عمدة القاري شرح صحيح البخاري

8 - (بَاب الدُّعاءِ عَلَى مَنْ نَكَثَ عَهْدَاً)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الدُّعَاء على من نكث، أَي: نقض عهد، أَي: ميثاقاً.

0713 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانُ قالَ حدَّثنا ثابتُ بنُ يَزِيدَ قَالَ حدَّثنا عاصمٌ قَالَ سألْتُ أنَساً رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ الْقُنُوتِ قَالَ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَقلْتُ إنَّ فُلانَاً يَزْعُمُ أنَّكَ قُلْتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ كَذَبَ ثُمَّ حدَّثَنَا عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ قَنَتَ شَهْرَاً بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو علَى أحْياءِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ بَعَثَ أرَبَعِينَ أوْ سَبْعِينَ يَشُكُّ فيهِ مِنَ القُرَّاءِ إِلَى أناسٍ منَ المُشْرِكِينَ فعرَضَ لَهُمْ هاؤُلاءِ فَقتَلُوهُمْ وكانَ بَيْنَهُم وبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عهْدٌ فَما رَأيْتُهُ وجَدَ علَى أحَدٍ مَا وَجَدَ علَيْهِمْ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وثابت بن يزِيد بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَوهم من قَالَ فِيهِ: زيد، بِغَيْر الْيَاء، وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان الْأَحول، وَهَؤُلَاء، وَهَؤُلَاء كلهم بصريون.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الْوتر فِي: بَاب الْقُنُوت قبل الرُّكُوع وَبعده، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد عَن عَاصِم عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (من الْقُرَّاء) مُتَعَلق بقوله: بعث. قَوْله: (وجد) ، يُقَال: وجد مَطْلُوبه يجده من بَاب ضرب يضْرب وجودا، ويجده بِالضَّمِّ لُغَة عامرية لَا نَظِير لَهَا فِي بَاب الْمِثَال، وَوجد ضالته وجدانًا، وَوجد عَلَيْهِ فِي الْغَضَب موجدة ووجداناً أَيْضا، حَكَاهَا بَعضهم: وَوجد فِي الْحزن وجدا بِالْفَتْح، وَوجد فِي المَال وجدا ووجداً ووجدا وَجدّة، أَي: اسْتغنى، وَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا يَدْعُو بِالشَّرِّ على أحد من الْكفَّار مَا دَامَ يَرْجُو لَهُم الرُّجُوع والإقلاع عَمَّا هم عَلَيْهِ، ألاَ ترى أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سُئِلَ أَن يَدْعُو على دوس فَدَعَا لَهَا بِالْهدى، وَإِنَّمَا دَعَا على بني سليم حِين نكثوا الْعَهْد وغدروا لِأَنَّهُ أيس من رجوعهم عَن ضلالتهم، فَأجَاب الله بذلك دَعوته وَأظْهر صدقه وبرهانه، وَهَذِه الْقِصَّة أصل فِي جَوَاز الدُّعَاء فِي الصَّلَاة وَالْخطْبَة على عَدو الْمُسلمين وَمن خالفهم، وَمن نكث عهدا وَشبهه، وَالله أعلم.

9 - (بابُ أمانِ النِّسَاءِ وجِوارِهنَّ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم أَمَان النِّسَاء وجوارهن، بِكَسْر الْجِيم وَضمّهَا أَي: إجارتهن، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْجَار الَّذِي يجاورك، تَقول: جاورته مجاورة وجواراً، بِكَسْر الْجِيم وَضمّهَا، وَالْجَار الَّذِي أجرته من أَن يَظْلمه ظَالِم، وأجرته بِدُونِ الْمَدّ من الْإِجَارَة، وَيُقَال: أجرت فلَانا على فلَان إِذا أعنته مِنْهُ ومنعته.

1713 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبَرَنا مالِكٌ عنْ أبِي النَّضْرِ مَوْلى عُمَرَ بنِ عُبَيْدِ الله أنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أمِّ هانِيءٍ ابْنَةِ أبي طالبٍ أخبَرَهُ أنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هانِىءٍ ابْنَةَ أبي طالِبٍ تَقُولُ ذَهَبْتُ

(15/92)


إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عامَ الفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ فسَلَّمْتُ علَيْهِ فَقالَ مَنْ هاذِهِ فَقلْتُ أَنا أُمُّ هَانىءٍ بنْتُ أبِي طالِبٍ فَقال مَرْحَباً بِأُمِّ هانِىءٍ فلَمَّا فرغَ مِنْ غُسْلِهِ قامَ فَصَلَّى ثَمانَ رَكْعَاتٍ مُلْتَحِفاً فِي ثَوْبٍ واحدٍ فَقلْتُ يَا رسُولَ الله زعَمَ ابنُ أُمِّي عليٌّ أنَّهُ قاتَلَ رجُلاً قَدْ أجَرْتُهُ فَلانُ ابنُ هُبَيْرَةَ فَقال رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدْ أجَرْنَا مَنْ أجَرْتِ يَا أُمَّ هانىءٍ وذلِكَ ضُحَىً.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قد أجرنا من أجرت) وَأَبُو النَّضر، بالنُّون وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، واسْمه سَالم بن أبي أُميَّة مولى عمر ابْن عبيد الله بن معمر الْقرشِي التَّيْمِيّ الْمدنِي، وَأَبُو مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: واسْمه يزِيد بن مرّة مولى عقيل بن أبي طَالب، وَيُقَال: مولى أم هانىء، وَقَالَ الدَّاودِيّ: كَانَ عبدا لَهما فأعتقاه فينسب مرّة لهَذَا وَمرَّة لهَذَا.
والْحَدِيث مضى فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الصَّلَاة فِي الثَّوْب الْوَاحِد ملتحفاً بِهِ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَفِيه من الْفِقْه: جَوَاز أَمَان الْمَرْأَة وَأَن من أمنته حرم قَتله، وَقد أجارت زَيْنَب بنت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا الْعَاصِ ابْن الرّبيع، وعَلى هَذَا جمَاعَة الْفُقَهَاء بالحجاز وَالْعراق مِنْهُم مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ، وَشد عبد الْملك بن الْمَاجشون وَسَحْنُون عَن الْجَمَاعَة، فَقَالَا: أَمَان الْمَرْأَة مَوْقُوف على إجَازَة الإِمَام، فَإِن أجَازه جَازَ، وَإِن رده رد.

01 - (بابٌ ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وجِوارُهُمْ واحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أدْناهُمْ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ ذمَّة الْمُسلمين وجوارهم وَاحِدَة، فَقَوله: ذمَّة الْمُسلمين، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وجوارهم، عطف عَلَيْهِ وَخَبره قَوْله: وَاحِدَة، وَمَعْنَاهُ: أَن من انْعَقَدت عَلَيْهِ ذمَّة من طَائِفَة من الْمُسلمين فَإِنَّهَا وَاحِدَة فِي الحكم لَا تخْتَلف باخْتلَاف الْعَاقِدين، وَحَاصِل الْمَعْنى: أَن كل من عقد ذمَّة يَعْنِي أَمَانًا لأحد من أهل الْحَرْب جَازَ أَمَانه على جَمِيع الْمُسلمين دنيّاً كَانَ أَو شريفاً، عبدا كَانَ أَو حرا، رجلا كَانَ أَو امْرَأَة، وَلَيْسَ لَهُم بعد ذَلِك أَن يخفروه، وَاتفقَ مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر على جَوَاز أَمَان العَبْد قَاتل أَو لم يُقَاتل، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف: لَا يجوز أَمَانه إلاَّ أَن يُقَاتل، وَأَجَازَ مَالك أَمَان الصَّبِي إِذا عقل الْإِسْلَام، وَمنع ذَلِك أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَجُمْهُور الْفُقَهَاء، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الْعلم أَن أَمَان الصَّبِي غير جَائِز، وَالْمَجْنُون كَذَلِك لَا يَصح أَمَانه بِلَا خلاف كالكافر، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: إِن غزا الذِّمِّيّ مَعَ الْمُسلمين فأمن أحدا فَإِن شَاءَ الإِمَام أَمْضَاهُ وإلاَّ فَيردهُ إِلَى مأمنه. قَوْله: (وجوارهم) أَي: وَجوَار الْمُسلمين، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: جوارهم. قَوْله: (يسْعَى بهَا) ، أَي: بِذِمَّة الْمُسلمين، أَي: بأمانهم (أَدْنَاهُم) أَي: أقلهم عددا فَيدْخل فِيهِ الْوَاحِد وَتدْخل فِيهِ الْمَرْأَة أَيْضا، وَلَا يدْخل فِيهِ العَبْد عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الْجِهَاد، فَإِذا قَاتل يكون مِنْهُم، وَلَفظ: ذمَّة الْمُسلمين وَاحِدَة يسْعَى بهَا أَدْنَاهُم، رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب وَعبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل رِوَايَة أَحْمد، ثمَّ قَالَ: معنى هَذَا عِنْد أهل الْعلم أَن من أعْطى الْأمان من الْمُسلمين فَهُوَ جَائِز على كلهم. وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمُسلمُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ وهم يدٌ على من سواهُم، يسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم ... الحَدِيث.

2713 - حدَّثني مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرَنَا وَكِيعٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عنْ أبِيهِ قَالَ خَطَبَنَا عَليّ فَقَالَ مَا عنْدَنا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إلاَّ كِتابُ الله وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَقال فِيهَا الجِرَاحَاتُ وأسْنَانُ الإبِلِ والمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْر إِلَى كذَا فَمنْ أحْدَثَ فِيهَا حَدَثا أوْ آوى فِيهَا مُحْدِثاً فعلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلاَئِكَة والنَّاسِ أجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولاَ عَدْلٌ ومَنْ تَوَلَّى غيْرَ مَوَالِيهِ فعَلَيْهِ مِثْلُ ذلِكَ وذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِماً فعلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ. .

