عمدة القاري شرح صحيح البخاري

بِسم الله الرحمان الرَّحِيم

85 - (كِتَابُ الْجِزْيَةِ والْمُوَادَعَةِ مَعَ أهْلِ الذِّمَّةِ والحَرْبِ)

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْجِزْيَة إِلَى آخِره، وَلَفظ: الْكتاب، إِنَّمَا وَقع عِنْد أبي نعيم وَابْن بطال وَعند الْأَكْثَرين: بَاب الْجِزْيَة، وَأما الْبَسْمَلَة فموجودة عِنْد الْكل إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر، والجزية من الْجَزَاء: لِأَنَّهَا مَال يُؤْخَذ من أهل الْكتاب جَزَاء الإسكان فِي دَار الْإِسْلَام، وَقيل: من جزأت الشَّيْء إِذا قسمته، ثمَّ سهلت الْهمزَة، وَهِي عبارَة عَن المَال الَّذِي يعْقد للكتابي عَلَيْهِ الذِّمَّة، وَهِي فعيلة من الْجَزَاء، كَأَنَّهَا جزت عَن قَتله، وَالْمُوَادَعَة المتاركة، وَالْمرَاد بهَا متاركة أهل الْحَرْب مُدَّة مُعينَة لمصْلحَة، قيل: فِيهِ لف وَنشر مُرَتّب لِأَن الْجِزْيَة مَعَ أهل الذِّمَّة وَالْمُوَادَعَة مَعَ أهل الْحَرْب.

(15/77)


وقَوْلِ الله تعَالى {قاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَلَا بالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله ورسُولَهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ منَ الَّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عنْ يَد وهُمْ صَاغِرُونَ} (التَّوْبَة: 92) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: الْجِزْيَة، أَي: وَفِي بَيَان قَول الله عز وَجل. ومطابقة الْآيَة الْكَرِيمَة للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون} (التَّوْبَة: 92) . وَهَذِه الْآيَة أول الْأَمر بِقِتَال أهل الْكتاب بَعْدَمَا تمهدت أُمُور الْمُشْركين وَدخل النَّاس فِي دين الله أَفْوَاجًا واستقامت جَزِيرَة الْعَرَب، أَمر الله وَرَسُوله بِقِتَال أهل الْكِتَابَيْنِ: الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَكَانَ ذَلِك فِي سنة تسع، وَلِهَذَا جهز رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقِتَال الرّوم ودعا النَّاس إِلَى ذَلِك، وَبعث إِلَى أَحيَاء الْعَرَب حول الْمَدِينَة فندبهم فأوعبوا مَعَه، وَاجْتمعَ من الْمُقَاتلَة نَحْو من ثَلَاثِينَ ألفا، وتخلف بعض النَّاس من أهل الْمَدِينَة وَمن حولهَا من الْمُنَافِقين وَغَيرهم، وَكَانَ ذَلِك فِي عَام جَدب وَوقت قيظ وحر، وَخرج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيد الشَّام لقِتَال الرّوم، فَبلغ تَبُوك فَنزل بهَا وَأقَام على مَائِهَا قَرِيبا من عشْرين يَوْمًا، ثمَّ استخار الله تَعَالَى فِي الرُّجُوع فَرجع لضيق الْحَال وَضعف النَّاس. قَوْله: {حَتَّى يُعْطوا الْجِزْيَة} (التَّوْبَة: 92) . أَي: إِن لم يسلمُوا. قَوْله: {عَن يَد} (التَّوْبَة: 92) . أَي: عَن قهر وَغَلَبَة. {وهم صاغرون} (التَّوْبَة: 92) . أَي: ذليلون حقيرون مهانون، فَلهَذَا لَا يجوز إعزازهم لَا رفعهم على الْمُسلمين، بل أذلاء أشقياء.
أذِلاَّءُ
هَذَا تَفْسِير البُخَارِيّ لقَوْله تَعَالَى: {وهم صاغرون} (التَّوْبَة: 92) . وَذكر أَبُو عبيد فِي (الْمجَاز) : الصاغر الذَّلِيل الحقير.
والْمَسْكَنَةُ مَصْدَر المِسْكِينُ يُقال: أسْكُنُ مِنْ فُلانٍ أحْوَجُ مِنْهُ ولَمْ يَذْهَبْ إِلَى السُّكونِ
وَجه ذكر البُخَارِيّ لفظ المسكنة هُنَا هُوَ أَن عَادَته أَنه يذكر أَلْفَاظ الْقُرْآن الَّتِي لَهَا أدنى مُنَاسبَة بَينهَا وَبَين مَا هُوَ الْمَقْصُود فِي الْبَاب، ويفسرها. وَقد ورد فِي حق أهل الْكتاب قَوْله تَعَالَى: {وَضربت عَلَيْهِم الذلة والمسكنة} (الْبَقَرَة: 16) . فَقَالَ: والمسكنة مصدر الْمِسْكِين. قلت: المسكنة الْفقر المدقع، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: المسكنة فقر النَّفس، فَإِن كَانَ مُرَاد البُخَارِيّ من الْمصدر الاصطلاحي فَلَا يَصح على مَا لَا يخفى، وَإِن كَانَ مُرَاده الْموضع فَكَذَلِك، لِأَنَّهُ لَا يُقَال: المسكنة مَوضِع صُدُور الْمِسْكِين. قَوْله: (أسكن من فلَان أحْوج مِنْهُ) ، إِشَارَة إِلَى أَن الْمِسْكِين يُؤْخَذ من قَوْلهم: فلَان أسكن من فلَان، أَي: أحْوج، وَلَيْسَ من السّكُون الَّذِي هُوَ قلَّة الْحَرَكَة، وَهَذَا الْكَلَام فِيهِ مَا فِيهِ أَيْضا، لِأَن المسكنة والمسكين وَمَا يشتق من ذَلِك فِي هَذَا الْبَاب كلهَا من السّكُون، وَقَالَ بَعضهم: وَالْقَائِل: وَلم يذهب إِلَى الكسون، قيل: هُوَ الْفربرِي الرَّاوِي عَن البُخَارِيّ. قلت: من قَالَ مِمَّن تصدى شرح البُخَارِيّ أَو من غَيرهم إِن قَائِل هَذَا هُوَ الْفربرِي، وَهَذَا تخمين وحدس، وَلَئِن سلمنَا أَن أحدا مِنْهُم ذكر هَذَا الْإِبْهَام فَلَا يُفِيد شَيْئا، لِأَن الْمُتَصَرف فِي مَادَّة خَارِجا عَن الْقَاعِدَة لَا يُؤْخَذ مِنْهُ، وَهَذَا مِمَّا لَا نزاع فِيهِ وَلَا مُكَابَرَة.
ومَا جاءَ فِي أخْذِ الجِزْيَةِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارَى والمَجُوسِ والعَجَمِ
أَي: وَفِي بَيَان مَا جَاءَ فِي أَخذ الْجِزْيَة ... إِلَى آخِره، وَهَذَا من بَقِيَّة التَّرْجَمَة. قَوْله: (والعجم) ، أَعم من الْمَعْطُوف عَلَيْهِ من وَجه وأخص من وَجه آخر، وَهَذَا الَّذِي ذكره هُوَ قَول أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن عِنْده تُؤْخَذ الْجِزْيَة من جَمِيع الْأَعَاجِم، سَوَاء كَانُوا من أهل الْكتاب أَو من الْمُشْركين. وَعند الشَّافِعِي وَأحمد: لَا يُؤْخَذ إلاَّ من أهل الْكتاب، وَعند مَالك: يجوز أَن تضرب الْجِزْيَة على جَمِيع الْكفَّار من كتابي ومجوسي ووثني وَغير ذَلِك، إلاَّ من ارْتَدَّ، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وفقهاء الشَّام.
وقالَ ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ ابنِ أبِي نَجِيحٍ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ مَا شأنُ أهْلِ الشَّامِ علَيْهِمْ أرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وأهلُ اليَمَنِ علَيْهِمْ دِينَار قالَ جُعِلِ ذالِكَ مِنْ قِبَلِ الْيَسارِ

(15/78)


ابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان، وَابْن أبي نجيح هُوَ عبد الله، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَنهُ بِهِ، وَزَاد بعد قَوْله: أهل الشَّام من أهل الْكتاب تُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة. قَوْله: (من قبل الْيَسَار) ، أَي: من جِهَة الْغنى، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى جَوَاز التَّفَاوُت فِي الْجِزْيَة، وَقد عرف ذَلِك فِي الْفُرُوع.

6513 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْراً قَالَ كُنْتُ جالِساً معَ جَابِرِ ابنِ زَيْدٍ وعَمْرُو بنُ أوْسٍ فحَدَّثَهُما بَجَالَةُ سَنة سَبْعِينَ عامَ حَجَّ مُصْعَبُ بنُ الزُّبَيْرِ بِأهْلِ البَصْرَةِ عِنْدَ درَجِ زَمْزَمَ قَالَ كُنْتُ كاتِباً لِجزْءٍ بنِ مُعاوِيَةَ عَمِّ الأحْنَفِ فَأَتَانَا كِتابُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ فَرِّقُوا بَيْنَ كلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ الْمَجُوسِ ولَمْ يَكُنْ عُمَرُ أخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوسِ حَتَّى شهد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخذهَا من مجوس هجر) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله وَالْمَجُوس. (ذكر رِجَاله) الرِّجَال المذكورون فِيهِ أحد عشر نفسا الأول عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة الثَّالِث عَمْرو بن دِينَار الرَّابِع جَابر بن زيد أَبُو الشعْثَاء الْبَصْرِيّ الْخَامِس عَمْرو بن أَوْس بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره سين مُهْملَة الثَّقَفِيّ الْمَكِّيّ السَّادِس بجالة بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْجِيم بِاللَّامِ ابْن عَبدة بالمهملتين وَالْبَاء الْمُوَحدَة المفتوحات التَّمِيمِي وَقد يُقَال بجالة بن عبد بِسُكُون الْبَاء بِلَا هَاء وَهُوَ من التَّابِعين الْكِبَار الْمَشْهُورين من أهل الْبَصْرَة السَّابِع مُصعب بن الزبير بن الْعَوام أَبُو عبد الله من الطَّبَقَة الثَّانِيَة من التَّابِعين من أهل الْمَدِينَة وَكَانَ يُجَالس أَبَا هُرَيْرَة وَحكى عَن عمر بن الْخطاب وروى عَن أَبِيه الزبير بن الْعَوام وَسعد وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَكَانَ يُقَال لَهُ النَّحْل لجوده وَكَانَ جميلا وسيما شجاعا وَولي الْعرَاق خمس سِنِين فَأصَاب ألف ألف وَألف ألف وَألف ألف ففرقها فِي النَّاس قتل يَوْم الْخَمِيس النّصْف من جُمَادَى الْأُخْرَى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَسنة خمس وَثَلَاثُونَ سنة وَقيل تسع وَثَلَاثُونَ وَقيل أَرْبَعُونَ وَقيل خمس وَأَرْبَعُونَ وَكَانَ قَتله عِنْد دير الجاثليق على شاطيء نهر يُقَال لَهُ دجيل وقبره مَعْرُوف هُنَاكَ وَكَانَ عبد الْملك بن مَرْوَان سَار فِي جنود هائلة من الشَّام فَالتقى مصعبا فِي السّنة الْمَذْكُورَة وَعبد الْملك فِي خمسين ألفا وَمصْعَب فِي ثَلَاثِينَ ألفا فَانْهَزَمَ جَيش مُصعب لنفاق جمَاعَة من عسكره وَقتل مِنْهُم خلق كثير وَقتل مُصعب قَتله زَائِدَة بن قدامَة وَقيل يزِيد بن الهبار الْقَابِسِيّ وَكَانَ من أَصْحَاب مُصعب وَنزل إِلَيْهِ عبيد الله بن ظبْيَان فَخر رَأسه وأتى بِهِ عبد الْملك فَأعْطَاهُ ألف دِينَار وَكَانَ فِي هَذِه الْأَيَّام عبد الله بن الزبير يدعى لَهُ بالخلافة فِي أَرض الْحجاز وَأَخُوهُ مُصعب كَانَ عَامله على الْبَصْرَة والكوفة الثَّامِن جُزْء بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الزَّاي وَفِي آخِره همزَة ابْن مُعَاوِيَة بن حُصَيْن بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة التَّمِيمِي السَّعْدِيّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الزَّاي وبالياء آخر الْحُرُوف وَقَالَ ابْن مَاكُولَا بِفَتْح الْجِيم وَكسر الزَّاي وبالياء وَقيل بِضَم الْجِيم وَفتح الزَّاي وَتَشْديد الْيَاء وَقيل هَذَا تَصْحِيف وَقَالَ بَعضهم وَهُوَ مَعْدُود فِي الصَّحَابَة وَكَانَ عَامل عمر على الأهواز وَقَالَ أَبُو عمر فِي الِاسْتِيعَاب لَا يَصح لَهُ صُحْبَة التَّاسِع الْأَحْنَف بن قيس واسْمه الضَّحَّاك بن قيس وَقيل صَخْر بن قيس بن مُعَاوِيَة بن حُصَيْن بن عبَادَة بن النزال بن مرّة ابْن عبيد بن الْحَارِث بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن زيد مَنَاة التَّمِيمِي السَّعْدِيّ قَالَ أَبُو عمر أدْرك النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلم يره وَأسلم على عهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَانَ أحد الأجلة الْحُكَمَاء الدهاة الحلماء الْعُقَلَاء يعد من كبار التَّابِعين بِالْبَصْرَةِ وَمَات بِالْكُوفَةِ فِي إِمَارَة مُصعب بن الزبير سنة سبع وَسِتِّينَ وَمَشى مُصعب فِي جنَازَته وَقَالَ الذَّهَبِيّ هُوَ مخضرم الْعَاشِر عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْحَادِي عشر عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أحد المبشرة بِالْجنَّةِ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه السماع فِي مَوضِع وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه عَمْرو بن دِينَار وَلَيْسَ لَهُ هُنَا رِوَايَة لِأَن بجالة لم يَقْصِدهُ بِالتَّحْدِيثِ وَإِنَّمَا حدث غَيره

