عمدة القاري شرح صحيح البخاري

7 - (بابُ ذِكْرِ إدْرِيسَ علَيْهِ السَّلاَمُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر إِدْرِيس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد سقط هَذَا الْبَاب فِي رِوَايَة أبي ذَر.
وهُوَ جَدُّ أبِي نُوحٍ ويُقالُ جَدُّ نُوحٍ علَيْهِمَا السَّلامُ
أَي: إِدْرِيس جد أبي نوح، لِأَن نوحًا ابْن لمك بن متوشلخ بن خنوخ وَهُوَ إِدْرِيس. قَوْله: (وَيُقَال جد نوح) ، هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن جد نوح هُوَ متوشلخ، أللهم إِلَّا إِذا أطلق على جد أبي نوح، فَإِنَّهُ جد نوح مجَازًا، وَهَذَا لَيْسَ بموجود فِي غَالب النّسخ.
وقَوْلِ الله تَعَالَى {ورَفَعْنَاهُ مَكاناً عَلِيّاً} (مَرْيَم: 75) .
وَقَول الله، مجرور عطفا على: ذكر إِدْرِيس، أَي: وَفِي بَيَان ذكر قَول الله تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عليا} (مَرْيَم: 75) . أَي: رفعنَا إِدْرِيس مَكَانا عليا وَهُوَ السَّمَاء الرَّابِعَة، وَاسْتشْكل بَعضهم بِأَن غَيره من الْأَنْبِيَاء أرفع مَكَانا مِنْهُ، وَهَذَا الاستشكال لَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ لم يذكر أَنه أَعلَى من كل أحد. وَأجَاب بَعضهم: بِأَن المُرَاد مِنْهُ أَنه لم يرفع إِلَى السَّمَاء من هُوَ حَيّ غَيره، ورد بِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَيْضا قد رفع وَهُوَ حَيّ؟ قلت: هَذَا الرَّد موجه على القَوْل الصَّحِيح بِأَنَّهُ رفع وَهُوَ حَيّ، وَأما على قَول من يَأْخُذ بِظَاهِر قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي متوفيك ورافعك إليَّ} (آل عمرَان: 55) . لَا يرد الرَّد الْمَذْكُور.

2433 - قَالَ عَبْدَانُ أخْبرَنَا عبْدُ الله أخْبَرَنَا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ حدَّثنا أحْمَدُ بنُ صالِحٍ حَدثنَا عَنْبَسَةُ حدَّثَنَا يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ أنسٌ كانَ أبُو ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يُحَدَّثُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وأنَا بِمَكَّةَ فنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِىءٍ حِكْمَةً وإيِمَانَاً فأفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أطْبَقَهُ ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي فعَرَجَ بِي إِلَى السَّماءِ فلَمَّا جاءَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ قَالَ مَنْ هاذَا قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ قَالَ مَعَكَ أحَدٌ قَالَ مَعِي مُحَمَّدٌ قَالَ أُرْسِلَ إلَيْهِ قَالَ نَعَمْ فافْتَحْ فلَمَّا علَوْنَا السَّمَاءَ إذَا رَجُلٌ عنْ يَمِينِهِ أسْوِدَةٌ وعنْ يَسَارِهِ أسْوِدَةٌ فإذَا نظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وإذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى فَقَالَ مَرحَبَاً

(15/224)


بالنَّبيِّ الصَّالِحِ والإبْنِ الصَّالِحِ قُلْتُ منْ هاذَا يَا جِبرِيلُ قَالَ هَذَا آدَمُ وهَذِهِ الأسْوِدَةُ عنْ يَمِينِه وعَنْ شِمالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ فأهْلُ اليَمِينِ مِنْهُمْ أهْلُ الجَنَّةِ والأسْوِدَةُ الَّتِي عنْ شِمَالِهِ أهْلُ النَّارِ فإذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وإذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ حتَّى أتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لِخَازِنِهَا افْتَحْ فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُ فَفَتَحَع قَالَ أنَسٌ فذَكَرَ أنَّهُ وَجَدَ فِي السَّماوَاتِ آدَمَ وإدْرِيسَ وَمُوساى وعِيسَى وإبْرَاهِيمَ ولَمْ يُثْبِتْ لِي كَيْفَ مَنازِلُهُمْ غَيْرَ أنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أنَّهُ وجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وإبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ: وَقَالَ أنَسٌ فلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بإدْرِيسَ قَالَ مَرْحَباً بالنَّبِيِّ الصَّالِحِ والأخِ الصَّالِحِ فقُلْتُ مَنْ هاذَا قَالَ هاذَا إدْرِيسُ ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فقالَ مَرْحَبَاً بالنَّبِيِّ الصَّالِحِ والأخِ الصَّالِحِ قُلْتُ منْ هاذَا قَالَ هَذَا مُوساى ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى فَقَالَ مَرْحَبَاً بالنَّبِيِّ الصَّالِحِ والأخِ الصَّالِحِ قُلْتُ مَنْ هاذا قَالَ عِيساى ثُمَّ مَرَرْتُ بإبْرَاهِيمَ فقالَ مَرْحَباً بالنَّبيِّ الصَّالِحِ والإبنِ الصَّالِحِ قُلْتُ مَنْ هاذَا قَالَ هَذَا إبْرَاهِيمُ قَالَ وأخْبَرَني ابنُ حَزْمٍ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ وأبَا حَبَّةَ الأنْصَارِيَّ كانَا يَقُولاَنِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ عُرِجَ بِي حتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أسْمَعُ صَرِيفَ الأقْلاَمِ: قَالَ ابنُ حَزْمٍ وأنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَفَرَضَ الله عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاَةً فرَجِعْتُ بِذَلِكَ حتَّى أمُرَّ بِمُوسَى فَقَالَ لِي مُوسَى مَا الَّذِي فُرِضَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ فُرِضَ علَيْهِمْ خَمْسِينَ صلاَةً قَالَ فَرَاجِعْ رَبَّكَ فإنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ رَبِّي فوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ فذَكَرَ مِثْلَهُ فوَضَعَ شَطْرَهَا فرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فأخْبَرْتُهُ فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ فإنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ فرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَقَالَ هِيَ خَمْسٌ وَهْيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ راجِعْ رَبَّكَ فقُلْتُ قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي ثُمَّ انْطَلَقَ حتَّى أَتَى السِّدْرَةَ المُنْتَهَى فغَشِيَهَا ألْوَانٌ لَا أدْرِي مَا هِي ثُمَّ أُدْخِلْتُ فَإذَا فِيهَا جَنابِذُ اللُّؤْلُؤِ وإذَا تُرَابُهَا المِسْكُ. (انْظُر الحَدِيث 943 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَمَّا مر جِبْرِيل بِإِدْرِيس) وَكَذَلِكَ فِي قَوْله: (وجد فِي السَّمَوَات إِدْرِيس) . وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي أول كتاب الصَّلَاة من طَرِيق وَاحِد عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن أنس بن مَالك، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَر يحدث ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن عَبْدَانِ، وَلكنه قَالَ: قَالَ عَبْدَانِ، بِالتَّعْلِيقِ هَكَذَا وَقع فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا عَبْدَانِ، وَهُوَ لقب عبد الله بن عُثْمَان، وَقد مر غير مرّة عَن عبد الله ابْن الْمُبَارك عَن يُونُس بن يزِيد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الطَّرِيق الثَّانِي: عَن أَحْمد بن صَالح بِالتَّحْدِيثِ، وَهُوَ أَحْمد ابْن صَالح أَبُو جَعْفَر الْمصْرِيّ عَن عَنْبَسَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة: ابْن خَالِد، سمع عَمه يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره. وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى. قَوْله: (أَسْوِدَة) ، جمع السوَاد، وَهُوَ الشَّخْص. قَوْله: (نسم بنيه) ، النسم، بِفَتْح النُّون وَالسِّين الْمُهْملَة: جمع نسمَة وَهِي النَّفس.
وَابْن حزم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي: هُوَ أَبُو بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم الْأنْصَارِيّ، وَأَبُو حَبَّة بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة وَهُوَ الْمَشْهُور، وَقَالَ الْقَابِسِيّ بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وغلطوه فِي ذَلِك، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ، بالنُّون، وَاخْتلف فِي اسْمه فَقيل: فَقَالَ أَبُو زرْعَة: عَامر، وَقيل: عَمْرو، وَقيل: ثَابت، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مَالك. قَوْله: (لمستوًى) ، ويروى: (بمستوى) ، بِفَتْح الْوَاو أَي: مصعداً. قَوْله: (حَتَّى أَتَى السِّدْرَة) ، ويروى: (حَتَّى أَتَى بِي السِّدْرَة) ، ويروى: (حَتَّى أَتَى إِلَى السِّدْرَة) . قَوْله: (ثمَّ أدخلت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: أدخلت الْجنَّة، ويروى: (بأظهار الْجنَّة) ، وَالله أعلم.

6 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {وَإِلَى عَاد أخاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله} (هود: 05) . الْآيَة)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى فِي بَيَان إرْسَال هود، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى قوم عَاد. وَهود هُوَ ابْن عبد الله بن رَبَاح بن خُلُود بن عَاد بن عوص بن أرم بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَه قَتَادَة، وَقَالَ مُجَاهِد: هود بن عَابِر بن شالخ بن إرفخشذ ابْن سَام بن نوح، وَقيل: هود بن عبد الله بن جاون ... إِلَى آخِره مثل الأول، وَقَالَ ابْن هِشَام: هود اسْمه عَابِر، وَيُقَال: عبير بن إرفخشذ، وَيُقَال: انفخشذ بن سَام بن نوح، وَكَانَ هود أشبه ولد آدم بِآدَم خلا يُوسُف، وَكَانَت عَاد ثَلَاث عشرَة قَبيلَة ينزلون الرمل بالدور والدهناء وعالج ووبار ويبرين وعمان إِلَى حَضرمَوْت إِلَى الْيمن، وَكَانَت دِيَارهمْ أخصب الْبِلَاد، فَلَمَّا سخط الله

(15/225)


عَلَيْهِم جعلهَا مفاوز، وَكَانَ هود من قَبيلَة يُقَال لَهَا: عَاد بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وهم عَاد الأولى، وَكَانُوا عربا يسكنون فِي الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة، وَأرْسل الله تَعَالَى هوداً إِلَيْهِم وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هوداً} (هود: 05) . أَي: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَاد أَخَاهُم هوداً. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَخَاهُم وَاحِدًا مِنْهُم، وَقَالَ مقَاتل: أخوهم فِي النّسَب لَا فِي الدّين، وَكَانَ عَاد الَّذِي تسمت الْقَبِيلَة بِهِ ملكهم وَكَانَ يعبد الْقَمَر وَطَالَ عمره، فَرَأى من صلبه أَرْبَعَة آلَاف ولد، وَتزَوج ألف امْرَأَة، وَهُوَ أول من ملك الأَرْض بعد نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وعاش ألف سنة، ومائتي سنة، وَلما مَاتَ انْتقل الْملك إِلَى أكبر وَلَده وَهُوَ: شَدِيد بن عَاد، فَأَقَامَ خَمْسمِائَة سنة وَثَمَانِينَ سنة، ثمَّ مَاتَ فانتقل الْملك إِلَى أَخِيه شَدَّاد بن عَاد وَهُوَ الَّذِي بنى إرم ذَات الْعِمَاد، وَكَانَت قبائل عَاد الَّتِي تسمت بِهِ قد ملكوا الأَرْض بقوتهم وافتخروا {وَقَالُوا: من أشدُّ مِنَّا قوَّة} (فصلت: 51) . فَلَمَّا كثر طغيانهم بعث الله إِلَيْهِم هوداً وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى عَاد أَخَاهُم هوداً قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إِلَه غَيره إِن أَنْتُم إلاَّ مفترون} (فصلت: 51) . يَعْنِي: تفترون على الله الْكَذِب باتخاذكم الْأَوْثَان لَهُ شُرَكَاء.
وقَوْلِهِ {إذْ أنْذَرَ قَوْمَهُ بالأحْقَافِ} إِلَى قَوْلِهِ {كذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (الْأَحْقَاف: 12 52) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: قَول الله تَعَالَى، وأوله: {وَاذْكُر أَخا عَاد إِذْ أنذر قومه بالأحقاف وَقد خلت النّذر من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه أَلا تعبدوا إلاَّ الله إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم. قَالُوا أجئتنا لتأفكنا عَن آلِهَتنَا فاتنا بِمَا تعدنا إِن كنت من الصَّادِقين قَالَ إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله وأبلغكم مَا أرْسلت بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُم قوما تجهلون فَلَمَّا رَأَوْهُ عارضاً مُسْتَقْبل أَوْدِيَتهمْ قَالُوا هَذَا عَارض مُمْطِرنَا بل هُوَ مَا استعجلتم بِهِ ريح فِيهِ عَذَاب إليم تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا فَأَصْبحُوا لَا ترى إلاَّ مساكنهم كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين} (الْأَحْقَاف: 12 52) . قَوْله: (وَاذْكُر) يَعْنِي: يَا مُحَمَّد. قَوْله: (أَخا عَاد) أَي: فِي النّسَب لَا فِي الدّين. قَوْله: (بالأحقاف) جمع حقف، بِكَسْر الْحَاء: وَهُوَ رمل مستطيل مُرْتَفع فِيهِ اعوجاج، من احقوقف الشَّيْء إِذا اعوجَّ، وَعَن ابْن عَبَّاس: الْأَحْقَاف وَاد بَين عمان ومهرة، وَعَن مقَاتل: كَانَ منَازِل عَاد بِالْيمن فِي حَضرمَوْت بِموضع يُقَال لَهَا مهرَة، إِلَيْهَا تنْسب الْجمال المهرية، وَعَن الضَّحَّاك: الْأَحْقَاف جبال بِالشَّام، وَعَن مُجَاهِد: هِيَ أَرض حسمى، وَعَن قَتَادَة: ذكر لنا أَن عاداً كَانُوا حَيا بِالْيمن أهل رمال مشرفين على الْبَحْر بِأَرْض من بِلَاد الْيمن يُقَال لَهَا: الشحر، وَعَن الْخَلِيل: هِيَ الرمال الْعِظَام، وَعَن الْكَلْبِيّ: أحقاف الْجَبَل مَا نصب عَلَيْهِ المَاء زمَان الْغَرق كَانَ ينضب المَاء وَيبقى أَثَره. قَوْله: (النّذر) ، جمع نَذِير بِمَعْنى مُنْذر قَوْله: (من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه) الْمَعْنى: مَضَت المنذرون من بَين يَدَيْهِ، أَي: من قبل هود، وَمن خَلفه، وَالْمعْنَى: أَن الرُّسُل الَّذين بعثوا قبله وَالَّذين بعثوا فِي زَمَانه وَالَّذين يبعثون بعده كلهم منذرون نَحْو إنذاره. قَوْله: (أَلا تعبدوا) ، يَعْنِي: إِنْذَارهم بقَوْلهمْ أَلا تعبدو إلاَّ الله وَحده لَا شريك لَهُ. قَوْله: (إِنِّي أَخَاف) يَعْنِي: إِنْذَارهم بقَوْلهمْ أَلا تعبدوا إلاَّ الله وَحده لَا شريك لَهُ. قَوْله: (إِنِّي أَخَاف) إِلَى آخر الْآيَة كَلَام هود. قَوْله: (قَالُوا) أَي: قوم هود. قَوْله: (لتأفكنا) أَي: لتصرفنا عَن آلِهَتنَا إِلَى دينك، وَهَذَا لَا يكون. قَوْله: (فاتنا) خطاب لهود أَي: هَات لنا من الْعَذَاب الَّذِي توعدنا بِهِ على الشّرك إِن كنت من الصَّادِقين فِيمَا تَقول. قَوْله: (قَالَ) ، أَي: هود، إِنَّمَا الْعلم عِنْد الله بِوَقْت مَجِيء الْعَذَاب لَا عِنْدِي، وأبلغكم مَا أرْسلت بِهِ، أَي: الَّذِي أمرت بتبليغه إِلَيْكُم وَلَيْسَ فِيهِ تعْيين وَقد الْعَذَاب، وَلَكِنَّكُمْ جاهلون لَا تعلمُونَ أَن الرُّسُل لم يبعثوا إلاَّ منذرين لَا معترضين، وَلَا سائلين غير مَا أذن لَهُم فِيهِ. قَوْله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أَي: فَلَمَّا رَأَوْا مَا يوعدون بِهِ قَالُوا: هَذَا عَارض، أَي: سَحَاب عرض فِي أفق السَّمَاء بمطر لنا مِنْهُ، قَالَ هود: بل هُوَ مَا استعجلتم بِهِ، هِيَ ريح فِيهَا عَذَاب أَلِيم تدمر، أَي: تهْلك كل شَيْء من نفوس عَاد وَأَمْوَالهمْ بِإِذن رَبهَا قَوْله: (فَأَصْبحُوا لَا تُرى) قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَيَعْقُوب: ترى، بِضَم التَّاء وَرفع: مساكنهم، قَالَ الْكسَائي: مَعْنَاهُ: لَا ترى شَيْء إلاَّ مساكنهم، وَقَالَ الْفراء: لَا ترى النَّاس لأَنهم كَانُوا تَحت الرمل، وَإِنَّمَا ترى مساكنهم لِأَنَّهَا قَائِمَة. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْح التَّاء وَنصب: مساكنهم، على معنى: لَا ترى يَا مُحَمَّد إلاَّ مساكنهم قَوْله: (كَذَلِك نجزي الْقَوْم الْمُجْرمين) أَي: من أجرم مثل جرمهم، وَهَذَا تحذير لمشركي الْعَرَب.
ومختصر قصَّة هود: أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما دَعَا على قومه أرسل الله الرّيح عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوماً أَي: متتابعة، أَي ابتدأت غدْوَة الْأَرْبَعَاء وسكنت فِي آخر الثَّامِن،

(15/226)


وَاعْتَزل هود وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ فِي حَظِيرَة لَا يصيبهم مِنْهَا إلاَّ مَا يلين الْجُلُود وتلذ النُّفُوس، وَعَن مُجَاهِد: كَانَ قد آمن مَعَه أَرْبَعَة آلَاف، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وَلما جَاءَ أمرنَا نجينا هوداً وَالَّذين آمنُوا مَعَه} (هود: 85) . فَكَانَت الرّيح تقلع الشّجر وتهدم الْبيُوت وَمن لم يكن مِنْهُم فِي بَيته أهلكته فِي البراري وَالْجِبَال. وَقَالَ السّديّ: لما رَأَوْا أَن الْإِبِل وَالرِّجَال تطير بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فِي الْهَوَاء تبَادرُوا إِلَى الْبيُوت فَلَمَّا دخلواها دخلت الرّيح وَرَاءَهُمْ فأخرجتهم مِنْهَا ثمَّ أهلكتهم، ثمَّ أرسل الله عَلَيْهِم طيراً سُودًا فنقلتهم إِلَى الْبَحْر فألقتهم فِيهِ. ثمَّ إِن هوداً، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَقِي بعد هَلَاك قومه مَا شَاءَ الله ثمَّ مَاتَ وعمره مائَة وَخَمْسُونَ سنة، وَحكى الْخَطِيب عَن ابْن عَبَّاس أَنه عَاشَ أَرْبَعمِائَة وَسِتِّينَ سنة، وَكَانَ بَينه وَبَين نوح ثَمَانمِائَة وَسِتِّينَ سنة.
وَاخْتلفُوا: فِي أَي مَكَان توفّي؟ فَقيل: بِأَرْض الشحر من بِلَاد حَضرمَوْت وقبره ظَاهر هُنَاكَ ذكره ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) ، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن ساباط: بَين الرُّكْن وَالْمقَام وزمزم قبر تِسْعَة وَتِسْعين نَبيا، وَأَن قبر هود وَشُعَيْب وَصَالح وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي تِلْكَ الْبقْعَة، وَقيل: بِجَامِع دمشق فِي حَائِط الْقبْلَة، يزْعم بعض النَّاس أَنه قبر هود، وَالله أعلم. وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: لم يكن بَين نوح وَإِبْرَاهِيم من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، إلاَّ هود وَصَالح.
فِيهِ عنْ عَطَاءٍ وسُلَيْمَانَ عنْ عَائِشَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: فِي هَذَا الْبَاب رُوِيَ عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق البُخَارِيّ فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أرسل الرِّيَاح} (الْفرْقَان: 84) . عَن مكي بن إِبْرَاهِيم عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... الحَدِيث. قَوْله: (وَسليمَان) ، أَي: وَعَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عَائِشَة، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق فِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْقَاف، وَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن وهب أخبرنَا عَمْرو أَن أَبَا النَّضِير حَدثهُ عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضَاحِكا حَتَّى أرى مِنْهُ لهواته ... الحَدِيث.

9 - (بابُ قَوْلِ الله عزَّ وجلَّ {وأمَّا عادٌ فأُهْلِكُوا بِريحٍ صَرْصَرٍ} شَدِيدَةٍ {عَاتِيَةٍ} (الحاقة: 8) . قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ عَتَتْ عَلى الخُزَّانِ سَخَّرَهَا علَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وثَمَانِيَةَ أيَّامٍ حُسومَاً مُتَتَابِعَةً فتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كأنَّهُمْ أعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ أُصُولُها فَهلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ بَقِيَّةٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْسِير قَول الله تَعَالَى: {وَأما عَاد فأهلكوا برِيح صَرْصَر عَاتِيَة. سخرها عَلَيْهِم سبع لَيَال وَثَمَانِية أَيَّام حسوماً فترى الْقَوْم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل خاوية فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة} (الحاقة: 8 01) . قَوْله: (وَأما عَاد) عطف على مَا قبله، وَهُوَ قَوْله: {فَأَما ثَمُود فأهلكوا بالطاغية} (الحاقة: 7) . وقصة عَاد مرت فِي الْبَاب السَّابِق، وَقد فسر البُخَارِيّ: الصرصر بقوله: شَدِيدَة عَاتِيَة، وعاتية من عتا يعتو عتواً إِذا جَاوز الْحَد فِي الشَّيْء، وَمِنْه العاتي: وَهُوَ الَّذِي جَاوز الْحَد فِي الاستكبار. قَوْله: (قَالَ ابْن عُيَيْنَة) أَي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَتَتْ أَي الرّيح على الْخزَّان، بِضَم الْخَاء جمع خَازِن وهم الْمَلَائِكَة الموكلون بِالرِّيحِ، يَعْنِي: عَتَتْ عَلَيْهِم فَلم تطعهم وجاوزت الْمِقْدَار، وَقيل: عَتَتْ على خزانها فَخرجت بِلَا كيل وَلَا وزن، وَعَن عَبَّاس: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا أرسل الله تَعَالَى نسمَة من ريح إلاَّ بِمِكْيَال، وَلَا قَطْرَة من مطر إلاَّ بِمِكْيَال إلاَّ يَوْم عَاد وَيَوْم نوح طغت على الْخزَّان فَلم يكن لَهُم عَلَيْهَا سَبِيل) وَقيل: الصرصر شَدِيد الصَّوْت لَهَا صرصرة، وَقيل: ريح صَرْصَر بَارِدَة من الصر كَأَنَّهَا الَّتِي كرر فِيهَا الْبرد وَكثر فَهِيَ تحرق بِشدَّة بردهَا. قَوْله: (سخرها) ، يَعْنِي أرسلها وسلطها عَلَيْهِم، والتسخير اسْتِعْمَال الشَّيْء بالاقتدار. قَوْله: (حسوماً) ، فسره البُخَارِيّ بقوله: متتابعة، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ الضَّحَّاك: كَامِلَة لم تفتر عَنْهُم حَتَّى افنتهم، وَقَالَ عَطِيَّة: حسوماً كَأَنَّهَا حسمت الْخَبَر عَن أَهلهَا. وَقَالَ الْخَلِيل: قطعا لدابرهم، والحسم الْقطع وَالْمَنْع، وَمِنْه حسم الرَّضَاع، وَقَالَ النَّضر ابْن شُمَيْل: حسمهم قطعهم، وانتصاب حسوماً على الْحَال، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الحسوم إِمَّا جمع حاسم كشهود جمع شَاهد، وَإِمَّا مصدر كالكفور والشكور، فَإِن كَانَ جمعا يكون حَالا يَعْنِي: حاسمة، وَإِن كَانَ مصدرا يكون مَنْصُوبًا بِفعل مُضْمر أَي: يحسم حسوماً بِمَعْنى يستأصل استئصالاً، أَو يكون صفة كَقَوْلِك: ذَات حسومٍ أَو يكون مَفْعُولا لَهُ، أَي: سخرها عَلَيْهِم للِاسْتِئْصَال.

(15/227)


قَوْله: (فترى الْقَوْم فِيهَا) أَي: فِي تِلْكَ الْأَيَّام والليالي، وَقيل: فِي الرّيح، وَقيل: فِي بُيُوتهم. قَوْله: (صرعى) ، جمع: صريع، يَعْنِي: سَاقِطَة. قَوْله: (كَأَنَّهُمْ أعجاز نخل) ، أَي: جُذُوع نخل، وَقيل: أصُول نخل، وَهُوَ مَا يبْقى على الْمَكَان بعد قطع الْجذع. قَوْله: (خاوية) ، أَي: سَاقِطَة، وشبههم بأعجاز نخل لعظم أجسامهم، قيل: كَانَ طولهم اثْنَي عشر ذِرَاعا، وَقَالَ أَبُو حَمْزَة: طول كل رجل مِنْهُم كَانَ سبعين ذِرَاعا، وَعَن ابْن عَبَّاس: ثَمَانِينَ ذِرَاعا. وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: كَانَ أطولهم مائَة ذِرَاع وأقصرهم سِتِّينَ ذِرَاعا. وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: كَانَ رَأس أحدهم مثل الْقبَّة الْعَظِيمَة، وَكَانَ عين الرجل تفرخ فِيهَا السبَاع، وَكَذَلِكَ مناخرهم، وَقيل: خاوية خَالِيَة الْأَصْوَات من الْحَيَاة، وَقيل: خاوية من الأحشاء لِأَن الرّيح أخرجت مَا فِي بطونهم. قَوْله: (فَهَل ترى لَهُم من بَاقِيَة) أَي: من بَقِيَّة أَو من نفس بَاقِيَة؟ وَقيل: الْبَاقِيَة مصدر كالعاقبة أَي: فَهَل ترى لَهُم من بَقَاء؟ .

3433 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ حدَّثَنا شُعْبَةُ عنُ الحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ الْنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ نُصِرْتُ بالصَّبَا وأُهْلِكَتْ عادُ بالدَّبُّورِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَمُحَمّد بن عرْعرة بن البرند النَّاجِي السَّامِي الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ ابْن عتيبة مصغر عتبَة الْبَاب والْحَدِيث مضى فِي كتاب الاسْتِسْقَاء فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نصرت بالصبا، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسلم عَن شُعْبَة عَن الحكم ... إِلَى آخِره نَحوه. .

4433 - قَالَ وَقَالَ ابنُ كَثِير عنْ سُفْيانَ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ أبي نُعْم عنْ أبِي سَعيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ بَعَثَ عَلِيٌّ رَضِي الله تع الى عنهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذُهَيْبَةٍ فقَسَمَهَا بَيْنَ الأرْبَعَةِ الأقْرَعِ بنِ حابِسٍ الحَنْظَلِيِّ ثُمَّ المُجَاشِعِيِّ وعُيَيْنَةَ بنِ بَدْرِ الفَزَارِيِّ وزَيْدٍ الطَّائِيِّ ثُمَّ أحَدِ بَنِي نَبْهَانَ وعَلْقَمَةَ بنِ عُلاثَةَ العَامِرِيِّ ثُمَّ أحَدِ بَني كِلاَبٍ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ والأنْصَارُ قَالُوا يُعْطِي صَنادِيدَ أهْلِ نَجْدٍ ويَدَعُنَا قَالَ إنَّمَا أتألَّفُهُمْ فأقْبَلَ رَجُلٌ غائِرُ العَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ ناتِىءُ الجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ فَقَالَ اتَّقِ الله يَا مُحَمَّد فَقَالَ مَنْ يُطِعِ الله إذَا عَصَيْتُ أيَأْمَنُني الله على أهْلِ الأرْضِ فَلاَ تأمَنُونِي فسَألَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ أحْسبُهُ خالِدَ بنَ الوَلِيدِ فمَنَعَهُ بنَ الوَلِيدِ فمَنَعَهُ فلَمَّا وَلَّى قَالَ إنَّ مِنْ ضِئْضِئي هَذا أوْ فِي عِقْبِ هَذَا قَوْمٌ يَقْرَؤُن القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ الْسَّهْمِ مِنَ الْرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أهْلَ الإسْلاَمِ ويَدَعُونَ أهْلَ الأوْثَانِ لَئِنْ أَنا أدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عادٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لأقتلنهم قتل عَاد) . فَإِن قلت: كَيفَ الْمُطَابقَة وَعَاد أهلكوا برِيح صَرْصَر؟ قلت: التَّقْدِير: كَقَتل عَاد، والتشبيه لَا عُمُوم لَهُ، وَالْغَرَض مِنْهُ استئصالهم بِالْكُلِّيَّةِ كاستئصال عَاد، لِأَن الْإِضَافَة فِي قتل عَاد إِلَى الْمَفْعُول. فَإِن قلت: إِذا كَانَ من الْإِضَافَة إِلَى الْفَاعِل يكون المُرَاد الْقَتْل الشَّديد الْقوي، لأَنهم كَانُوا مشهورين بالشدة وَالْقُوَّة، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ المُرَاد استئصالهم بِأَيّ وَجه كَانَ وَلَيْسَ المُرَاد التَّعْيِين بِشَيْء.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: بن كثير ضد الْقَلِيل وَهُوَ مُحَمَّد بن كثير أَبُو عبد الله الْعَبْدي الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: أَبوهُ سعيد بن مَسْرُوق بن حبيب الثَّوْريّ الْكُوفِي. الرَّابِع: ابْن أبي نعم، بِضَم النُّون وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة: البَجلِيّ، وَاسم الابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو الحكم البَجلِيّ الْكُوفِي العابد، وَكَانَ من عباد أهل الْكُوفَة مِمَّن يصبر على الْجُوع الدَّائِم، أَخذه الْحجَّاج ليَقْتُلهُ وَأدْخلهُ بَيْتا ظلما وسد الْبَاب خَمْسَة عشر يَوْمًا، ثمَّ أَمر بِالْبَابِ فَفتح ليخرج ويدفن فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ قَائِم يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج: سر حَيْثُ شِئْت، وَأما اسْم أبي نعم فَمَا وقفت عَلَيْهِ. الْخَامِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، واسْمه: سعيد بن مَالك بن سِنَان الْأنْصَارِيّ.

