَقْدِير الْفَاعِل، وَالْفَاعِل لَا يحذف.
0203 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ
إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثني قَيْسُ بنُ أبِي حازِمٍ قَالَ
قَالَ لِي جَرِيرٌ قَالَ لي رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَلا تُرِيحُنِي منْ ذِي الخَلَصَةِ وكانَ بَيْتً
فِي خَثْعَمَ
(14/268)
يُسَمَّى كعْبَةَ الْيَمَانِيَةِ قالَ
فانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ ومائَةِ فارِسٍ منْ أحْمَسَ
وكانُوا أصْحَبَ خَيْلٍ قالَ وكُنْتُ لَا أثْبُتُ علَى
الخَيْلِ فضَرَبَ فِي صَدْرِي حتَّى رأيْتُ أثَرَ
أصابِعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ
واجْعَلْهُ هادِياً مَهْدِياً فانْطَلَقَ إلَيْهَا
فكَسَرَهَا وحَرَّقَها ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رسولِ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يُخْبِرُهُ فَقالَ رسولُ جَرِيرٍ
والَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ مَا جِئْتُكَ حتَّى تَرَكْتُها
كأنَّهَا جَمَلٌ أجْوَفُ أوْ أجْرَبُ قَالَ فَبارَكَ فِي
خَيْلِ أحْمَسَ ورِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وحرقها) وَهُوَ ظَاهر،
وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن
أبي خَالِد الأحمسي البَجلِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
فِي الْجِهَاد أَيْضا، وَفِي الْمَغَازِي عَن أبي مُوسَى
وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن يُوسُف بن مُوسَى، وَفِي
الدَّعْوَات عَن عَليّ بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي
الْفَضَائِل عَن عبد الحميد بن بَيَان وَعَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن
عبد الله بن نمير وَعَن مُحَمَّد بن عباد الْمَكِّيّ وَعَن
ابْن أبي عَمْرو وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن الرّبيع بن نَافِع، وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي السّير وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن
مُحَمَّد ابْن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن يُوسُف بن
عِيسَى، وَفِي المناقب عَن مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَلا تريحني) ، كلمة: أَلا،
بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام، مَعْنَاهَا هُنَا:
الْعرض والتحضيض، وتختص بِالْجُمْلَةِ الفعلية. و: تريحني،
من الإراحة، بالراء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة. قَوْله: (من
ذِي الخلصة) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وباللام وبالصاد
الْمُهْملَة المفتوحات، وَقيل: بِسُكُون اللَّام، وَقيل:
بِضَم الْخَاء وَسُكُون اللَّام وَهُوَ اسْم لذَلِك
الْبَيْت، وَقَيده أَبُو الْوَلِيد الوقشي بِفَتْح الْخَاء
وَإِسْكَان اللَّام، وَضَبطه الدمياطي بِخَطِّهِ بفتحهما،
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: ذُو الخلصة طاغية كَانَت لدوس
يعبدونها، وَقيل: هُوَ بَيت كَانَ لخثعم يُسمى الْكَعْبَة
اليمانية، وَهُوَ الَّذِي أخربه جرير بن عبد الله
البَجلِيّ، بَعثه إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة
مَرْفُوعا: (لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تضطرب أليات نسَاء
دوس حول ذِي الخلصة) . وَكَانَت صنماً تعبدها دوس، وَقَالَ
ابْن دحْيَة: قيل: هُوَ بَيت أصنام كَانَ لدوس وخثعم
وبجيلة وَمن كَانَ ببلادهم، وَقيل: هُوَ صنم كَانَ لعَمْرو
بن لحي نَصبه بِأَسْفَل مَكَّة حِين نصبت الْأَصْنَام،
وَكَانُوا يلبسونه القلائد ويعلقون عَلَيْهِ بيض النعام
ويذبحون عِنْده. قَوْله: (يُسمى كعبة اليمانية) ، من
إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى الصّفة، جوزه الْكُوفِيُّونَ
وَقدر فِيهِ البصريون حذفا أَي: كعبة الْجِهَة اليمانية
وَالْمَشْهُور فِيهِ تَخْفيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، لِأَن
الْألف بدل من إِحْدَى يائي النّسَب، وَقد جَاءَ
بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي رِوَايَة: الْكَعْبَة اليمانية
والكعبة الشامية، وَفِي بعض النّسخ بِغَيْر وَاو بَين
اليمانية والكعبة الشامية لخثعم والشامية للكعبة الْحَرَام
المشرفة. قَوْله: (فَانْطَلَقت) وَكَانَ انطلاقه قبل
وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بشهرين. قَوْله:
(من أحمس) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة
وَفتح الْمِيم وَفِي آخِره سين مُهْملَة: وأحمس هَذَا هُوَ
ابْن الْغَوْث بن أَنْمَار بن أراش بن عَمْرو بن الْغَوْث
بن نبت بن مَالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب ابْن يعرب
بن قحطان. وخثعم، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون
الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَهُوَ
ابْن أفتل، بفاء وتاء مثناة من فَوق، وَقيل: أقبل، بقاف
وباء مُوَحدَة: ابْن أَنْمَار بن أراش بن عَمْرو ... إِلَى
آخر مَا ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (فَضرب فِي صَدْرِي)
إِنَّمَا ضربه فِي صَدره لِأَن فِيهِ الْقلب. قَوْله:
(هادياً) إِشَارَة إِلَى قُوَّة التَّكْمِيل ومهدياً إِلَى
قُوَّة الْكَمَال أَي: اجْعَلْهُ كَامِلا مكملاً: قَالَ
ابْن بطال: هُوَ من بَاب التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير
لِأَنَّهُ لَا يكون هادياً لغيره إلاَّ بعد أَن يَهْتَدِي
هُوَ فَيكون مهدياً، وببركة دُعَاء النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بقوله: أللهم ثبته، مَا سقط بعد ذَلِك من
فرس. قَوْله: (وحرقها) بِالتَّشْدِيدِ. قَوْله: (ثمَّ بعث)
، أَي: جرير. قَوْله: (يُخبرهُ) ، من الْأَحْوَال
المققدرة. قَوْله: (فَقَالَ رَسُول جرير) ، جَاءَ مُبينًا
فِي بعض الرِّوَايَات أَنه أَبُو أَرْطَأَة حُصَيْن بن
ربيعَة، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ،
قَالَ عِيَاض: وروى حصن وَالصَّوَاب هُوَ الأول، وَقَالَ
أَبُو عمر حُصَيْن: وَيُقَال حصن وَالْأَكْثَر حُصَيْن بن
ربيعَة الأحمسي أَبُو أَرْطَأَة، يُقَال: حُصَيْن بن
ربيعَة بن عَامر بن الْأَزْوَر، وَالْأَزْوَر مَالك
الشَّاعِر، وَرُوِيَ:
(14/269)
فِي خيل أحمس، وَقد قيل فِي اسْم أبي
أَرْطَأَة، هَذَا ربيعَة بن حُصَيْن، وَالصَّوَاب: حُصَيْن
بن ربيعَة، وَكَانَ مَعَ جرير فِي هَذَا الْجَيْش. قَوْله:
(أجوف) ، أَي: مجوف، وَهُوَ ضد الصمت أَي: خَال عَن كل مَا
يكون فِي الْبَطن، وَوجه الشّبَه بَينهمَا عدم
الِانْتِفَاع بِهِ، وَكَونه فِي معرض الفناء
بِالْكُلِّيَّةِ لَا بَقَاء وَلَا ثبات لَهُ، وَقَالَ
الدَّاودِيّ: معنى أجوف أَنَّهَا أحرقت فَسقط السّقف
وَبَعض الْبناء وَمَا كَانَ فِيهَا من كسْوَة، وَبقيت
خاوية على عروشها. قَوْله: (أَو أجرب) شكّ من الرَّاوِي،
قَالَ الْخطابِيّ: مَطْلِي بالقطران لما بِهِ من الجرب
فَصَارَ أسود لذَلِك يَعْنِي: صَار من الإحراق. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: شبهها حِين ذهب سقفها وكسوتها فَصَارَت
سَوْدَاء بالجمل الَّذِي زَالَ شعره وَنقص جلده من الجرب،
وَصَارَ إِلَى الهزال. قَوْله: (فَبَارك) أَي: دَعَا
بِالْبركَةِ، خمس مَرَّات.