(15/93)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَذمَّة الْمُسلمين وَاحِدَة) وَأما قَوْله: يسْعَى بهَا أَدْنَاهُم، فَفِي رِوَايَة أَحْمد، وَقد ذَكرْنَاهُ الْآن، وَمُحَمّد شيخ البُخَارِيّ هُوَ مُحَمَّد بن سَلام، كَذَا نسبه ابْن السكن، وَقَالَ الكلاباذي: روى مُحَمَّد بن مقَاتل وَمُحَمّد بن سَلام وَمُحَمّد بن نمير فِي (الْجَامِع) عَن وَكِيع بن الْجراح، وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يروي عَن أَبِيه يزِيد بن شريك التَّيْمِيّ تيم الربَاب، مَاتَ إِبْرَاهِيم فِي حبس الْحجَّاج سنة أَربع وَتِسْعين.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب حرم الْمَدِينَة فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن بشار عَن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَن أَبِيه ... إِلَى آخِره، وَفِيه: وَهَذِه الصَّحِيفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ فِيهِ: فَقَالَ فِيهَا: الْجِرَاحَات وأسنان الْإِبِل ... وَتقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (مَا بَين عير) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَهُوَ اسْم جبل بِالْمَدِينَةِ قَوْله: (إِلَى كَذَا) لَعَلَّه: أحد
قَوْله: (حَدثا) ، بِفَتْح الدَّال، وَهُوَ الْأَمر الْمُنكر الَّذِي لَيْسَ بمعتاد وَلَا مَعْرُوف فِي السّنة، والمحدث، بِكَسْر الدَّال، وَهُوَ الَّذِي ينصر جانياً أَو أَواه وَأَجَارَهُ من خَصمه وَحَال بَينه وَبَين من يقْتَصّ مِنْهُ، ويروى بِفَتْح الدَّال، وَهُوَ الْأَمر المبتدع نَفسه. قَوْله: (صرف) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة: وَهُوَ التَّوْبَة، وَقيل: النَّافِلَة، وَالْعدْل: الْفِدْيَة، وَقيل: النَّافِلَة، وَالْعدْل: الْفِدْيَة، وَقيل: الْفَرِيضَة. قَوْله: (فَمن أَخْفَر) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَي: فَمن نقض عهد مُسلم فَعَلَيهِ مثل مَا كَانَ على من أحدث فِيهَا.

11 - (بابٌ إذَا قَالُوا صَبَأْنَا ولَمْ يُحْسِنُوا أسْلَمْنَا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الْمُشْركين حِين يُقَاتلُون إِذا قَالُوا: صبأنا، وَأَرَادُوا بِهِ الْإِخْبَار بِأَنَّهُم أَسْلمُوا وَلم يحسنوا أَن يَقُولُوا: أسلمنَا، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: هَل يكون ذَلِك كَافِيا فِي رفع الْقِتَال عَنْهُم أم لَا؟ قيل: إِن الْمَقْصُود من التَّرْجَمَة أَن الْمَقَاصِد تعْتَبر بأدلتها كَيفَ مَا كَانَت الْأَدِلَّة، لفظية أَو غير لفظية، تَأتي بِأَيّ لُغَة كَانَت، وصبانا من صَبأ فلَان إِذا خرج من دينه إِلَى دين غَيره، من قَوْلهم صبا نَاب الْبَعِير إِذا طلع، وصبأت النُّجُوم إِذا خرجت من مطالعها، وَكَانَت الْعَرَب تسمي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الصابيء، لِأَنَّهُ خرج من دين قُرَيْش إِلَى دين الْإِسْلَام.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ فَقَالَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبْرَأُ إلَيْكَ مَمَّا صنَعَ خالِدٌ
أَي: قَالَ عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. . وَهَذَا طرف من حَدِيث طَوِيل أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْمَغَازِي فِي غَزْوَة الْفَتْح. وأصل الْقِصَّة أَن خَالِد بن الْوَلِيد بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بني جذيمة فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام فَلم يحسنوا أَن يَقُولُوا: أسلمنَا، فَجعلُوا يَقُولُونَ: صبأنا، صبأنا، فَجعل خَالِد يقتل مِنْهُم بِنَاء على ظَاهر اللَّفْظ، فَبلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك فَأنكرهُ، فَدلَّ على أَنه يَكْتَفِي من كل قوم بِمَا يعرف من لغتهم، وَقد عذر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَالِدا فِي اجْتِهَاده، وَلذَلِك لم يقدْ مِنْهُ. وَقَالَ ابْن بطال: لَا خلاف أَن القَاضِي إِذا قضى بجور أَو بِخِلَاف قَول أهل الْعلم فَهُوَ مَرْدُود، فَإِن كَانَ على وَجه الِاجْتِهَاد والتأويل كَمَا صنع خَالِد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن الْإِثْم سَاقِط وَالضَّمان لَازم عِنْد عَامَّة أهل الْعلم، إلاَّ أَنهم اخْتلفُوا فِي ضَمَان ذَلِك، فَإِن كَانَ فِي قتل أَو جراح فَفِي بَيت المَال، وَهَذَا قَول الثَّوْريّ وَأبي حنيفَة وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَت طَائِفَة: على عَاقِلَة الإِمَام أَو الْحَاكِم، وَهَذَا قَول الْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ ابْن الْمَاجشون: لَيْسَ على الْحَاكِم شَيْء من الدِّيَة فِي مَاله وَلَا على عَاقِلَته وَلَا فِي بَيت المَال. فَإِن قلت: لَيْسَ فِيهِ وَلَا فِي الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي لفظ: صبأنا، فَأَيْنَ الْمُطَابقَة؟ قلت: جرت عَادَته أَنه يترجم بِبَعْض مَا ورد فِي الحَدِيث الَّذِي يذكرهُ فِيهِ.
وَقَالَ عُمَرُ إذَا قَالَ مَتْرَسْ فقدْ آمَنَهُ إنَّ الله يعْلَمُ الألْسِنَةَ كُلَّها وَقَالَ تَكَلَّمْ لَا بأسَ
أَي: قَالَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق من طَرِيق أبي وَائِل، قَالَ: جَاءَنَا كتاب عمر وَنحن نحاصر قصر فَارس، فَقَالَ: إِذا حاصرتم قصراً فَلَا تَقولُوا: إنزلوا على حكم الله، فَإِنَّهُم لَا يَدْرُونَ مَا حكم الله، وَلَكِن أنزلوهم على حكمكم ثمَّ اقضوا فيهم، وَإِذا لَقِي الرجلُ الرجلَ فَقَالَ: لَا تخف، فقد أَمنه، وَإِذا قَالَ: مترس، فقد أَمنه، أَن الله يعلم الْأَلْسِنَة كلهَا وَلَفْظَة: مترس، كلمة فارسية وَمَعْنَاهَا: لَا تخف، لِأَن لفظ: م، كلمة النَّفْي عِنْدهم. وَلَفظ: ترس، بِمَعْنى الْخَوْف عِنْدهم، فَإِذا أَرَادوا أَن يَقُولُوا لوَاحِد: لَا تخف، يَقُولُونَ بلسانهم: مترس، وَاخْتلفُوا فِي ضَبطهَا، فضبطه الْأصيلِيّ: بِفَتْح الْمِيم وَالتَّاء وَسُكُون الرَّاء، وَضَبطه أَبُو ذَر:

(15/94)


بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون التَّاء، وَضَبطه بَعضهم: بِإِسْكَان التَّاء وَفتح الرَّاء، وَأهل خُرَاسَان كَانُوا يَقُولُونَ ليحيى بن يحيى فِي (الْمُوَطَّأ) : مطرس، قلت: الْأَصَح ضبط الْأصيلِيّ لَا غير. قَوْله: (قَالَ: تكلم لَا بَأْس) أَي: قَالَ عمر بن الْخطاب للهرمزان حِين أَتَوا بِهِ إِلَيْهِ، وَقد تقدم فِي الْجِزْيَة وَالْمُوَادَعَة، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة عَن حميد عَن أنس، قَالَ: حاصرنا تستر فَنزل الهرمزان على حكم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ استعجم، فَقَالَ لَهُ عمر: تكلم لَا بَأْس عَلَيْك، فَكَانَ ذَلِك عهدا وتأميناً من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

21 - (بابُ المُوَادَعَةِ والْمُصَالَحَةِ مَعَ المُشْرِكِينَ بالمالِ وغَيْرِهِ وإثْمِ مَن لَمْ يَفِ بالْعَهْدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْمُوَادَعَة، وَهِي المسالمة على ترك الْحَرْب والأذى، وَحَقِيقَة الْمُوَادَعَة المتارعة، أَي: أَن يدع كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ مَا هُوَ فِيهِ. قَوْله: (وَغَيره) ، أَي: وَغير المَال نَحْو الأسرى. قَوْله: (من لم يفِ) ويروى: من لم يوفِ.
وقَوْلِهِ: {وإنْ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ فاجْنَجْ لَهَا} (الْأَنْفَال: 16) . الآيةَ
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: الْمُوَادَعَة، أَي: وَفِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جنحوا} (الْأَنْفَال: 16) . الْآيَة فِي مَشْرُوعِيَّة الصُّلْح، وَمعنى: جنحوا، أَي: مالوا، وَيُقَال: أَي طلبُوا، و: السّلم، بِكَسْر السِّين الصُّلْح. قَوْله: فاجنح، أَمر من جنح يجنح أَي: مِلْ لَها أَي: إِلَيْهَا، أَي: إِلَى المسالمة. وَاقْبَلْ مِنْهُم ذَلِك، قَالَ مُجَاهِد: نزلت فِي بني قُرَيْظَة، وَفِيه نظر، لِأَن السِّيَاق كُله فِي وقْعَة بدر، وَذكرهَا مكشف لهَذَا كُله، وَقَول ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَزيد بن أسلم وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي وَعِكْرِمَة وَالْحسن وَقَتَادَة: إِن هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيْف فِي بَرَاءَة: {قَاتلُوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر} (التَّوْبَة: 92) . وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) : فِيهِ نظر أَيْضا، لِأَن آيَة بَرَاءَة الْأَمر بقتالهم إِذا أمكن ذَلِك، فَأَما إِذا كَانَ الْعَدو كثيفاً فَإِنَّهُ تجوز مهادنتهم، كَمَا دلّت عَلَيْهِ هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة، وكما فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة، فَلَا مُنَافَاة وَلَا نسخ وَلَا تَخْصِيص.

