عمدة القاري شرح صحيح البخاري

بِسم الله الرحمان الرَّحِيم

06 - (كِتابُ أحَادِيثِ الأنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ)

أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَفِي بعض النّسخ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي عَليّ بن شبويه نَحوه، وَقد الْآيَة الَّتِي تَأتي فِي التَّرْجَمَة على الْبَاب، وَفِي بعض النّسخ: كتاب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي بعض النّسخ: بَاب خلق آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من غير ذكر شَيْء غَيره. وَأما عدد الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِن أَبَا ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! كم الْأَنْبِيَاء؟ قَالَ: مائَة الف وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا. قلت: يَا رَسُول الله كم أرسل مِنْهُم؟ قَالَ: ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر، جم غفير ... الحَدِيث، رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) : وَعَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بعث الله ثَمَانِيَة آلَاف نَبِي أَرْبَعَة آلَاف إِلَى بني إِسْرَائِيل وَأَرْبَعَة آلَاف إِلَى سَائِر النَّاس رَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي وَعنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثت على أثر ثَمَانِيَة آلَاف نَبِي، مِنْهُم أَرْبَعَة آلَاف من بني إِسْرَائِيل، رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ.

1 - (بابُ خَلْقِ آدَمَ صَلَوَاتُ الله علَيْهِ وذُرِّيَّتِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان خلق آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (وَذريته) ، أَي وَفِي بَيَان خلق ذريتهوإنما سمي آدم لِأَنَّهُ خلق من أدمة الأَرْض، وَهِي لَوْنهَا، والأدمة فِي النَّاس السمرَة الشَّدِيدَة، وروى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: أَن آدم خلق من أَدِيم الأَرْض، وَهُوَ وَجههَا، وروى مُجَاهِد عَنهُ أَيْضا أَنه مُشْتَقّ من الأدمة. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق الثَّعْلَبِيّ: التُّرَاب بِلِسَان العبرية: آدام، فَسمى آدم بِهِ، وحذفت الْألف الثَّانِيَة. وَقيل: إِنَّه اسْم سرياني. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: إِنَّه اسْم عَرَبِيّ وَلَيْسَ بعجمي. وَذكر أَبُو مَنْصُور الجواليقي فِي كتاب (المعرب) : أَسمَاء الْأَنْبِيَاء كلهَا أَعْجَمِيَّة إلاَّ أَرْبَعَة وَهِي: آدم وَصَالح وَشُعَيْب وَمُحَمّد، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَشْهُور أَن كنيته: أَبُو الْبشر، وروى الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس أَن كنيته: أَبُو مُحَمَّد، وَقَالَ قَتَادَة: لَا يكنى فِي الْجنَّة إلاَّ آدم، يُقَال لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّد، إِظْهَارًا لشرف نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا ينْصَرف آدم لِأَنَّهُ على وزن: افْعَل، وَهُوَ معرفَة، وَذكره الله تَعَالَى فِي الْقُرْآن فِي سبعةٍ وَعشْرين موضعا. وَأما الذُّرِّيَّة فأصلها من ذرا الله الْخلق يَذْرَؤُهُمْ ذَرْءًا: خلقهمْ. قَالَ الْجَوْهَرِي: الذُّرِّيَّة نسل الثقلَيْن، إلاَّ أَن الْعَرَب تركت همزتها وَالْجمع: الذَّرَارِي، وَفِي (الْمغرب) : ذُرِّيَّة الرجل أَوْلَاده، وَيكون وَاحِدًا وجمعاً، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَهَب لي من لَدُنْك ذُرِّيَّة طيبَة} (آل عمرَان: 83) .
صَلْصَالٌ طِينٌ خلِطَ بِرَمْل فَصَلْصَلَ كَما يُصَلْصِلُ الفَخَارُ
أَشَارَ بقوله: صلصال، إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {خلق الْإِنْسَان من صلصال} (الرَّحْمَن: 41) . ثمَّ فسر الصلصال بقوله: طين، خلط برمل، وَحَقِيقَة الصلصال: الطين الْيَابِس المصوت. قَوْله: (فصلصل) أَي: صَوت، وَهُوَ فعل مَاض، ويصلصل مضارعه، ومصدره صلصلة وصلصال، بِالْكَسْرِ، وَعَن ابْن عَبَّاس: الصلصال هُوَ المَاء يَقع على الأَرْض فَتَنْشَق وتجف وَيصير لَهُ صَوت. قَوْله:

(15/204)


(الفخار) ، بِفَتْح الْفَاء وَتَشْديد الْخَاء، وَهُوَ ضرب من الخزف يعْمل مِنْهُ الجرار والكيزان وَغَيرهَا.
ويُقَالُ مُنْتِنٌ يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ كَما يُقالُ صَرَّ البابُ وصَرْصَرَ عِنْدَ الإغْلاَقِ مِثْلُ كَبْكَبَتُهُ يَعْنِي كَبَبْتُهُ
أَرَادَ بِهَذَا أَنه جَاءَ فِي اللُّغَة: صلصال، بِمَعْنى: منتن، وَمِنْه: صل اللَّحْم يصل صلولاً أَي: انتن، مطبوخاً كَانَ أَو نياً. وَأَشَارَ بقوله: يُرِيدُونَ بِهِ صَلَّ، إِلَى أَن أصل: صلصل، الَّذِي هُوَ الْمَاضِي: صل، فضوعف فَاء الْفِعْل فَصَارَ صلصل، كَمَا يُقَال: صر الْبَاب إِذا صَوت عِنْد الإغلاق، فضوعف فِيهِ كَذَلِك، فَقيل: صَرْصَر كَمَا يُقَال: كبكبته فِي كببته بِتَضْعِيف الْكَاف، يُقَال كبيت الْإِنَاء أَي: قلبته.
فَمَرَّتْ بِهِ اسْتَمَرَّ بِها الحَمْلُ فأتَمَّتْهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا تغشاها حملت حملا خَفِيفا فمرت بِهِ} (الْأَعْرَاف: 981) . وفسرها بقوله: اسْتمرّ بهَا الْحمل حَتَّى وَضعته. وَالضَّمِير فِي قَوْله: فمرت بِهِ، يرجع إِلَى حَوَّاء، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي تَفْسِير سُورَة الْأَعْرَاف.
أنْ لاَ تَسْجُدَ أنْ تَسْجُدَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا مَنعك ألاَّ تَسجد} (الْأَعْرَاف: 21) . ثمَّ نبه على أَن كلمة: لَا، صلَة كَذَلِك فسره بقوله: أَن تسْجد، وَقيل: فِيهِ حذف تَقْدِيره: مَا مَنعك من السُّجُود فأحوجك أَن لَا تسْجد إِذا أَمرتك.

2 - (بابُ قَوْل الله تَعَالَى: {وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إنِّي جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً} (الْبَقَرَة: 03) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ رَبك ... } إِلَى آخِره، يَعْنِي: أذكر يَا مُحَمَّد حِين قَالَ رَبك للْمَلَائكَة ... الْآيَة، أخبر الله تَعَالَى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم فِي الْمَلأ الْأَعْلَى قبل إيجادهم بقوله: {وَإِذ قَالَ رَبك} وَحكى ابْن حزم عَن أبي عُبَيْدَة أَنه زعم أَن: إِذْ، هَهُنَا زَائِدَة وَأَن تَقْدِير الْكَلَام: وَقَالَ رَبك، ورد عَلَيْهِ ابْن جرير: قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَكَذَا رده جَمِيع الْمُفَسّرين حَتَّى قَالَ الزّجاج هَذَا اجتراء من أبي عُبَيْدَة. قَوْله: (إِنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة) ، أَي: قوما يخلف بَعضهم بَعْضًا، قرنا بعد قرن وجيلاً بعد جيل، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف فِي الأَرْض} (الْأَنْعَام: 561 وفاطر: 92) . قَالَ أَكثر الْمُفَسّرين: وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا بالخليفة آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَط كَمَا قَالَه طَائِفَة إِذْ لَو كَانَ المُرَاد آدم عينا لم حسن قَول الْمَلَائِكَة: {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء} (الْبَقَرَة: 03) . وَقَوْلهمْ: {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} (الْبَقَرَة: 03) . لَيْسَ على وَجه الِاعْتِرَاض، وَلَا على وَجه الْحَسَد، وَإِنَّمَا هُوَ سُؤال استعلام واستكشاف عَن الْحِكْمَة فِي ذَلِك مَعَ أَن فيهم من يفْسد فِي الأَرْض ويسفك الدِّمَاء، فَإِن كَانَ المُرَاد عبادتك فَنحْن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك، أَي: نصلي، وَلَا يصدر منا شَيْء خلاف ذَلِك، فَقَالَ الله تَعَالَى: فِي جوابهم {إِن أعلم مَا لَا تعلمُونَ} (الْبَقَرَة: 03) . أَي: إِنِّي أعلم بِالْمَصْلَحَةِ الراجحة فِي خلق هَذَا الصِّنْف على الْمَفَاسِد الَّتِي ذكرتموها، فَإِنِّي سأجعل فيهم الْأَنْبِيَاء وَالرسل، وَيُوجد فيهم الصديقيون وَالشُّهَدَاء والصالحون والعبَّاد والزهاد والأولياء والأبرار المقربون وَالْعُلَمَاء الْعَامِلُونَ والخاشعون والمتبعون رسله، وَفِي هَذَا الْمقَام مقَال كثير لَيْسَ هَذَا الْكتاب مَوْضِعه، وَإِنَّمَا ذكرنَا نبذة مِنْهُ لأجل التَّرْجَمَة.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ {لمَّا عَلَيْهَا حَافِظ} (الطارق: 4) . إلاَّ عليْها حافِظٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن كل نفس لما عَلَيْهَا حَافظ} (الطارق: 4) . ثمَّ فسر بِأَن: لما، هُنَا بمعني: إلاَّ الَّتِي هِيَ حرف الِاسْتِثْنَاء، وَاخْتلف الْقُرَّاء فِي تَشْدِيد: لما، وتخفيفه، فَقَرَأَ ابْن عَامر وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِالتَّشْدِيدِ على أَن تكون: إِن، نَافِيَة، وَتَكون: لما بِمَعْنى إلاَّ، وَهِي لُغَة هُذَيْل، يَقُولُونَ نشدتك الله لما قُمْت، يعنون: إِلَّا قُمْت، وَالْمعْنَى: مَا نفس إلاَّ عَلَيْهَا حَافظ من ربَّها، وَالْبَاقُونَ قرأوا بِالتَّخْفِيفِ جعلُوا: مَا، صلَة، وَإِن، مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة أَي: إِن كل نفس لعليها حَافظ من رَبهَا يحفظ عَملهَا ويحصي عَلَيْهَا مَا تكتسب من خير

(15/205)


أَو شَرّ. وَعَن ابْن عَبَّاس: هم الْحفظَة من الْمَلَائِكَة، وَقَالَ قَتَادَة: هم حفظَة يحفظون عَمَلك ورزقك وأجلك، وَقيل: هُوَ الله رَقِيب عَلَيْهَا.
فِي كَبَدٍ فِي شِدَّةِ خَلْقٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي كبد} (الْبَلَد: 04) . ثمَّ فسر الكبد بقوله: فِي شدَّة خلق، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة فِي (تَفْسِيره) : وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) .
ورِياشاً المالُ وَقَالَ غَيْرُهُ الرِّيَاشُ والرِّيشُ واحِدٌ وهُوَ مَا ظَهَرَ مِنَ اللِّبَاسِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قد أنزلنَا عَلَيْكُم لباساً يواري سوآتكم ورياشاً} (الْأَعْرَاف: 63) . وَفسّر الرياش: بِالْمَالِ، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَرَاه ابْن أبي حَاتِم عَنهُ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) أَي: غير ابْن عَبَّاس ... إِلَى آخِره، قَول أبي عُبَيْدَة، وَقيل: الريش الْجمال والهيئة، وَقيل: المعاش.
مَا تُمْنُونَ النُّطُفَةُ فِي أرْحَامِ النِساءِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتُم مَا تمنون} (الْوَاقِعَة: 85) . ثمَّ فسره بقوله: النُّطْفَة فِي أَرْحَام النِّسَاء، وَهَذَا قَول الْفراء، وَيُقَال: مَنَى الرجل وأمْنَى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {إنَّهُ علَى رَجْعِهِ لَقادِرٌ} (الطارق: 8) . النُّطْفَةُ فِي الإحْلِيلِ
يَعْنِي: قَادر على رَجَعَ النُّطْفَة إِلَى الإحليل، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن جرير من حَدِيث عبد الله بن أبي نجيح عَن عبد الله بن أبي بكر عَن مُجَاهِد، وَفِي لفظ: المَاء، بدل: النُّطْفَة، وَفِي رِوَايَة: إِن شِئْت رَددته من الْكبر إِلَى الشَّبَاب وَمن الصِّبَا إِلَى القطيعة. وَقَالَ ابْن زيد: إِنَّه على حبس ذَلِك المَاء لقادر، وَعَن قَتَادَة مَعْنَاهُ: أَن الله قَادر على بَعثه وإعادته.
كلُّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَهْوَ شَفْعٌ السَّماءُ شَفْعٌ والوِتْرُ الله عَزَّ وَجَلَّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن كل شيى خلقنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات: 94) . أَي: كل شَيْء خلقه الله تَعَالَى فَهُوَ شفع. قَوْله: (السَّمَاء مُشَفع) ، مَعْنَاهُ أَنه شفع للْأَرْض، كَمَا أَن الْحَار شفع للبارد مثلا، وَبِهَذَا ينْدَفع وهم من يتَوَهَّم أَن السَّمَوَات سبع فَكيف يَقُول شفع؟ وَهَذَا الَّذِي قَالَه هُوَ قَول مُجَاهِد الَّذِي وَصله الطَّبَرِيّ، وَلَفظه: كل شَيْء خلقه الله شفع: السَّمَاء وَالْأَرْض وَالْبَحْر وَالْبر وَالْجِنّ وَالْإِنْس وَالشَّمْس وَالْقَمَر، وَنَحْو هَذَا شفع، وَالْوتر الله وَحده.
فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ فِي أحْسَنِ خَلْقٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لقد خلقنَا الْإِنْسَان فِي أحسن تَقْوِيم} (التِّين: 4) . ثمَّ فسره بقوله: فِي أحسن خلق، وَقيل: أحسن تَعْدِيل بشكله وَصورته وتسوية الْأَعْضَاء، وَقيل: فِي أحسن تَقْوِيم فِي أعدل قامة وَأحسن صُورَة، وَذَلِكَ أَنه خلق كل شَيْء مُنَكسًا على وَجهه إلاَّ الْإِنْسَان. وَقَالَ أَبُو بكر بن الطَّاهِر: مزيناً بِالْعقلِ مؤدباً بِالْأَمر مهذباً بالتمييز مديد الْقَامَة يتَنَاوَل مأكوله بِيَمِينِهِ.
أسْفَلَ سافِلِينَ إلاَّ مَنْ آمَنَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ رددناه أَسْفَل سافلين إِلَّا الَّذين آمنُوا} (التِّين: 5 6) . مَعْنَاهُ: أَن الْإِنْسَان يكون عَاقِبَة أمره، إِذا لم يشْكر نعْمَة تِلْكَ الْخلقَة الْحَسَنَة القويمة السوية، أَن رددناه أَسْفَل من سفل خلقا وتركيباً، يَعْنِي: أقبح من قبح صُورَة وأشوهه خلقَة، وهم أَصْحَاب النَّار، فعلى هَذَا التَّفْسِير الِاسْتِثْنَاء وَهُوَ قَوْله: {إلاَّ الَّذين آمنُوا} (التِّين: 5 6) . مُتَّصِل ظَاهر الِاتِّصَال، وَقيل: السافلون الضعفى والهرمَى والزمنَى، لِأَن ذَاك التَّقْوِيم يَزُول عَنْهُم ويتبدل خلقهمْ، فعلى هَذَا الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع، فَالْمَعْنى: لَكِن الَّذين كَانُوا صالحين من الهرمى {فَلهم أجر} (التِّين: 5 6) . دَائِم {غير ممنون} (التِّين: 5 6) . أَي: غير مَقْطُوع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة

(15/206)


والهرم، وعَلى مقاساة المشاق وَالْقِيَام بِالْعبَادَة، فَيكْتب لَهُم فِي حَال هرمهم وخرفهم مثل الَّذين كَانُوا يعْملُونَ فِي حَال شبابهم وصحتهم.
خُسْرٍ ضَلاَلٌ ثُمَّ اسْتَثْناى إلاَّ مَنْ آمَنَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} (الْعَصْر: 2) . ثمَّ فسر الخسر بالضلال، ثمَّ اسْتثْنى الله تَعَالَى من أهل الخسر {الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} (الْعَصْر: 3) . لاَزِبٍ لازِمٌ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا خلقناهم من طين لازب} (الصافات: 11) . أَي: لَازم، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
نُنْشِئَكُمْ فِي أيِّ خَلْقٍ نَشَاءُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وننشئكم فِيمَا لَا تعلمُونَ} (الْوَاقِعَة: 16) . ثمَّ فسر ذَلِك بقوله: فِي أَي خلق نشَاء.
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ نُعَظِّمُكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك} (الْبَقَرَة: 03) . ثمَّ فسر ذَلِك بقوله: نعظمك، وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد.
وَقَالَ أبُو الْعالِيَةِ {فتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (الْبَقَرَة: 73) . فَهْوَ قَوْلُهُ {رَبَّنا ظلَمْنا أنْفُسَنا} (الْأَعْرَاف: 32) .
أَبُو الْعَالِيَة اسْمه رفيع بن مهْرَان الريَاحي، أدْرك الْجَاهِلِيَّة وَأسلم بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِسنتَيْنِ وَدخل على أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصلى خلف عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقد فسر أَبُو الْعَالِيَة الْكَلِمَات فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات} (الْبَقَرَة: 73) . بقوله تَعَالَى: {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (الْأَعْرَاف: 32) . وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالربيع بن أنس وَقَتَادَة وَمُحَمّد بن كَعْب الْقرظِيّ وخَالِد بن معدان وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق السبيعِي: عَن رجل من بني تَمِيم، قَالَ: أتيت ابْن عَبَّاس فَسَأَلته: مَا الْكَلِمَات الَّتِي تلقى آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من ربه؟ قَالَ: علم آدم شَأْن الْحَج.
فأزَلَّهُمَا فاسْتَزَلَّهُمَا
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا فأخرجهما مِمَّا كَانَا فِيهِ} (الْبَقَرَة: 83) . ثمَّ فسره بقوله: فاستزلهما، أَي: دعاهما إِلَى الزلة. وَفِي (تَفْسِير ابْن كثير) : يَصح أَن يكون الضَّمِير عَائِدًا إِلَى الْجنَّة، فَيكون الْمَعْنى كَمَا قَرَأَ حَمْزَة وَعَاصِم فأزالهما، أَي: نحَّاهما وَيصِح أَن يكون عَائِدًا على أقرب الْمَذْكُورين وَهُوَ الشَّجَرَة، فَيكون الْمَعْنى كَمَا قَالَ الْحسن وَقَتَادَة، فأزلهما، أَي: من قبل الزلل، فَيكون تَقْدِير الْكَلَام: فأزلهما الشَّيْطَان عَنْهَا أَي بِسَبَبِهَا.
ويَتَسَنَّهُ يَتَغَيَّرْ آسِنٌ مُتَغَيِّرٌ والْمَسْنُونُ المُتَغَيِّرُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَانْظُر إِلَى طَعَامك وشرابك لم يتسنه} (الْبَقَرَة: 952) . أَي: لم يتَغَيَّر، وَأَشَارَ بقوله: آسن إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فِيهَا أَنهَار من مَاء غير آسن} (مُحَمَّد: 51) . أَي: غير متغير، وَأَشَارَ بقوله: والمسنون، إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {من حمأ مسنون} (الْحجر: 62، و 82 و 33) . أَي: من طين متغير، وكل هَذِه من مَادَّة وَاحِدَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه تعلقه بِقصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام؟ قلت: ذكر بتبعية الْمسنون لِأَنَّهُ قد يُقَال باشتقاقه مِنْهُ. انْتهى. قلت: الدَّاعِي إِلَى هَذَا السُّؤَال وَالْجَوَاب هُوَ أَن جَمِيع مَا ذكره من الْأَلْفَاظ من أول الْبَاب إِلَى الحَدِيث الَّذِي يَأْتِي مُتَعَلق بِآدَم وأحواله، غير قَوْله: يتسنه، فَإِنَّهُ مُتَعَلق بقضية عُزَيْر، عَلَيْهِ السَّلَام، وَغير قَوْله: آسن، فَإِنَّهُ مُتَعَلق بِالْمَاءِ، فَلذَلِك سَأَلَ وَأجَاب، وَمَعَ هَذَا قَالَ: وأمثال هَذِه تَكْثِير لحجم الْكتاب لَا تَكْثِير

(15/207)


للفوائد. وَالله تَعَالَى أعلم بمقصوده. قلت: لَا يَخْلُو عَن زِيَادَة فَائِدَة، وَلَكِن كِتَابه مَوْضُوع لبَيَان الْأَحَادِيث لَا لبَيَان اللُّغَات لألفاظ الْقُرْآن.
حَمإٍ جَمْعُ حَمأةٍ وهْوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {من حمإٍ مسنون} (الْحجر: 62، 82، 33) . وَقَالَ: الحمأ جمع حمأة، ثمَّ فسره بقوله: وَهُوَ الطين الْمُتَغَيّر، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة.
يَخْصِفَانِ أخَذَا الخِصَافَ مِنْ ورَقِ الجَنَّةِ يُؤلَّفَانِ الوَرَقَ ويَخْصِفَانِ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فبدت لَهما سوآتهما وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة} (طه: 121) . ثمَّ فسر: يخصفان، بقوله: أخذا، أَي آدم وحواء، عَلَيْهِمَا السَّلَام، الْخصاف، وَهُوَ بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الصَّاد الْمُهْملَة: جمع خصفة، بِالتَّحْرِيكِ وَهِي الْحلَّة الَّتِي تعْمل من الخوص للتمر. وَيجمع على: خصف، أَيْضا بِفتْحَتَيْنِ. قَوْله: (يؤلفان الْوَرق) أَي: ورق الشّجر، ويخصفان يَعْنِي: يلزقان بعضه بِبَعْض ليسترا بِهِ عوراتهما، وَكَذَلِكَ الإختصاف، وَمِنْه قَرَأَ الْحسن: يخصفان، بِالتَّشْدِيدِ إلاَّ أَنه أدغم التَّاء فِي الصَّاد. وَعَن مُجَاهِد فِي (تَفْسِير) قَوْله: (يخصفان) ، أَي: يرقعان كَهَيئَةِ الثَّوْب، وَتقول الْعَرَب: خصفت النَّعْل أَي: خرزتها.
وسَوْآتُهما كِنَايَةٌ عنْ فَرْجِهِمَا
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {بَدَت لَهما سوآتهما} (طه: 121) . ثمَّ فسر السوأة بِأَنَّهَا كِنَايَة عَن الْفرج، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وفرجهما بِالْإِفْرَادِ، ويروى: وفرجيهما، بالتثنية وَالضَّمِير يرجع إِلَى آدم وحواء.
ومتاعٌ إلَى حِينٍ هاهُنَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ والحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ ساعَةٍ إِلَيّ مَا لَا يُحْصَى عَددُهُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلكم فِي الأَرْض مُسْتَقر ومتاع إِلَى حِين} (الْبَقَرَة: 63، والأعراف: 42) . ثمَّ فسر الْحِين بِأَنَّهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس، وَأَشَارَ بقوله: (والحين عِنْد الْعَرَب) إِلَى أَن لفظ: الْحِين، يسْتَعْمل لمعانٍ كَثِيرَة، وَالْحَاصِل أَن الْحِين فِي الأَصْل بِمَعْنى الْوَقْت.
قَبِيلُهُ جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله} (الْأَعْرَاف: 72) . ثمَّ فسر قبيله، أَي: قبيل الشَّيْطَان بِأَنَّهُ جيله، بِكَسْر الْجِيم، أَي: جماعته الَّذين هُوَ أَي الشَّيْطَان مِنْهُم، وروى الطَّبَرِيّ عَن مُجَاهِد فِي قَوْله: وقبيله، قَالَ: الْجِنّ وَالشَّيَاطِين.

6233 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خَلَقَ الله آدَمَ وطُولَهُ سِتُّونَ ذِرَاعَاً ثُمَّ قَالَ إذْهَبْ فَسَلِّمْ علَى أُولَئِكَ مِنَ المَلائِكَةِ فاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ تَحِيَّتُكَ وتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا السَّلاَمُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ الله فزَادُوهُ ورَحْمَةُ الله فَكُل مَنْ يَدْخلُ الجَنَّةَ على صُورَةِ آدَمَ فلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ. (الحَدِيث 6233 طرفه فِي: 7226) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لَا سِيمَا إِذا كَانَ المُرَاد من الْخَلِيفَة فِي الْآيَة الْمَذْكُورَة هُوَ آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
وَعبد الله بن مُحَمَّد هُوَ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَعبد الرَّزَّاق بن همام الصَّنْعَانِيّ الْيَمَانِيّ، وَهَمَّام بن مُنَبّه الْأَنْبَارِي الصَّنْعَانِيّ أَخُو وهب بن مُنَبّه.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن يحيى بن جَعْفَر، وَأخرجه مُسلم فِي صفة الْجنَّة عَن مُحَمَّد بن رَافع.
قَوْله: (وَطوله) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (سِتُّونَ ذِرَاعا) ، قَالَ ابْن التِّين: المُرَاد ذراعنا، لِأَن ذِرَاع كل أحد مثل ربعه، وَلَو كَانَت بذراعه لكَانَتْ يَده قَصِيرَة فِي جنب طول جِسْمه كالإصبع وَالظفر، وَقيل: يحْتَمل

(15/208)


أَن يكون بِذِرَاع نَفسه، وَالْأول أشهر. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِن الله تَعَالَى يُعِيد أهل الْجنَّة إِلَى خلقه أصلهم الَّذِي هُوَ آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وعَلى صفته وَطوله الَّذِي خلقَة الله عَلَيْهِ فِي الْجنَّة، وَكَانَ طوله فِيهَا سِتِّينَ ذِرَاعا فِي الِارْتفَاع بذارع نَفسه، قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا الذِّرَاع مُقَدرا بأذرعتنا المتعارفة عندنَا، وَقيل: إِنَّه كَانَ يُقَارب أَعْلَاهُ السَّمَاء، وَأَن الْمَلَائِكَة كَانَت تتأذى بنفَسِه، فخفضه الله إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعا، وَظَاهر الحَدِيث خِلَافه. وروى ابْن جرير من حَدِيث عَطاء بن أبي رَبَاح، قَالَ: لما خلق الله آدم فِي الْجنَّة كَانَ رِجْلَاهُ فِي الأَرْض وَرَأسه فِي السَّمَاء، يسمع كَلَام أهل السَّمَاء ودعاءهم ويأنس إِلَيْهِم، فهابته الْمَلَائِكَة حَتَّى شكت إِلَى الله ذَلِك فِي دعائها، فخفضه الله إِلَى الأَرْض، وَقَالَهُ قَتَادَة وَأَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس وَأَبُو يحيى القَتَّات عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة فِي (كتاب الْعَرْش) من حَدِيث طَلْحَة بن عَمْرو الْحَضْرَمِيّ عَن ابْن عَبَّاس. وروى أَحْمد من حَدِيث سعيد ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (كَانَ طول آدم سِتِّينَ ذِرَاعا فِي سَبْعَة أَذْرع عرضا) ، وروى ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَاد حسن عَن أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن الله تَعَالَى خلق آدم رجلا طوَالًا كثير شعر الرَّأْس كَأَنَّهُ نَخْلَة سحوق. قَوْله: (إذْهَبْ فسلِّم) هُوَ أول مَشْرُوعِيَّة السَّلَام، وَهُوَ دَال على أَن تأكده وإفشاءه سَبَب للمحبة الدِّينِيَّة وَدخُول الْجنَّة الْعلية، وَقد قيل بِوُجُوبِهِ. حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ، وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَن الْوَارِد على جُلُوس يسلم عَلَيْهِم، وَالْأَفْضَل تَعْرِيفه، فَإِن نكره جَازَ وَفِيه الزِّيَادَة فِي الرَّد على الِابْتِدَاء، وَلَا يشْتَرط فِي الرَّد والإتيان بِالْوَاو. قَوْله: (مَا يحيونك) ، من التَّحِيَّة، ويروى: مَا يجيبونك، من الْإِجَابَة. قَوْله: (تحيتك) بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَذِه تحيتك وتحية ذريتك من بعْدك. قَوْله: (فَكل من يدْخل الْجنَّة على صُورَة آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: كل من يرزقه الله تَعَالَى دُخُول الْجنَّة يدخلهَا وَهُوَ على صُورَة آدم فِي الْحسن وَالْجمال، وَلَا يدْخل على صورته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا من السوَاد إِن كَانَ من أهل الدُّنْيَا السود، وَلَا يدْخل أَيْضا على صورته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا يُوصف من العاهات والنقائص. قَوْله: (فَلم يزل الْخلق ينقص) ، أَي: من طوله، أَرَادَ أَن كل قرن يكون وجوده أقصر من الْقرن الَّذِي قبله، فَانْتهى تناقص الطول إِلَى هَذِه الْأمة وَاسْتقر الْأَمر على ذَلِك، وَهُوَ معنى قَوْله: (حَتَّى الْآن) .