وَفِي الحَدِيث: تَوْجِيه من يرِيح من النَّوَازِل
وَجَوَاز هتك مَا افْتتن بِهِ النَّاس من بِنَاء أَو
إِنْسَان أَو حَيَوَان أَو غَيره. وَفِيه: قبُول خبر
الْوَاحِد. وَفِيه: الدُّعَاء للجيش. وَفِيه: اسْتِحْبَاب
إرْسَال البشير بالفتوح. وَفِيه: النكاية بِإِزَالَة
الْبَاطِل وآثاره وَالْمُبَالغَة فِي إِزَالَته.
1203 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرنَا سُفْيَانُ
عنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ حَرَّقَ النَّبِيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. والْحَدِيث مضى فِي
كتاب الْمُزَارعَة فِي: بَاب قطع الشّجر والنخيل، وَقد
اخْتَصَرَهُ هُنَاكَ، وهنأ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي
بأتم مِنْهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَذهب
الْجُمْهُور إِلَى جَوَاز التحريق والتخريب فِي بِلَاد
الْعَدو، وَكَرِهَهُ الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَأَبُو
ثَوْر، وَاحْتَجُّوا بِوَصِيَّة أبي بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، لجيوشه أَن لَا يَفْعَلُوا شَيْئا من
ذَلِك. وَأجِيب عَن ذَلِك: بِأَنَّهُ كَانَ يعلم أَن
تِلْكَ الْبِلَاد ستفتح، فَأَرَادَ إبقاءها على
الْمُسلمين، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: النَّهْي مَحْمُول على
الْقَصْد لذَلِك بِخِلَاف مَا إِذا أَصَابُوا ذَلِك فِي
خلال الْقِتَال، كَمَا وَقع فِي نصب المنجنيق على
الطَّائِف. وَقَالَ غَيره: أثر الصّديق مُرْسل، والراوي
سعيد بن الْمسيب، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ سعيد بن الْمسيب لم
يُولد فِي أَيَّام الصّديق، وَيُقَال: حَدِيث ابْن عمر
دَال على أَن للْمُسلمين أَن يكيدوا عدوهم من الْمُشْركين
بِكُل مَا فِيهِ تَضْعِيف شوكتهم وتوهين كيدهم وتسهيل
الْوُصُول إِلَى الظفر بهم من قطع ثمارها وتغوير مِيَاههمْ
والتضييق عَلَيْهِم بالحصار. وَمِمَّنْ أجَاز ذَلِك
الْكُوفِيُّونَ، وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق
وَالثَّوْري وَابْن الْقَاسِم. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ:
يحرق شجرهم وتخرب بِلَادهمْ وتذبح الْأَنْعَام وتعرقب إِذا
لم يُمكن إخْرَاجهَا، وَقَالَ مَالك: يحرق النّخل وَلَا
تعرقب الْمَوَاشِي، وَقَالَ الشَّافِعِي: يحرق الشّجر
المثمر والبيوت وأكره حريق الزَّرْع والكلأ، وَقَالَ
الشَّافِعِي: لَا يحل قتل الْمَوَاشِي وَلَا عقرهَا،
وَلَكِن تخلى.
551 - (بابُ قَتْلِ النَّائِمِ الْمُشْرِكِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من قتل النَّائِم
الْمُشرك، وَفِي بعض النّسخ: قتل الْمُشرك النَّائِم.
2203 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيى
بنُ زَكَرِيَّاءَ بنِ أبِي زَائِدَةَ قَالَ حدَّثني أبي
عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ بعَثَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رهْطاً مِنَ الأنْصَارِ إِلَى أبي رَافِعٍ
لَيَقْتُلُوهُ فانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فدَخَلَ
حِصْنَهُمْ قَالَ فدَخَلْتُ فِي مَرْبِطِ دَوابَّ لَهُمْ
قَالَ وأغْلَقُوا بابَ الحِصْنِ ثُمَّ إنَّهُمْ فقَدُوا
حِمَاراً لَهُمْ فخَرَجُوا يَطْلُبُونَهُ فَخَرَجْتُ
فِيمَنْ خَرَجَ أرِيهِمْ أنَّنِي أطْلُبُهُ معَهُمْ
فوَجَدُوا الحِمَارَ فدَخَلُوا ودَخَلْتُ وأغْلَقُوا بابَ
الحِصْنِ لَيْلاً فوَضَعُوا المَفَاتِيحَ فِي كَوَّةٍ
حَيْثُ أرَاهَا فلَمَّا نامُوا أخَذْتُ المفَاتِيحَ
فَفَتَحْتُ بابَ الحِصْنِ ثُمَّ دَخَلْتُ علَيْهِ فقُلْتُ
(14/270)
يَا أبَا رَافِعٍ فأجَابَنِي فتَعَمَّدْتُ
الصَّوْتَ فضَرَبْتُهُ فَصاحَ فَخَرَجْتُ ثُمَّ جِئْتُ
ثُمَّ رَجَعْتُ كأنِّي مُغِيثٌ فقُلْتُ يَا أبَا رَافِعٍ
وغَيَّرْتُ صَوْتِي فَقالَ مالَكَ لأمِّكَ الوَيْلُ قُلْتُ
مَا شأنُكَ قَالَ لاَ أدْرِي مَنْ دَخَلَ عَلَيَّ
فضَرَبَنِي قَالَ فوَضَعْتُ سَيْفِي فِي بَطْنِهِ ثُمَّ
تَحَامَلْتُ علَيْهِ حتَّى قرَعَ العَظْمَ ثُمَّ خَرَجْتُ
وَأَنا دَهِشٌ فأتَيْتُ سُلَّماً لَهُمْ لأنْزِلَ مِنْهُ
فوَقَعْتُ فوُثِئَتْ رِجْلِي فَخَرَجْتُ إلَى أصْحَابِي
فَقُلْتُ مَا أنَا بِبَارِحٍ حتَّى أسْمَعَ النَّاعِيَةَ
فَمَا بَرِحْتُ حتَّى سَمِعْتُ نَعايا أبِي رَافِعٍ تاجِرِ
أهْلِ الحِجَازِ قالَ فَقُمْتُ وَمَا بِي قَلَبَةٌ حتَّى
أتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فأخْبَرْنَاهُ..