(15/228)


ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن كثير مُخْتَصرا، وَفِي التَّوْحِيد بِتَمَامِهِ عَن قبيصَة بن عقبَة وَفِي التَّوْحِيد أَيْضا عَن إِسْحَاق بن نصر وَفِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن قُتَيْبَة بِهِ وَعَن هناد بن السّري وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة وَفِي التَّفْسِير عَن هناد بِهِ وَفِي الْمُحَاربَة عَن مَحْمُود بن غيلَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ) ، وَقَالَ ابْن كثير: أَي: قَالَ البُخَارِيّ: وَقَالَ مُحَمَّد بن كثير كَذَا روى هُنَا مُعَلّقا، وَرَوَاهُ فِي تَفْسِير سُورَة بَرَاءَة بقوله: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير، فوصله لكنه لم يسقه بِتَمَامِهِ، وَإِنَّمَا اقْتصر على طرف من أَوله، وَابْن كثير هَذَا هُوَ أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، روى عَنهُ فِي الْكتاب فِي مَوَاضِع، وروى مُسلم عَن عبد الله الدَّارمِيّ عَنهُ عَن أَخِيه حَدِيثا فِي الرُّؤْيَا. قَوْله: (بذهيبة) بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا أنثها على نِيَّة الْقطعَة من الذَّهَب، وَقد يؤنث الذَّهَب فِي بعض اللُّغَات، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: قيل: هُوَ تَصْغِير على اللَّفْظ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: بعث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ بِالْيمن بذهبة فِي تربَتهَا إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع نسخ بِلَادنَا: بذهبة، بِفَتْح الذَّال، وَكَذَا نَقله القَاضِي عَن جَمِيع رُوَاة مُسلم عَن الجلودي قَالَ: وَفِي رِوَايَة ابْن ماهان: بذهيبة، على التصغير. وَقَالَ ابْن قرقول: قَوْله: بعث بِذَهَب، كَذَا الرِّوَايَة عَن مُسلم عِنْد أَكثر شُيُوخنَا، وَيُقَال الذَّهَب يؤنث والمؤنث الثلاثي إِذا صغر ألحق فِي تصغيره الْهَاء نَحْو: فريسة وشميسة. قَوْله: (فَقَسمهَا بَين الْأَرْبَعَة) ، أَي: بَين أَرْبَعَة أنفس، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَقَسمهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أَرْبَعَة نفر. قَوْله: (الْأَقْرَع بن حَابِس) ، يجوز بِالرَّفْع والجر، أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: أحدهم الْأَقْرَع، وَأما الْجَرّ فعلى أَنه وَمَا بعده من الْمَعْطُوف بدل من: الْأَرْبَعَة، أَو بَيَان، والأقرع بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْقَاف وبالراء وبالعين الْمُهْملَة: ابْن حَابِس، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة: ابْن عقال بن مُحَمَّد بن سُفْيَان بن مجاشع الْمُجَاشِعِي الدَّارمِيّ، أحد الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم، قَالَ إِبْنِ إِسْحَاق الْأَقْرَع بن حَابِس التَّمِيمِي قدم على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ عُطَارِد بن حَاجِب فِي أَشْرَاف بني تَمِيم بعد فتح مَكَّة، وَقد كَانَ الْأَقْرَع بن حَابِس وعيينة بن حصن شَهدا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتح مَكَّة وحنيناً والطائف، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: اسْم الْأَقْرَع فراس. وَفِي (التَّوْضِيح) بِخَط مَنْصُور بن عُثْمَان الخابوري: الصَّوَاب حُصَيْن، وَقَالَ أَبُو عمر فِي بَاب الْفَاء من (الِاسْتِيعَاب) : فراس بن حَابِس، أَظُنهُ من بني العنبر، قدم على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي وَفد بني تَمِيم. وَفِي (التَّوْضِيح) فِي كتاب (لطائف المعارف) لأبي يُوسُف: كَانَ الْأَقْرَع أَصمّ مَعَ قرعه وعوره. وَفِي (الْكَامِل) : كَانَ فِي صدر الْإِسْلَام سيد خندف، وَكَانَ مَحَله فِيهَا مَحل عُيَيْنَة بن حصن فِي قيس، وَقَالَ المرزباني: هُوَ أول من حرم الْقمَار، وَكَانَ يحكم فِي كل موسم، وَقَالَ الجاحظ فِي كتاب (العرجان) : إِنَّه كَانَ من أَشْرَافهم وَأحد الفرسان الْأَشْرَاف، ساير رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرجعه من فتح مَكَّة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانَ أعرج الرِّجل الْيُسْرَى، قتل باليرموك سنة ثَلَاث عشرَة مَعَ عشرَة من بنيه، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: اسْتَعْملهُ عبد الله بن عَامر بن كريز على جَيش أنفذه إِلَى خُرَاسَان فأصيب بالجوزجان. قَوْله: (الْحَنْظَلِي ثمَّ الْمُجَاشِعِي) الْحَنْظَلِي: نِسْبَة إِلَى حنظل بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم، والمجاشعي: نِسْبَة إِلَى مجاشع ابْن دَامَ بن مَالك بن حَنْظَلَة بن مَالك بن زيد مَنَاة بن تَمِيم. قَوْله: (وعيينة بن بدر) ، أَي: الثَّانِي من الْأَرْبَعَة: عُيَيْنَة مصغر عينة ابْن بدر، وَفِي مُسلم: عُيَيْنَة بن حصن. قلت: بدر جده وحصن أَبوهُ، فَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ ذكره مَنْسُوبا إِلَى جده، وَفِي رِوَايَة مُسلم ذكره مَنْسُوبا إِلَى أَبِيه حصن بن بدر بن عَمْرو بن حويرثة بن لوذان بن ثَعْلَبَة بن عدي بن فَزَارَة بن ذبيان بن بغيض بن ريث ابْن غطفان. قَوْله: (الْفَزارِيّ) ، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي وبالراء: نِسْبَة إِلَى فَزَارَة الْمَذْكُورَة فِي نسبه. وَفِي (التَّوْضِيح) : عُيَيْنَة اسْمه حُذَيْفَة بن حصن بن حُذَيْفَة بن بدر، ولقب عُيَيْنَة لِأَنَّهُ طعن فِي عينه، وكنيته أَبُو مَالك، أسلم قبل الْفَتْح وارتد مَعَ طليحة بن خويلد، وَقَاتل مَعَه وَتزَوج عُثْمَان بابنته، وَهُوَ عريق فِي الرياسة، وَهُوَ الْمَقُول فِيهِ: الأحمق المطاع. قَوْله: (وَزيد الطَّائِي) وَفِي مُسلم: وَزيد الْخَيْر الطَّائِي ثمَّ أحد بني نَبهَان، قَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ فِي هَذِه الرِّوَايَة: زيد الْخَيْر الطَّائِي، كَذَا هُوَ فِي جَمِيع النّسخ: الْخَيْر، بالراء، وَقَالَ فِي رِوَايَة: زيد الْخَيل، بِاللَّامِ وَكِلَاهُمَا صَحِيح، يُقَال بِالْوَجْهَيْنِ كَانَ يُقَال لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة: زيد الْخَيل، فَسَماهُ رَسُول الله،

(15/229)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: زيد الْخَيْر، لِأَنَّهُ لم يكن فِي الْعَرَب أَكثر من خيله، وَقَالَ أَبُو عبيد: وَكَانَ لَهُ شعر وخطابة وشجاعة وكرم، توفّي لما انْصَرف من عِنْد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحمى، وَقيل: توفّي فِي آخر خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ أَبُو عمر: زيد الْخَيل هُوَ زيد بن مهلهل بن زيد بن منْهب الطَّائِي، قدم على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة تسع، وَسَماهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: زيد الْخَيْر، وأقطع لَهُ أَرضين فِي ناحيته، يكنى أَبَا مُنْذر. وَفِي كتاب أبي الْفرج: توفّي بِمَاء الْحرم يُقَال لَهُ فردة، وَقيل: لما دخل على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طرح لَهُ متكأ فأعظم أَن يتكيء عَلَيْهِ بَين يَدي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَرده فَأَعَادَهُ ثَلَاثًا، وَعلمه دعوات كَانَ يَدْعُو بهَا فَيعرف بهَا الْإِجَابَة ويستسقي فيسقى، وَقَالَ: يَا رَسُول الله! أَعْطِنِي مائَة فَارس أغزو بهم على الرّوم، فَلم يلبث بعد انْصِرَافه إلاَّ قَلِيلا حَتَّى حُمَّ وَمَات، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة أسر عَامر بن الطُّفَيْل وجز ناصيته ثمَّ أعْتقهُ، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: وَكَانَ لَا يدْخل مَكَّة إلاَّ معتمَّاً من خيفة النِّسَاء عَلَيْهِ. قَوْله: (ثمَّ أحد بني نَبهَان) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، ونبهان هُوَ ابْن أسودان بن عَمْرو ابْن الْغَوْث بن طي، قَالَ الرشاطي: من بني نَبهَان من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيد بن مهلهل بن زيد بن منْهب بن عبد أحنا

بن محيلس بن ثوب بن مَالك بن نابل بن أسودان بن نَبهَان، كَانَ من أجمل النَّاس وأتمهم، وَلما قدم على رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: من أَنْت؟ قَالَ: أَنا زيد الْخَيل. قَالَ: أَنْت زيد الْخَيْر. قَوْله: (وعلقمة بن علاثة) ، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف اللاَّم وبالثاء الْمُثَلَّثَة ابْن عَوْف بن الْأَحْوَص بن جَعْفَر بن كلاب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة، كَانَ من أَشْرَاف قومه حَلِيمًا عَاقِلا، وَلم يكن فِيهِ ذَلِك الْكَرم، وارتد لما رَجَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى الطَّائِف ثمَّ أسلم أَيَّام الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَحسن إِسْلَامه، وَاسْتَعْملهُ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على حوران فَمَاتَ بهَا. قَوْله: (العامري) : نِسْبَة إِلَى عَامر بن صعصعة بن مَالك بن بكر بن هوَازن بن مَنْصُور بن عِكْرِمَة بن حَفْصَة بن قيس بن غيلَان. قَوْله: (ثمَّ أحد بني كلاب) هَذَا هُوَ الْمَذْكُور الْآن: هُوَ كلاب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن ... إِلَى آخر مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (فَغضِبت قُرَيْش وَالْأَنْصَار) ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة مُسلم: وَالْأَنْصَار. قَوْله: (صَنَادِيد) ، أُرِيد بهم الرؤساء وَهُوَ جمع صنديد بِكَسْر الصَّاد قَوْله ويدعنا بِالْيَاءِ آخر الْحَرْف وَكَذَلِكَ فِي قَوْله يُعْطي بِالْيَاءِ وَفِي رِوَايَة مُسلم: أتعطي صَنَادِيد نجد وَتَدعنَا؟ بتاء الْخطاب فِي الْمَوْضِعَيْنِ، والهمزة فِي: أتعطي، للاستفهام على سَبِيل الْإِنْكَار، وَمعنى: تدعنا: تتركنا، والنجد بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْجِيم: وَهُوَ مَا بَين الْحجاز إِلَى الشَّام إِلَى العذيب فالطائف من نجد، وَالْمَدينَة من نجد وَأَرْض الْيَمَامَة والبحرين إِلَى عمان إِلَى الْعرُوض، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: نجد بلد للْعَرَب، وَإِنَّمَا سمي نجداً لعلوه عَن انخفاض تهَامَة قَوْله: (إنم أتألفهم) من التألّف وَهُوَ المداراة والإيناس ليثبتوا على الْإِسْلَام رَغْبَة فِيمَا يصل إِلَيْهِم من المَال. قَوْله: (فَأقبل رجل) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فجَاء رجل، هَذَا الرجل من بني تَمِيم يُقَال لَهُ ذُو الْخوَيْصِرَة، واسْمه: حرقوص بن زُهَيْر، قيل: ولقبه ذُو الثدية، وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي كتاب (الأذواء) : ذُو الثدية أحد الْخَوَارِج الَّذين قَتلهمْ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بحروراء من جَانب الْكُوفَة، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَآيَة ذَلِك أَن فيهم رجلا أسود إِحْدَى عضديه مثل ثدي الْمَرْأَة وَمثل الْبضْعَة يدَّرد، أَو يُقَال لَهُ: ذُو الثدي أَيْضا. وَذُو الثدية، وَهُوَ حبشِي واسْمه: نَافِع. قَوْله: (غائر الْعَينَيْنِ) أَي: غارت عَيناهُ فدخلتا، وَهُوَ ضد الجاحظ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: غائر الْعَينَيْنِ أَي: داخلتين فِي الرَّأْس لاصقتين بقعر الحدقة. قَوْله: (مشرف الوجنتين) ، أَي: غليظهما، وَيُقَال: أَي: لَيْسَ بسهل الخد وَقد أشرفت وجنتاه أَي علتا، وَأَصله من الشّرف، وَهُوَ الْعُلُوّ والوجنتان العظمان المشرفان على الْخَدين، وَقيل: لحم الْجلد، وكل وَاحِدَة وجنة، فإا عظمتا فَهُوَ موجن والوجنة مُثَلّثَة الْوَاو حَكَاهَا يَعْقُوب، وبالألف بدل الْوَاو، فَهَذِهِ أَربع لُغَات وَقَالَ ابْن جني: أرى الرَّابِعَة على الْبَدَل، وَفِي الْجِيم لُغَتَانِ فتحهَا وَكسرهَا حَكَاهُمَا فِي (البارع) عَن كرَاع، والإسكان هُوَ الشَّائِع فَصَارَ ثَلَاث لُغَات فِي الْجِيم، وَقَالَ ثَابت: هما فَوق الْخَدين إِذا وضعت يدك وجدت حجم الْعظم تحتهَا، وَحَجمه نتؤه، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هُوَ مَا نتىء من لحم الْخَدين بَين الصدغين وكنفي الْأنف. قَوْله: (ناتىء الجبين) ، أَي: مرتفعه، وَقيل: مُرْتَفع على مَا حوله. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الجبين جَانب الْجَبْهَة وَلكُل إِنْسَان جبينان يكتنفان الْجَبْهَة. قَوْله: (كث اللِّحْيَة) ، يَعْنِي: كثير شعرهَا غير مسبلة، والكث بِفَتْح الْكَاف، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الكثاثة فِي اللِّحْيَة أَن تكون غير دقيقة وَلَا طَوِيلَة وفيهَا كَثَافَة، يُقَال: رجل كث

(15/230)


اللِّحْيَة، بِفَتْح الْكَاف، وَقوم: كُث، بِالضَّمِّ. قَوْله: (محلوق) ، وَفِي مُسلم: محلوق الرَّأْس، وَفِي (الْكَامِل) للمبرد: رجل مُضْطَرب الْخلق أسود، وَأَنه يكون لهَذَا ولأصحابه نبأ. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَفِي الحَدِيث أَنه لَا يدْخل النَّار من شهد بَدْرًا وَلَا الْحُدَيْبِيَة حاشا رجلا مَعْرُوفا مِنْهُم، قيل: هُوَ حرقوص، ذكره شَيخنَا الْعمريّ. وَفِي التَّعْلِيق: أَنه أصُول الْخَوَارِج. قَوْله: (من يطع الله إِذا عصيت؟) أَي: إِذا عصيته؟ . وَفِي مُسلم: من يطع الله إِن عصيته؟ قَوْله: (فَسَأَلَهُ رجل قَتله) ، أَي: فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلٌ قتل هَذَا الْقَائِل. قَوْله: (أَحْسبهُ) أَي: أَظن أَن هَذَا السَّائِل هُوَ خَالِد بن الْوَلِيد، كَذَا جَاءَ على الحسبان، وَجَاء فِي الصَّحِيح: أَنه خَالِد من غير حسبان، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَنه عمر بن الْخطاب، وَلَا تنافى فِي هَذَا لِأَنَّهُمَا كَأَنَّهُمَا سَأَلَا جَمِيعًا. قَوْله: (فَمَنعه) ، أَي: منع خَالِدا عَن الْقَتْل، وَذَلِكَ لِئَلَّا يتحدث النَّاس أَنه يقتل أَصْحَابه، فَهَذِهِ هِيَ الْعلَّة، وسلك مَعَه مسلكه مَعَ غَيره من الْمُنَافِقين الَّذين آذوه وَسمع مِنْهُم فِي غير موطن مَا كرهه، وَلكنه صَبر اسْتِبْقَاء لانقيادهم وتأليفاً لغَيرهم حَتَّى لَا ينفروا. قَوْله: (من ضئضئي) ، بِكَسْر الضادين المعجمتين وَسُكُون الْهمزَة الأولى، وَهُوَ الأَصْل، والعقب، وَحكي إهمالهما عَن بعض رُوَاة مُسلم فِيمَا حَكَاهُ القَاضِي، وَهُوَ شَائِع فِي اللُّغَة، وَقَالَ ابْن سَيّده: الضئضئي والضؤضؤ: الأَصْل، وَقيل: هُوَ كَثْرَة النَّسْل، وَقَالَ فِي الْمُهْملَة: الصئصئي والسئصئي، كِلَاهُمَا: الأَصْل عَن يَعْقُوب، وَحكى بَعضهم صئصئين، بِوَزْن: قنديل، حَكَاهُ ابْن الْأَثِير، وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالُوا: لأصل الشَّيْء أَسمَاء كَثِيرَة، مِنْهَا: الضئضئن بالمعجمتين والمهملتين، والنجار بِكَسْر النُّون، والنحاس، والسنخ بِكَسْر السِّين وَإِسْكَان النُّون وبخاء مُعْجمَة، والعيص، والأرومة. قَوْله: (حَنَاجِرهمْ) ، جمع: حنجرة، هِيَ رَأس العلصمة حَيْثُ ترَاهُ ناتئاً من خَارج الْحلق. وَقَالَ ابْن التِّين: مَعْنَاهُ: لَا يرفع فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة وَقَالَ عِيَاض: لَا تفقه قُلُوبهم وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَتْلُو مِنْهُ وَلَا لَهُم حَظّ سوى تِلَاوَة الْفَم، وَقيل: مَعْنَاهُ: لَا يصعد لَهُم عمل وَلَا تِلَاوَة وَلَا تتقبل. قَوْله: (يَمْرُقُونَ من الدّين) ، وَفِي رِوَايَة: من الْإِسْلَام، أَي: يخرجُون مِنْهُ خُرُوج السهْم إِذا نفذ من الصَّيْد من جِهَة أُخْرَى، وَلم يتَعَلَّق بِالسَّهْمِ من دَمه شَيْء، وَبِهَذَا سميت الْخَوَارِج: المرَّاق، وَالدّين هُنَا: الطَّاعَة، يُرِيد أَنهم يخرجُون من طَاعَة الْأَئِمَّة كخروج السهْم من الرَّمية، والرمية بِفَتْح الرَّاء على وزن فعيلة من الرَّمْي بِمَعْنى مَفْعُوله، فَقَالَ الدَّاودِيّ: الرَّمية الصَّيْد المرمي، وَهَذَا الَّذِي ذكره صِفَات الْخَوَارِج الَّذين لَا يدينون للأئمة وَيخرجُونَ عَلَيْهِم. قَوْله: (يقتلُون أهل الْإِسْلَام) ، كَذَلِك فعل الْخَوَارِج. قَوْله: (وَيدعونَ) ، أَي: يتركون أهل الْأَوْثَان وَهُوَ جمع وثن، وَهُوَ كل مَا لَهُ جثة معمولة من جَوَاهِر الأَرْض أَو من الْخشب وَالْحِجَارَة كصورة الْآدَمِيّ، يعْمل وَينصب فيعبد، وَهَذَا بِخِلَاف الصَّنَم فَإِنَّهُ الصُّورَة بِلَا جثة، وَمِنْهُم من لم يفرق بَينهمَا. قيل: لما خرج إِلَيْهِم عبد الله بن خباب رَسُولا من عِنْد عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَجعل يَعِظهُمْ، فَمر أحدهم بتمرة لمعاهد فَجَعلهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ بعض أَصْحَابه: تَمْرَة معاهد فيمَ استحللتها؟ فَقَالَ لَهُم عبد الله بن خباب: أَنا أدلكم على مَا هُوَ أعظم حُرْمَة، رجل مُسلم يَعْنِي نَفسه فَقَتَلُوهُ فَأرْسل إِلَيْهِم عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن أقيدونا بِهِ، فَقَالُوا: كَيفَ نقيدك بِهِ وكلنَا قَتله؟ فَقَاتلهُمْ عَليّ فَقتل أَكْثَرهم، قيل: كَانُوا خَمْسَة آلَاف، وَقيل: كَانُوا عشرَة آلَاف. قَوْله: (لَئِن أدركتهم لأقتلنهم قتل عَاد) ، قد ذكرنَا مَعْنَاهُ عِنْد ذكر الْمُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة، ويروى: قتل ثَمُود. فَإِن قلت: أَلَيْسَ قَالَ: لَئِن أدركتهم؟ وَكَيف وَلم يدع خَالِدا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن يقْتله وَقد أدْركهُ؟ قلت: إِنَّمَا أَرَادَ إِدْرَاك زمَان خُروجهم إِذا كَثُرُوا وامتنعوا بِالسِّلَاحِ واعترضوا النَّاس بِالسَّيْفِ، وَلم تكن هَذِه الْمعَانِي مجتمعة إِذْ ذَاك، فيوجد الشَّرْط الَّذِي علق بِهِ الحكم، وَإِنَّمَا أنذر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون فِي الزَّمَان الْمُسْتَقْبل، وَقد كَانَ كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأول مَا يحم هُوَ فِي أَيَّام عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. فَإِن قلت: المَال الَّذِي أعْطى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُولَئِكَ الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم من أَي مَال كَانَ؟ قلت: قَالَ بَعضهم: من خمس الخُمس، ورد بِأَنَّهُ ملكه، وَقيل: من رَأس الْغَنِيمَة، وَأَنه خَاص بِهِ لقَوْله تَعَالَى: {قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول} (الْأَنْفَال: 1) . ورد بِأَن الْآيَة مَنْسُوخَة، وَذَلِكَ أَن الْأَنْصَار لما انْهَزمُوا يَوْم حنين فأيد الله رَسُوله وأمده بِالْمَلَائِكَةِ فَلم يرجِعوا حَتَّى كَانَ الْفَتْح، رد الله الْغَنَائِم إِلَى رَسُوله من أجل ذَلِك، فَلم يعطهم مِنْهَا شَيْئا، وَطيب نُفُوسهم، بقوله: وترجعون برَسُول الله إِلَى رحالكُمْ، بَعْدَمَا فعل مَا أَمر بِهِ، وَاخْتِيَار أبي عُبَيْدَة: أَنه كَانَ من الخُمس لَا من خُمس الْخمس وَلَا من رَأس الْغَنِيمَة، وَأَنه جَائِز للْإِمَام أَن يصرف الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة فِي آيَة الْخمس حَيْثُ يرى أَن فِيهِ مصلحَة للْمُسلمين، وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يعلم أَولا أَن هَذَا الذَّهَب لَيْسَ من غنيمَة حنين وَلَا خَيْبَر وَلَا من الْخمس وَقد فرقها كلهَا.

(15/231)


5433 - حدَّثنا خالِدُ بنُ يَزِيدَ حدَّثنا إسْرَائِيلُ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ الأسْوَدِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الله قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِّرٍ} (الْقَمَر: 51، 71، 22، 23، 04، و 15) . .

قد مضى هَذَا فِي آخر: بَاب قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} (نوح: 1) . فَإِنَّهُ (أخرجه هُنَاكَ: عَن نصر بن عَليّ عَن أبي أَحْمد عَن سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق ... إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه: عَن خَالِد بن يزِيد بن الْهَيْثَم المقرىء الْكَاهِلِي الْكُوفِي عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس ابْن أبي إِسْحَاق السبيعِي عَمْرو بن عبد الله، وَالله أعلم.

7 - (بابُ قِصَّةِ يأجُوُجَ ومأجُوجَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قصَّة يَأْجُوج وَمَأْجُوج. يَأْجُوج رجل وَمَأْجُوج كَذَلِك ابْنا يافث بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا ذكره عِيَاض مشتقان من: تأجج النَّار، وَهِي حَرَارَتهَا، وَسموا بذلك لكثرتهم، وشدتهم، وَهَذَا على قِرَاءَة من همز، وَقيل من: الأجاج، وَهُوَ المَاء الشَّديد الملوحة، وَقيل: هما إسمان أعجميان غير مشتقين. وَفِي (الْمُنْتَهى) : من همزهما جعل وزن يَأْجُوج يفعولاً من أجيج النَّار أَو الظليم وَغَيرهمَا، وَمَأْجُوج مَفْعُولا. وَمن لم يهمزهما جَعلهمَا عجميين، وَقَالَ الْأَخْفَش: من همزهما جعل الْهمزَة أَصْلِيَّة وَمن لم يهمزهما جعل الْأَلفَيْنِ زائدتين بِجعْل يَأْجُوج فَاعِلا من: يججت، وَمَأْجُوج فاعولاً من: مججت الشَّيْء فِي فمي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يَأْجُوج وَمَأْجُوج إسمان أعجميان بِدَلِيل منع الصّرْف. قلت: الْعلَّة فِي منع الصّرْف العجمة والعلمية، وهم من ذُرِّيَّة آدم بِلَا خلاف، وَلَكِن اخْتلفُوا، فَقيل: إِنَّهُم من ولد يافث بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَه مُجَاهِد، وَقيل: إِنَّهُم جيل من التّرْك، قَالَه الضَّحَّاك. وَقيل يَأْجُوج من التّرْك وَمَأْجُوج من الجيل والديلم، ذكره الزَّمَخْشَرِيّ. وَقيل: هم من التّرْك مثل المغول، وهم أَشد بَأْسا وَأكْثر فَسَادًا من هَؤُلَاءِ، وَقيل: هم من آدم، وَلَكِن من غير حَوَّاء لِأَن آدم نَام فَاحْتَلَمَ فامتزجت نطفته بِالتُّرَابِ، فَلَمَّا انتبه أَسف على ذَلِك المَاء الذ خرج مِنْهُ، فخلق الله من ذَلِك المَاء يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وهم متعلقون بِنَا من جِهَة الْأَب دون الْأُم، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ عَن كَعْب الْأَحْبَار، وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ أَيْضا فِي (شرح مُسلم) وَغَيره، وَلَكِن الْعلمَاء ضَعَّفُوهُ، وَقَالَ ابْن كثير: وَهُوَ جدير بذلك إِذْ لَا دَلِيل عَلَيْهِ، بل هُوَ مُخَالف لما ذكرُوا من أَن جَمِيع النَّاس الْيَوْم من ذُرِّيَّة نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِنَصّ الْقُرْآن. قلت: جَاءَ فِي الحَدِيث أَيْضا امْتنَاع الِاحْتِلَام على الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ نعيم بن حَمَّاد: حَدثنَا يحيى بن سعيد حَدثنِي سُلَيْمَان بن عِيسَى، قَالَ: بَلغنِي أَنهم عشرُون أمة: يَأْجُوج وَمَأْجُوج ويأجيج وأجيج والغيلانين والغسلين والقرانين والطوقنين وَهُوَ الَّذِي يلتحف أُذُنَيْهِ والقريطيين والكنعانيين والدفرانيين والجاجونين والأنطارنين واليعاسين، ورؤوسهم رُؤُوس الْكلاب، وَعَن عبد الله بن عمر بِإِسْنَاد جيد: الْإِنْس عشرَة أَجزَاء، تِسْعَة أَجزَاء: يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وَسَائِر النَّاس جُزْء وَاحِد. وَعَن عَطِيَّة بن حسان: أَنهم أمتان، فِي كل أمة أَرْبَعمِائَة ألف أمة لَيْسَ فِيهَا أمة تشبه الْأُخْرَى، وَذكر الْقُرْطُبِيّ مَرْفُوعا: يَأْجُوج أمة لَهَا أَرْبَعمِائَة أَمِير، وَكَذَلِكَ مأجوج صنف مِنْهُم طوله مائَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا، ويروى: أَنهم يَأْكُلُون جَمِيع حشرات الأَرْض من الْحَيَّات والعقارب وكل ذِي روح من الطير وَغَيره، وَلَيْسَ لله خلق يَنْمُو نماءهم فِي الْعَام الْوَاحِد يتداعون تداعي الْحمام ويعوون عواء الْكلاب، وَمِنْهُم من لَهُ قرن وذنب وأنياب بارزة يَأْكُلُون اللَّحْم النِّيَّة. وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي (كتاب الْأُمَم) : هم أمة لَا يقدر أحد على استقصاء ذكرهم لكثرتهم وَمِقْدَار الرّبع العامر مائَة وَعِشْرُونَ سنة، وَأَن تسعين مِنْهَا ليأجوج وَمَأْجُوج وهم أَرْبَعُونَ أمة مختلو الْخلق والقدود، فِي كل أمة ملك ولغة، وَمِنْهُم من مَشْيه وثب، وَبَعْضهمْ يُغير على بعض، وَمِنْهُم من لَا يتَكَلَّم إِلَّا همهمة، وَمِنْهُم مشوهون، وَفِيهِمْ شدَّة وبأس، وَأكْثر طعامهم الصَّيْد، وَرُبمَا أكل بَعضهم بَعْضًا. وَذكر الْبَاجِيّ: عَن عبد الرَّحْمَن بن ثَابت، قَالَ: الأَرْض خَمْسمِائَة عَام مِنْهَا ثَلَاثمِائَة بحور وَمِائَة وَتسْعُونَ ليأجوج وَمَأْجُوج وَسبع للحبشة وَثَلَاث لسَائِر النَّاس. وروى ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) : عَن أَحْمد بن كَامِل حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد الْعَوْفِيّ حَدثنَا أبي حَدثنَا عمي حَدثنَا أبي عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: قَالَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر يَأْجُوج وَمَأْجُوج: لَا يَمُوت الرجل مِنْهُم حَتَّى يُولد لصلبه ألف رجل، وبإسناده عَن

(15/232)


حُذَيْفَة مَرْفُوعا: يَأْجُوج أمة وَمَأْجُوج أَرْبَعمِائَة أمة، كل أمة أَرْبَعمِائَة ألف رجل لَا يَمُوت أحدهم حَتَّى ينظر إِلَى ألف رجل من صلبه كلهم قد حملُوا السِّلَاح. . الحَدِيث، وَذكر أَبُو نعيم أَن صنفا مِنْهُم أَرْبَعَة أَذْرع عرضا يَأْكُلُون مشائم نِسَائِهِم. وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: صنف مِنْهُم فِي طول شبر لَهُ مخاليب وأنياب السبَاع وتداعي الْحمام وعواء الذِّئْب وشعور تقيهم الْحر وَالْبرد وآذان عِظَام أَحدهمَا فَرْوَة يشتون فِيهَا وَالْأُخْرَى جلدَة يصيفون فِيهَا، وَفِي (التَّذْكِرَة) : وصنف مِنْهُم كالأرز طولهم مائَة وَعِشْرُونَ ذِرَاعا، وصنف مِنْهُم يفترش أُذُنه ويلتحف بِالْأُخْرَى ويأكلون من مَاتَ مِنْهُم. وَعَن كَعْب الْأَحْبَار: إِن التنين إِذا آذَى أهل الأَرْض نَقله الله تَعَالَى إِلَى يَأْجُوج وَمَأْجُوج فَجعله رزقا لَهُم، فيجزرونها كَمَا يجزرون الْإِبِل وَالْبَقر، ذكره نعيم بن حَمَّاد فِي (كتاب الْفِتَن) ورى مقَاتل بن حَيَّان عَن عِكْرِمَة مَرْفُوعا: (بَعَثَنِي الله لَيْلَة أسرى بِي إِلَى يَأْجُوج وَمَأْجُوج فدعوتهم إِلَى دين الله تَعَالَى فَأَبَوا أَن يجيبوني فهم فِي النَّار مَعَ من عصى من ولد آدم وَولد إِبْلِيس) .
وقَوْلِ الله تَعَالَى {قَالُوا يَا ذَا القَرْنَيْنِ إنَّ يَأجُوجَ ومأجوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} (الْكَهْف: 49) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطفا على لفظ: قصَّة يَأْجُوج وَمَأْجُوج. وَذُو القرنين الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن الْمَذْكُور فِي أَلْسِنَة النَّاس بالإسكندر لَيْسَ الْإِسْكَنْدَر اليوناني، فَإِنَّهُ مُشْرك ووزيره أرسطاطاليس، والإسكندر الْمُؤمن الَّذِي ذكره الله فِي الْقُرْآن اسْمه: عبد الله بن الضَّحَّاك بن معد، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَنسب هَذَا القَوْل أَيْضا إِلَى عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: مُصعب بن عبد الله بن قنان بن مَنْصُور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن نبت بن مَالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ابْن قحطان، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث: أَنه من حمير وَأمه رُومِية، وَأَنه كَانَ يُقَال لَهُ ابْن الفيلسوف لعقله، وَذكر ابْن هِشَام: أَن اسْمه الصعب بن مراثد وَهُوَ أول التبايعة وَقَالَ مقَاتل من حمير وَفد أَبوهُ إِلَى الرّوم فَتزَوج امْرَأَة من غَسَّان فَولدت لَهُ ذَا القرنين عبدا صَالحا، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: اسْمه الاسكندر. قلت: وَمن هُنَا يُشَارك الْإِسْكَنْدَر اليوناني فِي الِاسْم، وَكثير من النَّاس يخطئون فِي هَذَا ويزعمون أَن الْإِسْكَنْدَر الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن هُوَ الْإِسْكَنْدَر اليوناني، وَهَذَا زعم فَاسد، لِأَن الْإِسْكَنْدَر اليوناني الَّذِي بنى الْإسْكَنْدَريَّة كَافِر مُشْرك، وَذُو القرنين عبد صَالح ملك الأَرْض شرقاً وغرباً. حَتَّى ذهب جمَاعَة إِلَى نبوته مِنْهُم: الضَّحَّاك وَعبد الله بن عمر، وَقيل: كَانَ رَسُولا، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَالصَّحِيح، إِن شَاءَ الله، كَانَ نَبيا غير مُرْسل، ووزيره الْخضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فأنَّى يتساويان.
وَاخْتلفُوا فِي زَمَانه؟ فَقيل: فِي الْقرن الأول من ولد يافث بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَه عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَنه ولد بِأَرْض الرّوم، وَقيل: كَانَ بعد نمْرُود، لَعنه الله، قَالَه الْحسن، وَقيل: إِنَّه من ولد إِسْحَاق من ذُرِّيَّة الْعيص، قَالَه مقَاتل، وَقيل: كَانَ فِي الفترة بَين مُوسَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: فِي الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالأَصَح أَنه كَانَ فِي أَيَّام إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَاجْتمعَ بِهِ فِي الشَّام، وَقيل: بِمَكَّة، وَلما فَاتَهُ عين الْحَيَاة وحظي بهَا الْخضر، عَلَيْهِ السَّلَام، اغتم غماً شَدِيدا فأيقن بِالْمَوْتِ فَمَاتَ بدومة الجندل، وَكَانَ منزله، هَكَذَا رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: بِشَهْر زور، وَقيل: بِأَرْض بابل، وَكَانَ قد ترك الدُّنْيَا وتزهد، وَهُوَ الْأَصَح، وَقيل مَاتَ بالقدس، ذكره فِي (فَضَائِل الْقُدس) لأبي بكر الوَاسِطِيّ الْخَطِيب، وَكَانَ عدد مَا سَار فِي الأَرْض فِي الْبِلَاد مُنْذُ يَوْم بَعثه الله تَعَالَى إِلَى أَن قبض خَمْسمِائَة عَام، وَقَالَ مُجَاهِد: عَاشَ ألف سنة مثل آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: بَلغنِي أَنه عَاشَ سِتا وَثَلَاثِينَ سنة، وَقيل: ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سنة.
وَاخْتلف لم سمي: ذَا القرنين، فَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما دَعَا قومه ضربوه على قرنه الْأَيْمن فَمَاتَ، ثمَّ بعث ثمَّ دعاهم فضربوه على الْأَيْسَر فَمَاتَ ثمَّ بعث. وَقيل: لِأَنَّهُ بلغ قطري الأَرْض الْمشرق وَالْمغْرب، وَقيل: لِأَنَّهُ ملك فَارس وَالروم، وَقيل: كَانَ ذَا ضفيرتين من شعر، وَالْعرب تسمي الْخصْلَة من الشّعْر قرنا، وَقيل: كَانَت لَهُ ذؤابتان، وَقيل: كَانَ لتاجه قرنان، وَعَن مُجَاهِد: كَانَت صفحتا رَأسه من نُحَاس، وَقيل: كَانَ فِي رَأسه شبه القرنين، وَقيل: لِأَنَّهُ سلك الظلمَة والضوء، قَالَه الرّبيع، وَقيل: لِأَنَّهُ أعْطى علم الظَّاهِر وَالْبَاطِن، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيّ.
وقَوْلِ الله تَعَالَى: {ويَسْألُونَكَ عنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سأتْلُو علَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرَاً إنَّا مَكَّنَّا لَهُ

(15/233)