(15/79)


فَسَمعهُ هَذَا وَهَذَا من وُجُوه التَّحَمُّل بالِاتِّفَاقِ وَلَكِن اخْتلفُوا هَل يسوغ أَن يَقُول حَدثنَا وَالْجُمْهُور على الْجَوَاز وَمنع مِنْهُ النَّسَائِيّ وَطَائِفَة قَليلَة وَقَالَ البرقاني يَقُول سَمِعت فلَانا وَفِيه بجالة وَمَا لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع وَذكر الْمزي هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر من أخرجه غَيره) أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الْخراج عَن مُسَدّد عَن سُفْيَان بأتم مِنْهُ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي السّير عَن أَحْمد بن منيع بِقصَّة الْجِزْيَة مختصرة وَعَن ابْن أبي عمر وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن رَاهَوَيْه عَن سُفْيَان بِهِ مُخْتَصرا (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " سنة سبعين " فِيهَا حج مُصعب بن الزبير وَأَخُوهُ يَدعِي لَهُ بالخلافة بالحجاز وَالْعراق وَقدم بأموال عَظِيمَة ودواب وَظهر فَفرق الْجَمِيع فِي قومه وَغَيرهم وَنحر عِنْد الْكَعْبَة ألف بَدَنَة وَعشْرين ألف شَاة وأغنى سَاكِني مَكَّة وَعَاد إِلَى الْكُوفَة قَوْله " عِنْد درج زَمْزَم " الدرج بِفتْحَتَيْنِ جمع دَرَجَة وَهِي الْمرقاة قَالَه الْجَوْهَرِي وَفِي الْمغرب درج السّلم رُتْبَة الْوَاحِدَة دَرَجَة قَوْله " قبل مَوته " أَي قبل موت عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَوْله " فرقوا بَين كل ذِي محرم من الْمَجُوس " قَالَ الْخطابِيّ أَمر عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بالتفرقة أَي بَين الزَّوْجَيْنِ المُرَاد مِنْهُ أَن يمنعوا من إِظْهَاره للْمُسلمين وَالْإِشَارَة بِهِ فِي مجَالِسهمْ الَّتِي يَجْتَمعُونَ بهَا للأملاك وَإِلَّا فَالسنة أَن لَا يكشفوا عَن بواطن أُمُورهم وَعَما يسْتَحلُّونَ بِهِ من مذاهبهم فِي الْأَنْكِحَة وَغَيرهَا وَذَلِكَ كَمَا يشْتَرط على النَّصَارَى أَن لَا يظهروا صليبهم وَلَا يفشوا عقائدهم لِئَلَّا يفتتن بِهِ ضعفة الْمُسلمين ثمَّ لَا يكْشف لَهُم عَن شَيْء مِمَّا اسْتَحَلُّوهُ من بواطن الْأُمُور وَفِي رِوَايَة مُسَدّد وَأبي يعلى بعد قَوْله فرقوا بَين كل زَوْجَيْنِ من الْمَجُوس اقْتُلُوا كل سَاحر قَالَ فَقَتَلْنَا فِي يَوْم ثَلَاث سواحر وفرقنا بَين الْمَحَارِم مِنْهُم وصنع طَعَاما فَدَعَاهُ وَعرض السَّيْف على فَخذيهِ فَأَكَلُوا بِغَيْر رمرمة قَوْله " وَلم يكن عمر أَخذ الْجِزْيَة من الْمَجُوس " لِأَنَّهُ كَانَ يرى فِي زَمَانه أَن الْجِزْيَة لَا تقبل إِلَّا من أهل الْكتاب إِذْ لَو كَانَ عَاما لما كَانَ فِي توقفه فِي ذَلِك معنى قَوْله " حَتَّى شهد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف " يَعْنِي إِلَى أَن شهد فَلَمَّا شهد بذلك رَجَعَ إِلَيْهِ وَفِي الْمُوَطَّأ عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه أَن عمر قَالَ لَا أَدْرِي مَا أصنع بالمجوس فَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أشهد لقد سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول سنوا بهم سنة أهل الْكتاب وَهَذَا مُنْقَطع وَرِجَاله ثقاة وَرَوَاهُ ابْن الْمُنْذر وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الغرائب من طَرِيق أبي عَليّ الْحَنَفِيّ عَن مَالك فَزَاد فِيهِ عَن جده وَهَذَا ايضا مُنْقَطع لِأَن جده عَليّ بن الْحُسَيْن لم يلْحق عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَلَا عمر وَقَالَ أَبُو عمر هَذَا من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخَاص لِأَن المُرَاد مِنْهُ أهل الْكتاب وَأخذ الْجِزْيَة فَقَط وَاسْتدلَّ بقوله سنة أهل الْكتاب على أَنهم لَيْسُوا أهل الْكتاب ورد هَذَا بِأَن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سنوا بهم سنة أهل الْكتاب يَعْنِي فِي أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُم وَمن ادّعى الْخُصُوص فَعَلَيهِ الدَّلِيل وَأَيْضًا فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يبْعَث أُمَرَاء السَّرَايَا فَيَقُول لَهُم إِذا لَقِيتُم الْعَدو فادعوهم إِلَى الْإِسْلَام فَإِن أجابوا وَإِلَّا فالجزية فَإِن أعْطوا وَإِلَّا قاتلوهم وَلم ينص على مُشْرك دون مُشْرك بل عَم جَمِيعهم لِأَن الْكفْر يجمعهُمْ وَلما جَازَ أَن يسترقهم جَازَ أَن تُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة عَكسه الْمُرْتَد لما لم يجز أَن يسترق لم يجز أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُ (فَإِن قلت) تدل الْآيَة الْمَذْكُورَة على أَن الْجِزْيَة لَا تُؤْخَذ إِلَّا من أهل الْكتاب قلت لَا نسلم لِأَن الله تَعَالَى لم ينْه أَن تُؤْخَذ من غَيرهم وللشارع أَن يزِيد فِي الْبَيَان ويفرض مَا لَيْسَ بموجود ذكره فِي الْكتاب على أَن الشَّافِعِي وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهمَا رووا بِإِسْنَاد حسن عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كَانَ الْمَجُوس أهل كتاب يقرؤنه وَعلم يدرسونه فَشرب أَمِيرهمْ الْخمر فَوَقع على أُخْته فَلَمَّا أصبح دَعَا أهل الطمع فَأَعْطَاهُمْ وَقَالَ إِن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ ينْكح أَوْلَاده بَنَاته فأطاعوه فَقتل من خَالفه فَأسْرى على كِتَابهمْ وعَلى مَا فِي قُلُوبهم فَلم يبْق عِنْدهم شَيْء قَوْله " هجر " بِفتْحَتَيْنِ قَالُوا المُرَاد مِنْهُ هجر الْبَحْرين قَالَ الْجَوْهَرِي هُوَ اسْم بلد مُذَكّر مَصْرُوف وَقَالَ الزجاجي يذكر وَيُؤَنث وَقَالَ الْبكْرِيّ لَا يدْخلهُ الْألف وَاللَّام وَفِي الحَدِيث قبُول خبر الْوَاحِد

(15/80)


