عمدة القاري شرح صحيح البخاري

03 - (بابٌ {وإذْ قالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (الْبَقَرَة: 76) .)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} (الْبَقَرَة: 76) . الْآيَة، وَلم يذكر فِي هَذَا الْبَاب غير بعض تَفْسِير أَلْفَاظ تتَعَلَّق بِقصَّة مُوسَى

(15/303)


الَّتِي وَقعت فِي الْقُرْآن من بعض قصصه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (وَإِذ قَالَ) ، أَي: أذكر يَا مُحَمَّد حِين قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة} (الْبَقَرَة: 76) . وقصة الْبَقَرَة مَا ذكره ابْن أبي حَاتِم، فَقَالَ: حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح حَدثنَا يزِيد بن هَارُون أخبرنَا هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عُبَيْدَة السَّلمَانِي، قَالَ: كَانَ رجل من بني إِسْرَائِيل عقيماً لَا يُولد لَهُ وَكَانَ لَهُ مَال كثير وَكَانَ ابْن أَخِيه وَارثه فَقتله ثمَّ احتمله لَيْلًا فَوَضعه على بَاب رجل مِنْهُم، ثمَّ أصبح يَدعِيهِ عَلَيْهِم حَتَّى تسلحوا وَركب بَعضهم على بعض، فَقَالَ ذُو الرَّأْي مِنْهُم: على مَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا وَهَذَا رَسُول الله فِيكُم؟ فَأتوا مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَذكرُوا ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة قَالُوا: أتتخذنا هزوا قَالَ أعوذ بِاللَّه أَن أكون من الْجَاهِلين} (الْبَقَرَة: 76) . قَالَ: فَلَو لم يعترضوا لأجزأت عَنْهُم أدنى بقرة، وَلَكنهُمْ شَدَّدُوا فَشدد الله عَلَيْهِم حَتَّى انْتَهوا إِلَى الْبَقَرَة الَّتِي أمروا بذبحها فوجدوها عِنْد رجل لَيْسَ لَهُ بقرة غَيرهَا فَقَالَ: وَالله لَا أنقصها من ملْء جلدهَا ذَهَبا فَأَخَذُوهَا بملء جلدهَا ذَهَبا فذكوها وضربوه بِبَعْضِهَا فَقَامَ، فَقَالُوا: من قَتلك؟ قَالَ هَذَا، لِابْنِ أَخِيه، ثمَّ مَال مَيتا فَلم يُعْط من مَاله شَيْئا، فَلَو يُورث قَاتل بعده. وَرَوَاهُ ابْن جرير من حَدِيث أَيُّوب عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عُبَيْدَة بِنَحْوِ ذَلِك، وَرَوَاهُ آدم بن أبي إِيَاس فِي (تَفْسِيره) من وَجه آخر، وَمُلَخَّصه: كَانَ رجل من بني إِسْرَائِيل غَنِيا وَلم يكن لَهُ ولد وَكَانَ لَهُ قريب وَهُوَ وَارثه فَقتله ليرثه ثمَّ أَلْقَاهُ على مجمع الطَّرِيق، وأتى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ لَهُ: إِن قريبي قتل، ونادى مُوسَى فِي النَّاس: من كَانَ عِنْده فِي هَذَا علم يُبينهُ لنا؟ فَلم يكن عِنْدهم علم، وَقَالَ الْقَاتِل: أَنْت نَبِي الله، سل لنا رَبك أَن يبين لنا. فَسَأَلَ ربه، فَأوحى الله إِلَيْهِ {إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تذبحوا بقرة ... } (الْبَقَرَة: 76) . الْآيَات، وَفِيه: أَنهم أعْطوا صَاحب الْبَقَرَة وَزنهَا عشر مَرَّات ذَهَبا فذبحوها وضربوه بالبضعة الَّتِي بَين الْكَتِفَيْنِ، فَعَاشَ فَسَأَلُوهُ فَبين الْقَاتِل، وَرَوَاهُ بِسَنَد من وَجه آخر عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ وَمُحَمّد بن قيس أَن سبطاً من بني إِسْرَائِيل لما رَأَوْا كَثْرَة شرور النَّاس بنوا مَدِينَة فاعتزلوا شرور النَّاس فَكَانُوا إِذا أَمْسوا لم يتْركُوا أحدا مِنْهُم خَارج الْمَدِينَة إلاَّ أدخلوه، فَإِذا أَصْبحُوا قَامَ رئيسهم فَنظر وتشوف فَإِذا لم يَرَ شيْئَاً فتح الْمَدِينَة فَكَانُوا مَعَ النَّاس حَتَّى يمسوا، قَالَ: وَكَانَ رجل من بني إِسْرَائِيل لَهُ مَال كثير وَلم يكن لَهُ وَارِث غير أَخِيه فطالت عَلَيْهِ حَيَاته فَقتله ليرثه ثمَّ حمله فَوَضعه على بَاب الْمَدِينَة، ثمَّ كمن هُوَ وَأَصْحَابه: قَالَ: فتشوف رَئِيس الْمَدِينَة على بَاب الْمَدِينَة فَنظر فَلم ير شَيْئا، فَفتح الْبَاب فَلَمَّا رأى الْقَتِيل رد الْبَاب، فناداه أَخُو الْمَقْتُول وَأَصْحَابه: هَيْهَات، قَتَلْتُمُوهُ ثمَّ تردون الْبَاب؟ وَكَاد أَن يكون بَين أَخ الْمَقْتُول وَبَين أهل الْمَدِينَة قتال حَتَّى لبسوا السِّلَاح، ثمَّ كف بَعضهم عَن بعض، فَأتوا مُوسَى فشكوا لَهُ شَأْنهمْ، فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن يذبحوا بقرة. . الْقِصَّة. وَقَالَ ابْن كثير: الرِّوَايَات فِيهَا مُخْتَلفَة، وَالظَّاهِر أَنَّهَا مَأْخُوذَة من كتب بني إِسْرَائِيل، وَهُوَ مِمَّا يجوز نقلهَا، لَكِن لَا يصدق وَلَا يكذب، فَلهَذَا لَا يعْتَمد عَلَيْهَا إلاَّ مَا وَافق الْحق.
قَالَ أَبُو العَالِيَةِ الْعَوَانُ النَّصَفُ بَيْنَ البِكْرِ والهَرِمَةِ
أَبُو الْعَالِيَة، بِالْعينِ الْمُهْملَة: رفيع بن مهْرَان الريَاحي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَهُوَ فسر الْعوَان فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهَا بقرة لَا فارض وَلَا بكر عوان بَين ذَلِك} (الْبَقَرَة: 86) . وَرَوَاهُ الْقُرْطُبِيّ عَن سَلمَة عَن ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ عَنهُ. قَوْله: {لَا فارض وَلَا بكر} (الْبَقَرَة: 86) . يَعْنِي: لَا هرمة وَلَا صَغِيرَة {عوان بَين ذَلِك} (الْبَقَرَة: 86) . أَي: نَصف بَين الْبكر والهرمة، وَالنّصف، بِفَتْح النُّون وَالصَّاد.
فاقِعٌ صَافٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {صفراء فَاقِع لَوْنهَا تسر الناظرين} (الْبَقَرَة: 96) . وَهَذِه الْجُمْلَة صفة لتِلْك الْبَقَرَة الْمَأْمُور بذبحها ولونها مَرْفُوع بفاقع، وَعَن سعيد بن جُبَير: صفراء فَاقِع صَافِيَة اللَّوْن، وَكَذَا عَن قَتَادَة وَالْحسن وَنَحْوه، وَقَالَ الْعَوْفِيّ فِي (تَفْسِيره) : عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَاقِع لَوْنهَا شَدِيد الصُّفْرَة تكَاد صفرتها تبيض، وَعَن ابْن عمر كَانَت صفراء الظلْف، وَعَن سعيد بن جُبَير: كَانَت صفراء الْقرن والظلف، قَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي حَدثنَا نصر بن عَليّ أخبرنَا أَبُو رَجَاء عَن الْحسن، فِي قَوْله: {صفراء فَاقِع لَوْنهَا} (الْبَقَرَة: 96) . قَالَ: سَوْدَاء شَدِيدَة السوَاد، وَهَذَا غَرِيب. قَوْله: {تسر الناظرين} (الْبَقَرَة: 96) . أَي: تعجبهم.
لاَ ذَلُولٌ لَمْ يُذِلَّهَا العَمَلُ تُثِيرُ الأرْضَ لَيْسَتْ بِذَلُولٍ تُثِيرُ الأرْضَ ولاَ تَعْمَلُ فِي الحَرْثِ