7233 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ عُمَارَةَ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ علَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ علَى أشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّماءِ إِضَاعَة لاَ يُبُولُونَ ولاَ يَتَغَوَّطُونَ ولاَ يَتْفِلونَ ولاَ يَمْتَخِطُونَ أمْشَاطُهُمْ الذَّهَبُ ورَشْحُهُمْ المِسْكُ ومَجَامِرُهُمْ الألُوَّةُ الأنْجُوجُ عُودُ الطِّيب وأزْوَاجُهُمْ الحُورُ العِينُ علَى خَلْقِ رَجلٍ واحِدٍ عَلى صُورَةِ أبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذَرَاعَاً فِي السَّمَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (على صُورَة أَبِيهِم) . وَجَرِير، بِفَتْح الْجِيم: هُوَ ابْن عبد الحميد، وَعمارَة، بِضَم الْعين: هُوَ ابْن الْقَعْقَاع، وَأَبُو زرْعَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء: واسْمه هرم، وَقيل: عبيد الله، وَقيل: عبد الرَّحْمَن البَجلِيّ الْكُوفِي.
وَمضى الحَدِيث فِي: بَاب مَا جَاءَ فِي صفة أهل الْجنَّة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْآخر: عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن فليح عَن أَبِيه عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي عمْرَة عَن أبي عمْرَة عَن أبي هُرَيْرَة. وَفِي حَدِيث الْبَاب: وَلَا يَتْفلُونَ، مَوضِع: وَلَا يبصقون، فِي الحَدِيث الْمَاضِي، وَفِيه الزِّيَادَة، وَهِي قَوْله: (الأنجوج عود الطّيب) الأنجوج، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون النُّون وَضم الْجِيم وَفِي آخِره جِيم آخر، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: وَيُقَال: الألنجوج، بِفَتْح الْهمزَة وَفتح اللَّام وَسُكُون النُّون، وَالْبَاقِي مثله. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِيه لُغَتَانِ أخريان: النجج ويلنجج، فَلفظ الأنجوج تَفْسِير الألوة. وَقَوله: (عود الطّيب) تَفْسِير الأنجوج، فَيكون هُوَ تَفْسِير التَّفْسِير، وَقد ذكرنَا: أَن الألوة، بِفَتْح الْهمزَة وَضمّهَا وَضم اللاَّم وَتَشْديد الْوَاو الْمَفْتُوحَة. قَوْله: (على خلق رجل وَاحِد) ، بِضَم الْخَاء وَفتحهَا، وَهُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هم على خلق رجل وَاحِد. قَوْله: (على صُورَة أَبِيهِم آدم) قَالَ فِي الأول: على صُورَة الْقَمَر، والتوفيق بَينهمَا بِأَن يُقَال: الْكل على صُورَة آدم فِي الطول والخلقة وَبَعْضهمْ فِي الْحسن كصورة الْقَمَر نورا وإشراقاً. قَوْله: (فِي السَّمَاء) أَي: فِي الْعُلُوّ والارتفاع، وَيُسمى كل مَا علاك سَمَاء.

(15/209)


8233 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيى عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أبي سلَمَةَ عنْ أُمِّ سلَمَةَ أنَّ أمَّ سُلَيْمٍ قالَتْ يَا رسُولَ الله إنَّ الله لاَ يَسْتَحُيِي مِنَ الحَقِّ فَهَلْ علَى المَرْأةِ الغسْلُ إذَا احْتَلَمَتْ قَالَ نَعَمْ إذَا رَأتْ المَاءَ فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فقالَتْ تَحْتَلِمُ الْمَرْأةُ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبِما يُشْبِهُ الوَلَدُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فبمَا يشبه الْوَلَد) . وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَاسم أمه سَلمَة: هِنْد بنت أبي أُميَّة وَفِي اسْم أم سليم أَقْوَال قد ذَكرنَاهَا، وَهِي: أَن أم أنس بن مَالك. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْغسْل فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة، وَهُنَاكَ: نعم إِذا رَأَتْ المَاء، وَقَوله: (فَقَالَت تحتلم) إِلَى آخِره من الزِّيَادَة هُنَا. قَوْله: (فبمَا يشبه الْوَلَد) ، ويروى: فَبِمَ، بِدُونِ الْألف أَي: لَوْلَا أَن لَهَا نُطْفَة وَمَاء فَبِأَي سَبَب يشبهها وَلَدهَا.

9233 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلامٍ أخْبرنا الفَزَاريُّ عنْ حُمَيْدٍ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ بلَغَ عبْدَ الله بنَ سَلامٍ مَقْدَمُ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَدِينَةَ فأتاهُ فَقَالَ إنِّي سائِلُكَ عنْ ثَلاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ نَبِيٌّ قَالَ مَا أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ ومَا أوَّلُ طَعامٍ يَأكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ ومنْ أيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الوَلَدُ إلَى أبِيهِ ومِنْ أيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أخْوَالِهِ فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفاً جِبْرِيلُ قَالَ فَقالَ عَبْدُ الله ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلائِكَةِ فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمَّا أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلاى المَغْرِبِ وأمَّا أوَّلُ طَعامٍ يأكُلُهُ أهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ وأمَّا الشَّبَهُ فِي الوَلَدِ فإنَّ الرَّجُلَ إذَا غَشِيَ الْمَرْأةَ فسَبَقَهَا مَاؤهُ كانَ الشَّبَهُ لَهُ وإذَا سَبَقَ ماؤهَا كانَ الشَّبَهُ لَهَا قَالَ أشهَدُ أنَّكَ رسُولُ الله ثُمَّ قَالَ يَا رسولَ الله إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ إنْ عَلِمُوا بإسْلاَمِي قَبْلَ أنْ تَسْألَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ فَجَاءَتِ اليَهُودُ ودَخَلَ عَبْدُ الله البَيْتَ فَقال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ الله بنُ سَلامٍ قالُوا أعْلَمُنا وابنُ أعْلَمُنَا وأخْيَرنَا وابنُ أخْيَرنَا فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفَرَأيْتُمْ أنْ أسْلَمَ عَبْدُ الله قالُوا أعاذَهُ الله مِنْ ذالِكَ فَخَرَجَ عَبْدُ الله إلَيْهِمْ فَقَالَ أشْهَدُ أنْ لَا إلاهَ إلاَّ الله وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رسُولُ الله فقالُوا شَرُّنَا وابنُ شرِّنَا ووَقَعُوا فِيهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَأما الشّبَه) إِلَى قَوْله: (كَانَ الشّبَه لَهَا) لِأَنَّهُ فِي الذُّرِّيَّة والترجمة فِي خلق آدم وَذريته. وَسَلام بتَخْفِيف اللَّام، والفزاري، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الزَّاي وبالراء: وَهُوَ مَرْوَان بن مُعَاوِيَة.
قَوْله: (بلغ عبد الله مقدم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة) ، عبد الله مَنْصُوب بقوله: مقدم، وَهُوَ مَرْفُوع على الفاعلية، والمقدم مصدر ميمي بِمَعْنى: الْقدوم، و: الْمَدِينَة نصب على الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (عَن ثَلَاث) ، أَي: عَن ثَلَاث مسَائِل. قَوْله: (أَشْرَاط السَّاعَة) ، أَي: علاماتها، وَهُوَ جمع: شَرط، بِفَتْح الرَّاء وَبِه سميت: شَرط السُّلْطَان، لأَنهم جعلُوا لأَنْفُسِهِمْ عَلَامَات يعلمُونَ بهَا، هَكَذَا قَالَ أَبُو عبيد، وَحكى الْخطابِيّ عَن بعض أهل اللُّغَة: أَنه أنكر هَذَا التَّفْسِير، وَقَالَ: (أَشْرَاط السَّاعَة) مَا يُنكره النَّاس من صغَار أمورها قبل أَن تقوم السَّاعَة، وَشرط السُّلْطَان نخبة أَصْحَابه الَّذين يقدمهم على غَيرهم من جنده، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هم الشَّرْط، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِم شرطي والشرطة وَالنِّسْبَة إِلَيْهِم شرطي وَفِي (دَلَائِل النُّبُوَّة) للبيهقي. سَأَلَهُ عَن السوَاد الَّذِي فِي الْقَمَر بدل (أَشْرَاط السَّاعَة) وَفِي آخِره: لما قَالَت الْيَهُود مَا قَالُوا فِي ابْن سَلام ثَانِيًا بعد الأولى، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أجزأنا الشَّهَادَة الأولى، وَأما هَذِه فَلَا. قَوْله: (ينْزع الْوَلَد إِلَى أَبِيه) ، أَي: يشبه أَبَاهُ وَيذْهب إِلَيْهِ. قَوْله: (فَزِيَادَة كبد حوت)

(15/210)


زِيَادَة الكبد هِيَ الْقطعَة المنفردة الْمُتَعَلّقَة بالكبد، وَهِي أطيبها، وَهِي فِي غَايَة اللَّذَّة. وَقيل: هِيَ أهنؤ طَعَام وأمرؤه. قَوْله: (إِذا غشي الْمَرْأَة) ، أَي: إِذا جَامعهَا. قَوْله: (بهت) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَضم الْهَاء وسكونها: جمع بهوت، وَهُوَ كثير الْبُهْتَان، وَيُقَال: بهت، أَي: كذابون وممارون لَا يرجعُونَ إِلَى الْحق. قَوْله: (أخيرنا) ، أفعل التَّفْضِيل من الْخَيْر، وَهَذَا دَلِيل من قَالَ: إِن أفعل التَّفْضِيل بِلَفْظ الْأَخير مُسْتَعْمل، وَيُقَال: يرْوى: أخبرنَا، بِالْبَاء الْمُوَحدَة من الْخِبْرَة.

0333 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ مُحَمَّدٍ أخبرَنا عَبْدُ الله أخْبرَنا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَهُ يَعْنِي لَوْلاَ بَنُو إسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنِزِ اللَّحْمُ ولَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا. (الحَدِيث 0333 طرفه فِي: 9933) .

مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تكون من حَيْثُ إِن خلق حَوَّاء مُضَاف إِلَى خلق آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَبشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن مُحَمَّد أَبُو مُحَمَّد الْمروزِي، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك الْمروزِي.
قَوْله: (نَحوه) ، قَالَ بَعضهم: لم يسْبق للمتن الْمَذْكُور طَرِيق يعود عَلَيْهَا هَذَا الضَّمِير، فَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن اللَّفْظ الَّذِي حَدثهُ بِهِ شَيْخه فَهُوَ بِمَعْنى اللَّفْظ الَّذِي سَاقه. قلت: هَذَا مَا فِيهِ كِفَايَة للمقصود، وَلَا لَهُ التئام من جِهَة التَّرْكِيب، لِأَن الَّذِي يَذُوق دقائق التراكيب مَا يرضى بِهَذَا الَّذِي ذكره، بل الظَّاهِر أَن هَهُنَا وَقع سقط جملَة، لِأَن لَفْظَة: نَحوه، أَو: مثله، لَا يذكر إلاَّ إِذا مضى حَدِيث بِسَنَد وَمتْن، ثمَّ إِذا أُرِيد إِعَادَته بِذكر سَنَد آخر يذكر سَنَده وَيذكر عقيبة لفظ: نَحوه، أَو: مثله. أَي: نَحْو الْمَذْكُور، وَلَا يُعَاد ذكر الْمَتْن اكْتِفَاء بِذكر السَّنَد فَقَط، لِأَن لفظ: نَحوه، ينبىء عَن ذَلِك، وَالَّذِي يظْهر لي بالحدس أَن البُخَارِيّ روى قبل هَذَا: عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَوْلَا بَنو إِسْرَائِيل لم يخْبث الطَّعَام وَلم يخنز اللَّحْم، وَلَوْلَا حَوَّاء لم تخن أُنْثَى زَوجهَا الدَّهْر) . ثمَّ رَوَاهُ عَن بشر بن مُحَمَّد عَن عبد الله عَن معمر عَن همام عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ: نَحوه، أَي: نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور، ثمَّ فسر ذَلِك بقوله: (يَعْنِي: لَوْلَا بَنو إِسْرَائِيل) إِلَى آخِره وَإِنَّمَا ذكر لفظ: يَعْنِي، إِشَارَة إِلَى أَن الْمَتْن الَّذِي ذكره عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر يغاير الْمَتْن الَّذِي رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر بِبَعْض زِيَادَة، وَهُوَ قَوْله: لم يخْبث الطَّعَام، وَفِي آخِره لفظ: الدَّهْر، وَالْبُخَارِيّ روى عَن مُحَمَّد بن رَافع بن أبي زيد النَّيْسَابُورِي، وروى عَنهُ مُسلم أَيْضا. والْحَدِيث الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ بِعَيْنِه رِوَايَة مُسلم، وَلَا مَانع أَن يتَّفقَا على الرِّوَايَة عَن مُحَمَّد بن رَافع هَذَا الحَدِيث، فَهَذَا الَّذِي ظهر لنا وَالله أعلم. قَوْله: (لم يخنز اللَّحْم) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَفتح النُّون وبالزاي، أَي: لم ينتن، وَيُقَال أَيْضا: خنز، بِكَسْر النُّون يخنز بِفَتْحِهَا من بَاب علم يعلم، وَالْأول من بَاب ضرب يضْرب، وَيُقَال أَيْضا: خزن يخزن على الْقلب مثل: جبذ وجذب. وَقَالَ ابْن سَيّده: خنز اللَّحْم وَالتَّمْر والجوز خنوزاً فَهُوَ خنز إِذا فسد، وَعَن قَتَادَة: كَانَ الْمَنّ والسلوى يسْقط على بني إِسْرَائِيل من طُلُوع الْفجْر إِلَى طُلُوع الشَّمْس كسقوط الثَّلج، فَيُؤْخَذ مِنْهُ بِقدر مَا يُغني ذَلِك الْيَوْم إلاَّ يَوْم الْجُمُعَة فَإِنَّهُم يَأْخُذُونَ لَهُ وللسبت، فَإِن تعدوا إِلَى أَكثر من ذَلِك فسد مَا ادخروا، فَكَانَ ادخارهم فَسَادًا للأطعمة عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم. وَقَالَ بَعضهم: لما نزلت الْمَائِدَة عَلَيْهِم أمروا أَن لَا يدخروا فادخروا، وَقيل: يحْتَمل أَن يكون من اعتدائهم فِي السبت، وَقيل: كَانَ سَببه أَنهم أمروا بترك ادخار السلوى فادخروه حَتَّى أنتن، فاستمر نَتن اللحوم من ذَلِك الْوَقْت، أَو لما صَار المَاء فِي أَفْوَاههم دَمًا وانتنوا بذلك سرى ذَلِك النتن إِلَى اللَّحْم وَغَيره عُقُوبَة لَهُم. وَفِي (الْحِلْية) لأبي نعيم: عَن وهب بن مُنَبّه، قَالَ: وجدت فِي بعض الْكتب عَن الله تَعَالَى: لَوْلَا أَنِّي كتبت الفناء على الْمَيِّت لحبسه أَهله فِي بُيُوتهم، وَلَوْلَا أَنِّي كتبت الْفساد على الطَّعَام لخزنته الْأَغْنِيَاء عَن الْفُقَرَاء. قَوْله: (وَلَوْلَا حَوَّاء، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، حَوَّاء بِالْمدِّ، سميت بذلك لِأَنَّهَا أم كل حَيّ، أَو لِأَنَّهَا خلقت من ضلع آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم القصيري الْيُسْرَى، وَهُوَ حَيّ قبل دُخُوله الْجنَّة. وَقيل: فِيهَا. وَمعنى: خلقت، أخرجت كَمَا تخرج النَّخْلَة من النواة، وَمعنى: {لَوْلَا حَوَّاء لم تخن أُنْثَى زَوجهَا} أَنَّهَا دعت آدم إِلَى الْأكل من تِلْكَ الشَّجَرَة، وَذكر الْمَاوَرْدِيّ أَنَّهَا: الْبر، وَقيل: التِّين، وَقيل: الكافور، وَقيل: الْكَرم، وَقيل: شَجَرَة الْخلد الَّتِي كَانَت الْمَلَائِكَة تَأْكُل مِنْهَا.