فِي الأرْضِ وآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سبَبَاً فأتَّبعَ سَبَباً} (الْكَهْف: 38 و 48) . إِلَى قَوْله: {ائْتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ} (الْكَهْف: 69) .
وَقَول الله تَعَالَى، بِالْجَرِّ عطفا على قَول الله الأول، وَفِي بعض النّسخ: بَاب قَول الله تَعَالَى. . إِلَى آخِره، وَرِوَايَة أبي ذَر إِلَى قَوْله: سَببا، وسَاق غَيره الْآيَة، ثمَّ اتَّفقُوا إِلَى قَوْله: {أَتَوْنِي زبر الْحَدِيد} (الْكَهْف: 69) . وَبعد قَوْله: سَببا، هُوَ قَوْله: {فأتبع سَببا حَتَّى إِذا بلغ مغرب الشَّمْس وجدهَا تغرب فِي عين حمئة وَوجد عِنْده قوما قُلْنَا يَا ذَا القرنين إِمَّا أَن تعذب وَإِمَّا أَن تتَّخذ فيهم حسنا قَالَ: أما من ظلم فَسَوف نعذبه ثمَّ يرد إِلَى ربه فيعذبه عذَابا نكراً وَأما من آمن وَعمل صَالحا فَلهُ جَزَاء الْحسنى وسنقول لَهُ من أمرنَا يسرا ثمَّ أتبع سَببا حَتَّى إِذا بلغ مطلع الشَّمْس وجدهَا تطلع على قوم لم يَجْعَل لَهُم من دونهَا سترا كَذَلِك وَقد أحطنا بِمَا لَدَيْهِ خَبرا ثمَّ أتبع سَببا حَتَّى إِذا بلغ بَين السدين وجد من دونهمَا قوما لَا يكادون يفقهُونَ قولا قَالُوا يَا ذَا القرنين إِن يَأْجُوج وَمَأْجُوج مفسدون فِي الأَرْض فَهَل نجْعَل لَك خرجا على أَن تجْعَل بَيْننَا وَبينهمْ سداً قَالَ مَا مكني فِيهِ رَبِّي خير فَأَعِينُونِي بِقُوَّة أجعَل بَيْنكُم وَبينهمْ ردماً آتوني زبر الْحَدِيد حَتَّى إِذا سَاوَى بَين الصدفين قَالَ انفخوا حَتَّى إِذا جعله نَارا قَالَ آتوني أفرغ عَلَيْهِ قطراً فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقباً} (الْكَهْف: 58 79) . قَوْله: (يَسْأَلُونَك) ، السائلون هم الْيَهُود سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على جِهَة الامتحان، وَقيل: سَأَلَهُ أَبُو جهل وأشياعه. قَوْله: (قل) ، خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (سأتلوا عَلَيْكُم) ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْخطاب لأحد الْفَرِيقَيْنِ. قَوْله: (مِنْهُ ذكرا) أَي: من أخباره. قَوْله: (إنَّا مكنَّا لَهُ فِي الأَرْض وَآتَيْنَاهُ من كل شَيْء) أَي: من أَسبَاب كل شَيْء أَرَادَهُ من أغراضه ومقاصده فِي ملكه، وَيُقَال: سهلنا عَلَيْهِ الْأَمر فِي السّير فِي الأَرْض حَتَّى بلغ مشارقها وَمَغَارِبهَا. قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: سخر الله لَهُ السَّحَاب فَحمل عَلَيْهِ، وَبسط لَهُ النُّور فَكَانَ اللَّيْل وَالنَّهَار عَلَيْهِ سَوَاء. قَوْله: (وَآتَيْنَاهُ من كل شَيْء سَببا) أَي: علما يتسبب بِهِ إِلَى مَا يُرِيد، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقيل: علما بالطرق والمسالك فسخرنا لَهُ أقطار الأَرْض كَمَا سخر الرّيح لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقيل: جعل لَهُ فِي كل أمة سُلْطَانا وهيبة، وَقيل: مَا يَسْتَعِين بِهِ على لِقَاء الْعَدو، وَوَقع فِي بعض نسخ البُخَارِيّ بعد قَوْله: سَببا: طَرِيقا. قَوْله: (فِي عين حمئة) أَي: ذَات حمأة، وَمن قَرَأَ: حامية فَمَعْنَاه مثله، وَقيل: حارة، وَيجوز أَن تكون حارة، وَهِي ذَات حمأة. قَوْله: (وَوجد عِنْدهَا قوما) أَي: عِنْد الْعين أَو عِنْد نِهَايَة الْعِمَارَة قوما لباسهم جُلُود السبَاع، وَلَيْسَ لَهُم طَعَام إلاَّ مَا أحرقته الشَّمْس من الدَّوَابّ إِذا غربت نَحْوهَا، وَمَا لفظت الْعين من الْحيتَان إِذا وَقعت، وَعَن ابْن السَّائِب:؛ هُنَاكَ قوم مُؤمنُونَ وَقوم كافرون. قَوْله: (قُلْنَا يَا ذَا القرنين) ، من قَالَ إِنَّه نَبِي قَالَ: هَذَا القَوْل وجي، وَمن منع قَالَ: إِنَّه إلهام. قَوْله: (إِمَّا أَن تعذب وَإِمَّا أَن تتَّخذ فيهم حسنا) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: كَانُوا كفرة فخيره الله تَعَالَى بَين أَن يعذبهم بِالْقَتْلِ وَأَن يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام، فَاخْتَارَ الدعْوَة وَالِاجْتِهَاد فِي استمالتهم، فَقَالَ: أما من دَعوته فَأبى إلاَّ الْبَقَاء على الظُّلم الْعَظِيم الَّذِي هُوَ الشّرك فَذَلِك هُوَ المعذب فِي الدَّاريْنِ. قَوْله: (أما من ظلم) أَي: أشرك. قَوْله: (فَسَوف نعذبه ثمَّ يرد إِلَى ربه فيعذبه عذباً نكراً) أَي: مُنْكرا. وَقَالَ الْحسن: كَانَ يطبخهم فِي الْقدر. قَوْله: (وَأما من آمن) أَي: ترك الْكفْر وَعمل صَالحا فِي إيمَانه فَلهُ جَزَاء الْحسنى أَي: الْجنَّة. قَوْله: (يسرا) أَي: قولا جميلاً، قَوْله: (ثمَّ أتبع سَببا) أَي: طَرِيقا آخر يوصله إِلَى الْمشرق. قَوْله: (لم نجْعَل لَهُم من دونهَا) أَي: من دون الشَّمْس سترا لأَنهم كَانُوا فِي مَكَان لَا يسْتَقرّ عَلَيْهِ الْبناء، وَكَانُوا فِي أسراب لَهُم حَتَّى إِذا زَالَت الشَّمْس خَرجُوا إِلَى مَعَايشهمْ وحروثهم. وَقَالَ الْحسن: كَانَت أَرضهم على شاطىء الْبَحْر على المَاء لَا يحْتَمل الْبناء، فَإِذا طلعت عَلَيْهِم الشَّمْس دخلُوا فِي المَاء، وَإِذا ارْتَفَعت عَنْهُم خَرجُوا. قَوْله: (كَذَلِك) ، أَي: كَمَا وجد قوما عِنْد مغرب الشَّمْس وَحكم فيهم، وجد قوما عِنْد مطْلعهَا وَحكم فيهم كَذَلِك. قَوْله: (وَقد أحطنا بِمَا لَدَيْهِ) أَي: من الْجنُود والآلات وَأَسْبَاب الْملك. قَوْله: (خَبرا) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: تكثيراً، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْخَبَر النَّصِيب. قَوْله: (ثمَّ أتبع سَببا) أَي: طَرِيقا بَين الْمشرق وَالْمغْرب. قَوْله: (حَتَّى إِذا بلغ بَين السدَّين) أَي: الجبلين، (وجد من دونهمَا قوما) يَعْنِي، أَمَام السد، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْقَوْم التّرْك. قَوْله: (لَا يكادون يفقهوم قولا) لأهم لَا يعْرفُونَ غير لغتهم، ثمَّ نذْكر بَقِيَّة التَّفْسِير فِي أَلْفَاظ البُخَارِيّ.
واحدُها زُبْرَةٌ وهْيَ الْقِطَعُ
أَي: وَاحِد الزبر: زُبرة، وَهِي القع، وَهَكَذَا فسره أَبُو عبيد فَقَالَ: زبر الْحَدِيد، أَي: قطع الْحَدِيد.

(15/234)


حتَّى إذَا ساوَى بَيْنَ الْصَّدَفَيْنِ: يُقَالُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ الجَبَلَيْنِ والسُّدَّيْنِ الجَبَلَيْنِ
قَرَأَ أبان: حَتَّى إِذا سوَّى، بتَشْديد الْوَاو بِحَذْف الْألف، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: قَوْله: (بَين الصدفين) ، أَي: مَا بَين الناحيتين من الجبلين، والصدفين، بِضَمَّتَيْنِ وفتحتين وضمة وَسُكُون وفتحة وضمة. قَوْله: (يُقَال عَن ابْن عَبَّاس) ، تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، والسدين، بِضَم السِّين وَفتحهَا بِمَعْنى وَاحِد، قَالَه الْكسَائي، وَقَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء: مَا كَانَ من صنع الله فبالضم، وَمَا كَانَ بصنع الْآدَمِيّ فبالفتح، وَقيل: بِالْفَتْح مَا رَأَيْته، وبالضم مَا توارى عَنْك.
خَرْجاً أجْراً
أَشَارَ بِهِ إِلَى لفظ خرجا، ثمَّ فسره بقوله: أجرا، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: خرجا، قَالَ: أجرا عَظِيما.
قَالَ انْفُخُوا حتَّى إذَا جَعَلَهُ نارَاً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرَاً أصْبُبْ علَيْهِ رَصاصاً ويُقالُ الحَدِيدُ ويُقالُ الصُّفْرُ: وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ النُّحَاسُ
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: حشى مَا بَين الجبلين بالحديد، ونسج بَين طَبَقَات الْحَدِيد بالحطب والفحم، وَوضع عَلَيْهَا المنافيج. (قَالَ انفخوا حَتَّى إِذا جعله نَارا) أَي: كالنار من النفخ. (قَالَ: أَتَوْنِي) أَي: أعطوني (أفرغ عَلَيْهِ قطراً) ، وَفسّر البُخَارِيّ قَوْله: أفرغ، بقوله: أُصِيب، من: صب يصب إِذا سكب، وَذكره بفك الْإِدْغَام لِأَن المثلين إِذا اجْتمعَا فِي كلمة وَاحِدَة يجوز فِيهِ الْإِدْغَام والفك، والإدغام أَكثر، وَفسّر قطراً بقوله: رصاصاً، وَهُوَ بِكَسْر الرَّاء وَفتحهَا. قَوْله: (وَيُقَال: الْحَدِيد) أَي: الْقطر هُوَ الْحَدِيد (وَيُقَال: الصفر) أَي: الصفر، بِضَم الصَّاد وَكسرهَا، وَفِي (الْمغرب) : الصفر النّحاس الْجيد الَّذِي تعْمل مِنْهُ الْآنِية. قَوْله: (وَقَالَ ابْن عَبَّاس: النّحاس) أَي: الْقطر هُوَ النّحاس، وَكَذَا قَالَه السّديّ
فَمَا اسْطاعُوا أنْ يظْهِروُهُ يَعْلُوهُ اسْطَاَعَ اسْتَفْعَلَ مِنْ أطَعْتُ لَهُ فَلِذَلِكَ فُتِحَ أسْطاعَ يَسْطِيعُ وَقَالَ بَعْضُهُمُ اسْتَطاَعَ يَسْتَطِيعُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبَاً
قَوْله: (فَمَا اسطاعوا) أَي: فَمَا قدرُوا أَن يظهروه أَي: يعلوه، من قَوْلهم: ظَهرت فَوق الْجَبَل إِذا علوته، وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة. قَوْله: (اسطاع استفعل) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن: فَمَا اسطاعوا الَّذِي هُوَ بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون السِّين بِلَا تَاء مثناة من فَوق، جمع مفرده: اسطاع، وَزنه فِي الأَصْل: استفعل، لِأَنَّهُ من: طعت، بِضَم الطَّاء وَسُكُون الْعين، لِأَنَّهُ من بَاب فعل يفعل مثل نصر ينصر، وَلكنه أجوف واوي لِأَنَّهُ من الطوع، يُقَال: طاع لَهُ وطعت لَهُ، مثل قَالَ لَهُ وَقلت لَهُ، وَلما نقل طاع إِلَى بَاب الاستفعال صَار: اسْتَطَاعَ، على وزن: استفعل، ثمَّ حذفت التَّاء للتَّخْفِيف بعد نقل حركتها إِلَى الْهمزَة فَصَارَ: اسطاع، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون السِّين، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا بقوله: فلذك فتح: اسطاع، أَي: فلأجل حذف التَّاء وَنقل حركتها إِلَى الْهمزَة، قيل: اسطاع يسطيع، بِفَتْح الْهمزَة فِي الْمَاضِي وَفتح الْيَاء فِي الْمُسْتَقْبل، وَلَكِن بَعضهم قَالَ فِي الْمُسْتَقْبل بِضَم الْيَاء، فَمن فتح الْيَاء فِي الْمُسْتَقْبل جعله من: طاع يُطِيع، وَمن ضمهَا جعله من: طاع يطوع، يُقَال: أطاعه يطيعه فَهُوَ مُطِيع، وطاع لَهُ يطوع ويطيع فَهُوَ: طائع، أَي: أذعن لَهُ وانقاد، وَالِاسْم: الطَّاعَة، والاستطاعة الْقُدْرَة على الشَّيْء. قَوْله: (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقباً) وَهُوَ من قَوْله تَعَالَى بعد، قَوْله: (فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه) ، ذكره إِشَارَة إِلَى أَن التَّصَرُّف الْمَذْكُور كَانَ فِي قَوْله: (فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه) وَأما قَوْله: (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نقباً) فعلى الأَصْل من بَاب الاستفعال. قَوْله: (نقباً) يَعْنِي: لم يتمكنوا أَن ينقبوا السد من أَسْفَله لِشِدَّتِهِ وصلابته، وَلم أر شارحاً حرر هَذَا الْموضع كَمَا يَنْبَغِي، فَالْحَمْد لله على مَا أولانا من نعمه.
قَالَ: هذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فإذَا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ألْزَقَهُ بالأرْضِ وناقَةٌ دَكَّاءُ لاَ سَنَامَ

(15/235)


لَهَا والدَّكْدَاكُ مِنَ الأرْضِ مِثْلهُ حتَّى صَلُبَ مِنَ الأرْضِ وتَلَبَّدَ وكانَ وعْدُ رَبِّي حَقَّاً وتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ
هَذَا إِشَارَة إِلَى السد أَي: هَذَا السد رَحْمَة من الله على عباده ونعمة عَظِيمَة، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أَي هَذَا الإقدار والتمكين من تسويته. قَوْله: (فَإِذا جَاءَ وعد رَبِّي) ، يَعْنِي: فَإِذا دنا يَوْم الْقِيَامَة وشارف أَن يَأْتِي جعله دكاً، أَي ألزقه بِالْأَرْضِ، يَعْنِي: جعله مدكوكاً مستوياً بِالْأَرْضِ مَبْسُوطا، وكل مَا انبسط بعد الِارْتفَاع فقد اندك، وقرىء: دكاء، بِالْمدِّ أَي: أَرضًا مستوية. قَوْله: (وناقة دكاء) ، أَي: لَا سَنَام لَهَا، وَكَذَلِكَ يُقَال: جمل أدك إِذا كَانَ منبسط السنام. قَوْله: (والدكداك من الأَرْض مثله) أَي: الملزق بِالْأَرْضِ المستوي بهَا، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: والدكداك من الرمل مَا تلبد مِنْهُ بِالْأَرْضِ وَلم يرْتَفع. قَوْله: (وَكَانَ وعد رَبِّي حَقًا) هَذَا آخر حِكَايَة قَول ذِي القرنين. قَوْله: (وَتَركنَا بَعضهم يَوْمئِذٍ يموج فِي بعض) ، ابْتِدَاء كَلَام آخر أَي: وَتَركنَا بعض الْخلق يَوْم الْقِيَامَة يموج أَي: يضطرب ويختلط بَعضهم فِي بعض وهم حيارى من شدَّة يَوْم الْقِيَامَة، وَيجوز أَن يكون الضَّمِير فِي: بَعضهم، ليأجوج وَمَأْجُوج، وَأَنَّهُمْ يموجون حِين يخرجُون مِمَّا وَرَاء السد مزدحمين فِي الْبِلَاد. وَرُوِيَ: أَنهم يأْتونَ الْبَحْر وَيَشْرَبُونَ مَاءَهُ ويأكلون دوابه ثمَّ يَأْكُلُون الشّجر وَمن ظفروا بِهِ مِمَّن لم يتحصن من النَّاس، وَلَا يأْتونَ مَكَّة وَالْمَدينَة وَبَيت الْمُقَدّس، هَكَذَا ذكره الزَّمَخْشَرِيّ فِي هَذِه الْآيَة، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث السّديّ عَن أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: فَيخْرجُونَ على النَّاس فيستقون الْمِيَاه، وَفِي (تَفْسِير مقَاتل) : فَإِذا خَرجُوا فيشرب أَوَّلهمْ دجلة والفرات حَتَّى يمر آخِرهم فَيَقُول: قد كَانَ هَهُنَا مَاء.
حتَّى إذَا فُتحَتْ يأجُوجُ ومَأجُوجُ وهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ قَالَ قَتَادَةُ: حدَبٌ: أكَمَة
وَفِي بعض النّسخ قبل هَذَا: بَاب حَتَّى إِذا فتحت إِلَى آخِره، كلمة: حَتَّى، حرف ابْتِدَاء بِسَبَب إِذا، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي جَوَابا هُوَ الْمَقْصُود ذكره، قيل: جَوَابه: {واقترب الْوَعْد الْحق} (الْأَنْبِيَاء: 79) . وَالْوَاو زَائِدَة نَظِيره: {حَتَّى إِذا جاؤها وَفتحت أَبْوَابهَا} (الزمر: 17 27) . وَقيل: جَوَابه فِي قَوْله: يَا ويلنا بعده، التَّقْدِير: {قَالُوا يَا ويلنا} (الْأَنْبِيَاء: 41، ي س: 252، الصافات: 022، والقلم: 13) . وَلَيْسَت الْوَاو زَائِدَة، وَقيل: الْجَواب فِي قَوْله: فَإِذا هِيَ شاخصة، وَقَرَأَ ابْن عَامر: فتحت، بِالتَّشْدِيدِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْمعْنَى: حَتَّى إِذا فتحت سد يَأْجُوج وَمَأْجُوج يخرجُون حِين يفتح السد وهم من كل حدب، أَي: نشر من الأَرْض، وَفَسرهُ قَتَادَة بقوله: حدب أكمة. قَوْله: (يَنْسلونَ) أَي: يسرعون، من النسلان وَهُوَ مقاربة الخطى مَعَ الْإِسْرَاع كمشي الذِّئْب إِذا بَادر، والعسلان بِالْعينِ الْمُهْملَة، مثله.
قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت السَّدَّ مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ قَالَ رأيْتَهُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي عمر من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة عَن رجل من أهل الْمَدِينَة، أَنه قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا رَسُول الله {قد رَأَيْت سد يَأْجُوج وَمَأْجُوج} قَالَ: كَيفَ رَأَيْته؟ قَالَ: مثل البُرد المحبَّر طَريقَة حَمْرَاء وَطَرِيقَة سَوْدَاء، قَالَ: قد رَأَيْته؟ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة عَن رجلَيْنِ عَن أبي بكرَة: أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ، فَذكر نَحوه، وَأخرجه الْبَزَّار من طَرِيق يُوسُف بن أبي مَرْيَم الْحَنَفِيّ عَن أبي بكرَة: أَن رجلا رأى السد. . فساقه مطولا. وَأخرجه ابْن مرْدَوَيْه أَيْضا فِي (تَفْسِيره) عَن سُلَيْمَان بن أَحْمد: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا أَبُو الجماهير حَدثنَا سعيد بن بشير عَن قَتَادَة عَن رجلَيْنِ عَن أبي بكرَة الثَّقَفِيّ: أَن رجلا أَتَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي قد رَأَيْته، يَعْنِي السد، فَقَالَ: كَيفَ هُوَ؟ قَالَ: كالبُرد المحبَّر. قَالَ: قد رَأَيْته؟ قَالَ: وَحدثنَا قَتَادَة أَنه قَالَ: طَريقَة حَمْرَاء من نُحَاس وَطَرِيقَة سَوْدَاء من حَدِيد. قَوْله: (مثل الْبرد) ، بِضَم الْبَاء: هُوَ نوع من الثِّيَاب مَعْرُوف، وَالْجمع: أبراد وبرود، والبردة: الشملة المخططة. قَوْله: (المحبر) ، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة: وَهُوَ خطّ أَبيض وَخط أسود أَو أَحْمَر. قَوْله: (قَالَ: رَأَيْته؟) أَي: رَأَيْته صَحِيحا وَأَنت صَادِق فِي ذَلِك؟ وَقَالَ نعيم بن حَمَّاد فِي (كتاب الْفِتَن) : حَدثنَا مسلمة بن عَليّ حَدثنَا سعيد ابْن بشير عَن قَتَادَة قَالَ رجل: يَا رَسُول الله! قد رَأَيْت الرَّدْم، وَأَن النَّاس يكذبونني. فَقَالَ: كَيفَ رَأَيْته؟ قَالَ: رَأَيْته كَالْبردِ المحبر. قَالَ: صدقت، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقد رَأَيْته لَيْلَة الْإِسْرَاء، لبنة من ذهب ولبنة من رصاص. وَقَالَ الحوفي فِي (تَفْسِيره) : بُعْد مَا بَين

(15/236)


الجبلين مائَة فَرسَخ، فَلَمَّا أَخذ ذُو القرنين فِي عمله حفر لَهُ أساساً حَتَّى بلغ المَاء، وَجعل عرضه خمسين فرسخاً، وَجعل حشوه الصخور وطينه النّحاس الْمُذَاب، فَبَقيَ كَأَنَّهُ عرق من جبل تَحت الأَرْض، ثمَّ علاهُ وشرفه بزبر الْحَدِيد والنحاس الْمُذَاب، وَجعل خلاله عرقاً من نُحَاس، فَصَارَ كَأَنَّهُ بُرد محبَّر. 19 - (حَدثا يحيى بن بكير حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة بن الزبير أَن زَيْنَب ابْنة أبي سَلمَة حدثته عَن أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان عَن زَيْنَب ابْنة جحش رَضِي الله عَنْهُن أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل عَلَيْهَا فَزعًا يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله ويل للْعَرَب من شَرّ قد اقْترب فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه وَحلق بِأُصْبُعِهِ الْإِبْهَام وَالَّتِي تَلِيهَا قَالَت زَيْنَب ابْنة جحش فَقلت يَا رَسُول الله أنهلك وَفينَا الصالحون قَالَ نعم إِذا كثر الْخبث) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم ثَمَانِيَة الأول يحيى بن بكير وَهُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي الثَّانِي اللَّيْث بن سعد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الثَّالِث عقيل بِضَم الْعين ابْن خَالِد مولى عُثْمَان بن عَفَّان الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ الْخَامِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام السَّادِس زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عبد الله بن عبد الْأسد المَخْزُومِي ربيبة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُخْت عمر بن أبي سَلمَة وأمهما أم سَلمَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - السَّابِع أم حَبِيبَة وَاسْمهَا رَملَة بنت أبي سُفْيَان واسْمه صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الثَّامِن زَيْنَب ابْنة جحش بن ربَاب أم الْمُؤمنِينَ زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه أَن شَيْخه وَاللَّيْث مصريان وَأَن عقيلا أيلي والبقية مدنيون وَفِيه ثَلَاث صحابيات يروي بَعضهنَّ عَن بعض وَهُوَ نَادِر وأندر مِنْهُ مَا فِي إِحْدَى رِوَايَات مُسلم أَربع من الصحابيات وَهُوَ أَنه روى أَولا وَقَالَ حَدثنِي عَمْرو النَّاقِد حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أم سَلمَة عَن أم حَبِيبَة عَن زَيْنَب بنت جحش أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اسْتَيْقَظَ من نَومه وَهُوَ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله ويل للْعَرَب من شَرّ قد اقْترب فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه وَعقد سُفْيَان بِيَدِهِ عشرَة الحَدِيث ثمَّ روى وَقَالَ حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة وَسَعِيد بن عَمْرو الأشعثي وَزُهَيْر بن حَرْب وَابْن أبي عمر قَالُوا حَدثنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بِهَذَا الْإِسْنَاد وَزَادُوا فِي الْإِسْنَاد عَن سُفْيَان فَقَالُوا عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن حَبِيبَة عَن أم حَبِيبَة عَن زَيْنَب بنت جحش وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَقَالَ حَدثنَا سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي وَغير وَاحِد قَالُوا حَدثنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن حَبِيبَة عَن أم حَبِيبَة عَن زَيْنَب بنت جحش (قَالَت اسْتَيْقَظَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من نَومه محمرا وَجهه وَهُوَ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله يُرَدِّدهَا ثَلَاث مَرَّات وَهُوَ يَقُول ويل للْعَرَب من شَرّ قد اقْترب فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه وَعقد عشرا) الحَدِيث وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره نَحوه وَفِيه وَعقد بِيَدِهِ عشرَة وَقَالَ التِّرْمِذِيّ قَالَ الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة حفظت من الزُّهْرِيّ فِي هَذَا الْإِسْنَاد أَربع نسْوَة زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن حَبِيبَة وهما ربيبتا النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن أم حَبِيبَة عَن زَيْنَب بنت جحش زَوجي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ التِّرْمِذِيّ أَيْضا وروى معمر هَذَا الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ وَلم يذكر فِيهِ عَن حَبِيبَة قلت ذكر أَبُو عمر فِي الِاسْتِيعَاب فِي كتاب النِّسَاء فَقَالَ حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان وَقَالَ أبان بن صمغة سمع مُحَمَّد بن سِيرِين يَقُول حَدَّثتنِي حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول من مَاتَ لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد لم يرو عَنْهَا غير مُحَمَّد بن سِيرِين وَلَا يعرف لأبي سُفْيَان ابْنة يُقَال لَهَا حَبِيبَة وَالَّذِي أظنها حَبِيبَة بنت أم حَبِيبَة ابْنة أبي سُفْيَان ثمَّ ذكر أَبُو عمر الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة تَأْكِيدًا لما قَالَه أَن حَبِيبَة بنت أم حَبِيبَة أم الْمُؤمنِينَ وَلَيْسَت بنت أبي سُفْيَان وَقَالَ النَّوَوِيّ وحبيبة هَذِه هِيَ بنت أم حَبِيبَة أم الْمُؤمنِينَ بنت أبي سُفْيَان

(15/237)


ولدتها من زَوجهَا عبد الله بن جحش الَّذِي كَانَت عِنْده قبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي كتاب الْفِتَن حَدثنَا مَالك بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة أَنه سمع الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أم سَلمَة عَن أم حَبِيبَة عَن زَيْنَب ابنت جحش أَنَّهَا قَالَت اسْتَيْقَظَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من النّوم محمرا وَجهه وَهُوَ يَقُول لَا إِلَه إِلَّا الله ويل للْعَرَب من شَرّ قد اقْترب فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه وَعقد سُفْيَان تسعين أَو مائَة الحَدِيث وَأخرجه أَيْضا فِي آخر كتاب الْفِتَن عَن أبي الْيَمَان إِلَى آخِره وَلَيْسَ فيهمَا ذكر حَبِيبَة وَكَذَلِكَ أخرجه فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن أبي الْيَمَان (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " دخل عَلَيْهَا " أَي على زَيْنَب بنت جحش قَوْله " فَزعًا " نصب على الْحَال وَإِنَّمَا دخل عَلَيْهَا على هَذِه الْحَالة خشيَة أَن يُدْرِكهُ وقتهم لما فِيهِ من الْهَرج وهلاك الدّين قَوْله " ويل للْعَرَب " كلمة ويل للحزن والهلاك وَالْمَشَقَّة من الْعَذَاب وكل من وَقع فِي الهلكة دَعَا بِالْوَيْلِ وَإِنَّمَا خص الْعَرَب لاحْتِمَال أَنه أَرَادَ مَا وَقع من قتل عُثْمَان بَينهم وَقيل يحْتَمل أَنه أَرَادَ مَا سيقع من مفْسدَة يَأْجُوج وَمَأْجُوج وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ مَا وَقع من التّرْك من الْمَفَاسِد الْعَظِيمَة فِي بِلَاد الْمُسلمين وهم من نسل يَأْجُوج وَمَأْجُوج قَوْله " قد اقْترب " جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهُ صفة لقَوْله من شَرّ قَوْله " من ردم " أَي من سد مأجوج وَمَأْجُوج يُقَال ردمت الثلمة أَي سددتها الِاسْم والمصدر سَوَاء وَذَلِكَ أَنهم يحفرون كل يَوْم حَتَّى لَا يبْقى بَينهم وَبَين أَن يخرقوا النقب إِلَّا يَسِيرا فَيَقُولُونَ غَدا نأتي فنفرغ مِنْهُ فَيَأْتُونَ بعد الصَّباح فيجدونه عَاد كهيأته فَإِذا جَاءَ الْوَقْت قَالُوا عِنْد الْمسَاء غَدا إِن شَاءَ الله نأتي فنفرغ مِنْهُ فينقبونه وَيخرجُونَ أخرجه ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَحُذَيْفَة وَفِي تَفْسِير مقَاتل يَغْدُونَ إِلَيْهِ فِي كل يَوْم فيعالجون حَتَّى يُولد فيهم رجل مُسلم فَإِذا غدوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُم الْمُسلم قُولُوا بِسم الله فيعالجونه حَتَّى يتركونه رَقِيقا كقشر الْبيض وَيرى ضوء الشَّمْس فَيَقُول الْمُسلم قُولُوا بِسم الله غَدا نرْجِع إِن شَاءَ الله تَعَالَى فنفتحه الحَدِيث قَوْله " وَحلق بِأُصْبُعِهِ الْإِبْهَام وَالَّتِي تَلِيهَا " يَعْنِي جعل الْأصْبع السبابَة فِي أصل الْإِبْهَام وَضمّهَا حَتَّى لم يبْق بَينهمَا إِلَّا خلل يسير وَهُوَ من تواضعات الْحساب وَظَاهر هَذَا يدل على أَن الَّذِي فعل هَذَا هُوَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد مر فِي حَدِيث مُسلم من طَرِيق سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعقد سُفْيَان بِيَدِهِ عشرَة وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب الْفِتَن وَعقد سُفْيَان تسعين أَو مائَة وَيَأْتِي عَن قريب فِي حَدِيث زَيْنَب أَيْضا فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه وَحلق أصبعيه وَالَّتِي تَلِيهَا الحَدِيث وَلم يذكر شَيْئا غير هَذَا وَيَأْتِي أَيْضا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة قَالَ فتح الله من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذَا وَعقد بِيَدِهِ تسعين وَظَاهر هَذَا أَيْضا أَن الَّذِي عقد هُوَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَجَاء فِي رِوَايَة مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة من طَرِيق وهيب عَن عبد الله بن طَاوس عَن أَبِيه عَنهُ وَفِيه وَعقد وهيب بِيَدِهِ تسعين وَهَذِه الرِّوَايَة تصرح بِأَن الْعَاقِد هُوَ وهيب وَهَهُنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء. الأول فِي اخْتِلَاف الْعَاقِد. وَالثَّانِي فِي اخْتِلَاف الْعدَد. وَالثَّالِث أَن هَذَا الحَدِيث يُعَارضهُ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّا أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب فَالْجَوَاب عَن الأول بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ أَن نفس العقد مدرج وَلَيْسَ من قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا الروَاة عبروا عَن الْإِشَارَة الَّتِي فِي قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مثل هَذِه فِي حَدِيث الْبَاب وَغَيره وَذَلِكَ لأَنهم شاهدوا تِلْكَ الْإِشَارَة وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي مَا قَالَه عِيَاض المُرَاد أَن التَّقْرِيب بالتمثيل لَا حَقِيقَة التَّحْدِيد وَالْجَوَاب عَن الثَّالِث أَن قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّا أمة الحَدِيث لبَيَان صُورَة خَاصَّة مُعينَة قَوْله " أنهلك " بالنُّون وَكسر اللَّام على الصَّحِيح ويروى بِالضَّمِّ قَوْله الْخبث قَالَ الْكرْمَانِي الْخبث بِفَتْح الْخَاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة وَفَسرهُ الْجُمْهُور بالفسوق والفجور وَقيل المُرَاد الزِّنَا خَاصَّة وَقيل أَوْلَاد الزِّنَا وَالظَّاهِر أَنه الْمعاصِي مُطلقًا وَأَن الْخبث إِذا كثر فقد يحصل الْهَلَاك الْعَام وَإِن كَانَ هُنَاكَ صَالِحُونَ انْتهى -
7433 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا وُهَيْبٌ حدَّثنا ابنُ طَاوُسٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فتَحَ الله مِنْ رِدْمِ يَأجُوجَ ومأجُوجَ مِثْلَ هذَا وعَقَدَ بِيَدِهِ تَسْعِينَ. (الحَدِيث 7433 طرفه فِي: 6317) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ووهيب مصغر وهب ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، يروي عَن عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.