(15/304)


أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا ذَلُول تثير الأَرْض وَلَا تَسْقِي الْحَرْث} (الْبَقَرَة: 17) . أَي: هَذِه لَا ذَلُول، يَعْنِي: لَيست مذللة بالحرث وَلَا معدة للسقي فِي السانية، بل هِيَ مكرمَة حسناء صَبِيحَة. قَوْله: (لم يذلها) ، بِضَم الْيَاء من الإذلال، وَالْعَمَل مَرْفُوع بِهِ. قَوْله: (تثير الأَرْض) يَعْنِي: لَيست بذلول فتثير الأَرْض.
مُسَلَّمَةٌ مِنَ العُيُوبِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مسلمة} (الْبَقَرَة: 17) . الْآيَة وفسرها بقوله: من الْعُيُوب، وَقَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: مسلمة القوائم والخلق.
لاَشِيَة بَيَاضٌ
فسر الشية الَّتِي هِيَ اللَّوْن بقوله: بَيَاض، يَعْنِي: لَا بَيَاض فِيهَا، قَالَ أَبُو الْعَالِيَة والربعي وَالْحسن وَقَتَادَة: لَيْسَ فِيهَا بَيَاض، وَقَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: لَوْنهَا وَاحِد، وروى عَن عَطِيَّة ووهب بن مُنَبّه نَحْو ذَلِك، وَقَالَ السّديّ: {لَا شية فِيهَا} (الْبَقَرَة: 17) . من بَيَاض وَلَا سَواد وَلَا حمرَة.
صَفْرَاءُ إنْ شِئْتَ سَوْدَاءُ ويُقَالُ صَفْرَاءُ كَقَوْلِهِ جِمَالاَتٌ صُفْرٌ غَرَضه من هَذَا الْكَلَام أَن الصُّفْرَة يحْتَمل حملهَا على مَعْنَاهَا الْمَشْهُور، وعَلى معنى السوَاد، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {جمالات صفر} (المرسلات: 33) . فَإِنَّهُ فسر بسود يضْرب إِلَى الصُّفْرَة فاحمل على أَيهمَا شِئْت. قَوْله: (جمالات) جمع الْجمع لِأَنَّهُ جمع: جمالة، والجمالة جمع جمل وفسرها مُجَاهِد بسود، وَيُقَال للجمل الْأسود: أصفر، لِأَنَّهُ لَا يُوجد جمل أسود إلاَّ وَهُوَ مشرب بصفرة.
فادَّارَأْتُمْ اخْتَلَفْتُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قتلتم نفسا فادَّارَأْتُم فِيهَا} (الْبَقَرَة: 27) . وَفسّر بقوله: اختلفتم، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن أبي حُذَيْفَة عَن شبْل عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد: أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ قتلتم نفسا فادَّارأتُم فِيهَا} (الْبَقَرَة: 27) . اختلفتم، وَقَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي وَالضَّحَّاك: اختصمتم فِيهَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة، وَهُوَ من التداري، وَهُوَ التدافع، وَالله أعلم.

13 - (بابُ وفاتِ مُوساى وذِكْرُهُ بَعْدُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وَفَاة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر ذكر لفظ: بَاب، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور عِنْده: وَفَاة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (وَذكره بعد) ، بِضَم الدَّال لِأَنَّهُ مَبْنِيّ عَلَيْهِ لكَونه قطع عَن الْإِضَافَة وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان ذكره بعد ذَلِك وَفَاته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.

7043 - حدَّثنا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عنِ ابنِ طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ أرْسِلَ مَلَكُ المَوْتِ إِلَى مُوسَى علَيْهِمَا السَّلاَمُ فلَمَّا جاءَهُ صَكَّهُ فرَجَعَ إلَى رَبِّهِ فقالَ أرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ المَوْتَ قَالَ ارْجِعْ إلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا قالَ ثُمَّ المَوْتُ قَالَ فالآنَ قَالَ فَسَألَ الله أَن يُدْنِيهِ مِنَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ. رَمْيَةً بِحَجَرٍ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الكَثِيبِ الأحْمَرِ. (انْظُر الحَدِيث 9331) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى بن مُوسَى بن عبد ربه أَبُو زَكَرِيَّاء السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي، يُقَال لَهُ: خت، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَابْن طَاوُوس هُوَ عبد الله.
وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ أَولا مَوْقُوفا من طَرِيق طَاوُوس عَنهُ، ثمَّ أوردهُ عتيبة بِرِوَايَة همام عَنهُ مَرْفُوعا وَهُوَ الْمَشْهُور عَن عبد الرَّزَّاق، والْحَدِيث مر فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب من

(15/305)