3713 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرٌ هُوَ ابنُ المُفَضَّلِ قَالَ حدَّثَنا يَحْيَى عنْ بُشَيْرِ بنِ يَسارٍ عنْ سَهْلِ بنِ أبِي حَثْمَةَ قَالَ انْطَلَقَ عَبْدُ الله بنُ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةُ بنُ مَسْعُودِ بنِ زَيْدٍ إِلَى خَيْبرَ وهْيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ فَتَفَرَّقَا فأتَى محَيْصَةُ إِلَى عَبْدِ الله وهْوَ يتَشَحَّطُ

فِي دَمٍ قَتِيلاً فَدَفَنَهُ ثُمَّ قَدِمَ المَدِينَةَ فانْطَلَقَ عبدُ الرَّحْمانِ بنُ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةُ وحُوَيِّصَةُ ابْنَا مَسْعُود إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فذَهَبَ عبْدُ الرَّحْمانِ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ كَبِّرْ كَبِّرْ وهْوَ أحْدَثُ القَوْمِ فسَكَتَ فتَكَلَّمَا فَقَالَ أتَحْلِفُونَ وتَسْتَحِقُّونَ قَاتِلَكُمْ أوْ صَاحِبَكُمْ قالُوا وكَيْفَ نَحْلِف ولَمْ نَشْهَدْ ولَمْ نَرَ قَالَ فَتُبْرِيكُمُ يَهُودُ بِخَمْسِينَ فَقَالُوا كَيْفَ نأخُذُ أيْمَانَ قَوْم كُفَّارٍ فعَقَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ عِنْدِهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَهِي يَوْمئِذٍ صلح) وَتَمام الْمُطَابقَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فعقله النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عِنْده) ، لِأَنَّهُ مصالحة مَعَ الْمُشْركين بِالْمَالِ.
ذكر رِجَاله وهم تِسْعَة: الأول: مُسَدّد. الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن الْمفضل، على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول من التَّفْضِيل بالضاد الْمُعْجَمَة: ابْن لَاحق أَبُو إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: بشير بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة مصغر بشر ابْن يسَار ضد الْيَمين الْمدنِي، مولى الْأَنْصَار. الْخَامِس: سهل ابْن أبي حثْمَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة: واسْمه عبد الله أَبُو مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَة رُوَاة. السَّادِس: عبد الله بن سهل بن زيد بن كَعْب الْحَارِثِيّ قَتِيل الْيَهُود بِخَيْبَر، وَهُوَ أَخُو عبد الرَّحْمَن بن سهل، وَابْن أخي حويصة ومحيصة. السَّابِع: محيصة، بِضَم الْمِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة: ابْن مَسْعُود بن كَعْب بن عَامر الْأنْصَارِيّ الخزرجي أَبُو سعيد الْمدنِي، لَهُ صُحْبَة، وَهُوَ أَخُو حويصة بن مَسْعُود، وَيُقَال فيهمَا جَمِيعًا بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها، أسلم قبل أَخِيه حويصة، وَكَانَ حويصة

(15/95)


أسن مِنْهُ. الثَّامِن: عبد الرَّحْمَن بن سهل بن زيد الْأنْصَارِيّ، أَخُو عبد الله بن سهل الْمَذْكُور. التَّاسِع: حويصة بن مَسْعُود الْأنْصَارِيّ أَبُو سعد أَخُو محيصة لِأَبِيهِ وَأمه.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي (الصُّلْح عَن مُسَدّد وَفِي الْأَدَب عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَفِي الدِّيات عَن أبي نعيم وَفِي الْأَحْكَام عَن عبد الله بن يُوسُف وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن عبيد الله ابْن عمر عَن حَمَّاد وَعَن عبيد الله أَيْضا عَن بشر بن الْمفضل وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن قُتَيْبَة وَعَن يحيى بن يحيى وَعَن القعْنبِي عَن سُلَيْمَان بن بِلَال وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الدِّيات عَن القواريري وَمُحَمّد بن عبيد وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَعَن الْحسن بن مُحَمَّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدِّيات أَيْضا عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن الْحسن بن عَليّ الْخلال. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء وَفِي الْقسَامَة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح بِهِ وَعَن أَحْمد بن عَبدة وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان فيهمَا وَعَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فِي الْقَضَاء وَحده وَفِيهِمَا عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن يحيى بن حَكِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (انْطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بِهِ مَسْعُود إِلَى خَيْبَر) وَكَانَا خرجا فِي أنَاس من أَصْحَاب لَهما يمتارون تَمرا، فوُجدَ عبد الله بن سهل فِي عين قد كسرت عُنُقه ثمَّ طرح فِيهَا فدفنوه، وَقدمُوا على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرُوا لَهُ شَأْنه، فَحكم فِيهِ بالقسامة، وبسببه كَانَت الْقسَامَة. قَوْله: (وَهِي يَوْمئِذٍ صلح) ، أَي: وَالْحَال أَن خَيْبَر يَوْم وُقُوع هَذِه الْقَضِيَّة صلح يَعْنِي كَانُوا فِي مصالحة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله (وَهُوَ يَتَشَحَّط فِي دم) أَي عبد الله يضطرب فِي الدَّم قَالَه الْخطابِيّ وَقَالَ الدَّاودِيّ: المتشحط المختضب، ومادته: شين مُعْجمَة وحاء مُهْملَة وطاء مُهْملَة، قَالَ ابْن الْأَثِير: مَعْنَاهُ يتخبط فِي دَمه ويضطرب ويتمرغ. قَوْله: (قَتِيلا) نصب على الْحَال قَوْله: (كبر كبر) أَي: قدم الأسن يتَكَلَّم، وَهُوَ أَمر من التَّكْبِير كَرَّرَه للْمُبَالَغَة. قَوْله: (أتحلفون؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (أَو صَاحبكُم) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (تبرئكم) ، من الْإِبْرَاء، أَي: تَبرأ إِلَيْكُم من دعواكم بِخَمْسِينَ يَمِينا. قَوْله: (خمسين) هَكَذَا وَقع بِغَيْر مميزه، وَتَقْدِيره: بِخَمْسِينَ يَمِينا. قَوْله: (فعقله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: أدّى دِيَته. قَوْله: (من عِنْده) ، يحْتَمل وَجْهَيْن: هُوَ أَن يكون من مَال نَفسه، وَالْآخر: أَن يكون من مَال بَيت المَال الْمعد لمصَالح الْمُسلمين، وَإِنَّمَا عقله رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قطعا للنزاع وإصلاحاً وجبراً لخواطرهم، وَإِلَّا فاستحقاقهم لم يثبت.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أدب وإرشاد إِلَى أَن الْأَكْبَر أولى بالتقدمة فِي الْكَلَام. وَاعْلَم أَن حَقِيقَة الدَّعْوَى إِنَّمَا هِيَ لِأَخِيهِ عبد الرَّحْمَن لَا حق فِيهَا لِابْني عَمه، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر أَن يتَكَلَّم الْأَكْبَر لِأَنَّهُ لم يكن المُرَاد بِكَلَامِهِ حَقِيقَة الدَّعْوَى، بل سَماع صُورَة الْقِصَّة وكيفيتها، فَإِذا أَرَادَ حَقِيقَتهَا تكلم صَاحبهَا، وَيحْتَمل أَن عبد الرَّحْمَن وكل الْأَكْبَر أَو أمره بتوكيله فِيهَا. وَفِيه: أَن الْقَوْم إِذا كَانَ فيهم صَغِير يَنْبَغِي أَن يتأدب الصَّغِير وَلَا يتَقَدَّم عَلَيْهِم بالْكلَام وَنَحْوه، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: وَهُوَ أحدث الْقَوْم، أَي: عبد الرَّحْمَن أَصْغَر الْقَوْم. وَفِيه: صِحَة الْوكَالَة، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: فتكلما، أَي: فَتكلم محيصة وحويصة وَذَلِكَ لِأَن الْحق لم يكن لَهما، وَإِنَّمَا تكلما بطرِيق الْوكَالَة. وَفِيه: أَن حكم الْقسَامَة مُخَالفَة لسَائِر الدَّعَاوَى من جِهَة أَن الْيَمين على الْمُدَّعِي. وَفِيه: أَن الْقسَامَة خَمْسُونَ يَمِينا. فَإِن قلت: كَيفَ عرضت الْيَمين على الثَّلَاثَة وَإِنَّمَا هِيَ للْوَارِث خَاصَّة وَهُوَ أَخُوهُ؟ قلت: كَانَ مَعْلُوما عِنْدهم أَن الْيَمين تخْتَص بالوارث، فَأطلق الْخطاب لَهُم، وَالْمرَاد من يخْتَص بِهِ. وَفِيه: إِثْبَات حكم الْقسَامَة خلافًا لجَماعَة رُوي عَنْهُم إبِْطَال الْقسَامَة، وَأَنه لَا حكم فِيهَا وَلَا عمل بهَا، قَالَ الْكرْمَانِي: مِنْهُم البُخَارِيّ وَفِيه: من اسْتدلَّ على أَن الْقسَامَة توجب الْقصاص بقوله: (تستحقون دم قاتلكم) مِنْهُم: مَالك، وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ ثَبت حقكم على من حلفتم عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الْحق أَعم من أَن يكون قصاصا أَو دِيَة. وَفِيه: كَمَا ذكرنَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وداه من عِنْده قطعا للنزاع واستئلافاً للْيَهُود وَطَمَعًا مِنْهُ فِي دُخُولهمْ الْإِسْلَام، وليكف بذلك شرهم عَن نَفسه وَعَن الْمُسلمين مَعَ إِشْكَال الْقَضِيَّة بإباء أَوْلِيَاء الْقَتِيل من الْيَمين،

