عمدة القاري شرح صحيح البخاري

42 - (بابُ قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ {وهَلْ أتَاكَ حَديثُ مُوسَى إذْ رَأى نَارا} إِلَى قَوْلِهِ {بالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} (طه: 9 21) .)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى إِذْ رأى نَارا فَقَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا لعلِّي آتيكم مِنْهَا بقبس أَو أجد على النَّار هدى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي يَا مُوسَى إِنِّي أَنا رَبك فاخلع نعليك إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس طوى} . قَوْله: (وَهل أَتَاك) أَي: قد أَتَاك، لِأَن: هَل، هُنَا لَا تلِيق أَن تكون للاستفهام، لِأَنَّهُ لَا يجوز على الله تَعَالَى. قَوْله: (إِذْ رأى) أَي: حِين رأى، عَن وهب: اسْتَأْذن مُوسَى شعيباً فِي الرُّجُوع إِلَى أمه فَخرج إِلَى أَهله فولد لَهُ فِي الطَّرِيق ابْن فِي لَيْلَة شَاتِيَة مظْلمَة مثلجة، فحاد مُوسَى عَن الطَّرِيق وقدح النَّار فَلم تور المقدحة شَيْئا، فَبينا هُوَ يزاول ذَلِك أبْصر نَارا من بعيد عَن يسَار الطَّرِيق، قيل: كَانَت لَيْلَة الْجُمُعَة، فَقَالَ مُوسَى لأَهله: امكثوا مَكَانكُمْ إِنِّي آنست أَي أَبْصرت نَارا لعَلي آتيكم مِنْهَا أَي: من النَّار بقبس أَي: بشعلة، القبس: النَّار المقتبسة فِي رَأس عود أَو فَتِيلَة أَو غَيرهمَا. قَوْله: (أَو أجد على النَّار هدى) ، يَعْنِي: من يدلني على الطَّرِيق، أَو يَنْفَعنِي بهداه فِي أَبْوَاب الدّين. قَوْله: (فَلَمَّا أَتَاهَا) ، أَي: فَلَمَّا أَتَى مُوسَى النَّار رأى شَجَرَة خضراء من أَسْفَلهَا إِلَى أَعْلَاهَا كَأَنَّهَا نَار بَيْضَاء تتقد، وَسمع تَسْبِيح الْمَلَائِكَة، وَرَأى نورا عَظِيما فخاف فألقيت عَلَيْهِ السكينَة، وَنُودِيَ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنا رَبك فاخلع نعليك} ، قيل: سَبَب أمره بخلع نَعْلَيْه أَنَّهُمَا كَانَتَا من جلد حمَار ميت غير مدبوغ، فَخلع مُوسَى نَعْلَيْه وألقاهما من وَرَاء الْوَادي. قَوْله: (إِنَّك بالوادي الْمُقَدّس) ، أَي: المطهر، طوى إسم وادٍ، قَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو بِالتَّنْوِينِ منصرفاً بِتَأْوِيل الْمَكَان، وَالْبَاقُونَ بِغَيْر تَنْوِين غير منصرف بِتَأْوِيل الْبقْعَة، وَقيل للوادي الْمُقَدّس: طوى طوى، مرَّتَيْنِ أَي: قدس، مرَّتَيْنِ، وَقيل: نُودي نداءين.
آنَسْتُ أبْصَرْتُ
يَعْنِي: معنى آنست أَبْصرت من الإيناس، وَهُوَ الإبصار الْبَين الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ، وَمِنْه إِنْسَان الْعين: لِأَنَّهُ يتَبَيَّن بِهِ الشَّيْء، وَالْإِنْس لظهورهم، وَقيل: الإيناس: إبصار مَا يؤنس بِهِ.
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ المُقَدَّسُ الْمُبَارَكُ
وَقع هَذَا من قَول ابْن عَبَّاس إِلَى آخر مَا ذكره من تَفْسِير الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي والكشميهني

(15/285)


خَاصَّة، وَلم يذكرهُ جَمِيع رُوَاة البُخَارِيّ هُنَا، وَإِنَّمَا ذكرُوا بعضه فِي تَفْسِير سُورَة طه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَذكر أَمْثَال هَذَا فِي هَذَا الْكتاب الْعَظِيم الشَّأْن اشْتِغَال بِمَا لَا يعنيه، وَقَول ابْن عَبَّاس: وَصله عَليّ بن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
طُوًى اسْمُ الوَادِي
وَقد ذَكرْنَاهُ، وروى الطَّبَرِيّ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَنه سمي طوى لِأَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، طواه لَيْلًا.
سِيرَتَها حالَتَهَا

أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سنعيدها سيرتها الأولى} (طه: 12) . وَفسّر السِّيرَة بالحالة، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، وَعَن مُجَاهِد وَقَتَادَة: سيرتها: هيئتها.
والنُّهَى التُّقَى

أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لآيَات لأولي النهى} (طه: 45 و 821) . وَفسّر النَّهْي: بالتقى، كَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، فِي قَوْله: لأولي النهى، قَالَ: لأولي التقى، وَعَن قَتَادَة: لأولي الْوَرع، وَقَالَ الطَّبَرِيّ، خص أولي النهى لأَنهم أهل التفكر وَالِاعْتِبَار.
بِمَلْكِنا بأمْرِنَا

أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا أخلفنا موعدك بملكنا} (طه: 78) . وَفَسرهُ بقوله: بأمرنا، وَهَكَذَا روى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَمن طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة: بملكنا، أَي: بطاقتنا، وَكَذَا قَالَ السّديّ.
هَوَى شَقِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يحلل عَلَيْهِ غَضَبي فقد هوى} (طه: 18) . وَفَسرهُ بِلَفْظ: شقي، وَكِلَاهُمَا ماضيان، وَكَذَا رُوِيَ عَن الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم.
فارِغاً إلاَّ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا} . ثمَّ فسره بقوله: إلاَّ من ذكر مُوسَى، يَعْنِي: لم يخل قَلبهَا عَن ذكره، وَهَذَا وَصله سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي فِي تَفْسِير ابْن عُيَيْنَة من طَرِيق عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، وَلَفظه: {وَأصْبح فؤاد أم مُوسَى فَارغًا} . من كل شَيْء إلاَّ من ذكر مُوسَى، وَكَذَا أخرجه الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ أَبُو عبيد: فَارغًا من الْحزن لعلمها أَنه لم يغرق.
رِدْءًا كَيْ يُصَدِّقَنِي
أَشَارَ بقوله (ردْءًا) إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأخي هَارُون هُوَ أفْصح مني لِسَانا فَأرْسلهُ معي ردْءًا يصدقني} (الْقَصَص: 43) . ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَن التَّقْدِير فِي قَوْله: يصدقني، كي يصدقني وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق السّديّ: كَيْمَا يصدقني، وَمن طَرِيق مُجَاهِد وَقَتَادَة: ردْءًا، أَي: عوناً، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: معينا، يُقَال: أردأت فلَانا على عدوة أَي: أكنفته وأعنته وصرت لَهُ كنفاً.
ويُقَالُ مُغِيثاً أوْ مُعِينَاً
أَي: يُقَال فِي تَفْسِير ردْءًا مغيثاً، بالغين الْمُعْجَمَة والثاء الْمُثَلَّثَة من الإغاثة. قَوْله: (أَو معينا) أَي: أَو يُقَال معينا بِالْعينِ الْمُهْملَة من الْإِعَانَة وَهِي المساعدة.
يَبْطُشُ ويَبْطِشُ

(15/286)


أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن لفظ (يبطش) فِيهِ لُغَتَانِ: إِحْدَاهمَا كسر الطَّاء، وَالْأُخْرَى ضمهَا. وَهُوَ فِي قَوْله: {فَلَمَّا أَرَادَ أَن يبطش بِالَّذِي هُوَ عَدو لَهما} (الْقَصَص: 91) . وَالْكَسْر هِيَ: الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة هُنَا، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) . وَالضَّم قِرَاءَة الْحسن وَابْن جَعْفَر، رَحِمهم الله تَعَالَى.
يأتَمِرُونَ يَتَشَاوَرُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمَلأ يأتمرون بك ليقتلوك} (الْقَصَص: 02) . وَفَسرهُ بقوله: يتشاورون، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ يَأْمر بَعضهم بَعْضًا.
والجَذْوَةُ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنَ الخَشَبِ لَيْسَ فِيهَا لَهَبٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو جذوة من النَّار} (الْقَصَص: 92) . ثمَّ فَسرهَا بِمَا ذكره أَبُو عُبَيْدَة، والجذوة مُثَلّثَة الْجِيم.
سَنَشُدُّ سَنُعِينُكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سنشد عضك بأخيك} (الْقَصَص: 53) . وَفَسرهُ بقوله: سنعينك، وَفَسرهُ أَبُو عُبَيْدَة بقوله: سنقويك بِهِ ونعينك، يُقَال: شدّ فلَان عضد فلَان إِذا أَعَانَهُ.
كُلَّمَا عَزَّزتَ شَيْئَاً فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُدَاً
هَذَا من بَقِيَّة تَفْسِير: سنشد عضدك، وَهُوَ ظَاهر.
وَقَالَ غَيْرُهُ كُلَّمَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ أوْ فِيهِ تَمْتَمَةٌ أوْ فأفَأةٌ فَهْيَ عُقْدَة
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى تَفْسِير: عقدَة، فِي قَوْله تَعَالَى: {رب اشرح لي صَدْرِي وَيسر لي أَمْرِي واحلل عقدَة من لساني} (طه: 52 72) . وروى الطَّبَرِيّ بِإِسْنَادِهِ من طَرِيق السّديّ، قَالَ: لما تحرّك مُوسَى أَخَذته آسِيَة امْرَأَة فِرْعَوْن ترقصه ثمَّ ناولته لفرعون فَأخذ مُوسَى بلحية فِرْعَوْن فنتفها، فاستدعى فِرْعَوْن بالذباحين، فَقَالَت آسِيَة: إِنَّه صبي لَا يعقل، فَوضعت لَهُ جمراً وياقوتاً، وَقَالَت: إِن أَخذ الْيَاقُوت فاذبحه، وَإِن أَخذ الْجَمْر فاعرف أَنه لَا يعقل، فجَاء جِبْرِيل، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَطرح فِي يَده جَمْرَة، فطرحها فِي فِيهِ، فاحترقت لِسَانه، فَصَارَت فِي لِسَانه عقدَة من يَوْمئِذٍ، وَقيل: لما وضع فِرْعَوْن مُوسَى فِي حجره تنَاول لحيته ومدها ونتف مِنْهَا، وَكَانَت لحيته طَوِيلَة سَبْعَة أشبار، وَكَانَ هُوَ قَصِيرا، وَيُقَال: لطم وَجهه وَكَانَ يلْعَب بَين يَدَيْهِ، وَيُقَال: كَانَ بِيَدِهِ قضيب صَغِير يلْعَب بِهِ فَضرب بِهِ رَأسه فَعِنْدَ ذَلِك غضب غَضبا شَدِيدا وَتَطير مِنْهُ، وَقَالَ: هَذَا عدوي الْمَطْلُوب ثمَّ جرى مَا ذَكرْنَاهُ. فَإِن قلت: كَيفَ لم تحرقه النَّار يَوْم التَّنور الي ألقِي فِيهَا وأحرقت لِسَانه فِي هَذَا الْيَوْم؟ قلت: لِأَنَّهُ قَالَ يَوْمًا لفرعون: يَا بَابا، فَعُوقِبَ لِسَانه وَلم تعاقب يَده لِأَنَّهَا مدت لحية فِرْعَوْن، وَلِهَذَا ظَهرت المعجزة فِي الْيَد دون اللِّسَان. {تخرج بَيْضَاء من غير سوء} (طه: 22، النَّمْل: 21، الْقَصَص: 23) . وَقيل: لم يَحْتَرِق فِي التَّنور ليدوم لَهُ الْأنس بَينه وَبَين النَّار لَيْلَة التكليم، وَقيل: إِنَّمَا لم تحترق يَده ليجاهد بهَا فِرْعَوْن بِحمْل الْعَصَا. قَوْله: (تمتمة) هِيَ التَّرَدُّد فِي النُّطْق بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق، قَوْله: (أَو فأفأة) هِيَ التَّرَدُّد فِي النُّطْق بِالْفَاءِ.
أزْرِي ظَهْرِي
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أشدد بِهِ أزري وأشركه فِي أَمْرِي} (طه: 13) . وَفسّر الأزر بِالظّهْرِ، كَذَا روى الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس.
فَيُسْحِتَكُمْ فَيُهْلِكَكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فيسحتكم بِعَذَاب وَقد خَابَ من افترى} (طه: 16) . وَفسّر: فيسحتكم، قَوْله: يهلككم، وَهَكَذَا روى الطَّبَرِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: سحت وأسحت بِمَعْنى، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: سحت أَكثر من أسحت.
الْمُثْلى تأنِيثُ الأمْثَلِ يَقُولُ بِدِينِكُمْ يُقالُ خُذِ المُثْلَى خُذِ الأمْثَلَ

(15/287)


أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} (طه: 36) . ومثلى، على وزن: فعلى، تَأْنِيث الأمثل. قَوْله: (تَقول بدينكم) ، تَفْسِير لقَوْله: بطريقتكم المثلى، يَعْنِي: يُرِيد مُوسَى وَهَارُون أَن يذهبا بدينكم الْمُسْتَقيم، وَقيل: بسنتكم ودينكم وَمَا أَنْتُم عَلَيْهِ، وَقيل: أَرَادَا أهل طريقتكم المثلى، وهم بَنو إِسْرَائِيل لقَوْل مُوسَى: أرسل معي بني إِسْرَائِيل، وَقيل: الطَّرِيقَة اسْم لوجوه النَّاس وأشرافهم الَّذين هم قدوة لغَيرهم. فَيُقَال: هم طَريقَة قَومهمْ، وَقَالَ الشّعبِيّ: مَعْنَاهُ ويصرفا وُجُوه النَّاس إِلَيْهِمَا. وَقَالَ الزّجاج: يَعْنِي المثلى والأمثل ذُو الْفضل الَّذِي بِهِ يسْتَحق أَن يُقَال: هَذَا مثل لِقَوْمِهِ.
ثُمَّ ائْتُوا صَفَّاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فاجمعوا كيدكم ثمَّ ائْتُوا صفا وَقد أَفْلح الْيَوْم من استعلى} (طه: 46) . الْخطاب لقوم فِرْعَوْن من السَّحَرَة يَعْنِي: ائْتُوا جَمِيعًا، وَقيل: صُفُوفا لِأَنَّهُ أهيب فِي صُدُور الرائين، رُوِيَ أَن الْحَسْرَة كَانُوا سبعين ألفا مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم حَبل وعصا، وَقد أَقبلُوا إقبالة وَاحِدَة.
يُقالُ هَلْ أتَيْتَ الصَّفَّ اليَوْمَ يَعْنِي الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ
قَائِل هَذَا التَّفْسِير أَبُو عُبَيْدَة، فَإِنَّهُ قَالَ: المُرَاد من قَوْله: صفا، يَعْنِي: الْمصلى والمجتمع، وَعَن بعض الْعَرَب الفصحاء: مَا اسْتَطَعْت أَن آتِي الصَّفّ أمس، يَعْنِي: الْمصلى، وَوجه صِحَّته أَن يَجْعَل صفا علما لمصلى بِعَيْنِه فَأمروا بِأَن يأتوه أَو يُرَاد ائْتُوا مصلى من الْمُصَليَات.
فأوْجَسَ أضْمَرَ خَوْفاً فَذَهَبَتِ الوَاوُ مِنْ خِيفَةِ لِكَسْرَةِ الخَاءِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فأوجس مِنْهُم خيفة} (طه: 76) . وَفسّر أوجس بقوله: أضمر خوفًا. قَوْله: فَذَهَبت الْوَاو من خيفة لكسرة الْخَاء. قلت: اصْطِلَاح أهل التصريف أَن يُقَال: أصل خيفة خوفة، فقلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا.
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ علَى جُذُوعِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنَّكُم فِي جُذُوع النّخل} (طه: 17) . وَأَشَارَ بقوله: على جُذُوع، أَن كلمة: فِي، فِي قَوْله: {فِي جُذُوع النّخل} (طه: 17) . بِمَعْنى: على، للاستعلاء، وَقَالَ: هم صلبوا الْعَبْدي فِي جُذُوع نَخْلَة.
خَطْبُكَ بالُكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَمَا خَطبك يَا سامري} (طه: 59) . وَفسّر: خَطبك بقوله: بالك، وقصته مَشْهُورَة ملخصها: أَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقبل على السامري، واسْمه مُوسَى بن ظفر، الَّذِي {أخرج لَهُم عجلاً جسداً لَهُ خوار فَقَالَ هَذَا إِلَهكُم وإل هـ مُوسَى} (طه: 88) . قَالَ لَهُ: مَا خَطبك؟ أَي: مَا شَأْنك وحالك الَّذِي دعَاك وحملك على مَا صنعت؟ .
مِساسَ مَصْدَرُ ماسَّه مِساساً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِن لَك فِي الْحَيَاة أَن تَقول لَا مساس} (طه: 79) . أَي: قَالَ مُوسَى للسامري: فَاذْهَبْ من بَيْننَا فَإِن لَك فِي الْحَيَاة، أَي: مَا دمت حَيا أَن تَقول: لَا مساس، أَي: لَا أمِس وَلَا أُمَس، وَهُوَ مصدر: ماسه يماسه مماسة ومساساً، فعاقبه الله فِي الدُّنْيَا بالعقوبة الَّتِي لَا شَيْء أَشد مِنْهَا، وَلَا أوحش وَذَلِكَ أَنه منع من مُخَالطَة النَّاس منعا كلياً، وَحرم عَلَيْهِم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته، وَإِذا اتّفق أَن يماس أحدا رجلا أَو امْرَأَة، حم الماس والممسوس، فتحامى النَّاس وتحاموه وَكَانَ يَصِيح: لَا مساس، وَعَن قَتَادَة: أَن بقاياهم الْيَوْم يَقُولُونَ: لَا مساس.
لَنَنْسِفَنَّهُ لَنُذْرِيَنَّهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لنحرقنه ثمَّ لننسفنه فِي اليم نسفاً} (طه: 79) . وَفسّر قَوْله: لننسفنه، بقوله: لنذرينه من التذرية فِي اليم،

(15/288)


حُكيَ أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَخذ الْعجل فذبحه فَسَالَ مِنْهُ الدَّم لِأَنَّهُ كَانَ قد صَار لَحْمًا ودماً، ثمَّ أحرقه بالنَّار وذراه فِي اليم.
الضَّحى الحَرُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّك لَا تظمأ فِيهَا وَلَا تضحى} (طه: 911) . وَفسّر الضُّحَى بِالْحرِّ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذَا خطاب لآدَم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمعنى: لَا تظمأ: لَا تعطش فِيهَا، أَي: فِي الْجنَّة وَلَا تضحى أَي: وَلَا تشرق للشمس فيؤذيك حرهَا، وَقيل: لَا يصيبك حر الشَّمْس إِذْ لَيْسَ فِيهَا شمس، وَذكر هَذَا هُنَا غير مُنَاسِب لِأَنَّهُ فِي قَضِيَّة آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا تعلق لَهُ بِقصَّة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قُصِّيهِ اتَّبِعِي أثَرَهُ وقَدْ يَكُونُ أنْ تَقُصَّ الكَلاَمَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالَت لأخته قصيه} (الْقَصَص: 11) . وَفسّر: قصيه، بقوله: اتبعي أَثَره، هَكَذَا فسره أهل التَّفْسِير، وَيُقَال: مَعْنَاهُ استعلمي خَبره، وَهُوَ خطاب لأخت مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من أمهَا، وَاسم أُخْته: مَرْيَم بنت عمرَان، وافقها فِي ذَلِك: مَرْيَم بنت عمرَان أم عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله: (وَقد يكون) إِلَى آخِره من جِهَة البُخَارِيّ، أَي: قد يكون معنى القص من: قصّ الْكَلَام، كَمَا فِي قَوْله: {نَحن نقص عَلَيْك أحسن الْقَصَص} (يُوسُف: 3) .
عنْ جُنُبٍ عنْ بُعْد
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فبصرت بِهِ عَن جنب وهم لَا يَشْعُرُونَ} (الْقَصَص: 11) . وَفسّر قَوْله: عَن جنب بقوله: عَن بعد، أَي: بصرت أُخْت مُوسَى مُوسَى عَن بعد، وَالْحَال أَن قوم فِرْعَوْن لَا يعلمُونَ بهَا.
وعَنْ جنابَةٍ وعنِ اجْتِنابٍ واحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى: عَن جنب، وَعَن جَنَابَة وَعَن اجْتِنَاب وَاحِد، فَيُقَال: مَا يأتينا إلاَّ عَن جَنَابَة وَاجْتنَاب، وأصل معنى هَذِه الْمَادَّة يدل على الْبعد، وَمِنْه سمي الْجنب: لبعده عَن الصَّلَاة وَعَن قِرَاءَة الْقُرْآن.
قَالَ مُجاهِدٌ عَلى قَدَرٍ عَلى مَوْعِدٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَبثت سِنِين فِي أهل مَدين ثمَّ جِئْت على قدر يَا مُوسَى} (طه: 04) . وَفسّر قَوْله: على قدر، بقوله: على موعد، وَقيل: على قدر: أَي جِئْت لميقات قدرته لمجيئك قبل خلقك، وَكَانَ مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكث عِنْد شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي مَدين ثمانياً وَعشْرين سنة، عشر سِنِين مِنْهَا مهر امْرَأَته صفورا بنت شُعَيْب، ثمَّ أَقَامَ بعده ثَمَانِيَة عشر سنة عِنْده حَتَّى ولد لَهُ فِي مَدين، ثمَّ جَاءَ على قدر.
لاَ تَنِيَا لاَ تَضْعُفَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تنيا فِي ذكري إذهبا إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى} (طه: 24) . وَفسّر قَوْله تَعَالَى: لَا تنيا، بقوله: لَا تضعفا، يَعْنِي: لَا تفترَّا، من: ونى يني ونياً، وَهُوَ الضعْف والفتور، وَالْخطاب فِيهِ لمُوسَى وَهَارُون.
مَكانَاً سِوًى مَنْصَفٌ بَيْنَهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاجْعَلْ بَيْننَا وَبَيْنك موعداً لَا نخلفه نَحن وَلَا أَنْت مَكَانا سوى} (طه: 85) . وَفسّر قَوْله: مَكَانا سوى، بقوله: منصف بَينهم، قَرَأَ ابْن عَامر وَعَاصِم وَحَمْزَة بِضَم السِّين، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، قيل: مَعْنَاهُ سوياً لَا سَاتِر فِيهِ، وَقيل: مَكَانا عدلا بَيْننَا وَبَيْنك، وَعَن ابْن عَبَّاس مثل مَا فسره بقوله: منصف بَينهم أَي: بَين الْفَرِيقَيْنِ، أَي: يَسْتَوِي مسافته بَين الْفَرِيقَيْنِ فَتكون مَسَافَة كل فريق إِلَيْهِ كمسافة الْفَرِيق الآخر.
يَبَساً يابِساً

(15/289)


أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرب لَهُم طَرِيقا فِي الْبَحْر يبساً لَا تخَاف دركاً وَلَا تخشى} (طه: 77) . وَفسّر قَوْله: يبساً، بقوله: يَابسا، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) يبساً مصدر وصف بِهِ، يُقَال: يبس يبساً، وَنَحْوهمَا الْعَدَم والعدم، وَمن ثمَّ وصف بِهِ الْمُؤَنَّث فَقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس، أذا جف لَبنهَا.
مِنْ زِينَةِ القَوْمِ الحُلِيِّ الَّذِي استَعَارُوهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكنَّا حملنَا أوزاراً من زِينَة الْقَوْم فقذفناها فَكَذَلِك ألْقى السامري} (طه: 78) . وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن زيد، قَالَ: الأوزار الأثقال وَهُوَ الْحلِيّ الَّذِي استعاروه من آل فِرْعَوْن، وَلَيْسَ المُرَاد بهَا الذُّنُوب، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) وَقيل: أثاماً، أَي: حملنَا أثاماً من حلي الْقَوْم لأَنهم استعاروه ليتزينوا فِي عيد كَانَ لَهُم ثمَّ لم يردوها عَلَيْهِم عِنْد خُرُوجهمْ من مصر مَخَافَة أَن يعلمُوا بخروجهم فحملوها.
فَقذَفْتُهَا ألْقَيْتُهَا ألْقَى صَنَعَ
فسر فقذفتها بقوله ألقيتها، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فقذفناها، وَالْقُرْآن {وَلَكنَّا حملنَا أوزاراً من زِينَة الْقَوْم فقذفناها فَكَذَلِك ألْقى السامري فَأخْرج لَهُم عجلاً جسداً لَهُ خوار} (طه: 78) . قَوْله: ألقِي أَي: السامري، يَعْنِي: ألْقى مَا كَانَ مَعَه من الْحلِيّ، وَقيل: مَا كَانَ مَعَه من تُرَاب حافر فرس جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَرَادَ بقوله: صنع، أخرج لَهُم عجلاً جسداً لَهُ خوار.
فنَسِيَ مُوسَى هُمْ يَقُولُونَ أخْطَأَ الرَّبُّ أنْ لاَ يَرْجِعَ إلَيْهِمْ قَوْلاً فِي العِجْلِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقَالُوا هَذَا إل هكم وإل هـ مُوسَى فنسي أَفلا يرَوْنَ أَن لَا يرجع إِلَيْهِم قولا وَلَا يملك لَهُم ضراً وَلَا نفعا} (طه: 88 و 98) . قَوْله: فَقَالُوا أَي: السامري وَمن وَافقه. قَوْله: (فنسي مُوسَى) أَي: أَن يُخْبِركُمْ أَن هَذَا إل هه، وَقيل: فنسي مُوسَى الطَّرِيق إِلَى ربه، وَقيل: فنسي مُوسَى إل هه عنْدكُمْ، وَخَالفهُ فِي طَرِيق آخر. قَوْله: (هم يَقُولُونَ) ، أَي: السامري وَمن مَعَه يَقُولُونَ: أَخطَأ مُوسَى الرب حَيْثُ تَركه هُنَا وَذهب إِلَى الطّور يَطْلُبهُ. قَوْله: (أَن لَا يرجع إِلَيْهِم) فِي الْعجل (قولا) أَي: أَنه لَا يرجع إِلَيْهِم قولا فِي الْعجل.