أحب الدّفن فِي الأَرْض المقدسة.
قَوْله: (صَكه) ، أَي: ضربه، وَفِي رِوَايَة مُسلم: جَاءَ ملك الْمَوْت إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: أجب رَبك، فلطم مُوسَى عين ملك الْمَوْت ففقأها، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: كَانَ ملك الْمَوْت يَأْتِي النَّاس عيَانًا، فَأتى مُوسَى فَلَطَمَهُ ففقأ عينه. قَوْله: (لَا يُرِيد الْمَوْت) ، وَفِي رِوَايَة همام، وَقد فَقَأَ عَيْني فَرد الله عينه، وَفِي ررواية عمار، فَقَالَ: يَا رب عَبدك مُوسَى فَقَأَ عَيْني، وَلَوْلَا كرامته عَلَيْك لشققت عَلَيْهِ. قَوْله: (فَقل لَهُ) ، أَي: لمُوسَى، يضع يَده، وَفِي رِوَايَة أبي يوسن: فَقل لَهُ: الحياةَ تُرِيدُ؟ فَإِن كنت تُرِيدُ الْحَيَاة فَإِن كنت تُرِيدُ الْحَيَاة فضع يدك. قَوْله: (على متن ثَوْر) ، هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: بِمَا غطى. قَوْله: (أَي رب) ، يَعْنِي: يَا رب. قَوْله: ثمَّ مَاذَا أَي ثمَّ مَا يكون بعد هَذَا أَي أحياة أَو موت؟ قَوْله (فَالْآن) هُوَ ظرف زمَان الْحَال بَين الْمَاضِي والمستقبل قَوْله: (ثمَّ مَاذَا) أَي ثمَّ مَا يكون بعد هَذَا أَي: أحياة أَو موت؟ قَوْله (فَالْآن) هُوَ ظرف زمَان الْحَال بَين الْمَاضِي والمستقبل قَوْله: أَن يُدْنِيه) بِضَم الْيَاء من الإدناء أَي: يقربهُ، وَوجه سُؤَاله الإدناء من الأَرْض المقدسة هُوَ شرفها وف ضيلة مَا فِيهَا من المدفونين من الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَغَيرهم، فَإِن قلت: سَأَلَ الإدناء فلَمَ لَمْ يسْأَل نفس بَيت الْمُقَدّس؟ قلت: لِأَنَّهُ خَافَ أَن يكون قَبره مَشْهُورا عِنْدهم فيفتتن بِهِ النَّاس. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الدّفن فِي الْمَوَاضِع الفاضلة والمواطن الْمُبَارَكَة والقرب من مدافن الصَّالِحين قَوْله (رمية) أَي قدر رمية كائنة بِحجر. قَوْله: (إِلَى جَانب الطَّرِيق) هَكَذَا رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: من جَانب الطَّرِيق. قَوْله: (الْكَثِيب) بالثاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ الرمل الْكثير الْمُجْتَمع.
وَاخْتلف أهل السّير فِي مَوضِع قَبره، فَقيل: بِأَرْض التيه وَهَارُون كَذَلِك وَلم كَذَلِك. وَلم يدْخل مُوسَى الأَرْض المقدسة إلاَّ رمية حجر، رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن بن عَبَّاس، وَقَالَ: لَا يعرف قَبره، وَرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبهم ذَلِك بقوله: إِلَى جَانب الطَّرِيق عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر، وَلَو أَرَادَ بَيَانه لبيَّن صَرِيحًا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَو علمت الْيَهُود قبر مُوسَى وَهَارُون لاتخذوهما إل هَين من دون الله، وَقيل: بِبَاب لد بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس، وَقيل: قَبره بَين عالية وعويلة عِنْد كَنِيسَة توماء، وَقيل: بالوادي فِي أَرض مَاء بَين بُصرى والبلقاء، وَقيل: قَبره بِدِمَشْق، ذكره ابْن عَسَاكِر عَن كَعْب الْأَحْبَار، وَالأَصَح أَنه بالتيه قدر رمية حجر من الأَرْض المقدسة، وَعَن وهب: أَن الْمَلَائِكَة توَلّوا دَفنه وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَأَنه عَاشَ مائَة وَعشْرين سنة، وَقَالَ وهب: وَصلى عَلَيْهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ مَوته بعد موت هَارُون بِأحد عشر شهرا، وَكَانَ بَين وَفَاة إِبْرَاهِيم ومولد مُوسَى مِائَتَان وَخَمْسُونَ سنة، وَقد مَضَت بَقِيَّة الْكَلَام فِي كتاب الْجَنَائِز.
قَالَ وأخْبرَنا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ قَالَ حدَّثنا أَبُو هُرَيْرَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَهُ
أَي: قَالَ عبد الرَّزَّاق: أخبرنَا معمر بن رَاشد عَن همام بن مُنَبّه نَحْو الحَدِيث الْمَذْكُور، وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ وَقد وهم من قَالَ: إِنَّه مُعَلّق. قلت: صورته صُورَة تَعْلِيق، وَكَونه مَوْصُولا بِالْإِسْنَادِ الأول مُحْتَمل، وَلَا يلْزم من إِخْرَاج غَيره هَذَا مَوْصُولا أَن يكون هَذَا أَيْضا مَوْصُولا، وَهُوَ فِي صُورَة التَّعْلِيق، فَافْهَم.

8043 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرَني أبُو سلَمَة بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ وسَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ اسْتَبَّ رجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ ورَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُ والَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علَى العَالَمِينَ فِي قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ فَقَالَ اليَهُودِيُّ والَّذِي اصْطَفَى مُوسَى علَى العَالَمِينَ فرَفَعَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ يَدَهُ فلَطَمَ اليَهُودِيَّ فذَهَبَ اليَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخْبَرَهُ الَّذِي كانَ مِنْ أمْرِهِ وأمْرِ الْمُسْلِمِ فَقَالَ لاَ تُخَيِّرُونِي علَى مُوسَى فإنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فأكُونُ أوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فإذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ العَرْشِ فَلاَ أدْرِي أكانَ فِيمَنْ صَعِقَ فأفَاقَ قَبْلِي أوْ كانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى الله. .

مطابقته للجزء الْأَخير للتَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: وَذكره بعد، وَقد تكَرر ذكر رِجَاله على هَذَا النسق. والْحَدِيث مضى فِي

(15/306)


الْخُصُومَات فِي: بَاب مَا يذكر فِي الْأَشْخَاص، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.

9043 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ حُمَيْدِ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمَّنِ أنَّ أبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى أنْتَ آدَمُ الَّذِي أخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ أنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ الله بِرِسَالَتِهِ وبِكَلاَمِهِ ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أمْرٍ قُدَّرَ علَيَّ قَبْلَ أنْ أُخْلَقَ فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ. .

مطابقته للجزء الْأَخير للتَّرْجَمَة، وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى الْقرشِي الأويسي الْمَدِينِيّ، وَهُوَ من أَفْرَاده وَإِبْرَاهِيم ابْن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ الْقرشِي الْمَدِينِيّ، كَانَ على قَضَاء بَغْدَاد.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن يحيى بن بكير. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْقدر عَن زُهَيْر بن حَرْب وَمُحَمّد بن حَاتِم.
قَوْله: (احْتج مُوسَى وآدَم) أَي: تحاجَّا. إِمَّا أَن تكون أرواحهما تَحَاجَّتْ، أَو يكون ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة، وَالْأول أظهر. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَيحْتَمل أَن يحمل على ظَاهره، وأنهما اجْتمعَا بأشخاصهما. وَقد ثَبت فِي حَدِيث الْإِسْرَاء أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اجْتمع بالأنبياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي السَّمَوَات وَفِي بَيت الْمُقَدّس وَصلى بهم، وَلَا يبعد أَن الله أحياهم كَمَا أَحْيَا الشُّهَدَاء، وَيحْتَمل أَن يكون جرى ذَلِك فِي حَيَاة مُوسَى، سَأَلَ الله تَعَالَى أَن يرِيه آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فيحاجه. قَوْله: (خطيئتك) أَي: الْأكل من الشَّجَرَة الْمنْهِي عَنْهَا بقوله: {لَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة} (الْبَقَرَة: 53، الْأَعْرَاف: 91) . وَجَاز فِي مثله: أخرجتك وأخرجته بِالْخِطَابِ والغيبة نَحْو.
(أَنا الَّذِي سمتني أُمِّي حيدره.)