(15/211)


1333 - حدَّثنا أبُو كُرَيْبٍ ومُوساى بنُ حِزَامٍ قالاَ حدَّثنا حُسَيْنُ بنُ عَلِيٍّ عنْ زَائِدَةَ عنْ مَيْسَرَة الأشْجَعِيِّ عنْ أبِي حازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَوْصُوا بالنِّسَاءِ فإنَّ الْمَرْأةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وإنَّ أعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ أعْلاَهُ فإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَجَ فاسْتَوْصُوا بالنِّسَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن يُقَال: إِنَّه لما كَانَ مُشْتَمِلًا على بعض أَحْوَال النِّسَاء، وَهِي من ذُرِّيَّة آدم. والترجمة مُشْتَمِلَة على الذُّرِّيَّة أَيْضا. وَهَذَا وَإِن كَانَ فِيهِ تعسف فَلَا يَخْلُو عَن وَجه، وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: أَبُو كريب، بِضَم الْكَاف بِصِيغَة التصغير: واسْمه مُحَمَّد بن الْعَلَاء. الثَّانِي: مُوسَى ابْن حزَام، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الزَّاي: أَبُو عمرَان التِّرْمِذِيّ العابد. الثَّالِث: حُسَيْن بن عَليّ بن الْوَلِيد أَبُو عبد الله الْجعْفِيّ. الرَّابِع: زَائِدَة بن قدامَة، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال الْمُهْملَة: أَبُو الصَّلْت الثَّقَفِيّ. الْخَامِس: ميسرَة ضد الميمنة ابْن عمار الْأَشْجَعِيّ. السَّادِس: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: واسْمه سلمَان الْأَشْجَعِيّ الْغَطَفَانِي. السَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن مُوسَى بن حزَام من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَرُوِيَ عَنهُ مَقْرُونا بِأبي كريب، وَقد وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَغَيره، وَمَا لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الْموضع. وَفِيه: ميسرَة وَمَا لَهُ فِي البُخَارِيّ إِلَّا هَذَا الحَدِيث، وَآخر فِي سُورَة آل عمرَان، وَحَدِيث الْبَاب ذكره فِي النِّكَاح من وَجه آخر. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون مَا خلا مُوسَى بن حزَام فَإِنَّهُ ترمذي نزل بَلخ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن إِسْحَاق بن نصر، وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (اسْتَوْصُوا) ، أَي: تواصوا أَيهَا الرِّجَال فِي حق النِّسَاء بِالْخَيرِ، وَيجوز أَن تكون الْبَاء للتعدية والاستفعال بِمَعْنى الإفعال، نَحْو الاستجابة، قَالَ تَعَالَى: {فليستجيبوا لي} (الْبَقَرَة: 681) . {ويستجيب الَّذين آمنُوا} (الشورى: 62) . وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: الإستيصاء: قبُول الْوَصِيَّة، أَي: أوصيكم بِهن خيرا فاقبلوا وصيتي فِيهِنَّ، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: السِّين للطلب مُبَالغَة أَي: اطْلُبُوا الْوَصِيَّة من أَنفسكُم فِي حقهن بِخَير، وَقَالَ غَيره، استفعل على أَصله، وَهُوَ طلب الْفِعْل فَيكون مَعْنَاهُ: اطْلُبُوا الْوَصِيَّة من الْمَرِيض للنِّسَاء، لِأَن عَائِد الْمَرِيض يسْتَحبّ لَهُ أَن يحث الْمَرِيض على الْوَصِيَّة، وَخص النِّسَاء بِالذكر لضعفهن واحتياجهن إِلَى من يقوم بأمرهن، يَعْنِي: إقبلوا وصيتي فِيهِنَّ وَاعْمَلُوا بهَا واصبروا عَلَيْهِنَّ وارفقوا بِهن وأحسنوا إلَيْهِنَّ. قَوْله: (فَإِن الْمَرْأَة) إِلَى آخِره هَذَا تَعْلِيل لما قبله، وَفَائِدَته بَيَان أَنَّهَا خلقت من الضلع الأعوج هُوَ الَّذِي فِي أَعلَى الضلع، أَو بَيَان أَنَّهَا لَا تقبل الْإِقَامَة لِأَن الأَصْل فِي التَّقْوِيم هُوَ أَعلَى الضلع لَا أَسْفَله وَهُوَ فِي غَايَة الإعوجاج، والضلع، بِكَسْر الضَّاد وَفتح اللَّام: مُفْرد الضلوع، وتسكين اللَّام جَائِز. وَقَوله: (خلقت من ضلع) هُوَ أَن الله تَعَالَى لما أسكن آدم الْجنَّة أَقَامَ مُدَّة فاستوحش، فَشَكا إِلَى الله الْوحدَة، فَنَامَ فَرَأى فِي مَنَامه امْرَأَة حسناء ثمَّ انتبه فَوَجَدَهَا جالسة عِنْده، فَقَالَ من أَنْت؟ فَقَالَت: حَوَّاء خلقني الله لتسكن إِلَيّ وأسكن إِلَيْك. قَالَ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: خلقت من ضلع آدم، وَيُقَال لَهَا: القصيري. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ الضلع الَّتِي يَلِي الشاكلة، وَيُسمى: الواهنة. وَقَالَ مُجَاهِد: إِنَّمَا سميت الْمَرْأَة مرأة لِأَنَّهَا خلقت من الْمَرْء وَهُوَ آدم. وَقَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان: نَام آدم نومَة فِي الْجنَّة فخلقت حَوَّاء من قصيراه من شقَّه الْأَيْمن من غير أَن يتألم، وَلَو تألم لم يعْطف رجل على امْرَأَة أبدا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لأم الله تَعَالَى مَوضِع الضلع لَحْمًا، وَلما رَآهَا آدم قَالَ: أثاثاً، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ بالسرانية وَتَفْسِير بِالْعَرَبِيَّةِ: مرأة. وَقَالَ الرّبيع بن أنس: حَوَّاء من طِينَة آدم وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلقكُم من طين} (الْأَنْعَام: 02) . وَالْأول أصح لقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} (الْأَعْرَاف: 981) . قَوْله: (وَإِن ذهبت تُقِيمهُ كَسرته) ، قيل: هُوَ ضرب مثل للطَّلَاق، أَي: إِن أردْت مِنْهَا أَن تتْرك اعوجاجها أفْضى الْأَمر إِلَى طَلاقهَا، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي رِوَايَة الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي

(15/212)


الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد مُسلم: إِن ذهبت تقيمها كسرتها وَكسرهَا طَلاقهَا. وَقيل: الحَدِيث لم يذكر فِيهِ النِّسَاء إلاَّ بالتمثيل بالضلع والاعوجاج الَّذِي فِي أخلاقهن مِنْهُ، لِأَن للضلع عوجا فَلَا يتهيأ الانفتاع بِهن إلاَّ بِالصبرِ على اعوجاجهن، وَقيل: الصَّوَاب فِي أَعْلَاهُ وَفِي تُقِيمهُ وَفِي كَسرته وَفِي تركته التَّأْنِيث لِأَن الضلع مُؤَنّثَة، وَكَذَا يُقَال: لم تزل عوجاء، وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة مُسلم الْمَذْكُورَة بهاء التَّأْنِيث وَأجِيب بِأَن التَّذْكِير يجوز فِي الْمُؤَنَّث الَّذِي لَيْسَ بِزَوْج.

2333 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا أبِي حدَّثنا الأعْمَشُ حَدَّثنا زَيْدُ بنُ وَهْبٍ حدَّثنا عَبْدُ الله حدَّثنا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ إنَّ خَلْقَ أحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمَاً ثُمَّ يَكُونُ علَقَةً مِثْلَ ذالِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذالِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ الله إلَيْهِ مَلَكَاً بأربَعِ كلِمَاتٍ فيُكْتَبُ عَمَلُهُ وأجَلُهُ ورِزْقُهُ وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَها إلاَّ ذِرَاعٌ فيَسْبِقُ علَيْهِ الكِتابُ فيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ فيَدْخُلُ الجَنَّةَ وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وبَيْنَهَا إلاَّ ذِراعٌ فيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتابُ فيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ بَيَان كَيْفيَّة خلق بني آدم، وهم ذُريَّته. والترجمة فِي خلق آدم وَذريته، وَعمر بن حَفْص بن غياث، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَزيد بن وهب الْجُهَنِيّ هَاجر إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يُدْرِكهُ مَاتَ سنة سِتّ وَتِسْعين، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
وَمن لطائف إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث أَن فِيهِ: صِيغَة التحديث بِالْجمعِ فِي الْكل حَتَّى قَالَ: حَدثنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب ذكر الْمَلَائِكَة عَن قريب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن الْحسن بن الرّبيع عَن أبي الْأَحْوَص عَن الْأَعْمَش ... إِلَى آخِره. وَقَالَ الْكرْمَانِي: والْحَدِيث مر فِي الْحيض قلت: لَيْسَ كَذَلِك، وَالَّذِي مر فِي الْحيض: عَن أنس بِغَيْر هَذَا الْوَجْه، والآن يَأْتِي، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

3333 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ حدَّثنا حمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ أبِي بَكْرِ بنِ أنَسٍ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ الله وكَّلَ بالرَّحِمِ ملَكَاً فَيقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ يَا رَبِّ عَلَقَة يَا رَبِّ مُضْغَة فإذَا أرادَ أنْ يَخْلُقَها قَالَ يَا رَبِّ أذَكَرٌ أمْ أُنْثَى يَا رَبِّ شَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ فَما الرِّزْقُ فَمَا الأجَلُ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أمِّهِ. (انْظُر الحَدِيث 813 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الحَدِيث السَّابِق. وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْحيض فِي: بَاب (مخلقة وَغير مخلقة) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن زيد ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (يخلقها) أَي: يصورها وَلم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة الْعَمَل لِأَنَّهُ يعلم التزاماً من ذكر السَّعَادَة والشقاوة قَوْله: (فَيكْتب كَذَلِك) الْكِتَابَة لإِظْهَار الله ذَلِك للْملك ولإنفاذ أمره، وَإِن كَانَ قَضَاء الله أزلياً لَا يحْتَاج إِلَى الْكِتَابَة.

4333 - حدَّثنا قَيْسُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا خالِدُ بنُ الحَارِثِ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبِي عِمْرَانَ الجَوْنِيِّ عنْ أنَسٍ يَرْفَعُهُ أنَّ الله يَقُولُ لأِهْوَنِ أهْلِ النَّارِ عَذَابَاً لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْض مِنْ شَيْءٍ أكُنْتَ

(15/213)


تَفْتَدِي بِهِ قالَ نَعَمْ فَقَدْ سألْتُكَ مَا هُوَ أهْوَنُ مِنْ هذَا وأنْتَ فِي صُلْبِ آدَم أنْ لاَ تُشْرِكَ بِي فأبَيْتَ إلاَّ الشِّرْكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِيهِ من جملَة مَا يجْرِي على أهل النَّار، وهم من ذُرِّيَّة آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيس ابْن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الدَّارمِيّ الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاده، وخَالِد بن الْحَارِث بن سليم أَبُو عُثْمَان الهُجَيْمِي الْبَصْرِيّ. وَأَبُو عمرَان عبد الْملك بن حبيب الجرني، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الرَّاء وبالنون.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة النَّار عَن بنْدَار. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن عبد الله بن معَاذ وَعَن بنْدَار.
قَوْله: (يرفعهُ) أَي: يرفع أنس الحَدِيث إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي لَفْظَة يستعملها المحدثون فِي مَوضِع: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (لأهون أهل النَّار عذَابا) ، أَي: لأيسر أَهلهَا من حَيْثُ الْعَذَاب، يُقَال: إِنَّه أَبُو طَالب. قَوْله: (أَكنت؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (تَفْتَدِي بِهِ) ، من الافتداء وَهُوَ خلاص نَفسه من الَّذِي وَقع فِيهِ بِدفع مَا يملكهُ. قَوْله: (مَا هُوَ أَهْون) كلمة: مَا، مَوْصُولَة، وَالْوَاو فِي: وَأَنت، للْحَال. قَوْله: (فأبيت) ، أَي: امْتنعت إِلَّا الشّرك أتيت بِهِ.