(15/96)


وإبائهم أَيْضا من قبُول أَيْمَان الْيَهُود، فكاد الحكم أَن يكون مطولا، وَلَكِن أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يوادع الْيَهُود بالغرم عَنْهُم لِأَن الدَّلِيل كَانَ مُتَوَجها إِلَى الْيَهُود فِي الْقَتْل لعبد الله، وَأَرَادَ أَن يذهب مَا بنفوس أوليائه من الْعَدَاوَة للْيَهُود بِأَن غرم لَهُم الدِّيَة، إِذْ كَانَ الْعرف جَارِيا أَن من أَخذ دِيَة قتيله فقد انتصف. وَقَالَ الْوَلِيد بن مُسلم: سَأَلت الْأَوْزَاعِيّ عَن موادعة إِمَام الْمُسلمين أهل الْحَرْب على فديَة أَو هَدِيَّة يُؤَدِّيهَا الْمُسلمُونَ إِلَيْهِم، فَقَالَ: لَا يَصح ذَلِك إلاَّ بضرورة وشغل من الْمُسلمين عَن حربهم من قتال عدوهم أَو فتْنَة شملت الْمُسلمين، فَإِذا كَانَ ذَلِك فَلَا بَأْس بِهِ. قَالَ الْوَلِيد: وَذكرت ذَلِك لسَعِيد بن عبد الْعَزِيز فَقَالَ: قد صَالحهمْ مُعَاوِيَة أَيَّام صفّين، وصالحهم عبد الْملك بن مرواه لشغله بِقِتَال ابْن الزبير، يُؤَدِّي عبد الْملك إِلَى طاغية ملك الرّوم فِي كل يَوْم ألف دِينَار، وَإِلَى تراجمة الرّوم وأنباط الشَّام فِي كل جُمُعَة ألف دِينَار. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يعطيهم الْمُسلمُونَ شَيْئا بِحَال إلاَّ أَن يخَافُوا أَن يصطلحوا لِكَثْرَة الْعدَد، لِأَنَّهُ من مَعَاني الضرورات، أَو يُرْسل مُسلم فَلَا يخلى إلاَّ بفدية فَلَا بَأْس بِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فدى رجلا برجلَيْن، وَقَالَ ابْن بطال: وَلم أجد لمَالِك وَأَصْحَابه وَلَا الْكُوفِيّين نصا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. قلت: مَذْهَب أَصْحَابنَا أَن للْإِمَام أَن يصالحهم بِمَال يَأْخُذهُ مِنْهُم أَو يَدْفَعهُ إِلَيْهِم إِذا كَانَ الصُّلْح خيرا فِي حق الْمُسلمين، لقَوْله تَعَالَى: {وَإِن جنحوا للسلم فاجنح لَهَا} (الْأَنْفَال: 16) . وَالْمَال الَّذِي يُؤْخَذ مِنْهُم بِالصُّلْحِ يصرف مصارف الْجِزْيَة.

31 - (بابُ فَضْلِ الوَفاءِ بالْعَهْدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْوَفَاء بالعهد أَي: الْمِيثَاق.

4713 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنُ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنُ عُبَيْدِ الله بنَ عَبْدِ الله بنِ عُتْبَةَ أخْبَرَهُ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عَبَّاسٍ أخْبَرَهُ أنَّ أبَا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ أخبَرَهُ أنَّ هِرَقْلَ أرْسَلَ إلَيْهِ فِي ركْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ كانُوا تِجاراً بالشَّامِ فِي المُدَّةِ الَّتِي مادَّ فِيها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا سُفْيَانَ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْغدر عِنْد كل أمة قَبِيح مَذْمُوم، وَلَيْسَ هُوَ من صِفَات الرُّسُل، وَأَن هِرقل أَرَادَ أَن يمْتَحن بذلك، أَعنِي بإرساله إِلَى أبي سُفْيَان صدق رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن من غدر وَلم يفِ بعهده لَا يجوز أَن يكون نَبيا، وَالرسل أخْبرت عَن الله تَعَالَى فضل من وفى بعهده.
والْحَدِيث قِطْعَة من حَدِيث أبي سُفْيَان قد مر فِي أَوَائِل الْكتاب. قَوْله: (ماد) أَي: الْمدَّة الَّتِي هادن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعينها للصلح بَينهمَا، وَيُقَال: ماد الغريمان: إِذا اتفقَا على أجل الدّين.

41 - (بابٌ هَلْ يُعْفَى عنِ الذِّمِّيِّ إذَا سَحَرَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يُعْفَى ... إِلَى آخِره، وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام يُوضحهُ حَدِيث الْبَاب.
وَقَالَ ابنُ وَهْبٍ أخْبَرَنِي يُونُسُ عنِ ابنِ شِهابٍ سُئِلَ أعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أهْلِ العَهْدِ قَتْلٌ قَالَ بلَغَنا أنَّ رسوُلَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ فلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ وكانَ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: التَّرْجَمَة بِلَفْظ الذِّمِّيّ، وَالسُّؤَال بِأَهْل الْعَهْد، وَالْجَوَاب بِأَهْل الْكتاب؟ قلت: المُرَاد بِأَهْل الْكتاب: الَّذِي لَهُم عهد، وإلاَّ فَهُوَ حَرْبِيّ وَاجِب الْقَتْل، والعهد والذمة بِمَعْنى. انْتهى. قلت: هَذَا تَطْوِيل بِلَا فَائِدَة، وَكَانَ قَوْله: والعهد والذمة بِمَعْنى، فِيهِ كِفَايَة، وَفِيه إِيضَاح لجواب التَّرْجَمَة. وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي. وَهَذَا التَّعْلِيق مَوْصُول فِي جَامع ابْن وهب.
قَوْله: (سُئِلَ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَعلَى؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (ذَلِك) ، أَي: السحر، وَحكم هَذَا الْبَاب أَنه لَا يقتل سَاحر أهل الْكتاب عِنْد مَالك كَقَوْل ابْن شهَاب، وَلَكِن يُعَاقب إِلَى أَن يقر بسحره فَيقْتل أَو يحدث حَدثا فَيُؤْخَذ مِنْهُ بِقدر ذَلِك، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ

(15/97)


وروى ابْن وهب وَابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَيْضا: أَنه لَا يقتل بسحره ضَرَرا على مُسلم إِن لم يعاهدوا عَلَيْهِ، فَإِذا فعلوا ذَلِك فقد نقضوا الْعَهْد فَحل بذلك قَتلهمْ، وعَلى هَذَا القَوْل، لَا حجَّة لِابْنِ شهَاب فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقتل الْيَهُودِيّ الَّذِي سحره لوجوه الأول: أَنه قد ثَبت عَنهُ أَنه لَا ينْتَقم لنَفسِهِ وَلَو عاقبه لَكَانَ حَاكما لنَفسِهِ. الثَّانِي: أَن ذَلِك السحر لم يضرّهُ لِأَنَّهُ لم يتَغَيَّر عَلَيْهِ شَيْء من الْوَحْي وَلَا دخلت عَلَيْهِ دَاخِلَة فِي الشَّرِيعَة، وَإِنَّمَا اعتراه شَيْء من التخيل وَالوهم، ثمَّ لم يتْركهُ الله على ذَلِك، بل تَدَارُكه بعصمته وأعلمه مَوضِع السحر وأعلمه استخراجه وحله عَنهُ، كَمَا دفع الله عَنهُ السم بِكَلَام الذِّرَاع. الثَّالِث: أَن هَذَا السحر إِنَّمَا تسلط على ظَاهره لَا على قلبه وعقله واعتقاده، وَالسحر مرض من الْأَمْرَاض وعارض من الْعِلَل يجوز عَلَيْهِ كأنواع الْأَمْرَاض، فَلَا يقْدَح فِي نبوته وَيجوز طروه عَلَيْهِ فِي أَمر دُنْيَاهُ، وَهُوَ فِيهَا عرضة للآفات كَسَائِر الْبشر.