أَي: سمته قَوْله: (الَّذِي اصطفاك الله) ، أَي: جعلك خَالِصا صافياً عَن شَائِبَة مَا لَا يَلِيق بك. وَفِيه تلميح إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكلم الله مُوسَى تكليماً} (النِّسَاء: 461) . قَوْله: (ثمَّ تلومني) كلمة: ثمَّ، بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْمِيم الْمُشَدّدَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: بِمَ، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْمِيم المخففة. قَوْله: (فحج آدم) بِالرَّفْع بِاتِّفَاق الروَاة أَي: غَلبه بِالْحجَّةِ وَظهر عَلَيْهِ بهَا، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: أَي غلب بِالْحجَّةِ، بِأَن ألزمهُ أَن جملَة مَا صدر عَنهُ لم يكن هُوَ مُسْتقِلّا بهَا مُتَمَكنًا من تَركهَا، بل كَانَ أمرا مقضياً. قَوْله: (مرَّتَيْنِ) ، مُتَعَلق بقوله: قَالَ، وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا حجه آدم فِي رفع اللوم إِذْ لَيْسَ لأحد من الْآدَمِيّين أَن يلوم أحدا بِهِ، وَأما الحكم الَّذِي تنازعاه فَإِنَّمَا هما فِي ذَلِك سَوَاء إِذْ لَا يقدر أحد أَن يسْقط الأَصْل الَّذِي هُوَ الْقدر، وَلَا أَن يبطل الَّذِي هُوَ السَّبَب، وَمن فعل وَاحِدًا مِنْهُمَا خرج عَن الْقَصْد إِلَى أحد الطَّرفَيْنِ، مَذْهَب الْقدر أَو الْجَبْر، وَفِي قَول آدم استقصار لعلم مُوسَى أَي: إِذا جعلك الله بِالصّفةِ الَّتِي أَنْت عَلَيْهَا من الاصطفاء بالرسالة وَالْكَلَام، فَكيف يسعك أَن تلومني على الْقدر الَّذِي لَا مدفع لَهُ؟ وَحَقِيقَته أَنه دفع حجَّة مُوسَى الَّتِي ألزمهُ بهَا اللوم وَذَلِكَ أَن الِاعْتِرَاض والابتداء كَانَ من مُوسَى، وعارضه بِأَمْر دفع بِهِ اللوم، فَكَانَ هُوَ الْغَالِب، وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّك تعلم أَنه مُقَدّر فَلَا تلمني، وَأَيْضًا اللوم شَرْعِي لَا عَقْلِي، وَإِذا تَابَ الله عَلَيْهِ وَغفر لَهُ زَالَ عَنهُ اللوم، فَمن لامه كَانَ محجوجاً بِالشَّرْعِ، فَإِن قيل: فالعاصي منَّا لَو قَالَ: هَذِه الْمعْصِيَة كَانَت بِتَقْدِير الله تَعَالَى لم تسْقط عَنهُ الْمَلَامَة قُلْنَا هُوَ باقٍ فِي دَار التَّكْلِيف جَار عَلَيْهِ أَحْكَام الْمُكَلّفين، وَفِي لومه زجر لَهُ وَلغيره، وَأما آدم فميت خَارج عَن هَذِه الدَّار وَعَن الْحَاجة إِلَى الزّجر، فَلم يكن فِي هَذَا القَوْل فَائِدَة سوى التخجيل وَنَحْوه، وَقَالَ التوربشتي: لَيْسَ من معنى قَول آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب الله عَليّ، ألزمهُ إِيَّاه وأوجبه عَليّ، فَلم يكن لي فِي تنَاول الشَّجَرَة كسب وَاخْتِيَار، وَإِنَّمَا الْمَعْنى أثْبته فِي أم الْكتاب قبل كوني، وَحكم بِأَن ذَلِك كَائِن لَا محَالة لعلمه السَّابِق، فَهَل يُمكن أَن يصدر عني خلاف علم الله، فَكيف تغفل عَن الْعلم السَّابِق؟ وتذكر الْكسْب الَّذِي هُوَ السَّبَب وتنسى الأَصْل الَّذِي هُوَ الْقدر وَأَنت مِمَّن اصطفاك الله من المصطفين الأخيار الَّذين يشاهدون سر الله من وَرَاء الأستار؟

(15/307)


0143 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا حُصَيْنُ بنُ نُمَيْرٍ عنْ حُصَيْنِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ سَعِيدِ ابنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ خرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمَاً قَالَ عُرِضَتْ علَيَّ الأُمَمُ ورأيْتُ سَوَادَاً كَثِيرَاً سَدَّ الأُفُقَ فَقِيلَ هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة للجزء الْأَخير مِنْهَا، وحصين، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن نمير: مصغر النمر الْحَيَوَان الْمَشْهُور أَبُو محسن الوَاسِطِيّ، وَشَيْخه حُصَيْن كَذَلِك ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ أَبُو الْهُذيْل الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا مطولا فِي الطِّبّ عَن مُسَدّد أَيْضا وَفِي الرقَاق عَن عمرَان بن ميسرَة وَعَن أسيد بن زيد مَقْرُونا بِحَدِيث عمرَان بن ميسرَة وَفِي الرقَاق أَيْضا عَن إِسْحَاق. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن سعيد بن مَنْصُور وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن أبي حُصَيْن عبد الله بن أَحْمد بِطُولِهِ: وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن أبي حُصَيْن بِهِ.
قَوْله: (سواداً) ، وَهُوَ الَّذِي يعبر بِهِ عَن الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة. قَوْله: (سد الْأُفق) ، والأفق بالضمتين وَاحِد آفَاق السَّمَاء وَالْأَرْض، وَهِي نواحيهما. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَيجوز أَن يكون الْأُفق وَاحِدًا وجمعاً: كالفلك، وَقَالَ ابْن التِّين: وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ الحَدِيث أَن أمة مُوسَى أَكثر الْأُمَم بعد أمة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: ظَاهر الحَدِيث يدل صَرِيحًا على كَثْرَة أمة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالله أعلم.