3933 - حدَّثنا هُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ حدَّثنا هَمَّامٌ حدَّثنا قَتادَةُ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ عنْ مالِكَ بنَ صَعْصَعَةَ أَن رسوُلَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدَّثَهُمْ عنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِه حَتَّى السَّماَءَ الخَامِسَةَ فإذَا هارُونُ قَالَ هَذَا هارُونُ فسلَّمَ عَلَيْهِ فسَلَّمْتُ علَيْهِ فرَدَّ ثُمَّ قالَ مَرْحَبَاً بالأخِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
وَجه ذكر هَذِه الْقطعَة من حَدِيث الْإِسْرَاء المطول الْمَاضِي غير مرّة من طَرِيق قَتَادَة عَن أنس عَن مَالك بن صعصعة الْمَذْكُورَة تَمامهَا فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة هُوَ لأجل ذكر هَارُون فِي مَوَاضِع الْأَلْفَاظ الْمُتَقَدّمَة.
تابَعَهُ ثابِتٌ وعَبَّادُ بنُ أبِي عَلِيٍّ عنْ أنَسٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: تَابع قَتَادَة ثَابت الْبنانِيّ، وَعباد، بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن أبي عَليّ الْبَصْرِيّ فِي روايتهما عَن أنس فِي ذكر هَارُون فِي السَّمَاء الْخَامِسَة لَا فِي جَمِيع الحَدِيث وَلَا فِي الْإِسْنَاد أَيْضا، فَإِن رِوَايَة ثَابت مَوْصُولَة فِي (صَحِيح مُسلم) من طَرِيق شَيبَان عَن حَمَّاد ابْن سَلمَة عَنهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذكر مَالك بن صعصعة، بل الْمَذْكُور فِيهَا ذكر هَارُون فِي السَّمَاء الْخَامِسَة، وَأما مُتَابعَة عباد فرواها عَنهُ هِشَام الدستوَائي وَحَمَّاد بن زيد وَخَلِيفَة بن حسان وَلم يذكرُوا مَالك بن صعصعة، وَلَيْسَ لعباد ذكر فِي البُخَارِيّ إلاَّ فِي هَذَا الْموضع.

52 - (بابٌ {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمْ إيمَانَهُ} إِلَى قولِهِ {مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غَافِر: 82) .)

(15/290)


أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: {وَقَالَ رجل مُؤمن من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم وَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم إِن الله لَا يهدي من هُوَ مُسْرِف كَذَّاب} (غَافِر: 82) . وَقعت هَذِه التَّرْجَمَة هَكَذَا بِغَيْر حَدِيث فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يذكر فِيهَا حَدِيثا وَلم يظفر بِهِ على شَرطه فَبَقيت كَذَا وَالله أعلم. قَوْله: (وَقَالَ رجل مُؤمن) فِي اسْمه سِتَّة أَقْوَال: الأول: شمعان، بالشين الْمُعْجَمَة، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يعرف شمعان بِالْمُعْجَمَةِ إِلَّا مُؤمن آل فِرْعَوْن. الثَّانِي: يُوشَع بن نون، وَبِه جزم ابْن التِّين، وَهُوَ بعيد لِأَن يُوشَع من ذُرِّيَّة يُوسُف، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم يكن من آل فِرْعَوْن. الثَّالِث: حزقيل بن برحايا، وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء. الرَّابِع: حابوت، وَهُوَ الَّذِي التقطه إِذْ كَانَ فِي التابوت. الْخَامِس: حبيب ابْن عَم فِرْعَوْن، قَالَه ابْن إِسْحَاق. السَّادِس: حيزور قَالَه الطَّبَرِيّ، وَقَالَ مقَاتل: كَانَ قبطياً يكتم إيمَانه مائَة سنة من فِرْعَوْن، وَكَانَ لَهُ الْملك بعد فِرْعَوْن، وَكَانَ على بَقِيَّة من دين إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن خالويه فِي (كتاب لَيْسَ) : لم يُؤمن من أهل مصر إلاَّ أَرْبَعَة: آسِيَة، وحزقيل مُؤمن آل فِرْعَوْن، وَمَرْيَم بنت لابوس الْملك الَّتِي دلّت على عِظَام يُوسُف، والماشطة. قَوْله: (أَتقْتلونَ) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام الإنكاري. قَوْله: (أَن يَقُول) أَي: لِأَن يَقُول، وَهَذَا إِنْكَار مِنْهُ عَظِيم وتبكيت شَدِيد، وَهَذَا كَانَ مِنْهُ نصح عَظِيم لَهُم وَلم يقْتَصر على بَيِّنَة وَاحِدَة وَهِي قَوْله: رَبِّي الله، حَتَّى قَالَ: {وَقد جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ من ربكُم} (غَافِر: 82) . وَحكى الله تَعَالَى عَنهُ: ثمَّ أَخذهم بالاحتجاج على طَريقَة التَّقْسِيم، فَقَالَ: لَا يَخْلُو من أَن يكون كَاذِبًا أَو صَادِقا {فَإِن يَك كَاذِبًا فَعَلَيهِ كذبه} (غَافِر: 82) . أَي: يعود عَلَيْهِ كذبه وَلَا يتخطاه ضَرَره. {وَإِن يَك صَادِقا يصبكم بعض الَّذِي يَعدكُم} (غَافِر: 82) . إِن تعرضتم. قَوْله: (مُسْرِف) أَي: مُشْرك، قَالَ السّديّ: أَي الْكذَّاب على الله، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

62 - (بابُ قَوْلِ الله عزَّ وَجَلَّ {وهَلْ أتاكَ حِديثُ مُوسَى} (طه: 9 01) . {وكلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً} (النِّسَاء: 461) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله عز وَجل، وَهُوَ قَوْله: {وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى إِذْ رأى نَارا فَقَالَ لأَهله امكثوا إِنِّي آنست نَارا لعَلي آتيكم مِنْهَا بقبس أَو أجد على النَّار هدى} (طه: 9 01) . وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب قبل الْبَاب الَّذِي قبله. قَوْله: {وكل الله مُوسَى تكليماً} (النِّسَاء: 461) . وَقَبله:} ورسلاً قد قصصناهم عَلَيْك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عَلَيْك وكلم الله مُوسَى تكليماً} (النِّسَاء: 461) . وَقَبله: قَوْله: (ورسلاً) مَنْصُوب على تَقْدِير: قَصَصنَا رسلًا. وَقَوله: {قد قصصناهم} مُفَسّر لَهُ فَحذف الناصب حَتَّى لَا يجمع بَين المفسِر والمفسَر. قَوْله: (من قبل) ، أَي: من قبل هَذِه الْآيَة يَعْنِي فِي السُّور المكية وَغَيرهَا. قَوْله: (ورسلاً لم نقصصهم عَلَيْك) ، أَي: لم نسمهم لَك. قَوْله: (وكلم الله مُوسَى تلكيماً) ، قَالَ ابْن عَبَّاس: لما بَين الله لمُحَمد، صلى الله عَلَيْهِ وسلمد أَمر النَّبِيين وَلم يبين أَمر مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شكوا فِي نبوته، فَأنْزل الله تَعَالَى: {مِنْهُم من كلم الله} (الْبَقَرَة: 352) . وكلم الله مُوسَى حَقِيقَة لَا كَمَا زعمت الْقَدَرِيَّة: أَن الله تَعَالَى خلق كلَاما فِي شَجَرَة فَسَمعهُ مُوسَى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ لَا يكون ذَلِك كَلَام الله، وَلَو كَانَ من غير التَّأْكِيد لاحتمل مَا قَالُوا، لِأَن أَفعَال الْمجَاز لَا تؤكد بِذكر المصادر، لَا يُقَال: أَرَادَ الْجِدَار أَن يسْقط إِرَادَة، وَعلم مُوسَى أَنه كَلَام الله لِأَنَّهُ كَلَام يعجز الْخلق أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ، قَالَ ابْن مرْدَوَيْه، بِإِسْنَادِهِ عَن جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: إِن الله ناجى مُوسَى بِمِائَة ألف كلة وَأَرْبَعين ألف كلمة فِي ثَلَاثَة أَيَّام، كلهَا وَصَايَا فَلَمَّا سمع مُوسَى كَلَام الْآدَمِيّين مقتهم مِمَّا وَقع فِي مسامعه من كَلَام الرب، وجويبر ضَعِيف. وَالضَّحَّاك لم يدْرك ابْن عَبَّاس.

4933 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخْبَرَنَا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أخبرَنا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلةَ أسْرِيَ بِي رأيْتُ مُوسَى وإذَا هُوَ رَجُلً ضَرْبٌ رَجِلٌ كأنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَة ورَأيْتُ عِيسَى فإذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَة أحْمَرُ كأنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسَ وَأَنا أشْبَهُ ولَدِ إبْرَاهِيمَ بِهِ ثُمَّ أُتِيتُ بإنَاءَيْنِ فِي أحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الآخَرِ خَمْرٌ فَقَالَ اشْرَبْ

(15/291)


أيُّهُمَا شِئْتَ فأخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ فَقِيلَ أخَذْتَ الفِطْرَةَ إمَّا إنَّكَ لَوْ أخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أمَّتُكَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (رَأَيْت مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن مُحَمَّد بن رَافع، وَعبد بن حميد: وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن مَحْمُود بن غيلَان بِهِ.
قَوْله: (وَرَأَيْت) ، قَالَ الطَّيِّبِيّ: لَعَلَّ أَرْوَاحهم مثلت لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذِهِ الصُّور، وَلَعَلَّ صورهم كَانَت كَذَلِك أَو صور أبدانهم كوشفت لَهُ فِي نوم أَو يقظة. قَوْله: (ضرب) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة أَي: نحيف خَفِيف اللَّحْم. قَوْله: (شنُوءَة) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَضم النُّون وَفتح الْهمزَة: وَهُوَ حَيّ من الْيمن وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا: شنائي، وَقَالَ ابْن السّكيت: أَزْد شنوة، بِالتَّشْدِيدِ غير مَهْمُوز وينسب إِلَيْهَا: شنوى. قَوْله: (ربعَة) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَيجوز فتحهَا لَا طَوِيل وَلَا قصير، وأنث بِتَأْوِيل النَّفس. قَوْله: (من ديماس) بِكَسْر الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة، قَالَ الْكرْمَانِي: السرب، وَقيل: الْكن أَي: كَأَنَّهُ مخدر لم ير شمساً وَهُوَ فِي غَايَة الْإِشْرَاق والنضارة. انْتهى. وَقيل الْحمام وَقيل: لم يكن لَهُم يَوْمئِذٍ ديماس، وَإِنَّمَا هُوَ من عَلَامَات نبوته. قَوْله: (إِبْرَاهِيم) أَي: الْخَلِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَالْمعْنَى: أَنا أشبه بإبراهيم ... كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: كَانَ مَعْنَاهُ: أَنا أشبه ولد إِبْرَاهِيم بإبراهيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَهُنَا ثَلَاث تشبيهات كلهَا للْبَيَان، وَلَكِن الأول لمُجَرّد الْبَيَان، والأخير أَن للْبَيَان مَعَ تَعْظِيم الْمُشبه فِي مقَام الْمَدْح، وَقَالَ الدَّاودِيّ فِي تَشْبِيه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: يَعْنِي فِي الطول 7 وَقَالَ الْقَزاز: مَا أَدْرِي مَا أَرَادَ البُخَارِيّ بذلك، على أَنه روى فِي صفته بعد هَذَا خلاف هَذَا، فَقَالَ: وَأما مُوسَى فآدم جسيم كَأَنَّهُ من رجال الزط. قلت: روى البُخَارِيّ هَذَا من حَدِيث مُجَاهِد عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأَيْت مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَأَما عِيسَى فأحمر جعد عريض الصَّدْر، وَأما مُوسَى فآدم جسيم سبط، كَأَنَّهُ من رجال الزط. قلت: هَذَا لَيْسَ فِيهِ إِشْكَال لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شبه مُوسَى فِي حَدِيث الْبَاب وَهُوَ حَدِيث أبي هُرَيْرَة، بقوله: كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة، يَعْنِي: فِي الطول وَشبهه فِي حَدِيث ابْن عمر، بقوله: كَأَنَّهُ من رجال الزط، يَعْنِي: فِي الطول أَيْضا لِأَن الزط جنس من السودَان والهنود الطوَال. قَوْله: (ثمَّ أتيت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أخذت الْفطْرَة) ، أَي: الاسْتقَامَة أَي: اخْتَرْت عَلامَة الْإِسْلَام وَجعل اللَّبن عَلامَة لكَونه سهلاً طيبا طَاهِرا نَافِعًا للشاربين، سليم الْعَاقِبَة، وَأما الْخمر فَإِنَّهَا أم الْخَبَائِث وحاملة لأنواع الشَّرّ فِي الْحَال، والمآل، ويروى: هديت الْفطْرَة، قَالَ الطَّيِّبِيّ: أَي: الْفطْرَة الْأَصْلِيَّة الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا، وَجعل اللَّبن عَلامَة لذَلِك لِأَنَّهُ من أصلح الأغذية وَأول مَا بِهِ حصلت التربية.