قيل: لَا مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة إِلَّا إِذا
أُرِيد بالنائم المضطجع، وَقيل: هَذَا قتل يقظان نبه من
نَومه، وَقيل: هَذَا حكمه حكم النَّائِم، لِأَنَّهُ لما
أجَاب الرجل كَانَ فِي خيال النّوم، وَلِهَذَا لم
يَتَحَرَّك من مَوْضِعه وَلَا قَامَ من مضجعه، فَكَانَ
حكمه حكم النَّائِم، وَهَذَا الْوَجْه أقرب مَعَ أَنه
جَاءَ فِيهِ، فَدخل عَلَيْهِ عبد الله بن عتِيك بَيته
فَقتله وَهُوَ نَائِم.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن مُسلم، بِكَسْر
اللَّام الْخَفِيفَة: ابْن سعيد أَبُو الْحسن الطوسي، سكن
بَغْدَاد وَهُوَ من أَفْرَاده. الثَّانِي: يحيى بن
زَكَرِيَّاء ابْن أبي زَائِدَة، واسْمه مَيْمُون
الْهَمدَانِي الْكُوفِي القَاضِي. الثَّالِث: أَبُو
زَكَرِيَّاء الْهَمدَانِي الْكُوفِي الْأَعْمَى.
الرَّابِع: أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله
الْهَمدَانِي السبيعِي الْكُوفِي. الْخَامِس: الْبَراء بن
عَازِب الْأنْصَارِيّ الخزرجي الأوسي، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا مُخْتَصرا هُنَا عَن
عبد الله بن مُحَمَّد وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن
إِسْحَاق بن نصر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (رهطاً من الْأَنْصَار) الرَّهْط
الْجَمَاعَة من الرِّجَال مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى
التِّسْعَة وَلَا يكون فيهم امْرَأَة، وهم: عبد الله بن
عتِيك وَعبد الله بن عتبَة وَعبد الله بن أنيس وَأَبُو
قَتَادَة وَالْأسود بن خزاعي ومسعود بن سِنَان وَعبد الله
ابْن عقبَة، وَكَانَ مَعَهم أَيْضا أسعد بن حرَام حَلِيف
بني سوَادَة. قَالَ السُّهيْلي: وَلَا نَعْرِف أحدا ذكره
غَيره. قلت: ذكره الْحَاكِم أَيْضا فِي (الإكليل) عَن
الزُّهْرِيّ وَعند الْكَلْبِيّ عبد الله بن أنيس هُوَ ابْن
سعد بن حرَام. قلت: مَا كَانَ الْمُوجب لبعثه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم هَؤُلَاءِ الرَّهْط إِلَى أبي رَافع وَمَتى
كَانَ هَذَا الْبَعْث؟ قلت: أما الْمُوجب لذَلِك فَمَا
ذكره ابْن إِسْحَاق، فَقَالَ لما انْقَضى أَمر الخَنْدَق
وَأمر بني قُرَيْظَة، وَكَانَ أَبُو رَافع مِمَّن حزب من
الْأَحْزَاب على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
اسْتَأْذَنت الْخَزْرَج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي قَتله، فَأذن لَهُم فَخَرجُوا. وَفِي (طَبَقَات
ابْن سعد) كَانَ أَبُو رَافع قد أجلب فِي غطفان وَمن حوله
من مُشْركي الْعَرَب وَجعل لَهُم من الْجعل الْعَظِيم
لِحَرْب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبعث
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَؤُلَاءِ الَّذين
ذَكَرْنَاهُمْ. وَأما وَقت هَذَا الْبَعْث فَقَالَ ابْن
سعد: كَانَ فِي شهر رَمَضَان سنة سِتّ من الْهِجْرَة،
وَقيل: فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس، وَفِي (الإكليل) : كَانَ
بعد بدر، وَقيل: بعد غَزْوَة السويق، وَقَالَ
النَّيْسَابُورِي: قبل دومة الجندل، وَقَالَ ابْن حبَان:
بعد بدر الموعب آخر سنة أَربع، وَقَالَ أَبُو معشر: بعد
غَزْوَة ذَات الرّقاع، وَقبل سَرِيَّة عبد الله بن
رَوَاحَة، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ بعد كَعْب بن
الْأَشْرَف. قَوْله: (إِلَى أبي رَافع) ، واسْمه عبد الله،
وَيُقَال: سَلام بن أبي الْحقيق، بِضَم الْحَاء
الْمُهْملَة وَفتح الْقَاف الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف: الْيَهُودِيّ. قَوْله: (فَانْطَلق رجل مِنْهُم)
، هُوَ عبد الله بن عتِيك، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة
وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: الْأنْصَارِيّ من بني
عَمْرو بن عَوْف، اسْتشْهد يَوْم الْيَمَامَة. قَالَ أَبُو
عمر: وَأَظنهُ وأخاه جَابر بن عتِيك شهد بَدْرًا، وَلم
يخْتَلف أَن عبد الله شهد أحدا، وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ
وَأَبوهُ: إِنَّه شهد صفّين مَعَ عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فَإِن كَانَ هَذَا فَلم يقتل يَوْم
الْيَمَامَة. قَوْله: (فَدخل حصنهمْ) ، يُقَال إِنَّه حصن
بِأَرْض الْحجاز، وَالظَّاهِر أَنه خَيْبَر. قَوْله:
(أريهم) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء: من الإراءة.
قَوْله: (فِي كوَّة) ، بِضَم الْكَاف وَفتحهَا وَهِي:
الثقب فِي جِدَار الْبَيْت. قَوْله: (ففتحت بَاب الْحصن
ثمَّ دخلت) ، فَإِن قيل: كَانَ هُوَ دَاخل الْحصن فَمَا
مَعْنَاهُ؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ للحصن مغاليق وطبقات.