(15/238)


8433 - حدَّثني إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ حدَّثَنا أبُو أُسَامَةَ عنِ الأعْمَشِ حدَّثنا أَبُو صالِحٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَقُولُ الله تَعالى يَا آدَمُ فيَقُولُ لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ فِي يَدَيْكَ فيَقُولُ أخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ قَالَ وَمَا بَعْثُ النَّارِ قَالَ مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ وتَضَعُ كلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ولاكِنَّ عذَابَ الله شَدِيدٌ قالُوا يَا رسولَ الله وأيُّنا ذَلِكَ الوَاحِدُ قَالَ أبْشِرُوا فإنَّ مِنْكُمْ رَجُلٌ ومِنْ يأجُوجَ ومأجُوجَ ألْفٌ ثُمَّ قَالَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي أرْجُو أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ فَكَبَّرْنَا فَقَالَ أرْجُو أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الجَنَّةِ فكَبَّرْنَا فَقَالَ أرْجُو أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الجَنَّةِ فكَبَّرْنا فَقَالَ مَا أنتُمْ فِي النَّاسِ إلاَّ كالشَّعَرَةِ والسَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْر أبْيَضَ أوْ كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أسْوَدَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من يَأْجُوج وَمَأْجُوج) ، وَإِسْحَاق بن نصر هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر البُخَارِيّ. وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي تَفْسِير سور الْحَج.
قَوْله: (لبيْك) ، مضى تَفْسِيره فِي التَّلْبِيَة فِي الْحَج. قَوْله: (وَسَعْديك) ، أَي: ساعدت طَاعَتك مساعدة بعد مساعدة، وإسعاداً بعد إسعاد، وَلِهَذَا اثْنَي، وَهُوَ من المصادر المنصوبة بِفعل لَا يظْهر فِي الِاسْتِعْمَال. وَقَالَ الْجرْمِي: لم يسمع سعديك مُفردا. قَوْله: (وَالْخَيْر فِي يَديك) ، أَي: لَيْسَ لأحد مَعَك فِيهِ شركَة. قَوْله: (أخرج) ، بِفَتْح الْهمزَة، أَمر من الْإِخْرَاج. قَوْله: (بعث النَّار) ، بِالنّصب مَفْعُوله، وَهُوَ بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالثاء الْمُثَلَّثَة، يَعْنِي: الْمَبْعُوث، وَيُقَال: بعث النَّار حزبها، وَهُوَ إِخْبَار أَن ذَلِك الْعدَد من وَلَده يصيرون إِلَى النَّار. قَوْله: (تِسْعمائَة) ، قَالَ الْكرْمَانِي: بِالنّصب وَالرَّفْع. قلت: وَجه النصب على التَّمْيِيز، وَوجه الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: من كل مائَة تِسْعَة وَتِسْعين، وَفِي التِّرْمِذِيّ مثله عَن عمرَان، وَصَححهُ وَعَن أنس كَذَلِك أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَأكْثر أَئِمَّة الْبَصْرَة على أَن الْحسن سمع من عمرَان، وَعَن أبي مُوسَى نَحوه، رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث الْأَشْعَث نَحوه، وَعَن جَابر نَحوه رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاس فِي (مقامات التَّنْزِيل) وَفِي حَدِيث عمرَان: إِنِّي لأرجو أَن تَكُونُوا شطر أهل الْجنَّة، ثمَّ قَالَ: إِنِّي لأرجو أَن تَكُونُوا أَكثر أهل الْجنَّة. قَوْله: (فَعنده يشيب الصَّغِير وتضع كل ذَات حمل حملهَا) ، أَي: فَعِنْدَ قَول الله تَعَالَى عز وَجل لآدَم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أخرج بعث النَّار يشيب الصَّغِير من الهول والشدة. فَإِن قلت: يَوْم الْقِيَامَة لَيْسَ فِيهِ حمل وَلَا وضع؟ قلت: اخْتلفُوا فِي ذَلِك الْوَقْت، فَقيل: هُوَ عِنْد زَلْزَلَة السَّاعَة قبل خُرُوجهمْ من الدُّنْيَا، فَهُوَ حَقِيقَة، وَقيل: هُوَ مجَاز عَن الهول والشدة، يَعْنِي: لَو تصورت الْحَوَامِل هُنَاكَ لوضعن حَملهنَّ، كَمَا تَقول الْعَرَب أَصَابَنَا أَمر يشيب مِنْهُ الْولدَان. قَوْله: (رجل) ، رُوِيَ، بِالرَّفْع وَالنّصب: أما النصب فَظَاهر، وَأما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ مُؤخر، وتقدر ضمير الشَّأْن محذوفاً، وَالتَّقْدِير: فَإِنَّهُ مِنْكُم رجل، وَكَذَا الْكَلَام فِي ألف وألفاً. قَوْله: (فكبرنا) ، أَي: عظمنا ذَلِك وَقُلْنَا: الله أكبر، للسرور بِهَذِهِ الْبشَارَة الْعَظِيمَة، وَإِنَّمَا ذكر الرّبع أَولا ثمَّ النّصْف لِأَنَّهُ أوقع فِي النَّفس وأبلغ فِي الْإِكْرَام، فَإِن تكْرَار الْإِعْطَاء مرّة بعد أُخْرَى دَال على الملاحظة والاعتناء بِهِ. وَفِيه: أَيْضا حملهمْ على تَجْدِيد شكر الله وتكبيره وحمده على كَثْرَة نعمه. قَوْله: (أَو كشعرة) ، تنويع من رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو شكّ من الرَّاوِي، وَجَاء فِيهِ تسكين الْعين وَفتحهَا. فَإِن قلت: إِذا كَانُوا كشعرة، فَكيف يكونُونَ نصف أهل الْجنَّة؟ قلت: فِيهِ: دلَالَة على كَثْرَة أهل النَّار كَثْرَة لَا نِسْبَة لَهَا إِلَى أهل الْجنَّة، وَالله تَعَالَى أعلم.

8 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {واتَّخَذَ الله إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النِّسَاء: 561) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} وَتَمام الْآيَة هُوَ

(15/239)


قَوْله تَعَالَى: {وَمن أحسن دينا مِمَّن أسلم وَجهه لله وَهُوَ محسن وَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 561) . وَسبب تَسْمِيَته خَلِيلًا مَا ذكره ابْن جرير فِي (تَفْسِيره) : عَن بَعضهم أَنه إِنَّمَا سَمَّاهُ الله خَلِيلًا من أجل أَنه أصَاب أهل نَاحيَة جَدب، فَأرْسل إِلَى خَلِيل لَهُ من أهل الْموصل، وَقيل: من أهل مصر، ليمتار طَعَاما لأَهله من قبله، فَلم يصب عِنْده حَاجته، فَلَمَّا قرب من أَهله مر بمفازة ذَات رمال فَقَالَ: لَو مَلَأت غرائري من هَذَا الرمل لِئَلَّا أغم أَهلِي برجوعي إِلَيْهِم بِغَيْر ميرة، وليظنوا إِنِّي أتيتهم بِمَا يحبونَ، فَفعل ذَلِك، فتحول مَا فِي غرائره من الرمل دَقِيقًا، فَلَمَّا صَار إِلَى منزله نَام وَقَامَ أَهله ففتحوا الغرائر فوجدوا دَقِيقًا نقياً، فعجنوا مِنْهُ وخبزوه، فَاسْتَيْقَظَ فَسَأَلَهُمْ عَن الذقيق الَّذِي خبزوا مِنْهُ، فَقَالُوا: من الدَّقِيق الَّذِي جئتنا بِهِ من عِنْد خَلِيلك، فَقَالَ: نعم هُوَ من خليلي الله، فَسَماهُ الله تَعَالَى بذلك خَلِيلًا. وَقيل: إِنَّمَا سمي خَلِيلًا لشدَّة محبَّة ربه عز وَجل لما قَامَ لَهُ من الطَّاعَة الَّتِي يُحِبهَا ويرضاها، وَقيل: جَاءَ من طَرِيق جُنْدُب بن عبد الله البَجلِيّ، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم، بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الله بن عُمَيْر، قَالَ: كَانَ إِبْرَهِيمُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يضيف النَّاس، فَخرج يَوْمًا يلْتَمس إنْسَانا يضيفه فَلم يجد أحدا يضيفه فَرجع إِلَى دَاره فَوجدَ فِيهَا رجلا قَائِما، فَقَالَ: يَا عبد الله {مَا أدْخلك دَاري بِغَيْر إذني؟ فَقَالَ: دَخَلتهَا بِإِذن رَبهَا، قَالَ: وَمن أَنْت، قَالَ: ملك الْمَوْت أَرْسلنِي رَبِّي إِلَى عبد من عباده أُبَشِّرهُ بِأَن الله قد اتَّخذهُ خَلِيلًا، قَالَ: من هُوَ؟ فوَاللَّه إِن أَخْبَرتنِي بِهِ، ثمَّ كَانَ بأقصى الْبِلَاد لآتيته ثمَّ لَا أَبْرَح لَهُ جاراً حَتَّى يفرق بَيْننَا الْمَوْت، قَالَ: ذَلِك العَبْد أَنْت قَالَ: نعم} قَالَ: فَبِمَ اتَّخَذَنِي رَبِي خَلِيلًا؟ قَالَ: إِنَّك تُعْطِي النَّاس وَلَا تَسْأَلهُمْ.
وَاخْتلفُوا فِي نسبه؟ فَقيل: إِنَّه إِبْرَاهِيم بن تارح بن ناحور بن ساروح بن راعو بن فالح بن عَابِر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سَام بن نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَكَاهُ السّديّ عَن أشياخه، وَقد أسقط ذكر: قينان، من عَمُود النّسَب بِسَبَب أَنه كَانَ ساحراً، وَقيل: إِبْرَاهِيم بن تارخ بن أسوع بن أرغو بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سَام بن نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: إِبْرَاهِيم بن آزر بن الناجر بن سارغ بن والغ بن الْقَاسِم، الَّذِي قسم الأَرْض ابْن عبير بن شالخ بن وَاقد بن فالخ، وَهُوَ سَام. وَقيل: آزر بن صاروج بن راغو بن فالغ بن إرفخشذ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: كَانَ اسْم أَب إِبْرَاهِيم الَّذِي سَمَّاهُ أَبوهُ: تارخ، فَلَمَّا صَار مَعَ نمْرُود قيمًا على خزانَة آلِهَته سَمَّاهُ: آزر، وَقيل: آزر اسْم صنم، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: إِنَّه لقب لَهُ عيب بِهِ، وَمَعْنَاهُ: معوج، وَقيل: هُوَ بالقبطية الشَّيْخ الْهَرم، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: آزر اسْم أعجمي، وَقَالَ البلاذري عَن الشرفي بن الْقطَامِي: إِن معنى آزر: السَّيِّد الْمعِين، وَقَالَ وهب: إسم أم إِبْرَاهِيم نونا بنت كرنبا من بني سَام بن نوح، وَقَالَ هِشَام: لم يكن بَين نوح وَإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، إلاَّ هود وَصَالح، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ بَين إِبْرَاهِيم وَهود سِتّمائَة سنة وَثَلَاثُونَ سنة، وَبَين نوح وَإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، ألف وَمِائَة وَثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ سنة. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَكَانَ بَين مولد إِبْرَاهِيم وَبَين الطوفان ألف سنة وَمِائَتَا سنة وَثَلَاث وَسِتُّونَ سنة، وَذَلِكَ بعد خلق آدم بِثَلَاثَة آلَاف سنة وثلاثمائة سنة وَسبع وَثَلَاثُونَ سنة، وَكَانَ مولد إِبْرَاهِيم فِي زمن نمْرُود بن كنعان، لَعنه الله تَعَالَى، وَلَكِن اخْتلفُوا فِي أَي مَكَان ولد؟ فَقيل: بِبَابِل من أَرض السوَاد مَدِينَة نمْرُود، قَالَه ابْن عَبَّاس، وَعَن مُجَاهِد: بكوثا محلّة بكوفة، وَعَن عِكْرِمَة: بالسوس، وَعَن السّديّ: بَين الْبَصْرَة والكوفة، وَعَن الرّبيع بن أنس: بكسكر ثمَّ نَقله أَبوهُ إِلَى كوثا، وَعَن وهب: بحران، وَالصَّحِيح الأول، وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد فِي (الطَّبَقَات) كنية إِبْرَاهِيم أَبُو الأضياف، وَقد سَمَّاهُ الله بأسماء كَثِيرَة مِنْهَا: الأواه والحليم والمنيب، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن إِبْرَاهِيم لحليم أَواه منيب} (هود: 57) . وَمِنْهَا: الحنيف وَهُوَ المائل إِلَى الدّين الْحق، وَمِنْهَا: القانت والشاكر إِلَى غير ذَلِك. قلت: هَذِه أَوْصَاف لَهُ فِي الْحَقِيقَة، وَمَات إِبْرَاهِيم وعمره مِائَتي سنة، وَهُوَ الْأَصَح، وَيُقَال: مائَة وَخَمْسَة وَسَبْعُونَ سنة، قَالَه الْكَلْبِيّ، وَقَالَ مقَاتل: مائَة وَتسْعُونَ سنة، وَدفن بالمغارة الَّتِي فِي جبرون وَهِي الْآن تسمى بِمَدِينَة الْخَلِيل، وَمعنى: إِبْرَاهِيم: أَب رَحِيم، لِرَحْمَتِهِ الْأَطْفَال، وَلذَلِك جعل هُوَ وَسَارة كافلين لأطفال الْمُؤمنِينَ الَّذين يموتون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَسَيَأْتِي عَن قريب، وَقَالَ الجواليقي: إِبْرَاهِيم وأبرهم وإبراهم وإبراهام.

(15/240)


وقَوْلِهِ {إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتَاً} (النَّحْل: 021) . وقوْلِهِ {إنَّ إبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التَّوْبَة: 411) .
وَقَوله، عطف على الْمَجْرُور فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى، الأواه، على وزن: فعال، للْمُبَالَغَة فِيمَن يَقُول أوه، وَهُوَ المتأوه المتضرع، وَقيل: هُوَ الْكثير الْبكاء، وَقيل: هُوَ الْكثير الدُّعَاء. وَفِي الحَدِيث: (أللهم إجعلني لَك مخبتاً أوَّاهاً منيباً) وَعَن مُجَاهِد: الأوَّاه الْمُنِيب: الْفَقِير الْمُوفق، وَعَن الشّعبِيّ: الأواه المسبح، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار: كَانَ إِذا ذكر النَّار قَالَ: أَواه من عَذَاب الله تَعَالَى.
وَقَالَ أبُو مَيْسَرَةَ الرَّحِيمُ بِلسَان الحَبَشَةِ
أَبُو ميسرَة ضد الميمنة واسْمه: عَمْرو بن شُرَحْبِيل الْهَمدَانِي الوادعي الْكُوفِي، سمع ابْن مَسْعُود، وَعنهُ أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، مَاتَ قبل أبي جُحَيْفَة فِي ولَايَة عبيد الله بن زِيَاد، وَهَذَا الْأَثر الْمُعَلق وَصله وَكِيع فِي تَفْسِيره من طَرِيق أبي إِسْحَاق عَنهُ.

9433 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخبرَنا سُفْيانُ حدَّثنا المُغِيرَةُ بنُ النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثَني سَعِيدُ ابنُ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ثُمَّ قَرَأ {ك بَدَأنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدَاً علَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الْأَنْبِيَاء: 401) . وأوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ القِيامَةِ إبْرَاهِيمُ وإنَّ أُنَاسَاً مِنْ أصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فأقُولُ أصْحَابِي أصْحَابِي فيُقَالُ إنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ علَى أعْقَابِهِمْ مُنْذُ فارَقْتَهُمْ فأقُولُ كَما قالَ العَبْدُ الصَّالِحُ {وكُنْتُ علَيْهِمْ شَهِيدَاً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إلَى قَوْلهِ {الحَكِيمُ} (الْمَائِدَة: 711) . .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَأول من يُكسى يَوْم الْقِيَامَة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، والمغيرة بن النُّعْمَان النَّخعِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أبي الْوَلِيد وَسليمَان بن حَرْب فرقهما، وَفِي الرقَاق عَن بنْدَار عَن غنْدر، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن مُحَمَّد بن يُوسُف. وَفِيه أَيْضا عَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه مُسلم فِي صفة الْقِيَامَة عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن عبيد الله بن معَاذ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار بِهِ وَعَن مَحْمُود بن غيلَان وَفِي التَّفْسِير عَن مَحْمُود بن غيلَان أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مَحْمُود بن غيلَان وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَفِي التَّفْسِير عَن سُلَيْمَان بن عبيد الله.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِنَّكُم مَحْشُورُونَ) ، جمع محشور من الْحَشْر، وَهُوَ الْجمع، وَفِي رِوَايَة مُسلم: إِنَّكُم تحشرون، بتاء المضارعة على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (حُفَاة) ، جمع حافٍ، وَهُوَ خلاف الناعل، كقضاة جمع قاضٍ من حفي يحفى حفيةً وحفايةً، وَأما من حفي من كَثْرَة الْمَشْي إِذا رقت قدمه فَهُوَ حفء من: الحفاء، مَقْصُور. قَوْله: (عُرَاة) جمع عَار من الثِّيَاب. قَوْله: (غرلًا) ، بِضَم الْغَيْن جمع: أغرل، وَهُوَ الأقلف، وَهُوَ الَّذِي لم يختن، وَبقيت مَعَه غرلته، وَهِي قلفته، وَهِي الْجلْدَة الَّتِي لم تقطع فِي الْخِتَان. قَالَ الْأَزْهَرِي وَغَيره: هُوَ الأغرل، والأرغل والأغلف، بالغين الْمُعْجَمَة فِي الثَّلَاثَة، والأقلف والأعرم بِالْعينِ الْمُهْملَة وَجمعه: غرل ورغل وغلف وقلف وعرم، والغرلة: مَا يقطع من ذكر الصَّبِي وَهُوَ القلفة وبطولها يعرف نجابة الصَّبِي. وَقَالَ أَبُو هِلَال العسكري: لَا تلتقي الرَّاء مَعَ اللَّام فِي الْعَرَبيَّة إلاَّ فِي أَربع كَلِمَات: أرل اسْم جبل، وورل اسْم دَابَّة، وجرل هُوَ اسْم للحجارة، والغرلة. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : أهمل أَربع كَلِمَات أُخْرَى: برل الديك، وَهُوَ الريش الَّذِي يستدير بعنقه. وعيش أغرل: أَي وَاسع، وَرجل غرل: مسترخي الْخلق والهرل: ولد ... قَالَه القالي: قلت: لُغَة الْعَرَب وَاسِعَة واستقصاء هَذِه الْمَادَّة متعسر، والورل، بِفتْحَتَيْنِ: دَابَّة مثل الضَّب، وَالْجمع ورلان، والجرل، بِفَتْح الْجِيم وَفتح الرَّاء وَكَذَلِكَ الجرول وَالْوَاو للإلحاق بِجَعْفَر، وبرل الديك، بِضَم الْبَاء

(15/241)


الْمُوَحدَة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: برائل الديك عفرته، وَهُوَ الريش الَّذِي يستدير فِي عُنُقه، وَلم يذكر برلاً، وَقد برأل الديك برألة: إِذا نفش برائله، وعيش أغرل بالغين الْمُعْجَمَة، وَرجل غرل، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء: مسترخي الْخلق بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة الغلفة يَوْم الْقِيَامَة؟ قلت: الْمَقْصُود أَنهم يحشرون كَمَا خلقُوا لَا شَيْء مَعَهم وَلَا يفقد مِنْهُم شَيْء، حَتَّى الغرلة تكون مَعَهم. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: لَذَّة جماع الأقلف تزيد على لَذَّة جماع المختون، وَقَالَ ابْن عقيل: بشرة حَشَفَة الأقلف موقاة بالقلفة فَتكون بَشرَتهَا أرق وَمَوْضِع الْحس كلما رق كَانَ الْحس أصدق كراحة الْكَفّ، إِذا كَانَت موقاة من الْأَعْمَال صلحت للحس، وَإِذا كَانَت يَد قصار أَو نجار خَفِي فِيهَا الْحس، فَلَمَّا أبانوا فِي الدُّنْيَا تِلْكَ الْبضْعَة لأَجله أَعَادَهَا الله ليذيقها من حلاوة فَضله، قَالَ: والسر فِي الْخِتَان، مَعَ أَن القلفة مَعْفُو عَن مَا تحتهَا من النَّجس، أَنه سنة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث أبي سعيد: أَنه لما حَضَره الْمَوْت دَعَا بِثِيَاب جدد فلبسها، ثمَّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: إِن الْمَيِّت يبْعَث فِي ثِيَابه الَّتِي يَمُوت فِيهَا، وَرَوَاهُ ابْن حبَان أَيْضا وَصَححهُ، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث بهز بن حَكِيم عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: إِنَّكُم تحشرون رجَالًا وركباناً وَتجرونَ على وُجُوهكُم، فَفِيهَا مُعَارضَة لحَدِيث الْبَاب ظَاهرا. قلت: أُجِيب بِأَنَّهُم يبعثون من قُبُورهم فِي ثِيَابهمْ الَّتِي يموتون فِيهَا، ثمَّ عِنْد الْحَشْر تتناثر عَنْهُم ثِيَابهمْ فيحشرون عُرَاة أَو بَعضهم يأْتونَ إِلَى موقف الْحساب عُرَاة ثمَّ يكسون من ثِيَاب الْجنَّة، وَبَعْضهمْ حمل قَوْله: يبعثون فِي ثِيَابه، على الْأَعْمَال، أَي: فِي أَعماله الَّتِي يَمُوت فِيهَا من خير أَو شَرّ. قَالَ تَعَالَى: {ولباس التَّقْوَى ذَلِك خير} (الْأَعْرَاف: 62) . وَقَالَ تَعَالَى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 3) . أَي: عَمَلك أخلصه، وروى مُسلم عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: يبْعَث كل عبد على مَا مَاتَ عَلَيْهِ، وَحمله بَعضهم على الشُّهَدَاء الَّذين أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يزملوا فِي ثِيَابهمْ ويدفنوا بهَا، وَلَا يُغير شَيْء من حَالهم، وَقَالُوا: يحْتَمل أَن يكون أَبُو سعيد سمع الحَدِيث فِي الشُّهَدَاء فتأوله على الْعُمُوم، وَقَالَ بَعضهم: وَمِمَّا يدل على حَدِيث الْبَاب قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة} (الْأَنْعَام: 49) . وَقَوله تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تعودُونَ} (الْأَعْرَاف: 92) . وَلَا ملابس يَوْمئِذٍ إلاَّ فِي الْجنَّة، وَذهب الْغَزالِيّ إِلَى حَدِيث أبي سعيد وَاحْتج بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بالغوا فِي أكفان مَوْتَاكُم، فَإِن أمتِي تحْشر فِي أكفانها، وَسَائِر الْأُمَم عُرَاة، رَوَاهُ أَبُو سُفْيَان مُسْندًا. وَأجِيب: عَنهُ، على تَقْدِير صِحَّته: إِنَّه مَحْمُول على أمتِي الشُّهَدَاء، وَاحْتج الْغَزالِيّ أَيْضا بِمَا رَوَاهُ أَبُو نصر الوائلي فِي (الْإِبَانَة) : من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر مَرْفُوعا: أَحْسنُوا أكفان مَوْتَاكُم، فَإِنَّهُم يتباهون بهَا ويتزاورون فِي قُبُورهم. وَأجِيب: بِأَن ذَلِك يكون فِي البرزخ، كَمَا فِي نفس الحَدِيث، فَإِذا قَامُوا خَرجُوا، كَمَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: إلاَّ الشُّهَدَاء. قَوْله: ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {كَمَا بدأنا أول خلق نعيده} (الْأَنْبِيَاء: 401) . الْآيَة، وأولها هُوَ قَوْله: {يَوْم نطوي السَّمَاء كطي السّجل للْكتاب} (الْأَنْبِيَاء: 401) . أَي: يَوْم نطوي السَّمَاء طياً كطي السّجل الصَّحِيفَة للْكتاب الْمَكْتُوب، وَعَن عَليّ وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: السّجل ملك يطوي كتب ابْن آدم إِذا رفعت إِلَيْهِ، وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: السّجل كَاتب لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعنهُ أَيْضا السّجل يَعْنِي: الرجل، فعلى هَذِه الْأَقْوَال: الْكتاب اسْم الصَّحِيفَة الْمَكْتُوب فِيهَا. قَوْله: {أول خلق} (الْأَنْبِيَاء: 401) . مفعول لقَوْله: نعيد، الَّذِي يفسره: نعيده، الَّذِي بعده، وَالْكَاف مَكْفُوفَة بِمَا، وَالْمعْنَى: نعيد أول خلق كَمَا بدأناه، تَشْبِيها للإعادة بالإبداء فِي تنَاول الْقُدْرَة لَهما على السوَاء، وَقيل: كَمَا بدأناهم فِي بطُون أمهاتهم حُفَاة عُرَاة غرلًا، كَذَلِك نعيدهم يَوْم الْقِيَامَة نظيرها. قَوْله: (وَعدا) مصدر مُؤَكد، لِأَن قَوْله: نعيده، عدَّة للإعادة. قَوْله: (إنَّا كُنَّا فاعلين) أَي: قَادِرين على مَا نشَاء أَن نَفْعل، وَقيل: مَعْنَاهُ: إِنَّا كُنَّا فاعلين مَا وعدناه. قَوْله: (وَأول من يكسى يَوْم الْقِيَامَة إِبْرَاهِيم) ، فِيهِ منقبة، ظَاهره لَهُ فَضِيلَة عَظِيمَة وخصوصية، كَمَا خص مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجده مُتَعَلقا بساق الْعَرْش، مَعَ أَن سيد الْأمة أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض، وَلَا يلْزم من هَذَا أَن يكون أفضل مِنْهُ، بل هُوَ أفضل من فِي الْقِيَامَة، وَلَا يلْزم من اخْتِصَاص الشَّخْص بفضيلة كَونه أفضل مُطلقًا، أَو المُرَاد غير الْمُتَكَلّم بذلك، لِأَن قوما من أهل الْأُصُول ذكرُوا أَن الْمُتَكَلّم لَا يدْخل تَحت عُمُوم خطابه، وروى ابْن الْمُبَارك فِي (رقائقه) : من حَدِيث عبد الله بن الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أول من يكسى خَلِيل الله قبطيتين، ثمَّ يكسى مُحَمَّد حلَّة حبرَة عَن يَمِين

(15/242)


الْعَرْش. وَفِي (منهاج الْحَلِيمِيّ) : من حَدِيث عباد بن كثير عَن أبي الزبير عَن جبر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أول من يكسى من حلل الْجنَّة إِبْرَاهِيم، ثمَّ مُحَمَّد ثمَّ النَّبِيون، ثمَّ قَالَ: إِذا أَتَى بِمُحَمد أُتِي بحلة لَا يقوم لَهَا الْبشر لنفاسة الْكسْوَة، فَكَأَنَّهُ كسى مَعَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وروى أَبُو نعيم من حَدِيث ابْن مَسْعُود فِيهِ: فَيكون أول من يكسى إِبْرَاهِيم، فَيَقُول: رَبنَا عز وَجل إكسوا خليلي، فَيُؤتى بربطتين بيضاوين فيلبسهما، ثمَّ يقْصد مُسْتَقْبل الْعَرْش، ثمَّ يُؤْتى بكسوتي فألبسها فأقوم عَن يَمِينه مقَاما يغبطني فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ. وَفِي (الْأَسْمَاء وَالصِّفَات) للبيهقي: من حَدِيث ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا: أول من يكسى إِبْرَاهِيم حلَّة من الْجنَّة، وَيُؤْتى بكرسي فيطرح عَن يَمِين الْعَرْش، وَيُؤْتى بِي فأكسى حلَّة لَا يقوم لَهَا الْبشر. وَالْحكمَة فِي خُصُوصِيَّة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بذلك لكَونه ألقِي فِي النَّار عُريَانا، وَقيل: لِأَنَّهُ أول من لبس السَّرَاوِيل مُبَالغَة فِي السّتْر، وَلَا سِيمَا فِي الصَّلَاة، فَلَمَّا فعل ذَلِك جوزي بِأَن يكون أول من يستر يَوْم الْقِيَامَة. قَوْله: (وَإِن أُنَاسًا من أَصْحَابِي يُؤْخَذ بهم ذَات الشمَال) ، بِكَسْر الشين ضد الْيَمين وَيُرَاد بهَا جِهَة الْيَسَار. قَوْله: (فَأَقُول: أَصْحَابِي أَصْحَابِي) الأول، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هَؤُلَاءِ أَصْحَابِي، وأصحابي الثَّانِي تَأْكِيد لَهُ، ويروى: أصيحابي أصيحابي، وَوجه التصغير فِيهِ إِشَارَة إِلَى قلَّة عدد من هَذَا وَصفهم. قَوْله: (لن يزَالُوا) ويروى: لم يزَالُوا، وَفِي رِوَايَة مُسلم: ألاَّ وَإنَّهُ سيجاء بِرِجَال من أمتِي فَيُؤْخَذ بهم ذَات الشمَال، فَأَقُول: يَا رب أَصْحَابِي. قَوْله: (لن يزَالُوا مرتدين على أَعْقَابهم مُنْذُ فَارَقْتهمْ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَيُقَال: (لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعْدك) ، وَقَالَ الْخطابِيّ: الإرتداد هُنَا التَّأْخِير عَن الْحُقُوق اللَّازِمَة وَالتَّقْصِير فِيهَا، قيل: هُوَ مَرْدُود، لِأَن ظَاهر الإرتداد يَقْتَضِي الْكفْر لقَوْله تَعَالَى: {أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم على أعقابكم} (آل عمرَان: 441) . أَي: رجعتم إِلَى الْكفْر والتنازع، وَلِهَذَا قَالَ: بعدا لَهُم وَسُحْقًا، وَهَذَا لَا يُقَال للْمُسلمين، فَإِن شَفَاعَته للمذنبين. فَإِن قلت: كَيفَ خَفِي عَلَيْهِ حَالهم مَعَ إخْبَاره بِعرْض أمته عَلَيْهِ؟ قلت: لَيْسُوا من أمته، وَإِنَّمَا يعرض عَلَيْهِ أَعمال الْمُوَحِّدين لَا الْمُرْتَدين وَالْمُنَافِقِينَ، وَقَالَ ابْن التِّين: يحْتَمل أَن يَكُونُوا منافقين أَو مرتكبي الْكَبَائِر من أمته، قَالَ: وَلم يرْتَد أحد من أمته، وَلذَلِك قَالَ: على أَعْقَابهم، لِأَن الَّذِي يعقل من قَوْله: الْمُرْتَدين الْكفَّار إِذا أطلق من غير تَقْيِيد، وَقيل: هم قوم من جُفَاة الْعَرَب دخلُوا فِي الْإِسْلَام أَيَّام حَيَاته رَغْبَة وَرَهْبَة: كعيينة بن حُصَيْن، جَاءَ بِهِ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَسِيرًا، والأشعث بن قيس، فَلم يقتلهما وَلم يسترقهما، فعادوا الْإِسْلَام. وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد بِهِ المُنَافِقُونَ والمرتدون، وَقيل: المُرَاد من كَانَ فِي زَمَنه مُسلما ثمَّ ارْتَدَّ بعده، فيناديه لما كَانَ يعرفهُ فِي حَال حَيَاته من إسْلَامهمْ، فَيُقَال: ارْتَدُّوا بعْدك. فَإِن قلت: يشكل عَلَيْهِ بِعرْض الْأَعْمَال؟ قلت: قد ذكرنَا أَن الَّذِي يعرض عَلَيْهِ أَعمال الْمُوَحِّدين لَا الْمُرْتَدين وَلَا الْمُنَافِقين. وَقَالَ أَبُو عمر: كل من أحدث فِي الدّين فَهُوَ من المطرودين عَن الْحَوْض: كالخوارج وَالرَّوَافِض وَسَائِر أَصْحَاب الْأَهْوَاء، وَكَذَلِكَ الظَّلَمة المسرفون فِي الْجور وطمس الْحق والمعلنون بالكبائر. قَوْله: (فَأَقُول كَمَا قَالَ العَبْد الصَّالح) وَهُوَ: عِيسَى بن مَرْيَم، صلوَات الله عَلَيْهِمَا. قَوْله: {وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا} إِلَى آخِره (الْمَائِدَة: 711) . وَتَمام هَذَا الْكَلَام من قَوْله: {وَإِذ قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس} (الْمَائِدَة: 711) . إِلَى قَوْله: {فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم} (الْمَائِدَة: 711) . وَمعنى قَوْله: {وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا} (الْمَائِدَة: 711) . أَي: كنت أشهد على أَعْمَالهم حِين كنت بَين أظهرهم، فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب أَي: الحفيظ عَلَيْهِم، والمراقبة فِي الأَصْل المراعاة، وَقيل: أَنْت الْعَالم بهم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد أَي: شَاهد لما حضر وَغَابَ، وَقيل: على من عصى وأطاع. قَوْله: {أَن تُعَذبهُمْ} (الْمَائِدَة: 711) . ذكر ذَلِك على وَجه الاستعطاف وَالتَّسْلِيم لأَمره، وَإِن تغْفر لَهُم فبتوبة كَانَت مِنْهُم لأَنهم عِبَادك وَأَنت الْعَادِل فيهم، وَأَنت فِي مغفرتك عَزِيز لَا يمْتَنع عَلَيْك مَا تُرِيدُ، حَكِيم فِي ذَلِك.