64 - (حَدثنِي مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا غنْدر حَدثنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة قَالَ سَمِعت أَبَا الْعَالِيَة حَدثنَا ابْن عَم نَبِيكُم يَعْنِي ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يَنْبَغِي لعبد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى وَنسبه إِلَى أَبِيه وَذكر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة أسرِي بِهِ فَقَالَ مُوسَى آدم طوال كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة وَقَالَ عِيسَى جعد مَرْبُوع وَذكر مَالِكًا خَازِن النَّار وَذكر الدَّجَّال) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وغندر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون قد تكَرر ذكره وَهُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر وَأَبُو الْعَالِيَة اسْمه رفيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء الريَاحي بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف وروى عَن ابْن عَبَّاس أَبُو الْعَالِيَة آخر واسْمه زِيَاد بن فَيْرُوز وَيعرف بالبراء بِالتَّشْدِيدِ نِسْبَة إِلَى بري السِّهَام والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن حَفْص بن عمر فِي بَاب قَول الله تَعَالَى {وَإِن يُونُس لمن الْمُرْسلين} وَيَأْتِي عَن قريب وَفِي التَّفْسِير عَن بنْدَار وَفِي التَّوْحِيد قَالَ لي خَليفَة بن خياط وَأخرجه مُسلم فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي السّنة عَن حَفْص بن عمر بِهِ وَقَالَ لم يسمع قَتَادَة من أبي الْعَالِيَة إِلَّا ثَلَاثَة أَحَادِيث وَهَذَا أَحدهَا وَقَالَ فِي مَوضِع آخر قَالَ شُعْبَة أَيْضا إِنَّمَا سمع قَتَادَة من أبي الْعَالِيَة أَرْبَعَة أَحَادِيث حَدِيث يُونُس بن مَتى وَحَدِيث ابْن عمر فِي الصَّلَاة وَحَدِيث الْقُضَاة ثَلَاثَة وَحَدِيث ابْن عَبَّاس شهد عِنْدِي رجال مرضيون قَوْله " لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى " وَيُونُس

(15/292)


فِيهِ سِتَّة أوجه وَمَتى بِفَتْح الْمِيم وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبالألف وَهُوَ اسْم أَبِيه وَفِي جَامع الْأُصُول وَقيل هُوَ اسْم أمه وَيُقَال لم يشْتَهر نَبِي بِأُمِّهِ غير يُونُس والمسيح عَلَيْهِمَا السَّلَام وَقَالَ الْفربرِي وَكَانَ مَتى رجلا صَالحا من أهل بَيت النُّبُوَّة فَلم يكن لَهُ ولد ذكر فَقَامَ إِلَى الْعين الَّتِي اغْتسل مِنْهَا أَيُّوب فاغتسل هُوَ وَزَوجته مِنْهَا وصليا ودعوا الله أَن يرزقهما رجلا مُبَارَكًا يَبْعَثهُ الله فِي بني إِسْرَائِيل فَاسْتَجَاب الله دعاءهما ورزقهما يُونُس وَتُوفِّي مَتى وَيُونُس فِي بطن أمه وَله أَرْبَعَة أشهر وَقد قيل أَنه من بني إِسْرَائِيل وَأَنه من سبط بنيامين وَقَالَ الْكرْمَانِي وَهُوَ ذُو النُّون أرْسلهُ الله إِلَى أهل الْموصل وَذهب قوم إِلَى أَن نبوته بعد خُرُوجه من بطن الْحُوت وَقَالَت الْعلمَاء بأخبار القدماء كَانَ يُونُس من أهل الْقرْيَة من قرى الْموصل يُقَال لَهَا نِينَوَى وَكَانَ قومه يعْبدُونَ الْأَصْنَام وَعَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بعث الله يُونُس بن مَتى إِلَى قومه وَهُوَ ابْن ثَلَاثِينَ سنة فَأَقَامَ فيهم يَدعُوهُم إِلَى الله ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة فَلم يُؤمن بِهِ إِلَّا رجلَانِ أَحدهمَا روبيل وَكَانَ عَالما حكيما وَالْآخر تنوخا وَكَانَ زاهدا عابدا وَقَالَ الْخطابِيّ معنى قَوْله لَا يَنْبَغِي لأحد إِلَى آخِره لَيْسَ لأحد أَن يفضل نَفسه على يُونُس وَيحْتَمل أَن يُرَاد لَيْسَ لأحد أَن يُفَضِّلُنِي عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على مَذْهَب التَّوَاضُع والهضم من النَّفس وَلَيْسَ مُخَالفا لقَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنا سيد ولد آدم لِأَنَّهُ لم يقل ذَلِك مفتخرا وَلَا متطاولا بِهِ على الْخلق وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك ذَاكِرًا للنعمة ومعترفا بالمنة وَأَرَادَ بالسيادة مَا يكرم بِهِ فِي الْقِيَامَة وَقيل قَالَ ذَلِك قبل الْوَحْي بِأَنَّهُ سيد الْكل وَخَيرهمْ وأفضلهم وَقيل قَالَه زجرا عَن توهم حط مرتبته لما فِي الْقُرْآن من قَوْله {وَلَا تكن كصاحب الْحُوت} وَهَذَا هُوَ السَّبَب فِي تَخْصِيص يُونُس بِالذكر من بَين سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام قَوْله " لَيْلَة أسرِي بِهِ " وَفِي رِوَايَة الْكشميهني لَيْلَة أسرِي بِي على الْحِكَايَة قَوْله " طوال " بِضَم الطَّاء قَوْله " جعد الشّعْر " الْجَعْد خلاف السبط لِأَن السبوطة أَكْثَرهَا فِي شُعُور الْعَجم قَوْله " وَذكر مَالِكًا " أَي وَذكر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة أسرِي بِهِ مَالِكًا خَازِن النَّار وَذكر أَيْضا الدَّجَّال وَهَذَا الحَدِيث وَاحِد عِنْد أَكثر الروَاة فَجعله بَعضهم حديثين أَحدهمَا مُتَعَلق بِيُونُس وَالْآخر بالبقية الْمَذْكُورَة -
7933 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيانُ حدَّثَنَا أيُّوبُ السِّخْتْيَانِي عنِ ابنِ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا قدِمَ المَدِينَةَ وجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْماً يَعْنِي عاشُورَاءَ فَقالوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ وهْوَ يَوْمٌ نَجَّى الله فِيهِ مُوسَى وأغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ فَصامُ مُوسَى شُكْرَاً لله فَقَالَ أنَا أوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصامَهُ وأمَرَ بِصِيَامِهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نجى الله فِيهِ مُوسَى) وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَابْن سعيد هُوَ عبد الله بن سعيد بن جُبَير يروي عَن أَبِيه، وَهَذَا الحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّوْم فِي: بَاب صِيَام عَاشُورَاء أخرجه عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

52 - (بابُ قَوْلِ الله تعالَى {وَوَاعَدْنا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأِخِيهِ هارُونَ أخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأصْلِحْ ولاَ تَتَّبِعِ سَبِيلَ الْمُفْسِدين ولَمَّا جاءَ مُوساى لِمِيقَاتِنَا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَب أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ولَكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فإنِ اسْتَقَرَّ مكانَهُ فسَوْفَ تَرَانِي فلَمَّا تَجَلَّى رَبَّهُ لِلْجَبَلِ جعَلَهُ دَكَّاً وخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فلَمَّا أفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وأنَا أوَّلُ الْمُؤْمِنينَ} (الْأَعْرَاف: 241 341) .)

سَاق فِي رِوَايَة كَرِيمَة هَاتين الْآيَتَيْنِ بتمامهما قَوْله: (وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة) ، وروى أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وعد بني إِسْرَائِيل وَهُوَ بِمصْر إِن أهلك الله عدوهم أَتَاهُم بِكِتَاب من عِنْد الله فِيهِ بَيَان مَا يأْتونَ وَمَا يذرون، فَلَمَّا هلك فِرْعَوْن سَأَلَ مُوسَى ربه الْكتاب فَأمره بِصَوْم ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ شهر ذِي الْقعدَة، فَلَمَّا أتم الثَّلَاثِينَ أنكر خلوف فِيهِ فَتَسَوَّكَ، فَقَالَت

(15/293)


الْمَلَائِكَة: كُنَّا نَشُمُّ من فِيك رَائِحَة الْمسك فأفسدتها بِالسِّوَاكِ، فَأمره الله أَن يزِيد عَلَيْهَا عشرَة أَيَّام من ذِي الْحجَّة لذَلِك، وَهُوَ معنى قَوْله: وأتممناها بِعشر، قَوْله: (فتم مِيقَات ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَة) وميقات ربه: مَا وَقت لَهُ من الْوَقْت وضربه لَهُ، وَالْفرق بَين الْمِيقَات وَالْوَقْت، وَإِن كَانَا من جنس وَاحِد أَن الْمِيقَات مَا قدر لعمل، وَالْوَقْت قد لَا يقدر لعمل. قَوْله: (أَرْبَعِينَ لَيْلَة) نصب على الْحَال أَي: تمّ بَالغا هَذَا الْعدَد. قَوْله: (هَارُون) ، عطف بَيَان لِأَخِيهِ. قَوْله: (اخلفني فِي قومِي) ، يَعْنِي: كن خَليفَة عني. قَوْله: (وَأصْلح وَلَا تتبع سَبِيل المفسدين) ، يَعْنِي: إرفق بهم وَأحسن إِلَيْهِم، وَهَذَا تَنْبِيه وتذكير. وإلاَّ فهارون، عَلَيْهِ السَّلَام، نَبِي شرِيف كريم على الله لَهُ وجاهة وجلالة. قَوْله: (لِمِيقَاتِنَا) أَي: الْوَقْت الَّذِي وقتناه لَهُ وحددناه. قَوْله: (وَكَلمه ربه) أَي: من غير وَاسِطَة أَخذه الشوق حَتَّى {قَالَ: رب أَرِنِي أنظر إِلَيْك} فَطلب الزِّيَادَة لما رأى من لطفه تَعَالَى بِهِ. قَوْله: (لن تراني) ، يَعْنِي: أعْطى جَوَابه بقوله: لن تراني، يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا، وَقد أشكل حرف: لن، هَهُنَا على كثير من النَّاس لِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لنفي التَّأْبِيد، فاستدل بِهِ الْمُعْتَزلَة على نفي الرُّؤْيَة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَهَذَا أَضْعَف الْأَقْوَال لِأَنَّهُ قد تَوَاتَرَتْ الْأَحَادِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن الْمُؤمنِينَ يرونه فِي دَار الْآخِرَة، وَقيل: إِنَّهَا لنفي التأييد فِي الدُّنْيَا جمعا بَين هَذِه وَبَين الدَّلِيل الْقَاطِع على صِحَة الرُّؤْيَة فِي الدَّار الْآخِرَة. قَوْله: (فَإِن اسْتَقر) أَي: الْجَبَل مَكَانَهُ، وَهُوَ أعظم جبل لمدين، قَالَه الْكَلْبِيّ، يُقَال لَهُ: زبير، وَالْمعْنَى: إجعل بيني وَبَيْنك علما هُوَ أقوى مِنْك، يَعْنِي: الْجَبَل، فَإِن اسْتَقر مَكَانَهُ وَسكن وَلم يتضعضع فَسَوف تراني، وَإِن لم يسْتَقرّ فَلَنْ تطِيق (فَلَمَّا تجلى ربه للجبل) قَالَ ابْن عَبَّاس هُوَ ظُهُور نوره وَقَالَ الطَّبَرِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (فَلَمَّا تجلى ربه للجبل أَشَارَ بإصبعه فَجعله دكاً) وَفِي إِسْنَاده رجل لم يسم، وروى أَيْضا عَن أنس، قَالَ: قَرَأَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكاً) قَالَ وضع الْإِبْهَام قَرِيبا من طرف خِنْصره، قَالَ: فساخ الْجَبَل، وَهَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمد وَقَالَ السّديّ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: مَا تجلى إلاَّ قدر الْخِنْصر جعله دكاً، قَالَ تُرَابا، وخر مُوسَى صعقاً قَالَ: مغشياً عَلَيْهِ، وَقَالَ قَتَادَة: وَقع مَيتا، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: ساخ الْجَبَل فِي الأَرْض حَتَّى وَقع فِي الْبَحْر فَهُوَ يذهب مَعَه، وَعَن أبي بكر الْهُذلِيّ: جعله دكاً انْعَقَد فَدخل تَحت الأَرْض فَلَا يظْهر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَفِي (تَفْسِير ابْن كثير) . وَجَاء فِي بعض الْأَخْبَار أَنه ساخ فِي الأَرْض فَهُوَ يهوي فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ عَن أبي مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لما تجلى الله للجبل طارت لعظمته سِتَّة أجبل فَوَقَعت ثَلَاثَة بِالْمَدِينَةِ وَثَلَاثَة بِمَكَّة، فالتي بِالْمَدِينَةِ: أحد وورقان ورضوى، وَوَقع بِمَكَّة حراء وثبير وثور، قَالَ ابْن كثير: هَذَا حَدِيث غَرِيب بل مُنكر، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: ذكر عَن عُرْوَة بن رُوَيْم، قَالَ: كَانَت الْجبَال قبل أَن يتجلى الله لمُوسَى صماء ملساء فَلَمَّا تجلى تفطرت الْجبَال فَصَارَت الشقوق والكهوف. قَوْله: (فَلَمَّا أَفَاق) ، يَعْنِي: من غَشيته، وعَلى قَول مقَاتل: ردَّتْ عَلَيْهِ روحه، قَالَ: سُبْحَانَكَ تبت إِلَيْك، أَي من الْإِقْدَام على الْمَسْأَلَة قبل الْإِذْن، وَقيل: المُرَاد من التَّوْبَة الرُّجُوع إِلَى الله تَعَالَى لَا عَن ذَنْب سبق، وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك على جِهَة التَّسْبِيح، وَهُوَ عَادَة الْمُؤمنِينَ عِنْد ظُهُور الْآيَات الدَّالَّة على عظم قدرته. قَوْله: (وَأَنا أول الْمُؤمنِينَ) أَي: بأنك لَا ترى فِي الدُّنْيَا، وَقيل: من بني إِسْرَائِيل، وَقيل: مِمَّن يذم باستعظام سُؤَاله الرُّؤْيَة.
يُقالُ دَكَّهُ زَلْزَلَهُ
ذكر هَذَا لقَوْله تَعَالَى: {جعله دكاً} ، وَفَسرهُ بقوله: زلزله، والدك مصدر جعل صفة، يُقَال: نَاقَة دكاء، أَي: ذَاهِبَة السنام مستوٍ ظهرهَا.
فَدُكَّتَا فَدُكِكْنَ جَعَلَ الجِبَالَ كالوَاحِدَةِ
أَشَارَ بقوله: {فدكتا} إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى {وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة} (الحاقة: 41) . وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال: فدككن، بِالْجمعِ لِأَن الْجبَال جمع وَالْأَرْض فِي حكم الْجمع، وَلَكِن جعل كل جمع مِنْهُمَا كواحدة، فَلذَلِك قيل: دكتا بالتثنية.
كَما قَالَ الله عَزَّ وجَلَّ {إنَّ السَّماوَاتِ والأرْضَ كانَتا رَتْقاً} (الْأَنْبِيَاء: 03) . ولَمْ يَقُلْ كُنَّ رَتْقاً مُلْتَصِقَتَيْنِ
قَالَ بَعضهم: ذكر هَذَا اسْتِطْرَادًا، إِذْ لَا تعلق لَهُ بِقصَّة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل ذكره تنظيراً لما قبله، وَلِهَذَا قَالَ: بكاف التَّشْبِيه، أَرَادَ أَن نَظِير: دكتا، الَّتِي هِيَ التَّثْنِيَة وَالْقِيَاس: دككن، كَمَا ذكره من وَجهه: {كَانَت رتقاً} (الْأَنْبِيَاء: 03) ، فَإِن الْقيَاس