قَوْله: (فتعمدت الصَّوْت) . أَي: اعتمدت جِهَة الصَّوْت
إِذْ كَانَ الْموضع مظلماً. قَوْله: (مَالك؟) كلمة: مَا،
للاستفهام مُبْتَدأ و: لَك، خَبره. قَوْله: (لأمك الويل)
الْقيَاس أَن يُقَال: على أمك الويل وَإِنَّمَا ذكر
اللَّام لإِرَادَة الِاخْتِصَاص بهم. قَوْله: (تحاملت
عَلَيْهِ) ، أَي: تكلفته على مشقة. قَوْله: (حَتَّى قرع
الْعظم) ، أَي: أَصَابَهُ، وَمِنْه: قرعته الداهية أَي:
أَصَابَته، وأصل القرع: الضَّرْب. قَوْله: (وَأَنا دهش) ،
جملَة إسمية وَقعت حَالا
(14/271)
ودهش، بِفَتْح الدَّال وَكسر الْهَاء صفة
مشبهة، أَي: متحير مدهوش. قَوْله: (فوثئت) ، بِضَم الْوَاو
وَكسر الثَّاء الْمُثَلَّثَة من الوثأ، وَهُوَ: أَن يُصِيب
الْعظم وصم لَا يبلغ الْكسر، وَذكر ثَعْلَب هَذِه
الْمَادَّة فِي بَاب المهموز من الْفِعْل، يُقَال: وثئت
يَده فَهِيَ موثوءة ووثأتها أَنا. وَأما ابْن فَارس
فَقَالَ: وَقد يهمز، وَقَالَ الْخطابِيّ: وَالْوَاو
مَضْمُومَة على بِنَاء الْفِعْل لما لم يسم فَاعله.
قَوْله: (مَا أَنا ببارح) أَي: بذاهب. قَوْله: (الناعية) ،
بالنُّون وَكسر الْعين الْمُهْملَة على وزن فاعلة: من
النعي، وَهُوَ الْإِخْبَار، بِالْمَوْتِ، ويروى: (الواعية)
، أَي: الصارخة الَّتِي تندب الْقَتِيل، والوعي الصَّوْت.
قَالَ صَاحب (الْعين) : الوعي جلبة وأصوات الْكلاب فِي
الصَّيْد، وَقَالَ: الداعية الَّتِي تَدْعُو بِالْوَيْلِ
وَالثُّبُور وَهِي النائحة. قَوْله: (سَمِعت نعايا أَبَا
رَافع) كَذَا الرِّوَايَة، وَصَوَابه: نعاي، بِغَيْر ألف،
كَذَا تَقوله النُّحَاة، وَقَالَ الْخطابِيّ: هَكَذَا
يرْوى: (نعايا أبي رَافع) وَحقه أَن يُقَال: نعاي أبي
رَافع أَي: انعوا أَبَا رَافع، كَقَوْلِهِم: دراكِ
بِمَعْنى: أدركوا، وَزعم سِيبَوَيْهٍ أَنه يطرد هَذَا
الْبَاب فِي الْأَفْعَال الثلاثية كلهَا أَن يُقَال
فِيهَا: فعالِ، بِمَعْنى: إفعل، نَحْو، حذار ومناع ونزال،
كم تَقول: أنزل وَاحْذَرْ وامنع، وَقَالَ الْأَصْمَعِي:
كَانَت الْعَرَب إِذا مَاتَ فيهم ميت ركب رَاكب فرسا وَجعل
يسير فِي النَّاس، وَيَقُول: نعاء فلَانا، أَي: أنعه
وَأظْهر خبر وَفَاته، قَالَ أَبُو نصر: وَهِي مَبْنِيَّة
على الْكسر، وَقَالَ الدَّاودِيّ: نعايا جمع ناعية،
وَالْأَظْهَر أَنه جمعي، مثل: صفايا جمع صفي، وَفِي
(الْمطَالع) : نعايا أبي رَافع هُوَ جمع نعي أَي: أصوات
المنادين بنعيه من الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَقد يحْتَمل
أَن تكون هَذِه الْكَلِمَة كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر الآخر
فِي حَدِيث شَدَّاد بن أَوْس: نعايا الْعَرَب، كَذَا فِي
الحَدِيث، قَالَ الْأَصْمَعِي: إِنَّمَا هُوَ: يَا نعاء
الْعَرَب، أَي: يَا هَؤُلَاءِ انعوا الْعَرَب، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن نعاء من أَسمَاء الْأَفْعَال،
وَقد جمع على نَحْو خَطَايَا شاذاً. وَيحْتَمل أَن يكون
جمع نعي أَو ناعية. قلت: هُوَ من أَسمَاء الْأَفْعَال
بِلَا احْتِمَال، لِأَنَّهُ بِمَعْنى: انعوا، كَمَا
ذكرنَا، وَقَوله: أَو ناعية، نَقله من كَلَام الدَّاودِيّ،
وَفِيه نظر لَا يخفى. قَوْله: (وَمَا بِي قلبة) بِالْقَافِ
وَاللَّام وَالْبَاء الْمُوَحدَة المفتوحات أَي: مَا بِي
عِلّة، قَالَ الْفراء: أَصله من القلاب، وَهُوَ دَاء
يُصِيب الْإِبِل، وَزَاد الْأَصْمَعِي: تَمُوت من يَوْمهَا
بِهِ، فَقيل ذَلِك لكل سَالم لَيْسَ بِهِ عِلّة. وَقَالَ
ابْن الْأَعرَابِي: مَعْنَاهُ لَيست بِهِ عِلّة يقلب لَهَا
فَينْظر إِلَيْهِ، وأصل ذَلِك فِي الدَّوَابّ، وَعَن
الْأَصْمَعِي مَعْنَاهُ: مَا بِهِ دَاء، وَهُوَ من القلاب
دَاء يَأْخُذ الْإِبِل فِي رؤوسها فيقلبها إِلَى فَوق،
وَقَالَ الْفراء: مَا بِهِ عِلّة يخْشَى عَلَيْهِ فِيهَا،
وَهُوَ من قَوْلهم: قلب الرجل إِذا أَصَابَهُ وجع فِي
قلبه، وَلَيْسَ يكَاد يفلت مِنْهُ، وَقَالَ غَيره: مَا
بِهِ شَيْء يقلقه فيقلب مِنْهُ على فرَاشه، وَقَالَ
النّحاس: حكى عبد الله بن مُسلم أَن بَعضهم يَقُول فِي
هَذَا أَي: مَا بِهِ حول، ثمَّ استعير من هَذَا الأَصْل
لكل سَالم لَيست بِهِ آفَة. قَوْله: (فَأَخْبَرنَاهُ) أَي:
أخبرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمَوْت أبي
رَافع.