8513 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ قَالَ أخْبَرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِي قَالَ حدَّثني عُرْوَةُ بنُ الزَّبَيْرِ عنِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ أنَّهُ أخبرَهُ أنَّ عَمْرَو بنَ عَوْفٍ الأنْصَارِيَّ وهْوَ حَلِيفٌ لِبَني عامِرِ بنِ لُؤيٍّ وكانَ شَهِدَ بَدْرَاً أخْبَرَهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعَثَ أبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ إِلَى البَحْرَيْنِ يأتِي بِجزْيَتَها وكانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هوَ صالَحَ أهْلَ الْبَحْرَيْنِ وأمَّرَ عَلَيْهِمْ العَلاءَ بنَ الحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ فسَمِعَتِ الأنْصَارُ بقُدُومِ أبي عُبَيْدَةَ فَوافَتْ صَلاةَ الصُّبْحِ معَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلَمَّا صلَّى بِهِمُ الفَجْرَ انْصَرَفَ فتَعَرَّضُوا لهُ فتَبَسَّمَ رسوُلُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ رآهُمْ وَقَالَ أظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قدْ جاءَ بِشَيْءٍ قَالُوا أجَلْ يَا رسولَ الله قَالَ فأبْشِرُوا وأمِّلُوا مَا يَسُرّكُمْ فَوالله لَا الفقْرَ أخْشَى علَيْكُمْ ولَكِنْ أخْشَى علَيْكُمْ أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ علَى منْ كانَ قَبْلَكُمْ فَتَنافَسُوها كَمَا تَنافَسُوا هَا وتُهْلكَكُمْ كمَا أهْلَكَتْهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (بعث أَبَا عُبَيْدَة إِلَى الْبَحْرين) إِلَى قَوْله: (فَقدم أَبُو عُبَيْدَة بمالٍ من الْبَحْرين) وَكَانَ أهل الْبَحْرين إِذْ ذَاك مجوساً.
وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وكل هَؤُلَاءِ قد ذكرُوا، وَعَمْرو بن عَوْف بِالْفَاءِ فِي آخِره الْأنْصَارِيّ، قَالَ أَبُو عمر: عَمْرو بن عَوْف الْأنْصَارِيّ، حَلِيف لبني عَامر بن لؤَي، شهد بَدْرًا، يُقَال لَهُ: عُمَيْر، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: هُوَ مولى سُهَيْل بن عَمْرو العامري، سكن الْمَدِينَة، لَا عقب لَهُ، روى عَنهُ الْمسور بن مخرمَة حَدِيثا وَاحِدًا: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ الْجِزْيَة من مجوس الْبَحْرين، قَالَ بَعضهم: الْمَعْرُوف عِنْد أهل الْمَغَازِي أَنه من الْمُهَاجِرين، لِأَن قَوْله: وَهُوَ حَلِيف لبني عَامر يشْعر بِكَوْنِهِ من أهل مَكَّة. قلت: لَا يقطع بِهِ أَنه من الْمُهَاجِرين، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: ثمَّ ظهر لي أَن لَفْظَة الْأنْصَارِيّ وهم، وَقد تفرد بهَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، وَرَوَاهُ أَصْحَاب الزُّهْرِيّ كلهم عَنهُ بِدُونِهَا فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَغَيرهمَا. قلت: هَذَا أَيْضا لَا يجْزم بِهِ أَنه من الْمُهَاجِرين، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة ثِقَة لَا يضر تفرده بِمثل هَذَا، على أَنه يحْتَمل أَن يكون أَصله من الْأَوْس أَو من الْخَزْرَج، وَنزل مَكَّة وحالف بعض أَهلهَا، فَبِهَذَا الِاعْتِبَار يُطلق عَلَيْهِ أَنه أَنْصَارِي مُهَاجِرِي بِاعْتِبَار الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورين، وَوَقع عِنْد مُوسَى بن عقبَة فِي الْمَغَازِي أَنه: عُمَيْر بن عَوْف، بِالتَّصْغِيرِ، وَقد ذكرنَا عَن قريب عَن أبي عمر أَنه يُقَال لَهُ: عمر، وَقد فرق العسكري بَين عَمْرو بن عَوْف وَعُمَيْر بن عَوْف، وَالصَّوَاب مَا قَالَه أَبُو عمر: إنَّهُمَا وَاحِد.
قَوْله: (أَبَا عُبَيْدَة) ، واسْمه عَامر بن عبد الله بن الْجراح أَمِين هَذِه الْأمة. قَوْله: (وَكَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هُوَ صَالح أهل الْبَحْرين) ، وَكَانَ ذَلِك فِي سنة الْوُفُود سنة تسع من الْهِجْرَة. قَوْله: (وأمَّر عَلَيْهِم الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ) ، وَهُوَ صَحَابِيّ مَشْهُور، وَاسم الْحَضْرَمِيّ: عبد الله بن مَالك بن ربيعَة، وَكَانَ من أهل حَضرمَوْت، فَقدم مَكَّة فَخَالف بهَا بني مَخْزُوم وَأسلم الْعَلَاء قَدِيما، وَمَات أَبُو عُبَيْدَة والْعَلَاء بِالْيمن وَعَمْرو بن عَوْف فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَوْله: (أملوا) ، من التأميل. قَوْله: (لَا الْفقر) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول أخْشَى. قَوْله: (أَن تبسط) ، كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل النصب على أَنه مفعولٌ وَلَكِن أخْشَى. قَوْله: (فتنافسوها) ، من التنافس، وَهُوَ الرَّغْبَة فِي الشَّيْء والانفراد بِهِ، وَهُوَ من الشَّيْء النفيس الْجيد فِي نَوعه ونافست فِي الشَّيْء مُنَافَسَة ونفاساً: إِذا رغبت فِيهِ.
وَفِي الحَدِيث: أَن طلب الْعَطاء من الإِمَام لَا غَضَاضَة فِيهِ. وَفِيه: الْبُشْرَى من الإِمَام لاتباعه وتوسيع أملهم مِنْهُ. وَفِيه: من إِعْلَام النُّبُوَّة أخباره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يفتح عَلَيْهِم. وَفِيه: أَن المنافسة فِي الدُّنْيَا قد تجر إِلَى هَلَاك الدّين.

9513 - حدَّثنا الفَضْلُ بنُ يَعْقُوبَ قَالَ حدَّثنا عبدُ الله بنُ جَعْفَرٍ الرَّقِيُّ قَالَ حدَّثنا الْمُعْتَمِرُ بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُبَيْدِ الله الثَّقَفِيُّ قالَ حدَّثنا بَكْرُ بنُ عَبْدِ الله المُزَنِيُّ وزِيادُ

(15/81)


ابنُ جُبَيْرٍ عنْ جُبَيْرِ عنْ جُبَيْرِ بنِ حَيَّةَ قَالَ بَعَثَ عُمَرُ النَّاسَ فِي أفْناءِ الأمْصَارِ يُقَاتِلُونَ الْمُشْرِكِينَ فأسْلَمَ الْهُرْمُزَانَ فَقال إنِّي مُسْتَشِيرُكَ فِي مَغَازِيَّ هذِهِ قالَ نَعَمْ مَثَلُها ومَثلُ منْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ منْ عَدُوِّ المُسْلِمِينَ مثَلُ طائِرٍ لَهُ رأسٌ ولَهُ جَناحَانِ ولَهُ رِجْلانِ فإنْ كُسِرَ أحَدُ الجَنَاحَيْنِ نَهَضَتِ الرِّجْلانِ بِجَناح والرَّأسُ فإنْ كُسِرَ الجَناحُ الآخَرُ نَهَضَتِ الرِّجْلاَنِ والرَّأسُ وإنْ شُدِخُ الرَّأسُ ذَهَبَتِ الرِّجْلانِ والجَنَاحانِ والرَّأسُ فالرَّأسُ كِسْرَى والجَناحُ قَيْصَرُ والجَنَاحُ الآخَرُ فارِسُ فَمُرِ المُسْلِمِينَ فَلْيَنْفِرُوا إِلَى كِسْرَى. وَقَالَ بَكْرٌ وزِيادٌ جَمِيعاً عنْ جُبَيْرِ بنِ حَيَّةَ قالَ فنَدَبَنا عُمَرُ واسْتَعْمَلَ علَيْنَا النُّعْمانَ بنَ مُقَرِّنٍ حتَّى إذَا كُنَّا بأرْضِ العَدُوِّ وخَرَجَ علَيْنَا عامِلُ كِسْرَى فِي أرْبَعِينَ ألْفاً فَقامَ تَرْجُمانٌ فَقَالَ لِيُكَلِّمْنِي رجُلٌ مِنْكُمْ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ سَلْ عَمَّا شِئْتَ قَالَ مَا أنْتُمْ قَالَ نَحْنُ أُناسٌ مِنَ العَرَبِ كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ وبَلاَءٍ شَدِيدٍ نَمَصُّ الجِلْدَ والنَّوَى مِنَ الجُوعِ ونَلْبَسُ الْوَبَرَ والشَّعْرَ ونَعْبُدُ الشَّجَرَ والحجَرَ فَبَيْنَا نَحْنُ كذَلِكَ إذْ بَعثَ رَبُّ السَّماواتِ وربُّ الأرَضِين تَعَالَى ذِكْرُهُ وجَلَّتْ عَظَمَتُهُ إلَيْنَا نَبِيَّاً مِنْ أنْفُسِنَا نَعْرِفُ أبَاهُ وأُمُّهُ فأمَرَنا نَبِيُّنَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ نُقَاتِلَكُمْ حتَّى تَعْبُدُوا الله وحْدَهُ أَو تُؤدُّوا الجِزْيَةَ وأخْبَرَنا نَبِيُّنَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ رِسالَةِ رَبِّنَا أنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صارَ إلَى الجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَها قَطُّ ومنْ بَقِيَ مِنَّا ملَكَ رِقَابَكُمْ. فقَالَ النُّعْمَانُ رُبَّما أشْهَدَكَ الله مِثْلَهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلَمْ يُندِّمْكَ ولَمْ يُخْزِكَ ولكنِّي شَهِدْتُ القِتَالَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا لَمْ يُقاتِلْ فِي أوَّلِ النَّهارِ انْتَظَرَ حَتَّى تَهُبَّ الأرْوَاحُ وتَحْضُرَ الصَّلَوَاتُ. (الحَدِيث 9513 طرفه فِي: 0357) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي تَأْخِير النُّعْمَان بن مقرن عَن مقاتلة الْعَدو وانتظاره هبوب الرِّيَاح وَزَوَال الشَّمْس، وَهُوَ معنى قَوْله فِي آخر الحَدِيث: (أنْتَظر حَتَّى تهب الْأَرْوَاح وتحضر الصَّلَوَات) وَفِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: حَتَّى تَزُول الشَّمْس، على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهَذِه موادعة فِي هَذَا الزَّمَان مَعَ الْإِمْكَان للْمصْلحَة، والترجمة هِيَ المواعدة مَعَ أهل الْحَرْب، وَهِي ترك قِتَالهمْ مَعَ إِمْكَانه قبل الظفر بهم.
ذكر رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: الْفضل بن يَعْقُوب الرخامي الْبَغْدَادِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، مر فِي البيع. الثَّانِي: عبد الله ابْن جَعْفَر بن غيلَان أَبُو عبد الرَّحْمَن الرقي، بِفَتْح الرَّاء الْمُشَدّدَة وَكسر الْقَاف الْمُشَدّدَة: نِسْبَة إِلَى الرقة، وَكَانَت مَدِينَة مَشْهُورَة على شَرْقي ضفة الْفُرَات، وَيُقَال لَهَا: الرقة الْبَيْضَاء، وَهِي الرافقة أما الرقة فخربت وَغلب اسْم الرقة على الرافقة. الثَّالِث: الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان، كَذَا وَقع فِي جَمِيع النّسخ: بِسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْمِيم، وَكَذَا وَقع فِي (مستخرج) الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره فِي هَذَا الحَدِيث، وَزعم الدمياطي: أَن الصَّوَاب: المعمر، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْمِيم الْمَفْتُوحَة وبالراء، قَالَ: لِأَن عبد الله ابْن جَعْفَر لَا يروي عَن الْمُعْتَمِر الْبَصْرِيّ، ورد بِأَن ذَلِك لَيْسَ بكافٍ فِي رد الرِّوَايَات الصَّحِيحَة، لِأَن عدم دُخُول أَحدهمَا بلد الآخر لَا يسْتَلْزم عدم ملاقاتهما فِي سفر الْحَج وَنَحْوه، وَقَالَ بَعضهم: وَأغْرب الْكرْمَانِي، فَحكى أَنه قيل: الصَّوَاب فِي هَذَا: معمر ابْن رَاشد، يَعْنِي: شيخ عبد الرَّزَّاق، ثمَّ قَالَ: قلت: وَهَذَا هُوَ الْخَطَأ بِعَيْنِه، فَلَيْسَتْ لعبد الله بن جَعْفَر الرقي عَن معمر بن رَاشد رِوَايَة أصلا. انْتهى. قلت: الْكرْمَانِي لم يجْزم فِيهِ، بل حكى عَن بَعضهم، وَلمن حكى عَنهُ أَن يَقُول: الدَّعْوَى بِعَدَمِ رِوَايَة عبد الله بن جَعْفَر الرقي عَن معمر بن رَاشد يحْتَاج إِلَى دَلِيل، فمجرد النَّفْي غير كَاف. الرَّابِع: سعيد بن عبيد الله الثَّقَفِيّ، هُوَ ابْن جُبَير بن حَيَّة الَّذِي

(15/82)