(15/294)


أَن يُقَال فِيهِ: كن رتقاً، لِأَن السَّمَوَات جمع وَالْأَرْض فِي حكم الْجمع، وَلكنه جعل كل وَاحِد مِنْهُمَا كواحدة، فَقيل: كَانَتَا، بِلَفْظ التَّثْنِيَة وَلم يقل: كن، بِلَفْظ الْجمع. قَوْله: (ملتصقتين) ، حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي كَانَتَا.
اشْرِبُوا ثَوْبٌ مَشَرَّبٌ مَصْبوغٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل} (الْبَقَرَة: 39) . وَأَشَارَ بقوله: ثوب مشرب، أَي: مصبوغ، إِلَى أَن معنى أشربوا لَيْسَ من شرب المَاء، بل مَعْنَاهُ مثل معنى قَوْلهم: ثوب مشرب أَي: مصبوغ، يَعْنِي: اخْتَلَط بقلبهم حب الْعجل كَمَا يخْتَلط الصَّبْغ بِالثَّوْبِ، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى: إِن حب الْعجل حل مَحل الشَّرَاب فِي قُلُوبهم، وعَلى كل تقدر المُرَاد الْمُبَالغَة فِي حبهم الْعجل، وَقَوله: {وَاشْرَبُوا فِي قُلُوبهم الْعجل} (الْبَقَرَة: 39) . فِيهِ الْحَذف أَي: حب الْعجل.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ انْبَجَسَتْ انْفَجَرَتْ
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس: معنى قَوْله تَعَالَى: {فانبجست مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا} (الْأَعْرَاف: 061) . انفجرت وانشقت وَقَبله: {وأوحينا إِلَى مُوسَى إِذْ استسقاه قومه أَن اضْرِب بعصاك الْحجر فانبجست} (الْأَعْرَاف: 061) . وَفِي سُورَة الْبَقَرَة: {وَإِذ استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بعصاك الْحجر فانفجرت مِنْهُ اثْنَتَا عشرَة عينا} (الْبَقَرَة: 06) . وَالْفَاء فِيهِ مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف تَقْدِيره: فَضرب فانبجست، فَضرب فانفجرت، وَهَذِه الْفَاء تسمى فَاء الفصيحة لَا تقع إلاَّ فِي كَلَام بليغ.
وإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ رَفَعْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ نتقنا الْجَبَل فَوْقهم كَأَنَّهُ ظله} (الْأَعْرَاف: 171) . الْآيَة. وَفسّر: نتقنا، بقوله: رفعنَا، وَيُقَال: مَعْنَاهُ قلعناه وَرَفَعْنَاهُ فَوْقهم، كَمَا فِي قَوْله: {ورفعنا فَوْقهم الطّور} (النِّسَاء: 451) . كَأَنَّهُ ظلة، وَهُوَ كل مَا أظلك من سَقِيفَة أَو سَحَاب. وقصته: أَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما رَجَعَ إِلَى قومه وَقد أَتَاهُم بِالتَّوْرَاةِ أَبَوا أَن يقبلوها ويعملوا بِمَا فِيهَا من الآصار والأثقال، وَكَانَت شَرِيعَة ثَقيلَة، فَأمر الله تَعَالَى جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قلع جبل قدر عَسْكَرهمْ، وَكَانَ فرسخاً فِي فَرسَخ، وَرَفعه فَوق رؤوسهم مِقْدَار قامة الرجل، وَكَانُوا سِتّمائَة ألف وَقَالَ لَهُم إِن لم تقبلوها وَإِلَّا ألقيت عَلَيْكُم هَذَا الْجَبَل وَعَن ابْن عَبَّاس رفع الله فَوْقهم الطّور وَبعث نَارا من قبل وُجُوههم وأتاهم الْبَحْر الْملح من خَلفهم.

8933 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ عَمْرِو بنِ يَحْيى عنْ أبِيهِ عنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ النَّاسُ يُصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فأكُونُ أوَّلَ منْ يُفِيقُ فإذَا أنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ فَلاَ أدْرِي أفَاقَ قَبْلِي أمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَإِذا أَنا بمُوسَى) .
وَمُحَمّد بن يُوسُف أَبُو أَحْمد البُخَارِيّ البيكندي وَهُوَ من أَفْرَاده، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو بن يحيى يروي عَن أَبِيه يحيى بن عمَارَة بن أبي الْحسن الْمَازِني الْأنْصَارِيّ وَهُوَ يروي عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مضى مطولا فِي الْأَشْخَاص، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ونتكلم بِبَعْض شَيْء لبعد الْعَهْد.
فَقَوله: (يصعقون) من صعق الرجل إِذا غشي عَلَيْهِ، قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّعق والصعقة الْهَلَاك وَالْمَوْت، وَيُقَال مِنْهُ: صعق الْإِنْسَان وصعق، بِفَتْح الصَّاد وَضمّهَا، وَأنكر بَعضهم الضَّم، وصعقتهم الصاعقة بِفَتْح الصَّاد وَالْعين وأصعقتهم، وَبَنُو تَمِيم يَقُولُونَ: الصاقعة، بِتَقْدِيم الْقَاف على الْعين، وَقَالَ القَاضِي: وَهَذَا الحَدِيث من أشكل الْأَحَادِيث لِأَن مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قد مَاتَ فَكيف تُدْرِكهُ الصعقة؟ وَإِنَّمَا تصعق الْأَحْيَاء، وَيحْتَمل أَن هَذِه الصعقة صعقة فزع بعد الْفَزع حِين تَنْشَق السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَيُؤَيِّدهُ لفظ: يفِيق وأفاق، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَال: أَفَاق من الغشي، وَأما الْمَوْت فَيُقَال: بعث مِنْهُ، وصعقة الطّور لم تكن موتا. وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَلَا أَدْرِي أَفَاق قبلي) فَيحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه قبل أَن يعلم أَنه أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض إِن كَانَ هَذَا اللَّفْظ على ظَاهره، وَأَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول شخص مِمَّن تَنْشَق عَنْهُم الأَرْض فَيكون مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من زمرة الْأَنْبِيَاء،

(15/295)


عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، انْتهى، حَاصِل الْكَلَام أَن الْإِفَاقَة غير الانشقاق، والصعقة تكون حِين ينْفخ فِي الصُّور النفخة الأولى، وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْله: فَأَكُون أول من يفِيق لَيْسَ بِمَحْفُوظ، واضطربت الروَاة فِي هَذَا الحَدِيث، وَقل من يسلم مَعَه مِنْهُم من الْوَهم، وَالصَّحِيح: فَأَكُون أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض، والانشقاق غير الْإِفَاقَة، كَمَا ذكرنَا.

9933 - حدَّثني عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ الجُعْفِيُّ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرَنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّام عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلاَ بَنُو إسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنِزِ اللَّحْمُ ولَوْلا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ. (انْظُر الحَدِيث 0333) .

هَذَا الحَدِيث مضى فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَإِذ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة أَنِّي جَاعل فِي الأَرْض خَليفَة} (الْبَقَرَة: 03) .

62 - (بابُ طُوفانٍ مِنَ السَّيْلِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ طوفان من السَّيْل، وَلَيْسَ قَوْله: طوفان من السَّيْل، بترجمة لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرّد عَن التَّرْجَمَة، وَإِنَّمَا هُوَ كالفصل للباب الْمُتَقَدّم، وَسقط جَمِيعه من رِوَايَة النَّسَفِيّ. قَوْله: (طوفان) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم آيَات مفصلات} (الْأَعْرَاف: 331) . الْآيَة. أما الطوفان فقد اخْتلفُوا فِيهِ، فقاال البُخَارِيّ: هُوَ من السَّيْل يكون من الْمَطَر الْغَالِب، وَعَن ابْن عَبَّاس: الطوفان كَثْرَة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع وَالثِّمَار، وَبِه قَالَ الضَّحَّاك وَعنهُ كَثْرَة الْمَوْت، وَبِه قَالَ عَطاء، وَقَالَ مُجَاهِد: الطوفان المَاء والطاعون، وروى ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ عَن عَائِشَة، قَالَت: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الطوفان الْمَوْت، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى: هُوَ أَمر من الله طَاف بهم.
يُقَالُ لِلْمَوْتِ الكَثِيرِ طُوفَانٌ
أَرَادَ بِهِ الْمَوْت المتتابع.
القُمَّلُ الْحَمْنانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الحَلَمِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْقمل} (الْأَعْرَاف: 331) . الْمَذْكُور فِي الْآيَة، وفسرها بقولِهَا: الحمنان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وبالنونين: قراد يشبه صغَار الْحلم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَاللَّام، وَهُوَ جمع الحلمة وَهُوَ القراد الْعَظِيم، وَوَاحِد الحمنان: حمنانة. وَعَن ابْن عَبَّاس: الْقمل السوس الَّذِي يخرج من الْحِنْطَة، وَعنهُ أَنه الدُّبَّاء وَهُوَ الْجَرَاد الصغار الَّذِي لَا أَجْنِحَة لَهُ وَبِه قَالَ عِكْرِمَة وَقَتَادَة، وَعَن الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير: الْقمل دَوَاب سود صغَار، وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن يزِيد بن أسلم: الْقمل البراغيث، وَقَالَ ابْن جرير: الْقمل جمع واحده قملة، وَهِي دَابَّة تشبه الْقمل تأكلها الْإِبِل فِيمَا بَلغنِي.
حَقِيقٌ حَقٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حقيق على} (الْأَعْرَاف: 501) . وَفَسرهُ بقوله: حق، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي تَفْسِيره: (مجازه حق عَليّ أَن لَا أَقُول على الله إلاَّ الْحق) ، هَذَا على قِرَاءَة التَّشْدِيد فِي عليَّ، وَمن خففه فَمَعْنَى: حقيق محق، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: حَرِيص.
سُقِطَ كلُّ من نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلما سقط فِي أَيْديهم} (الْأَعْرَاف: 941) . وَفسّر قَوْله: سقط، بقوله: كل من نَدم فقد سقط فِي يَده، وَسقط على صِيغَة الْمَجْهُول.

72 - (بابٌ)

أَي: هَذَا بَاب وَهُوَ كالفصل لما قبله وَلَيْسَ بموجود فِي بعض النّسخ.

(15/296)


حَدِيثِ الخَضِرِ مَعَ مُوساى عَلَيْهِما السَّلاَمُ
أَي: هَذَا حَدِيث الْخضر مَعَ مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، فارتفاع: حديثُ، على الخبرية، وَيجوز أَن يكون مجروراً بِإِضَافَة لفظ: بَاب إِلَيْهِ وَيكون التَّقْدِير: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَدِيث الْخضر مَعَ مُوسَى، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام.