ثمَّ إِن الَّذِي يظْهر من هَذَا الحَدِيث أَن الَّذِي
قَتله هُوَ عبد الله بن عتِيك، وَقَالَ ابْن سعد وَغَيره:
لما ذهب الْجَمَاعَة المذكورون إِلَى خَيْبَر كمنوا،
فَلَمَّا هدأت الرجل جاؤوا إِلَى منزله فَصَعِدُوا دَرَجَة
لَهُ وَقدمُوا عبد الله بن عتِيك لِأَنَّهُ كَانَ يرطن
باليهودية، واستفتح، وَقَالَ: جِئْت أَبَا رَافع بهدية
ففتحت لَهُ امْرَأَته، فَلَمَّا رَأَتْ السِّلَاح أَرَادَت
أَن تصيح فأشاروا إِلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَسَكَتَتْ،
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَمَا عرفوه إلاَّ ببياضه كَأَنَّهُ
قبطية فعَلَوه بِأَسْيَافِهِمْ. قَالَ ابْن أنس: وَكنت
رجلا أعشى لَا أبْصر فأتكيء بسيفي على بَطْنه حَتَّى
سَمِعت حسه فِي الْفراش وَعرفت أَنه قضى، وَجعل الْقَوْم
يضربونه جَمِيعًا، ثمَّ نزلُوا وصاحت امْرَأَته فتصايح أهل
الدَّار واختبأ الْقَوْم فِي بعض مياه خَيْبَر، وَخرج
الْحَارِث أَبُو زَيْنَب فِي ثَلَاثَة آلَاف فِي آثَارهم
يطلبونهم بالنيران فَلم يجدوهم فَرَجَعُوا، وَمكث الْقَوْم
فِي مكانهم يَوْمَيْنِ حَتَّى سكن الطّلب، ثمَّ خَرجُوا
إِلَى الْمَدِينَة وَكلهمْ يَدعِي قَتله، فَأخذ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسيافهم فَنظر إِلَيْهَا
فَإِذا أثر الطَّعَام فِي ذُبَابَة سيف ابْن أنيس،
فَقَالَ: هَذَا قَتله.
وَفِي كتاب (دَلَائِل النُّبُوَّة) : قَتله ابْن عتِيك
ودفف عَلَيْهِ ابْن أنيس.
وَفِي (الإكليل) عَن ابْن أنيس، قَالَ: ظَهرت أَنا وَابْن
عتِيك وَقعد أَصْحَابنَا فِي الْحَائِط، فَاسْتَأْذن ابْن
عتِيك فَقَالَت امْرَأَة ابْن أبي الْحقيق: إِن هَذَا لصوت
ابْن عتِيك، فَقَالَ ابْن أبي الْحقيق: ثكلتك أمك ... ،
ابْن عتِيك بِيَثْرِب، أنَّى هُوَ هَذِه السَّاعَة؟ افتحي،
فَإِن الْكَرِيم لَا يرد على بَابه هَذِه السَّاعَة أحدا،
ففتحت فَدخلت أَنا وَابْن عتِيك، فَقَالَ لِابْنِ عتِيك:
دُونك، فشهرت عَلَيْهَا السَّيْف فَأخذ ابْن أبي الْحقيق
وسَادَة فاتقاني بهَا، فَجعلت أُرِيد أَن أضربه فَلَا
أَسْتَطِيع، فوخزته بِالسَّيْفِ وخزاً ثمَّ خرجت إِلَى
ابْن أنيس، فَقَالَ: اقتله؟ قلت: نعم.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَت أم ابْن عتِيك الَّتِي
أَرْضَعَتْه يَهُودِيَّة
(14/272)
بِخَيْبَر، فَأرْسل إِلَيْهَا يعملها
بمكانه فَخرجت إِلَيْنَا بجراب مَمْلُوء تَمرا لينًا
وخبزاً، ثمَّ قَالَ لَهَا: يَا أُمَّاهُ! أما لَو أمسينا
لبتنا عنْدك فأدخلينا خَيْبَر، فَقَالَت: وَكَيف تطِيق
خَيْبَر وفيهَا أَرْبَعَة آلَاف مقَاتل؟ وَمن تُرِيدُ
فِيهَا؟ قَالَ: أَبَا رَافع. قَالَت: لَا تقدر عَلَيْهِ،
ثمَّ قَالَت: إدخلوا عَليّ لَيْلًا لما نَام أهل خَيْبَر
فِي حمر النَّاس، وأعلمتهم أَن أهل خَيْبَر لَا يغلقوا
عَلَيْهِم أَبْوَابهم فرقا أنم يتطرقهم ضيف، فَلَمَّا هدأت
الرِّجل، قَالَت: انْطَلقُوا حَتَّى تستفتحوا على أبي
رَافع، فَقولُوا: إِنَّا جِئْنَا لَهُ بهدية، فانهم
سيفتحون لكم، فَلَمَّا انْتَهوا إِلَيْهِ استهموا
عَلَيْهِ، فَخرج سهم ابْن أنيس.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الاغتيال على من
أعَان على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيد أَو
مَال أَو رَأْي، وَكَانَ أَبُو رَافع يعادي رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويؤلب النَّاس عَلَيْهِ. وَفِيه:
جوز التَّجَسُّس على الْمُشْركين وَطلب غرتهم. وَفِيه:
الاغتيال بِالْحَرْبِ وَالْإِيهَام بالْقَوْل. وَفِيه:
الْأَخْذ بالشدة فِي الْحَرْب والتعرض لعدد كثير من
الْمُشْركين. وَفِيه: الْإِلْقَاء إِلَى التَّهْلُكَة
بِالْيَدِ فِي سَبِيل الله، وَأما الَّذِي نهى عَنهُ من
ذَلِك فَهُوَ فِي الْإِنْفَاق فِي سَبِيل الله لِئَلَّا
تخلى يَده من المَال فَيَمُوت جوعا وضياعاً. وَفِيه: الحكم
بِالدَّلِيلِ الْمَعْرُوف والعلامة الْمَعْرُوفَة على
الشَّيْء، كَحكم هَذَا الرجل بالناعية.
3203 - حدَّثني عبدُ الله بن مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
يَحْيَى بنُ آدَمَ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ أبِي
زائِدَةَ عنْ أبِيهِ عنْ إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ بنِ
عازِبٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ بعَثَ رسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رهْطاً مِنَ الأنْصَارِ
إِلَى أبي رَافِعٍ فدَخَلَ علَيْهِ عَبْدُ الله بنُ
عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلاً فقَتَلَهُ وهْوَ نَائِمٌ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن عبد
الله بن مُحَمَّد المسندي عَن يحيى بن آدم بن سُلَيْمَان
الْقرشِي المَخْزُومِي الْكُوفِي صَاحب الثَّوْريّ عَن
يحيى بن أبي زَائِدَة. وَفِيه التصرحي بِأَن ابْن عتِيك
هُوَ الَّذِي قتل أَبَا رَافع، وَأَنه قَتله وَهُوَ
نَائِم، وَلَا تطلب الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة
أَكثر من هَذَا. قَوْله: (بَيته) ، بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، يَعْنِي:
منزله، ويروى: بَيته، بتَشْديد الْيَاء من التبييت، وَهُوَ
فِي مَحل النصب على الْحَال بِتَقْدِير: قد، كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {أوجاؤكم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء:
09) .