5333 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفُصِ بنِ غِياثٍ حدَّثنا أبي حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُرَّةَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمَاً إلاَّ كانَ على ابنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأِنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْقَاتِل فِيهِ وَهُوَ قابيل، كَمَا نذكرهُ هُوَ ابْن آدم من صلبه، وَهُوَ دَاخل فِي لفظ الذُّرِّيَّة فِي التَّرْجَمَة. وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدِّيات: عَن قبيصَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَفِي الِاعْتِصَام عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبد الله ابْن نمير وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَعَن ابْن أبي عمر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعلم عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن خشرم وَفِي الْمُحَاربَة عَن عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدِّيات عَن هِشَام بن عمار.
قَوْله: (لَا تقتل نفس) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمرَاد بِالنَّفسِ: نفس ابْن آدم، و: ظلما، نصب على التَّمْيِيز. قَوْله: (إلاَّ كَانَ على ابْن آدم الأول) المُرَاد من الابْن هُنَا هُوَ قابيل، وآدَم الأول هُوَ آدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبُو قابيل، وَقد قتل هُوَ أَخَاهُ هابيل وَكَانَ عمره عشْرين سنة وَعمر قابيل خَمْسَة وَعشْرين سنة، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: وَأهل الْعلم مُخْتَلفُونَ فِي اسْم الْقَاتِل، فبعضهم يَقُول: هُوَ قين بن آدم، وَبَعْضهمْ يَقُول هُوَ: قاين بن آدم، وَبَعْضهمْ يَقُول: هُوَ قابيل، وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي سَبَب قَتله هابيل، فَقَالَ عبد الله بن عَمْرو: إِن الله تَعَالَى أَمر بني آدم أَن يقربا قرباناً، وَأَن صَاحب الْغنم قرب أكْرم غنمه، وَصَاحب الْحَرْث قرب شَرّ حرثه، فَقبل الله قرْبَان الأول، وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: كَانَ من شَأْنهمَا أَنه لم يكن مِسْكين يتَصَدَّق عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ القربان يقربهُ الرجل، فَبَيْنَمَا هما قاعدان إِذْ قَالَا: لَو قربنا؟ فقربا قرباناً فَتقبل من أَحدهمَا. قلت: حكى السّديّ عَن أشياخه عَن مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَعَطَاء وَغَيرهم عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قَالُوا: كَانَت حَوَّاء تَلد توأماً فِي كل بطن غُلَاما وَجَارِيَة إلاَّ شيثاً فَإِنَّهَا وَلدته مُفردا، فَلَمَّا كَانَ بعد مائَة سنة من هبوط آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى الدُّنْيَا ولدت قابيل وتوأمته أقليما، ثمَّ هابيل وتوأمته ليوذا، وَكَانَ ابْن آدم يُزَوّج ابْنه أُخْته الَّتِي لم تكن توأمته، فَلَمَّا بلغ قابيل وهابيل، أَمر الله تَعَالَى آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يُزَوّج قابيل ليوذا أُخْت هابيل، ويزوج هابيل إقليما أُخْت قابيل، وَكَانَت من أجمل النِّسَاء قامة وأجملهن وأحسنهن صُورَة، فَلم يرضَ قابيل. وَقَالَ: أَنا أَحَق بأختي أَنا وأختي من أَوْلَاد الْجنَّة وهابيل وَأُخْته من أَوْلَاد الدُّنْيَا، فَقَالَ آدم: قربا قرباناً، وَكَانَ قابيل صَاحب زرع وهابيل صَاحب غنم، فَقرب قابيل صبرَة من طَعَام من أردى زرعه، وأضمر فِي نَفسه. وَقَالَ: مَا أُبَالِي أتقبل مني أم لَا بعد أَن يتَزَوَّج هابيل أُخْتِي، وَقرب هابيل كَبْشًا سميناً من خِيَار غنمه ولبناً وزبداً وأضمر فِي نَفسه الرِّضَا بِاللَّه تَعَالَى، وَكَانَ القربان إِذا قبل تنزل من السَّمَاء نَار بَيْضَاء.

(15/214)


فتأكله، فَنزلت نَار فَأكلت قرْبَان هابيل وَلم تَأْكُل من قرْبَان قابيل شَيْئا، فَأخذ قابيل فِي نَفسه حَتَّى قتل هابيل. وَعَن ابْن عَبَّاس: لم يزل الْكَبْش يرْعَى فِي الْجنَّة حَتَّى فدى بِهِ إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَاخْتلفُوا فِي أَي مَوضِع كَانَ القربان؟ فعامة الْعلمَاء على أَنه كَانَ بِالْهِنْدِ. وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي كَيْفيَّة قَتله؟ فَقَالَ ابْن جريج: إِنَّه أَتَاهُ وَهُوَ نَائِم فَلم يدر كَيفَ يقْتله، فَأَتَاهُ الشَّيْطَان متمثلاً فَأخذ طيراً فَوضع رَأسه على حجر ثمَّ شدخ رَأسه بِحجر آخر، وقابيل ينظر إِلَيْهِ، فَفعل بهابيل كَذَلِك. وَعَن ابْن عَبَّاس: رَمَاه بِحجر فَقتله. وروى مُجَاهِد عَنهُ: أَنه رضخ رَأسه بصخرة، وَعَن الرّبيع: أَنه اغتاله فَقتله، وَقيل: خنقه، وَقيل: ضربه بحديدة فَقتله. وَاخْتلفُوا أَيْضا فِي مَوضِع مصرعه؟ فَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: على جبل ثَوْر، وَعَن جَعْفَر الصَّادِق: بِالْبَصْرَةِ مَكَان الْجَامِع، وَعَن الطَّبَرِيّ: على عقبَة حراء، وَعَن المَسْعُودِيّ: قَتله بِدِمَشْق، وَكَذَا قَالَه الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر فِي (تَارِيخ دمشق) ، فَقَالَ: كَانَ قابيل يسكن خَارج بَاب الْجَابِيَة وَأَنه قتل أَخَاهُ على جبل قاسيون عِنْد مغارة الدَّم، وَقَالَ كَعْب: الدَّم الَّذِي على قاسيون هُوَ دم ابْن آدم. وَقَالَ سبط ابْن الْجَوْزِيّ: وَالْعجب من هَذِه الْأَقْوَال، وَقد اتّفق أَرْبَاب السّير أَن الْوَاقِعَة كَانَت بِالْهِنْدِ، وَأَن قابيل اغتنم غيبَة أَبِيه بِمَكَّة، فَمَا الَّذِي أَتَى بِهِ إِلَى جبل ثَوْر وحراء وهما بِمَكَّة؟ وَمَا الَّذِي أَتَى بِهِ إِلَى الْبَصْرَة وَلم تكن أسست؟ وَأَيْنَ الْهِنْد ودمشق والجابية؟ وَهل وضعت التواريخ إلاَّ ليتميز الصَّحِيح والسقيم والسالم والسليم؟ أللهم غفراً. قلت: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: أَنه قَتله على جبل نوذ بِالْهِنْدِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَحكى الثَّعْلَبِيّ عَن مُعَاوِيَة بن عمار: سَأَلت الصَّادِق أَكَانَ آدم يُزَوّج ابْنَته من ابْنه؟ فَقَالَ: معَاذ الله، وَإِنَّمَا هُوَ لما أهبط إِلَى الأَرْض ولدت حَوَّاء، عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِنْتا فسماها عنَاقًا، وَهِي أول من بغى على وَجه الأَرْض، فَسلط الله عَلَيْهَا من قَتلهَا. فولد لَهُ على إثْرهَا قابيل، فَلَمَّا أدْرك أظهر الله لَهُ جنية يُقَال لَهَا: حمامة، فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن زَوجهَا مِنْهُ، فَلَمَّا أدْرك هابيل أهبط الله إِلَيْهِ من الْجنَّة حوراء اسْمهَا: بذلة، فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن زَوجهَا مِنْهُ، فأعتب قابيل على أَبِيه، وَقَالَ: أَنا أسن مِنْهُ وَكنت أَحَق بهَا. قَالَ: يَا بني إِن الله تَعَالَى أوحى إِلَيّ بذلك، فقربا قرباناً. قَوْله: (كفل) ، بِكَسْر الْكَاف وَإِسْكَان الْفَاء: وَهُوَ النَّصِيب والجزء، وَقَالَ الْخَلِيل: الكفل من الْأجر وَالْإِثْم هُوَ الضعْف. وَفِي التَّنْزِيل: {من يشفع شَفَاعَة حَسَنَة يكن لَهُ نصيب مِنْهَا وَمن يشفع شَفَاعَة سَيِّئَة يكن لَهُ كفل مِنْهَا} (النِّسَاء: 58) . وَأما قَوْله تَعَالَى: {يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته} (الْحَدِيد: 82) . فَلَعَلَّهُ من تَغْلِيب الْخَيْر. قَوْله: (لِأَنَّهُ) ، أَي: لِأَن ابْن آدم الأول أول من سنّ الْقَتْل، أَي على وَجه الأَرْض من بني آدم، فَإِن قيل: قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51، فاطر: 81، الزمر: 7، النَّجْم: 83) . أُجِيب: بِأَن هَذَا جَزَاء تأسيس فَهُوَ فعل سنة، وَالله أعلم.

(قَالَ وَقَالَ اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد عَن عمْرَة عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول الْأَرْوَاح جنود مجندة فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف) مطابقته للتَّرْجَمَة من جِهَة أَن التَّرْجَمَة جُزْء مِنْهُ أَي قَالَ البُخَارِيّ وَقَالَ اللَّيْث بن سعد عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ عَن عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي الْأَدَب الْمُفْرد عَن عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق سعيد بن أبي مَرْيَم عَن يحيى بن أَيُّوب وَفِي الحَدِيث قصَّة ذكرهَا أَبُو يعلى وَغَيره وَهِي أَن عمْرَة قَالَت كَانَت بِمَكَّة امْرَأَة مزاحة فَنزلت على امْرَأَة مثلهَا فَبلغ ذَلِك عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَقَالَت صدق حِين سَمِعت رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُول " الْأَرْوَاح جنود مجندة " الحَدِيث والْحَدِيث رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ حَدثنَا قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا عبد الْعَزِيز يَعْنِي ابْن مُحَمَّد عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْأَرْوَاح جنود مجندة " إِلَى آخِره نَحوه قَوْله " الْأَرْوَاح " جمع روح وَهُوَ الَّذِي يقوم بِهِ الْجَسَد وَيكون بِهِ الْحَيَاة قَوْله " جنود مجندة " أَي جموع مجتمعة وأنواع مُخْتَلفَة وَقيل أَجنَاس مجنسة وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْأَرْوَاح لَيست بأعراض فَإِنَّهَا كَانَت

(15/215)


مَوْجُودَة قبل الأجساد وَإِنَّهَا تبقى بعد فنَاء الأجساد وَيُؤَيِّدهُ " أَن أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر " قَوْله " فَمَا تعارف مِنْهَا " تعارفها مُوَافقَة صفاتها الَّتِي خلقهَا الله عَلَيْهَا وتناسبها فِي أخلاقها وَقيل لِأَنَّهَا خلقت مجتمعة ثمَّ فرقت فِي أجسادها فَمن وَافق قسيمه أَلفه وَمن باعده نافره وَقَالَ الْخطابِيّ فِيهِ وَجْهَان. أَحدهمَا أَن يكون إِشَارَة إِلَى معنى التشاكل فِي الْخَيْر وَالشَّر وَإِن الْخَيْر من النَّاس يحن إِلَى شكله والشرير يمِيل إِلَى نَظِيره والأرواح إِنَّمَا تتعارف بضرائب طباعها الَّتِي جبلت عَلَيْهَا من الْخَيْر وَالشَّر فَإِذا اتّفقت الأشكال تعارفت وتألفت وَإِذا اخْتلفت تنافرت وتناكرت. وَالْآخر أَنه رُوِيَ أَن الله تَعَالَى خلق الْأَرْوَاح قبل الأجساد وَكَانَت تلتقي فَلَمَّا التسبت بالأجساد تعارفت بِالذكر الأول فَصَارَ كل وَاحِد مِنْهَا إِنَّمَا يعرف وينكر على مَا سبق لَهُ من الْعَهْد الْمُتَقَدّم وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ إِذا وجد أحد من نَفسه نفرة مِمَّن لَهُ فَضِيلَة أَو صَلَاح يفتش عَن الْمُوجب لَهَا فَإِنَّهُ ينْكَشف لَهُ فَيتَعَيَّن عَلَيْهِ أَن يسْعَى فِي إِزَالَة ذَلِك حَتَّى يتَخَلَّص من ذَلِك الْوَصْف المذموم وَكَذَلِكَ القَوْل إِذا وجد فِي نَفسه ميلًا إِلَى من فِيهِ شَرّ وشبهة وشاع فِي كَلَام النَّاس قَوْلهم الْمُنَاسبَة تؤلف بَين الْأَشْخَاص والشخص يؤلف بَين شكله وَلما نزل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْكُوفَة قَالَ يَا أهل الْكُوفَة قد علمنَا خَيركُمْ من شريركم فَقَالُوا لم ذَلِك قَالَ كَانَ مَعنا نَاس من الأخيار فنزلوا عِنْد نَاس فَعلمنَا أَنهم من الأخيار وَكَانَ مَعنا نَاس من الأشرار فنزلوا عِنْد نَاس فَعلمنَا أَنهم من الأشرار وَكَانَ كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(عَن الْمَرْء لَا تسل وسل عَن قرينه ... فَكل قرين بالمقارن يَقْتَدِي)

(وَقَالَ يحيى بن أَيُّوب حَدثنِي يحيى بن سعيد بِهَذَا) يحيى بن أَيُّوب الغافقي الْمصْرِيّ وَيحيى بن سعيد هُوَ الَّذِي مضى عَن قريب قَوْله " مثله " أَي مثل الَّذِي قبله وَقد وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق سعيد بن أبي مَرْيَم عَن يحيى بن أَيُّوب بِهِ -
3 - (بابٌ الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: الْأَرْوَاح جنود مجندة، والآن يَأْتِي تَفْسِيره، وَوجه ذكر هَذِه التَّرْجَمَة عقيب تَرْجَمَة: خلق آدم، الْإِشَارَة إِلَى أَن بني آدم مركبة من الْأَجْسَام والأرواح.

3 - (بابُ قَوْلِ الله عزَّ وجَلَّ {ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحَاً إلَى قَوْمِهِ} (هود: 52) .)