يَأْتِي الْآن. الْخَامِس: بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ الْبَصْرِيّ. السَّادِس: زِيَاد بن جُبَير بن حَيَّة الثَّقَفِيّ، روى عَن أَبِيه جُبَير بن حَيَّة، وروى عَنهُ سعيد بن عبيد الله الثَّقَفِيّ الْمَذْكُور آنِفا. السَّابِع: جُبَير بن حَيَّة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن مَسْعُود، ابْن معتب بن مَالك بن عَمْرو بن سعد بن عَوْف بن ثَقِيف الثَّقَفِيّ، ولاه زِيَاد أَصْبَهَان، وَمَات أَيَّام عبد الْملك بن مَرْوَان، وَقَالَ ابْن مَاكُولَا: جُبَير بن حَيَّة الثَّقَفِيّ روى عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة، هُوَ وَالِد الجبيرين بِالْبَصْرَةِ، وَابْنه زِيَاد بن جُبَير. قلت: روى جُبَير بن حَيَّة أَيْضا عَن عمر بن الْخطاب، والنعمان بن بشير. الثَّامِن: عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَأخرج البُخَارِيّ بعض هَذَا الحَدِيث فِي التَّوْحِيد عَن الْفضل بن يَعْقُوب أَيْضا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي أفناء الْأَمْصَار) ، قَالَ صَاحب (الْمطَالع) : قَوْله، فِي أفناء النَّاس، أَي: جماعاتهم، وَالْوَاحد فنو، وَقيل: أفناء النَّاس أخلاطهم، يُقَال للرجل إِذا لم يعلم من أَي قَبيلَة: هُوَ من أفناء الْقَبَائِل، وَقيل: الأفناء أنزاع من الْقَبَائِل من هَهُنَا وَمن هَهُنَا، حكى أَبُو حَاتِم أَنه لَا يُقَال فِي الْوَاحِد: هَذَا من أفناء النَّاس، إِنَّمَا يُقَال فِي الْجَمَاعَة هَؤُلَاءِ من أفناء النَّاس، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال: هُوَ من أفناء النَّاس، إِذا لم يعلم مِمَّن هُوَ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَفِي الحَدِيث: رجل من أفناء النَّاس أَي: لم يعلم مِمَّن هُوَ، الْوَاحِد فنو، وَقيل: هُوَ من الفناء، وَهُوَ المتسع أَمَام الدَّار، وَيجمع الفناء على أفنية، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: أفناء الْأَمْصَار، يُقَال: هُوَ من أفناء النَّاس إِذا لم يعلم مِمَّن هُوَ، وَفِي بَعْضهَا: الْأَمْصَار، بِالْمِيم، وَقَالَ بَعضهم (فِي أفناء الْأَمْصَار) : إِنَّه فِي مَجْمُوع الْبِلَاد الْكِبَار. قلت: هَذَا التَّفْسِير لَيْسَ على قانون اللُّغَة، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ التَّفْسِير. قَوْله: (فَأسلم الهرمزان) ، بِضَم الْهَاء وَسُكُون الرَّاء وَضم الْمِيم وَتَخْفِيف الزَّاي، وَفِي آخِره نون و: هَذَا الْموضع يَقْتَضِي بعض بسط الْكَلَام حَتَّى ينشرح صدر النَّاظر فِيهِ، لِأَن الرَّاوِي هُنَا أخل شَيْئا كثيرا، فَنَقُول: وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق: أما الهرمزان فَكَانَ ملكا كَبِيرا من مُلُوك الْعَجم، وَكَانَت تَحت يَده كورة الأهواز، وكورة جندي سَابُور، وكورة السوس، وكورة السرق، وكورة نهر بَين، وكورة نهر تيري، ومناذر، بِفَتْح الْمِيم وَالنُّون وَبعد الْألف ذال مُعْجمَة وَفِي آخِره رَاء، وَكَانَ الهرمزان فِي الْجَيْش الَّذين أرسلهم يزدجر إِلَى قتال الْمُسلمين وهم على الْقَادِسِيَّة، وَهِي قَرْيَة على طَرِيق الْحَاج على مرحلة من الْكُوفَة، وأمير الْمُسلمين يَوْمئِذٍ سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ رَأس جَيش الْعَجم رستم فِي مائَة ألف وَعشْرين ألفا يتبعهَا ثَمَانُون ألفا، وَمَعَهُمْ ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ فيلاً، وَكَانَ الهرمزان رَأس الميمنة، وَزعم ابْن إِسْحَاق أَن الْمُسلمين كَانُوا مَا بَين السَّبْعَة آلَاف إِلَى الثَّمَانِية آلَاف، وَوَقع بَينهم قتال عَظِيم لم يعْهَد مثله، وأبلى فِي ذَلِك الْيَوْم جمَاعَة من الشجعان مثل طليحة الْأَسدي وَعَمْرو بن معدي كرب والقعقاع بن عَمْرو وَجَرِير بن عبد الله البَجلِيّ وَضِرَار بن الْخطاب وخَالِد بن عرفطة وأمثالهم، وَكَانَت الْوَقْعَة بَينهم يَوْم الِاثْنَيْنِ مستهل الْمحرم عَام أَربع عشرَة، وَأرْسل الله تَعَالَى فِي ذَلِك الْيَوْم ريحًا شَدِيدَة أرمت خيام الْفرس من أماكنها، وَأَلْقَتْ سَرِير رستم مقدم الْجَيْش، فَركب بغلة وهرب، وأدركه الْمُسلمُونَ وقتلوه، وانهزمت الْفرس وَقتل الْمُسلمُونَ مِنْهُم خلقا كثيرا، وَكَانَ فيهم المسلسلون ثَلَاثِينَ ألف فَقتلُوا بكمالهم، وَقتل فِي المعركة عشرَة آلَاف، وَقيل: قريب من ذَلِك، وَلم يزل الْمُسلمُونَ وَرَاءَهُمْ إِلَى أَن دخلُوا مَدِينَة الْملك، وَهِي الْمَدَائِن الَّتِي فِيهَا إيوَان كسْرَى، وَكَانَ الهرمزان من جملَة الهاربين، ثمَّ وَقعت بَينه وَبَين الْمُسلمين وقْعَة، ثمَّ وَقع الصُّلْح بَينه وَبَين الْمُسلمين، ثمَّ نقض الصُّلْح ثمَّ: جمع أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْجَيْش وحاصروا هرمزان فِي مَدِينَة تستر، وَلما اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْأَمر بعث إِلَى أبي مُوسَى فَسَأَلَ الْأمان إِلَى أَن يحملهُ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك وَوجه مَعَه الْخمس من غَنَائِم الْمُسلمين، فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ وَوَقع نظره عَلَيْهِ سجد لله تَعَالَى، وَجرى بَينه وَبَين عمر محاورات، ثمَّ بعد ذَلِك أسلم طَائِعا غير مكره، وَأسلم من كَانَ مَعَه من أَهله وَولده وخدمه، ثمَّ قربه عمر وَفَرح بِإِسْلَامِهِ، فَهَذِهِ قصَّة إِسْلَام هرمزان الَّذِي قَالَ فِي حَدِيث الْبَاب: فَأسلم الهرمزان، وَكَانَ لَا يُفَارق عمر حَتَّى قتل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فاتهمه بعض النَّاس بممالأة أبي لؤلؤه فَقتله عبيد الله بن عمر. قَوْله: (فَقَالَ: إِنِّي مستشيرك) ، أَي: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، للهرمزان. قَوْله: (فِي مغازي) ، بتَشْديد الْبَاء، وَقد بيَّن ابْن أبي شيبَة مَا قَصده من ذَلِك، فروى من طَرِيق معقل بن يسَار أَن عمر شاور الهرمزان فِي فَارس وأصبهان وأذربيجن أَن بأيها يبْدَأ، وَإِنَّمَا شاوره عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي ذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ أعلم بأحوال تِلْكَ الْبِلَاد. قَوْله: (قَالَ: نعم)

(15/83)


أَي: قَالَ الهرمزان: نعم، وَهُوَ حرف إِيجَاب، وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِن صحت الرِّوَايَة بِلَفْظ فعل الْمَدْح فتقديره: نعم الْمثل مثلهَا، وَالضَّمِير فِي مثلهَا يرجع إِلَى الأَرْض الَّتِي يدل عَلَيْهَا السِّيَاق، وارتفاع: مثلهَا، على الِابْتِدَاء وَخَبره قَوْله: مثل طَائِر. قَوْله: (والجناج قَيْصر) ، هُوَ ملك الرّوم، قيل: فِيهِ نظر لِأَن كسْرَى لم يكن رَأْسا للروم، ونوزع فِي هَذَا بِأَن كسْرَى رَأس الْكل لِأَنَّهُ لم يكن فِي زَمَانه ملك أكبر مِنْهُ، لِأَن سَائِر مُلُوك الْبِلَاد كَانُوا يهابونه ويهادونه. قَوْله: (فلينفروا إِلَى كسْرَى) ، إِنَّمَا أَشَارَ بالنفير أَولا إِلَى كسْرَى لكَونه رَأْسا، فَإِذا فَاتَ الرَّأْس فَاتَ الْكل. وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى بقوله: (وَإِن شدخ الرَّأْس) أَي: وَإِن كسر، من الشدخ بالشين الْمُعْجَمَة وَالدَّال الْمُهْملَة وَالْخَاء الْمُعْجَمَة، قَالَ ابْن الْأَثِير: الشدخ كسر الشَّيْء الأجوف، تَقول: شدخت رَأسه فانشدخ، فَإِن قلت: قَالَ: فالرأس كسْرَى والجناح قَيْصر والجناح الآخر فَارس، وَمَا الرّجلَانِ؟ قلت: لقيصر الفربخ مثلا، ولكسرى الْهِنْد مثلا، وَلَا شكّ أَن الفربخ كَانَت فِي طرف من قَيْصر متصلين بِهِ، والهند كَانَت فِي طرف من كسْرَى متصلين بِهِ، وَإِنَّمَا لم يقل: وَإِن كسر الرّجلَانِ فَكَذَا، اكْتِفَاء للْعلم بِحَالهِ قِيَاسا على الْجنَاح، لَا سِيمَا وَأَنه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظَّاهِر أسهل حَالا من الْجنَاح. فَإِن قلت: إِذا انْكَسَرَ الجناحان وَالرجلَانِ جَمِيعًا لَا ينْهض أَيْضا؟ قلت: الْغَرَض أَن الْعُضْو الشريف هُوَ الأَصْل فَإِذا صلح صلح الْجَسَد كُله، وَإِذا فسد فسد، بِخِلَاف الْعَكْس. قَوْله: (وَقَالَ بكر) ، هُوَ بكر بن عبد الله الْمَذْكُور. (وَزِيَاد) ، هُوَ زِيَاد بن جُبَير الْمَذْكُور. قَوْله: (فندبنا) ، بِفَتْح الدَّال وَالْبَاء على صِيغَة الْمَاضِي، أَي: طلبنا ودعانا وعزم علينا أَن نَجْتَمِع للْجِهَاد. قَوْله: (وَاسْتعْمل علينا النُّعْمَان بن مقرن) أَي: جعله أَمِيرا علينا، وَكَانَ النُّعْمَان قدم على عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِفَتْح الْقَادِسِيَّة الَّتِي ذَكرنَاهَا عَن قريب، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: فَدخل عمر الْمَسْجِد فَإِذا هُوَ بالنعمان يُصَلِّي، فَقعدَ فَلَمَّا فرغ قَالَ: إِنِّي مستعملك! قَالَ: أما جابياً فَلَا، وَلَكِن غازياً. قَالَ: فَإنَّك غازٍ، فَخرج وَمَعَهُ الزبير وَحُذَيْفَة وَابْن عمر والأشعث وَعَمْرو بن معدي كرب، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: فَأَرَادَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يسير بِنَفسِهِ ثمَّ بعث النُّعْمَان وَمَعَهُ ابْن عمر وَجَمَاعَة، وَكتب إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَن يسير بِأَهْل الْبَصْرَة، وَإِلَى حُذَيْفَة أَن يسير بِأَهْل الْكُوفَة حَتَّى يجتمعوا بنهاوند، وَإِذا التقيتم فأميركم النُّعْمَان بن مقرن، بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وبالنون: ابْن عَائِذ بن منجي بن هجير بن نصر بن حبشية بن كَعْب بن عبد بن تور بن هدمة بن الأطم بن عُثْمَان. وَهُوَ مزينة بن عَمْرو بن أد بن طابخة الْمُزنِيّ، قَالَ أَبُو عمر: وَيُقَال: النُّعْمَان بن عَمْرو بن مقرن، يكنى أَبَا عَمْرو، وَيُقَال: أَبَا حَكِيم. قَالَ مُصعب: هَاجر النُّعْمَان بن مقرن وَمَعَهُ سَبْعَة أخوة، وروى عَنهُ أَنه قَالَ: قدمنَا على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَربع مائَة من مزينة، ثمَّ سكن الْبَصْرَة وتحول عَنْهَا إِلَى الْكُوفَة. قَوْله: (حَتَّى إِذا كُنَّا بِأَرْض الْعَدو) وَهِي نهاوند، بِضَم النُّون وَتَخْفِيف الْهَاء وَفتح الْوَاو وَسُكُون النُّون، وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَضبط بَعضهم: بِفَتْح النُّون وَلَيْسَ كَذَلِك، بل بِالضَّمِّ لِأَن الَّذِي بناها نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَت تسمى: نوح أوند، يَعْنِي: عمرها نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فأبدلوا الْحَاء هَاء، وَهِي مَدِينَة جنوبي هَمدَان وَلها أَنهَار وبساتين، وَهِي كَثِيرَة الْفَوَاكِه وَتحمل فواكهها إِلَى الْعرَاق لجودتها، مِنْهَا إِلَى هَمدَان أَرْبَعَة عشر فرسخاً، وَهِي من بِلَاد عراق الْعَجم فِي حد بِلَاد الجيل. قَوْله: (وَخرج علينا عَامل كسْرَى فِي أَرْبَعِينَ ألفا) ، كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعُونَ ألفا من أهل فَارس وكرمان، وَكَانَ من أهل نهاوند عشرُون ألفا وَمن أهل أَصْبَهَان عشرُون، وَمن أهل قُم وقاشان عشرُون وَمن أهل أذربيجان ثَلَاثُونَ ألفا وَمن بِلَاد أُخْرَى عشرُون ألفا فالجملة مائَة ألف وَخَمْسُونَ ألفا فُرْسَانًا، وَكَانَ عَامل كسْرَى الَّذِي على هَؤُلَاءِ الْجَيْش الغيرزان، وَيُقَال: بنْدَار، وَيُقَال: ذُو الحاجبين، وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (كتاب الأذواء) : ذُو الحاجبين هُوَ خرزاد بن هُرْمُز من الْفرس أحد الْأُمَرَاء الْأَرْبَعَة الَّذين أَمرتهم الْأَعَاجِم على كورة نهاوند، وَكَانَت هَذِه الْوَقْعَة الَّتِي وَقعت على نهاوند وقْعَة عَظِيمَة، وَكَانَ الْمُسلمُونَ يسمونها فتح الْفتُوح، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق والواقدي: كَانَت وقْعَة نهاوند فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين، وَقَالَ سيف: كَانَت فِي سنة سبع عشرَة، وَقيل: فِي سنة تسع عشرَة، وَكَانَت هَذِه الْوَاقِعَة أَربع وقعات، وَفِي الْوَقْعَة الثَّانِيَة قتل النُّعْمَان ابْن مقرن أَمِير الْجَيْش وَقَامَ مقَامه حُذَيْفَة بن الْيَمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (فَقَامَ ترجمان) ، بِفَتْح التَّاء وَضمّهَا وَضم الْجِيم وَالْوَجْه الثَّالِث فتحهما نَحْو: الزَّعْفَرَان. قَوْله: (فَقَالَ الْمُغيرَة) ، وَهُوَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة، وَكَانَ هُوَ الترجمان، وَكَذَلِكَ كَانَ هُوَ الترجمان بَين الهرمزان وَعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الْمَدِينَة لما قدم الهرمزان إِلَيْهِ كَمَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (قَالَ: مَا أَنْتُم؟)