651 - (بابٌ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء
الْعَدو اللِّقَاء الملاقاة.
4203 - حدَّثنا يُوسُفُ بنُ مُوسى قَالَ حدَّثنا عاصِمُ
بنُ يُوسُفَ اليَرْبُوعِيُّ قَالَ حدَّثنا أبُو إسحَاقَ
الفَزَارِيُّ عنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ قَالَ حدَّثني
سالِمٌ أَبُو النَّضْرِ قَالَ كُنْتُ كاتِباً لِعُمَرَ بنِ
عُبَيْدِ الله فأتاهُ كِتابُ عَبْدِ الله بنِ أبِي أوْفَى
رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَمَنَّوْا لِقاءَ العَدُوِّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَأن التَّرْجَمَة هِيَ
متن الحَدِيث، ويوسف بن مُوسَى بن عِيسَى أَبُو يَعْقُوب
الْمروزِي وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد
الْفَزارِيّ، بِفَتْح الْفَاء. والْحَدِيث مضى فِي كتاب
الْجِهَاد فِي: بَاب كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا لم يُقَاتل أول النَّهَار، فَإِنَّهُ أخرجه
هُنَاكَ بأتم مِنْهُ عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن
مُعَاوِيَة بن عَمْرو عَن أبي إِسْحَاق عَن مُوسَى بن
عقبَة ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
6203 - وقَالَ أبُو عامِرٍ حدَّثنا مُغِيرَةُ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمانِ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَمَنَّوْا لِقاءَ
العَدُوِّ فإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فاصْبِرُوا.
أَبُو عَامر هُوَ عبد الْملك بن عَمْرو بن قيس الْبَصْرِيّ
الْعَقدي، بِفتْحَتَيْنِ: بِنِسْبَة إِلَى العقد، قوم من
قيس وهم صنف من الأزد، وَقد ظن الْكرْمَانِي أَن أَبَا
عَامر هَذَا هُوَ عبد الله بن براد، بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَتَشْديد الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة،
وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رِوَايَة عَن
مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن، وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي
وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج
(14/273)
عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. وَهَذَا
التَّعْلِيق وَصله مُسلم، وَقَالَ: حَدثنَا الْحسن بن
عَليّ الْحلْوانِي وَعبد بن حميد قَالَا: حَدثنَا أَبُو
عَامر الْعَقدي عَن الْمُغيرَة وَهُوَ أَبُو عبد
الرَّحْمَن الْحزَامِي عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج
عَن أبي هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدو فَإِذا لقيتموهم
فَاصْبِرُوا) .
وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا.
وَفِي الحَدِيث: نهى عَن تمني لِقَاء الْعَدو لما فِيهِ من
الْإِعْجَاب والاتكال على الْقُوَّة، وَلِأَن النَّاس
يَخْتَلِفُونَ فِي الصَّبْر على الْبلَاء ألاَ يُرى
الَّذِي أحرقته الْجراح فِي بعض الْمَغَازِي مَعَ رَسُول
الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقتل نَفسه، وَقَالَ
الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لِأَن أعافَى فأشكر
أحب إِلَيّ من أَن أبتلى فأصبر. وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ لأبنه: يَا بني! لَا
تدعوَنَّ أحدا إِلَى المبارزة، وَمن دعَاك إِلَيْهَا
فَاخْرُج إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ بَاغ وَالله تَعَالَى قد ضمن
نصر من بغى عَلَيْهِ وَأما أَقْوَال الْعلمَاء فِيهِ فقد
ذكر ابْن الْمُنْذر أَنه: أجمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم من
الْعلمَاء على أَن للمرء أَن يبارز وَيَدْعُو إِلَى
البرَاز بِإِذن الإِمَام غير الْحسن الْبَصْرِيّ،
فَإِنَّهُ كرهها، هَذَا قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ
وَأحمد وَإِسْحَاق. وأباحته طَائِفَة وَلم يذكرُوا إِذن
الإِمَام وَلَا غَيره، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ،
فَإِن طلبَهَا كَافِر يسْتَحبّ الْخُرُوج إِلَيْهِ،
وَإِنَّمَا يحسن مِمَّن جرب نَفسه وَيَأْذَن الإِمَام،
وَسُئِلَ مَالك عَن الرجل يَقُول بَين الصفين: من يبارز؟
قَالَ: ذَلِك إِلَى نِيَّته، إِن كَانَ يُرِيد بذلك وَجه
الله تَعَالَى فأرجو أَن لَا يكون بِهِ بَأْس، قد كَانَ
فعل ذَلِك من مضى، وَقَالَ أنس بن مَالك: قد بارز الْبَراء
ابْن مَالك مرزبان فَقتله، وَقَالَ أَبُو قَتَادَة: بارزت
رجلا يَوْم حنين فَقتلته، فَأَعْطَانِي رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، سلبه وَلَيْسَ فِي خَبره أَنه
اسْتَأْذن فِيهِ.
751 - (بابٌ الحَرْبُ خَدْعَةٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ الْحَرْب خدعة، بِضَم الْخَاء
وَفتحهَا، على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
7203 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
عبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هَلَكَ كِسْرَى
ثُمَّ لاَ يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ وقَيْصَرُ
لَيَهْلكَنَّ ثُمَّ لاَ يَكُونُ قَيْصَرُ بَعْدَهُ
ولَتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهُما فِي سَبِيلِ الله. وسَمَّى
الْحَرْبَ خُدْعَةً.
(الحَدِيث 8203 طرفه فِي: 9203) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، قد ذكرُوا غير مرّة،
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن مُحَمَّد بن رَافع.