0043 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثني أبي عنْ صالِحٍ عنِ ابنِ شِهابٍ أنَّ عُبَيْدَ الله بنَ عَبْدِ الله أخبرَهُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ تَمَارَي هُوَ والحُرُّ بنُ قَيْسٍ الفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوساى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبِيُّ بنُ كَعْبٍ فدَعَاهُ ابنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إنِّي تَمَارَيْتُ أنَا وصاحِبِي هذَا فِي صاحِبِ مُوساى الَّذِي سألَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هلْ سَمِعْتَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَذْكُرُ شَأنَهُ قَالَ نَعَمْ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ بَيْنَمَا مُوساى فِي مَلاَءٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ جاءَهُ رَجلٌ فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُ أحَدَاً أعْلَمَ مِنْكَ قَالَ لاَ فأوْحَى الله إِلَى مُوسَى بَلَى عَبْدُنا خَضِرٌ فسَألَ مُوسَى السَّبِيلَ إلَيْهِ فَجُعِلَ لَهُ الحُوتُ آيَةً وقِيلَ لَهُ إذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فارْجِعْ فإنَّكَ سَتَلْقَاهُ فَكانَ يَتْبَعُ الحُوتَ فِي البَحْرِ فقالَ لِمُوسَى فَتاهُ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ وَمَا أنْسانِيهِ إلاَّ الشَّيْطَانُ أنْ أذْكُرَهُ فَقَالَ مُوساى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فارْتَدَّا علَى آثَارِهِمَا قَصَصاً فوَجَدَا خَضِراً فَكانَ منْ شَأنِهِمَا الَّذِي قَصَّ الله فِي كِتابِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَعَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن مُحَمَّد بن بكير النَّاقِد أَبُو عُثْمَان الْبَغْدَادِيّ مَاتَ بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم يروي عَن أَبِيه إِبْرَاهِيم بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ الْمدنِي، كَانَ إِبْرَاهِيم بالعراق قَاضِيا يروي عَن صَالح بن كيسَان عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله بن عبد الله بن قُتَيْبَة. والْحَدِيث بِعَيْنِه مر فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى فِي الْبَحْر إِلَى الْخضر، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن عُزَيْر الزُّهْرِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (تمارى) ، أَي: تجَادل.

1043 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثنا عَمْرُو بنُ دِينارٍ قَالَ أخبرَنِي سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ ل اِبْنِ عَبَّاسٍ إنَّ نَوْفاً البِكَالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوساى صاحِبَ الخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ إنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ فقالَ كذَبَ عَدُوُّ الله حدَّثنا أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ مُوسَى قامَ خَطِيباً فِي بَنِي إسْرَائِيلَ فسُئِلَ أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ فَقَالَ أنَا فعَتَبَ الله عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ العلْمَ فَقَالَ لَهُ بَلَي لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ قَالَ أيْ رَبِّ ومَنْ لِي بِهِ ورُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ أيْ رَبِّ وكَيْفَ لِي بِهِ قَالَ تأخُذُ حُوتاً فتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ حَيْثُمَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَهْوَ ثَمَّ ورُبَّمَا قَالَ فَهْوَ ثَمَّةَ وأخَذَ حُوتَاً فجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وفَتاهُ يُوشَعُ بنُ نُون حتَّى أتيَا الصَّخْرَةَ وضَعَا رُؤوسَهُمَا فرَقَدَ مُوسَى واضْطَرَبَ الحُوتُ فَخَرَجَ فسَقَطَ فِي البَحْرِ فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً فأمْسَكَ الله عنِ الحُوتِ جِرْيَةَ المَاءِ فَصارَ مِثْلَ الطَّاقِ فَقَالَ هَكَذَا مِثلَ الطَّاقِ فانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا ويَوْمَهُمَا حَتَّى إذَا كانَ مِنَ الغَدِ قَالَ لِفَتاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ولَمْ يَجِدْ

(15/297)


مُوساى النَّصَبَ حتَّى جاوَزَ حَيْثُ أمرَهُ الله قَالَ لَهُ فَتاهُ أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ ومَا أنْسَانِيهِ إلاَّ الشَّيْطَانُ أنْ أذْكُرَهُ واتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبَاً فكانَ لِلْحُوتِ سَرَبَاً ولَهُمَا عَجَبَاً قَالَ لَهُ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فارْتَدَّا عَلى آثَارِهِما قَصَصاً رَجَعا يَقُصَّانِ آثارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فإذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فسَلَّمَ مُوساى فَرَدَّ علَيْهِ فَقَالَ وأنَّى بِأرْضِكَ السَّلاَمُ قَالَ أنَا مُوساى قالَ مُوساى بَنِي إسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ أتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتُ رَشَدَاً قَالَ يَا مُوساى إنِّي علَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله علَّمَنِيهِ الله لاَ تَعْلَمُهُ وأنْتَ علَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله علَّمَكَهُ الله لاَ أعْلَمُهُ قَالَ هَلْ أتَّبِعُكَ قَالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرَاً وكَيْفَ تَصْبِرُ علَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرَاً إِلَى قَوْلِهِ إمْرَاً فانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ علَى ساحِلِ البَحْرِ فمَرَّتْ بِهِمَا سَفينَةٌ كلَّمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمْ فعَرَفُوا الخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نوْل فلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ جاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ على حَرْفِ السَّفِينَةِ فنَقَرَ فِي البَحْرِ نَقْرَةً أوْ نَقْرَتَيْنِ قَالَ لَهُ الخَضِرُ يَا مُوساى مَا نَقصَ عِلْمِي وعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ الله إلاَّ مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ بِمِنْقَارِه مِنَ الْبَحْرِ إذْ أخَذَ الفَأسَ فنَزعَ لَوْحاً قَالَ فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إلاَّ وقَدْ قلَعَ لَوْحَاً بالْقَدُّومِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى مَا صَنَعْتَ قَوْم حَمَّلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَها لِتْغْرِقَ أهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرَاً قَالَ ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرَاً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ولاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْرَاً فَكانَتِ الأولَى مِنْ مُوساى نِسْيَاناً فلَمَّا خَرَجَا مِنَ الْبَحْرِ مَرُّوا بِغُلامٍ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فأخَذَ الخَضِرُ بِرَأسِهِ فقَلَعَهُ بِيَدِهِ هَكَذَا وأوْمَأ سُفْيَانِ بِأطْرَاقِ أصَابِعِهِ كأنَّهُ يَقْطِفْ شَيْئَاً فَقَالَ لَهُ مُوساى أقَتَلْتَ نَفْسَاً زَكِيَّةٍ بِغَيْرٍ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرَاً قَالَ ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرَاً قَالَ إنْ سَألْتُكَ عنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبُنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرَاً فانْطَلَقَا حتَّى إذَا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطعَما أهْلَها فأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارَاً يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ مائِلاً أوْمأ بِيَدِهِ هَكَذَا وأشَارَ سُفْيَانُ كأنَّهُ يَمْسَحُ شَيْئَاً إِلَى فَوْقُ فلَمْ أسْمَعْ سُفْيَانَ يَذْكُرُ مائِلاً إلاَّ مَرَّةٍ قَالَ قَوْمٌ أتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا ولَمْ يُضَيِّفُونَا عَمَدْتَ إِلَى حائِطِهِم لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرَاً قَالَ هاذَا فِرَاقٌ بَيْنِي وبَيْنَكَ سأُنَبِّئُكَ بِتَأوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ علَيْهِ صَبْرَاً قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدِدْنَا أنَّ مُوسَى كانَ صَبَرَ فَقَصَّ الله عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْحَمُ الله مُوسَى لَوْ كانَ صبَرَ يُقَصُّ عَلَيْنَا مِنْ أمْرِهِمَا. وقَرَأ ابنُ عَبَّاسٍ أمامَهُمْ مَلِكٌ يأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالِحَةٍ غَصْبَاً وأمَّا الغُلاَمُ فَكانَ كافِرَاً وكانَ أبَوَاهُ مُؤمِنَيْنِ ثُمَّ قالَ لِي سُفْيَانُ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ وحَفِظْتُهُ مِنْهُ قِيلَ لِسفْيَانَ حَفِظْتَهُ قَبْلَ أنْ تَسْمَعَهُ مِنْ عَمْرِو أوْ تَحَفَّظْتَهُ مِنْ إنْسَانٍ فقالَ مِمَّنَ أتَحَفَّظُهُ. ورَواهُ أحَدٌ عنْ عَمْرٍ وغَيْرِي سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثَاً وحَفِظْتُهُ مِنْهُ. .

هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أخرجه عَن عَليّ بن عبد الله بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة. . إِلَى آخِره، وَقد مر هَذَا أَيْضا

(15/298)


فِي كتاب الْعلم فِي: بَاب مَا يسْتَحبّ للْعَالم إِذا سُئِلَ ... إِلَى آخِره، وَأخرجه عَن عبد الله بن مُحَمَّد المسندي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو ... إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، ونوف بِفَتْح النُّون منصرف وَغير منصرف الْبكالِي، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف الْكَاف وباللام وَهُوَ الْمَشْهُور، وَقد يُقَال بِفَتْح الْبَاء وَتَشْديد الْكَاف نِسْبَة إِلَى: بكال بن دعمي بن سعد بن عَوْف بن عدي بن مَالك بن زيد بن سدد بن زرْعَة بن سبأ.
قَوْله: (كذب عَدو الله) ، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك على سَبِيل التَّغْلِيظ لَا على قصد إِرَادَة الْحَقِيقَة. قَوْله: (وَمن لي بِهِ) ، أَي: وَمن يتكفل لي بِرُؤْيَتِهِ. قَوْله: (فِي مكتل) ، بِكَسْر الْمِيم وَهُوَ الزنبيل. قَوْله: (فَهُوَ ثمَّ) ، بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة، اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد، وَهُوَ ظرف لَا يتَصَرَّف. قَوْله: (ثمَّة) أَي: بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق كَمَا يُقَال: رب وربة. قَوْله: (مسجى) أَي: مغطى. قَوْله: (وأنَّى) هُوَ للاستفهام، أَي: من أَيْن سَلام فِي هَذِه الأَرْض الَّتِي أَنْت فِيهَا إِذْ أَهلهَا لَا يعْرفُونَ السَّلَام؟ قَوْله: (بِغَيْر نول) أَي: بِغَيْر أُجْرَة. قَوْله: (إلاَّ مثل مَا نقص) تَشْبِيه فِي الحقارة والقلة لَا الْمُمَاثلَة من كل الْوُجُوه، وَقيل: هَذَا تَشْبِيه على التَّقْرِيب إِلَى الإفهام لَا على التَّحْقِيق قَوْله: (فَلم يفجأ) بِالْجِيم. قَوْله: (بِغُلَام) ، اسْمه جيسون، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَضم السِّين الْمُهْملَة وبالنون، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ بالراء بدل النُّون. قَوْله: (ملك) ، اسْمه: هدد، بِفَتْح الْهَاء الْمُهْملَة: ابْن بدد، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وبفتح الدالين الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَقيل بِضَم الْهَاء وَضم الْبَاء. قَوْله: (أمامهم) ، أَي: وَرَاءَهُمْ قَوْله: (أَو تحفظته؟) شكّ من عَليّ بن عبد الله، يَعْنِي: قيل لِسُفْيَان: حفظته أَو تحفظته من إِنْسَان قبل أَن تسمعه من عَمْرو؟ وَقَوله: (وَرَوَاهُ) أَي: أرواه؟ همزَة الِاسْتِفْهَام فِيهِ محذوفة.