23 - (بابُ قَوْلِ الله تعالَى {وضَرَبَ الله مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأةَ فِرْعَوْنَ} إِلَى قَوْله: {وكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} (التَّحْرِيم: 11) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان آسِيَة بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي قَوْله: {وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا امْرَأَة فِرْعَوْن إِذْ قَالَت رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة ونجني من فِرْعَوْن وَعَمله ونجني من الْقَوْم الظَّالِمين وَمَرْيَم ابْنة عمرَان الَّتِي أحصنت فرجهَا فنفخنا فِيهِ من رُوحنَا وصدقت بِكَلِمَات رَبهَا وَكتبه وَكَانَت من القانتين} (التَّحْرِيم: 11) . قَوْله: (ضرب الله مثلا) إِلَى آخِره، مثَّل حَال الْمُؤمنِينَ فِي أَن وصلَة الْكَافرين لَا تَضُرهُمْ وَلَا تنقص شَيْئا من ثوابهم وزلفاهم عِنْد الله بِحَال امْرَأَة فِرْعَوْن ومنزلتها عِنْد الله مَعَ كَونهَا امْرَأَة أعدى أَعدَاء الله النَّاطِق بِالْكَلِمَةِ الْعُظْمَى، وَأَرَادَ بِامْرَأَة فِرْعَوْن: آسِيَة بنت مُزَاحم، لما غلب مُوسَى سحرة فِرْعَوْن: أمنت، فَلَمَّا تبين إيمَانهَا لفرعون وَثبتت عَلَيْهِ أوتد يَديهَا ورجليها بأَرْبعَة أوتاد وَأَلْقَاهَا فِي الشَّمْس وَأمر بصخرة عَظِيمَة فَتلقى عَلَيْهَا، فَلَمَّا أَتَوا بالصخرة قَالَت: رب ابْن لي عنْدك بَيْتا فِي الْجنَّة! فَأَبْصَرت بَيتهَا فِي الْجنَّة من درة بَيْضَاء، وانتزع الله روحها فألقيت الصَّخْرَة عَلَيْهَا وَلَيْسَ فِي جَسدهَا روح، فَلم تَجِد ألماً من عَذَاب فِرْعَوْن. وَعَن الْحسن وَابْن كيسَان: رفع الله امْرَأَة فِرْعَوْن إِلَى الْجنَّة فَهِيَ فِيهَا تَأْكُل وتشرب. قَوْله: (وَمَرْيَم ابْنة عمرَان) عطف على: امْرَأَة فِرْعَوْن، أَي: وَضرب الله مثلا للَّذين آمنُوا مَرْيَم ابْنة عمرَان وَمَا أُوتيت من الْكَرَامَة من كرامات الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والاصطفاء على نسَاء الْعَالمين مَعَ أَن قَومهَا كَانُوا كفَّارًا. قَوْله: (وَكَانَت من القانتين) أَي: من الْقَوْم القانتين، وَلذَلِك لم يقل: من القانتات، وآسية هِيَ بنت مُزَاحم ابْنة عَم فِرْعَوْن، وَقيل: إِنَّهَا من العماليق، وَقيل من بني إِسْرَائِيل من سبط مُوسَى، وَقَالَ السُّهيْلي: هِيَ عمَّة مُوسَى وَكَانَت لَهَا فراسة حِين قَالَت: قُرَّة عين لي وَلَك، وَإِنَّمَا ذكر الْآيَة المتضمنة لقضية مَرْيَم لكَونهَا مَذْكُورَة مَعَ آسِيَة. وَلَيْسَ مَقْصُوده من التَّرْجَمَة إلاَّ ذكر آسِيَة.

1143 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا وَكِيعٌ عنْ شُعْبَةَ عنْ عَمْرِو بنِ مُرَّةَ عنْ مُرَّةَ الهَمْدَانِيِّ عنْ أبِي مُوسَى رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَملَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ آسِيَةُ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ ومَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وإنَّ فَضْلَ عائِشَةَ علَى النِّسَاءِ كفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سائِرِ الطَّعَامِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا لِأَن المُرَاد من قَوْله: (امْرَأَة فِرْعَوْن) هِيَ آسِيَة. وَيحيى بن جَعْفَر بن أعين أَبُو زَكَرِيَّا البُخَارِيّ البيكندي وَهُوَ من أَفْرَاده، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَعَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الرَّاء: الْمرَادِي الْأَعْمَى الْكُوفِي، مر فِي كتاب الصَّلَاة، وَمرَّة الْهَمدَانِي هُوَ مرّة بن شرَاحِيل الْكُوفِي كَانَ يُصَلِّي كل يَوْم ألف رَكْعَة، وَلما كبر كَانَ لَهُ وتد يعْتَمد عَلَيْهِ،

(15/308)