أَي: هَذَا بَاب مَعْقُود فِي قَول الله عز وَجل: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} (هود: 52) . وَهُوَ نوح بن لمك، بِفَتْح اللَّام وَسُكُون الْمِيم، وَقيل: لمك بِفتْحَتَيْنِ، وَقيل: لامك، بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا. وَقَالَ ابْن هِشَام: بالعبرانية لامخ، بِفَتْح الْمِيم وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة، وبالعربية: لمك، وبالسريانية: لمخ، وَتَفْسِيره: متواضع، وَيُقَال: لمَكَان، وَيُقَال: ملكان بِتَقْدِيم الْمِيم على اللاَّم. وَقَالَ السُّهيْلي: ولمك هُوَ أول من اتخذ الْعود للغناء، وَاتخذ مصانع المَاء وَهُوَ ابْن متوشلخ، بِفَتْح الْمِيم وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق الْمُشَدّدَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَاللَّام وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة، كَذَا ضَبطه ابْن الْمصْرِيّ، وَضَبطه أَبُو الْعَبَّاس عبد الله بن مُحَمَّد الفاسي فِي قصيدة يمدح بهَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي طَوِيلَة ذكرتها فِي أول (مَعَاني الْأَخْبَار) فِي: رجال مَعَاني الْآثَار، بِضَم الْمِيم وَفتح التَّاء وَالْوَاو وَسُكُون الشين وَكسر اللَّام وبالخاء الْمُعْجَمَة. وَقَالَ السُّهيْلي: بِضَم الْمِيم وَفتح التَّاء وَسُكُون الْوَاو، وَمِنْهُم من ضبط فِي آخِره بِالْحَاء الْمُهْملَة وَمَعْنَاهُ فِي الْكل: مَاتَ الرَّسُول، لِأَن أَبَاهُ كَانَ رَسُولا، وَهُوَ خنوخ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَضم النُّون وَسُكُون الْوَاو، وَفِي آخِره مُعْجمَة أُخْرَى، وَيُقَال بِالْحَاء الْمُهْملَة فِي أَوله، وَيُقَال: بالمهملتين وَيُقَال: أَخْنُوخ بِزِيَادَة همزَة فِي أَوله، وَيُقَال: أخنخ بِإِسْقَاط الْوَاو، وَيُقَال أهنخ بِالْهَاءِ بعد الْهمزَة، وَمَعْنَاهُ على الِاخْتِلَاف بِالْعَرَبِيَّةِ: إِدْرِيس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سمي بذلك لِكَثْرَة درسه الْكتب، وصحف آدم وشيث، وَأمه أشوت، وَأدْركَ من حَيَاة آدم ثَلَاثمِائَة سنة وثمان سِنِين وَهُوَ ابْن يارد بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وَفتح الرَّاء، كَذَا ضَبطه أَبُو عمر، وَكَذَا ضَبطه النسابة الجواني إلاَّ أَنه قَالَ: بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَقيل: يرد، بِفَتْح الْيَاء وَسُكُون الرَّاء، قَالَ ابْن هِشَام: اسْمه فِي التَّوْرَاة يارد، وَهُوَ عبراني، وَتَفْسِيره: ضَابِط، واسْمه فِي الْإِنْجِيل بالسُّرْيَانيَّة، يرد، وَتَفْسِيره بالعربي: ضبط، وَقيل: اسْمه رائد وَلم يثبت، وَهُوَ ابْن مهلائيل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْهَاء وبالهمز، وَقد يُقَال بِالْيَاءِ بِلَا همز، وَمَعْنَاهُ: الممدح، وَقَالَ ابْن هِشَام: مهليل بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْهَاء وَكسر اللَّام، وَهُوَ اسْم عبراني، واسْمه بِالْعَرَبِيَّةِ: ممدوح، وَقَالَ السُّهيْلي: واسْمه بالسُّرْيَانيَّة فِي الْإِنْجِيل: نابل، بالنُّون وبالباء الْمُوَحدَة وَتَفْسِيره بِالْعَرَبِيَّةِ: مسيح الله، وَفِي زَمَنه كَانَ بَدْء عبَادَة الْأَصْنَام، وَهُوَ ابْن قينان بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنونين بَينهمَا ألف، وَمَعْنَاهُ المستولي، وَجَاء فِيهِ: قينين وقاين، واسْمه

(15/216)


فِي الْإِنْجِيل: ماقيان، وَتَفْسِيره بالعربي: عِيسَى، وَهُوَ ابْن أنوش، بِفَتْح الْهمزَة الممدودة وَضم النُّون، وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، وَمَعْنَاهُ: الصَّادِق، وَيُقَال: إيناش، بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ فِي اللُّغَة العبرانية وَتَفْسِيره بِالْعَرَبِيَّةِ: إِنْسَان، وَيُقَال: يانش، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَمَعْنَاهُ المستوي، وَهُوَ ابْن شِيث، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة وَمَعْنَاهُ: هبة الله، وَيُقَال: عَطِيَّة الله، وَهَذَا اسْمه بالعبرانية، وبالسريانية: شاث، بِالْألف مَوضِع الْيَاء، وَتُوفِّي شِيث وعمره تِسْعمائَة سنة واثني عشر سنة، وَدفن مَعَ أَبَوَيْهِ آدم وحواء فِي غَار أبي قبيس، وَهُوَ الَّذِي بنى الْكَعْبَة بالطين وَالْحِجَارَة وَكَانَت هُنَاكَ خيمة لآدَم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَضعهَا الله لَهُ من الْجنَّة، وَكَانَ أبَوَا نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مؤمنَين، وَاسم أمه قيثوش بنت بركاييل بن مخواييل بن أخنوح، وَذكر الزَّمَخْشَرِيّ: أَمن اسْم أم نوح شمحا بنت آنوش، وَأرْسل الله نوحًا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى ولد قابيل وَمن تَابعهمْ من ولد شِيث وَهُوَ ابْن خمسين سنة، وَقيل: ابْن ثَلَاثمِائَة وَخمسين سنة، وَقيل: ابْن ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة سنة، وَاخْتلفُوا فِي مقَامه على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: بِالْهِنْدِ، قَالَه مُجَاهِد. وَالثَّانِي: بِأَرْض بابل والكوفة، قَالَه الْحسن الْبَصْرِيّ، وَقَالَ ابْن جرير: كَانَ مولده بعد وَفَاة آدم بِمِائَة سنة وست وَعشْرين سنة، وَقَالَ مقَاتل: بَينه وَبَين آدم ألف سنة، وَبَينه وَبَين إِدْرِيس مائَة سنة. وَهُوَ أول نَبِي بعد إِدْرِيس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ مقَاتل: اسْمه السكن، وَقيل: السَّاكِن، وَقَالَ السّديّ: إِنَّمَا سمي سكناً لِأَن الأَرْض سكنت بِهِ. وَقيل: اسْمه عبد الْغفار، ذكره الطَّبَرِيّ، وَسمي نوحًا لِكَثْرَة نوحه وبكائه، وَقيل: إِن الله تَعَالَى أوحى إِلَيْهِ: لِمَ تَنُوح؟ لِكَثْرَة بكائه، فَسُمي نوحًا وَيُقَال: إِنَّه نظر يَوْمًا إِلَى كلب قَبِيح المنظر، فَقَالَ: مَا أقبح صُورَة هَذَا الْكَلْب، فأنطقه الله عز وَجل وَقَالَ: يَا مِسْكين على من عبت؟ على النقش أَو على النقاش؟ فَإِن كَانَ على النقش فَلَو كَانَ خلقي بيَدي حسنته؟ وَإِن كَانَ على النقاش فالعيب عَلَيْهِ اعْتِرَاض فِي ملكه. فَعلم أَن الله تَعَالَى أنطقه، فناح على نَفسه وَبكى أَرْبَعِينَ سنة، قَالَه السّديّ عَن أشياخه، وَمَات نوح وعمره ألف سنة وَأَرْبَعمِائَة سنة، قَالَه ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب (أَعمار الْأَعْيَان) وَقيل: ألف وثلاثمائة سنة، وَقيل: ألف وَسَبْعمائة وَثَمَانِينَ سنة، قيل: إِنَّه مَاتَ بقرية الثَّمَانِينَ، وَهِي الْقرْيَة الَّتِي بناها عِنْد الجودي الَّذِي أرسيت عَلَيْهِ السَّفِينَة، وَهُوَ بِقرب موصل بالشرق، حَكَاهُ هَارُون بن الْمَأْمُون، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: مَاتَ بِالْهِنْدِ على جبل نوذ، وَقيل: بِمَكَّة، وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن ساباط: قبر هود وَصَالح وَشُعَيْب ونوح، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَين زَمْزَم والركن وَالْمقَام، وَقيل: مَاتَ بِبَابِل، وَقيل: بِبَلَد بعلبك فِي الْبِقَاع، قَرْيَة يُقَال لَهَا: الكرك فِيهَا قبر يُقَال لَهُ: قبر نوح، وَيعرف الْآن: بكرك نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن كثير: وَأما قَبره فروى ابْن جرير والأزرقي: أَنه فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، وَهَذَا أقوى وَأثبت من الَّذِي ذكره كثير من الْمُتَأَخِّرين من أَنه ببلدة بالبقاع تعرف بكرك نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالُوا: ذكره الله فِي الْقُرْآن فِي مَوَاضِع، فَقيل: فِي ثَمَانِيَة وَعشْرين موضعا، مِنْهَا مَا ذكره البُخَارِيّ من قَوْله: بَاب قَول الله عز وَجل: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} (هود: 52) . وَتَمام الْآيَة: {فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إل هـ غَيره إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم} (هود: 52) . لما ذكر الله تَعَالَى قصَّة آدم فِي أول السُّورَة، وَهِي سُورَة الْأَعْرَاف، وَمَا يتَعَلَّق بذلك شرع فِي ذكر قصَص الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، الأول فَالْأول، فابتدأ بِذكر نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ أول رَسُول بَعثه الله إِلَى أهل الأَرْض بعد آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: لم يلقَ نَبِي من قومه من الْأَذَى مثل نوح صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ نَبِي قتل.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بادِىءِ الرَّأيِ مَا ظَهَرَ لَنَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذين كفرُوا من قومه مَا نرَاك إِلَّا بشرا مثلنَا وَمَا نرَاك اتبعك إلاَّ الَّذين هم أراذلنا باديء الرَّأْي} (هود: 72) . ثمَّ فسر باديء الرَّأْي بقوله: مَا ظهر لنا. وقرىء باديء بِالْهَمْزَةِ وَتركهَا، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: انتصابه على الظّرْف، والأراذل: جمع الأرذل، وَهُوَ الدون من كل شَيْء، وَقَالَ الزّجاج: الأراذل الحاكة.
أقْلِعِي أمْسِكِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا سَمَاء أقلعي} (هود: 44) . وَفسّر أقلعي، بقوله: أمسكي، وَكَذَا رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وأقلعي أَمر من الإقلاع، وإقلاع الْأَمر الْكَفّ عَنهُ.
وفارَ التَّنُّورُ نَبعَ المَاءُ

(15/217)


أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا جَاءَ أمرنَا وفار التَّنور} (هود: 04) . وَفسّر: فار، بقوله: نبع المَاء، وفار من الْفَوْر وَهُوَ الغليان، والفوارة مَا يفور من الْقدر، والتنور اسْم فَارسي مُعرب لَا تعرف لَهُ الْعَرَب إسماً غَيره، قَالَه ابْن دُرَيْد، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: التَّنور بِكُل لِسَان عَرَبِيّ وعجمي، وَعنهُ أَنه تنور الْملَّة، وَقَالَ الْحسن: كَانَ من حِجَارَة وَبِه قَالَ ابْن مُجَاهِد وَابْن مقَاتل، وَاخْتلفُوا فِي مَوْضِعه، فَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ فِي نَاحيَة الْكُوفَة، وَقَالَ مقَاتل: كَانَ تنور آدم، وَإِنَّمَا كَانَ بِالشَّام بِموضع يُقَال لَهُ: عين وردة، وَعَن عِكْرِمَة: فار التَّنور بِالْهِنْدِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وجْهُ الأرْضِ
أَي: قَالَ عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس: التَّنور وَجه الأَرْض، كَذَا رَوَاهُ ابْن جرير من طَرِيق أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ عَن عِكْرِمَة.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الجُودِيُّ جَبَلٌ بالجَزِيرَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {واستوت على الجودي} (هود: 44) . أَي: السَّفِينَة اسْتَقَرَّتْ على الْجَبَل الَّذِي يُسمى بالجودي، وَهُوَ جبل بِجَزِيرَة ابْن عمر فِي الشرق مَا بَين دجلة والفرات، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ، وَزَاد: تشامخت الْجبَال يَوْم الْغَرق وتواضع هُوَ لله عز وَجل، فَلم يغرق وأرسيت عَلَيْهِ سفينة نوح، عَلَيْهِ السَّلَام.
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مثل دأب قوم نوح} (غَافِر: 13) . وَفسّر الدأب: بِالْحَال، وَهُوَ الْعَادة أَيْضا.
بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {إنَّا أرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أنْ أنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أنْ يَأتِيَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} (نوح: 1) . إِلَى آخر السُّورَةِ
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر سُورَة نوح عَلَيْهِ السَّلَام، وَهِي اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ آيَة، ومائتان وَأَرْبع وَعِشْرُونَ كلمة، وَتِسْعمِائَة وَتسْعُونَ حرفا، وَهَذِه التَّرْجَمَة وَقعت هَكَذَا بعد قَوْله: بَاب قَول الله عز وَجل: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} (نوح: 1) . وَهُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين وَلم يَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر إلاَّ بَاب قَول الله: {وَلَقَد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} (هود: 52) . قَوْله: (أَن أنذر) ، أَي: بِأَن أنذر، حذف الْجَار وَالْمعْنَى: إِنَّا أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه بِأَن قُلْنَا لَهُ: أنذر، أَي: أرسلناه بِالْأَمر بالإنذار، وَيجوز أَن تكون: أَن، مفسرة لِأَن الْإِرْسَال فِيهِ معنى القَوْل. قَوْله: (من قبل أَن يَأْتِيهم عَذَاب) ، قيل: عَذَاب الْآخِرَة، وَقيل: عَذَاب الطوفان وَالْغَرق، وَإِنَّمَا قَالَ ... إِلَى آخر السُّورَة، إِشَارَة إِلَى أَن هَذِه السُّورَة كلهَا فِي قَضِيَّة نوح مَعَ قومه.
{واتْلُ علَيْهِمْ نَبأ نُوحٍ إذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنْ كانَ كَبُرَ علَيْكُمْ مَقامِي وتَذْكِيرِي بِآياتِ الله} إِلَى قَوْله: {مِنَ المُسْلِمِينَ} (يُونُس: 27) .
هَذِه الْآيَة لَيست بموجودة فِي الْكتاب عِنْد أَكثر الروَاة، وَتَمام الْآيَة هُوَ قَوْله تَعَالَى: {فعلى الله توكلت فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم ثمَّ لَا يكن أَمركُم عَلَيْكُم غمَّة ثمَّ اقضوا إِلَيّ وَلَا تنْظرُون فَإِن توليتم فَمَا سألتكم من أجر إِن أجري إلاَّ على الله وَأمرت أَن أكون من الْمُسلمين} .