0533 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِ الله قَالَ أخبرَنِي أخِي عَبْدُ الحَمِيدِ عنِ ابنِ أبِي ذِئْبٍ عنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَلْقاى إبْرَاهِيمُ أباهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ وعَلى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وغبَرَةٌ فيَقُولُ لَهُ إبرَاهِيمُ ألَمْ أقُلْ لَكَ لاَ تَعْصِني فَيَقُولُ أبُوهُ فالْيَوْمَ لاَ أعْصِيكَ فيَقُولُ إبْرَاهِيمُ يَا رَبِّ إنَّكَ وعَدْتَنِي أَن لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فأَيُّ خِزْيٍ

(15/243)


أخْزَى مِنْ أبِي الأبْعَدِ فيَقُولُ الله تَعَالى إنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ علَى الكَافِرِينَ ثُمَّ يُقالُ يَا إبرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فيَنْظُرُ فإذَا بذِيخٍ مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهُ فيُلْقَى فِي النَّارِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي ذكر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِسْمَاعِيل بن عبد الله هُوَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، وَاسم أبي أويس عبد الله وَأَخُوهُ عبد الحميد بن أبي أويس، يكنى أَبَا بكر الأصبحي الْمَدِينِيّ، وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله.
قَوْله: (قترة) أَي: سَواد الدُّخان، (وغبرة) أَي: غُبَار، وَلَا يرْوى أوحش من اجْتِمَاع الغبرة والسواد فِي الْوَجْه. قَالَ تَعَالَى: {وُجُوه يَوْمئِذٍ عَلَيْهَا غبرة ترهقها قترة} (عبس: 04 14) . وَيُقَال: القترة الظلمَة، وَفسّر ابْن التِّين: القترة بالغبرة، فعلى هَذَا يكون من بَاب الترادف، قَالَ: وَقيل: القترة مَا يغشى الْوَجْه من كرب، وَقَالَ الزّجاج: القترة الغبرة مَعهَا سَواد كالدخان، وَعَن مقَاتل: سَواد وكآبة. قَوْله: (أَن لَا تخزيني) من الإخزاء وثلاثيه: خزاه يخزوه خزواً يَعْنِي: ساسه وقهره، وخزى يخزى من بَاب علم يعلم خزياً بِالْكَسْرِ أَي: ذل وَهَان، وَقَالَ ابْن السّكيت: مَعْنَاهُ وَقع فِي بلية وخزي أَيْضا يخزى خزاية أَي: استحيى فَهُوَ خزيان، وَقوم خزايا وَامْرَأَة خزياء. قَوْله: (الْأَبْعَد) أَي: الْأَبْعَد من رَحْمَة الله، وَإِنَّمَا قَالَ بأفعل التَّفْضِيل لِأَن الْفَاسِق بعيد وَالْكَافِر أبعد، وَقيل: هُوَ بِمَعْنى الباعد أَي: الْهَالِك من بعد بِفَتْح الْعين إِذا هلك، وعَلى الْمَعْنيين الْمُضَاف مَحْذُوف أَي: من خزي أبي الْأَبْعَد. قَوْله: (فَإِذا) كلمة مفاجأة. قَوْله: (بذيخ) ، بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف قَوْله وبالخاء الْمُعْجَمَة: ذكر الضبع الْكثير الشّعْر، وَقَالَ ابْن سَيّده: وَالْجمع أذياخ وذيوخ، وذيخة وَالْجمع ذيخات. قَوْله: (متلطخ) ، صفة الذّبْح أَي متلطخ بالرجيع أَو بالطين أَو بِالدَّمِ، وحملت إِبْرَاهِيم الرأفة على أَن يشفع فِيهِ، فأري لَهُ على خلاف منظره ليتبرأ مِنْهُ، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: يُوجد بحجرة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَانْتزع مِنْهُ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.

1533 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حدَّثني ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخْبَرَنِي عَمُرٌ وأنَّ بُكَيْرَاً حدَّثَهُ عنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيْتَ وَجَدَ فِيهِ صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وصُورَةَ مَرْيَمَ فَقَالَ أمَّا هُمْ فَقَدْ سَمِعُوا أنَّ المَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتَاً فِيهِ صُورَةٌ هذَا إبْرَاهِيمُ مُصَوَّرٌ فَمَا لَهُ يَسْتَقْسِمُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: إِبْرَاهِيم، فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَيحيى بن سُلَيْمَان أَبُو سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي، نزل مصر وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَعَمْرو هُوَ ابْن الْحَارِث الْمصْرِيّ، وَبُكَيْر مصغر بكر ابْن عبد الله بن الْأَشَج.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن وهب بن بَيَان، وَقد مضى أَيْضا فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب من كبر فِي نواحي الْكَعْبَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من حَدِيث أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (الْبَيْت) ، أَي: الْكَعْبَة. قَوْله: (أما) ، بِالتَّشْدِيدِ. قَوْله: (هم) ، أَي: قُرَيْش، وقسيم: إِمَّا، هُوَ قَوْله: هَذَا إِبْرَاهِيم، أَو قسيمه مَحْذُوف نَحْو: وَأما صُورَة مَرْيَم فَكَذَا. قَوْله: (هَذَا إِبْرَاهِيم) ، أَي: هَذَا صُورَة إِبْرَاهِيم قَوْله: (فَمَاله يستقسم؟) إبعاد مِنْهُ فِي حق إِبْرَاهِيم لِأَنَّهُ مَعْصُوم مِنْهُ، والاستقسام طلب معرفَة مَا قسم لَهُ مِمَّا لم يقسم لَهُ بالإزلام، وَهِي القداح، وَقيل: الاستقسام بالأزلام هُوَ الميسر، وقسمتهم الْجَزُور على الْأَنْصِبَاء الْمَعْلُومَة، وَإِنَّمَا حرم ذَلِك لِأَنَّهُ دُخُول فِي علم الْغَيْب. وَفِيه: اعْتِقَاد أَنه طَرِيق إِلَى الْحق. وَفِيه: إفتراء على الله إِذْ لم يَأْمر بذلك.

2533 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخْبرَنَا هِشامٌ عنْ مَعْمَرٍ عنْ أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا رأى الصُّوَرَ فِي البَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حتَّى أمَرَ بِهَا

(15/244)


فمُحِيَتْ ورَأى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ علَيْهِمَا السَّلاَمُ بأيْدِيهِمَا الأزْلاَمُ فَقَالَ قاتَلَهُمُ الله وَالله إنِ اسْتَقْسَمَا بالأزْلاَمِ قَطٌّ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: إِبْرَاهِيم، وَهَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الْفراء أبي إِسْحَاق الرَّازِيّ الْمَعْرُوف بالصغير عَن هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ عَن معمر عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن عِكْرِمَة.
قَوْله: (فمحيت) من المحو، وَهُوَ الْإِزَالَة، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (قَاتلهم الله) ، أَي: لعنهم الله. قَوْله: (إِن استقسما) أَي: مَا استقسما، وَكلمَة: إِن، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون النُّون: نَافِيَة.

3533 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا عُبَيْدُ الله قَالَ حدَّثني سعِيدُ بنُ أبِي سَعِيدٍ عنْ أبِيهِ عَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قِيلَ يَا رسولَ الله مَنْ أكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أتْقاهُمْ فَقَالُوا لَيْسَ عنْ هَذَا نَسْألُكَ قَالَ فَيُوسُفُ نَبيُّ الله ابنُ نَبِيِّ الله ابنِ نَبِيِّ الله ابنِ خَلِيلِ الله قالُوا لَيْسَ عنْ هَذَا نَسْألُكَ قَالَ فَعَنْ معادِنِ العَرَبِ تَسْألُونَ خيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خِيارُهُمْ فِي الإسْلاَمِ إذَا فَقِهُوا. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (خَلِيل الله) وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وَيحيى بن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله بتصغير العَبْد هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، وَسَعِيد هُوَ المَقْبُري يروي عَن أَبِيه كيسَان عَن أبي هُرَيْرَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا هُنَا عَن صَدَقَة بن الْفضل وَفِي مَنَاقِب قُرَيْش عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه مُسلم فِي المناقب عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَزُهَيْر بن حَرْب وَعبيد الله بن عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عمر بن عَليّ.
قَوْله: (أتفاهم) ، يَعْنِي: أَشَّدهم تقوى، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} (الحجرات: 31) . قَوْله: (فيوسف نَبِي الله) أَي: فيوسف نَبِي الله أَشْرَفهم، لِأَن معنى الْكَرم هُنَا الشّرف، وَذَلِكَ من اتَّقى ربه عز وَجل شرف لِأَن التَّقْوَى تحمله على أَسبَاب الْعِزّ لِأَنَّهَا تبعده عَن الطمع فِي كثير من الْمُبَاح، فضلا عَن غَيره وَمن المآثم، وَمَا ذَاك إلاَّ من أسره هَوَاهُ، وَادّعى الْقُرْطُبِيّ: أَنه يخرج من هَذَا الحَدِيث أَن أخوة يُوسُف لَيْسُوا أَنْبيَاء، إِذْ لَو كَانُوا كَذَلِك لشاركوه فِي هَذِه المنقبة، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ ذكره لكَونه أفضلهم لَا سِيمَا على من ادّعى رسَالَته. قَوْله: (ابْن نَبِي الله) هُوَ يعقوبُ (ابْن نَبِي الله) هُوَ إِسْحَاق (ابْن خَلِيل الله) هُوَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (فَعَن معادن الْعَرَب) ، أَي: أصولهم الَّتِي ينسبون إِلَيْهَا ويتفاخرون بهَا، وَإِنَّمَا جعلت معادن لما فِيهَا من الاستعدادات المتفاوتة. فَمِنْهَا: قَابِلَة لفيض الله على مَرَاتِب المعدنيات، وَمِنْهَا: غير قَابِلَة لَهُ، وشبههم بالمعادن لأَنهم أوعية للعلوم، كَمَا أَن الْمَعَادِن أوعية للجواهر النفيسة، وَإِنَّمَا قيد بقوله: (إِذا فقهوا) وَالْحَال أَن كل من أسلم وَكَانَ شريفاً فِي الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ خير من الَّذِي لم يكن لَهُ الشّرف فِيهَا، لِأَن الْمَعْنى لَيْسَ على ذَلِك، فَإِن الوضيع الْعَالم خير من الشريف الْجَاهِل، وَالْعلم يرفع كل من لم يرفع، وَقَوله: (فقهوا) ، بِكَسْر الْقَاف مَعْنَاهُ: إِذا فَهموا وَعَلمُوا، وَهُوَ من بَاب علم يعلم أَعنِي: بِكَسْر الْقَاف فِي الْمَاضِي وَبِفَتْحِهَا فِي الْمُسْتَقْبل، وَأما: فقه، بِضَم الْقَاف: يفقه، كَذَلِك فَمَعْنَاه: صَار فَقِيها عَالما، وَالْفِقْه فِي الْعرف خَاص بِعلم الشَّرِيعَة، وَيخْتَص بِعلم الْفُرُوع.
قَالَ أَبُو أُسَامَةَ ومُعْتَمِرٌ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ سَعِيدٍ عَن أبي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة وَعَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان بن طرخان إِلَى أَنَّهُمَا خالفا يحيى بن سعيد الْقطَّان فِي الْإِسْنَاد حَيْثُ لم يرويا إلاَّ عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، وَلم يذكرَا الْأَب بِخِلَاف يحيى فَإِنَّهُ قَالَ: عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة. أما تَعْلِيق أبي أُسَامَة فَإِن البُخَارِيّ وَصله فِي قصَّة يُوسُف عَن عبيد بن إِسْمَاعِيل عَن أبي أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة. وَأما تَعْلِيق مُعْتَمر فوصله فِي قصَّة يَعْقُوب عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَن عبيد الله.

4533 - حدَّثنا مُؤَمَّلٌ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ حدَّثنا عَوْفٌ حدَّثنا أَبُو رَجاءٍ حدَّثنا سَمُرَةُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله

(15/245)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ فأتَيْنَا على رَجُلٍ طَوِيلٍ لَا أكادُ أرَى رأسَهُ طُوْلاً فِي السَّماءِ وإنَّهُ إبْرَاهِيمُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَإنَّهُ إِبْرَاهِيم) والْحَدِيث مضى فِي آخر كتاب الْجَنَائِز مطولا عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن جرير ابْن أبي حَازِم عَن أبي رَجَاء عَن سَمُرَة، وَهنا أخرجه: عَن مُؤَمل بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول من التأميل ابْن هِشَام الْبَصْرِيّ، ختن إِسْمَاعِيل بن علية، والراوي عَنهُ عَن عَوْف الْأَعرَابِي عَن أبي رَجَاء عمرَان العطاردي عَن سَمُرَة بن جُنْدُب. قَوْله: (فأتينا) أَي: فذهبا بِي حَتَّى أَتَيْنَا.

5533 - حدَّثني بَيانُ بنُ عَمْرٍ وحدَّثَنَا النَّضْرُ أخْبَرَنَا ابنُ عَوْن عنْ مُجَاهِدٍ أنَّهُ سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما وذَكَرُوا لَهُ الدَّجَّالَ بَيْنَي عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كافِرٌ أوْ ك ف ر قَالَ لَمْ أسْمَعْهُ ولَكِنَّهُ قَالَ أمَّا إبْرَاهِيمُ فانْظُرُوا إِلَى صاحِبِكُمْ وأمَّا مُوسَى فَجَعْدٌ آدَمُ علَى جَمَلٍ أحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كأنِّي أنْظُرُ إلَيْهِ انْحَدَرَ فِي الوَادِي يُكَبِّرُ. (انْظُر الحَدِيث 2551 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أما إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) وَبَيَان، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن عمر، وَأَبُو مُحَمَّد البُخَارِيّ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَالنضْر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل، وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب التَّلْبِيَة إِذا انحدر من الْوَادي، وَهنا أتم.
قَوْله: (وَذكروا لَهُ الدَّجَّال. .) إِلَى (قَالَ) ، جمل مُعْتَرضَة. قَوْله: (أَو: ك ف ر) ، وَهَذِه الْحُرُوف إِشَارَة إِلَى الْكفْر، وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن هَذِه الْكِتَابَة على ظَاهرهَا، وَأَنَّهَا كِتَابَة حَقِيقَة جعلهَا الله تَعَالَى عَلامَة حسية على بُطْلَانه تظهر لكل مُؤمن كَاتبا أَو غير كَاتب، قَوْله: (صَاحبكُم) ، يُرِيد بِهِ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نَفسه. قَوْله: (فجعد) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة، قَالَ الْكرْمَانِي نَاقِلا عَن صَاحب (التَّحْرِير) : هَذَا يحْتَمل مَعْنيين: أَحدهمَا أَن يُرَاد بِهِ جعودة الشّعْر ضد السبوطة، وَالثَّانِي: جعودة الْجِسْم، وَهُوَ اجتماعه واكتنازه، وَهَذَا أصح لِأَنَّهُ فِي بعض الرِّوَايَات: أَنه رجل الشّعْر. قَوْله: (آدم) ، من الأدمة وَهُوَ السمرَة. قَوْله: (مخظوم) ، أَي: مزموم بالخلبة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام وَضمّهَا وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهِي الليفة. قَوْله: (انحدر) ، فعل مَاض من الانحدار وَهُوَ الهبوط. قَوْله: (يكبر) ، جملَة فعلية مضارعية وَقعت حَالا من مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

6533 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا مُغِيرَةُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ القُرَشِيُّ عنْ أبي الزِّنَادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتَتَنْ إبْرَاهِيمُ علَيْهِ السَّلاَمُ وهْوَ ابنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بالْقَدُّومِ. (الحَدِيث 6533 طرفه فِي: 8926) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن قُتَيْبَة أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن قُتَيْبَة بِهِ.
قَوْله: (وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة) ، جملَة حَالية، قَالَ عِيَاض: جَاءَ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ ابْن مائَة وَعشْرين سنة، وعاش بعد ذَلِك ثَمَانِينَ سنة إلاَّ أَن مَالِكًا وَمن تبعه وَقَفُوهُ على أبي هُرَيْرَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ متأول أَو مَرْدُود. قلت: قد أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) مَرْفُوعا، وَحكى الْمَاوَرْدِيّ أَنه اختتن وَهُوَ ابْن سبعين سنة، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: عَاشَ مائَة وَسبعين سنة، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ فِيمَا مضى عَن قريب. قَوْله: (بالقدوم) ، فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ والقابسي بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: روى بتَخْفِيف الدَّال وتشديدها، فَقيل آلَة النجار، يُقَال لَهَا: الْقدوم، بِالتَّخْفِيفِ لَا غير، وَأما الْقدوم الَّذِي هُوَ مَكَان بِالشَّام فَفِيهِ التَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف، فَمن رَوَاهُ بِالتَّشْدِيدِ أَرَادَ الْقرْيَة، وَمن روى بِالتَّخْفِيفِ فَيحْتَمل الْقرْيَة والآلة، وَالْأَكْثَرُونَ على التَّخْفِيف وَإِرَادَة الْآلَة، ونستقصي الْكَلَام فِيهِ عَن قريب، وَلما اختتن إِبْرَاهِيم صَار

(15/246)


الْخِتَان سنة مَعْمُولا بهَا فِي ذُريَّته، وَهُوَ حكم التَّوْرَاة على بني إِسْرَائِيل كلهم، وَلم يزَالُوا يختتنون إِلَى زمن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غيرت طَائِفَة من النَّصَارَى مَا جَاءَ فِي التَّوْرَاة من ذَلِك، وَقَالُوا: الْمَقْصُود غلفة الْقلب لَا غلفة الذَّكَر، فتركوا الْمَشْرُوع من الْخِتَان بِضَرْب من الهذيان، وَهُوَ عِنْد الشَّافِعِي وَاجِب، وَعند أَكثر الْعلمَاء سنة، وَإِنَّمَا يجب بعد الْبلُوغ، وَيسْتَحب فِي السَّابِع، وَمحله الْفُرُوع.
حدَّثنا أَبُو اليَمَانِ أخْبرَنا شُعَيْبٌ حَدثنَا أَبُو الزِّنَادِ بالقَدُومِ مُخَفَّفَةً

أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان.
قَوْله: (بالقدوم) ، يَعْنِي: روى أَبُو الزِّنَاد بالقدوم حَال كَونهَا مُخَفّفَة الدَّال، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الروَاة بِالتَّخْفِيفِ يَعْنِي بِهِ الْآلَة، وَهُوَ قَول أَكثر أهل اللُّغَة فِي الْآلَة، قَالَ يَعْقُوب: الْآلَة لَا تشدد، وَاعْلَم أَن قَوْله: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان إِلَى قَوْله: مُخَفّفَة، وَقع فِي غير نُسْخَة من رِوَايَة أبي الْوَقْت وَغَيره بعد قَوْله: وَرَوَاهُ مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة وَفِي نسختنا: وَقع مثل مَا ترَاهُ، فَلذَلِك جعلنَا مُتَابعَة عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق ومتابعة عجلَان وَرِوَايَة مُحَمَّد بن عَمْرو لشعيب لذِي روى عَنهُ أَبُو الْيَمَان بِالتَّخْفِيفِ، وَأما على تِلْكَ النّسخ فَتكون المتابعتان لقتيبة بن سعيد فِي كَون عمر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي ثَمَانِينَ سنة، فَيكون اتِّفَاق هَذِه الرِّوَايَات تدل على أَن عمره عِنْد اختتانه كَانَ ثَمَانِينَ سنة، وَيَنْبَغِي التَّنْبِيه فِي هَذَا الْموضع حَتَّى لَا يخْتَلط الْكَلَام.
تابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ إسْحَاقَ عنْ أبِي الزِّنادِ
أَي: تَابع شعيباً عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق بن عبد الله الثَّقَفِيّ الْمدنِي فِيهِ مقَال اسْتشْهد بِهِ البُخَارِيّ، وروى لَهُ فِي الْأَدَب وَهَذِه الْمُتَابَعَة وَصلهَا مُسَدّد فِي (مُسْنده) عَن بشير بن الْمفضل عَنهُ وَلَفظه: اختتن إِبْرَاهِيم بَعْدَمَا مرت بِهِ ثَمَانُون سنة واختتن بالقدوم، يَعْنِي مُخَفّفَة وَقَالَ النَّوَوِيّ: لم يخْتَلف الروَاة عِنْد مُسلم بِالتَّخْفِيفِ.
وتابَعَهُ عَجْلاَنُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
أَي: تَابع شعيباً أَو عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق عجلَان مولى فَاطِمَة بنت عتبَة بن ربيعَة الْقرشِي، وَالِد مُحَمَّد بن عجلَان، يَعْنِي: فِي التَّخْفِيف، وَهَذِه الْمُتَابَعَة وَصلهَا أَحْمد عَن يحيى الْقطَّان عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَن أَبِيه عجلَان عَن أبي هُرَيْرَة.
ورَوَاهُ مُحَمَّدُ بنُ عَمْرٍ وعنْ أبِي سلَمَةَ
أَي: وروى الحَدِيث الْمَذْكُور مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَوصل هَذَا أَبُو يعلى فِي (مُسْنده) من هَذَا الْوَجْه، وَلَفظه: اختتن إِبْرَاهِيم على رَأس ثَمَانِينَ سنة. وَاخْتلف فِي المُرَاد بالقدوم، فَقيل: مقيل لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقيل: هِيَ قَرْيَة بِالشَّام، وَقَالَ الْحَازِمِي: المخفف قَرْيَة كَانَت عِنْد حلب، وَقيل: هُوَ اسْم مجْلِس إِبْرَاهِيم بحلب، وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ اسْم مَوضِع، وَقَالَ ابْن وضاح: هُوَ جبل بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: قدوم، بِالْفَتْح وَالتَّخْفِيف: ثنية بالشراة، وَكَذَا قَالَ الْبكْرِيّ، وَحكى الْبكْرِيّ عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر اللّغَوِيّ: أَن الْمَكَان مشدد لَا يدْخلهُ الْألف وَاللَّام، وَمن رَوَاهُ فِي حَدِيث إِبْرَاهِيم بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّمَا عَنى الْآلَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الروَاة بِالتَّخْفِيفِ، يَعْنِي بِهِ: الْآلَة، وَهُوَ قَول أَكثر أهل اللُّغَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْقدوم الَّذِي ينحت بِهِ مخفف، وَلَا تَقول: قدوم، بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ ابْن السّكيت: وَالْجمع قدوم.

7533 - حدَّثنا سَعيدُ بنُ تَليدٍ الرُّعَيْنِيُّ أخْبرَنا ابنُ وهْبٍ قَالَ أخْبرَنِي جَرِيرُ بنُ حازِمٍ عنْ أيّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ عليهِ السَّلاَمُ إلاَّ ثَلاثاً.

8533 - وحدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مَحْبُوبٍ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيّوبَ عنْ مُحَمَّدٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ علَيْهِ السَّلاَمُ إلاَّ ثَلاثَ كذَبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ الله عزَّ وجَلَّ قَوْلُهُ إنِّي سَقِيمٌ وقَوْلُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَالَ بَيْنا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وسارَةُ إذْ أتَى علَى

(15/247)


جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ إنَّ هاهُنَا رَجُلاً مَعَهُ امْرَأةٌ منْ أحْسَنِ النَّاسِ فأرْسَلَ إلَيْهِ فسَألَهُ عَنْهَا فقَالَ مَنْ هاذِهِ قَالَ أُخْتِي فأتَى سارَةَ قَالَ يَا سارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأرْضِ مُؤمِنٌ غَيْرِي وغيرُكِ وإنَّ هَذَا سألَنِي فأخْبَرْتُهُ أنَّكِ أُخْتِي فَلاَ تُكَذِّبِينِي فأرْسَلَ إلَيْهَا فلَمَّا دَخَلَتْ علَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فأُخِذَ فقَالَ ادْعِي الله لِي ولاَ أضُرُّكِ فَدَعَتْ الله فأُطْلِقَ ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فأُخِذَ مِثْلَهَا أوْ أشَدَّ فَقالَ ادْعِي الله لِي ولاَ أُضُرَّكِ فدَعَتْ فأُطْلِقَ فَدَعا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ إنَّكُمْ لَمْ تأتُونِي بإنْسَانٍ إنَّمَا أتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ فأخْدَمَهَا هاجَرَ فَأَتَتْهُ وهْوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فأوْمَأ بِيَدِهِ مَهْيا قالَتْ رَدَّ الله كَيْدَ الْكَافِرِ أوِ الفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ وأخْدَمَ هاجَرَ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَني ماءِ السَّماءِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لم يكذب إِبْرَاهِيم) وَمَا الْمَقْصُود إلاَّ ذكر إِبْرَاهِيم فَقَط.
وَأخرجه من طَرِيقين: الأول: عَن سعيد بن تليد، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: وَهُوَ سعيد بن عِيسَى بن تليد أَبُو عُثْمَان الرعيني الْمصْرِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده، يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن جرير بن حَازِم عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة. وَالثَّانِي: عَن مُحَمَّد بن مَحْبُوب ضد مبغوض أبي عبد الله الْبَصْرِيّ إِلَى آخِره. . وَهَذَا الطَّرِيق غير مَرْفُوع. والْحَدِيث فِي الأَصْل مَرْفُوع كَمَا فِي رِوَايَة جرير بن حَازِم، وَكَذَا عِنْد النَّسَائِيّ وَالْبَزَّار وَابْن حبَان مَرْفُوع من حَدِيث هِشَام بن حسان عَن ابْن سِيرِين، وَابْن سِيرِين كَانَ غَالِبا لَا يُصَرح بِرَفْع كثير من حَدِيثه. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن سعيد الْمَذْكُور مَرْفُوعا. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح. وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب شِرَاء الْمَمْلُوك من الْحَرْبِيّ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة ... إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِيهِ قَضِيَّة الْكَذِب، وَبَاقِي الْقَضِيَّة فِيهِ على اخْتِلَاف فِي الْمَتْن بِزِيَادَة ونقصان.
قَوْله: (إلاَّ ثَلَاثًا) أَي: إلاَّ ثَلَاث كذبات، كَمَا فِي الطَّرِيق الثَّانِي، وَقيل: الْجيد أَن يُقَال: بِفَتْح الذَّال فِي الْجمع لِأَنَّهُ جمع كذبة بِسُكُون الذَّال وَهُوَ اسْم لَا صفة لِأَنَّك تَقول: كذب كذبة كَمَا تَقول ركب ركبة، وَلَو كَانَ صفة لسكن فِي الْجمع، وَقد اسْتشْكل بَعضهم هَذَا الْحصْر فِي ثَلَاث لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي حَيَّان عَن أبي زرْعَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: أُتِي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا بِلَحْم فَرفع إِلَيْهِ الذِّرَاع ... الحَدِيث، وَهُوَ حَدِيث طَوِيل فِي الشَّفَاعَة، وَفِيه: إذهبوا إِلَى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ... الحَدِيث، وَفِيه: وَذكر كذباته ... الحَدِيث، وَفِيه: وَزَاد فِي قصَّة إِبْرَاهِيم قَالَ: وَذكر قَوْله فِي الْكَوْكَب: هَذَا رَبِّي، وَقَوله لآلهتهم: (بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا) ، وَقَوله: {إِنِّي سقيم} (الصافات: 98) . وَجه الاستشكال أَن ذكر الْكَوْكَب يَقْتَضِي أَن كذباته أَربع، وَهُوَ يُعَارض الْحصْر فِي حَدِيث الْبَاب. وَقَالَ بَعضهم فِي معرض الْجَواب: الَّذِي يظْهر أَنه وهم من بعض الروَاة، فَإِنَّهُ ذكر قَوْله فِي الْكَوْكَب بدل قَوْله فِي سارة، وَالَّذِي اتّفقت عَلَيْهِ الطّرق فِي ذكر سارة دون الْكَوْكَب. انْتهى. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى نِسْبَة إحد إِلَى الْوَهم، لِأَن قَوْله فِي الْكَوْكَب لَا يَخْلُو إِمَّا أَنه كَانَ وَهُوَ طِفْل كَمَا قَالَه ابْن إِسْحَاق، وَإِمَّا أَنه كَانَ بعد الْبلُوغ، فَإِن كَانَ الأول فَلَا يعد هَذَا شَيْئا. لِأَن الطفولية لَيست بِمحل للتكليف، وَإِن كَانَ الثَّانِي فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك على طَرِيق الِاحْتِجَاج على قومه تَنْبِيها على أَن الَّذِي يتَغَيَّر لَا يصلح للربوبية، أَو قَالَه توبيخاً أَو تهكماً بهم، وكل ذَلِك لَا يُطلق عَلَيْهِ الْكَذِب، وَأما وَجه إِطْلَاق الْكَذِب على الْأُمُور الثَّلَاثَة فَهُوَ مَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ: أما الْكَذِب فِيمَا طَرِيقه الْبَلَاغ عَن الله عز وَجل فالأنبياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، معصومون عَنهُ، وَأما فِي غَيره فَالصَّحِيح امْتِنَاعه. فيؤول ذَلِك بِأَنَّهُ كذب بِالنِّسْبَةِ إِلَى فهم السامعين، أما فِي نفس الْأَمر فَلَا، إِذْ معنى سقيم إِنِّي سأسقم لِأَن الْإِنْسَان عرضة للأسقام أَو سقيم بِمَا قدر عَلَيْهِ من الْمَوْت أَو كَانَت تَأْخُذهُ الْحمى فِي ذَلِك الْوَقْت. وَأما: فعله كَبِيرهمْ، فيؤول بِأَنَّهُ أسْند إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَب لذَلِك أَو هُوَ مَشْرُوط بقوله: إِن كَانُوا ينطقون أَو يُوقف عِنْد لفظ: فعله، أَي: فعله فَاعله، وَكَبِيرهمْ هُوَ ابْتِدَاء الْكَلَام، وَأما سارة فَهِيَ أُخْته بِالْإِسْلَامِ، وَاتفقَ الْفُقَهَاء على أَن الْكَذِب جَائِز بل وَاجِب فِي بعض المقامات، كَمَا أَنه لَو طلب ظَالِم وَدِيعَة

(15/248)


ليأخذها غصبا وَجب على الْمُودع عِنْده أَن يكذب بِمثل: أَنه لَا يعلم موضعهَا، بل يحلف عَلَيْهِ. قَوْله: (ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ) ، أَي: كذبتين من هَذِه الكذبات الثَّلَاث كَانَتَا فِي ذَات الله تَعَالَى، أَي: لأَجله، وَإِنَّمَا خص هَاتين الثِّنْتَيْنِ لِأَنَّهُمَا فِي ذَات الله لِأَن قصَّة سارة وَإِن كَانَت أَيْضا فِي ذَات الله، لِأَنَّهَا سَبَب لدفع كَافِر ظَالِم عَن مواقعة فَاحِشَة عَظِيمَة، لَكِنَّهَا تَضَمَّنت حظاً لنَفسِهِ ونفعاً لَهُ بِخِلَاف الثِّنْتَيْنِ المذكورتين، لِأَنَّهُمَا كَانَتَا فِي ذَات الله مَحْضا، وَقد وَقع فِي رِوَايَة هِشَام بن حسان: أَن إِبْرَاهِيم لم يكذب قطّ إِلَّا ثَلَاث كذبات، كل ذَلِك فِي ذَات الله تَعَالَى، وَعند أَحْمد من حَدِيث ابْن عَبَّاس: وَالله إِن جادل بِهن إلاَّ عَن الله. قَوْله: (بَينا هُوَ) ، أَي: إِبْرَاهِيم وَسَارة مَعَه. قَوْله: إِذْ أَتَى، جَوَاب: بَينا إِذْ أَتَى إِبْرَاهِيم. قَوْله: على جَبَّار، يَعْنِي: مر على جَبَّار من الْجَبَابِرَة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: وَوَاحِدَة فِي شَأْن سارة، أَي: خصْلَة وَاحِدَة من الثَّلَاث الْمَذْكُورَة، فَإِنَّهُ قدم أَرض جَبَّار وَمَعَهُ ارة، وَكَانَت أحسن النَّاس، وَاسم هَذَا الْجَبَّار: عَمْرو بن امرىء الْقَيْس بن سبأ، وَكَانَ على مصر، ذكره السُّهيْلي، وَهُوَ قَول ابْن هِشَام فِي (التيجان) وَقيل: اسْمه صادوف، بِالْفَاءِ حَكَاهُ ابْن قُتَيْبَة، وَأَنه كَانَ على الْأُرْدُن، وَقيل: سُفْيَان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاوذ بن سَام بن نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَكَاهُ الطَّبَرِيّ وَيُقَال: إِنَّه أَخُو الضَّحَّاك الَّذِي ملك الأقاليم، وَقيل: إِنَّه ملك حران. وَقَالَ عُلَمَاء السّير: أَقَامَ إِبْرَاهِيم بِالشَّام مُدَّة فقحط الشَّام، فَسَار إِلَى مصر وَمَعَهُ سارة. وَكَانَ بهَا فِرْعَوْن، وَهُوَ أول الفراعنة، عَاشَ دهراً طَويلا، فَأتى إِلَيْهِ رجل، وَقَالَ: إِنَّه قدم رجل وَمَعَهُ امْرَأَة من أحسن النَّاس، وَجرى لَهُ مَعَه مَا ذكره فِي الحَدِيث. قَوْله: (فَأرْسل إِلَيْهِ) ، أَي: أرسل هَذَا الْجَبَّار إِلَى إِبْرَاهِيم. قَوْله: (فَقَالَ من هَذِه؟) أَي: فَقَالَ الْجَبَّار: من هَذِه الْمَرْأَة؟ قَالَ: أُخْتِي، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَأرْسل إِلَيْهَا فَأتى بهَا، فَهَذَا يدل على أَنه أَتَى بهَا حِين أرسل إِلَيْهِ الْجَبَّار، وَرِوَايَة البُخَارِيّ تدل على أَنه أرسل إِلَيْهِ أَولا وَسَأَلَ عَنْهَا، ثمَّ أَتَى إِبْرَاهِيم إِلَيْهَا، وَقَالَ لَهَا مَا ذكره فِي الحَدِيث، ثمَّ أرسلها إِلَيْهِ. قَوْله: (فَقَالَ: يَا سارة لَيْسَ على وَجه الأَرْض مُؤمن غَيْرِي وَغَيْرك) ، قيل: يشكل عَلَيْهِ كَون لَو مَعَه وَأجَاب بَعضهم بِأَن مُرَاده بِالْأَرْضِ: الأَرْض الَّتِي وَقع لَهُ بهَا مَا وَقع، وَلم يكن لوط مَعَه، إِذْ ذَاك. فَإِن قلت: ذكر أهل السّير أَن إِبْرَاهِيم سَار إِلَى مصر وَمَعَهُ سارة وَلُوط. قلت: يُمكن أَنه سَار مَعَه إِلَى مصر وَلم يدخلهَا مَعَه، فَأتى الْجَواب الْمَذْكُور كَمَا ذكره، وَالله أعلم. قَوْله: (فَأَخْبَرته أَنَّك أُخْتِي فَلَا تكذبِينِي) ، وَكَانَت عَادَة هَذَا الْجَبَّار أَن لَا يتَعَرَّض إلاَّ إِلَى ذَوَات الْأزْوَاج، فَلذَلِك قَالَ لَهَا: إِنِّي أخْبرته أَنَّك أُخْتِي. وَقيل: لَو قَالَ: إِنَّهَا امْرَأَتي لألزمه بِالطَّلَاق. قَوْله: (فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ) أَي: فَلَمَّا دخلت سارة على الْجَبَّار. قَوْله: (فَأخذ) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: اختنق حَتَّى ركض بِرجلِهِ كَأَنَّهُ مصروع، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَأرْسل إِلَيْهَا فَأتي بهَا قَامَ إِبْرَاهِيم يُصَلِّي فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ لم يَتَمَالَك أَن بسط يَدَيْهِ إِلَيْهَا فقبضت يَده قَبْضَة شَدِيدَة، وَعند أهل السّير: فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ وَرَآهَا أَهْوى إِلَيْهَا فَتَنَاولهَا بِيَدِهِ فيبست إِلَى صَدره. قَوْله: (الثَّانِيَة) ، ويروى: ثَانِيَة، بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَعند أهل السّير: فعل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (فدعَتْ) ، وَكَانَ دعاؤها: أللهم إِن كنت تعلم أَنِّي آمَنت بك وبرسولك واحصنت فَرجي إلاَّ على زَوجي فَلَا تسلط عَليّ الْكَافِر. قَوْله: (فَدَعَا بعض حَجَبته) ، بِفَتْح الْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة جمع حَاجِب، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (ودعا الَّذِي جَاءَ بهَا) . قَوْله: (إِنَّكُم لم تَأْتُونِي بِإِنْسَان إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَان) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: (مَا أرسلتم إليَّ إلاَّ شَيْطَانا، أرجعوها إِلَى إِبْرَاهِيم) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَقَالَ: إِنَّمَا جئتني بِشَيْطَان وَلم تأتني بِإِنْسَان، فأخرجها من أرضي وأعطها هَاجر) . وَالْمرَاد من الشَّيْطَان: المتمرد من الْجِنّ، وَكَانُوا قبل الْإِسْلَام يعظمون أَمر الْجِنّ جدا، ويرون كل مَا يَقع من الخوارق من فعلهم وتصرفهم. قَوْله: (فَأَخْدَمَهَا هَاجر) أَي: وهب لَهَا خَادِمًا اسْمهَا هَاجر، وَيُقَال: آجر، بِالْهَمْز بدل الْهَاء، وَهِي أم إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ اسْم سرياني، وَيُقَال: إِن أَبَاهَا كَانَ من مُلُوك القبط، وَأَصلهَا من قَرْيَة بِأَرْض مصر تدعى: حفن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْفَاء. قَوْله: (فَأَتَتْهُ) ، أَي: فَأَتَت هَاجر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْحَال أَنه يُصَلِّي. قَوْله: (فَأَوْمأ بِيَدِهِ) ، أَي: أَشَارَ بِيَدِهِ. قَوْله: (مهيا) ، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْهَاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف مَقْصُورا، وَهَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة ابْن السكن: (مهين) ، بالنُّون فِي آخِره، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (مَهيم) ، بِالْمِيم فِي آخِره، وَالْكل بِمَعْنى وَاحِد وَهُوَ أَنَّهَا كلمة يستفهم بهَا مَعْنَاهَا: مَا حالك؟ وَمَا شَأْنك؟ وَيُقَال: إِن إِبْرَاهِيم أول من قَالَ هَذِه الْكَلِمَة. قَوْله: (رد الله كيد الْكَافِر فِي نَحره) ، هَذَا مثل تَقوله الْعَرَب لمن أَرَادَ أمرا بَاطِلا فَلم يصل إِلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كف الله يَد الْفَاجِر وَأَخْدَم خَادِمًا) .