5713 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ الْمُثَنَّى قَالَ حدَّثنا يَحْيَى قَالَ حدَّثنا هِشامٌ قَالَ حدَّثني أبي عَن عائِشَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُحِرَ حَتَّى كانَ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّهُ صنَعَ شَيْئاً ولَمْ يَصْنَعْهُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سحره يَهُودِيّ وَعَفا عَنهُ، كَمَا ذكرنَا عَن قريب. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي التَّرْجَمَة مَا ذكرته؟ قلت: تَتِمَّة الْقِصَّة تدل عَلَيْهِ. وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير يروي عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
قَوْله: (سحر) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَاسم الْيَهُودِيّ الَّذِي سحره لبيد بن أعصم، ذكر فِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) عَن ابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، كَانَ غُلَام من الْيَهُود يخْدم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فدنت إِلَيْهِ الْيَهُود فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخذ مشاطة رَأس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعدة أَسْنَان من مشطه فَأَعْطَاهَا الْيَهُود فسحروه فِيهَا، وَكَانَ الَّذِي تولى ذَلِك رجل مِنْهُم، يُقَال لَهُ: لبيد بن أعصم، ثمَّ دسها فِي بِئْر لبني زُرَيْق يُقَال لَهَا: ذروان، وَيُقَال: أروان، فَمَرض رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وانتشر شعر رَأسه ولبث سِتَّة أشهر يرى أَنه يَأْتِي النِّسَاء وَلَا يأتيهن، وَجعل يذوب وَلَا يدْرِي مَا عراه ويخيل إِلَيْهِ أَنه يفعل الشَّيْء وَلَا يَفْعَله، فَبينا هُوَ نَائِم إِذْ أَتَاهُ ملكان فَقعدَ أَحدهمَا عِنْد رَأسه وَالْآخر عِنْد رجلَيْهِ، فَقَالَ الَّذِي عِنْد رجلَيْهِ للَّذي عِنْد رَأسه: مَا بَال الرجل؟ قَالَ: طب، قَالَ: وَمَا طب؟ قَالَ: سحر. قَالَ: وَمن سحره؟ قَالَ: لبيد بن الأعصم الْيَهُودِيّ، قَالَ: وَبِمَ طبه؟ قَالَ: بِمشْط وبمشاطة، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي جف طلعة تَحت راعوفة فِي بِئْر ذروان. والجف: قشر الطّلع، والراعوفة: صَخْرَة تتْرك فِي أَسْفَل الْبِئْر إِذا حفرت، فَإِذا أَرَادوا تنقية الْبِئْر جلس المنقي عَلَيْهَا، فانتبه رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مذعوراً، فَقَالَ: يَا عَائِشَة {أما شعرتِ أَن الله تَعَالَى أَخْبرنِي بدائي؟ ثمَّ بعث رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا وَالزُّبَيْر وعمار بن يَاسر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فنزحوا مَاء تِلْكَ الْبِئْر، وَكَأَنَّهُ نقاعة الْحِنَّاء، ثمَّ رفعوا الصَّخْرَة وأخرجوا الجف، فَإِذا فِيهِ مشاطة رَأسه وأسنان من مشطه، وَإِذا وتر معقد فِيهِ إِحْدَى عشرَة عقدَة مغرزة بالإبر، فَأنْزل الله تَعَالَى المعوذتين، فَجعل كلما قَرَأَ آيَة انْحَلَّت عقدَة، وَوجد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خفَّة حِين انْحَلَّت الْعقْدَة الْأَخِيرَة، فَقَامَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّمَا نشط من عقال، وَجعل جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَقُول: بِسم الله أرقيك، من كل شَيْء يُؤْذِيك من عين وحاسد وَالله يشفيك. فَقَالُوا: يَا رَسُول الله} أَفلا نَأْخُذ الْخَبيث فنقتله؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما أَنا فقد شفاني الله وأكره أَن أثير على النَّاس شرا، قَالَت عَائِشَة: مَا غضب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَضبا ينْتَقم من أحد لنَفسِهِ قطّ إلاَّ أَن يكون شَيْئا هُوَ لله، فيغضب لله وينتقم، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي كتاب الطِّبّ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (يخيل إِلَيْهِ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول.
وَقد اعْترض بعض الْمُلْحِدِينَ على حَدِيث عَائِشَة، وَقَالُوا: كَيفَ يجوز السحر على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالسحر كفر وَعمل من أَعمال الشَّيَاطِين، فَكيف يصل ضَرَره إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ حياطة الله لَهُ وتسديده إِيَّاه بملائكته، وصون الْوَحْي عَن الشَّيَاطِين؟ وَأجِيب: بِأَن هَذَا اعْتِرَاض فَاسد وعناد لِلْقُرْآنِ، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ لرَسُوله: {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} (الفلق: 1) . إِلَى قَوْله: فِي العقد، والنفاثات: السواحر فِي العقد، كَمَا ينفث الراقي فِي الرّقية حِين سحر، وَلَيْسَ فِي جَوَاز ذَلِك عَلَيْهِ مَا يدل على أَن ذَلِك يلْزمه أبدا أَو يدْخل عَلَيْهِ دَاخِلَة فِي شَيْء من ذَاته أَو شَرِيعَته، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ من ضَرَر السحر مَا ينَال الْمَرِيض من ضَرَر الْحمى والبرسام من ضعف الْكَلَام وَسُوء التخيل، ثمَّ زَالَ ذَلِك عَنهُ وأبطل الله كيد السحر، وَقد قَامَ الْإِجْمَاع على عصمته فِي الرسَالَة، وَالله الْمُوفق.

(15/98)


51 - (بابُ مَا يُحْذَرُ مِنَ الغَدْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يحذر من سوء الْغدر، وَهُوَ ضد الْوَفَاء، وَنقض الْعَهْد يحذر، على صِيغَة الْمَجْهُول من: حذر ويحذر حذرا، ويروى: يحذر، بِالتَّشْدِيدِ من: التحذير.
وقَوْلِهِ تَعَالى: {وإنْ يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فإنَّ حَسْبَكَ الله} (الْأَنْفَال: 26) . الآيةَ
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطفا على مَا يحذر، لِأَنَّهُ مجرور بِالْإِضَافَة، تَقْدِيره: وَفِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُرِيدُوا} (الْأَنْفَال: 26) . أَي: وَإِن يرد الْكفَّار بِالصُّلْحِ خديعة ليتقووا ويستعدوا {فَإِن حَسبك الله} (الْأَنْفَال: 26) . أَي: كافيك وَحده، وَهَذِه الْآيَة بعد قَوْله: {وَإِن جنحوا للسلم} (الْأَنْفَال: 16) . وَبعدهَا ذكر نعْمَة الله عَلَيْهِ بقوله: {هُوَ الَّذِي أيدك بنصره وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَألف بَين قُلُوبهم} (الْأَنْفَال: 36) . أَي: جمعهَا على الْإِيمَان بك وعَلى طَاعَتك ومناصرتك. فَإنَّك: {مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم إِنَّه عَزِيز حَكِيم} (الْأَنْفَال: 36) . .

6713 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا عبْدُ الله بنُ الْعَلاءِ بنِ زِبْرٍ قَالَ سَمِعْتُ بُسْرَ بنَ عُبَيْدِ الله أنَّهُ سَمِعَ أَبَا إدْرِيسَ قَالَ سَمِعْتُ عَوْفَ بنَ مَالِكٍ قَالَ أتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وهْوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أدَمٍ فقالَ اعْدُدْ سِتَّاً بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأُخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ المَالِ حتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مائَةَ دِينارٍ فيَظَلُّ ساخِطَاً ثُمَّ فِتْنَةٌ لاَ يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ العَرَبِ إلاَّ دَخَلْتُهُ ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ بَني الأصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمانِينَ غايَةً تَحْتَ كلِّ غَايَةٍ إثْنَا عَشَرَ ألْفَاً.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فيغدرون) .
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: الْحميدِي، وَهُوَ عبد الله بن الزبير بن عِيسَى ونسبته إِلَى أحد أجداده. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم الْقرشِي أَبُو الْعَبَّاس. الثَّالِث: عبد الله بن الْعَلَاء بن زبر، بِفَتْح الزَّاي وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَالرَّاء: الربعِي، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة. الرَّابِع: بسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء: ابْن عبيد الله الْحَضْرَمِيّ. الْخَامِس: أَبُو إِدْرِيس عَائِذ الله بِالْعينِ الْمُهْملَة والهمزة، بعد الْألف وبالذال الْمُعْجَمَة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: بِكَسْر الْيَاء آخر الْحُرُوف بعد الْألف: الْخَولَانِيّ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْوَاو وبالنون. السَّادِس: عَوْف ابْن مَالك الْأَشْجَعِيّ، مَاتَ بِالشَّام سنة ثَلَاث وَسبعين.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن هَؤُلَاءِ كلهم شَامِيُّونَ إلاَّ شيخ البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ مكي. وَفِيه: عبد الله بن الْعَلَاء، سَمِعت بسر بن عبيد الله، وَوَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق دُحَيْم عَن الْوَلِيد عَن عبد الله بن الْعَلَاء عَن زيد بن وَاقد: عَن بسر بن عبيد الله: وَلَا يضر هَذَا رِوَايَة البُخَارِيّ، فَإِن عبد الله بن الْعَلَاء صرح بِالسَّمَاعِ عَن بسر، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَابْن مَاجَه وَغَيرهمَا مثل رِوَايَة البُخَارِيّ لَيْسَ فِيهَا زيد بن وَاقد.
وَأَبُو دَاوُد أخرجه فِي الْأَدَب عَن مُؤَمل بن الْفضل وَعَن صَفْوَان بن صَالح. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْفِتَن عَن دُحَيْم عَن الْوَلِيد بن مُسلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي غَزْوَة تَبُوك) ، كَانَت فِي سنة ...