(15/84)


هَكَذَا خَاطب عَامل كسْرَى الَّذِي هُوَ عينه على جَيْشه بِصِيغَة من لَا يعقل احتقاراً لَهُ. قَوْله: (قَالَ: نَاس من الْعَرَب) أَي: قَالَ الْمُغيرَة: نَحن نَاس من الْعَرَب ... إِلَى آخر مَا ذكره، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة، فَقَالَ: إِنَّكُم معشر الْعَرَب، أَصَابَكُم جوع وَجهد فجئتم، فَإِن شِئْتُم مرناكم، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الرَّاء أَي: أعطيناكم الْميرَة، أَي الزَّاد وَرَجَعْتُمْ، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: إِنَّكُم معشر الْعَرَب أطول النَّاس جوعا وَأبْعد النَّاس من كل خير، وَمَا مَنَعَنِي أَن أَمر هَؤُلَاءِ الأساورة أَن ينتظموكم بالنشاب إلاَّ تقذراً لجيفكم. قَالَ الْمُغيرَة: فحمدت لله وأثنيت عَلَيْهِ، ثمَّ قلت: مَا أَخْطَأت شَيْئا من صفتنا، كَذَلِك كُنَّا حَتَّى بعث الله إِلَيْنَا رَسُوله. قَوْله: (نَعْرِف أَبَاهُ وَأمه) ، وَزَاد فِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: فِي شرف منا أوسطنا حسباً وأصدقنا حَدِيثا. قَوْله: (فَقَالَ النُّعْمَان) يَعْنِي للْمُغِيرَة: رُبمَا أشهدك الله أَي أحضرك الله مثلهَا، أَي: مثل هَذِه الشدَّة مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (فَلم يندمك) بِضَم الْيَاء من الإندام، يُقَال: أندمه الله فندم، وَالْمعْنَى: لم يندمك فِيمَا لقِيت مَعَه من الشدَّة. قَوْله: (وَلم يخزك) من الإخزاء، يُقَال: خزي، بِالْكَسْرِ: إِذا ذل وَهَان، ويروى: فَلم يحزنك، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالنُّون، وَهِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَالْأولَى رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَهِي أوجه لوفاق مَا قبله، كَمَا فِي حَدِيث وَفد عبد الْقَيْس: غير خزايا وَلَا ندامى، وَهَذِه المحاورة الَّتِي وَقعت بَين النُّعْمَان بن مقرن والمغيرة بن شُعْبَة بِسَبَب تَأْخِير النُّعْمَان الْقِتَال، فَاعْتَذر النُّعْمَان بقوله: (وَلَكِنِّي شهِدت الْقِتَال مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِلَى آخِره، وَقَالَ الْكرْمَانِي مَا معنى الِاسْتِدْرَاك؟ وَأَيْنَ توسطه بَين كلامين متغايرين؟ قلت: كَانَ الْمُغيرَة قصد الِاشْتِغَال بِالْقِتَالِ أول النَّهَار بعد الْفَرَاغ من المكالمة مَعَ الترجمان فَقَالَ النُّعْمَان: إِنَّك شهِدت الْقِتَال مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكنك مَا ضبطت انْتِظَاره للهبوب، وَقَالَ ابْن بطال: قَوْله: (وَلَكِنِّي شهِدت) إِلَى آخِره كَلَام مُسْتَأْنف وَابْتِدَاء قصَّة أُخْرَى. قلت: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاق الْكَلَام، وسياقه على مَا لَا يخفى على المتأمل، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: قد كَانَ الله أشهدك أَمْثَالهَا، وَالله مَا مَنَعَنِي أَن أناجزهم إلاَّ شَيْء شهدته من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ قَوْله: كَانَ إِذا لم يُقَاتل أول النَّهَار إِلَى آخِره. قَوْله: (حَتَّى تهب الْأَرْوَاح) جمع ريح، وَأَصله: روح، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، والتصغير والتكسير يردان الْأَشْيَاء إِلَى أُصُولهَا. وَقد حكى ابْن جني جمع ريح على: أرياح. قَوْله: (وتحضر الصَّلَوَات) يَعْنِي: بعد زَوَال الشَّمْس، تدل عَلَيْهِ رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: وتزول الشَّمْس، وَزَاد فِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: ويطيب الْقِتَال، وَفِي رِوَايَة ابْن أبي شيبَة: وَينزل النَّصْر.
وَفِي الحَدِيث من الْفَوَائِد منقبة النُّعْمَان وَمَعْرِفَة الْمُغيرَة بن شُعْبَة بِالْحَرْبِ وَقُوَّة نَفسه وشهامته وفصاحته وبلاغته واشتمال كَلَامه على بَيَان أَحْوَالهم الدِّينِيَّة والدنياوية، وعَلى بَيَان معجزات الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأخباره عَن المغيبات ووقوعها كَمَا أخبر. وَفِيه: فضل المشورة وَأَن الْكَبِير لَا نقص عَلَيْهِ فِي مُشَاورَة من هُوَ دونه، وَأَن الْمَفْضُول قد يكون أَمِيرا على الْأَفْضَل، لِأَن الزبير ابْن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ فِي جَيش عَلَيْهِ النُّعْمَان بن مقرن، وَالزُّبَيْر أفضل مِنْهُ اتِّفَاقًا وَفِيه: ضرب الْمثل. وَفِيه: جودة تصور الهرمزان، وَكَذَلِكَ استشارة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: الْإِرْسَال إِلَى الإِمَام بالبشارة. وَفِيه: فضل الْقِتَال بعد زَوَال الشَّمْس على مَا قبله.

2 - (بابٌ إذَا وادَعَ الإمَامُ مَلِكَ القَرْيَةِ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِبَقِيَّتِهِمْ؟)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وادع الإِمَام، من الْمُوَادَعَة، وَهِي: الْمُصَالحَة والمسالمة على ترك الْحَرْب والأذى، وَحَقِيقَة الْمُوَادَعَة المتاركة أَي: يدع كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا هُوَ فِيهِ. قَوْله: (هَل يكون ذَلِك؟) جَوَاب: إِذا، أَي: هَل يكون مَا ذكر من الْمُوَادَعَة الَّتِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: وادعُ. قَوْله: (لبقيتهم) أَي: لبَقيَّة أهل الْقرْيَة، وَجَوَاب الِاسْتِفْهَام مَحْذُوف تَقْدِيره: يكون.

1613 - حدَّثنا سَهْلُ بنُ بَكَّارٍ قَالَ حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ عَمْرِو بنِ يَحْيَى عنْ عَبَّاس السَّاعِدِيِّ عنْ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ غَزوْنَا معَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبُوكَ وأهْدَى مَلِكُ أيْلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ وكَساهُ بُرْداً وكَت لَهُ بِبَحْرِهِمْ. .

(15/85)


مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن قبُول هديته مُؤذن بموادعته وكتابته ببحرهم مُؤذن بدخولهم فِي الْمُوَادَعَة، لِأَن موادعة الْملك موادعة لرعيته، لِأَن قوتهم بِهِ ومصالحهم إِلَيْهِ، فَلَا معنى لانفراده دونهم وانفرادهم دونه عِنْد الْإِطْلَاق. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا الْقدر لَا يَكْفِي فِي مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة، لِأَن الْعَادة بذلك مَعْرُوفَة من غير الحَدِيث، وَإِنَّمَا جرى البُخَارِيّ على عَادَته فِي الْإِشَارَة إِلَى بعض طرق الحَدِيث الَّذِي يُورِدهُ، وَقد ذكر ذَلِك ابْن إِسْحَاق فِي (السِّيرَة) فَقَالَ: لما انْتهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى تَبُوك أَتَاهُ بحنة بن روبة صَاحب أَيْلَة فَصَالحه وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَة، وَكتب إِلَيْهِ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كتابا فَهُوَ عِنْدهم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم! هَذِه أَمَنَة من الله وَمُحَمّد النَّبِي رَسُول الله لبحنة بن روبة وَأهل أَيْلَة) فَذكره. قلت: هَذَا الْقَائِل ذكر الِاكْتِفَاء فِي مَوَاضِع عديدة فِي الْمُطَابقَة بِوَجْه أدنى من الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَمَا لَهُ يدعى هُنَا عدم الْكِفَايَة؟ وَإِثْبَات الْمُطَابقَة بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ أقوى وأوجه من الَّذِي ذكره، لِأَن الَّذِي ذَكرْنَاهُ من الدَّاخِل، وَالَّذِي ذكره من الْخَارِج؟ وَهل علم أَنه قصد ذَلِك أم لَا؟
وَسَهل بن بكار أَبُو بشر الدَّارمِيّ الْبَصْرِيّ، ووهيب مصغر وهب بن خَالِد بن عجلَان أَبُو بكر الْبَصْرِيّ صَاحب الكرابيس، وَعَمْرو بن يحيى بن عمَارَة الْمَازِني، وعباس ابْن سهل السَّاعِدِيّ، وَأَبُو حميد السَّاعِدِيّ اسْمه عبد الرَّحْمَن، وَقيل: الْمُنْذر، وَيُقَال: إِنَّه عَم عَبَّاس السَّاعِدِيّ.
وَهَذَا طرف حَدِيث مضى فِي كتاب الزَّكَاة مطولا بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد فِي: بَاب خرص التَّمْر، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (أَيْلَة) بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح اللَّام وَفِي آخِره هَاء، وَقَالَ ابْن قرقول: هِيَ مَدِينَة بِالشَّام على النّصْف مَا بَين طَرِيق مصر وَمَكَّة على شاطىء الْبَحْر من بِلَاد الشَّام. قَوْله: (وكساه) كَذَا هُوَ بِالْوَاو: وَفِي رِوَايَة أبي ذَر بِالْفَاءِ، قَوْله: (ببحرهم) أَي: بقريتهم.