7333 - حدَّثنا عَبْدَانُ أخْبرَنا عَبْدُ الله عنْ يُونُسَ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سالِمٌ وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قامَ رسولُ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّاسِ فأثْنَى علَى الله بِمَا هُوَ أهْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ إنِّي لَمُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ أنْذَرَهُ قَوْمَهُ لَقَدْ أنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ ولَكِنِّي أقولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ تَعْلَمُونَ أنَّهُ أعْوَرُ وأنَّ الله لَيْسَ بِأعْوَرَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: لقد أنذر نوح قومه، وعبدان هُوَ لقب عبد الله بن عُثْمَان، وَقد تكَرر ذكره، وَعبد الله هُوَ ابْن الْمُبَارك

(15/218)


وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عَمْرو. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب إِذا أسلم الصَّبِي ... مطولا بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، وَلَكِن قَوْله: (ثمَّ ذكر الدَّجَّال) إِلَى آخِره، لَيْسَ هُنَاكَ. فَقَوله: (ثمَّ ذكر الدَّجَّال) يَعْنِي: بعد الْفَرَاغ من خطبَته، والدجال فعال من أبنية الْمُبَالغَة لِكَثْرَة الْكَذِب فِيهِ، وَهُوَ من الدجل، وَهُوَ الْخَلْط والتلبيس والتمويه. قَوْله: (إِنِّي لمنذركموه) من الأنذار، وَهُوَ التخويف، وَقد أكدت هَذِه الْجُمْلَة بمؤكدات بِكَلِمَة: إِن، وَاللَّام، وَكَون الْجُمْلَة إسمية. قَوْله: (لقد أنذر نوح قومه) ، إِنَّمَا خصصه بعد التَّعْمِيم لِأَنَّهُ أول نَبِي أنذر قومه وهددهم بِخِلَاف من سبق عَلَيْهِ، فَإِنَّهُم كَانُوا فِي الْإِرْشَاد وتربية الْآبَاء للأولاد، وَلِأَنَّهُ أول الرُّسُل المشرعين: {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} (الشورى: 31) . أَو لِأَنَّهُ أَبُو الْبشر الثَّانِي، وَذريته هم الْبَاقُونَ فِي الدُّنْيَا لَا غَيرهم. قَوْله: (أَنه أَعور) ، وَقد ورد فِيهِ كَلِمَات متنافرة، ورد: أَنه أَعور، وَفِي رِوَايَة: أَنَّهَا طافية، وَفِي أُخْرَى: أَنه جاحظ الْعين كَأَنَّهَا كَوْكَب، وَفِي أُخْرَى: أَنَّهَا لَيست بباقية، وَفِي أُخْرَى: أَنه أَعور عين الْيُمْنَى، وَفِي أُخْرَى: أَعور عين الْيُسْرَى، وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة: أَنه مَمْسُوح الْعين عَلَيْهَا ظفرة غَلِيظَة، وَوجه الْجمع بَين هَذِه الْأَوْصَاف المتنافرة أَن يقدر فِيهَا أَن إِحْدَى عَيْنَيْهِ ذَاهِبَة، وَالْأُخْرَى مَعِيبَة، فَيصح أَن يُقَال: لكل وَاحِدَة عوراء، إِذْ الأَصْل فِي العور الْعَيْب. قَوْله: (وَأَن الله لَيْسَ بأعور) ، للتنزيه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

8333 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ يَحْيَى عنْ أبِي سَلَمَةَ سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألاَ أحَدِّثُكُمْ عنِ الدَّجَّالِ مَا حدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ إنَّهُ أعْوَرُ وإنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ بِمِثَالِ الجَنَّةِ والنَّارِ فالَّتِي يَقُولُ إنَّهَا الجَنَّةُ هِيَ النَّارُ وإنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أنْذَرَ بِهِ نُوحٌ علَيْهِ السَّلاَمُ قَوْمَهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَمَا أنذر نوح عَلَيْهِ السَّلَام قومه) وَأَبُو نعيم، بِضَم النُّون: الْفضل بن دُكَيْن، وشيبان ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن مُحَمَّد بن رَافع.
قَوْله: (بمثال الْجنَّة) ، أَي: بِمِثْلِهَا ويروى: تِمْثَال الْجنَّة، أَي: صُورَة الْجنَّة. قَوْله: (كَمَا أنذر) ، وَجه الشّبَه فِيهِ الْإِنْذَار الْمُقَيد بمجيء الْمِثَال فِي صحبته، وإلاَّ فالإنذار لَا يخْتَص بِهِ.

9333 - حدَّثنا مُوساى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ بنُ زِيَادِ حدَّثنَا الأعْمَشُ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَجِيءُ نُوحٌ وأُمَّتُهُ فيَقُولُ الله تَعَالَى هَلْ بَلَّغْتَ فيَقُولُ نَعَمْ أَي رَبِّ فيَقُولُ لأِمَّتِهِ هلْ بَلَّغَكُمْ فيَقُولُونَ لاَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ فيَقُولُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأُمَّتُهُ فَنَشْهَدُ أنَّهُ قَدْ بَلَّغَ وهْوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (الْبَقَرَة: 341) . والوَسَطُ العَدْلُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يَجِيء نوح وَأمته) وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات وَأَبُو سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن يُوسُف بن رَاشد، وَفِي الِاعْتِصَام عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن بشار، وغندر، وَعبد بن حميد وَعَن أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن آدم وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الزّهْد عَن أبي كريب وَأحمد بن سِنَان وأوله: يَجِيء النَّبِي وَمَعَهُ الرجل.
قَوْله: (أَي رب) ، يَعْنِي: يَا رَبِّي. قَوْله: (لَا مَا جَاءَنَا من نَبِي) ، فَإِن قلت: قَالَ الله تَعَالَى: {الْيَوْم نختم على أَفْوَاههم} (ي س: 56) . فَكيف يَتَكَلَّمُونَ بذلك؟ قلت: فِي يَوْم الْقِيَامَة مَوَاطِن: موطن يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، وموطن يسكتون. قَوْله: (فَيَقُول مُحَمَّد) ، أَي: يشْهد مُحَمَّد وَأمته. قَوْله: (فنشهد) بنُون الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر. قَوْله: (أَنه) أَي: أَن نوحًا قد بلغ إِلَيْهِم مَا أَمر بِهِ. وَبَاقِي الحَدِيث عِنْد غَيرهم، قَالَ: فَيَقُولُونَ: كَيفَ تشهد علينا أمة مُحَمَّد وَنحن أول الْأُمَم وهم آخِرهم، فَيَقُولُونَ: نشْهد أَن الله بعث إِلَيْنَا رَسُولا وَأنزل عَلَيْهِ الْكتاب، فَكَانَ فِيمَا أنزل علينا خبركم،

(15/219)


قَوْله: (وَالْوسط الْعدْل) ، وَيُقَال: وسطا خياراً وَهِي صفة بالإسم الَّذِي هُوَ وسط الشَّيْء، وَلذَلِك اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِد وَالْجمع والمذكر والمؤنث.

0433 - حدَّثني إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدٍ حدَّثنا أَبُو حَيَّانَ عنْ أبِي زُرْعَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي دَعْوَةٍ فَرُفِعَ إلَيْهِ الذِّرَاعُ وكانَتْ تُعْجِب فنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً وَقَالَ أنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ هَلْ تَدْرُونَ بِمَنْ يَجْمَعُ الله الأوَّلِينَ والآخَرِينَ فِي صَعِيدٍ واحِدٍ فيُبْصِرُهُمُ النَّاظِرُ ويُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ فيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ ألاَ تَرَوْنَ إلَى مَا أنْتُمْ فِيهِ إِلَى مَا بَلَغَكُمْ ألاَ تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أبُوكُمْ آدَمُ فَيأتُونَهُ فيَقُولُونَ يَا آدَمُ أنْتَ أَبُو البَشَرِ خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ ونَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وأمَرَ المَلائِكَةَ فسَجَدُوا لَكَ وأسْكنَكَ الجَنَّةَ ألاَ تَشْفَعُ لَنَا إلَى رَبِّكَ ألاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا فَيقُولُ رَبِّي غَضِبَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قبلَهُ مِثْلَهُ ولاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ونَهَانِي عنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي اذْهَبُوا إلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَيأتُونَ نُوحَاً فيَقُولُونَ يَا نوحُ أنْتَ أوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أهْلِ الأرْضِ وسَمَّاكَ الله عَبْدَاً شَكُوراً أمَا تَرَى إلَى مَا نَحْنُ فِيهِ ألاَ تَرَى إلَى مَا بَلَغنا ألاَ تَشْفَعُ لَنَا إلَى رَبِّكَ فيَقُولُ رَبِّي غَضِبَ اليَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ولاَ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ولاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ نَفْسِي نَفْسِي ائْتُوا النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيأتُونِي فأسْجُدُ تَحْتَ العَرْشِ فَيُقالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رأسَكَ واشْفَعْ تُشَفَّعْ وسَلْ تُعْطَهْ: قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدٍ لاَ أحْفَظُ سائِرَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَيَقُولُونَ: يَا نوح أَنْت أول الرُّسُل إِلَى أهل الأَرْض) . وَإِسْحَاق بن نصر هُوَ إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم بن نصر أَبُو إِبْرَاهِيم السَّعْدِيّ البُخَارِيّ، وَكَانَ ينزل بِالْمَدِينَةِ بِبَاب سعد، فَالْبُخَارِي تَارَة يَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق ابْن نصر فينسبه إِلَى جده، وَتارَة يَقُول حَدثنَا: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر فينسبه إِلَى أَبِيه وَهُوَ من أَفْرَاده، وَمُحَمّد بن عبيد الطنافسي الْحَنَفِيّ الْإِيَادِي الأحدب الْكُوفِي، وَأَبُو حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: يحيى بن سعيد ابْن حَيَّان التَّيْمِيّ، وَأَبُو زرْعَة، بِضَم الزَّاي وَسُكُون الرَّاء وبالعين الْمُهْملَة: واسْمه هرم بن عَمْرو بن جرير بن عبد الله البَجلِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَهنا عَن إِسْحَاق بن نصر عَن أبي أُسَامَة، وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن نمير. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن سُوَيْد بن نصر وَفِي الْأَطْعِمَة عَن وَاصل ابْن عبد الْأَعْلَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن وَاصل بن عبد الْأَعْلَى مُخْتَصرا، وَفِي التَّفْسِير بِطُولِهِ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد.
قَوْله: (فِي دَعْوَة) ، بِفَتْح الدَّال: أَي: فِي ضِيَافَة، وبكسرها: فِي النّسَب، وَبِضَمِّهَا فِي الْحَرْب. قَوْله: (فَرفع إِلَيْهِ الذِّرَاع) ، قَالَ ابْن التِّين: وَالصَّوَاب: رفعت، وَكَذَا فِي الْأُصُول: رفعت، إلاَّ أَنه جَاءَ فِي الْمُؤَنَّث الَّذِي لَا فرج لَهُ: أَنه يجوز تذكيره، والذراع مُؤَنّثَة، وَلذَلِك قَالَ: وَكَانَت تعجبه. قَالَ: وَهَذَا على مَا فِي بعض النّسخ بِضَم الذِّرَاع، وَأما بنصبها فَبين، وَيكون رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ رافعها. قَوْله: (تعجبه) ، أَي: كَانَت الذِّرَاع تعجب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ إعجابه لَهَا ومحبته لَهَا لنضجها وَسُرْعَة استمرائها مَعَ زِيَادَة لذتها وحلاوة مذاقها وَبعدهَا عَن مَوَاضِع الْأَذَى. قَوْله: (فنهس) ، أَكثر الروَاة على إهمالها، وَفِي رِوَايَة ابْن ماهان وَأبي ذَر بالإعجام، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، فالنهس بِالْمُهْمَلَةِ

(15/220)


الْأَخْذ بأطراف الْأَسْنَان، وبالمعجمة الْأَخْذ بالأضراس، وَقَالَ الْقَزاز: النهس أَخذ اللَّحْم بالأسنان بالفم، وَقيل: هُوَ الْقَبْض على اللَّحْم ونثره عِنْد أكله. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هما وَاحِد وَهُوَ: أَخذ اللَّحْم بالفم، وَخَالفهُ أَبُو زيد فَذكر مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (أَنا سيد الْقَوْم يَوْم الْقِيَامَة) ، أَي: الَّذِي يفوق قومه ويفزع إِلَيْهِ فِي الشدائد، وَخص يَوْم الْقِيَامَة لارْتِفَاع سؤدده وَتَسْلِيم جَمِيعهم لَهُ، وَلكَون آدم وَجَمِيع وَلَده تَحت لوائه، ذكره عِيَاض. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَتَقْيِيد سيادته بِيَوْم الْقِيَامَة لَا يُنَافِي السِّيَادَة فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا خصّه بِهِ لِأَن هَذِه الْقِصَّة قصَّة يَوْم الْقِيَامَة، قلت: إِذا كَانَ هُوَ سيداً يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ أعظم من الدُّنْيَا فبالأولى أَن يكون سيدا فِي الدُّنْيَا أَيْضا. فَإِن قلت: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تخَيرُوا بَين الْأَنْبِيَاء، وَقَالَ: لَا تفضلُونِي على يُونُس، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: أُجِيب كَانَ هَذَا قبل إِعْلَامه بسيادة ولد آدم والفضائل لَا تنسخ إِجْمَاعًا فَبَقيت القَبْلية، أَو الَّذِي قَالَ فِي يُونُس من: بَاب التَّوَاضُع. وَقد قيل: إِن الْمَنْع فِي ذَات النُّبُوَّة والرسالة، فَإِن الْأَنْبِيَاء فِيهَا على حد وَاحِد، إِذْ هِيَ شَيْء وَاحِد لَا تتفاضل، وَإِنَّمَا التَّفَاضُل فِي زِيَادَة الْأَحْوَال والكرامات والرتب والألطاف. قَوْله: (فِي صَعِيد وَاحِد) أَي: أَرض وَاسِعَة مستوية. قَوْله: (فَيبْصرُهُمْ النَّاظر) أَي: يُحِيط بهم بصر النَّاظر لَا يخفى عَلَيْهِ مِنْهُم شَيْء لِاسْتِوَاء الأَرْض وَعدم الْحجاب، ويروى: فَيَنْفُذهُمْ الْبَصَر، بِفَتْح الْيَاء وبالذال الْمُعْجَمَة على الْأَكْثَرين، ويروى بِضَم الْيَاء، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَعْنَاهُ ينفذهم بصر الرَّحْمَن حَتَّى يَأْتِي عَلَيْهِم كلهم. قلت: هُوَ كِنَايَة عَن استيعابهم بِالْعلمِ، وَالله لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء، وَالصَّوَاب قَول من قَالَ: فَيبْصرُهُمْ النَّاظر من الْخلق، وَعَن أبي حَاتِم: إِنَّمَا هُوَ بدال مُهْملَة، أَي: يبلغ أَوَّلهمْ وَآخرهمْ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَالصَّحِيح فتح الْيَاء مَعَ الإعجام. قَوْله: (وَيسْمعهُمْ) بِضَم الْيَاء من الإسماع. قَوْله: (إِلَى مَا بَلغَكُمْ) ، بدل من قَوْله: (إِلَى مَا أَنْتُم فِيهِ) قَوْله: (أَلا تنْظرُون؟) كلمة: أَلا، فِي الْمَوْضِعَيْنِ للعرض والتحضيض، وَهِي بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام. قَوْله: (من روحه) ، الْإِضَافَة إِلَى الله لتعظيم الْمُضَاف وتشريفه، كَقَوْلِهِم: عبد الْخَلِيفَة كَذَا. قَوْله: (وَمَا بلغنَا) ، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة هُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ تقدم مَا بَلغَكُمْ، وَلَو كَانَ بِسُكُون الْغَيْن لقَالَ: بَلغهُمْ، وَقيل بِالسُّكُونِ وَله وَجه. قَوْله: (رَبِّي غضب) المُرَاد من الْغَضَب لَازمه وَهُوَ إِرَادَة إِيصَال الْعَذَاب، وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد من غضب الله مَا يظْهر من انتقامه فِيمَن عَصَاهُ، وَمَا يُشَاهِدهُ أهل الْجمع من الْأَهْوَال الَّتِي لم تكن وَلَا يكون مثلهَا، وَلَا شكّ أَنه لم يَقع قبل ذَلِك الْيَوْم مثله وَلَا يكون بعده مثله. قَوْله: (نَفسِي نَفسِي) ، أَي: نَفسِي هِيَ الَّتِي تسْتَحقّ أَن يشفع لَهَا، إِذْ الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر إِذا كَانَا متحدين فَالْمُرَاد بعض لوازمه، أَو قَوْله: نَفسِي مُبْتَدأ وَالْخَبَر مَحْذُوف. قَوْله: (إذهبوا إِلَى نوح) بَيَان لقَوْله: (إذهبوا إِلَى غَيْرِي) . قَوْله: (أَنْت أول الرُّسُل) ، إِنَّمَا قَالُوا لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ آدم الثَّانِي، أَو لِأَنَّهُ أول رَسُول هلك قومه، أَو لِأَن آدم وَنَحْوه خرج بقوله: إِلَى أهل الأَرْض لِأَنَّهَا لم تكن لَهَا أهل حِينَئِذٍ، أَو لِأَن رسَالَته كَانَت بِمَنْزِلَة التربية للأولاد. وَفِي (التَّوْضِيح) : قَوْلهم: أَنْت أول الرُّسُل إِلَى أهل الأَرْض، هُوَ الصَّحِيح، قَالَه الدَّاودِيّ، وروى أَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مُرْسل، وَرُوِيَ فِي ذَلِك، حديثٌ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: هُوَ نَبِي وَلَيْسَ برَسُول، وَقيل: رَسُول وَلَيْسَ نَبيا. انْتهى. وَقَالَ ابْن بطال: آدم لَيْسَ برَسُول، نَقله عَنهُ الْكرْمَانِي. قلت: الصَّحِيح أَنه نَبِي وَرَسُول، وَقد نزل عَلَيْهِ جِبْرِيل وَأنزل عَلَيْهِ صحفاً وَعلم أَوْلَاده الشَّرَائِع، وَقَول ابْن بطال غير صَحِيح، وَأما قَول من قَالَ: إِنَّه رَسُول وَلَيْسَ بِنَبِي، فَظَاهر الْفساد، لِأَن كل رَسُول نَبِي، وَمن لَازم الرسَالَة النُّبُوَّة. قَوْله: (أما ترى؟) بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم وَهِي حرف استفتاح بِمَنْزِلَة: ألاَ، وَكلمَة: ألاَ بعْدهَا للعرض والتحضيض. قَوْله: (ائْتُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، هُوَ نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بيَّن ذَلِك بقوله: (فَيَأْتُوني) أَصله: فيأتونني، وَحذف نون الْجمع بِلَا جازم وَلَا ناصب لُغَة. قَوْله: (تشفع) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التشفيع، وَهُوَ قبُول الشَّفَاعَة. قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد بن عبيد: لَا أحفظ سائره) ، أَي: سَائِر الحَدِيث، أَي: بَاقِيه، لِأَنَّهُ مطول علم من سَائِر الرِّوَايَات، وَقد بَينهَا غَيره وحفظها حَتَّى قَالَ ابْن التِّين: وَقَول نوح: ائْتُوا النَّبِي، وهم إِنَّمَا دلهم على إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَإِبْرَاهِيم دلهم على مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ومُوسَى دلهم على عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعِيسَى دلهم على نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَذكر الْغَزالِيّ، رَحمَه الله: أَن بَين إتيانهم من آدم إِلَى نوح ألف سنة، وَكَذَا إِلَى كل نَبِي حَتَّى يَأْتُوا نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: وَالرسل يَوْم الْقِيَامَة على مَنَابِر، وَالْعُلَمَاء الْعَامِلُونَ على كراسي، وهم رُؤَسَاء أهل الْمَحْشَر، وَمن يشفع للنَّاس مِنْهُم رُؤَسَاء أَتبَاع الرُّسُل، وَأول الشفعاء يَوْم الْقِيَامَة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ

(15/221)


وَسلم. فَإِن قلت: روى أَبُو الزَّعْرَاء عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: نَبِيكُم رَابِع أَرْبَعَة: جِبْرِيل. ثمَّ إِبْرَاهِيم ثمَّ مُوسَى أَو عِيسَى. ثمَّ نَبِيكُم. قلت: قَالَ البُخَارِيّ: أَبُو الزَّعْرَاء لَا يُتَابع عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُور الْمَعْرُوف أَن نَبينَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أول شَافِع.

4 - (بابٌ {وإنَّ إلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إذْ قالَ لِقَوْمِهِ ألاَ تَتَّقُونَ أتدْعُونَ بَعْلاً وتَذَرُونَ أحْسَنَ الخَالِقِينَ الله رَبُّكُمْ وربُّ آبائِكُمْ الأوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فإنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إلاَّ عِبادَ الله المُخْلِصِينَ وتَرْكُنا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} (الصافات: 32) . قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ يُذْكَرُ بِخَيْرٍ {سَلاَمٌ علَى اليَاسِينَ إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (الصافات: 031) .)

أَي: هَذَا بَاب مَعْقُود فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن الياس ... } (الصافات: 031) . إِلَى آخِره، إلْيَاس هُوَ ابْن نسبي بن فنحَاص بن الْعيزَار بن هَارُون بن عمرَان، قَالَه إِبْنِ إِسْحَاق، وَعَن ابْن عَبَّاس: إلْيَاس بن ياسين بن الْعيزَار بن هَارُون، وَبِه قَالَ مقَاتل، وَحكى الثَّعْلَبِيّ عَن ابْن مَسْعُود: إِن إلْيَاس هُوَ إِدْرِيس، كَمَا أَن يَعْقُوب هُوَ إِسْرَائِيل، قَالَ عِكْرِمَة: وَكَذَا فِي مصحف ابْن مَسْعُود: وَأَن إِدْرِيس لمن الْمُرْسلين، وَقيل: هُوَ نَبِي من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ عَم ليسع، وَقَالَ آخَرُونَ: بَعثه الله إِلَى بني إِسْرَائِيل بعد مهلك حزقيل، وَقَالَ وهب: إِن الله لما قبض حزقيل وَعظم فِي بني إِسْرَائِيل الْأَحْدَاث ونسوا مَا كَانَ من عهد الله إِلَيْهِم حَتَّى نصبوا الْأَوْثَان وعبدوها، فَبعث

(15/222)


الله إِلَيْهِم إلْيَاس رَسُولا، وَكَانَ إلْيَاس مَعَ ملك من مُلُوك بني إِسْرَائِيل اسْمه: جاب، وَله امْرَأَة اسْمهَا أزبيل، وَكَانَ يسمع مِنْهُ ويصدقه، وَكَانَ بَنو إِسْرَائِيل قد اتَّخذُوا صنماً يُقَال لَهُ: بعل، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: سَمِعت بعض أهل الْعلم يَقُول: مَا كَانَ بعل إلاَّ امْرَأَة يعبدونها من دون الله، فَجعل إلْيَاس يَدعُوهُم إِلَى الله وهم لَا يسمعُونَ مِنْهُ شَيْئا إلاَّ مَا كَانَ من ذَلِك الْملك، ثمَّ إِنَّه قَالَ يَوْمًا لإلياس: وَالله مَا أرى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ إلاَّ بَاطِلا، وَالله مَا أَدْرِي فلَانا وَفُلَانًا، فعدد ملوكاً مثله من مُلُوك بني إِسْرَائِيل مُتَفَرّقين بِالشَّام يعبودن الْأَوْثَان، إلاَّ على مثل مَا نَحن عَلَيْهِ: يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ مَا ينقص دنياهم فيزعمون أَن إلْيَاس اسْترْجع ثمَّ رفضه، وَخرج عَنهُ وَفعل ذَلِك الْملك مَا فعل أَصْحَابه من عبَادَة الْأَوْثَان، فَقَالَ إلْيَاس: أللهم إِن بني إِسْرَائِيل قد أَبَوا إلاَّ الْكفْر فَذكر لي أَنه أوحى إِلَيْهِ أَنا جعلنَا أَمر أَرْزَاقهم بِيَدِك حَتَّى تكون أَنْت الَّذِي تَأذن لَهُم فِي ذَلِك، فَقَالَ إلْيَاس: أللهم أمسك عَنْهُم الْمَطَر، فحبس عَنْهُم ثَلَاث سِنِين حَتَّى هَلَكت الْمَوَاشِي والهوام وَالشَّجر، وَلما دَعَا عَلَيْهِم استخفى شَفَقَة على نَفسه مِنْهُم، فَكَانَ حَيْثُ مَا كَانَ وضع لَهُ رزق، وَكَانُوا إِذا وجدوا ريح الْخبز فِي مَكَان قَالُوا: لقد دخل النَّاس هَذَا الْمَكَان فيطلبونه ويلقى أهل ذَلِك الْمنزل مِنْهُم شرا، ثمَّ إِنَّه اسْتَأْذن الله فِي الدُّعَاء لَهُم، فَأذن لَهُ، فَجَاءَهُمْ فَقَالَ: إِن كُنْتُم تجيبون أَن الَّذِي أدعوكم إِلَيْهِ هُوَ الْحق وأنكم على بَاطِل فأخرجوا أوثانكم وَمَا تَعْبدُونَ واجأروا إِلَيْهِم، فَإِن اسْتَجَابُوا لكم فَهُوَ كَمَا تَقولُونَ، وَإِن هِيَ لم تفعل علمْتُم أَنكُمْ على بَاطِل، وادعو الله تَعَالَى إِلَى أَن يفرج عَنْكُم مَا أَنْتُم فِيهِ. قَالُوا: أنصفت، فَخَرجُوا بأوثانهم فدعوها فَلم تستجب لَهُم، فعرفوا مَا هم عَلَيْهِ من الضَّلَالَة، ثمَّ سَأَلُوا إلْيَاس الدُّعَاء فَدَعَا ربه، قَالَ: فَمُطِرُوا بساعتهم فحسنت بِلَادهمْ فَلم يبرجوا وَلم يرجِعوا وَأَقَامُوا على أَخبث مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَدَعَا الله تَعَالَى أَن يقبضهُ، فَكَسَاهُ الريش وَألبسهُ النُّور وَقطع عَنهُ لَذَّة الْمطعم وَالْمشْرَب، فَكَانَ إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً يطير مَعَ الْمَلَائِكَة، وَذكر الْحَاكِم عَن أنس مصححاً: أَنه اجْتمع مَعَ سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بعض السفرات، وَخَالفهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَصْحِيحه. قَوْله: (إِذْ قَالَ) أَي: اذكر حِين قَالَ إلْيَاس لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُون عَذَاب الله بِالْإِيمَان بِهِ؟ قَوْله: (أَتَدعُونَ بعلاً) ، أَي: أتعبدون بعلاً، وَهُوَ اسْم لصنم كَانَ لَهُم يعبدونه فَلذَلِك سميت مدينتهم: بعلبك، وَقَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة وَالسُّديّ: البعل الرب بلغَة أهل الْيمن، وَهِي رِوَايَة سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وَكَانَ من ذهب، طوله عشرُون ذِرَاعا وَله أَرْبَعَة أوجه فتنُوا بِهِ وعظموه، وَله أَرْبَعمِائَة سَادِن جعلوهم أَنْبيَاء، فَكَانَ إِبْلِيس لَعنه الله تَعَالَى يدْخل فِي جَوْفه وَيتَكَلَّم بشريعة الضَّلَالَة والسدنة يحفظونها ويعلمونها النَّاس وهم أهل بعلبك من بِلَاد الشَّام. قَوْله: (وتذرون) أَي: تتركون (الله أحسن الْخَالِقِينَ) فَلَا تَعْبدُونَ الله ربكُم، قَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَخلف وَيَعْقُوب: الله، بِالنّصب وينصبون: ربكُم وَرب آبائكم، على الْبَدَل، وَالْبَاقُونَ برفعها على الِاسْتِئْنَاف. قَوْله: (فَكَذبُوهُ) أَي: إلْيَاس. قَوْله: (فَإِنَّهُم لمحضرون) فِي الْعَذَاب وَالنَّار إلاَّ عباد الله المخلصين من قومه فَإِنَّهُم نَجوا من الْعَذَاب. قَوْله: {سَلام على الياسين} (الصافات: 031) . قَرَأَ ابْن عَامر وَنَافِع وَيَعْقُوب: آل ياسين، بِالْمدِّ وَالْبَاقُونَ إلياسين بِالْقطعِ والقطر فَمن قَرَأَ: آل ياسين، بِالْمدِّ فَإِنَّهُ أَرَادَ آل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: أَرَادَ الياس وَهُوَ إليق بسياق الْآيَة، وَمن قَرَأَ: الياسين، فقد قيل: إِنَّهَا لُغَة فِي إلْيَاس مثل: إِسْمَاعِيل وإسماعين وَمِيكَائِيل وميكائين، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: قرىء على: إلياسين وإدريسين وإدراسين على أَنَّهَا لُغَات فِي إلْيَاس وَإِدْرِيس، وَلَعَلَّ لزِيَادَة الْيَاء وَالنُّون فِي السريانية معنى، وَعَن بَعضهم أَنه قرىء: إلْيَاس، بترك الْهمزَة فِي ألف: إلْيَاس، وَيجْعَل الْألف وَاللَّام داخلين على: ياس، للتعريف وَيَقُولُونَ كَانَ اسْمه: ياس فَدخلت عَلَيْهِ الْألف وَاللَّام.
ويُذْكَرُ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ وابنِ عَبَّاسٍ أنَّ إلْيَاسَ هُوَ إدْرِيسُ
ذكره مُعَلّقا بِصِيغَة التمريض، وَوصل تَعْلِيق عبد الله بن مَسْعُود: عبد بن حميد وَابْن أبي حَاتِم عَنهُ، وَتَعْلِيق ابْن عَبَّاس وَصله جرير فِي (تَفْسِيره) عَن الضَّحَّاك عَنهُ، وَاسْتدلَّ بِهَذَا ابْن الْعَرَبِيّ: أَن إِدْرِيس لم يكن جدا لنوح، عَلَيْهِ السَّلَام، وَإِنَّمَا هُوَ من بني إِسْرَائِيل، لِأَن إلْيَاس قد ورد أَنه من بني إِسْرَائِيل، وَاسْتدلَّ على ذَلِك أَيْضا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْمِعْرَاج: مرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالح، وَالْأَخ الصَّالح، وَلَو كَانَ من أحد أجداده لقَالَ لَهُ، كَمَا قَالَ لَهُ آدم وَإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِمَا السَّلَام: بالابن الصَّالح.

(15/223)


قيل: يُمكن أَنه قَالَ ذَلِك على سَبِيل التَّوَاضُع والتلطف، وَقد ذكرنَا عَن قريب كَيفَ سَاق ابْن إِسْحَاق نسبه الْكَرِيم، وَفِيه إِدْرِيس وَهُوَ: خنوخ، وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْد الْجُمْهُور، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.