وَأَبُو مُوسَى هُوَ عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل عَائِشَة عَن عَمْرو بن مَرْزُوق وَفِي الْأَطْعِمَة عَن بنْدَار عَن غنْدر، وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن أبي بكر وَأبي كريب وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَابْن بشار وَعَن عبيد الله بن معَاذ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن قُتَيْبَة بِقصَّة مَرْيَم وآسية وَعَن عَمْرو بن عَليّ كَذَلِك وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود بِقصَّة فضل عَائِشَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَطْعِمَة عَن مُحَمَّد بن بشار بِتَمَامِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كمل) ، بِضَم الْمِيم وَفتحهَا وَكسرهَا، ثَلَاث لُغَات، وَالْمرَاد من الْكَمَال: التناهي فِي جَمِيع فَضَائِل الرِّجَال، قَوْله: (وَلم يكمل من النِّسَاء إلاَّ آسِيَة امْرَأَة فِرْعَوْن وَمَرْيَم بنت عمرَان) ، وَقد اسْتدلَّ بَعضهم بِهَذَا على أَن آسِيَة وَمَرْيَم نبيتان، لِأَن أكمل النَّوْع الإنساني الْأَنْبِيَاء ثمَّ الْأَوْلِيَاء وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء، فَلَو كَانَتَا غير نبيتين للَزِمَ أَن لَا يكون فِي النِّسَاء ولية وَلَا صديقَة وَلَا شهيدة، وَفِي نفس الْأَمر إِن هَذِه الصِّفَات مَوْجُودَة فِي كثير مِنْهُنَّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لم تنبأ من النِّسَاء إِلَّا فُلَانَة وفلانة. وَمنع بِأَنَّهُ لَا يلْزم من لَفظهَا الْكَمَال نبوتهما إِذْ هُوَ يُطلق على إتْمَام الشَّيْء وتناهيه فِي بَابه، فَالْمُرَاد تناهيهما فِي جَمِيع الْفَضَائِل الَّتِي للنِّسَاء، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد نقل الْإِجْمَاع على عدم النُّبُوَّة للنِّسَاء. قلت: وَقد نقل عَن الْأَشْعَرِيّ أَن من النِّسَاء من نبيء وَهن سِتّ: حَوَّاء وَسَارة وَأم مُوسَى وَهَاجَر وآسية وَمَرْيَم، وَقد ثَبت مَجِيء الْملك لبعضهن فِي الْقُرْآن، وَقد قَالَ الله تَعَالَى بعد أَن ذكر مَرْيَم والأنبياء بعْدهَا: {أُولَئِكَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين} (مَرْيَم: 85) . فَدخلت فِي عُمُومه، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الصَّحِيح أَن مَرْيَم نبية لِأَن الله أوحى إِلَيْهَا بِوَاسِطَة الْملك وَأما آسِيَة فَلم يرد مَا يدل على نبوتها. قَوْله: (وَإِن فضل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، على النِّسَاء) أَي: على نسَاء هَذِه الْأمة فِي الْفَضِيلَة وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على الْأَفْضَلِيَّة، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شبه فَضلهَا بِفضل الثَّرِيد على غَيره من الطَّعَام لما فِيهِ من تيسير المؤونة وسهولة الإساغة، وَكَانَ أجل أطعمتهم يَوْمئِذٍ، وكل هَذِه الْخِصَال لَا تَسْتَلْزِم الْأَفْضَلِيَّة لَهَا من كل وَجه.
وَقد ورد من طَرِيق صَحِيح مَا يَقْتَضِي أَفضَلِيَّة خَدِيجَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، على غَيرهَا، وَهُوَ مَا رُوِيَ من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: خير نسائها خَدِيجَة، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَورد أَيْضا مَا يَقْتَضِي أَفضَلِيَّة خَدِيجَة وَفَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِيمَا أخرجه أَحْمد وَابْن حبَان وَأَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو دَاوُد فِي كتاب الزّهْد وَالْحَاكِم، كلهم من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل نسَاء أهل الْجنَّة خَدِيجَة بنت خويلد وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد وَمَرْيَم ابْنة عمرَان وآسية امْرَأَة فِرْعَوْن) . وَله شَاهد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَأحمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي سعيد رَفعه: فَاطِمَة سيدة نسَاء أهل الْجنَّة إلاَّ مَا كَانَ من مَرْيَم بنت عمرَان. وَعَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (حَسبك من نسَاء الْعَالمين بِأَرْبَع: مَرْيَم بنت عمرَان وآسية امْرَأَة فِرْعَوْن وَخَدِيجَة بنت خويلد وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد) . رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن عَسَاكِر. وَعَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (خطّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الأَرْض أَرْبَعَة خطوط، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالُوا: الله وَرَسُوله أعلم. فَقَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أفضل نسَاء أهل الْجنَّة خَدِيجَة بنت خويلد وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد وَمَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن) . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو يعلى وَابْن عَسَاكِر، وروى الإِمَام أَحْمد من حَدِيث أبي سعيد، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَاطِمَة سيدة نسَاء أهل الْجنَّة إلاَّ مَا كَانَ من مَرْيَم بنت عمرَان) . وَهَذَا يدل على أَن فَاطِمَة وَمَرْيَم أفضل هَذِه الْأَرْبَع، ثمَّ يحْتَمل الِاسْتِثْنَاء أَن تكون مَرْيَم أفضل من فَاطِمَة، وَيحْتَمل أَن تَكُونَا على السوَاء فِي الْفَضِيلَة، لَكِن ورد حَدِيث، إِن صَحَّ عين الِاحْتِمَال الأول، وَهُوَ مَا رُوِيَ: أَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (سيدة نسَاء أهل الْجنَّة مَرْيَم بنت عمرَان ثمَّ فَاطِمَة ثمَّ خَدِيجَة ثمَّ آسِيَة امْرَأَة فِرْعَوْن) . رَوَاهُ ابْن عَسَاكِر، فَإِن كَانَ هَذَا اللَّفْظ مَحْفُوظًا: بثم، الَّتِي للتَّرْتِيب فَهُوَ مُبين لأحد الإحتمالين اللَّذين دلّ عَلَيْهِمَا الِاسْتِثْنَاء، وَيقدم على مَا تقدم من الْأَلْفَاظ الَّتِي وَردت: بواو الْعَطف الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَلَا تنفيه، وَقد روى هَذَا الحَدِيث أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَذكره: بواو الْعَطف لَا بثم، الَّتِي للتَّرْتِيب فخالفه إِسْنَادًا ومتناً.
قَوْله: (كفضل الثَّرِيد) هُوَ من ثردت الْخَبَر ثرداً إِذا كَسرته فَهُوَ ثريد ومثرود، وَالِاسْم: الثردة، بِالضَّمِّ

(15/309)


والثريد غَالِبا لَا يكون إلاَّ بِاللَّحْمِ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: فِي قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،: (فضل عَائِشَة على النِّسَاء) الحَدِيث قيل: لم يرد عين الثَّرِيد، وَإِنَّمَا أَرَادَ الطَّعَام الْمُتَّخذ من اللَّحْم والثريد مَعًا، لِأَن الثَّرِيد غَالِبا لَا يكون إلاَّ من اللَّحْم، وَالْعرب قَلما تَجِد طبيخاً وَلَا سِيمَا بِلَحْم.

53 - (بابٌ {إنَّ قَارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} (الْقَصَص: 67) . الْآيَة)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: {إِن قَارون كَانَ من قوم مُوسَى فبغى عَلَيْهِم وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي الْقُوَّة إِذْ قَالَ لَهُ قومه لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين} (الْقَصَص: 67) . قَارون: إسم أعجمي مثل هَارُون غير منصرف للعلمية والعجمة، وَلَو كَانَ وَزنه فاعولاً لانصرف. قَوْله: (من قوم مُوسَى) أَي: من عشيرته، وَفِي نسبه إِلَى مُوسَى ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ ابْن عَمه، قَالَه سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ ابْن جريج وَعبد الله بن الْحَارِث. وَالثَّانِي: ابْن خَالَته، رَوَاهُ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَنه عَم مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه ابْن إِسْحَاق، وَقيل: معنى كَونه من قومه أَنه آمن بِهِ، وَكَانَ أَقرَأ بني إِسْرَائِيل للتوراة، وَلكنه نَافق كَمَا نَافق السامري، قَالَ: إِذا كَانَت النُّبُوَّة لمُوسَى وَالذّبْح والقربان لهارون، فَمَالِي؟ فبغى عَلَيْهِ. قَالَ ابْن عَبَّاس: بغيه عَلَيْهِ هُوَ قذفه مُوسَى ببغية جعل لَهَا جعلا، وَقَالَ الضَّحَّاك: بغيه عَلَيْهِ هُوَ كفره بِاللَّه، وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ كبره، وَقَالَ عَطاء: هُوَ أَنه زَاد فِي طول ثِيَابه شبْرًا. قَوْله: (وَآتَيْنَاهُ من الْكُنُوز) أَي: الْأَمْوَال المدخرة. قَوْله: (مَا إِن مفاتحه) ، كلمة: مَا، مَوْصُولَة. قَوْله: (لتنوء) ، خبر: إِن، والمفاتح، جمع مِفْتَاح أَي: مفاتح خزائنه لتنوء أَي: لتثقل بالعصبة وتميل بهم إِذا حملوها، والعصبة: الْجَمَاعَة الْكَثِيرَة، وَقيل: الْعصبَة عشرَة، وَقيل: خَمْسَة عشر، وَقيل: أَرْبَعُونَ، وَقيل: من عشرَة إِلَى أَرْبَعِينَ. قَوْله: (لتنوء) اللاَّم فِيهِ للتَّأْكِيد، وتنوء فعل مضارع من ناء نوءاً إِذا نَهَضَ بِهِ مُثقلًا، وروى أَن مفاتح خَزَائِن قَارون كَانَت وقر سِتِّينَ بغلاً غراً محجلة لكل خزانَة مِفْتَاح وَلَا يزِيد الْمِفْتَاح على إِصْبَع وَكَانَت من جُلُود الْإِبِل، وَيُقَال: كَانَت من الْحَدِيد، فَثقلَتْ عَلَيْهِ فَجَعلهَا من خشب، فَثقلَتْ عَلَيْهِ فَجَعلهَا من جُلُود الْبَقر، وَكَانَت خزائنه تحمل مَعَه حَيْثُ مَا ذهب. قَوْله: (أولي الْقُوَّة) ، صفة الْعصبَة. قَوْله: (إِذْ قَالَ لَهُ قومه) ، يَعْنِي: حِين قَالَ لَهُ قومه، وَكلمَة: إِذْ، مَنْصُوب بقوله: لتنوء، قَوْله: (لَا تفرح) ، يَعْنِي لَا تبطر إِن الله لَا يحب البطرين، وَقيل: مَعْنَاهُ لَا تفْسد إِن الله لَا يحب المفسدين، وَقيل: إِن الله لَا يحب المرحين.
لَتَنُوءُ لَتُثْقِلُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا إِن مفاتحه لتنوء بالعصبة} (الْقَصَص: 67) . وَفَسرهُ بقوله: لتثقل، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُولِي القُوَّةِ لَا يَرْفَعُهَا العُصْبَةُ مِنَ الرِّجَالِ
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس فِي تَفْسِير: أولي الْقُوَّة، لَا يرفعها الْعصبَة من الرِّجَال، وَقد مر الْكَلَام فِي تَفْسِيره الْآن.
يُقالُ الفَرِحِينَ المَرِحِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يحب الفرحين} (الْقَصَص: 67) . أَن مَعْنَاهُ: المرحين، وَهُوَ تَفْسِير ابْن عَبَّاس، أوردهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ.
ويْكَأنَّ الله مِثْلُ ألَمْ تَرَ أنَّ الله
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ويْكَأنَّ الله يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر لَوْلَا أَن مَنَّ الله علينا لخسف بِنَا ويْكَأنَّهُ لَا يفلح الْكَافِرُونَ} (الْقَصَص: 28) . قلت: قَالَ الْخَلِيل: وي، وَحدهَا و: كَأَن، للتحقيق، وَقَالَ أَبُو الْحسن: وي إسم فعل، وَالْكَاف، حرف خطاب و: أَن، على إِضْمَار اللاَّم، وَالْمعْنَى أعجب: لِأَن الله. قَالَ البُخَارِيّ: إِن قَوْله: {ويكأن الله} مثل: {ألم تَرَ أَن الله} (الْقَصَص:) . وَهَكَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، أَرَادَ أَن مَعْنَاهُ مثل معنى قَوْله: {ألم تَرَ أَن الله} (الْقَصَص:) . وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وي، مفصولة عَن: كَأَن، وَهِي كلمة تَنْبِيه على الْخَطَأ والتندم، وَحكى الْفراء أَن أعرابية قَالَت لزَوجهَا: أَيْن ابْنك؟ فَقَالَ: ويكأنه وَرَاء البيتِ يَعْنِي: أما ترينه وَرَاء الْبَيْت؟