(15/249)


وَفِي رِوَايَة الْأَعْرَج: (أشعرت أَن الله كبت الْكَافِر وَأَخْدَم وليدة) أَي: جَارِيَة للْخدمَة، وَمعنى: كبت: رده الله خاسئاً. قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَتلك أمكُم يَا بني مَاء السَّمَاء) أَرَادَ بهم الْعَرَب، لأَنهم يعيشون بالمطر ويتبعون مواقع الْقطر فِي الْبَوَادِي لأجل الْمَوَاشِي.
وَفِيه: حجَّة لمن يَدعِي أَن الْعَرَب كلهم من ولد إِسْمَاعِيل، وَيُقَال: أَرَادَ بِهِ: مَاء زَمْزَم، إِذْ أنبطها الله تَعَالَى لهاجر فعاشوا بهَا فصاروا كَأَنَّهُمْ أَوْلَادهَا، وَقَالَ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : كل من كَانَ لَهُ من ولد إِسْمَاعِيل يُقَال لَهُ: ابْن مَاء السَّمَاء، لِأَن إِسْمَاعِيل ولد هَاجر وَقد رَبِّي بِمَاء زَمْزَم وَهِي من مَاء السَّمَاء، وَقيل: سموا بذلك لخلوص نسبه وصفائه، فَأشبه مَاء السَّمَاء، وَقَالَ عِيَاض: وَالْأَظْهَر عِنْدِي أَنه أَرَادَ بذلك الْأَنْصَار، نسبهم إِلَى جدهم عَامر مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة القطريف بن امريء الْقَيْس البطريق بن ثَعْلَبَة بن مَازِن من الأزد بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وعامر هَذَا هُوَ جد الْأَوْس والخزرج ابْنا حَارِثَة بن ثَعْلَبَة العنقاء بن عَمْرو بن مزيقيا بن عَامر مَاء السَّمَاء. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَمَا ذكره إِنَّمَا يَأْتِي على الشاذ أَن الْعَرَب جَمِيعهَا من ولد إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إلاَّ قبائل استثنيت، أما الْأَنْصَار فليسوا من ولد إِسْمَاعِيل بن هَاجر، وَلَا يعلم لَهَا ولد غَيره. قلت: قَالَ الرشاطي: إِن الْأَنْصَار جزآن: الْأَوْس والخزرج أَخَوان رفعنَا نسبهما فِي: بَاب الْأَنْصَار، فذكرناها كَمَا ذكرهمَا الْآن، وأمهما: قيلة بنت الأرقم بن عَمْرو بن جَفْنَة، وَقيل: قيلة بنت كَاهِل بن عذرة بن سعد بن قضاعة، حكى ذَلِك ابْن الْكَلْبِيّ والهمداني، وسنستقصي الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، عِنْد انتهائنا إِلَى بَاب ذكره البُخَارِيّ بقوله: بَاب نِسْبَة الْيمن إِلَى إِسْمَاعِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالله أعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد من الحَدِيث الْمَذْكُور: فِيهِ: مَشْرُوعِيَّة أَن يُقَال: أخي فِي غير النّسَب، وَيُرَاد بِهِ الْأُخوة فِي الْإِسْلَام. وَفِيه: قبُول صلَة الْملك الظَّالِم وَقبُول هَدِيَّة الْمُشرك. وَفِيه: إِجَابَة الدُّعَاء بإخلاص النِّيَّة وكفاية الرب لمن أخْلص فِي الدُّعَاء بِالْعَمَلِ الصَّالح. وَفِيه: أَن من نابه أَمر مُهِمّ من الكرب يَنْبَغِي لَهُ أَن يفزع إِلَى الصَّلَاة. وَفِيه: أَن الْوضُوء كَانَ مَشْرُوعا للأمم قبلنَا وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِهَذِهِ الْأمة وَلَا بالأنبياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لثُبُوت ذَلِك عَن سارة، وَذهب بَعضهم إِلَى نبوة سارة، وَالْجُمْهُور على أَنَّهَا لَيست بنبية.

9533 - حدَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى أوِ ابنُ سَلاَم عنْهُ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ عنْ عَبْدِ الحَمِيدِ ابنِ جُبَيْرٍ عنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ عنْ أُمِّ شَرِيكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهَا أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَرَ بِقَتْلِ الوَزَغِ وَقَالَ كانَ يَنْفُخُ علَى إبْراهِيمَ عليْهِ السَّلامُ. (انْظُر الحَدِيث 7033) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (على إِبْرَاهِيم) وَعبيد الله بن مُوسَى بن باذام أَبُو مُحَمَّد الْعَبْسِي الْكُوفِي، وَهُوَ من أكبر مَشَايِخ البُخَارِيّ وَكَأَنَّهُ شكّ فِي سَمَاعه هَذَا الحَدِيث مِنْهُ، وَتحقّق أَنه سَمعه من مُحَمَّد بن سَلام، فَأوردهُ على هَذَا الْوَجْه، وَقد وَقع لَهُ نَظِير هَذَا فِي أَمَاكِن، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ، وَعبد الحميد بن جُبَير مصغر الْجَبْر ضد الْكسر ابْن شيبَة بن عُثْمَان الحَجبي الْمَعْدُود فِي أهل الْحجاز، وَأم شريك اسْمهَا غزيَّة أَو غزيلة.
والْحَدِيث مر فِي كتاب بَدْء الْخلق فِي: بَاب خير مَال الْمُسلم غنم يتبع بهَا شعف الْجبَال، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (عَن أم شريك) ، وَفِي رِوَايَة أبي عَاصِم: إِحْدَى نسَاء بني عَامر بن لؤَي، وَلَفظ الْمَتْن: أَنَّهَا استأمرت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي قتل الوزغات فَأمر بقتلهن، وَلم يذكر الزِّيَادَة، والوزغات بِالْفَتْح جمع وزغة بِالْفَتْح أَيْضا، وَذكر بعض الْحُكَمَاء: أَن الوزغ أَصمّ أبرص وَأَنه لَا يدْخل بَيْتا فِيهِ زعفران، وَأَنه يلقح بِفِيهِ، وَأَنه يبيض، وَيُقَال لكبارها: سَام أبرص بتَشْديد الْمِيم، ويمج فِي الْإِنَاء فينال الْإِنْسَان من ذَلِك مَكْرُوه عَظِيم، وَإِذا تمكن من الْملح تمرغ فِيهِ، وَيصير ذَلِك مَادَّة لتولد البرص، وينحجز فِي الشتَاء أَرْبَعَة أشهر لَا يَأْكُل شَيْئا كالحية، وَبَينه وَبَين الْحَيَّة إلفة كإلفة العقارب والخنافس.

0633 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفُصِ بنِ غِياثٍ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ عنْ عَلْقَمَةَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتِ الَّذِينَ آمَنُوا ولَم يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قُلْنَا يَا رسُولَ الله

(15/250)


أيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ لَيْسَ كَما تَقُولُونَ لَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ بِشَرْكٍ أوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لإِبنِهِ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّه إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. .

اعْترض الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: لَا أعلم فِي الحَدِيث شَيْئا من قصَّة إِبْرَاهِيم، وَقَالَ بَعضهم نصْرَة للْبُخَارِيّ: وخفي عَلَيْهِ أَنه حِكَايَة عَن قَول إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لما فرغ من حِكَايَة قَول إِبْرَاهِيم فِي الْكَوْكَب وَالْقَمَر وَالشَّمْس، ذكر مُحَاجَّة قومه لَهُ، ثمَّ حكى أَنه قَالَ لَهُم: وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا؟ فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن؟ فَهَذَا كُله عَن إِبْرَاهِيم. انْتهى. قلت: قد سبق صَاحب (التَّوْضِيح) بِهَذَا الْجَواب، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مُنَاسبَة هَذَا الحَدِيث بِقصَّة إِبْرَاهِيم اتِّصَال هَذِه الْآيَة بقوله: {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه} (الْأَنْعَام: 38) . وكل هَذَا لَا يجدي شَيْئا، وَالْكَلَام فِي مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة، والترجمة هِيَ قَوْله: بَاب {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 561) . فَأَيْنَ الْمُطَابقَة بَين هَذَا الحَدِيث وَبَين التَّرْجَمَة؟ وَاعْتِرَاض الْإِسْمَاعِيلِيّ باقٍ، وَقَول الْقَائِل الْمَذْكُور: وخفي عَلَيْهِ. . إِلَى آخِره، غير موجه أصلا، بل هُوَ الَّذِي خَفِي عَلَيْهِ أَنه أثبت الْمُطَابقَة بِالْجَرِّ الثقيل، وَأبْعد مِنْهُ مَا قَالَه الْكرْمَانِي: وَالْمَقْصُود من الْمُطَابقَة أَن يكون فِيهِ شَيْء من أَلْفَاظ التَّرْجَمَة، وَلَو كَانَ شَيْئا يَسِيرا، وَهَذِه الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة كلهَا لَا تَخْلُو عَن ذكر إِبْرَاهِيم، كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي التَّرْجَمَة، ويستأنس فِي الْمُطَابقَة من حَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَرَأَ هَذِه الْآيَة: {الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} (الْأَنْعَام: 28) . قَالَ: هَذِه فِي إِبْرَاهِيم وَأَصْحَابه وَلَيْسَت فِي هَذِه الْأمة.
وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب ظلم دون ظلم، وَأخرجه هُنَاكَ من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة. وَالْآخر: عَن بشر بن خَالِد عَن مُحَمَّد عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عَلْقَمَة بن الْأسود عَن عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

21 - (بابٌ يَزِفّونَ النَّسَلاَنُ فِي المَشْيِ)

أَي: هَذَا بَاب، وَلم يذكر لَهُ تَرْجَمَة، وَهُوَ كالفصل من بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 561) . وَقَوله: يزفون النسلان فِي الْمَشْي، إِنَّمَا ذكر فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ والكشميهني، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والباقين: بَاب، بِغَيْر تَرْجَمَة، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: لم يذكر: بَاب، وَفِي شرح الْكرْمَانِي: بَاب قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون} (الصافات: 49) . وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر تَرْجِيح مَا وَقع عِنْد الْمُسْتَمْلِي، وَوهم من وَقع عِنْده: بَاب يزفون النسلان، فَإِنَّهُ كَلَام لَا معنى لَهُ. قلت: بل لَهُ معنى جيد، لِأَن قَوْله بَاب: كالفصل كَمَا ذكرنَا فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ من الْبَاب السَّابِق، وَقَوله: (يزفون) أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون} (الصافات: 49) . لِأَنَّهُ من جملَة قصَّة إِبْرَاهِيم مَعَ قومه حِين كسر أصنامهم، قَالَ الله تَعَالَى: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ أَي أَقبلُوا إِلَى إِبْرَاهِيم، يزفون أَي: يسرعون، ثمَّ أَشَارَ بقوله: النسلان فِي الْمَشْي إِلَى الْمَعْنى الْحَاصِل من قَوْله: يزفون، وَهُوَ من زف فِي مَشْيه إِذا أسْرع، وَكَذَلِكَ النسلان هُوَ الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي، يُقَال: نسل ينسل من بَاب ضرب يضْرب نَسْلًا ونسلاناً. وَفِي حَدِيث لُقْمَان: وَإِذا سعى الْقَوْم نسل، أَي: إِذا عَدو الْغَارة أَو مَخَافَة أسْرع هُوَ، قَالَ ابْن الْأَثِير: النسلان دون السَّعْي. قلت: ومادته: نون وسين مُهْملَة وَلَام.

1633 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ نَصْرٍ حدَّثنا أَبُو أُسَامَةَ عنْ أبِي حَيَّانَ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْماً بِلَحْمٍ فَقَالَ إنَّ الله يَجْمَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ الأَوَّلِينَ والآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ واحِدٍ فيُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي ويَنْفذُهُمْ البَصَرُ وتَدْنُوا الشَّمْسُ مِنْهُمْ فَذَكَرَ حدِيثَ الشَّفَاعَةِ فيَأتُونَ إبْرَاهِيمَ فيَقُولُونَ أنْتَ نَبِيُّ الله وخَلِيلُهُ مِنَ الأرْضِ اشْفَعْ لَنَا إلَى رَبِّكَ فيَقُولُ فَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى مُوساى.
مطابقته لباب {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 561) . فِي قَوْله: (أَنْت نَبِي الله وخليله فِي الأَرْض) وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد بن أُسَامَة، وَأَبُو حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف يحيى بن سعيد التَّيْمِيّ، تيم الربَاب، الْكُوفِي. وَأَبُو زرْعَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء: اسْمه هرم

(15/251)


ابْن عَمْرو بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {إنَّا أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} (نوح: 1) . عَن قريب. قَوْله: (وَينْفذهُمْ) ، رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ بِفَتْح الْيَاء وَبَعْضهمْ بِالضَّمِّ، يُقَال: نفذني بَصَره: إِذا بَلغنِي، وَتجَاوز، وَيُقَال: أنفذت الْقَوْم إِذا أخذتهم، وَمَعْنَاهُ أَنه يُحِيط بهم بصر النَّاظر لَا يخفى عَلَيْهِ مِنْهُم شَيْء لِاسْتِوَاء الأَرْض. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: أَصْحَاب الحَدِيث يَرْوُونَهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْمُهْمَلَةِ أَي: يبلغ أَوَّلهمْ وَآخرهمْ حَتَّى يراهم كلهم ويستوعبهم، من نفدت الشَّيْء انفده وأنفدته. قَوْله: (فَذكر كذباته) تَفْسِير قَوْله: فَيَقُول.
تَابَعَهُ أنَسٌ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: تَابع أَبَا هُرَيْرَة فِي رِوَايَة الحَدِيث الْمَذْكُور أنس بن مَالك، بيَّن البُخَارِيّ هَذِه الْمُتَابَعَة فِي التَّوْحِيد وَغَيره من حَدِيث قَتَادَة عَن أنس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (يجمع الله الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة كَذَلِك، فَيَقُولُونَ: لَو اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبنَا حَتَّى يُرِيحنَا من مَكَاننَا) الحَدِيث.

2633 - حدَّثني أحْمَدُ بنُ سَعِيدٍ أبُو عَبْدِ الله حدَّثنا وهْبُ بنُ جَرِيرٍ عنْ أبِيهِ عنْ أيُّوبَ عنْ عَبْدِ الله بنِ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ يَرْحَمُ الله أمَّ إسْمَاعِيلَ لَوْلاَ أنَّهَا عَجِلَتْ لَكانَ زَمْزَمُ عَيْنَاً مَعِيناً. .

مطابقته للباب الَّذِي تقدم ظَاهِرَة لِأَنَّهُ فِي قَضِيَّة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس هَذَا أخرجه البُخَارِيّ من ثَلَاث طرق: وَهَذَا هُوَ الأول.
وَرِجَاله سَبْعَة: الأول: أَحْمد بن سعيد بن إِبْرَاهِيم أَبُو عبد الله الْمروزِي الْمَعْرُوف بالرباطي. الثَّانِي: وهب بن جرير الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ أَبُو الْعَبَّاس. الثَّالِث: أَبوهُ جرير، بِفَتْح الْجِيم: ابْن حَازِم بن زيد أَبُو النَّصْر الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الْخَامِس: عبد الله بن سعيد بن جُبَير الْأَسدي الْكُوفِي. السَّادِس: أَبوهُ سعيد بن جُبَير بن هِشَام الْأَسدي الْفَقِيه الْوَرع. السَّابِع: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عنهُما.
ذكر الِاخْتِلَاف الْوَاقِع فِي هَذَا الْإِسْنَاد: هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ ابْن السكن والإسماعيلي من طَرِيق حجاج بن الشَّاعِر عَن وهب بن جرير عَن أَبِيه عَن أَيُّوب عَن عبد الله بن سعيد بن جُبَير عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي بن كَعْب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَزَاد فِي روايتهما: أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن سعيد شيخ البُخَارِيّ الْمَذْكُور عَن وهب بن جرير عَن أَبِيه عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي بن كَعْب ... إِلَى آخِره، فأسقط عبد الله بن سعيد بن جُبَير، وَزَاد أبي بن كَعْب. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن أبي دَاوُد سُلَيْمَان بن سعيد عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَن وهب بِهِ، وَفِيه: قلت لأبي حَمَّاد: لَا تذكر أبي بن كَعْب، وَلَا ترفعه، وَقَالَ: أَنا أحفظ كَذَا، وَكَذَا حَدثنِي بِهِ أَيُّوب. قَالَ وهب: وَحدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن عبد الله بن سعيد عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس نَحوه، وَلم يذكر أبي بن كَعْب، وَلم يرفعهُ، قَالَ وهب: فَأتيت سَلام بن أبي مُطِيع فَحَدثني بِهَذَا الحَدِيث عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن عبد الله بن سعيد، فَرد ذَلِك ردا شَدِيدا ثمَّ قَالَ لي: فأبوك مَا يَقُول؟ قلت: أبي يَقُول: أَيُّوب عَن سعيد. فَقَالَ: الْعجب! وَالله مَا يزَال الرجل من أَصْحَابنَا، الْحَافِظ قد غلط، إِنَّمَا هُوَ أَيُّوب عَن عِكْرِمَة بن خَالِد عَن سعيد بن جُبَير. وَقَالَ أَبُو مَسْعُود: رَأَيْت جمَاعَة اخْتلفُوا على وهب بن جرير فِي هَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ الجياني: لم يذكر أَبُو مَسْعُود إلاَّ هَذَا، وَأَنا أذكر مَا انْتهى إِلَيّ من الْخلاف على وهب وعَلى غَيره فِي هَذَا الْإِسْنَاد، فَرَوَاهُ عَن حجاج عَن وهب بِهِ بِزِيَادَة أبي بن كَعْب، ثمَّ رَوَاهُ من طَرِيق البُخَارِيّ بإسقاطه، وَرَوَاهُ عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَنهُ بإثباته، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب فَلم يذكرهُ وَلَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَوَاهُ ابْن علية عَن أَيُّوب، فَقَالَ: نبئت عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ أول من سعى بَين الصَّفَا والمروة. . الحَدِيث بِطُولِهِ، نَحوا مِمَّا رَوَاهُ معمر عَن أَيُّوب عَن سعيد وَفِيه قصَّة زَمْزَم، وَرَوَاهُ سَلام بن أَب مُطِيع عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة بن خَالِد وَلم يذكر ابْن جُبَير، قَالَ أَبُو عَليّ: وَكَيف يَصح هَذَا وَفِيه من الْخلاف مَا عرفت؟ فَنَقُول: إِذا ميزه النَّاظر ميز مِنْهُ مَا ميزه البُخَارِيّ وَحكم بِصِحَّتِهِ وَعلم أَن الْخلاف الظَّاهِر فِيهِ إِنَّمَا يعود إِلَى وفَاق، وَأَنه لَا يدْفع بعضه بَعْضًا، وَالِاخْتِلَاف إِذا كَانَ دائراً على ثِقَات حفاظ لَا يضر، فَلَا يلْتَفت إِلَى عيب

(15/252)


الْإِسْمَاعِيلِيّ على البُخَارِيّ إِخْرَاجه رِوَايَة أَيُّوب لاضطرابها، وَلَا يلْتَفت أَيْضا إِلَى إِنْكَار سَلام بن أبي مُطِيع على كَون مخرج الحَدِيث عَن سعيد رَوَاهُ عَن عِكْرِمَة لِأَنَّهُ لَيْسَ من حمال المحابر.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (رحم الله أم إِسْمَاعِيل) هِيَ: هَاجر وقصتها ملخصة مَا ذكره السّديّ: أَن سارة زوج إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَلَفت أَن لَا تساكن هَاجر، فحملها إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل مَعهَا إِلَى مَكَّة على الْبراق، وَمَكَّة إِذْ ذَاك عضاه وَسلم وَسمر، وَمَوْضِع الْبَيْت يَوْمئِذٍ ربوة، فوضعهما مَوضِع الْحجر ثمَّ انْصَرف، فاتبعته هَاجر، فَقَالَت: إِلَى من تكلنا؟ فَالله أَمرك بِهَذَا؟ قَالَ: نعم، فَقَالَت: إِذن لَا يضيعنا، ثمَّ انْصَرف رَاجعا إِلَى الشَّام، وَكَانَ مَعَ هَاجر شنة مَاء وَقد نفد فعطشت وعطش الصَّبِي، فَقَامَتْ وصعدت الصَّفَا فتسمعت هَل تسمع صَوتا أَو ترى إنْسَانا فَلم تسمع صَوتا وَلم تَرَ أحدا، ثمَّ ذهبت إِلَى الْمَرْوَة فَصَعدت عَلَيْهَا وَفعلت مثل ذَلِك، فَلم تزل تسع بَينهمَا حَتَّى سعت سبع مَرَّات. وأصل السَّعْي من هَذَا، ثمَّ سَمِعت صَوتا فَجعلت تَدْعُو: اسْمَع أيل يَعْنِي: إسمع يَا الله قد هَلَكت وَهلك من معي، فَإِذا هِيَ بِجِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ لَهَا: من أَنْت؟ قَالَت: سَرِيَّة إِبْرَاهِيم تركني وَابْني هَهُنَا. قَالَ: إِلَى من وكلكما؟ قَالَت: إِلَى الله تَعَالَى، قَالَ: وكلكما إِلَى كافٍ، ثمَّ جَاءَ بهما إِلَى مَوضِع، زَمْزَم فَضرب بعقبه ففارت عينا، فَلذَلِك يُقَال لزمزم، ركضة جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فَلَمَّا نبع المَاء أخذت هَاجر شنتها وَجعلت تستقي فِيهَا تدخره، وَهِي تَفُور، فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يرحم الله أم إِسْمَاعِيل، لَوْلَا أَنَّهَا عجلت لكَانَتْ زَمْزَم عينا معينا، وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم أَي سَائِلًا جَارِيا على وَجه الأَرْض، يُقَال: عين معِين، أَي ذَات عين جَارِيَة، وَالْقِيَاس أَن يُقَال: مُعينَة، والتذكير إِمَّا حملا على اللَّفْظ، أَو لِوَهم أَنه فعيل بِمَعْنى مفعول، أَو على تَقْدِير ذَات معِين، وَهُوَ المَاء يجْرِي على وَجه الأَرْض.

3633 - وَقَالَ الأنْصَارِيُّ حدَّثنا ابنُ جُرَيْجٍ أمَّا كَثِيرُ بنُ كَثِيرٍ فحَدَّثَني قَالَ إنِّي وعُثْمَانَ بنَ أبِي سُلَيْمانَ جُلوسَّ مَعَ سَعِيدِ بنِ جُبَيْر فَقَالَ مَا هَكذَا حدَّثني ابنُ عَبَّاسٍ قَالَ أقْبَلَ إبْرَاهِيمُ بإسْمَاعِيلَ وأمِّهِ علَيْهِمُ السَّلاَمُ وهْيَ تُرْضِعُهُ مَعَها شَنَّةٌ لَمْ يَرْفَعْهُ ثُمَّ جاءَ بِهَا إبْرَاهِيمُ وبِإبْنِهَا إسْمَاعِيلَ. .

هَذَا طَرِيق ثَان أخرجه مُعَلّقا عَن الْأنْصَارِيّ، وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمثنى بن عبد الله بن أنس مَاتَ سنة أَربع عشرَة أَو خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ، عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج،، قَالَ: أما كثير بن كثير ضد الْقَلِيل فِي الْإِثْنَيْنِ، ابْن الْمطلب بتَشْديد الطَّاء الْمُهْملَة وَكسر اللاَّم ابْن أبي ودَاعَة، بِفَتْح الْوَاو وَتَخْفِيف الدَّال الْمُهْملَة: السَّهْمِي، مر فِي كتاب الشّرْب وَعُثْمَان بن أبي سُلَيْمَان بن جُبَير بن مطعم الْقرشِي. قَوْله: (جُلُوس) أَي: جالسان. قَوْله: (وَأمه) ، يَعْنِي: هَاجر. وَالْوَاو فِي: وَهِي ترْضِعه، للْحَال. قَوْله: (شنة) ، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون: وَهِي الْقرْبَة الْيَابِسَة. قَوْله: (لم يرفعهُ) أَي: الحَدِيث، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : عَن فاروق بن عبد الْكَبِير حَدثنَا أَبُو خَالِد عبد الْعَزِيز بن مُعَاوِيَة الْقرشِي عَن الْأنْصَارِيّ، وَلكنه أوردهُ مُخْتَصرا.

4633 - وحدَّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرَنا مَعْمَرٌ عنْ أيُّوبَ السَّخْتِيانيِّ وكَثِيرِ ابنِ كَثِيرِ بنِ المُطَّلِبِ بنِ أبِي وَدَاعَةَ يَزِيدُ أحَدُهُمَا علَى الآخَرِ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرِ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ أوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّساءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إسْمَاعِيلَ اتَّخَذَتْ مِنْطَقَاً لِتُعَفِّي أثَرَها علَى سارَةَ ثُمَّ جاءَ بِهَا إبْرَاهِيمُ وبابْنِهَا إسْمَاعِيلَ وهْيَ تُرْضِعُهُ حتَّى وضَعَهُما عِنْدَ البَيْتِ عنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أعْلَى المَسْجِدِ وليْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أحَدٌ وليْسَ بِهَا ماءٌ فوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ ووضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابَاً فِيهِ تَمْرٌ وسِقاءً فيهِ ماءٌ ثُمَّ قَفَّى إبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقَاً فتَبِعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَقالَتْ يَا إبْرَاهِيمُ أيْنَ تَذْهَبُ وتَتْرُكُنا بِهاذَا الوَادِي الَّذِي لَيْسَ فيهِ إنْسٌ ولاَ شَيْءٌ فقالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارَاً وجعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ

(15/253)


إليْهَا فقالَتْ لَهُ آللَّهُ الَّذِي أمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نعَمْ قالتْ إذَنْ لاَ يُضَيِّعَنَا ثُمَّ رَجَعَتْ فانْطَلَقَ إبْرَاهِيمُ حتَّى إذَا كانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ البَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤلاَءِ الكَلِمَاتِ ورَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَبِّ أنِّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ حتَّى بلَغَ يَشْكُرُونَ وجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ ترْضع إِسْمَاعِيل وتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ حتَّى إذَا نَفِذَ مَا فِي السِّقاءِ عَطِشَتْ وعَطِشَ ابْنُهَا وجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يتَلَوَّى أوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ فانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ فوَجَدَتْ الصَّفَا أقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأرْضِ يَلِيهَا فقامَتْ علَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِي تَنْظُرُ هَلْ تَرَي أحَدَاً فَلَمْ تَرَ أحَدَاً فهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حتَّى إذَا بلَغَتِ الوَادِيَ رفَعَتْ طرَفَ دِرْعِه ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإنْسَانِ الْمَجْهُودِ حتَّى جاوَزَتِ الوَادِي ثُمَّ أتتْ المَرْوَةَ فقامَتْ عَلَيْهَا ونَظَرَتْ هَلْ تَرَى أحَدَاً فلَمْ تَرَ أحَدَاً ففَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا فلَمَّا أشْرَفَتْ علَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتَاً فقالَتْ صَهْ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضا فقَالَتْ قَدْ أسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غُوَاثٌ فإذَا هِيَ بالمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعٍ زَمْزَمَ فبَحَثَ بِعَقِبِهِ أوْ قَالَ بِجَناحِهِ حتَّى ظَهَرَ المَاءُ فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وتَقولُ بِيَدِها هَكَذَا وجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ المَاءِ فِي سِقَائِهَا وهْوَ يَفورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْحَمُ الله أُمَّ إسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ المَاءِ لَكانَتْ زَمْزَمُ عَيْنَاً مَعِيناً قَالَ فشَرِبَتْ وأرْضَعَتْ ولدَهَا فَقَالَ لَهَا المَلَكُ لاَ تَخافُوا الضَّيْعَةَ فإنَّ هاهُنَا بَيْتَ الله يَبْنِيهِ هاذَا الغُلاَمُ وأبوهُ وإنَّ الله لَا يُضَيِّعُ أهْلَهُ وكانَ البَيْتُ مُرْتَفِعَاً مِنَ الأرْضِ كالرَّابِيَةِ تأتِيهِ السُّيُولُ فتأخُذُ عنْ يَمِينِهِ وشِمَالِهِ فَكانَتْ كَذَلِكَ حتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ منْ جُرْهُمَ أوْ أهْلُ بَيْت مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ فنَزَلُوا فِي أسْفَل مَكَّةَ فرَأوْا طائِرَاً عائفَاً فقالُوا إنَّ هذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ علَى ماءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الوَادِي وَمَا فِيهِ ماءٌ فأرْسَلُوا جَرِيّاً أوْ جَرِيَّيْنِ فإذَا هُمْ بِالْمَاءِ فرَجَعُوا فأخْبَرُوهُمْ بالمَاءِ فأقْبَلُوا قَالَ وأُمُّ إسْمَاَعِيلَ عِنْدَ الماءِ فقَالُوا أتأذَنِينَ لَنا أنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ فقالَتْ نَعَمْ ولَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ فِي المَاءِ قالُوا نَعَمْ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فألْفَى ذَلِكَ أُم إسْمَاعِيلَ وَهْيَ تُحِبُّ الإُنْسَ فَنَزَلُوا وأرْسَلُوا إِلَى أهْلِيهِمْ فنَزَلُوا مَعَهُمْ حتَّى إذَا كانَ بِهَا أهْلُ أبْياتٍ مِنْهُمْ وشَبَّ الغُلاَمُ وتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وأنفَسَهُمْ وأعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ فلَمَّا أدْرَكَ زَوَّجُوهُ امرَأةً مِنْهُمْ وماتَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَجاءَ إبْرَاهِيمُ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ إسْمَاعِيلُ يُطالِعُ تَرِكَتَهُ فلَمْ يَجِدْ إسْمَاعِيلَ فَسألَ امْرَأتَهُ عَنْهُ فقالَتْ خرجَ يَبْتَغِي لَنا ثُمَّ سألَهَا عنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فقالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ وشِدَّةٍ فَشَكَتْ إلَيْهِ قَالَ فإذَا جاءَ زَوْجُكِ فاقْرَئِي علَيْهِ السَّلاَمَ وقُولِي لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بابِهِ فلَمَّا جاءَ إسْمَاعِيلُ كأنَّهُ آنَسَ شَيْئاً فَقَالَ هَلْ جاءَكُمْ مِنْ أحَدٍ قالَتْ نَعَمْ جاءَنَا شَيْخٌ كذَا وكَذَا فسَألَنَا عَنْكَ فأخْبرْتُهُ

(15/254)


وسألَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فأخْبَرْتُهُ أنَّا فِي جَهْدٍ وشِدَّةٍ قَالَ فَهَلْ أوْصَاكِ بِشَيْءٍ قالَتْ نَعَمْ أمَرَنِي أنْ أقْرَأ علَيْكَ السَّلامَ ويَقولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بابِكَ قَالَ ذَاكَ أبي وقدْ أمَرَنِي أنْ أُفَارِقَكِ الحَقِي بأهْلِكِ فَطلقَها وتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى فلَبِثَ عَنْهُمْ إبْرَاهِيمُ مَا شاءَ الله ثُمَّ أتَاهُمْ بَعْدُ فلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ علَى امْرَأتِهِ فسَألَهَا عَنْهُ فقالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنا قَالَ كَيْفَ أنْتُمْ وسألَهَا عنْ عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ فقالَتْ نَحْنُ بِخَيْرٍ وسِعَةٍ وأثْنَتْ علَى الله فَقَالَ مَا طَعَامُكُمْ قالَتِ اللَّحْمُ قَالَ فَما شَرَابُكُمْ قالَتِ الْمَاءُ قَالَ أللَّهُمَّ بارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ والماءِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ ولَوْ كانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ قَالَ فَهُمَا لاَ يَخْلُو عَلَيْهِمَا أحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إلاَّ لَمْ يُوَافِقَاهُ قَالَ فإذَا جاءَ زَوْجُكِ فاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ ومُرِيهِ يُثْبِتْ عَتَبَةَ بابِهِ فلَمَّا جاءَ إسْمَاعِيلُ قَالَ هَلْ أتاكُمْ مِنْ أحَدٍ قالَتْ نَعمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وأثْنَتْ عليْهِ فسَألَنِي عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فأخْبَرْتُهُ أنَّا بِخَيْرٍ قَالَ فأوْصَاكِ بِشَيْءٍ قالَتْ نَعَمْ هُوَ يَقْرَأ عَلَيْكَ السَّلاَمَ ويأمُرُكَ أنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بابِكَ قَالَ ذَاكِ أبي وأنْتِ الْعَتَبَةُ أمَرَنِي أنْ أُمْسِكَكِ ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شاءَ الله ثُمَّ جاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وإسْمَاعِيلُ يَبْرِي لَهُ نَبْلاً تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيباً مِنْ زَمْزَمَ فلَمَّا رَآهُ قامِ إلَيْهِ فصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الوَالِدُ بالوَلَدِ والوَلَدُ بالوَالِدِ ثُمَّ قَالَ يَا إسْمَاعِيلُ إنَّ الله أمَرَنِي بِأمْرَ قَالَ فاصْنَعْ مَا أمَرَكَ رَبُّكَ قَالَ وَتُعِينُنِي قَالَ وأُعِينُكَ قَالَ فإنَّ الله أمَرَنِي أنْ أبْنِيَ هاهُنَا بَيْتَاً وأشارَ إلَى أكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ علَى مَا حَوْلَهَا قَالَ فَعِنْدَ ذالِكَ رفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يأتِي بالحِجَارَةِ وإبْرَاهِيمُ يَبْنِي حتَّى إذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ جاءَ بِهاذَا الحَجَرَ فوَضَعَهُ لَهُ فَقامَ عَليْهِ وهْوَ يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُناوِلُهُ الحِجَارَةَ وهُمَا يَقُولانَ رَبَّنَا تقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ قَالَ فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وهُمَا يَقولانِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. .