3 - (بابُ الوَصاةِ بأهْلِ ذِمَّةِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْوَصِيَّة بِأَهْل الذِّمَّة وَإِنَّمَا أضَاف الذِّمَّة إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الذِّمَّة الَّتِي هِيَ الْعَهْد عهد بَينهم وَبَين رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والوصاة اسْم بِمَعْنى الْوِصَايَة، بِفَتْح الْوَاو وَتَخْفِيف الصَّاد بِمَعْنى: الْوَصِيَّة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أوصيت لَهُ بِشَيْء وأوصيت إِلَيْهِ: إِذا جعلته وصيّك، وَالِاسْم: الْوِصَايَة، بِكَسْر الْوَاو وَفتحهَا، وأوصيته ووصيته توصية، وَالِاسْم: الوصاة، وَفِي بعض النّسخ: بَاب الْوَصَايَا.
والذِّمَّةُ العَهْدُ والإلُّ القَرَابَةُ
فسر البُخَارِيّ الذِّمَّة بالعهد، والذمة تَجِيء بِمَعْنى الْعَهْد والأمان وَالضَّمان وَالْحُرْمَة وَالْحق، وسمى أهل الذِّمَّة لدخولهم فِي عهد الْمُسلمين وأمانهم. قَوْله: (والألّ) بِكَسْر الْهمزَة وَتَشْديد اللَّام، وَقد فسره بِالْقَرَابَةِ، والإلّ أَيْضا الله تَعَالَى، قَالَه مُجَاهِد، وأنكروا عَلَيْهِ، وَقيل: الإل الأَصْل الْجيد، والأل بِالْفَتْح: الشدَّة، وَالله تَعَالَى أعلم.

4 - (بابُ مَا أقْطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنَ البَحْرَيْنِ وَمَا وعَدَ مِنْ مالِ البَحْرَيْنِ والجِزْيَةِ ولِمَنْ يُقْسَمُ الفَيْءُ والجِزْيَةُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا أقطع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأقطع من الإقطاع، بِكَسْر الْهمزَة: وَهُوَ تسويغ الإِمَام شَيْئا من مَال الله لمن يرَاهُ أَهلا لذَلِك، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي إقطاع الأَرْض، وَهُوَ أَن يخرج مِنْهَا شَيْئا لَهُ يحوزه إِمَّا أَن يملكهُ إِيَّاه فيعمره، أَو يَجْعَل لَهُ عَلَيْهِ مُدَّة. والإقطاع قد يكون تَمْلِيكًا وَغير تمْلِيك، والأجناد يسمون مقطعين، بِفَتْح الطَّاء، وَيُقَال: مقتطعين أَيْضا (من الْبَحْرين) أَرَادَ بِهِ: من، مَال الْبَحْرين، لِأَنَّهَا كَانَت صلحا، فَلم يكن فِي أرْضهَا شَيْء. قَوْله: (وَمَا وعد) على: مَا أقطع. قَوْله: (والجزية) من عطف الْخَاص على الْعَام. قَوْله: (وَلمن يقسم الْفَيْء) وَقد مر أَن الْفَيْء مَا حصل للْمُسلمين من أَمْوَال الْكفَّار من غير حَرْب وَلَا جِهَاد.

(15/86)


3613 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أنَساً رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ دَعا النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأنْصَارَ لِيَكْتُبَ لَهُمْ بالْبَحْرَيْنِ فقالُوا لاَ وَالله حتَّى تَكْتُبَ لإخْوَانِنَا مِنْ قُرَيْشٍ بِمِثْلِهَا فَقَالَ ذَاكَ لَهُمْ مَا شاءَ الله علَى ذَلِكَ يَقُولُونَ لَهُ قَالَ فإنَّكُمْ ستَرَوْنَ بَعْدَي أُثْرَةً فاصْبِرُوا حتَّى تَلْقَونِي.
مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة، لِأَن لَهَا ثَلَاثَة أَجزَاء: فَفِي الْبَاب ثَلَاثَة أَحَادِيث فَلِكُل جُزْء حَدِيث يطابقه على التَّرْتِيب، فَحَدِيث أنس هَذَا يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أَشَارَ بذلك على الْأَنْصَار فَلم يقبلُوا فَتَركه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنزل البُخَارِيّ مَا بِالْقُوَّةِ منزلَة مَا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاضح، لِأَنَّهُ لَا يَأْمر إلاَّ بِمَا يجوز فعله.
وَأحمد بن يُونُس هُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس ابْن عبد الله بن قيس التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْكُوفِي، وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة بن خديج أَبُو خَيْثَمَة الْجعْفِيّ الْكُوفِي، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ قَاضِي الْمَدِينَة.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الشّرْب فِي: بَاب كِتَابَة القطائع، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ مُعَلّقا، فَقَالَ: قَالَ اللَّيْث: عَن يحيى بن سعيد ... إِلَى آخِره، وَهُنَاكَ لَفْظَة: ليقطع لَهُم بِالْبَحْرَيْنِ، وَهنا ليكتب لَهُم بِالْبَحْرَيْنِ أَي: ليعين لكل مِنْهُم مِنْهَا حِصَّة على سَبِيل الإقطاع، وَالْمرَاد بِالْحِصَّةِ الْحصَّة من الْجِزْيَة وَالْخَرَاج لِأَن رقبَتهَا لَا تملك لِأَن أَرض الصُّلْح لَا تقسم.
قَوْله: (وَذَاكَ لَهُم) أَي: ذَاك المَال للمهاجرين مَا شَاءَ الله على ذَلِك. قَوْله: (يَقُولُونَ لَهُ) أَي: الْأَنْصَار يَقُولُونَ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَأْنهمْ مصرين على ذَلِك حَتَّى قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّكُم سَتَرَوْنَ أَثَرَة وَهِي بِفَتْح الْهمزَة والثاء الْمُثَلَّثَة، الإسم من آثر إيثاراً إِذا أعْطى. قَالَه ابْن الْأَثِير: وَفِي (الْمطَالع) بِضَم الْهمزَة وَإِسْكَان الثَّاء، ويروى: أَثَرَة، بفتحهما، وبالوجهين قَيده الجياني، وَيُقَال أَيْضا: إثرة بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء، قَالَ الْأَزْهَرِي، وَهُوَ الاستيثار أَي: يستأثر عَلَيْكُم بِأُمُور الدُّنْيَا ويفضل غَيْركُمْ عَلَيْكُم، وَلَا يَجْعَل لكم فِي الْأَمر نَصِيبا وَعَن أبي عَليّ القالي: إِن الإثرة الشدَّة، وَبِه كَانَ يتَأَوَّل الحَدِيث، وَالتَّفْسِير الأول أظهر وَعَلِيهِ الْأَكْثَر وَسَببه يشْهد لَهُ وَهُوَ إِيثَار الْأَنْصَار الْمُهَاجِرين على أنفسهم، فأجابهم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِهَذَا. قَوْله: (حَتَّى تَلْقَوْنِي) ، ويروى: (على الْحَوْض) .

4613 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ أخبرَنِي رَوْحُ بنُ القَاسِمِ عنْ مُحَمَّدِ بنِ الْمُنْكَدِرِ عنْ جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لي لَوْ قَدْ جاءَنا مالُ البَحْرَيْنِ قدْ أعْطَيْتُكَ هَكَذَا وهاكَذَا وهاكَذَا فلَمَّا قُبِضَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجاءَ مالُ البَحْرَيْنِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ كانَتْ لَهُ عِنْدَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِدَّةٌ فَلْيَأْتِني فأتَيْتُهُ فقُلْتُ إنَّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ كانَ قَالَ لِي لَوُ قَدْ جاءَنا مالُ البَحْرَيْنِ لأعْطَيْتُكَ هاكَذَا وهاكذَا وهاكَذَا فَقَالَ لي إحْثِهِ فَحَثَوْتُ حَثْيَةً فَقَالَ لِي عُدَّها فَعَدَدْتُهَا فإذَا هِي خَمْسُمِائَةٍ فأعْطَانِي ألْفاً وخَمْسَمِائَةٍ. .

مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة، وَقد بَيناهُ عَن قريب، وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن معمر الْهُذلِيّ الْهَرَوِيّ، سكن بَغْدَاد. وروح بِفَتْح الرَّاء ابْن قَاسم الْعَنْبَري التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ. والْحَدِيث مر فِي الْخمس فِي: بَاب وَمن الدَّلِيل على أَن الْخمس لنوائب الْمُسلمين. قَوْله: (عدَّة) أَي: وعد. قَوْله: (أحثه) بِضَم الْهمزَة وَكسرهَا، من: حثا يحثو حثوا، وحثى يحثي حثياً، وَقيل: الْهَاء فِيهِ للسكت.

5613 - وقالَ إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ صُهَيْبٍ عنْ أنَسٍ قَالَ أتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ

(15/87)


وَسلم بِمالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ فَقَالَ انْثُرُوهُ فِي المَسْجِدِ فكانَ أكْثَرَ مالٍ أُتِيَ بِهِ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ جاءَهُ العَبَّاسُ فَقَالَ يَا رَسُولَ الله أعْطِنِي إنِّي فادَيْتُ نَفْسِي وفادَيْتُ عَقِيلاً قَالَ خُذْ فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِله فلَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالَ أمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إلَيَّ قَالَ لَا قَالَ فارْفَعْهُ أنْتَ علَيَّ قَالَ لاَ فنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذهب يقلهُ فَلم يرفعهُ فَقَالَ أَمر بَعضهم يرفعهُ عَليّ قَالَ لَا قَالَ فارفعه أَنْت عَليّ قَالَ لَا فنثر ثمَّ احتملَهُ علَى كاهِلِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ فَمَا زَالَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا عَجَبَاً مِنْ حِرْصِه فَما قامَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ. (انْظُر الحَدِيث 124 وطرفه) .

وَقد مضى هَذَا التَّعْلِيق بِهَذَا الْإِسْنَاد فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الْقِسْمَة وَتَعْلِيق القنو فِي الْمَسْجِد. قَوْله: (عقيلاً) ، بِفَتْح الْعين: ابْن أبي طَالب وَقد فَادى الْعَبَّاس لنَفسِهِ وَله يَوْم بدر حِين صَارا أسيرين للْمُسلمين. قَوْله: (يقلهُ) ، بِضَم الْيَاء وَكسر الْقَاف وَتَشْديد اللَّام، أَي: يحملهُ. قَوْله: (على كَاهِله) ، وَهُوَ مَا بَين الْكَتِفَيْنِ.

5 - (بابُ إثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعاهَدَاً بِغَيْرِ جُرْمٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من قتل معاهداً أَي ذِمِّيا بِغَيْر جرم، أَي: بِغَيْر ذَنْب أَرَادَ: إِذا قَتله بِغَيْر حق، وَهَذَا الْقَيْد لَيْسَ فِي الحَدِيث، وَلكنه مُسْتَفَاد من قَوَاعِد الشَّرْع، وَوَقع مَنْصُوصا عَلَيْهِ فِي رِوَايَة أبي مُعَاوِيَة الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا بِلَفْظ: بِغَيْر حق، وروى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي بكر بِلَفْظ: من قتل نفسا معاهدة بِغَيْر حلهَا، حر الله علهي الْجنَّة.