(15/310)


{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ويَقْدِرُ} (سبإ: 63) .
هَذَا فِي آيَة أُخْرَى وأولها: {قل إِن رَبِّي يبسط الرزق لمن يَشَاء وَيقدر} (سبإ: 63) . وَذكرهَا لِأَن فِيهَا مثل مَا فِي الْآيَة الأولى، وَهُوَ قَوْله: {يبسط الرزق لمن يَشَاء من عباده وَيقدر} (سبإ: 93) . ثمَّ فسر قَوْله: يبسط وَيقدر بقوله:
يُوَسِّعُ عَلَيْهِ ويُضَيِّقُ
قَوْله: (يُوسع) ، هُوَ معنى قَوْله: يبسط، وَقَوله: ويضيق، معنى قَوْله: وَيقدر، وَهُوَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} (الطَّلَاق: 7) . أَي: ضَاقَ، وَيُقَال: قدر على عِيَاله قدرا مثل قتر وَقدر على الْإِنْسَان رزقه قدرا، مثل قتل، وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ هَذِه الآثاء الْمَذْكُورَة، وَلم يثبت هَذَا إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني.

63 - (بابُ قَوْلِ الله تعالَى {وَإِلَى مَدْيَنَ أخَاهُمْ شُعَيْبَاً} (الْأَعْرَاف: 58، هود: 48، وَالْعَنْكَبُوت: 63) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله تَعَالَى: {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيباً قَالَ يَا قوم اعبدوا الله مَا لكم من إل هـ غَيره} (الْأَعْرَاف: 58، هود: 48، وَالْعَنْكَبُوت: 63) . الْآيَة. وَشُعَيْب: اسْم عَرَبِيّ، وَقَالَ مقَاتل: ذكره الله فِي الْقُرْآن فِي تِسْعَة مَوَاضِع، وَهُوَ شُعَيْب بن بويب بن رعول بن غيفا بن مَدين بن إِبْرَاهِيم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: شُعَيْب بن غيفان بن بويب بن مَدين، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: شُعَيْب بن بحرون بن بويب بن مَدين، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: شُعَيْب بن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يَعْقُوب. وَقيل: شُعَيْب بن نويل بن رعويل بن يويب بن غيفا ابْن مَدين بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقيل: شُعَيْب بن ضيفون بن غيفا بنبن ثَابت بن مَدين بن إِبْرَاهِيم، وَيُقَال: جدته أَو أمه بنت لوط، وَكَانَ مِمَّن آمن بإبراهيم وَهَاجَر مَعَه وَدخل دمشق. قَوْله: {وَإِلَى مَدين} (الْأَعْرَاف: 58، هود: 48، وَالْعَنْكَبُوت: 63) . أَي: وَإِلَى أهل مَدين وَكَانُوا قوما عربا يقطعون الطَّرِيق ويخيفون الْمَارَّة ويبخسون المكاييل والموازين، وَكَانُوا مكاسين لَا يدعونَ شَيْئا إلاَّ مكسوه وأرسله الله إِلَيْهِم فَقَالَ: {يَا قوم اعبدوا الله} (الْأَعْرَاف: 58، هود: 48، وَالْعَنْكَبُوت: 63) . أَي: وحدوه، وَقد قصّ الله قصَّته فِي الْقُرْآن، وَقَالَ عُلَمَاء السّير: أَقَامَ شُعَيْب مُدَّة بعد هَلَاك قومه وَوصل إِلَيْهِ مُوسَى وزوجه بنته. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: ثمَّ خرج إِلَى مَكَّة وَمَات بهَا وعمره مائَة وَأَرْبَعُونَ سنة وَدفن فِي الْمَسْجِد الْحَرَام حِيَال الْحجر الْأسود. وَقَالَ سبطه: وَعند طبرية بالسَّاحل قَرْيَة يُقَال لَهَا: حطين فِيهَا قبر يُقَال أَنه قبر شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ أَبُو المفاخر، إِبْرَاهِيم بن جِبْرِيل فِي (تَارِيخه) إِن شعيباً كَانَ عمره سِتّمائَة سنة وَخمسين سنة.
إِلَى أهْلِ مَدْيَنِ لأِنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ ومِثلُهُ {وَاسْألِ القَرْيَةِ} (يُوسُف: 28) . {وَاسألِ العِيرَ} يَعْنِي أهْلَ القَرْيَةِ وأهْلَ العِيرِ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن معنى قَوْله: (إِلَى مَدين) إِلَى أهل مَدين، لِأَن مَدين بلد وَهِي مَدِينَة شُعَيْب على بَحر القلزم محاذية لتبوك على نَحْو سِتّ مراحل مِنْهَا، وَبهَا الْبِئْر الَّتِي استسقى مِنْهَا مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لسائمة شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهِي الْآن خراب، وَأَشَارَ بقوله: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) . إِلَى أَن نَظِير قَوْله تَعَالَى: {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيباً} (يُوسُف: 28) . هُوَ قَوْله: {واسأل الْقرْيَة} (يُوسُف: 28) . فِي أَن الْمُضَاف فيهمَا مَحْذُوف وَهُوَ لفظ: أهل، وَكَذَلِكَ قَوْله: واسأل العير، أَي: أهل العير، لِأَن الْقرْيَة وَالْعير لَا يَصح السُّؤَال مِنْهُمَا.
وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيَّاً لَمْ تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ ويُقالُ إذَا لَمْ تَقْضِ حاجَتَهُ ظَهَرْتَ حاجَتِي وجَعَلَتْنِي ظِهْرِيَّاً قَالَ الظِّهْرِيُّ أنْ تأخُذَ معَكَ دَابَّةً أوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ
أَشَارَ بقوله: {وراءكم ظهريا} (هود: 29) . إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {واتخذتموه وراءكم ظهرياً} (هود: 29) . ثمَّ فسره بقوله: لم تلتفتوا إِلَيْهِ، والظهري مَنْسُوب إِلَى الظّهْر، وَكسر الظَّاء من تغييرات النّسَب كَمَا تَقول فِي أَمْسَى، أَمْسَى بِكَسْر الْهمزَة. قَوْله: (وَيُقَال: إِذا لم تقض حَاجته) ، يَعْنِي: إِذا لم تقض حَاجَة من سَأَلَك بهَا تَقول: ظَهرت حَاجَتي، أَي: جَعلتهَا وَرَاء ظهرك، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَقَوْلهمْ: ظهر فلَان بحاجتي إِذا استخف بهَا. قَوْله: (وَجَعَلَنِي ظهرياً) ، يَعْنِي: يُقَال أَيْضا إِذا لم يلْتَفت إِلَيْهِ وَلَا قضى حَاجته: جَعَلتني ظهرياً، أَي: جَعَلتني وَرَاء ظهرك. قَوْله: (قَالَ الظهري) الظَّاهِر أَن الضَّمِير فِي: قَالَ، يرجع إِلَى البُخَارِيّ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الظهري بِصُورَة النِّسْبَة يُقَال أَيْضا لمن يَأْخُذ مَعَه دَابَّة أَو وعَاء يستظهر بِهِ، أَي: يتقوى بِهِ.