2043 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَعِيدٍ الأصْبَهَانِيُّ أخْبَرَنَا ابنُ الْمُبَارَكِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّمَا سُمِّيَ الخَضِرَ أنَّهُ جلَسَ على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فإذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ. [/ نه

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْخضر مَذْكُور فِيهِ، وَمُحَمّد بن سعيد أَبُو جَعْفَر يُقَال لَهُ حمدَان الإصبهاني، بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا وبالباء الْمُوَحدَة، وَفِي بعض النّسخ بِالْفَاءِ، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ من أَفْرَاده، وَابْن الْمُبَارك هُوَ عبد الله.
قَوْله: (أَنه) أَي: أَن خضرًا ويروى: لِأَنَّهُ. قَوْله: (على فَرْوَة) ، بِفَتْح الْفَاء قيل: هِيَ جلدَة وَجه الأَرْض جلس عَلَيْهَا الْخضر فأنبتت وَصَارَت خضراء بعد أَن كَانَت جرداء، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الهشيم من نَبَات الأَرْض أَخْضَر بعد يبسه وبياضه، وَلما أخرج عبد الرَّزَّاق هَذَا الحَدِيث فِي (مُصَنفه) بِهَذَا الْإِسْنَاد، زَاد: الفروة الْحَشِيش الْأَبْيَض وَمَا أشبهه، وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد، بعد أَن رَوَاهُ عَن أَبِيه عَن عبد الرَّزَّاق: أَظن أَن هَذَا تَفْسِير من عبد الرَّزَّاق، وَجزم بذلك عِيَاض، وَعَن مُجَاهِد: أَنه قيل لَهُ: الْخضر، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ صلى اخضرَّ مَا حوله.
وَالْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع. الأول فِي اسْمه، فَقَالَ مُجَاهِد: اسْمه أليسع بن ملكان بن فالغ بن عَابِر بن شالخ بن إرفخشذ بن سَام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ مقَاتل: بليا، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون اللَّام وبالياء آخر الْحُرُوف: ابْن ملكان بن يقطن بن فالغ ... إِلَى آخِره وَقيل: إيليا بن ملكان ... إِلَى آخِره، وَقيل: خضرون بن عماييل بن ليفر بن الْعيص بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم السَّلَام، قَالَه كَعْب، وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق: إرميا بن حلقيا من سبط هَارُون بن عمرَان، وَأنْكرهُ الطَّبَرِيّ: وَقَالَ: إرميا كَانَ فِي زمن بخت نصر، وَبَين بخت نصر ومُوسَى زمَان طَوِيل، وَقيل: خضرون بن قابيل بن آدم ذكره أَبُو حَاتِم السجسْتانِي، وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس: معمر بن عبد الله ابْن نصر بن الأزد. النَّوْع الثَّانِي فِي نسبه: فَقَالَ الطَّبَرِيّ: الْخضر هُوَ الرَّابِع من ولد إِبْرَاهِيم لصلبه، وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ من ولد يافث وَكَانَ وَزِير ذِي القرنين، وَقيل: هُوَ من ولد رجل من أهل بابل مِمَّن آمن بالخليل وَهَاجَر مَعَه، وَقيل: إِنَّه كَانَ ابْن فِرْعَوْن صَاحب مُوسَى ملك مصر، وَهَذَا غَرِيب جدا، وَقيل: هُوَ أَخُو إلْيَاس، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وروى الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر بِإِسْنَادِهِ إِلَى السّديّ: أَن الْخضر وإلياس كَانَا أَخَوَيْنِ وَكَانَ أَبوهُمَا ملكا، وَقَالَ أَيْضا: يُقَال: إِنَّه الْخضر بن آدم لصلبه، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: الْخضر ابْن آدم لصلبه ونسىء لَهُ فِي أَجله حَتَّى يكذب الدَّجَّال، وَهُوَ مُنْقَطع غَرِيب، وروى الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر أَيْضا عَن سعيد بن الْمسيب: أَن أم الْخضر رُومِية وأباه فَارسي، وَقيل: كنيته أَبُو الْعَبَّاس. النَّوْع الثَّالِث فِي نبوته، فالجمهور على أَنه نَبِي، وَهُوَ الصَّحِيح، لِأَن أَشْيَاء فِي قصَّته تدل على نبوته، وروى مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ نَبيا، وَقيل: كَانَ وليا، وَعَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى

(15/299)


عَنهُ، أَنه كَانَ عبدا صَالحا، وَقيل: كَانَ ملكا بِفَتْح اللَّام، وَهَذَا غَرِيب جدا. النَّوْع الرَّابِع: فِي حَيَاته، فالجمهور، خُصُوصا مَشَايِخ الطَّرِيقَة والحقيقة وأرباب المجاهدات والمكاشفات، أَنه حَيّ يرْزق ويشاهد فِي الفلوات، وَرَآهُ عمر بن عبد الْعَزِيز وَإِبْرَاهِيم بن أدهم وَبشر الحافي ومعروف الْكَرْخِي وسري السَّقطِي وجنيد وَإِبْرَاهِيم الْخَواص وَغَيرهم، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَفِيه دَلَائِل وحجج تدل على حَيَاته ذَكرنَاهَا فِي (تاريخنا الْكَبِير) . وَقَالَ البُخَارِيّ وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَابْن الْجَوْزِيّ وَأَبُو الْحُسَيْن الْمُنَادِي: إِنَّه مَاتَ، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {وَمَا جعلنَا لبشر من قبلك الْخلد} (الْأَنْبِيَاء: 43) . وَبِمَا روى أَحْمد فِي (مُسْنده) عَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل مَوته بِقَلِيل أَو بِشَهْر: مَا من نفس منفوسة أَو: مَا مِنْكُم الْيَوْم من نفس منفوسة يَأْتِي عَلَيْهَا مائَة سنة وَهِي يَوْمئِذٍ حَيَّة. وَأجَاب الْجُمْهُور عَن الْآيَة بِأَنا مَا ادعينا أَنه يخلد، وَإِنَّمَا يبْقى إِلَى انْقِضَاء الدُّنْيَا، فَإِذا نفخ فِي الصُّور مَاتَ، لقَوْله تَعَالَى: {كل نفس ذائقة الْمَوْت} (آل عمرَان: 581، الْأَنْبِيَاء: 53، العنكبوت: 75) . وَعَن حَدِيث جَابر بِأَنَّهُ مَتْرُوك الظَّاهِر لِأَن جمَاعَة عاشوا أَكثر من مائَة سنة، مِنْهُم سلمَان الْفَارِسِي، فَإِنَّهُ عَاشَ ثَلَاثمِائَة سنة، وَقد شَاهد رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحَكِيم بن حزَام عَاشَ مائَة وَعشْرين سنة، وَغَيرهمَا، وَإِنَّمَا أَشَارَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى ذَلِك الزَّمَان لَا إِلَى مَا تقوم السَّاعَة، وَهُوَ الْأَلْيَق بِهِ، على أَنه قد عَاشَ بعد ذَلِك الزَّمَان خلق كثير أَكثر من مائَة سنة، وَأجَاب بَعضهم: بِأَن خضرًا، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ حِينَئِذٍ على وَجه الْبَحْر، وَقيل: هُوَ مَخْصُوص من الحَدِيث كَمَا خص مِنْهُ إِبْلِيس بالِاتِّفَاقِ.
قَالَ الحَمُّوِيُّ قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ بنِ مَطَرِ الفَرَبْرِيُّ حدَّثنا علِيُّ بنُ خُشْرَمَ عنْ سُفْيَانَ بِطُولِهِ
هَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي خَاصَّة عَن الْفربرِي. قَوْله: (قَالَ الْحَمَوِيّ) ، هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن حمويه، قَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر: حَدثنَا عَليّ بن خشرم بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْحسن الْمروزِي حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة، فَذكر الحَدِيث الْمَذْكُور مطولا.

82 - (بابٌ)

أَي: هَذَا بَاب وَقع كَذَا بِغَيْر تَرْجَمَة فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقد مر نَحْو هَذَا غير مرّة، وَهُوَ كالفصل لما قبله.

3043 - حدَّثني إسْحَاقِ بنُ نَصْرٍ حدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عنْ مَعْمَرٍ عنْ هَمَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ أنَّهُ سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِيلَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ ادْخُلُوا البابَ سُجَّدَاً وقُولُوا حِطَّةٌ فبَدَّلُوا فدَخَلُوا يَزْحَفُونَ علَى أسْتَاهِهِمْ وقالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ.
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن تكون من حَيْثُ إِنَّه فِي قَضِيَّة بني إِسْرَائِيل، ومُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نَبِيّهم.
وَإِسْحَاق بن نصر هُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر السَّعْدِيّ البُخَارِيّ. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق. وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد.
قَوْله: (الْبَاب) ، أَرَادَ بِهِ بَاب الْقرْيَة الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي قَوْله: {وَإِذ قُلْنَا ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة} (الْبَقَرَة: 85) . وَعَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: كَانَ الْبَاب قِبَل الْقبْلَة، وَعَن مُجَاهِد وَالسُّديّ وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك: هُوَ بَاب الحطة من بَاب إيليا من بَيت الْمُقَدّس، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: إِن الْقرْيَة فِي الْآيَة بَيت الْمُقَدّس، وَقَالَ السُّهيْلي: هِيَ أريحاء، وَقيل: مصر، وَقيل: بلقاء، وَقيل: الرملة. وَالْبَاب الَّذِي أمروا بِدُخُولِهِ هُوَ الْبَاب الثَّامِن من جِهَة الْقبْلَة. قَوْله: (سجدا) ، قَالَ ابْن عَبَّاس: منحنين رُكُوعًا. وَقيل: خضوعاً وشكراً لتيسير الدُّخُول، وانتصاب: سجدا على الْحَال وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ حَقِيقَة السَّجْدَة، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَقُولُوا: حطة) أَي: مغْفرَة، قَالَه ابْن عَبَّاس، أَو: لَا إلاه إلاَّ الله، قَالَه عِكْرِمَة، أَو: حط عَنَّا ذنوبنا، قَالَه الْحسن. أَو: أَخْطَأنَا فاعترفنا. فَإِن قلت: بِمَاذَا ارْتِفَاع حطة؟ قلت: خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، تَقْدِيره: أمرنَا حطة، أَو مَسْأَلَتنَا حطة. قَوْله: (فبدلوا) ، أَي: غيروا لَفْظَة حطة بِأَن قَالُوا: حنطاً سمقاتاً، أَي: حِنْطَة حَمْرَاء اسْتِخْفَافًا بِأَمْر الله. قَوْله: (يزحفون على أستاههم) ، وَهُوَ جمع: الأست، يَعْنِي: دخلُوا من قبل أستاههم، وَفِي رِوَايَة

(15/300)


للنسائي: فَدَخَلُوا يزحفون على أوراكهم، أَي: منحرفين. قَوْله: (وَقَالُوا حَبَّة فِي شَعْرَة) ، الْحبَّة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهَذَا كَلَام مهمل وغرضهم فِيهِ مُخَالف مَا أمروا بِهِ من الْكَلَام المستلزم للاستغفار وَطلب حطة الْعقُوبَة عَنْهُم، فَلَمَّا عصوا عاقبهم الله بالزجر وَهُوَ الطَّاعُون، هلك مِنْهُم سَبْعُونَ ألفا فِي سَاعَة وَاحِدَة.

4043 - حدَّثني إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثَنَا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ حدَّثنا عَوْفٌ عنِ الحَسَنِ ومُحَمَّدٍ وَخِلاَسٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ مُوسَى كانَ رَجُلاً حَيِيَّاً سِتِّيرَاً لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءًا مِنْهُ فآذَاهُ مَنْ آذاهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هذَا التَّسَتُّرَ إلاَّ مِنْ عَيْبَ بِجِلْدِهِ إمَّا برَصٌ وإمَّا أُدْرَةٌ وإمَّا آفَةٌ وإنَّ الله أرَادَ أنْ يُبَرِّئَه مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلاَ يَوْماً وحْدَهُ فوَضَعَ ثِيَابَهُ علَى الحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ فلَمَّا فرَغَ أقْبَلَ إِلَى ثِيابِهِ لِيَأْخُذَهَا وإنَّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ فأخَذَ مُوسَى عَصاهُ وطَلَبَ الحَجَرَ فَجَعَلَ يَقولُ ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حتَّى انْتَهَى إلَى مَلاَءٍ منْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَرَأوْهُ عُرْيَانَاً أحْسَنَ مَا خلَقَ الله وأبْرَأهُ مِمَّا يَقُولُونَ وقامَ الحَجَرُ فأخَذَ ثَوْبَهُ فلَبِسَهُ وطَفِق بالحَجَرِ ضَرْبَاً بِعَصَاهُ فَوَالله إنَّ بالحَجَرِ لَنَدَباً مِنْ أثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاثَاً أوْ أرْبَعَاً أوْ خَمْسَاً فَذَلِكَ قَوْلُهُ {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فبَرَّأهُ الله مِمَّا قَالُوا وكانَ عِنْدَ الله وجِيهاً. (الْأَحْزَاب: 96) . (انْظُر الحَدِيث 872 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ ذكر مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة يُؤْخَذ الْوَجْه لذكره فِي التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وروح بِفَتْح الرَّاء: ابْن عبَادَة، بِضَم الْعين: أَبُو مُحَمَّد الْبَصْرِيّ، وعَوْف بن أبي جميلَة الْمَعْرُوف بالأعرابي وَلَيْسَ بأعرابي، وَالْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن سِيرِين، وخلاس، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف اللَّام وَفِي آخِره سين مُهْملَة: ابْن عَمْرو الهجري الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْغسْل فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْحَاق بن نصر عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَأما الْكَلَام فِي الروَاة، فَنَقُول: أما مُحَمَّد بن سِيرِين فَإِن سَمَاعه من أبي هُرَيْرَة ثَابت. وَأما الْحسن فَلم يسمع من أبي هُرَيْرَة عِنْد الْمُحَقِّقين من الْحفاظ، وَيَقُولُونَ: مَا وَقع فِي بعض الرِّوَايَات من سَمَاعه عَنهُ فَهُوَ وهم. وَأما البُخَارِيّ فَإِنَّهُ أخرجه عَنهُ عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ هُنَا مَقْرُونا بِغَيْرِهِ وَمَاله فِي الْكتاب إلاَّ هَذَا، وَله حَدِيث آخر فِي: بَدْء الْخلق، مَقْرُونا بِابْن سِيرِين أَيْضا. وَأما خلاس فَفِي سَمَاعه عَن أبي هُرَيْرَة خلاف، فَقَالَ أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد: لم يسمع خلاس من أبي هُرَيْرَة، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ على شَرطه عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَحَدِيثه عَنهُ فِي التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَجزم يحيى الْقطَّان أَن رِوَايَته عَنهُ من صحيفَة، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم عَن أبي زرْعَة: كَانَ يحيى الْقطَّان يَقُول: رِوَايَته عَن عَليّ من كتاب، وَقد سمع من عمار وَعَائِشَة وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، قيل: إِذا ثَبت سَمَاعه من عمار وَكَانَ على شرطة عَليّ، فَكيف يمْتَنع سَمَاعه من عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؟ وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يُقَال: وَقعت عِنْده صحيفَة عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَيْسَ بِقَوي، يَعْنِي فِي عَليّ، وَوَثَّقَهُ بَقِيَّة الْأَئِمَّة وَمَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ أخرجه لَهُ مَقْرُونا بِغَيْرِهِ، وَأَعَادَهُ سنداً ومتناً فِي تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب، وَله حَدِيث آخر أخرجه فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور مَقْرُونا بِمُحَمد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة.
قَوْله: (حيياً) ، أَي: كثير الْحيَاء. قَوْله: (ستير) ، على وزن فعيل بِمَعْنى فَاعل أَي: من شَأْنه وإرادته حب السّتْر والصون. قَوْله: (أدرة) بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الدَّال على الْمَشْهُور، وَحكى الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله، عَن بعض مشايخه، بِفَتْح الْهمزَة وَالدَّال، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الأدرة، بِالضَّمِّ نفخة فِي الخصية، يُقَال: رجل آدر بَين الأدر، بِفَتْح الْهمزَة وَالدَّال