6613 - حدَّثنا قَيْسُ بنُ حَفصٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدَّثَنَا الحَسَنُ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا مُجاهِد عنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍ وَرَضي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ قتَلَ مُعاهِداً لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ وإنَّ رِيحَها تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عَاما. (الحَدِيث 6613 طرفه فِي: 4196) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من قتل معاهداً) وَقَوله: (لم يرح) إِلَى آخِره، يُوضح مَا أبهمه فِي التَّرْجَمَة. وَقيس بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ الْبَصْرِيّ، وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد وَالْحسن بن عَمْرو الْفُقيْمِي التَّمِيمِي الْكُوفِي، والفقيمي، بِضَم الْفَاء وَفتح الْقَاف نِسْبَة: إِلَى فقيم بن دارم بن مَالك، وَالْحسن بن عمر، وَهَذَا لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي الْأَدَب.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدِّيات عَن قيس بن حَفْص أَيْضا وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن أبي كريب، قَالُوا: هَذَا الحَدِيث مُنْقَطع فِيمَا بَين عبد الله بن عَمْرو وَمُجاهد، بيَّن ذَلِك البرديحي فِي كِتَابه (الْمُتَّصِل والمرسل) بقوله: مُجَاهِد عَن ابْن عَمْرو، وَلم يسمع مِنْهُ، وَقد رَوَاهُ مَرْوَان بن مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ عَن حَدثنَا الْحسن بن عَمْرو عَن مُجَاهِد عَن جُنَادَة بن أبي أُميَّة عَن عبد الله بن عَمْرو، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ الصَّوَاب. وَأجِيب: بِأَن سَماع مُجَاهِد عَن ابْن عمر وثابت وَلَيْسَ هُوَ بمدلس، فَيحْتَمل أَن يكون مُجَاهِد سَمعه أَولا من جُنَادَة ثمَّ لَقِي عبد الله ابْن عَمْرو، أَو سمعاه مَعًا من ابْن عَمْرو، فَحدث بِهِ مُجَاهِد تَارَة عَن ابْن عَمْرو وَتارَة عَن جُنَادَة، وَقَالُوا أَيْضا: هَذَا الحَدِيث من مُسْند عبد الله بن عَمْرو إلاَّ أَن الْأصيلِيّ رَوَاهُ عَن الْجِرْجَانِيّ عَن الْفربرِي، فَقَالَ عبد الله بن عمر، بِضَم الْعين بِغَيْر وَاو، ورد بِأَنَّهُ تَصْحِيف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (معاهداً) ، بِكَسْر الْهَاء وَفتحهَا وَأَرَادَ بِهِ الذِّمِّيّ لِأَنَّهُ من أهل الْعَهْد، أَي: الْأمان، والعهد حَيْثُ وَقع هُوَ الْمِيثَاق. قَوْله: (لم يرح) ، بِفَتْح الْيَاء وَالرَّاء وَأَصله: يراح، قَالَ الْجَوْهَرِي: رَاح فلَان الشَّيْء يراحه ويريحه إِذا وجد رِيحه، وَأما فِي هَذَا الحَدِيث فقد جعله أَبُو عبيد من: راحه يراحه، وَكَانَ أَبُو عَمْرو يَقُول: إِنَّه من راحه يريحه، وَالْكسَائِيّ يَقُول: من راحه يريحه، وَمعنى الثَّلَاث وَاحِد. قَوْله: (أَرْبَعِينَ عَاما) هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْجَمِيع. (أَرْبَعِينَ عَاما) إلاَّ عبد الْغفار، فَقَالَ:

(15/88)


(سبعين عَاما) ، وَكَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا، وَلَفظه: (أَلا من قتل نفسا معاهدة لَهَا ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله فقد أَخْفَر بِذِمَّة الله فَلَا يراح رَائِحَة الْجنَّة، وَأَن رِيحهَا ليوجد من مسيرَة سبعين خَرِيفًا) . وروى النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي بكرَة بِإِسْنَاد صَحِيح نَحوه، وَفِي (الْمُوَطَّأ) خَمْسمِائَة، قَالَ ابْن بطال: أما الْأَرْبَعُونَ فَهِيَ أقْصَى أَشد الْعُمر فِي قَول الْأَكْثَرين، فَإِذا بلغَهَا ابْن آدم زَاد عمله ويقينه واستحكمت بصيرته فِي الْخُشُوع لله تَعَالَى على الطَّاعَة والندم على مَا سلف، فَهَذَا يجد ريح الْجنَّة على مسيرَة أَرْبَعِينَ عَاما، وَأما السبعون فَهِيَ حد المعترك، ويعرض للمرء عِنْدهَا من الخشية والندم لاقتراب أَجله فيجد ريح الْجنَّة من مسيرَة سبعين عَاما، وَأما وَجه الْخَمْسمِائَةِ فَهِيَ فَتْرَة مَا بَين نَبِي وَنَبِي، فَيكون من جَاءَ فِي آخر الفترة واهتدى بِاتِّبَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ قبل الفترة وَلم يضرّهُ طولهَا، فيجد ريح الْجنَّة على خَمْسمِائَة عَام. فَإِن قلت: الْمُؤمن لَا يخلد فِي النَّار؟ قلت: المُرَاد لم يجد أول مَا يجدهَا سَائِر الْمُسلمين الَّذين لم يقترفوا الْكَبَائِر، وَقَالَ أَحْمد: أَرْبَعَة أَحَادِيث تَدور على أَلْسِنَة النَّاس وَلَا أصل لَهَا عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من آذَى ذِمِّيا فَأَنا خَصمه يَوْم الْقِيَامَة. وَمن بشر بِخُرُوج آذار بشر بِالْجنَّةِ. وَيَوْم نحركم يَوْم فطركم. وللسائل حق وَإِن جَاءَ على فرس.

6 - (بابُ إخْرَاجِ الَيهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِخْرَاج الْيَهُود من جَزِيرَة الْعَرَب، وَقد مضى تَفْسِير جَزِيرَة الْعَرَب فِي: بَاب هَل يستشفع إِلَى أهل الذِّمَّة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: جَزِيرَة الْعَرَب هِيَ مَا بَين عدن إِلَى ريف الْعرَاق طولا، وَمن جدة إِلَى الشَّام عرضا، وَقيل: هَذَا عَام أُرِيد بِهِ الْخَاص، وَهُوَ الْحجاز.
وَقَالَ عُمَرُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُقِرُّكُمْ مَا أقَرَّكُمْ الله بِهِ
هَذَا قِطْعَة من قصَّة أهل خَيْبَر، وَقد ذكرهَا البُخَارِيّ مَوْصُولَة فِي كتاب الْمُزَارعَة فِي: بَاب إِذا قَالَ رب الأَرْض: أقرك مَا أقرك الله، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

7613 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني سَعِيدُ المَقْبُرِيُّ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ بَيْنَما نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ انْطَلِقُوا إِلَى يَهُودَ فخَرَجْنَا حتَّى جِئْنا بَيْتَ المِدْرَاسِ فَقَالَ أسْلِمُوا تَسْلَمُوا واعْلَمُوا أنَّ الأرْضَ لله ورسُولِهِ وإنِّي أُرِيدُ أَن أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذا الأرْضِ فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمالِهِ شَيْئاً فَلْيَبِعْهُ وإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّ الأرْضَ لله ورَسُولِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ أَن يخرج الْيَهُود لِأَنَّهُ كَانَ يكره أَن يكون بِأَرْض الْعَرَب غير الْمُسلمين لِأَنَّهُ امتحن فِي اسْتِقْبَال الْقبْلَة حَتَّى نزل: {قد نرى تقلب وَجهك فِي السَّمَاء} (الْبَقَرَة: 441) . الْآيَة: وامتحن مَعَ بني النَّضِير حِين أَرَادوا الْغدر بِهِ، وَأَن يلْقوا عَلَيْهِ حجرا، فَأمره الله بإجلائهم وإخراجهم، وَترك سَائِر الْيَهُود، وَكَانَ يَرْجُو أَن يُحَقّق الله رغبته فِي إبعاد الْيَهُود عَن جواره فَلم يوحِ إِلَيْهِ فِي ذَلِك شَيْء إِلَى أَن حَضرته الْوَفَاة، فَأُوحي إِلَيْهِ فِيهِ، فَقَالَ: لَا يبْقين دينان بِأَرْض الْعَرَب، وَأوصى بذلك عِنْد مَوته، فَلَمَّا كَانَ فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: من كَانَ عِنْده عهد من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فليأت بِهِ، وإلاَّ فَإِنِّي مجليكم فأجلاهم.
وَرِجَال الحَدِيث قد تكَرر ذكرهم، وَسَعِيد المَقْبُري يروي هُنَا عَن أَبِيه أبي سعيد واسْمه: كيسَان الْمدنِي مولى بني لَيْث.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْإِكْرَاه عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله، وَفِي الِاعْتِصَام عَن قُتَيْبَة، وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي، وَأَبُو دَاوُد فِي الْخراج وَالنَّسَائِيّ فِي السّير جَمِيعًا عَن قُتَيْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (خرج) ، جَوَاب: بَيْنَمَا، وَقد ذكرنَا أَن الْأَفْصَح فِي جَوَابه أَن يكون بِلَا إِذْ وَإِذا. قَوْله: (بَيت الْمِدْرَاس) ، بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ الْبَيْت الَّذِي يدرسون فِيهِ. وَقيل: الْمِدْرَاس: الْعَالم التَّالِي للْكتاب، وَقَالَ بَعضهم: الأول أرجح لِأَن

(15/89)


فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: حَتَّى أَتَى الْمِدْرَاس. قلت: مَا ثمَّ ترجيحٍ لِأَن معنى أَتَى الْمِدْرَاس، أَي: جَاءَ مَكَان دراستهم للتوراة وَنَحْوهَا. قَوْله: (أَسْلمُوا) ، بِفَتْح الْهمزَة، من الْإِسْلَام. قَوْله: (تسلموا) مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، وَهُوَ من السَّلامَة، وَفِيه الجناس الْحسن، لسُهُولَة لَفظه وَعدم كلفته، وَنَظِيره فِي كتاب هِرقل: أسلم تسلم. قَوْله: (وَاعْلَمُوا) جملَة ابتدائية كَأَنَّهُمْ قَالُوا فِي جَوَاب قَوْله: أَسْلمُوا تسلموا: لِمَ قلت هَذَا وكررته؟ فَقَالَ: إعلموا أَنِّي أُرِيد أَن أجليكم فَإِن أسلمتم سلمتم. قَوْله: (بِمَالِه) ، أَي: بدل مَاله، وَالْبَاء للبدلية. قَوْله: (فليبعه) ، جَوَاب: من وَالْمعْنَى إِن من كَانَ لَهُ شَيْء مِمَّا لَا يُمكن تحويله فَلهُ أَن يَبِيعهُ. قَوْله: (وإلاَّ) ، أَي: وَإِن لم تسمعوا مَا قلت لكم من ذَلِك فاعلموا أَن الأَرْض لله، أَي: تعلّقت مَشِيئَة الله بِأَن يُورث أَرْضكُم هَذِه للْمُسلمين ففارقوها، وَهَذَا كَانَ بعد قتل بني قُرَيْظَة وإجلاء بني النَّضِير، لِأَن هَذَا كَانَ قبل إِسْلَام أبي هُرَيْرَة، لِأَن أَبَا هُرَيْرَة إِنَّمَا جَاءَ بعد فتح خَيْبَر. قَوْله: (وَرَسُوله) ، ويروى: (وَلِرَسُولِهِ) .