(15/311)


مَكانَتُهُمْ وَمَكَانُهُمْ واحِدٌ
هَذَا فِيهِ نظر، لِأَن فِي قصَّة شُعَيْب هَكَذَا: {وَيَا قوم اعْمَلُوا على مكانتكم} (الْأَنْعَام: 531، هود: 39، وَالزمر: 93) . بِمَعْنى: مَكَانكُمْ، وَأما مكانتهم فَفِي سُورَة يس وَهُوَ قَوْله: {وَلَو نشَاء لمسخناهم على مكانتهم} (يس: 76) . وَفِي التَّفْسِير: المكانة وَالْمَكَان وَاحِد، كالمقامة وَالْمقَام.
يَغْنَوْا يَعِيشُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كَأَن لم يغنوا فِيهَا} (هود: 86، 96) . ثمَّ فسره بقوله: يعيشوا، لِأَنَّهُ لما ذكر يغنوا بِدُونِ: لم، فسر: يعيشوا أَيْضا بِدُونِ: لم، وَالْأَصْل، كَأَن لم يغنوا فِيهَا، أَي: لم يعيشوا وَلم يقيموا بهَا.
تَأسَ تَحْزَنُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تأس على الْقَوْم الْفَاسِقين} (الْمَائِدَة: 62) . وَفسّر تأس بقوله:؛ تحزن، وَلم يذكر لفظ: لَا، فِيهَا وَذكر هَذَا لَيْسَ فِي مَحَله لِأَنَّهُ فِي قصَّة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
آسَى أحْزَنُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَكيف آسى على قوم كَافِرين} (الْأَعْرَاف: 39) . وَفسّر: آسى، بقوله: إحزن، وَالْمعْنَى: كَيفَ أَحْزَن وأتندم وأتوجع؟
وَقَالَ الحَسَنُ {إنَّكَ لأَنْتَ الحَلِيمُ الرِّشِيدُ} (هود: 78) . يَسْتَهْزِؤنَ بهِ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك لأَنْت الْحَلِيم الرشيد} (هود: 78) . يستهزؤن بِهِ: يَعْنِي أَنهم عكسوا على سَبِيل الإستعارة التهكمية إِذْ غرضهم: أَنْت السَّفِيه الغوي لَا الْحَلِيم الرشيد، وَوصل ذَلِك ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي الْمليح عَنهُ. قَوْله: (بِهِ) أَي: بشعيب.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَيْكَةُ الأيْكَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كذب أَصْحَاب الأيكة الْمُرْسلين} (الشُّعَرَاء: 671) . قَرَأَ بَعضهم: ليكة، باللاَّم على وزن: لَيْلَة، فَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ نفس الأيكة، وَقَالَ الرشاطي: الأيكة كَانَت منَازِل قوم شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من سَاحل الْبَحْر إِلَى مَدين، وَكَانَ شجرهم الْمقل والأيكة عِنْد أهل اللُّغَة الشّجر الملتف، وَكَانُوا أَصْحَاب شجر ملتف، وَيُقَال: الأيكة الغيضة، وليكة اسْم الْبَلَد حولهَا، كَمَا قبل مَكَّة: بكة، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النّحاس: وَلَا يعلم ليكة اسْم بلد.
يَوْمَ الظِّلَّةِ إظْلاَلُ الغَمامِ العَذَابِ عَلَيْهِمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَخذهُم عَذَاب يَوْم الظلة} (الشُّعَرَاء: 981) . يرْوى أَنه حبس عَنْهُم الْهَوَاء وسلط عَلَيْهِم الْحر فَأخذ بِأَنْفَاسِهِمْ فاضطروا إِلَى أَن خَرجُوا إِلَى الْبَريَّة، فأظلتهم سَحَابَة وجدوا لَهَا بردا ونسيماً، فَاجْتمعُوا تحتهَا، فأمطرت عَلَيْهِم نَارا فاحترقوا. فَكَانَ شُعَيْب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَبْعُوثًا إِلَى أَصْحَاب مَدين وَأَصْحَاب الأية، فأهلكت مَدين بصيحة حبريل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَصْحَاب الأيكة بِعَذَاب يَوْم الظلة.
وَاعْلَم أَن البُخَارِيّ لم يذكر فِي هَذَا الْبَاب غير تَفْسِير الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة فِيهِ، وَلم يَقع هَذَا أَيْضا إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني.

(15/312)