هَذَا من تَتِمَّة الحَدِيث الأول، لِأَن الحَدِيث الأول جُزْء يسير مِنْهُ، وَهَذَا يُوضح الْقِصَّة كَمَا يَنْبَغِي، وَعبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي، وَعبد الرَّزَّاق بن همام، وَمعمر بن رَاشد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْمنطق) ، بِكَسْر الْمِيم مَا يشد بِهِ الْوسط أَي: اتَّخذت أم اسماعيل منطقاً، وَكَانَ أول الإتخاذ من جِهَتهَا، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا تزيت بزِي الخدم إشعاراً بِأَنَّهَا خَادِمهَا، يَعْنِي: خَادِم سارة لتستميل خاطرها وتجبر قَلبهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: النُّطْق، بِضَم النُّون والطاء، وَهُوَ جمع: منطق، وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن سارة كَانَت وهبت هَاجر لإِبْرَاهِيم فَحملت مِنْهُ بِإِسْمَاعِيل، فَلَمَّا وَلدته غارت مِنْهَا، فَحَلَفت لتقطعن مِنْهَا ثَلَاثَة أَعْضَاء، فاتخذت هَاجر منقطقاً فشدت بِهِ وَسطهَا وَجَرت ذيلها لتخفي أَثَرهَا على سارة، وَهُوَ معنى قَوْله: (لتعفي أَثَرهَا) ، أَي: لِأَن تعفي، يُقَال عَفا على مَا كَانَ مِنْهُ: إِذا أصلح بعد الْفساد، وَيُقَال: إِن إِبْرَاهِيم شفع فِيهَا، وَقَالَ لسارة: حللي يَمِينك بِأَن تثقبي أذنيها وتخفضيها، فَكَانَت أول من فعل ذَلِك، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن علية عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: أول مَا أحدث الْعَرَب جر الذيول عَن أم إِسْمَاعِيل. قَوْله: (ثمَّ جَاءَ بهَا إِبْرَاهِيم) قيل: كَانَ على الْبراق، وَقيل: كَانَ تطوى لَهُ الأَرْض. قَوْله: (وَهِي ترْضِعه) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، أَي: هَاجر ترْضع إِسْمَاعِيل، قَوْله: (عِنْد الْبَيْت) أَي: عِنْد مَوضِع البيع، لِأَنَّهُ لم يكن فِي ذَلِك الْوَقْت بَيت وَلَا بِنَاء. قَوْله: (فوضعهما)

(15/255)


عِنْد الْبَيْت، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: حَتَّى وضعهما. قَوْله: (عِنْد دوحة) ، بِفَتْح الدَّال والحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَهِي الشَّجَرَة الْعَظِيمَة. قَوْله: (فَوق زَمْزَم) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَوق الزمزم. قَوْله: (وَفِي أَعلَى الْمَسْجِد) ، أَي: فِي أَعلَى مَكَان الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ لم يكن حِينَئِذٍ بنى الْمَسْجِد. قَوْله: (جرابا) ، بِكَسْر الْجِيم، وَهُوَ الَّذِي يتَّخذ من الْجلد يوضع فِيهِ الزوادة. قَوْله: (وسقاء) بِالنّصب، عطف على: جراباً، وَهُوَ بِكَسْر السِّين، وَهُوَ قربَة صَغِيرَة، وَفِي رِوَايَة تَأتي: شنة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد النُّون، وَهِي الْقرْبَة العتيقة الْيَابِسَة. قَوْله: (ثمَّ قفى) ، بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الْفَاء من التقفية، وَهِي الْأَعْرَاض، والتولي. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: معنى قفَّى ولَّى، يَعْنِي: ولَّى رَاجعا إِلَى الشَّام، وَفِي رِوَايَة إِبْنِ إِسْحَاق: فَانْصَرف إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَى أَهله بِالشَّام وَترك إِسْمَاعِيل وَأمه عِنْد الْبَيْت. قَوْله: (مُنْطَلقًا) نصب على الْحَال. قَوْله: (فتبعته أم إِسْمَاعِيل) وَفِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: (فاتبعته) ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: (فَأَدْرَكته بِكَذَا) . قَوْله: (إِذن لَا يضيعنا) ، وَفِي رِوَايَة عَطاء: (لن يضيعنا) ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: (حسبي) ، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع عَن كثير، فَقَالَت: (رضيت بِاللَّه) . قَوْله: (عِنْد الثَّنية) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ فِي الْجَبَل كالعقبة، وَقيل: هُوَ الطَّرِيق العالي فِيهِ، وَقيل: أَعلَى المسيل فِي رَأسه. قَوْله: (رب) ، يَعْنِي: يَا رب، ويروى: (رَبِّي) ، بِالْيَاءِ هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني: (رب) ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (رَبنَا) ، كَمَا فِي الْقُرْآن، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا إِنِّي أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذِي زرع عِنْد بَيْتك الْمحرم رَبنَا ليقيموا الصَّلَاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس تهوى إِلَيْهِم وارزقهم من الثمرات لَعَلَّهُم يشكرون} (إِبْرَاهِيم: 73) . قَوْله: (بواد غير ذِي زرع) ، هُوَ مَكَّة. قَوْله: (الْمحرم) ، وصف الْبَيْت بالمحرم لِأَن الله تَعَالَى حرم التَّعَرُّض لَهُ والتهاون بِهِ، وَلِأَنَّهُ حرم على الطوفان، أَي: منع مِنْهُ. قَوْله: (ليقيموا الصَّلَاة عِنْد بَيْتك الْمحرم) يتَعَلَّق بقوله: أسكنت أَي: مَا أسكنتهم بِهَذَا الْوَادي الْخَلَاء البلقع إلاَّ ليقيموا الصَّلَاة عِنْد بَيْتك الْمحرم. قَوْله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَة من النَّاس) أَي: من أَفْئِدَة النَّاس، وَهِي جمع فؤاد، وَهِي الْقُلُوب، وَقد يعبر عَن الْقلب بالفؤاد، وَقيل: جمع: وُفُود من النَّاس وَلَو قَالَ: أَفْئِدَة للنَّاس، لحجت الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، قَالَه سعيد بن جُبَير. قَوْله: (تهوي إِلَيْهِم) ، أَي: تقصدهم وتسكن إِلَيْهِم. قَوْله: (وارزقهم من الثمرات) ، أَي: الَّتِي تكون فِي بِلَاد الرِّيف حَتَّى يُحِبهُمْ النَّاس. فَقبل الله دعاءه، وَأنْبت لَهُم بِالطَّائِف سَائِر الْأَشْجَار لَعَلَّهُم يشكرون النِّعْمَة. قَوْله: (حَتَّى إِذا نفد مَا فِي السقاء) أَي: حَتَّى إِذا فرغ المَاء الَّذِي فِي السقاء. قَوْله: (وعطش ابْنهَا) أَي: إِسْمَاعِيل، بِكَسْر الطَّاء فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قيل: كَانَ عمره فِي ذَلِك الْوَقْت سنتَيْن، وَقيل: كَانَ لَبنهَا انْقَطع. قَوْله: (يتلوى) أَي: يتمرغ وينقلب ظهرا لبطن ويميناً وَشمَالًا، واللوى: وجع فِي الْبَطن. قَوْله: (وَقَالَ: يتلبط) بِالْبَاء الْمُوَحدَة قبل الطَّاء الْمُهْملَة أَي: يتمرغ وَيضْرب بِنَفسِهِ الأَرْض، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ أَن يُحَرك لِسَانه وشفتيه كَأَنَّهُ يَمُوت. قَالَ الْخَلِيل: لبط فلَان بفلان الأَرْض إِذا صرعه صرعاً عنيفاً، وَقَالَ ابْن دُرَيْد: اللبط بِالْيَدِ والخبط بِالرجلِ، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب، فَلَمَّا ظمأ إِسْمَاعِيل جعل يضْرب الأَرْض بعقبيه، وَفِي رِوَايَة معمر والكشميهني يتلمظ بِالْمِيم والظاء الْمُعْجَمَة. قَوْله: (ثمَّ اسْتقْبلت الْوَادي) ، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب، والوادي يَوْمئِذٍ عميق. قَوْله: (تنظر) ، جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (فَهَبَطت) بِفَتْح الْبَاء. قَوْله: (ثمَّ سعت سعي الْإِنْسَان المجهود) ، أَي: الَّذِي أَصَابَهُ الْجهد، وَهُوَ الْأَمر الْمشق. قَوْله: (سبع مَرَّات) ، وَفِي حَدِيث أبي جهم: وَكَانَ ذَلِك أول من سعى بَين الصَّفَا والمروة. قَوْله: (فَقَالَت: صه) ، بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء وبكسرها منونة، وَالْمعْنَى: لما سَمِعت الصَّوْت قَالَت لنَفسهَا: صه، أَي: أسكتي. وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع وَابْن جريج: فَقَالَت: أَغِثْنِي إِن كَانَ عنْدك خير. قَوْله: (ثمَّ تسمعت) ، أَي: تكلفت فِي السماع وَاجْتَهَدت فِيهِ، وَهُوَ من بَاب التفعل وَمَعْنَاهُ التَّكَلُّف. قَوْله: (قد أسمعت) بِفَتْح التَّاء من الإسماع. قَوْله: (غواث) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَتَخْفِيف الْوَاو وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، قيل: وَلَيْسَ فِي الْأَصْوَات: فعال، بِفَتْح أَوله غَيره، وَحكى ابْن الْأَنْبَارِي ضم أَوله، وَحكى ابْن قرقول كسر أَوله أَيْضا، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر الضَّم، وَالْفَتْح للأصيلي، وَضَبطه الدمياطي بِالضَّمِّ، وَضَبطه ابْن التِّين بِالْفَتْح، وعَلى كل حَال هُوَ مُشْتَقّ من الْغَوْث، وَجَزَاء الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن كَانَ عنْدك غواث اغثني. قَوْله: (فَإِذا هِيَ بِالْملكِ) ، كلمة: إِذا، للمفاجأة، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع وَابْن جريج: فَإِذا جِبْرِيل، وَفِي حَدِيث عَليّ عِنْد الطَّبَرِيّ بِإِسْنَاد حسن: فناداها جِبْرِيل، فَقَالَ: من أَنْت؟ قَالَت: أَنا هَاجر أم ولد إِبْرَاهِيم، قَالَ: فَإلَى من وكلكما؟ قَالَت: إِلَى الله.

(15/256)


قَالَ: وكلكما إِلَى كافٍ. قَوْله: (فبحث بعقبه) ، الْبَحْث طلب الشَّيْء فِي التُّرَاب وَكَأَنَّهُ حفر بِطرف رجله. قَوْله: (أَو قَالَ بجناحه) ، شكّ من الرَّاوِي، قَالَ الْكرْمَانِي: وَمعنى: قَالَ، بجناجه، أَشَارَ بِهِ، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع، فَقَالَ: بعقبه هَكَذَا، وغمز عقبه على الأَرْض، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: فركض جِبْرِيل بِرجلِهِ، وَفِي حَدِيث عَليّ: ففحص الأَرْض بإصبعه فنبعت زَمْزَم. قَوْله: (حَتَّى ظهر المَاء) ، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: فَفَاضَ المَاء، وَفِي رِوَايَة ابْن قَانِع: فانبثق أَي: تفجر. قَوْله: (وَجعلت تحوضه) ، أَي: تَجْعَلهُ كالحوض لِئَلَّا يذهب المَاء، وَفِي رِوَايَة ابْن قَانِع: فدهشت أم إِسْمَاعِيل فَجعلت تحفر، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني من رِوَايَة ابْن نَافِع: تحفن، بالنُّون بدل الرَّاء، وَالْأول أصوب، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: فَجعلت تفحص الأَرْض بِيَدِهَا. قَوْله: (وَتقول بِيَدِهَا) ، هَكَذَا هُوَ حِكَايَة فعلهَا، وَهَذَا من إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل. قَوْله: (عينا معينا) ، قد مر تَفْسِيره عَن قريب، وَفِي رِوَايَة ابْن قَانِع: كَانَ المَاء ظَاهرا. قَوْله: (لَا تخافوا الضَّيْعَة) أَي: الْهَلَاك، ويروى: لَا تخافي، وَفِي حَدِيث أبي جهم: لَا تخافي أَن ينْفد المَاء، ويروى: لَا تخافي على أهل هَذَا الْوَادي ظمأً وَأَنَّهَا عين تشرب بهَا ضيفان الله، وَزَاد فِي حَدِيث أبي جهم: فَقَالَت: بشرك الله بِخَير. وَفِيه: أَن الْملك يتَكَلَّم مَعَ غير الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام. قَوْله: (يَبْنِي هَذَا الْغُلَام) ، كَذَا هُوَ بِغَيْر ذكر الْمَفْعُول، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (يبنيه) ، بِإِظْهَار الْمَفْعُول. قَوْله: (كالرابية) ، وَهُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفع. قَوْله: (رفْقَة) ، بِضَم الرَّاء وَسُكُون الْفَاء وَفتح الْقَاف، وَهِي: الْجَمَاعَة المختلطون سَوَاء كَانُوا فِي سفرهم أَو لَا. قَوْله: (من جرهم) ، بِضَم الْجِيم وَالْهَاء، حَيّ من الْيمن وَهُوَ ابْن قحطان بن عَابِر بن شالخ بن إرفخشذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ جرهم وَأَخُوهُ قطورا أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ عِنْد تبلبل الألسن، وَكَانَ رَئِيس جرهم مضاض بن عَمْرو، وَرَئِيس قطورا السميدع، وَيُطلق على الْجَمِيع: جرهم، وَقيل: إِن أصلهم من العمالقة، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: وَكَانَت جرهم يَوْمئِذٍ بوادٍ قريب من مَكَّة. قَوْله: (أَو أهل بَيت من جرهم) ، شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (مُقْبِلين) ، حَال من الإقبال، وَهُوَ التَّوَجُّه إِلَى الشَّيْء قَوْله: (من طَرِيق كداء) ، بِفَتْح الْكَاف وبالمد وَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَاعْترض بَعضهم بِأَن كداء بِالْفَتْح وَالْمدّ: مَحل فِي أَعلَى مَكَّة وَأما الَّذِي فِي أَسْفَلهَا بِضَم الْكَاف وَالْقصر، وَالصَّوَاب هُنَا هَذَا: يَعْنِي: بِالضَّمِّ وَالْقصر، ورد بِأَنَّهُ: لَا مَانع من أَن يدخلوها من الْجِهَة الْعليا وينزلوا من الْجِهَة السُّفْلى. قَوْله: (عائفاً) ، بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالفاء، وَهُوَ الَّذِي يتَرَدَّد على المَاء ويحوم حوله وَلَا يمْضِي عَنهُ. قَالَه الْخَلِيل. والعائف: الرجل الَّذِي يعرف مَوَاضِع المَاء من الأَرْض. قَوْله: (لعهدنا) ، اللَّام فِيهِ مَفْتُوحَة للتَّأْكِيد. قَوْله: (بِهَذَا الْوَادي) ، ظرف مُسْتَقر لَا لَغْو. قَوْله: (وَمَا فِيهِ مَاء) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (فأرسلوا جَريا) ، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ الرَّسُول، وَيُطلق على الْوَكِيل والأجير، وَسمي بذلك لِأَنَّهُ يجْرِي مجْرى مرسله أَو مُوكله، أَو لِأَنَّهُ يجْرِي مسرعاً فِي حَوَائِجه. قَوْله: (أَو جريين) ، شكّ من الرَّاوِي، هَل أرْسلُوا وَاحِدًا أَو اثْنَيْنِ؟ وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع: (فأرسلوا رَسُولا) . قَوْله: (فَإِذا هم بِالْمَاءِ) ، كلمة إِذا للمفاجأة. فَإِن قلت: الْمَذْكُور: جرى، بِالْإِفْرَادِ أَو جريين بالتثنة، فَمَا وَجه الْجمع؟ قلت: يحْتَمل كَون نَاس آخَرين مَعَ الجري من الخدم والأتباع. قَوْله: (فَأَقْبَلُوا) ، أَي: جرهم أَقبلُوا إِلَى جِهَة المَاء. قَوْله: (وَأم إِسْمَاعِيل عِنْد المَاء) ، جملَة حَالية أَي: كائنة عِنْد المَاء مُسْتَقِرَّة. قَوْله: (فقالو) ، أَي: جرهم قَالُوا بعد حضورهم عِنْد أم إِسْمَاعِيل. قَوْله: (فَقَالَت: نعم) ، أَي: قَالَت أم إِسْمَاعِيل: نعم أَذِنت لكم بالنزول. قَوْله: (فألفى ذَلِك) ، بِالْفَاءِ أَي: وجد. قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: وجد ذَلِك الجرهمي أم إِسْمَاعِيل محبَّة للمؤانسة بِالنَّاسِ، وَقَالَ بَعضهم: فألفى ذَلِك: أَي وجد، وَأم إِسْمَاعِيل، بِالنّصب على المفعولية، وَلم يبين فَاعل: وجد، من هُوَ كَأَنَّهُ خَفِي عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ خَفِي على الْكرْمَانِي حَتَّى جعل فَاعل: ألفى، الجرهمي، وَالْفَاعِل لقَوْله: فألفى هُوَ قَوْله: ذَلِك، وَأم إِسْمَاعِيل مَفْعُوله، وَذَلِكَ إِشَارَة إِلَى اسْتِئْذَان جرهم وَالْمعْنَى: فَأتى اسْتِئْذَان جرهم بالنزول أم إِسْمَاعِيل، وَالْحَال أَنَّهَا تَحت الْأنس لِأَنَّهَا كَانَت وَحدهَا وَإِسْمَاعِيل صَغِير والوحشة متمكنة، وَنَظِير مَا ذكرنَا من هَذَا نَظِير مَا فِي قَول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَا ألفاه السَّحر عِنْدِي إلاَّ نَائِما، وَفَسرهُ ابْن الْأَثِير وَغَيره: أَي مَا أَتَى عَلَيْهِ السَّحر إلاَّ وَهُوَ نَائِم، يَعْنِي: بعد صَلَاة اللَّيْل، وَالْفِعْل فِيهِ للسحر. قَوْله: (الْأنس) ، بِضَم الْهمزَة وَيجوز بِالْكَسْرِ أَيْضا لِأَن الْأنس بِالْكَسْرِ جِنْسهَا. قَوْله: (وشب الْغُلَام) ، أَي: إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي حَدِيث أبي جهم: وَنَشَأ

(15/257)


إِسْمَاعِيل بَين ولدانهم، أَي ولدان جرهم. قَوْله: (وَتعلم الْعَرَبيَّة مِنْهُم) أَي: من جرهم، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه تَضْعِيف لقَوْل من روى: أَنه أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ، وَقع ذَلِك عِنْد الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: (أول من نطق بِالْعَرَبِيَّةِ إِسْمَاعِيل) . قلت: لَيْسَ فِيهِ تَضْعِيف ذَلِك لِأَن الْمَعْنى: أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ من أَوْلَاد إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن إِبْرَاهِيم وَأَهله كلهم لم يَكُونُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ فالأولية أَمر نسبي، فبالنسبة إِلَيْهِم هُوَ أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جرهم. قَوْله: (وأنفسهم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أنفسهم، بِلَفْظ الْمَاضِي أَي: رغبهم فِيهِ وَفِي مصاهرته، يُقَال: أنفسني فلَان فِي كَذَا، أَي: رغبني فِيهِ (وأعجبهم) أَي: أعجبهم فِي نفاسته، وَقَالَ بَعضهم: أنفسهم، بِفَتْح الْفَاء بِلَفْظ أفعل التَّفْضِيل: من النفاسة أَي: كثرت رغبتهم فِيهِ انْتهى. قلت: قَوْله: أفعل التَّفْضِيل، غلط وَمَا هُوَ إلاَّ فعل ماضٍ من الإنفاس، وَالْفَاعِل فِيهِ: إِسْمَاعِيل، وَهُوَ عطف على: تعلم. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (النِّهَايَة) : وَحَدِيث إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه تعلم الْعَرَبيَّة وأنفسهم أَي: رغبهم وأعجبهم وَصَارَ عِنْدهم نفيساً، يُقَال: أنفسني فِي كَذَا: أَي: رغبني فِيهِ. قَوْله: (زوجوه إمرأة مِنْهُم) ، قَالَ السُّهيْلي: اسْمهَا جداء بنت سعد. وَعَن إِبْنِ إِسْحَاق: أَن اسْمهَا عمَارَة بنت سعد بن أُسَامَة، وَفِي حَدِيث أبي جهم: أَنَّهَا بنت صدي، وَلم يسمهَا، وَقَالَ عمر بن شبة: اسْمهَا حَيَّة بنت أسعد بن عملق، وَعَن ابْن إِسْحَاق: أَن إِسْمَاعِيل خطبهَا إِلَى أَبِيهَا فَزَوجهَا مِنْهُ. قَوْله: (وَمَاتَتْ أم إِسْمَاعِيل) يَعْنِي: فِي خلال ذَلِك، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: فَقدم إِبْرَاهِيم وَقد مَاتَت هَاجر، عَلَيْهَا السَّلَام، وَكَانَ عمرها تسعين سنة، فدفنها إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْحجر. قَوْله: (يطالع تركته) ، بِكَسْر الرَّاء أَي: يتفقد حَال مَا تَركه هُنَاكَ، والتركة، بِكَسْر الرَّاء وسكونها: بِمَعْنى المتروكة، وَالْمرَاد بهَا أَهله، والمطالعة النّظر فِي الْأُمُور، وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا يشْعر بِأَن الذَّبِيح إِسْحَاق، لِأَن الْمَأْمُور بذَبْحه كَانَ عِنْدَمَا بلغ السَّعْي، وَقد قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: إِن إِبْرَاهِيم تَركه رضيعاً وَعَاد إِلَيْهِ وَهُوَ متزوج، فَلَو كَانَ هُوَ الْمَأْمُور بذَبْحه لذكر فِي الحَدِيث أَنه عَاد إِلَيْهِ فِي خلال ذَلِك بَين زمَان الرَّضَاع وَالتَّزْوِيج، وَأجَاب الْكرْمَانِي: بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نفي مَجِيئه مرّة أُخْرَى قبل مَوتهَا وتزوجه. قلت: بل لَيْسَ فِيهِ نفي الْمَجِيء أصلا، بل فِيهِ الْمَجِيء مَرَّات، فَإِنَّهُ جَاءَ فيخبر أبي جهم: كَانَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يزور هَاجر كل شهر على الْبراق، يَغْدُو غدْوَة فَيَأْتِي مَكَّة ثمَّ يرجع فيقيل فِي منزله بِالشَّام. قَوْله: (خرج يَبْتَغِي لنا) ، أَي: يطْلب لنا الرزق، وَفِي رِوَايَة ابْن جريج: وَكَانَ عَيْش إِسْمَاعِيل الصَّيْد، يخرج فيتصيد، وَفِي حَدِيث أبي جهم: وَلَكِن إِسْمَاعِيل يرْعَى مَاشِيَة وَيخرج متنكباً قوسه فَيَرْمِي الصَّيْد. قَوْله: (ثمَّ سَأَلَهَا عَن عيشهم) ، وَزَاد فِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب، وَقَالَ: هَل عنْدك من ضِيَافَة؟ قَوْله: (فَقَالَت: نَحن فِي ضيق وَشدَّة) ، وَفِي حَدِيث أبي جهم: فَقَالَ لَهَا: هَل من منزل؟ فَقَالَت: لَاها الله إِذا. قَالَ: فَكيف عيشكم؟ قَالَ: فَذكرت جهداً، فَقَالَت: أما الطَّعَام فَلَا طَعَام، وَأما الشَّاء فَلَا نحلب إلاَّ الْمصر، أَي: الشخب، وَأما المَاء فعلى مَا ترى من الغلظ. الشخب: بِفَتْح الشين وَسُكُون الْخَاء المعجمتين وبباء مُوَحدَة: السيلان. قَوْله: (يُغير عتبَة بَابه) ، العتبة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة من فَوق وَالْبَاء الْمُوَحدَة: وَهِي أُسْكُفَّة الْبَاب، وَهِي هَهُنَا كِنَايَة عَن الْمَرْأَة. قَوْله: (جَاءَنَا شيخ كَذَا وَكَذَا) ، وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: كالمستخف بِشَأْنِهِ. قَوْله: (فسألنا عَنْك) ، بِفَتْح اللَّام. قَوْله: (ذَاك أبي) أَي: ذَاك الَّذِي هُوَ أبي إِبْرَاهِيم. قَوْله: (وَتزَوج مِنْهُم أُخْرَى) ، أَي: تزوج من جرهم امْرَأَة أُخْرَى، ذكر الْوَاقِدِيّ: أَن اسْمهَا سامة بنت مهلهل، وَقيل: اسْمهَا عَاتِكَة، وَقيل: بشامة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وبشين مُعْجمَة خَفِيفَة: بنت مهلهل بن سعد بن عَوْف، وَقيل: اسْمهَا نجدة بنت الْحَارِث بن مضاض، وَحكى ابْن سعد عَن إِبْنِ إِسْحَاق: أَن اسْمهَا رعلة بنت يشجب بن يعرب بن يوذان بن جرهم، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ: أَن اسْمهَا سيدة بنت مضاض، وَقَالَ الجواني: اسْمهَا هَالة بنت الْحَارِث بن مضاض، وَيُقَال: سلمى، وَيُقَال: الحنفاء. قَوْله: (نَحن بِخَير وسعة) ، وَفِي حَدِيث أبي جهم: نَحن فِي خير عَيْش بِحَمْد الله، وَنحن فِي لبن كثير وَلحم كثير وَمَاء طيب. قَوْله: (أللهم بَارك لَهُم فِي اللَّحْم وَالْمَاء) . وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع: أللهم بَارك لَهُم فِي طعامهم وشرابهم. قَوْله: (فهما لَا يخلوان عَلَيْهِمَا) أَي: فاللحم وَالْمَاء لَا يعْتَمد عَلَيْهِمَا أحد بِغَيْر مَكَّة إلاَّ لم يوافقاه، وَالْغَرَض: أَن المداومة على اللَّحْم وَالْمَاء لَا يُوَافق الأمزجة وينحرف المزاج عَنْهُمَا إلاَّ فِي مَكَّة فَإِنَّهُمَا يوافقانه، وَهَذَا من جملَة بركاتها وَأثر دُعَاء إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لَا يخلوان، بِصِيغَة التَّثْنِيَة، يُقَال: خلوت بالشَّيْء وأختليت: إِذا لم تخلط بِهِ غَيره، وَيُقَال: أخلى الرجل

(15/258)


اللَّبن إِذا غَيره، وَفِي حَدِيث أبي جهم: لَيْسَ أحد يَخْلُو على اللَّحْم وَالْمَاء بِغَيْر مَكَّة إلاَّ اشْتَكَى بَطْنه. قَوْله: (هَل أَتَاكُم من أحد؟) وَفِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيل وجد ريح أَبِيه، فَقَالَ لامْرَأَته: هَل جَاءَك أحد؟ قَالَت: نعم شيخ أحسن النَّاس وَجها وَأطيب ريحًا. قَوْله: (أَن تثبت عتبَة بابك) وَفِي حَدِيث أبي جهم: فَإِنَّهَا فلاح الْمنزل. قَوْله: (أَن أمسكك) زَاد فِي حَدِيث أبي جهم: وَلَقَد كنت عَليّ كَرِيمَة، وَلَقَد ازددت عَليّ كَرَامَة، فَولدت لإسماعيل عشرَة ذُكُور، قلت: ولدت اثْنَي عشر رجلا، وهم: نابت وقيدار وإذميل وميشى ومسمع وذوما وماش وآزر وفطور ونافش وظميا وقيدما، وَكَانَت لَهُ ابْنة تسمى: نسمَة. قَوْله: (يبري) ، بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة (والنبل) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: السهْم، قبل أَن يركب فِيهِ نصله وريشه، وَهُوَ السهْم الْعَرَبِيّ. قَوْله: (دوحة) ، وَهِي الَّتِي نزل إِسْمَاعِيل وَأمه تحتهَا أول قدومهما، وَوَقع فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع، من رواء زَمْزَم. قَوْله: (كَمَا يصنع الْوَالِد بِالْوَلَدِ وَالْولد بالوالد) ، يَعْنِي من الاعتناق والمصافحة وتقبيل الْيَد. قَوْله: (إِن الله أَمرنِي بِأَمْر) قيل: كَانَ عمر إِبْرَاهِيم فِي ذَلِك الْوَقْت مائَة سنة، وَعمر إِسْمَاعِيل ثَلَاثِينَ سنة. قَوْله: (وتعينني؟) قَالَ: وأعينك. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فأعينك، بِالْفَاءِ وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع: إِن الله قد أَمرنِي أَن تعينني عَلَيْهِ، قَالَ: إِذن إفعل. بِالنّصب. قَوْله: (أكمة) بفتحين، وَهِي: الرابية. قَوْله: (على مَا حولهَا) ، يتَعَلَّق بقوله: ابْني. قَوْله: (رفعا الْقَوَاعِد) جمع قَاعِدَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن سعيد عَن ابْن عَبَّاس: الْقَوَاعِد الَّتِي رَفعهَا إِبْرَاهِيم كَانَت قَوَاعِد الْبَيْت قبل ذَلِك، وَفِي رِوَايَة مُجَاهِد عِنْد ابْن أبي حَاتِم: أَن الْقَوَاعِد كَانَت فِي الأَرْض السَّابِعَة، وَفِي حَدِيث أبي جهم: فَبلغ إِبْرَاهِيم من الأساس أس آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَجعل طوله فِي السَّمَاء تِسْعَة أَذْرع وَعرضه فِي الأَرْض، يَعْنِي: دوره ثَلَاثِينَ ذِرَاعا، كَانَ ذَلِك بذراعهم، زَاد أَبُو جهم: وَأدْخل الْحجر فِي الْبَيْت، وَكَانَ قبل ذَلِك زرباً لغنم إِسْمَاعِيل، وَإِنَّمَا بناه بحجارة بَعْضهَا على بعض وَلم يَجْعَل لَهُ سقفاً، وَجعل لَهُ بَابا وحفر لَهُ بِئْرا عِنْد بَابه خزانَة للبيت يلقِي فِيهَا مَا يهدى للبيت، وَفِي حَدِيثه أَيْضا: أَن الله أوحى إِلَى إِبْرَاهِيم أَن اتبع السكينَة، فحلقت على مَوضِع الْبَيْت كَأَنَّهَا سَحَابَة فحفراه: يُرِيد أَن أساس آدم الأول. وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا هناد بن السّري حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن سماك عَن خَالِد بن عرْعرة: أَن رجلا قَامَ إِلَى عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: أَلا تُخبرنِي عَن الْبَيْت أهوَ أول بَيت وضع فِي الأَرْض؟ فَقَالَ: لَا، وَلكنه أول بَيت وضع للبركة مقَام إِبْرَاهِيم، وَمن دخله كَانَ آمنا، وَإِن شِئْت أَنْبَأتك كَيفَ بني: إِن الله تَعَالَى أوحى إِلَى إِبْرَاهِيم أَن ابنِ لي بَيْتا فِي الأَرْض. قَالَ: فَضَاقَ إِبْرَاهِيم بذلك ذرعاً، فَأرْسل الله السكينَة، وَهِي ريح خجوج وَلها رأسان، فَاتبع أَحدهمَا صَاحبه حَتَّى انْتَهَت إِلَى مَكَّة فتطوت على مَوضِع الْبَيْت كطي الْجحْفَة، وَأمر إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يَبْنِي حَيْثُ تَسْتَقِر السكينَة، فَبنى إِبْرَاهِيم وَبَقِي حجر، فَقَالَ إِبْرَاهِيم لإسماعيل: إئتني حجرا كَمَا أَمرك الله. قَالَ: فَانْطَلق الْغُلَام يلْتَمس لَهُ حجرا، فَأَتَاهُ بِهِ فَوَجَدَهُ قد ركب الْحجر الْأسود فِي مَكَانَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَت، من أَتَاك بِهَذَا الْحجر؟ قَالَ: أَتَانِي بِهِ من لَا يتكل على بنائك، جَاءَ بِهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من السَّمَاء فأتماه. وَفِي رِوَايَة السّديّ: لما بنيا الْقَوَاعِد فبلغا مَكَان الرُّكْن، قَالَ إِبْرَاهِيم لإسماعيل: يَا بني أطلب لي حجرا حسنا أَضَعهُ هَهُنَا. قَالَ: يَا أبتِ إِنِّي كسلان. قَالَ: عَليّ ذَلِك، فَانْطَلق يطْلب لَهُ حجرا،، وَجَاء جِبْرِيل بِالْحجرِ الْأسود من الْهِنْد، وَكَانَ أَبيض ياقوتة بَيْضَاء مثل الثغامة، وَكَانَ آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَبَط بِهِ من الْجنَّة فاسودَّ من خَطَايَا النَّاس، فَجَاءَهُ إِسْمَاعِيل بِحجر فَوَجَدَهُ عِنْد الرُّكْن، فَقَالَ: يَا أَبَت! من جَاءَك بِهَذَا؟ قَالَ: جَاءَ بِهِ من هُوَ أنشط مِنْك، فَبَيْنَمَا هما يدعوان الْكَلِمَات الَّتِي ابْتُلِيَ إِبْرَاهِيم ربه فَقَالَ: {رَبنَا تقبل منا إِنَّك أَنْت السَّمِيع الْعَلِيم} (الْبَقَرَة: 721) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا عَمْرو بن رَافع حَدثنَا عبد الْوَهَّاب بن مُعَاوِيَة عَن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد عَن عليان ابْن أَحْمَر: أَن ذَا القرنين قدم مَكَّة فَوجدَ إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل بنيا قَوَاعِد الْبَيْت من خَمْسَة أجبل، فَقَالَ: مَا لَكمَا ولأرضي؟ فَقَالَا: نَحن عَبْدَانِ مأموران، أمرنَا بِبِنَاء هَذِه الْكَعْبَة، قَالَ: فهاتا الْبَيِّنَة على مَا تدعيان، فَقَامَتْ خَمْسَة أكبش، فَقُلْنَ: نَحن نشْهد أَن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَبْدَانِ مأموران، أمرا بِبِنَاء هَذِه الْكَعْبَة، فَقَالَ: قد رضيت وسلمت، ثمَّ مضى. وَذكر الْأَزْرَقِيّ فِي (تَارِيخ مَكَّة) : أَن ذَا القرنين طَاف مَعَ إِبْرَاهِيم بِالْبَيْتِ. قلت: ريح خجوج أَي: شَدِيدَة الْمُرُور فِي غير اسْتِوَاء. قَوْله: (فتطوت) ، وَفِي رِوَايَة: (فتطوقت) . قَوْله: (مثل الثغامة) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة والغين الْمُعْجَمَة، وَهِي طير أَبيض كَبِير. قَوْله: (من خَمْسَة