قَوْله: (كسْرَى) ، بِفَتْح الْكَاف وَكسرهَا، لقب ملك
الْفرس، وَذكره ثَعْلَب بِكَسْر الْكَاف، وَقَالَ الْفراء:
الْكسر أَكثر من الْفَتْح، وَأنكر أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ
الْفَتْح، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْكسر أفْصح
وَكَانَ أَبُو حَاتِم يخْتَار الْكسر، وَقَالَ الْقَزاز:
الْجمع كسور وأكاسرة وكياسرة وَالْقِيَاس أَن يجمع كسرون،
كَمَا يجمع مُوسَى موسون، وَعَن أبي إِسْحَاق الزّجاج أَنه
أنكر على أبي الْعَبَّاس قَوْله: كسْرَى، بِكَسْر الْكَاف،
قَالَ: وَإِنَّمَا هُوَ كسْرَى بِالْفَتْح وَقَالَ: أَلا
تراهم يَقُولُونَ: كسروي، وَقَالَ ابْن فَارس: لَا
اعْتِبَار بِالنِّسْبَةِ، فقد يفتح فِي النِّسْبَة مَا
هُوَ مكسور فِي الأَصْل أَو مضموم فَيُقَال فِي: ثعلبي
بِالْفَتْح، ثعلبي بِالْكَسْرِ، وَفِي أموي بِالضَّمِّ،
أموي بِالْفَتْح، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ مُعرب خسر،
وَمَعْنَاهُ وَاسع الْملك. فَكيف عربه المعرب، إِذا لم
يخرج عَن بِنَاء كَلَام الْعَرَب، فَهُوَ جَائِز، وَفِي
(الْمُجْمل) قَالَ أَبُو عَمْرو: ينْسب إِلَى كسْرَى،
بِكَسْر الْكَاف: كسْرَى وكسروي، وَذكر اللحياني أَن
مَعْنَاهُ: شاهان شاه، وَهُوَ اسْم لكل من ملك الْفرس.
قَوْله: (وَقَيْصَر) ، مُبْتَدأ، وَقَوله: (ليهلكن) خَبره،
وَهُوَ غير منصرف للعلمية والعجمة، ويروى: قَيْصر، بعد
النَّفْي بِالتَّنْوِينِ لزوَال العلمية بالتنكير، وَكَذَا
الْكَلَام فِي كسْرَى، وَإِنَّمَا قَالَ فِي كسْرَى، هلك
بِلَفْظ الْمَاضِي وَفِي قَيْصر بِلَفْظ الْمُضَارع لِأَن
كسْرَى الَّذِي كَانَ فِي عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ هَالكا حِينَئِذٍ، وَأما قَيْصر فَكَانَ حَيا إِذْ
ذَاك. فَإِن قلت: قد كَانَ بعدهمَا غَيرهمَا. قلت: مَا
قَامَ لَهُم الناموس على الْوَجْه الَّذِي قبل ذَلِك. قلت:
روى مُسلم من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب
عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: قد مَاتَ كسْرَى فَلَا كسْرَى بعده،
وَإِذا هلك قَيْصر فَلَا قَيْصر بعده، وَالَّذِي نَفسِي
بِيَدِهِ لتتنفقن كنوزهما فِي سَبِيل الله. وروى
التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الزُّهْرِيّ أَيْضا عَن سعيد بن
الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا هلك كسْرَى فَلَا كسْرَى بعده،
وَإِذا هلك قَيْصر فَلَا قَيْصر بعده. . الحَدِيث، وَبَين
اللَّفْظَيْنِ
(14/274)
بَون عَظِيم فَلفظ مُسلم يَقْتَضِي أَن موت
كسْرَى قد وَقع فَأخْبر عَنهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَهُوَ يُؤَيّد رِوَايَة البُخَارِيّ: هلك كسْرَى،
وَلَفظ التِّرْمِذِيّ يدل على أَن هَلَاكه سيقع لِأَن إِذا
للمستقبل، وَلَفظ مُسلم: قد مَاتَ كسْرَى، بِلَفْظ
الْمَاضِي الْمُؤَكّد بِكَلِمَة: قد، وَلَا يَصح أَن
يُقَال فِي: قد مَاتَ، إِذا مَاتَ. قلت: الْجَواب من
وَجْهَيْن أَحدهمَا: أَن يُقَال أَن أَبَا هُرَيْرَة سمع
الحَدِيث مرَّتَيْنِ، فَسمع أَولا: إِذا هلك كسْرَى، ثمَّ
سمع بعده: قد مَاتَ، فِي رِوَايَة مُسلم، وَهلك فِي
رِوَايَة البُخَارِيّ، ومعناهما وَاحِد، وَكَانَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أخبر أَولا قبل موت كسْرَى بِمَوْتِهِ
لِأَنَّهُ علم أَنه يَمُوت ثمَّ لما مَاتَ، قَالَ: قد
مَاتَ كسْرَى، وَالْآخر: أَن يفرق بَين الْمَوْت والهلاك،
فموته قد وَقع فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَأخْبر بذلك، وَأما هَلَاك ملكه فَلم يَقع إلاَّ بعد
مَوته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَوْت أبي بكر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا هلك ملكه فِي خلَافَة
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَتَمَامه وتلاشيه فِي
أَيَّام عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله:
(ولتقسمن) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَهَكَذَا جرى، اقتسم
الْمُسلمُونَ كنوزهما فِي سَبِيل الله، وَهَذِه معْجزَة
ظَاهِرَة، والكنوز جمع: كنز، وَهُوَ المَال المدفون
وَالَّذِي يجمع ويدخر. وَاعْلَم أَن الْهَلَاك فِي كسْرَى
عَام وَفِي قَيْصر خَاص، لِأَن معنى الحَدِيث: لَا قَيْصر
بعده فِي أَرض الشَّام، وَقد دَعَا النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لقيصر لما قَرَأَ كِتَابه أَن يثبت الله
ملكه، فَلم يذهب ملك الرّوم أصلا إلاَّ من الْجِهَة
الَّتِي خلا مِنْهَا. وَأما كسْرَى فَإِنَّهُ مزق كِتَابه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَا عَلَيْهِ أَن يمزق ملكه
كل ممزق فَانْقَطع إِلَى الْيَوْم وَإِلَى يَوْم
الْقِيَامَة. قَوْله: (وسمى) أَي: رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (الْحَرْب خدعة) وَضبط الْأصيلِيّ: خدعة،
بِضَم الْخَاء وَسُكُون الدَّال، وَعَن يُونُس: ضم الْخَاء
وَفتح الدَّال، وَعَن عِيَاض: فتحهما، وَقَالَ الْقَزاز:
فتح الْخَاء وَسُكُون الدَّال لُغَة النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ولغته أفْصح اللُّغَات، وَقَالُوا: الخدعة
الْمرة الْوَاحِدَة من الخداع، فَمَعْنَاه: أَن من خدع
فِيهَا مرّة وَاحِدَة عطب وَهلك وَلَا عودة لَهُ.