8613 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حدَّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ سُلَيْمانَ بنِ أبِي مُسْلِمٍ الأحْوَلِ قَالَ سَمِعَ سَعِيدَ ابنَ جُبَيْرٍ قَالَ سَمِعَ ابنَ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما يَقُولُ يَوْمَ الخَمِيسُ وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الحَصَى قُلْتُ يَا ابنَ عَبَّاسٍ مَا يَوْمُ الخَمِيسِ قَالَ اشْتَدَّ بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجَعُهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِكَتِفٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أبَدَاً فَتَنازَعُوا ولاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيّ تَنازُعٌ فَقَالُوا مالَهُ أهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ فَقَالَ ذَرُونِي فالَّذِي أنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونِي إلَيْهِ فأمَرَهُمْ بِثَلاثٍ قَالَ أخرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ وأجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ والثَّالِثَةُ خَيْرٌ إمَّا أنْ سَكَتَ عَنْهَا وإمَّا أنْ قالَهَا فَنَسِيتُهَا: قالَ سُفْيَانُ هاذَا مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أخرجُوا الْمُشْركين) ، فَإِن قلت: التَّرْجَمَة إِخْرَاج الْيَهُود والمشرك أَعم من الْيَهُود. قلت: إِنَّمَا ذكر الْيَهُود فِي التَّرْجَمَة لِأَن أَكْثَرهم يوحدون الله تَعَالَى، فَإِذا كَانَ هَؤُلَاءِ مستحقين الْإِخْرَاج فغيرهم من الْكفَّار أولى، وَمُحَمّد شيخ البُخَارِيّ، قَالَ الجياني: لم ينْسبهُ أحد من الروَاة، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ مُحَمَّد بن سَلام، وَقد ذكر فِي الْوضُوء: حَدثنَا ابْن سَلام حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة. قلت: لَا يلْزم من قَوْله فِي الْوضُوء: حَدثنَا ابْن سَلام عَن ابْن عُيَيْنَة أَن يكون هُنَا أَيْضا ابْن سَلام عَن ابْن عُيَيْنَة، لِأَنَّهُ قَالَ فِي عدَّة مَوَاضِع: عَن مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي عَن ابْن عُيَيْنَة وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث عَن الْحسن بن سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن خَلاد الْبَاهِلِيّ عَن ابْن عُيَيْنَة وَهُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب هَل يستشفع إِلَى أهل الذِّمَّة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة عَن ابْن عُيَيْنَة ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (قَالَ سُفْيَان) أَي: ابْن عُيَيْنَة، هَذَا من قَول سُلَيْمَان أَي: الْأَحول الْمَذْكُور فِيهِ. وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا أَمر بإخراجهم خوف التَّدْلِيس مِنْهُم. وَأَنَّهُمْ مَتى رَأَوْا عدوا قَوِيا صَارُوا مَعَه، كَمَا فعلوا برَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم الْأَحْزَاب.
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: فِيهِ: من الْفِقْه: أَن الشَّارِع بيَّن لأمته الْمُؤمنِينَ إِخْرَاج كل من دَان بِغَيْر دين الْإِسْلَام من كل بَلْدَة للْمُسلمين، سَوَاء كَانَت تِلْكَ الْبَلدة من الْبِلَاد الَّتِي أسلم أَهلهَا عَلَيْهَا أَو من بِلَاد العنوة إِذا لم يكن للْمُسلمين بهم ضَرُورَة إِلَيْهِم، مثل كَونهم عماراً لأراضيهم وَنَحْو ذَلِك. فَإِن قلت: كَانَ هَذَا خَاصّا بِمَدِينَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسَائِر جَزِيرَة الْعَرَب دون سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام، إِذْ لَو كَانَ الْكل فِي الحكم سَوَاء لَكَانَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَّن ذَلِك. قلت: قد ذكرنَا أَنه إِذا كَانَ للْمُسلمين ضَرُورَة إِلَيْهِم لَا يتَعَرَّض لَهُم، أَلا يرى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرّ يهود خَيْبَر بعد قهر الْمُسلمين إيَّاهُم لإعمار أرْضهَا للضَّرُورَة، وَكَذَلِكَ فعل الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي يهود خَيْبَر ونصارى نَجْرَان، وَكَذَلِكَ فعل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بنصارى الشَّام، فَإِنَّهُ أقرهم للضَّرُورَة إِلَيْهِم فِي عمَارَة الْأَرْضين، إِذا كَانَ الْمُسلمُونَ مشغولين بِالْجِهَادِ.

(15/90)


7 - (بابٌ إذَا غدَرَ المُشْرِكُونَ بالمُسْلِمينَ هَلْ يُعْفَى عَنْهُمْ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا غدر الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين، والغدر ضد الْوَفَاء، والغدر: الْخِيَانَة، والغدر نقض الْعَهْد، وَلم يذكر جَوَاب الِاسْتِفْهَام لأجل الِاخْتِلَاف فِي معاقبة الْمَرْأَة الَّتِي أَهْدَت الشَّاة المسمومة.

9613 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني سَعِيدٌ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شاةُ فِيها سُمٌ

فَقال النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْمَعُوا إلَيَّ مَنْ كانَ هاهُنا مِنْ يَهُودَ فَجُمِعُوا لَهُ فَقال لَهُمْ إنِّي سائِلُكُمْ عنْ شَيْءٍ فهَلْ أنْتُمْ صادِقَيَّ عَنْهُ فَقالوا نَعَمْ قالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أبُوكُمْ قَالُوا فُلانٌ فَقال كذَبْتُمْ بَلْ أبُوكُمْ فُلانٌ قَالُوا صَدَقْتَ قَالَ فَهَلْ أنْتُمْ صادِقيَّ عنْ شَيءٍ إنْ سألْتُ عَنْهُ فَقالُوا نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ وإنْ كَذَبْنا عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أبِينَا فَقَالَ لَهُمْ منْ أهْلُ النَّارِ قالُوا نَكُونُ فِيهَا يَسيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْسَئُوا فِيها وَالله لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيها أبَدَاً ثُمَّ قالَ هَلْ أنْتُمْ صادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إنْ سألْتُكُمْ عنْهُ فَقَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا القَاسِمِ قَالَ هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمَّاً قَالُوا نَعَمْ قَالَ مَا حَمَلَكُمْ علىَ ذالِكَ قَالُوا أرَدْنَا إنْ كُنْتَ كاذِباً نَسْتَرِيحُ وإنْ كُنْتَ نَبِيَّاً لَمْ يَضُرَّكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُشْركين من أهل خَيْبَر غدروا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأهدوا لَهُ على يَد امْرَأَة شَاة مَسْمُومَة فَعَفَا عَنْهَا أَو قَتلهَا، فِيهِ خلاف على مَا نذكرهُ الْآن.
وَسَعِيد هُوَ المَقْبُري.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عبد الله بن يُوسُف أَيْضا، وَفِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه مُسلم عَن أنس: أَن امْرَأَة يَهُودِيَّة أَتَت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَاة مَسْمُومَة فَأكل مِنْهَا، فجيء بهَا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهَا عَن ذَلِك، فَقَالَت: أردْت لأقتلك! فَقَالَ: مَا كَانَ الله لِيُسَلِّطك على ذَلِك، قَالَ، أَو قَالَ: عَليّ. قَالَ: قَالُوا: أَلا نقتلها؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَا زلت أعرفهَا فِي لَهَوَات رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أهديت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاة) ، وَكَانَ الَّذِي أَتَى بهَا امْرَأَة يَهُودِيَّة، صرح بذلك فِي (صَحِيح مُسلم) وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : وَهَذِه الْمَرْأَة الْيَهُودِيَّة الفاعلة للسم اسْمهَا زَيْنَب بنت الْحَارِث أُخْت مرحب الْيَهُودِيّ. قلت كَذَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيّ عَن الزُّهْرِيّ، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهَا: مَا حملك على هَذَا؟ قَالَت: قتلت أبي وَعمي وَزَوْجي وَأخي، قَالَ مُحَمَّد: فَسَأَلت إِبْرَاهِيم بن جَعْفَر عَن هَذَا فَقَالَ: أَبوهَا الْحَارِث، وعمها بشار وَكَانَ أجبن النَّاس وَهُوَ الَّذِي أنزل من الرف، وأخوها زبير، وَزوجهَا سَلام بن مشْكم. قَوْله: (سم) ، بِفَتْح السِّين وَضمّهَا وَكسرهَا، ثَلَاث لُغَات وَالْفَتْح أفْصح، وَجمعه: سمام وسموم. قَوْله: (صادقي) بتَشْديد الْيَاء لِأَن أَصله: صَادِقُونَ، فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم وَسَقَطت النُّون وقلبت الْوَاو يَاء أدغمت الْيَاء فِي الْيَاء. قَوْله: (ثمَّ تخلفونا فِيهَا) ، أَي: فِي النَّار، وأصل تخلفونا: تخلفوننا، فإسقاط النُّون من غير جازم وَلَا ناصب لُغَة، وَهُوَ من خلف يخلف إِذا قَامَ مقَام غَيره، وَالْخلف بتحريك اللاَّم وسكونها كل من يَجِيء بعده من مضى، إلاَّ أَنه بِالتَّحْرِيكِ فِي الْخَيْر، وبالسكون فِي الشَّرّ، يُقَال: خلف صدق، وَخلف سوء. قَوْله: (اخْسَئُوا) ، زجر لَهُم بالطرد والإبعاد أَو دعاءٌ عَلَيْهِم بذلك، وَيُقَال لطرد الْكَلْب: إخسأ.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَاخْتلفت الْآثَار وَالْعُلَمَاء: هَل قَتلهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَا؟ فَوَقع فِي (مُسلم) : أَنهم قَالُوا: ألاَ نقتلها؟ قَالَ: لَا، وَمثله عَن أبي هُرَيْرَة وَجَابِر، وَعَن جَابر من رِوَايَة أبي سَلمَة: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتلهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَفعهَا إِلَى أَوْلِيَاء بشر بن الْبَراء بن معْرور، وَكَانَ أكل مِنْهَا فَمَاتَ بهَا فَقَتَلُوهَا، وَقَالَ ابْن سَحْنُون: أجمع أهل الحَدِيث أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتلهَا، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد. فَأمر بهَا فقتلت، وَفِي لفظ: قَتلهَا وصلتها وَفِي (جَامع معمر) عَن الزُّهْرِيّ: لما أسلمت تَركهَا. قَالَ معمر: كَذَا

(15/91)


قَالَ الزُّهْرِيّ: أسلمت، وَالنَّاس يَقُولُونَ: قَتلهَا، وَأَنَّهَا لم تسلم. وَقَالَ السُّهيْلي: قيل: إِنَّه صفح عَنْهَا. قَالَ القَاضِي: وَجه الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات والأقاويل أَنه لم يَقْتُلهَا إلاَّ حِين اطلع على سحرها، وَقيل لَهُ: اقتلها، فَقَالَ: لَا، فَلَمَّا مَاتَ بشر بن الْبَراء من ذَلِك سلمهَا لأوليائه فَقَتَلُوهَا قصاصا، فصح قَوْلهم: لم يَقْتُلهَا أَي: فِي الْحَال، وَيصِح قَوْلهم: قَتلهَا أَي: بعد ذَلِك وَالله أعلم.
وَفِيه: أَن الإِمَام مَالِكًا احْتج بِهِ على أَن الْقَتْل بالسم كَالْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ الَّذِي يُوجب الْقصاص، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَا قصاص فِيهِ. وَفِيه: الدِّيَة على الْعَاقِلَة، قَالُوا: وَلَو دسه فِي طَعَام أَو شراب لم يكن عَلَيْهِ شَيْء وَلَا على عَاقِلَته، وَقَالَ الشَّافِعِي: إِذا فعل ذَلِك وَهُوَ مكره فَفِيهِ قَولَانِ فِي وجوب الْقود أصَحهمَا: لَا. وَفِيه: معْجزَة ظَاهِرَة لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، حَيْثُ لم يُؤثر فِيهِ السم، وَالَّذِي أكل مَعَه مَاتَ. وَفِيه: أَن السم لَا يُؤثر بِذَاتِهِ بل بِإِذن الرب، جلّ جَلَاله، ومشيئته، ألاَ تَرَى أَن السم أثر فِي بشر وَلم يُؤثر فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَلَو كَانَ يُؤثر بِذَاتِهِ لأثر فيهمَا فِي الْحَال، وَالله أعلم.