(15/259)


أجبل) ، وَعند ابْن أبي حَاتِم: بناه من خَمْسَة أجبل: حراء وثبير ولبنان وجبل الطّور وجبل الْخمر، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: جبل الْخمر يَعْنِي: بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة هُوَ: جبل بَيت الْمُقَدّس، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: عَن ابْن جريج عَن عَطاء: أَن آدم بناه من خَمْسَة أجبل: حراء وطور زيتا وطور سينا والجودي ولبنان، وَكَانَ ربضه من حراء، وَمن طَرِيق مُحَمَّد بن طَلْحَة اليتهمي: قَالَ: سَمِعت أَنه أسس الْبَيْت من سِتَّة أجبل: من أبي قبيس وَمن الطّور وَمن قدس وَمن ورقان وَمن رضوى وَمن أحد. قلت: حراء، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَالْمدّ وَهُوَ جبل من جبال مَكَّة مَعْرُوف، وثبير، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة جبل من جبال مَكَّة، و: لبنان، بِضَم اللاَّم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: جبل بِالشَّام من أعظم الْجبَال وَأَصله ممتد من الْحجاز إِلَى الرّوم، و: جبل الطّور، على مسيرَة سَبْعَة أَيَّام من مصر وَهُوَ الْجَبَل الَّذِي كلم الله تَعَالَى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَلَيْهِ. و: طور زينا: جبل بالقدس، و: الجودي، جبل مطل على جَزِيرَة ابْن عمر على دجلة فَوق الْموصل، و: طور سينا، اخْتلف فِيهِ، فَقيل: هُوَ جبل بِقرب أَيْلَة، وَقيل: هُوَ جبل بِالشَّام، و: قدس، بِفَتْح الْقَاف إثنان: قدس الْأَبْيَض وَقدس الْأسود، وهما جبلان عِنْد ورقان، وورقان على وزن قطران: جبل أسود بَين العرج والرويثة على يَمِين الْمَار من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة. و: العرج، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره جِيم: قَرْيَة جَامِعَة من أَعمال الْفَرْع على أَيَّام من الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة. و: الرُّوَيْثَة، بِضَم الرَّاء وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة: وَهِي قَرْيَة جَامِعَة بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة سَبْعَة عشر فرسخاً، و: رضوى، من جبل تهَامَة بَينه وَبَين الْمَدِينَة سبع مراحل وَهُوَ من الينبع على يَوْم. قَوْله: (جَاءَ بِهَذَا الْحجر) ، أَرَادَ بِهِ الْحجر الْمَشْهُور بمقام إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن نَافِع: حَتَّى ارْتَفع الْبناء وَضعف الشَّيْخ عَن نقل الْحِجَارَة، فَقَامَ على حجر الْمقَام، وَزَاد فِي حَدِيث عُثْمَان: وَنزل عَلَيْهِ الرُّكْن وَالْمقَام، فَكَانَ إِبْرَاهِيم يقوم على الْمقَام يَبْنِي عَلَيْهِ وَيَرْفَعهُ لَهُ إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فَلَمَّا بلغ الْموضع الَّذِي فِيهِ الرُّكْن وَضعه يَوْمئِذٍ مَوْضِعه، وَأخذ الْمقَام فَجعله لاصقاً بِالْبَيْتِ. قَوْله: (حَتَّى يدورا) ، من الدوران، ويروى: (حَتَّى يدورا) ، من التدوير.

5633 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا أَبُو عامِرٍ عَبْدُ المَلِكِ بنُ عَمْرٍ وَقَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ ابنُ نَافِعٍ عنْ كَثِيرِ بنِ كَثير عَن سعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ لَمَّا كانَ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وبَيْنَ أهْلِهِ مَا كانَ خَرَج بإسْمَاعِيلَ وأُمِّ إسْمَاعِيلَ ومَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيها مَاءٌ فجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا حَتَّى قَدِمَ مَكِّةَ فوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ ثُمَّ رَجَعَ إبْرَاهِيمُ إِلَى أهْلِهِ فاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ حتَّى لَمَّا بَلَغُوا كدَاءً نادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ يَا إبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنا قَالَ إِلَى الله قالَتْ رَضِيتُ بِاللَّه قَالَ فرَجَعَتْ فجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ ويَدِرُّ لبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا حتَّى لما فَنِي الماءُ قالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أحدا قَالَ فَذَهَبتْ فصَعِدَتِ الصَّفا فنَظَرَتْ ونَظَرَتْ هَلْ تُحِسُّ أحَداً فلَمْ تُحِسُّ أحدَاً فلَمَّا بَلَغَتِ الوَادِي سَعَتْ وأتَتِ المَرْوَةَ فَفَعَلَتْ ذلِكَ أشْوَاطاً ثُمَّ قالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فنَظَرْتُ مَا فَعَلَ تَعْنِي الصَّبِيَّ فذَهَبَتْ فنَظَرَتْ فإذَا هُوَ عَلَى حالِهِ كأنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ فلَمْ تُقِرَّهَا نَفْسُها فقالَتْ لوْ ذَهَبْتُ فنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أحدَاً فذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا فنَظَرَتْ ونَظَرَتْ فلَمْ تُحِسَّ أحَدَاً حتَّى أتَمَّتْ سبْعاً ثُمَّ قالَتْ لَوْ ذَهَبْتُ فنَظَرْتُ مَا فَعَلَ فإذَا هِيَ بِصَوْتٍ فَقالَتْ أغِثْ إنْ كانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فإذَا جِبْرِيلُ قَالَ فَقال بِعقِبِهِ هَكَذَا وغَمَزَ عَقِبَهُ علَى الأرْضِ قَالَ فانْبَثَقَ المَاءُ فدَهشَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ فَجَعَلَتْ تَحْفِرُ قَالَ فَقَالَ أَبُو القَاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ تَرَكَتْهُ كانَ المَاءُ ظِاهِرَاً قَالَ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ ويَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا

(15/260)


قَالَ فَمَرَّ ناسٌ مِنْ جرهم بِبَطْنِ الوَادِي فإذَا هُمْ بِطَيْرٍ كأنَّهُمْ أنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا مَا يَكُونُ الطَّيْرُ إلاَّ علَى ماءٍ فبَعَثُوا رَسُولَهُمْ فنَظَرَ فإذَا هُمْ بالمَاءِ فأتاهُمْ فأخْبَرَهُمْ فأتَوْا إلَيْهَا فَقَالُوا يَا أُمَّ إسْمَاعِيلَ أتأذَنِينَ لَنَا أنْ نَكُونَ مَعَكِ أوْ نَسْكُنَ مَعَكِ فبَلَغَ ابنُهَا فَنَكَحَ فِيهِمْ امْرَأةٍ قَالَ ثُمَّ إنَّهُ بدَا لإبْرَاهِيمَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لأهْلِهِ إنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي قَالَ فَجاءَ فسَلَّمَ فقالَ أيْنَ إسْمَاعِيلُ فقالَتِ امْرَأتُهُ ذَهَبَ يَصِيدُ قَالَ قُولِي لَهُ إذَا جاءَ غَيِّرْ عَتَبَةَ بابِكَ فلَمَّا جاءَ أخْبَرَتْهُ قَالَ أنْتِ ذَاكِ فاذْهَبِي إِلَى أهْلِكِ قَالَ ثُمَّ إنَّهُ بَدَا لإبْرَاهِيمَ فَقَالَ لأِهْلِهِ إنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي قَالَ فَجاءَ فَقَالَ أيْنَ إسْمَاعِيلُ فقالَتِ امْرَأتُهُ ذَهَبَ يَصِيدُ فقالَتْ ألاَ تَنْزِلُ فتَطْعَمَ وتَشْرَبَ فَقَالَ وَمَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ قالَتْ طَعَامُنا اللَّحْمُ وشَرَابُنَا الماءُ قالَ الَّلهُمَّ بارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وشَرَابِهِمْ قَالَ فَقَالَ أبُو القَاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم برَكَةٌ بِدَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ثُمَّ إنَّهُ بدَا لإبْرَاهِيمَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لأِهْلِهِ إنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي فَجاءَ فَوَافَقَ إسْمَاعِيلَ مِنْ ورَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلاً لَهُ فَقَالَ يَا إسْمَاعِيلُ إنَّ رَبَّكَ أمَرَنِي أنْ أبْنِيَ لَهُ بَيْتَاً قَالَ أطِعْ رَبَّكَ قَالَ إنَّهُ أمَرَنِي أنْ تُعِينَنِي علَيْهُ قَالَ إذَنْ أفْعَل أوْ كَمَا قَالَ قَالَ فقاما فجَعَلَ إبْرَاهِيمُ يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ ويَقُولاَنِ رَبَّنَا تقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ قَالَ حتَّى ارْتَفَعَ البِنَاءُ وضَعُفَ الشَّيْخُ علَى نَقْلِ الحِجَارَةِ فقامَ علَى حَجَرِ المقَامِ فجَعَلَ يُناوِلُهُ الحِجَارَةَ ويَقُولانِ ربَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمَيعُ العَلِيمُ. .

هَذَا طَرِيق ثَالِث لحَدِيث ابْن عَبَّاس، وَعبد الله بن مُحَمَّد البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَأَبُو عَامر هُوَ الْعَقدي، وَإِبْرَاهِيم بن نَافِع المَخْزُومِي الْمَكِّيّ.
قَوْله: (وَبَين أَهله) ، يَعْنِي: سارة لما ولدت هَاجر إِسْمَاعِيل، وَقد تقدّمت قصَّتهَا. قَوْله: (مَا كَانَ) ، أَي: من جنس الْخُصُومَة الَّتِي هِيَ مُعْتَادَة بَين الضرائر. قَوْله: (لما بلغُوا) ، أَي: نادته حِين الْبلُوغ. قَوْله: (كداء) ، قد مر الْكَلَام فِيهِ مَعَ الْخلاف فِي ضَبطه. قَوْله: (كَأَنَّهُ ينشغ) ، بالنُّون والشين والغين المعجمتين: وَهُوَ الشهيق من الصَّدْر حَتَّى كَاد يبلغ بِهِ الغشي، أَي: يَعْلُو نَفسه كَأَنَّهُ شهيق من شدَّة مَا يرد عَلَيْهِ. قَوْله: (فَلم تقرها نَفسهَا) ، من الْإِقْرَار فِي الْمَكَان، و: نَفسهَا، مَرْفُوع بِأَنَّهُ فَاعله. قَوْله: (فَقَالَ بعقبه) ، أَي: أَشَارَ بِهِ، وَهَذَا من الْمَوَاضِع الَّتِي يسْتَعْمل فِيهَا: قَالَ، فِي غير مَعْنَاهُ. قَوْله: (فانبثق) ، أَي: انخرق وتفجر، ومادته بَاء مُوَحدَة وثاء مُثَلّثَة وقاف. قَوْله: (وتحفر) ، بالراء، ويروى: تحفن، بالنُّون أَي: تملأ الْكَفَّيْنِ. قَوْله: (فَبلغ) ، الْفَاء فِيهِ فصيحة أَي: فَأَذنت فَكَانَ كَذَا فَبلغ. قَوْله: (بدا) ، أَي: ظهر لإِبْرَاهِيم التَّوَجُّه إِلَى هَاجر. قَوْله: (بركَة) ، مَرْفُوع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هِيَ بركَة، أَو بِالْعَكْسِ، أَي: زَمْزَم بركَة أَو فِي طَعَام مَكَّة وشرابها بركَة، وَسِيَاق الْكَلَام يدل عَلَيْهِ قَوْله: (عتبَة بابك) ، ويروى: (بَيْتك) . قَوْله: (على نقل الْحِجَارَة) ، ويروى: (عَن نقل الْحِجَارَة) .

6633 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ حدَّثنا الأعْمَشُ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قُلْتُ يَا رسُولَ الله أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأرْضِ أوَّلَ قَالَ المَسْجِدُ الحَرَامُ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ أيٌّ قَالَ المسْجِدُ الأقْصَى قُلْتُ كَمْ كانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أرْبَعُونَ سنَةً ثُمَّ أيْنَما أدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فإنَّ الفَضْلَ فيهِ. (الحَدِيث 6633 طرفه فِي: 5243) .

(15/261)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (الْمَسْجِد الْحَرَام) لِأَنَّهُ بناه إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمرَاد بالترجمة الَّتِي فِي قَوْله: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 561) . وَالْبَاب الْمُجَرّد الَّذِي بعده قد قُلْنَا: إِنَّه كالفصل، فالاعتبار للباب المترجم دون الْمُجَرّد.
وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ هُوَ ابْن يزِيد يروي عَن أَبِيه يزِيد بن شريك بن طَارق التَّيْمِيّ عداده فِي أهل الْكُوفَة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عمر بن حَفْص بن غياث فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لداود سُلَيْمَان} (ص: 03) . وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي كَامِل وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب وَعَن عَليّ بن حجر، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن بشر بن خَالِد وَفِيه وَفِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن حجر، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن عَليّ بن مُحَمَّد وَعَن عَليّ بن مَيْمُون.
قَوْله: (أول) ، بِضَم اللاَّم ضمة بِنَاء لقطعه عَن الْإِضَافَة مثل: قبل وَبعد، وَيجوز فتحهَا إِذا كَانَ غير منصرف، وَيجوز بِالنّصب إِذا كَانَ منصرفاً، وَالْمعْنَى: أَي: مَسْجِد وضع أَولا للصَّلَاة؟ قَوْله: (ثمَّ أَي) ، بِالتَّنْوِينِ، أَي: ثمَّ أَي مَسْجِد بني بعد الْمَسْجِد الْحَرَام؟ قَوْله: (قَالَ) ، أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بني بعده الْمَسْجِد الْأَقْصَى، قيل لَهُ: الْأَقْصَى لبعد الْمسَافَة بَينه وَبَين الْكَعْبَة. وَقيل: لِأَنَّهُ لم يكن وَرَاءه مَوضِع عبَادَة وَقيل: لبعده عَن الأقذار والخبائث، فَإِنَّهُ مقدس أَي: مطهر. قَوْله: (كم بَينهمَا؟) أَي: بَين بِنَاء الْمَسْجِد الْحَرَام وَبِنَاء الْمَسْجِد الْأَقْصَى. قَوْله: (أَرْبَعُونَ سنة) ، أَي: بَينهمَا أَرْبَعُونَ سنة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: فِيهِ إِشْكَال، لِأَن إِبْرَاهِيم بنى الْكَعْبَة وَسليمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بنى بَيت الْمُقَدّس، وَبَينهمَا أَكثر من ألف سنة، وَالْجَوَاب عَنهُ مَا قَالَه الْقُرْطُبِيّ: إِن الْآيَة الْكَرِيمَة والْحَدِيث لَا يدلان على أَن إِبْرَاهِيم وَسليمَان، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، ابتدآ وضعهما، بل كَانَ تجديداً لما أسس غَيرهمَا، وَقد رُوِيَ أَن أول من بنى الْبَيْت آدم، وعَلى هَذَا فَيجوز أَن يكون غَيره من وَلَده رفع بَيت الْمُقَدّس بعده بِأَرْبَعِينَ عَاما، ويوضحه من ذكره ابْن هِشَام فِي كِتَابه (التيجان) : إِن آدم لما بنى الْبَيْت أمره جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْمَسِيرِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَأَن يبنيه فبناه ونسك فِيهِ، وَقَالَ ابْن كثير: أول مَا جعله مَسْجِدا إِسْرَائِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا أَمر سُلَيْمَان بتجديده وإحكامه، لَا أَنه أول من بنى. وَذكر الثَّعْلَبِيّ: أَن دَاوُد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بني إِسْرَائِيل أَن يتخذوا مَسْجِدا فِي صَعِيد بَيت الْمُقَدّس، فَأخذُوا فِي بنائِهِ لإحدى عشرَة سنة مَضَت من ملك دَاوُد، وَكَانَ دَاوُد ينْقل لَهُم الْحِجَارَة على عَاتِقه، فَأوحى الله إِلَى دَاوُد: إِنَّك لست بانيه وَلَكِن لَك ابْن أملكهُ بعْدك اسْمه سُلَيْمَان فأقضي إِتْمَامه على يَدَيْهِ، وَرُوِيَ عَن كَعْب الْأَحْبَار: أَن سُلَيْمَان بنى بَيت الْمُقَدّس على أساس قديم كَانَ اسسه سَام بن نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذكر أَبُو مُحَمَّد بن أَحْمد الوَاسِطِيّ فِي (تَارِيخ بَيت الْمُقَدّس) : أَن سُلَيْمَان اشْترى أرضه بسبعة قناطير ذَهَبا، وَقَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون الْمَسْجِد الْأَقْصَى أول مَا وضع بناءه بعض أَوْلِيَاء الله تَعَالَى قبل دَاوُد وَسليمَان، ثمَّ بناه دَاوُد وَسليمَان فزادا فِيهِ ووسعاه فأضيف إِلَيْهِمَا بِنَاؤُه، قَالَ: وَقد ينْسب هَذَا الْمَسْجِد إِلَى إيلياء فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ بانيه أَو غَيره، وَلست أحقق لِمَ أضيف إِلَيْهِ. وَفِي قَوْله: فَيحْتَمل أَن يكون هُوَ بانيه نظر، لِأَن إيليا اسْم الْبَلَد، فأضيف إِلَى الْمَسْجِد كَمَا يُقَال: مَسْجِد الْمَدِينَة وَمَسْجِد مَكَّة، وَقَالَ أَبُو عبيد فِي (مُعْجم الْبلدَانِ) : إيلياء مَدِينَة بَيت الْمُقَدّس فِيهَا ثَلَاث لُغَات: مد آخِره وقصره وَحذف الْيَاء الأولى. قَوْله: (بعد) ، بِضَم الدَّال، أَي: بعد إِدْرَاك وَقت الصَّلَاة. قَوْله: (فَصله) ، الْهَاء فِيهِ للسكت، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، فصل، بِلَا هَاء. قَوْله: (فَإِن الْفضل فِيهِ) أَي: فِي فعل الصَّلَاة إِذا حضر وَقتهَا.

38 - (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو مولى الْمطلب عَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طلع لَهُ أحد فَقَالَ هَذَا جبل يحبنا ونحبه اللَّهُمَّ إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة وَإِنِّي أحرم مَا بَين لابتيها) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله أَن إِبْرَاهِيم وَعَمْرو بن أبي عَمْرو وَاسم أبي عَمْرو ميسرَة مولى الْمطلب بن عبد الله بن حنْطَب الْقرشِي المَخْزُومِي أَبُو عُثْمَان الْمدنِي والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجِهَاد فِي آخر حَدِيث مطول فِي بَاب من غزا بصبي للْخدمَة قَوْله طلع لَهُ أَي ظهر لَهُ جبل أحد قَوْله يحبنا إِمَّا حَقِيقَة وَإِمَّا مجَازًا وَمن بَاب الْإِضْمَار أَي يحبنا أَهله قَوْله لابتيها تَثْنِيَة لابة بتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَهِي الْحرَّة وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ

(15/262)


(رَوَاهُ عبد الله بن زيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) أَي روى الحَدِيث الْمَذْكُور عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ وَأخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي كتاب الْبيُوع فِي بَاب بركَة صَاع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن مُوسَى عَن وهيب عَن عَمْرو بن يحيى عَن عباد بن تَمِيم الْأنْصَارِيّ عَن عبد الله بن يزِيد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى آخِره -
8633 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبَرَنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمِ بنِ عَبْدِ الله أنَّ ابنِ أبِي بَكْرٍ أخْبَرَ عَبْدَ الله بنَ عُمَرَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمْ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ألَمْ تَرَيْ أنَّ قَوْمَكِ بَنَوُا الكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ فَقُلْتُ يَا رسولَ الله ألاَ تَرُدُّهَا علَى قَوَاعِدَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بالكُفْرِ فَقَالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ لَئِنْ كانَتْ عائِشَةُ سَمِعَتْ هذَا مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أُرَى أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيانِ الحِجْرَ إلاَّ أنَّ البَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيم. .

مطابقته للتَّرْجَمَة على الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق، وَابْن أبي بكر هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر أَخُو الْقَاسِم قتل بِالْحرَّةِ. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْحَج فِي: بَاب فضل مَكَّة وبنيانها، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن ابْن شهَاب ... إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وقَالَ إسْمَاعِيلُ عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدِ بنِ أبِي بَكْر
إِسْمَاعِيل بن أبي أويس واسْمه عبد الله إِبْنِ أُخْت مَالك بن أنس، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن إِسْمَاعِيل روى هَذَا الحَدِيث وَبَين ابْن ابْن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي فِيهِ هُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرج البُخَارِيّ حَدِيث إِسْمَاعِيل فِي التَّفْسِير.

9633 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخْبرَنَا مالِكُ بنُ أنَسٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ عنْ أبِيهِ عنْ عَمْرِو بنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقَيِّ قَالَ أخبرَنِي أبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُمْ قَالُوا يَا رسولَ الله كيْفَ نُصَلِّي علَيْكَ فَقالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُولُوا أللَّهُمَّ صلِّ علَى مُحَمَّدٍ وأزْوَاجِهِ وذُرِّيَّتِهِ كمَا صَلَّيْتَ على آلِ إبْرَاهِيمَ وبارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وأَزْوَاجِهِ وذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ علَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. (الحَدِيث 9633 طرفه فِي: 0636) .

مطابقته للتَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله: (كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم) وَعَمْرو بن سليم، بِضَم السِّين: الزرقي، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وبالقاف، وَأَبُو حميد، بِضَم الْحَاء عبد الرَّحْمَن السَّاعِدِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَوَات عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي وَعَن أبي السَّرْح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن عمار بن طالوت.
قَوْله: (أللهم صل على مُحَمَّد) ، مَعْنَاهُ: عظمه فِي الدُّنْيَا بإعلاء ذكره وَإِظْهَار دَعوته وإبقاء شَرِيعَته، وَفِي الْآخِرَة بتشفيعه فِي أمته وتضعيف أجره ومثوبته، وَقيل: لما أمرنَا الله بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَلم نبلغ قدر الْوَاجِب فِي ذَلِك أحلنا على الله وَقُلْنَا: أللهم صلِّ على مُحَمَّد. قَوْله: (كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم) هَذَا لَيْسَ من بَاب إِلْحَاق النَّاقِص بالكامل، بل من بَاب بَيَان حَال مَا لَا يعرف بِمَا يعرف وَمَا عرف من الصَّلَاة على إِبْرَاهِيم وَآله وَأَنه لَيْسَ إلاَّ فِي قَوْله تَعَالَى: رَحْمَة الله وَبَرَكَاته عَلَيْكُم

(15/263)


أهل الْبَيْت: أَنه حميد مجيد، قيل: سِيَاق الْكَلَام يَقْتَضِي أَن يُقَال: على إِبْرَاهِيم، بِدُونِ لفظ الْآل، وَأجِيب: أَن لفظ الْآل مقحم. قَوْله: (وَبَارك على مُحَمَّد) أَي: أثبت لَهُ وأدم مَا أَعْطيته من التشريف والكرامة، وَهُوَ من برك الْبَعِير إِذا ناخ من مَوضِع وَلَزِمَه، وَتطلق الْبركَة أَيْضا على الزِّيَادَة، وَالْأَصْل الأول.

0733 - حدَّثنا قَيْسُ بنُ حَفْصٍ ومُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَا حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ زِيَادٍ حدَّثنا أبُو قُرَّةَ مُسْلِمُ بنُ سالِمٍ الهَمْدَانِيُّ قَالَ حدَّثنِي عَبْدُ الله بنُ عِيسَى سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي لَيْلَى قَالَ لَقِيَنِي كَعْبُ بنُ عُجْرَةَ فقالَ أَلاَ أهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقُلْتُ بَلَى فأهْدِهَا لي فَقَالَ سألَنا رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقُلْنَا يَا رسولَ الله كَيْفَ الصَّلاةُ علَيْكُمْ أهْلَ البَيْتِ فإنَّ الله قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ قَالَ قُولُوا أللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صلَّيْتَ على إبْرَاهِيمَ وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ أللَّهُمَّ بَارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلىَ آلِ مُحَمَّدٍ كَما بارَكْتَ علَى إبْرَاهِيمَ وعلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (على إِبْرَاهِيم) فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَقيس بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ الْبَصْرِيّ، ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْبَصْرِيّ التَّبُوذَكِي، وَعبد الله بن عِيسَى بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى، واسْمه يسَار، وَكَعب بن عجْرَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وبالراء: البلوي، حَلِيف الْأَنْصَار شهد بيعَة الرضْوَان، مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين بِالْمَدِينَةِ وَله خمس وَسَبْعُونَ سنة.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن آدم، وَفِي التَّفْسِير عَن سعيد بن يحيى، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن بنْدَار وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن مُحَمَّد بن بكار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص بن عَمْرو عَن مُسَدّد وَعَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قَاسم بن زَكَرِيَّاء وَعَن سُوَيْد بن نصر، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد وَعَن بنْدَار وَقد عزى الْحَافِظ الْمزي حَدِيث كَعْب بن عجْرَة هَذَا إِلَى الصَّلَاة وَهُوَ وهم مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي الصَّلَاة، واغتر بذلك صَاحب (التَّلْوِيح) وَتَبعهُ فِيهِ وَتبع صَاحب (التَّلْوِيح) صَاحب (التَّوْضِيح) أَيْضا وَقد مر تَفْسِير الحَدِيث فِيمَا قبله.
قَوْله: (أهل الْبَيْت) ، مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص. قَوْله: (فَإِن الله قد علمنَا) ، يَعْنِي: فِي التَّشَهُّد، وَهُوَ قَول الْمُصَلِّي: السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.

1733 - حدَّثنا عُثْمَانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عنِ المِنْهَالِ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كانَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعَوِّذُ الحَسَنَ والْحُسَيْنَ ويَقُولُ إنَّ أباكُمَا كانَ يُعَوِّذُ بِها إسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةْ ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن أَبَاكُمَا) وَهُوَ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَجَرِير بن عبد الحميد، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، والمنهال، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون وباللام، ابْن عَمْرو الْأَسدي، وَإِلَى هُنَا كلهم كوفيون.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة أَيْضا. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطِّبّ عَن مَحْمُود بن غيلَان وَعَن الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن زَكَرِيَّا بن يحيى عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير عَن الْأَعْمَش عَن الْمنْهَال عَن عبد الله بن الْحَارِث. قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعوذ) مُرْسل. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطِّبّ عَن أبي بكر بن خَلاد وَعَن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان.

(15/264)


ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعوذ) إِخْبَار ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بقوله: كَانَ، يدل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكثر التعويذ بقوله: أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة ... إِلَى آخِره. قَوْله: (يعوذ، من التعويذ) ، يُقَال: عذت بِهِ أعوذ عوذاً وعياذاً وَمعَاذًا أَي: لجأت إِلَيْهِ، فالتعوذ والاستعاذة والتعويذ كلهَا بِمَعْنى وَاحِد، يَعْنِي: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن بقوله: أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة إِلَى آخِره، وَيَقُول لَهما: إِن أَبَاكُمَا كَانَ يعوذ بهَا، أَي: بِهَذِهِ الْكَلِمَات إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق أبنيه، وَبَين هَذِه الْكَلِمَات بقوله: أعوذ بِكَلِمَات الله ... إِلَى آخِره. قَوْله: (إِن أَبَاكُمَا) أَرَادَ بِهِ إِبْرَاهِيم كَمَا ذكرنَا، وأضيف إِلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا من نَسْله. قَوْله: (بِكَلِمَات الله) إِمَّا بَاقِيَة على عمومها فالمقصود هَهُنَا: كل كلمة لله، وَإِمَّا مَخْصُوصَة بِنَحْوِ المعوذتين، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: الْقُرْآن. والتامة: صفة لَازِمَة، إِذْ كل كَلِمَاته تَامَّة، وَقيل: المُرَاد بالتامة الْكَامِلَة، وَقيل: النافعة، وَقيل: الشافية، وَقيل: الْمُبَارَكَة، وَقيل: القاضية الَّتِي تمْضِي وتستمر وَلَا يردهَا شَيْء وَلَا يدخلهَا نقص وَلَا عيب، وَقَالَ ابْن التِّين: التَّام فَضلهَا وبركاتها. قَوْله: (من كل شَيْطَان) قَالَ الدَّاودِيّ: يدْخل فِيهِ شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ. قَوْله: (وَهَامة) ، بتَشْديد الْمِيم وَاحِدَة الْهَوَام ذَوَات السمُوم، وَقيل: كل مَا لَهُ سم يقتل، وَأما مَا لَا يقتل فَيُقَال لَهَا: سوام، وَقيل: المُرَاد كل نسمَة تهم بِسوء، وَقَالَ ابْن فَارس: الْهَوَام حشرات الأَرْض. وَقَالَ الْهَرَوِيّ: الْهَوَام الْحَيَّات وكل ذِي سم يقتل، وَقد تقع الهامة على مَا يدب من الْحَيَوَان، وَمِنْه. قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكعب بن عجْرَة: أَيُؤْذِيك هوَام رَأسك، أَرَادَ الْقمل، سَمَّاهَا هوَام لِأَنَّهَا تهم فِي الرَّأْس وتدب. قَوْله: (لَامة) ، الْعين اللاَّمة هِيَ الَّتِي تصيب بِسوء، وَقيل: اللاَّمة الملمة، وَإِنَّمَا أَتَى بهَا على فاعلة للمزاوجة، وَيجوز أَن تكون على ظَاهرهَا بِمَعْنى: جَامِعَة للشر على المعيون، من لمه إِذا جمعه، وَقَالَ أَبُو عبيد: أَصْلهَا من أَلممْت إلماماً بالشَّيْء: نزلت بِهِ، وَلم يقل: ملمة، كَأَنَّهُ أَرَادَ بهَا ذَات لمَم، وَقَالَ الْخطابِيّ: اللامة ذَات اللمم، وَهِي كل دَاء مر، وَآفَة تلم بالإنسان من جُنُون وخبل وَنَحْوه، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ كل عين تصيب الْإِنْسَان إِذا حلت بِهِ.