. . قَوْله: (وَهُوَ فِي قبَّة من أَدَم) ، الْقبَّة: بِضَم الْقَاف وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: الخرقاهة، وكل بِنَاء مدور فَهُوَ قبَّة، وَالْجمع قباب وقبية، والأدم، بِفتْحَتَيْنِ اسْم لجمع أَدِيم، وَهُوَ الْجلد المدبوغ المصلح بالدباغ. قَوْله: (سِتا) أَي: سِتّ عَلَامَات لقِيَام الْقِيَامَة. قَوْله: (ثمَّ موتان) بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْوَاو، قَالَ الْقَزاز: هُوَ الْمَوْت، وَقَالَ غَيره: الْمَوْت الْكثير الْوُقُوع، وَيُقَال بِالضَّمِّ لُغَة تَمِيم وَغَيرهم يفتحونها، وَيُقَال: للبليد موتان الْقلب، بِفَتْح الْمِيم والسكون، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: يغلط بعض الْمُحدثين فَيَقُول:

(15/99)


بِضَم الْمِيم وَالْوَاو، وَإِنَّمَا ذَاك اسْم الأَرْض الَّتِي لم تحز بالزرع والإصلاح، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن: ثمَّ موتتان، بِلَفْظ التَّثْنِيَة وَلَا وَجه لَهُ هُنَا. قَوْله: (كقعاص الْغنم) ، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة وَبعد الْألف صَاد مُهْملَة، وَهُوَ دَاء يَأْخُذ الْغنم فيسيل من أنوفها شَيْء فتموت فجاءة، وَكَذَلِكَ غَيرهَا من الدَّوَابّ. وَقَالَ ابْن فَارس: القعاص دَاء يَأْخُذ فِي الصَّدْر كَأَنَّهُ يكسر الْعُنُق، وَقيل: هُوَ الْهَلَاك الْمُعَجل، وَبَعْضهمْ ضَبطه بِتَقْدِيم الْعين على الْقَاف، وَلم أر ذَلِك فِي شرح من شُرُوح البُخَارِيّ، وَمَا ذكره ابْن الْأَثِير وَابْن قرقول وَغَيرهمَا إلاَّ بِتَقْدِيم الْقَاف على الْعين. قَوْله: (ثمَّ استفاضة المَال) ، والاستفاضة من: فاض المَاء والدمع وَغَيرهمَا: إِذا كثر. قَوْله: (فيظل ساخطاً) أَي: يبْقى ساخطاً اسْتِقْلَالا للمبلغ وتحقيراً لَهُ. قَوْله: (ثمَّ هدنة) ، الْهُدْنَة بِضَم الْهَاء: الصُّلْح، وأصل الْهُدْنَة السّكُون، يُقَال: هدن يهدن فَسُمي الصُّلْح على ترك الْقِتَال هدنة ومهادنة، لِأَنَّهُ سُكُون عَن الْقِتَال بعد التحرك فِيهِ. قَوْله: (بني الْأَصْفَر) هم الرّوم. قَوْله: (غَايَة) ، بالغين الْمُعْجَمَة وبالياء آخر الْحُرُوف: الرَّايَة، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: رَوَاهُ بَعضهم بِالْبَاء الْمُوَحدَة وَهِي الأجمة، وَشبه كَثْرَة الرماح للعسكر بهَا، فاستعيرت لَهُ، يَعْنِي: يأْتونَ قَرِيبا من ألف ألف رجل، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ غَيره: الْجُمْلَة فِي الْحساب تِسْعمائَة ألف وَسِتُّونَ ألفا، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْغَايَة الغيضة، فاستعيرت للرايات ترفع لرؤساء الْجَيْش. وَقَالَ الجواليقي: غَايَة وَرَايَة وَاحِد لِأَنَّهَا غَايَة المتبع، إِذا وقفت وقف وَإِذا مشت تبعها، وَهَذِه السِّت الْمَذْكُورَة ظَهرت مِنْهَا الْخمس: موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفتح بَيت الْمُقَدّس، والموتان كَانَ فِي طاعون عمواس زمن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَاتَ فِيهِ سَبْعُونَ ألفا فِي ثَلَاثَة أَيَّام، واستفاضة المَال كَانَت فِي خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد تِلْكَ الْفتُوح الْعَظِيمَة والفتنة استمرت بعده، وَالسَّادِسَة لم تَجِيء بعد، وروى ابْن دحْيَة من حَدِيث حُذَيْفَة مَرْفُوعا: أَن الله تَعَالَى يُرْسل ملك الرّوم، وَهُوَ الْخَامِس من أَوْلَاد هِرقل، يُقَال لَهُ: صمارة، فيرغب إِلَى الْمهْدي فِي الصُّلْح، وَذَلِكَ لظُهُور الْمُسلمين على الْمُشْركين، فيصالحه إِلَى سَبْعَة أَعْوَام، فَيَضَع {عَلَيْهِم الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} (التَّوْبَة: 92) . وَلَا يبْقى لرومي حُرْمَة، وَيكسر لَهُم الصَّلِيب، ثمَّ يرجع الْمُسلمُونَ إِلَى دمشق فَإِذا هم كَذَلِك إِذا رجل من الرّوم قد الْتفت فَرَأى أَبنَاء الرّوم وبناتهم فِي الْقُيُود، فَرفع الصَّلِيب وَرفع صَوته، وَقَالَ: ألاَ من كَانَ يعبد الصَّلِيب فلينصره، فَيقوم إِلَيْهِ رجل من الْمُسلمين فيكسر الصَّلِيب، وَيَقُول: الله أغلب وأعز، فَحِينَئِذٍ يغدرون وهم أولى بالغدر، فيجتمع عِنْد ذَلِك مُلُوك الرّوم خُفْيَة فَيَأْتُونَ إِلَى بِلَاد الْمُسلمين، وهم على غَفلَة مقيمين على الصُّلْح، فَيَأْتُونَ إِلَى أنطاكية فِي اثْنَي عشر ألف راية، تَحت كل راية اثْنَي عشر ألفا، فَعِنْدَ ذَلِك يبْعَث الْمهْدي إِلَى أهل الشَّام والحجاز والكوفة وَالْبَصْرَة وَالْعراق يستنصر بهم، فيبعث إِلَيْهِ أهل الشرق: أَنه قد جَاءَنَا عَدو من أهل خُرَاسَان شغلنا عَنْك، فَيَأْتِي إِلَيْهِ بعض أهل الْكُوفَة وَالْبَصْرَة، فَيخرج بهم إِلَى دمشق وَقد مكث الرّوم فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا يفسدون وَيقْتلُونَ، فَينزل الله صبره على الْمُسلمين، فَيخْرجُونَ إِلَيْهِم فيشتد الْحَرْب بَينهم وَيسْتَشْهد من الْمُسلمين خلق كثير، فيا لَهَا من وقْعَة ومقتلة مَا أعظمها وَأعظم هولها، ويرتد من الْعَرَب يَوْمئِذٍ أَربع قبائل: سليم وفهد وغسان وطي، فيلحقون بالروم، ثمَّ إِن الله ينزل الصَّبْر والنصر وَالظفر على الْمُؤمنِينَ، ويغضب على الْكَافرين، فعصابة الْمُسلمين يَوْمئِذٍ خير خلق الله تَعَالَى والمخلصين من عباده، وَلَيْسَ فيهم مارد وَلَا مارق وَلَا شارد وَلَا مرتاب وَلَا مُنَافِق، ثمَّ إِن الْمُسلمين يدْخلُونَ إِلَى بِلَاد الرّوم وَيُكَبِّرُونَ على الْمَدَائِن والحصون،. فَتَقَع أسوارها بقدرة الله تَعَالَى، فَيدْخلُونَ الْمَدَائِن والحصون ويغنمون الْأَمْوَال ويسبون النِّسَاء والأطفال، وَتَكون أَيَّام الْمهْدي أَرْبَعِينَ سنة: عشر مِنْهَا بالمغرب، واثني عشر سنة بِالْمَدِينَةِ، واثني عشر سنة بِالْكُوفَةِ، وَسِتَّة بِمَكَّة، وَتَكون منيته فجاءة.

61 - (بابٌ كَيْفَ يُنْبَذُ إِلَى أهْلِ العَهْدِ)

أَي: هَذَا بَاب يبين فِيهِ كَيفَ ينْبذ، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول من النبد بالنُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة، وَهُوَ: الطرح، وَالْمرَاد هُنَا نقض الْعَهْد.
وقَوْلُهُ تعَالى {وإمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فانْبِذْ إلَيْهِمْ علَى سَوَاءِ} (الْأَنْفَال: 85) . الْآيَة

وَقَوله، بِالرَّفْع على الِابْتِدَاء وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: وَقَوله تَعَالَى هُوَ: {وَأما تخافن} (الْأَنْفَال: 85) . الْآيَة، وَالْجُمْلَة معطوفة على الْجُمْلَة الَّتِي

(15/100)


قبلهَا. قَوْله: (وَأما تخافن) خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: من قوم من الْمُشْركين. قَالَ الْأَزْهَرِي: مَعْنَاهُ إِذا هادنت قوما فَعلمت مِنْهُم النَّقْض فَلَا تسرع إِلَى النَّقْض حَتَّى تلقي إِلَيْهِم أَنَّك نقضت الْعَهْد فيكونون فِي علم النَّقْض مستوين، ثمَّ أوقع بهم. وَقَالَ الْكسَائي: السوَاء الْعدْل، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْمثل، وَقيل: أعلمهم أَنَّك قد جازيتهم حَتَّى يصيروا مثلك فِي الْعلم.