(15/301)


وَهِي الَّتِي تسميها النَّاس الإقليط. قَوْله: (وَإِمَّا آفَة) من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص. قَوْله: (عدا بِثَوْبِهِ) بِالْعينِ الْمُهْملَة أَي: مضى بِهِ مسرعاً. قَوْله: (ثوبي حجر) ، يَعْنِي رد ثوبي يَا حجر. قَوْله: (ضربا) أَي: يضْرب ضربا. قَوْله: (لندباً) ، بِفَتْح النُّون وَالدَّال وَهُوَ أثر الْجرْح إِذا لم يرْتَفع عَن الْجلد. قَوْله: (فوَاللَّه إِن بِالْحجرِ لندبا) ، ظَاهره أَنه بَقِيَّة الحَدِيث. وَقد بيَّن فِي رِوَايَة همام فِي الْغسْل أَنه قَول أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (ثَلَاثًا أَو أَرْبعا أَو خمْسا) ،. وَفِي رِوَايَة همام الْمَذْكُورَة سِتَّة أَو سَبْعَة، وَوَقع عِنْد ابْن مرْدَوَيْه من رِوَايَة حبيب بن سَالم عَن أبي هُرَيْرَة: الْجَزْم بست ضربات. قَوْله: (فَذَلِك قَوْله تَعَالَى) ، أَي: مَا ذكر من أَذَى بني إِسْرَائِيل مُوسَى، نزل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} (الْأَحْزَاب: 96) . خطاب لأهل الْمَدِينَة. . قَوْله: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى} (الْأَحْزَاب: 96) . أَي احْذَرُوا أَن تكون مؤذين للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا آذَى بَنو إِسْرَائِيل مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأظهر الله بَرَاءَته مِمَّا قَالُوهُ فِيهِ من أَنه أدر، وَقيل: كَانَ إيذاؤهم إِيَّاه ادعاؤهم عَلَيْهِ قتل أَخِيه هَارُون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَكَانَ أَي مُوسَى عِنْد الله وجيهاً) أَي: ذَا جاه ومنزلة، وَقيل: وجيهاً لم يسْأَل شَيْئا إِلَّا أعطَاهُ، وقرىء شاذاً: وَكَانَ عبد الله، بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي الحَدِيث: إِن اغتسال بني إِسْرَائِيل عُرَاة بِمحضر مِنْهُم كَانَ جَائِزا فِي شرعهم، وَكَانَ اغتسال مُوسَى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحده لكَونه حيياً يحب الاستتار.
وَفِيه: جَوَاز الْمَشْي عُريَانا للضَّرُورَة. وَفِيه: جَوَاز النّظر إِلَى الْعَوْرَة عِنْد الضَّرُورَة للمداواة وَنَحْوهَا. وَفِيه: أَن الْأَنْبِيَاء، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِم وَسلم، منزهون عَن النقائص والعيوب الظَّاهِرَة والباطنة. وَفِيه: أَن من نسب نَبيا من الْأَنْبِيَاء إِلَى نقص فِي خلقه فقد آذاه ويخشى عَلَيْهِ الْكفْر. وَفِيه: معْجزَة ظَاهِرَة لمُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا سِيمَا تَأْثِير ضربه بالعصا على الْحجر مَعَ علمه بِأَنَّهُ مَا سَار بِثَوْبِهِ إلاَّ بِأَمْر من الله تَعَالَى.

5043 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الأعْمشِ قَالَ سَمِعْتُ أبَا وَائِلٍ سَمِعْتُ عَبْدَ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَسَم النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسْماً فَقَالَ رَجُلٌ إنَّ هاذِه لَقِسْمَةٌ مَا أرِيدُ بِهَا وَجْهُ الله فأتَيْتُ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرْتُهُ فغَضِبَ حتَّى رأيْتُ الغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ يَرْحَمُ الله مُوساى قَدْ أُوذِيَ بِأكْثَرَ مِنْ هاذَا فصَبَرَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يرحم الله مُوسَى) ، وَبَينه وَبَين الحَدِيث السَّابِق مُنَاسبَة أَيْضا على مَا لَا يخفى، وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود. والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب مَا كَانَ النَّبِي يُعْطي الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور عَن أبي وَائِل عَن عبد الله ... إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

92 - (بابٌ {يَعْكِفُونَ عَلَى أصْنَامٍ لَهُمْ} (الْأَعْرَاف: 831) .)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {يعكفون على أصنام لَهُم} (الْأَعْرَاف: 831) . وَقَبله: {وجاوزنا ببني إِسْرَائِيل الْبَحْر فَأتوا على قوم يعكفون على أصنام لَهُم ... } (الْأَعْرَاف: 831) . الْآيَة، وَذكرهَا وَلم يُفَسِّرهَا. قَوْله: (على قوم) قَالَ بعض الْمُفَسّرين: على قوم من الكنعانيين، وَقيل: كَانُوا من لخم، وَقَالَ ابْن جرير: وَكَانُوا يعْبدُونَ أصناماً على صُورَة الْبَقر. قَوْله: يعكفون، من عكف يعكف عكوفاً وَهُوَ الْإِقَامَة على الشَّيْء وَالْمَكَان ولزومهما، وَيُقَال: عكف يعكف من بَاب ضرب يضْرب، وَعَكَفَ يعكف من بَاب نصر ينصر، وَالْفَاعِل عاكف وَمِنْه قيل لمن لَازم الْمَسْجِد وَأقَام على الْعِبَادَة فِيهِ: عاكف ومعتكف.
مُتَبَّرٌ خُسْرَانٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إنَّ هَؤُلَاءِ متبَّرٌ مَا هم فِيهِ وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ} (الْأَعْرَاف: 931) . وَفسّر: متَبَّرٌ بقوله: خسران، ومتبر اسْم مفعول من التتبير وَهُوَ الإهلاك، يُقَال: تبره تتبيراً إِذا كَسره وأهلكه. وَمِنْه التبار وَهُوَ الْهَلَاك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله متبر أَي: خاسر، وَقد فسر معنى الْمَفْعُول بِمَعْنى الْفَاعِل، وَهُوَ بعيد، وَكَذَلِكَ تَفْسِير البُخَارِيّ بِالْمَصْدَرِ وَتَفْسِيره الموجه متبر: مهلك وباطل مَا كَانُوا يعْملُونَ.

(15/302)


ولِيُتَبِّرُوا يُدَمِّرُوا مَا عَلَوْا مَا غُلِبُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وليتبروا مَا علو تتبيراً} (الْإِسْرَاء: 7) . وَفسّر: ليتبروا، بقوله: يدمروا من التدمير من الدمار وَهُوَ الْهَلَاك، يُقَال: دمره تدميراً وَدَمرَ عَلَيْهِ بِمَعْنى، وَفسّر قَوْله: مَا علوا، بقوله: غلبوا، وَذكر هَذَا بطرِيق الإستطراد.

6043 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ أبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَجْنِي الكُبَاثَ وإنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عَلَيْكُمْ بالأسْوَدِ مِنْهُ فإنَّهُ أطْيَبُهُ قَالُوا أكُنْتَ تَرْعَى الغَنَمَ قَالَ وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ وقَدْ رعَاهَا. (الحَدِيث 6043 طرفه فِي: 3545) .

قَالَ بَعضهم: مناسبته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة. وَقَالَ آخر: لَا مُنَاسبَة أصلا، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : مناسبته ظَاهِرَة لدُخُول مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِيمَن رعى الْغنم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّ الْمُنَاسبَة من حَيْثُ إِن بني إِسْرَائِيل كَانُوا مستضعفين جُهَّالًا ففضلهم الله على الْعَالمين، وَسِيَاق الْآيَة يدل عَلَيْهِ أَي فِيمَا يتَعَلَّق ببني إِسْرَائِيل، فَكَذَلِك الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، كَانُوا أَولا مستضعفين بِحَيْثُ إِنَّهُم كَانُوا يرعون الْغنم. انْتهى. قلت: فِيهِ تعسف وتكلف وتوجيه غير طائل، وَيُمكن أَن تُوجد لَهُ الْمُطَابقَة وَإِن كَانَ لَا يَخْلُو أَيْضا عَن بعض تكلّف من حَيْثُ إِن هَذَا الْبَاب كَانَ مِمَّن غير تَرْجَمَة، وَكَذَلِكَ وَقع فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَهُوَ كالفصل للباب المترجم، كَمَا أَن الْأَبْوَاب الثَّلَاثَة الَّتِي قبل هَذَا الْبَاب كَذَلِك بِلَا تراجم كالفصول، فتوجد الْمُطَابقَة بَين حَدِيث جَابر وَبَين الْبَاب المترجم، وَهُوَ قَوْله بَاب قَول الله تَعَالَى: {وواعدنا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة} (الْأَعْرَاف: 241) . لِأَن فِيهِ بَيَان حَالَة من حالات مُوسَى ومُوسَى يدْخل فِي عُمُوم قَوْله. قَوْله: (مَا من نَبِي إِلَّا رعاها) ، فَمن هَذِه الْحَيْثِيَّة تُوجد الْمُطَابقَة، على أَنه وَقع التَّصْرِيح برعي مُوسَى الْغنم فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ أخرجه من طَرِيق أبي إِسْحَاق عَن نصر بن حزن، قَالَ: إفتخر أهل الْإِبِل وَالشَّاء، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بعث مُوسَى راعي غنم.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن سعيد بن عفير. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْوَلِيمَة عَن هَارُون بن عبد الله.
قَوْله: (كُنَّا مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، هَذِه الكينونة كَانَت بمر الظهْرَان، كَذَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات، قَوْله: (نجني) ، من: جنى يجني جنياً، وَهُوَ أَخذ الثَّمر من الشّجر. قَوْله: (الكباث) ، بِفَتْح الْكَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف ثاء مُثَلّثَة، وَهُوَ ثَمَر الْأَرَاك، وَيُقَال ذَلِك للنضيج مِنْهُ، كَذَا نَقله النَّوَوِيّ عَن أهل اللُّغَة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ ثَمَر الْأَرَاك إِذا يبس وَلَيْسَ لَهُ عجم، وَقَالَ الْقَزاز: هُوَ الغض من ثَمَر الْأَرَاك والأراك هُوَ الخمط، وَقَالَ أَبُو زِيَاد: الكباث يشبه التِّين يَأْكُلهُ النَّاس وَالْإِبِل وَالْغنم. وَفِيه حرارة، وَفِي (الْمُحكم) هُوَ حمل ثَمَر الْأَرَاك إِذا كَانَ مُتَفَرقًا، واحده كباثة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة، وَهُوَ فَوق حب الكزبرة وعنقوده يمْلَأ الْكَفَّيْنِ، وَإِذا التقمه الْبَعِير فضل عَن لقمته، والنضيج مِنْهُ يُقَال لَهُ: المرد. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : هُوَ حصرمه. قَوْله: (قَالُوا: كنت ترعى الْغنم؟) ، أَي: قَالَت الصَّحَابَة لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل كنت ترعى الْغنم؟ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك لِأَن قَوْله لَهُم: (عَلَيْكُم بالأسود مِنْهُ) ، دَال على تَمْيِيزه بَين أَنْوَاعه، وَالَّذِي يُمَيّز بَين أَنْوَاع ثَمَر الْأَرَاك غَالِبا من يلازم رعي الْغنم على مَا ألفوه. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي هَذَا؟ قلت: قَالَ الْخطابِيّ: أَرَادَ أَن الله تَعَالَى لم يضع النُّبُوَّة فِي أَبنَاء الدُّنْيَا والمترفين مِنْهُم، وَإِنَّمَا جعلهَا فِي رعاء الشَّاء وَأهل التَّوَاضُع من أَصْحَاب الْحَرْف، كَمَا روى أَن أَيُّوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ خياطاً، وزكرياء كَانَ نجاراً: {وَالله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته} (الْأَنْعَام: 421) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْحِكْمَة فِيهِ أَن يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ بالتواضع وصفوا قُلُوبهم بالخلوة وينتقلوا من سياستها إِلَى سياسة أمّهم، وَقد مر بعض الْكَلَام من هَذَا الْقَبِيل فِي أَوَائِل كتاب الْإِجَارَة.