وَقَالَ ابْن سَيّده فِي (العويص) : من قَالَ خدعة أَرَادَ
تخدع أَهلهَا وَفِي (الواعي) : أَي: تمنيهم بالظفر
وَالْغَلَبَة، ثمَّ لَا تفي لَهُم، وَقَالَ: وَمن قَالَ:
خدعة، أَرَادَ هِيَ أَن تخدع، كَمَا يُقَال: رجل لعنة يلعن
كثيرا، وَإِذ خدع أحد الْفَرِيقَيْنِ صَاحبه فِي الْحَرْب
فَكَأَنَّهَا خدعت هِيَ، وَقَالَ قَاسم بن ثَابت فِي
(كِتَابه الدَّلَائِل) : كثر استعمالهم لهَذِهِ الْكَلِمَة
حَتَّى سموا الْحَرْب خدعة، وَحكى مكي وَمُحَمّد بن عبد
الْوَاحِد: خدعة، بِالْكَسْرِ، وَقَالَ المطرزي:
الْأَفْصَح بِالْفَتْح لِأَنَّهُ لُغَة قُرَيْش، وَقَالَ
ابْن درسْتوَيْه: لَيست بلغَة قوم دون قوم، وَإِنَّمَا
هِيَ كَلَام الْجَمِيع لِأَنَّهَا الْمرة الْوَاحِدَة من
الخداع، فَلذَلِك فتحت. وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو بكر بن
طَلْحَة: أَرَادَ ثَعْلَب أَن سيدنَا رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخْتَار هَذِه البنية ويستعملها
كثيرا لِأَنَّهَا بلفظها الْوَجِيز تُعْطِي معنى البنيتين
الْأُخْرَيَيْنِ وَيُعْطِي أَيْضا مَعْنَاهَا: اسْتعْمل
الْحِيلَة فِي الْحَرْب مَا أمكنك، فَإِذا أعيتك الْحِيَل
فقاتل، فَكَانَت هَذِه اللُّغَة على مَا ذكرنَا مختصرة
اللَّفْظ كَثِيرَة الْمَعْنى، فَلذَلِك كَانَ سيدنَا
يختارها قَالَ اللحياني: خدعت الرجل أخدعه خدعاً وخدعاً
وخديعة وخدعة. إِذْ أظهرت لَهُ خلاف مَا تخفي، وَأَصله: كل
شَيْء كتمته فقد خدعته، وَرجل خداع وخدوع وخدع وخديعة
وخدعة: إِذا أظهرت لَهُ خلاف مَا تخفي، وَأَصله: كل شَيْء
كتمته فقد خدعته، وَرجل خداع وخدوع خدع وخدعة: إِذا كَانَ
خباً. وَفِي (الْمُحكم) : الخدع والخديعة الْمصدر، والخدع
وَالْخداع الإسم، وَرجل خيدع: كثير الخداع، وَقَالَ ابْن
الْعَرَبِيّ: الخديعة فِي الْحَرْب تكون بالتورية وَتَكون
بالكمين وَتَكون بخلف الْوَعْد، وَذَلِكَ من الْمُسْتَثْنى
الْجَائِز الْمَخْصُوص من الْمحرم.
وَالْكذب حرَام بِالْإِجْمَاع جَائِز فِي مَوَاطِن
بِالْإِجْمَاع أَصْلهَا الْحَرْب، أذن الله فِيهِ وَفِي
أَمْثَاله رفقا بالعباد لضعفهم، وَلَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي
تَحْرِيمه وَلَا فِي تَحْلِيله أثر، إِنَّمَا هُوَ إِلَى
الشَّرْع، وَلَو كَانَ تَحْرِيم الْكَذِب كَمَا يَقُول
المبتدعون عقلا، وَيكون التَّحْرِيم صفة نفسية كَمَا
يَزْعمُونَ، مَا انْقَلب حَلَالا أبدا، وَالْمَسْأَلَة
لَيست معقولة فتستحق جَوَابا، وخفي هَذَا على
عُلَمَائِنَا. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إِنَّمَا يجوز فِي
المعاريض دون حَقِيقَة الْكَذِب، فَإِنَّهُ لَا يحل.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: الظَّاهِر إِبَاحَة حَقِيقَة
الْكَذِب لَكِن الِاقْتِصَار على التَّعْرِيض أفضل،
وَقَالَ بعض أهل السّير: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ذَلِك يَوْم الْأَحْزَاب لنعيم بن مَسْعُود، وَعَن
الْمُهلب: الخداع فِي الْحَرْب جَائِز كَيفَ مَا يُمكن
إلاَّ بالأيمان والعهود وَالتَّصْرِيح بالأيمان فَلَا يحل
شَيْء من ذَلِك.
9203 - حدَّثنا أبُو بَكْرِ بنُ أصْرَمَ قَالَ أخبرَنا
عبْدُ الله قالَ أخبرَنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامِ بنِ
مُنَبِّهٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ سَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَرْبَ
خُدْعَةً.
.
(14/275)
هَذَا طَرِيق آخر عَن أبي هُرَيْرَة أخرجه عَن أبي بكر بن
أَصْرَم، واسْمه: بور، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون
الْوَاو، وَفِي آخِره رَاء، وكنيته أَبُو بكر الْمروزِي،
قَالَ البُخَارِيّ: مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَلَيْسَ لَهُ إِلَّا
هَذَا الحَدِيث، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك
الْمروزِي.
0303 - حدَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ قالَ أخْبَرَنا ابنُ
عُيَيْنَةَ عنْ عَمْرو سَمِعَ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله
رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الحَرْبُ خُدْعَة.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَصدقَة بن الْفضل
الْمروزِي وَهُوَ من أَفْرَاده، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ
سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن عَليّ بن حجر
وَعَمْرو النَّاقِد وَزُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن سعيد بن مَنْصُور. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع وَنصر بن عَليّ،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور
الْمَكِّيّ والْحَارث بن مِسْكين، وَفِي الْبَاب عَن
عَليّ، أخرجه النَّسَائِيّ كَذَلِك، وَعَن زيد بن ثَابت
أخرجه الطَّبَرَانِيّ كَذَلِك، وَعَن ابْن عَبَّاس أخرجه
ابْن مَاجَه كَذَلِك. وَعَن كَعْب بن مَالك أخرجه أَبُو
دَاوُد كَذَلِك. وَعَن أنس أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده)
كَذَلِك وَعَن عَائِشَة أخرجه ابْن مَاجَه، قَالَ ذَلِك:
وَعَن ابْن عمر أخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) قَالَ
ذَلِك. وَعَن الْحسن بن عَليّ أخرجه أَبُو يعلى الْموصِلِي
فِي مُسْنده فَقَالَ ذَلِك، وَعَن الْحُسَيْن بن عَليّ
أخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) قَالَ ذَلِك. وَعَن عبد
الله ابْن سَلام أخرجه أَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) قَالَ ذَلِك، وَعَن النواس ابْن سمْعَان أخرجه
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) قَالَ ذَلِك. وَعَن عَوْف
بن مَالك أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) قَالَ
ذَلِك. وَعَن نعيم بن مَسْعُود أخرجه الطَّبَرَانِيّ قَالَ
ذَلِك. وَعَن نبيط ابْن شريط أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا
فِي (الْأَوْسَط) قَالَ ذَلِك. |