7713 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرَنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَنا حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَنِي أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِيمَنْ يُؤذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى لَا يَحُجُّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ ولاَ يَطُوفُ بالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ويَوْمُ الحَجِّ الأكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ وإنَّمَا قِيلَ الأكْبَرُ مِنْ أجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الحَجُّ الأصْغَرُ فنَبَذَ أبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَام فَلَمْ يَحُجَّ عامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُشْرِكٌ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فنبذ أَبُو بكر إِلَى النَّاس) وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَهَذَا الْإِسْنَاد قد تكَرر ذكره.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب لَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان وَلَا مُشْرك فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن: أَن أَبَا هُرَيْرَة أخبرهُ أَن أَبَا بكر الصّديق بَعثه فِي الْحجَّة الَّتِي أمره عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل حجَّة الْوَدَاع فِي رَهْط يُؤذن فِي النَّاس: أَلا لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان.
قَوْله: (بَعَثَنِي أَبُو بكر) ، كَانَ بَعثه إِيَّاه فِي الْحجَّة الَّتِي أمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل حجَّة الْوَدَاع، وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. قَوْله: (وَيَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر) ، هَذَا قَول مَالك وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء، وَقيل: عَرَفَة، وَإِنَّمَا قيل لَهُ: الْأَكْبَر، لأجل قَول النَّاس: الْحَج الْأَصْغَر. قَالَ الدَّاودِيّ: يَعْنِي الْعمرَة، وَقيل: إِنَّمَا قيل لَهُ: الْأَكْبَر، لِأَن النَّاس كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يقفون بِعَرَفَة وتقف قُرَيْش بِالْمُزْدَلِفَةِ، لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: لَا نخرج من الْحرم، فَإِذا كَانَ صَلَاة الْفجْر يَوْم النَّحْر وَلَيْلَة النَّحْر اجْتَمعُوا كلهم بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَقيل لَهُ: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، لِأَنَّهُ يَوْم الِاجْتِمَاع الْأَكْبَر فِيهِ.

71 - (بابُ إثْمِ منْ عاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من عَاهَدَ ثمَّ غدر، أَي: نقض الْعَهْد.
وقَوْلِهِ تَعَالى: {الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كلِّ مَرَّة وهُمْ لَا يَتَّقُونَ} (الْأَنْفَال: 65) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: إِثْم، أَي: وَفِي بَيَان مَا جَاءَ فِي تَحْرِيم نقض الْعَهْد من قَوْله تَعَالَى: {الَّذين عَاهَدت} (الْأَنْفَال: 65) . الْآيَة، والغدر حرَام بِاتِّفَاق، سَوَاء كَانَ فِي حق الْمُسلم أَو الذِّمِّيّ.

...

8713 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنِ الأعْمَشِ عنْ عَبْدِ الله بنِ مُرَّةَ عنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍ وَرَضي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْبَعُ خِلالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كانَ مُنَافِقاً خالِصاً مَنْ إذَا حَدَّثَ كذَبَ وإذَا وعَدَ أخْلَفَ وإذَا عاهَدَ غَدَرَ وإذَا خاصَمَ فَجَرَ ومَنْ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النَّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا. (انْظُر الحَدِيث 43 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإِذا عَاهَدَ غدر) ، وَرِجَاله كلهم قد مروا غير مرّة. والْحَدِيث أَيْضا مر فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب عَلامَة الْمُنَافِق، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (أَربع خلال) ، أَي: أَربع خِصَال، وَهُوَ جمع: خلة، وَهِي: الْخصْلَة.

9713 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ قَالَ أخبرنَا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عنُ أبِيهِ

(15/101)


عنْ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مَا كَتَبْنَا عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ القُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عائِرٍ إِلَى كَذَا فَمَنْ أحْدَثَ حَدَثاً أوْ آوَى مُحْدِثَاً فعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَدْلٌ ولاَ صَرْفٌ وذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِماً فعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلائِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولاَ عَدْلٌ ومَنْ والَى قَوْمَاً بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيهِ لَعْنَةُ الله والمَلاَئِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ لاَ يَقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولاَ عَدْلٌ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تُؤْخَذ من قَوْله: (فَمن أحدث فِيهَا حَدثا) إِلَى آخِره، لِأَن فِي إِحْدَاث الْحَدث وإيواء الْمُحدث والموالاة بِغَيْر إِذن موَالِيه معنى الْغدر، فَلهَذَا اسْتحق هَؤُلَاءِ اللَّعْنَة الْمَذْكُورَة، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يروي عَن أَبِيه يزِيد بن شريك التَّيْمِيّ. والْحَدِيث قد مر غير مرّة عَن قريب فِي: بَاب ذمَّة الْمُسلمين وجوارهم وَفِي الْحَج أَيْضا.

0813 - قَالَ أبُو مُوسَى حدَّثنا هاشِمُ بنُ القَاسِمِ قَالَ حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ سَعِيدٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ كَيْفَ أنْتُمْ إذَا لَمْ تَجْتَبُوا دِيناراً ولاَ دِرْهَمَاً فَقِيلَ لَهُ وكَيْفَ تَرَى ذَلِكَ كائِناً يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ إيْ والَّذِي نَفسُ أبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ عنْ قَوْلِ الصَّادِقِ المَصْدُوقِ قالُوا عَمَّ ذَاكَ قَالَ تُنْتَهَكُ ذِمَّةُ الله وذِمَّةُ رسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيَشُدُّ الله عَزَّ وجَلَّ قُلُوبَ أهْلِ الذِّمَّةِ فيَمْنَعُونَ مَا فِي أيْدِيهِمْ.

أَبُو مُوسَى هُوَ مُحَمَّد بن الْمثنى شيخ البُخَارِيّ هَاشم بن الْقَاسِم أَبُو النَّضر التَّمِيمِي، وَيُقَال: اللَّيْثِيّ الْكِنَانِي، خراساني سكن بَغْدَاد، وَإِسْحَاق بن سعيد بن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ أَخُو خَالِد بن سعيد الْأمَوِي الْقرشِي، يروي عَن أَبِيه سعيد بن عَمْرو.
وَهَذَا التَّعْلِيق كَذَا وَقع فِي أَكثر نسخ الصَّحِيح، وَقَالَهُ أَيْضا أَصْحَاب (الْأَطْرَاف) والإسماعيلي والْحميدِي فِي جمعه وَأَبُو نعيم، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا أَبُو مُوسَى، وَالْأول هُوَ الصَّحِيح، ثمَّ هَذِه الصِّيغَة تحمل على السماع؟ فِيهِ خلاف، وَقَالَ الْخَطِيب: لَا تحمل على السماع إلاَّ مِمَّن جرت عَادَته أَن يستعملها فِيهِ، وَوصل أَبُو نعيم هَذَا فِي (مستخرجه) من طَرِيق مُوسَى بن عَبَّاس عَن أبي مُوسَى مثله.
قَوْله: (إِذا لم تجتبوا) ، من الجباية، بِالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف يَاء آخر الْحُرُوف، يَعْنِي: إِذا لم تَأْخُذُوا من الْجِزْيَة وَالْخَرَاج قَوْله: (عَن قَول الصَّادِق المصدوق) ، معنى الصَّادِق ظَاهر، والمصدوق هُوَ الَّذِي لم يقل لَهُ إلاَّ الصدْق، يَعْنِي: أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مثلا لم يُخبرهُ إلاَّ بِالصّدقِ. قَالَ الْكرْمَانِي: أَو الْمُصدق، بِلَفْظ الْمَفْعُول. قَوْله: (تنتهك) ، بِضَم أَوله من الانتهاك، وانتهاك الْحُرْمَة تنَاولهَا بِمَا لَا يحل من الْجور وَالظُّلم. قَوْله: (فيمنعون مَا فِي أَيْديهم) ، أَي: من الْجِزْيَة، وَقَالَ الْحميدِي: أخرج مُسلم معنى هَذَا الحَدِيث من وَجه آخر عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَفعه: منعت الْعرَاق درهمها وقفيزها ... الحَدِيث، وسَاق الحَدِيث بِلَفْظ الْمَاضِي وَالْمرَاد مَا يسْتَقْبل مُبَالغَة فِي الْإِشَارَة إِلَى تحقق وُقُوعه، وروى مُسلم أَيْضا عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: يُوشك أهل الْعرَاق أَن لَا يجبى إِلَيْهِم قفيز وَلَا دِرْهَم قَالُوا: مِم ذَاك؟ قَالَ: من قبل الْعَجم، يمْنَعُونَ ذَلِك. وَفِيه: علم من عَلَامَات النُّبُوَّة.

81 - (بابٌ)

أَي: هَذَا بَاب وَقد وَقع كَذَا بِلَا تَرْجَمَة، وَهُوَ كالفصل من الْبَاب الَّذِي قبله، وَقد مر مثل هَذَا غير مرّة.

1813 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبَرَنَا أبُو حَمْزَةَ قالَ سَمِعْتُ الأعْمَشَ قَالَ سألْتُ أَبَا وَائِلٍ شَهِدْتَ صِفِّينَ قَالَ نَعَمْ فسَمِعْتُ سَهْلَ بنَ حُنَيْفٍ يَقولُ اتَّهِمُوا رَأيَكُمْ رَأيْتُنِي يَوْمَ أبي جَنْدَلٍ

(15/102)


ولَوْ أسْتَطِيعُ أنْ أرُدَّ أمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَرَدَدْتُهُ وَمَا وضَعْنَا أسْيَافَنَا علَى عَوَاتِقِنَا لأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إلاَّ أسْهَلْنَ بِنا إِلَى أمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ أمْرِنَا هَذَا. .

تعلق هَذَا الحَدِيث بِالْبَابِ المترجم من حَيْثُ مَا آل أَمر قُرَيْش فِي نقضهم الْعَهْد من الْغَلَبَة عَلَيْهِم والقهر بِفَتْح مَكَّة فَإِنَّهُ يُوضح أَن مَال الْغدر مَذْمُوم، وَمُقَابل ذَلِك ممدوح.
وعبدان قد مر غير مرّة، وَأَبُو حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: وَهُوَ مُحَمَّد بن مَيْمُون السكرِي، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَسَهل ابْن حنيف بن واهب الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن عَبْدَانِ أَيْضا وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل، وَفِي الْخمس عَن الْحسن بن إِسْحَاق وَفِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن إِسْحَاق وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن جمَاعَة وَالنَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان.
قَوْله: (صفّين) ، بِكَسْر الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْفَاء، وَهُوَ اسْم مَوضِع على الْفُرَات وَقع فِيهِ الْحَرْب بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة وَهِي وقْعَة مَشْهُورَة. قَوْله: (اتهموا رَأْيكُمْ) ، قَالَ ذَلِك يَوْم صفّين، وَكَانَ مَعَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَعْنِي: اتهموا رَأْيكُمْ فِي هَذَا الْقِتَال، يعظ الْفَرِيقَيْنِ، لِأَن كل فريق مِنْهُمَا يُقَاتل على رَأْي يرَاهُ واجتهاد يجتهده، فَقَالَ لَهُم سهل: اتهموا رَأْيكُمْ فَإِنَّمَا تقاتلون فِي الْإِسْلَام إخْوَانكُمْ بِرَأْي رَأَيْتُمُوهُ، وَكَانُوا يتهمون سهلاً بالتقصير فِي الْقِتَال، فَقَالَ: اتهموا رَأْيكُمْ، فَإِنِّي لَا أقصر، وَمَا كنت مقصراً فِي الْجَمَاعَة كَمَا فِي يَوْم الْحُدَيْبِيَة. قَوْله: (رَأَيْتنِي) ، أَي: رَأَيْت نَفسِي يَوْم أبي جندل، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون النُّون، واسْمه: الْعَاصِ بن سهل وَإِنَّمَا نسب الْيَوْم إِلَيْهِ وَلم يقل: يَوْم الْحُدَيْبِيَة، لِأَن رده إِلَى الْمُشْركين كَانَ شاقاً على الْمُسلمين، وَكَانَ ذَلِك أعظم عَلَيْهِم من سَائِر مَا جرى عَلَيْهِم من سَائِر الْأُمُور، وَكَانَ أَبُو جندل جَاءَ إِلَى النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من مَكَّة مُسلما وَهُوَ يجر قيوده، وَكَانَ قد عذب على الْإِسْلَام، فَقَالَ سهل وَالِده: يَا مُحَمَّد {هَذَا أول مَا أقاضيك عَلَيْهِ. فَرد عَلَيْهِ أَبَا جندل وَهُوَ يُنَادي: أتردونني} إِلَى الْمُشْركين وَأَنا مُسلم، وترون مَا لقِيت من الْعَذَاب فِي الله؟ فَقَامَ سهل إِلَى ابْنه بِحجر فَكسر قَيده، فغارت نفوس الْمُسلمين يَوْمئِذٍ حَتَّى قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَلسنا على الْحق؟ فعلى مَا نعطي الدنية؟ على وزن فعيلة، أَي: النقيصة والخطة الخسيسة، أَي: لِمَ نردُّ أَبَا جندل إِلَيْهِم ونقاتل مَعَهم وَلَا نرضى بِهَذَا الصُّلْح؟ قَوْله: (فَلَو أَسْتَطِيع أَن أرد أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَشَارَ بِهَذَا الْكَلَام إِلَى جَوَاب الَّذِي اتَّهَمُوهُ بالتقصير فِي الْقِتَال يَوْم صفّين، فَقَالَ: كَيفَ تنسبونني إِلَى التَّقْصِير؟ فَلَو كَانَ لي استطاعة على رد أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم الْحُدَيْبِيَة لرددته، وَلم يكن امتناعي عَن الْقِتَال يَوْمئِذٍ للتقصير، وَإِنَّمَا كَانَ لأجل أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِالصُّلْحِ. قَوْله: (وَمَا وَضعنَا أسيافنا) إِلَى آخِره. يَعْنِي: مَا جردنا سُيُوفنَا فِي الله لأمر يفظعنا من أفظع بِالْفَاءِ والظاء الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة. قَالَ ابْن فَارس: فظع وأفظع لُغَتَانِ، يُقَال: أَمر فظيع أَي: شَدِيد علينا، إلاَّ أسهلت بِنَا إِلَى أَمر نعرفه غير أمرنَا هَذَا، يَعْنِي: أَمر الْفِتْنَة الَّتِي وَقعت بَين الْمُسلمين، فَإِنَّهَا مشكلة حَيْثُ حلت الْمُصِيبَة بقتل الْمُسلمين، فَنزع السَّيْف أول من سَله فِي الْفِتْنَة.

2813 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ آدَمَ قَالَ حدَّثنا يَزيدُ بنُ عبْدِ العَزِيزِ عنْ أبِيهِ قَالَ حدَّثنا حَبِيبُ بنُ أبِي ثابِتٍ قَالَ حدَّثني أَبُو وائِلٍ قَالَ كُنَّا بِصِفِّينَ فقامَ سَهْلُ ابنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ أيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أنْفُسَكُمْ فإنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَ الحُدَيْبِيَّةِ ولَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا فَجاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَقَالَ يَا رسُولُ الله ألَسْنَا علَى الحَقِّ وهُمْ علَى البَاطِلِ فَقَالَ بَلَى فقالَ ألَيْسَ قَتْلاَنا فِي الجَنَّةِ وقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ قَالَ بَلَى قَالَ فَعَلَى مَا نُعْطِي الدَّنِيَّةِ فِي دِينِنَا أنَرْجِعُ وَلما يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وبيْنَهُمْ فَقَالَ ابنَ الخَطَّابِ إنِّي رسُولُ الله ولَنْ يُضَيِّعَني الله أبَدَاً فانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ

(15/103)


إنَّهُ رسُولُ الله ولَنْ يُضَيِّعَهُ الله أبَداً فنَزَلَتْ سورَةُ الفَتْحِ فقَرَأهَا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى عُمَرَ إِلَى آخرِها فَقَالَ عُمَرُ يَا رسُولَ الله أوَ فَتْحٌ هُوَ قَالَ نَعَمْ. .

تعلق هَذَا الحَدِيث أَيْضا بِالْبَابِ المترجم مثل تعلق الحَدِيث السَّابِق، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الْمَعْرُوف بالمسندي، وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن عبد الْعَزِيز الْكُوفِي، يروي عَن أَبِيه سياه، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالهاء وصلا ووقفاً، منصرف وَغير منصرف، وَالأَصَح الِانْصِرَاف، وحبِيب بن أبي ثَابت واسْمه دِينَار الْكُوفِي، وَأَبُو وَائِل شَقِيق ابْن سَلمَة.
قَوْله: (فجَاء عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) ، قد مر هَذَا فِي كتاب الشُّرُوط فِي بَاب الشُّرُوط فِي الْجِهَاد قَوْله (فَنزلت سُورَة الْفَتْح) سُورَة {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} (الْفَتْح: 1) . وَالْمرَاد بِالْفَتْح صلح الْحُدَيْبِيَة، وَقيل: فتح مَكَّة، وَقيل: فتح الرّوم، وَقيل: فتح الْإِسْلَام بِالسَّيْفِ والسنان، وَقيل: الْفَتْح الحكم، وَالْمُخْتَار من هَذِه الْأَقَاوِيل: فتح مَكَّة، وَقيل: فتح الْحُدَيْبِيَة، وَهُوَ الصُّلْح الَّذِي وَقع فِيهَا بَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين مُشْركي مَكَّة، فَإِن قلت: كَيفَ كَانَ فتحا وَقد أحْصرُوا فنحروا وحلقوا بِالْحُدَيْبِية؟ قلت: كَانَ ذَلِك قبل الْهُدْنَة، فَلَمَّا تمت الْهُدْنَة كَانَ فتحا مُبينًا.

3813 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا حاتِمٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ أسْماءَ ابْنَةِ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قالَتْ قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وهْيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إذْ عاهَدُوا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومُدَّتِهِمْ مَعَ أبِيهَا فاسْتَفْتَتْ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ يَا رسُولَ الله إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهْيَ رَاغِبَةٌ أفَأصِلُهَا قَالَ نَعَمْ صِلِيهَا. .

تعلق هَذَا الحَدِيث بِمَا قبله من حَدِيث إِن عدم الْغدر اقْتضى جَوَاز صلَة الْقَرِيب وَلَو كَانَ على غير دينه، وحاتم هُوَ أَبُو إِسْمَاعِيل ابْن إِسْمَاعِيل الْكُوفِي. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْهِبَة فِي: بَاب الْهُدْنَة للْمُشْرِكين، وَمضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (قدمَتْ عليَّ) بتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (أُمِّي) ، وَاسْمهَا: قَبيلَة، بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَاسم أَبِيهَا: عبد الْعُزَّى، وَأَسْمَاء وَعَائِشَة أختَان من جِهَة الْأَب فَقَط. قَوْله: (ومدتهم) أَي: الْمدَّة الَّتِي كَانَت مُعينَة للصلح بَينهم وَبَين رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (راغبة) أَي: فِي أَن تَأْخُذ مني بعض المَال.