عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 04 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى
{ووهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ
أوَّابٌ} (ص: 03) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا ذكر فِي قَول الله
تَعَالَى {وَوَهَبْنَا ... } إِلَى آخِره وَلَيْسَ فِي بعض
النّسخ لفظ: بَاب، بل الْمَذْكُور: قَول الله تَعَالَى
وَوَهَبْنَا ... إِلَى آخِره. قَوْله: (نعم العَبْد) ،
الْمَخْصُوص بالمدح مَحْذُوف. قَوْله: (إِنَّه أواب)
تَعْلِيل لكَونه ممدوحاً لكَونه أوَّاباً أَي رجَّاعاً
إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ أَو مسبحاً مؤوباً للتسبيح ومرجعاً
لَهُ، لِأَن كل مؤوب أواب.
الرَّاجِعُ المُنِيبُ
هَذَا تَفْسِير الأواب، وَفَسرهُ بِأَنَّهُ الرَّاجِع عَن
الذُّنُوب، والمنيب من الْإِنَابَة وَهِي الرُّجُوع إِلَى
الله بِكُل طَاعَة.
وقَوْلِهِ {هَبْ لِي مُلْكَاً لَا يَنْبَغِي لأِحَدٍ مِنْ
بَعْدِي} (ص: 53) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على: قَول الله، فِي قَوْله: بَاب
قَول الله. قَوْله: (هَب لي) أَي: أَعْطِنِي ملكا لَا
يَنْبَغِي لأحد من بعدِي، يَعْنِي: من دوني، وَقَالَ ابْن
كيسَان: لَا يكون لأحد من بعدِي، وَقَالَ يزِيد بن وهب:
هَب لي ملكا لَا أسلبه فِي بَاقِي عمري كَمَا سلبته فِي
ماضي عمري، وَقَالَ مقَاتل بن حَيَّان: كَانَ سُلَيْمَان
ملكا وَلكنه أَرَادَ بقوله: لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي
تسخير الرِّيَاح وَالطير، وَقيل: إِنَّمَا سَأَلَ ذَلِك
ليَكُون لَهُ علما على الْمَغْفِرَة وَقبُول التَّوْبَة
حَيْثُ أجَاب الله دعاءه، ورد عَلَيْهِ ملكه وَزَاد فِيهِ.
وقَوْلِهِ {واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ علَى
مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (الْبَقَرَة: 201) .
وَقَوله، بِالْجَرِّ أَيْضا عطف على قَوْله: هَب لي ملكا.
قَوْله: (وَاتبعُوا) أَي: الْيَهُود، مَا تتلو
الشَّيَاطِين أَي: مَا ترويه وَتُخْبِرهُ وتحدثه
الشَّيَاطِين. قَوْله: (على ملك سُلَيْمَان) وعداه: بعلى،
لِأَنَّهُ ضمن معنى: تتلوا تكذب، وَقَالَ ابْن جرير: على،
هُنَا بِمَعْنى: فِي، أَي: فِي ملك سُلَيْمَان، وَنَقله
عَن ابْن جريج وَابْن إِسْحَاق. قلت: التَّضْمِين أولى
وَأحسن، وَقَالَ السّديّ مَا ملخصه: إِن الشَّيَاطِين
(16/11)
كَانُوا يصعدون إِلَى السَّمَاء فيسمعون من
الْمَلَائِكَة مَا يكون فِي الأَرْض فَيَأْتُونَ الكهنة
فيخبرون بِهِ فتحدثه الكهنة للنَّاس فيجدونه كَمَا
قَالُوا، وادخلت الكهنة فِيهِ غَيره فزادوا مَعَ كل كلمة
سبعين، كلمة، فاكتتب النَّاس ذَلِك، وفشى فِي بني
إِسْرَائِيل أَن الْجِنّ تعلم الْغَيْب، فَبعث سُلَيْمَان
فِي النَّاس فَجمع تِلْكَ الْكتب وَجعلهَا فِي صندوق ثمَّ
دَفنهَا تَحت كرسيه، وَلم يكن أحد من الشَّيَاطِين
يَسْتَطِيع أَن يدنو من الْكُرْسِيّ إلاَّ احْتَرَقَ،
فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَان تمثل شَيْطَان فِي صُورَة
آدَمِيّ وأتى نَفرا من بني إِسْرَائِيل فدلهم على تِلْكَ
الْكتب فأخرجوها. فَقَالَ لَهُم الشَّيْطَان: إِن
سُلَيْمَان كَانَ يضْبط الْإِنْس وَالْجِنّ وَالطير
بِهَذَا السحر، ثمَّ طَار وَذهب وفشى فِي النَّاس أَن
سُلَيْمَان كَانَ ساحراً فاتخذت بَنو إِسْرَائِيل تِلْكَ
الْكتب، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
خاصموه بهَا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة:
{وَاتبعُوا مَا تتلو الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان
وَمَا كفر سُلَيْمَان} (الْبَقَرَة: 201) . الْآيَة.
ولِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ورَوَاحُهَا
شَهْرٌ} (سبأ: 21) .
أَي: وسخرنا لِسُلَيْمَان الرّيح، وَقَالَ فِي آيَة
أُخْرَى: {فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء} (ص:
63) . أَي لينَة حَيْثُ أصَاب أَي: حَيْثُ أَرَادَ.
قَوْله: (غدوها) أَي: غدو الرّيح، شهر: يَعْنِي: مسير
الرّيح شهر فِي غدوته وَشهر فِي روحته، وَقَالَ مُجَاهِد:
كَانَ سُلَيْمَان يَغْدُو من دمشق فيقيل باصطخر، وَيروح من
اصطخر فيقيل بكابل، وَكَانَ بَين إصطخر وكابل مسيرَة شهر،
وَمَا بن دمشق واصطخر مسيرَة شهر.
{وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْر} (سبإ: 21) . أذَبْنا لَهُ
عَيْنَ الحَدِيدِ
أسلنا من الإسالة، وَفَسرهُ بقوله: أذبنا لَهُ من الإذابة،
وَفسّر عين الْقطر بالحديد، وَقَالَ قَتَادَة: عين من
نُحَاس كَانَت بِالْيمن، وَقَالَ الْأَعْمَش: سيلت لَهُ
كَمَا يسال المَاء، وَقيل: لم يذب للنَّاس لأحد قبله.
{ومِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إلَى
قَوْلِهِ {مِنْ مَحَارِيبَ} (سبإ: 21) .
أَي: وسخرنا لَهُ {من الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ
بِإِذن ربه وَمن يزغ مِنْهُم عَن أمرنَا نذقه من عَذَاب
السعير يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب وتماثيل وجفان
كالجواب وقدور راسيات اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا وَقَلِيل
من عبَادي الشكُور} (سبإ: 21) . قَوْله: (وَمن يزغ) أَي:
وَمن يمل من الْجِنّ عَن أمرنَا نذقه من عَذَاب السعير فِي
الْآخِرَة، وَقيل: فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَن الله
تَعَالَى وكل بهم ملكا بِيَدِهِ سَوط من نَار فَمن زاغ عَن
أمره ضربه ضَرْبَة أحرقته.
قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ مَا دُونَ القُصُورِ
فسر مُجَاهِد المحاريب بقوله: بُنيان مَا دون الْقُصُور،
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: المحاريب جمع محراب وَهُوَ مقدم
كل بَيت، وَهُوَ أَيْضا الْمَسْجِد والمصلى.
وتَماثِيلَ جمع: تِمْثَال، وَهِي الصُّور، وَكَانَ عمل
الصُّور فِي الجدران وَغَيرهَا سائغاً فِي شريعتهم.
{وجِفَان كالْجَوابِ} (سبإ: 21) . كالحِياضِ لِلإبِلِ،
وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: كالْجَوْبَةِ مِنَ الأرْضِ
الجفان جمع جَفْنَة، وَهِي الْقَصعَة الْكَبِيرَة شبهت
بالجوابي وشبهت الجوابي بالحياض الَّتِي يجبى فِيهَا
المَاء أَي: يجمع، وَاحِدهَا: جابية، قَالَ الْأَعْشَى:
(تروح على آل المحلق جَفْنَة كجابية الشَّيْخ الْعِرَاقِيّ
تفهق)
وَيُقَال: كَانَ يقْعد على جَفْنَة وَاحِدَة من جفان
سُلَيْمَان ألف رجل يَأْكُلُون بَين يَدَيْهِ. قَوْله:
(وَقَالَ ابْن عَبَّاس: كالجوبة) أَي: الجفان كالجوبة،
بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وَالْبَاء الْمُوَحدَة:
وَهِي مَوضِع ينْكَشف فِي الْحرَّة وَيَنْقَطِع عَنْهَا.
{وقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} إِلَى قوْلِهِ {الشَّكُورُ} (سبإ:
21) .
راسيات: أَي: ثابتات لَا يحولن وَلَا يحركن من أماكنهن
لعظمهن، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَكَانَت
بِالْيمن، وَمِنْه قيل للجبال: رواسي.
(16/12)
قَوْله: (إِلَى قَوْله: الشكُور) ، بِعني،
إقرأ إِلَى قَوْله: الشكُور، وَهُوَ قَوْله: {اعْمَلُوا آل
دَاوُد شكرا وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} (سبإ: 31) .
قَالَ النَّسَفِيّ: أَي: وَقُلْنَا: إعملوا شكرا، يَعْنِي:
إعملوا بِطَاعَة الله يَا آل دَاوُد شكرا على نعمه، وشكراً
فِي مَحل الْمصدر على تَقْدِير: اشكروا شكرا، لِأَن إعملوا
فِيهِ معنى: اشكروا من حَيْثُ أَن معنى الْعَمَل فِيهِ
للمنعم شكر لَهُ، وَقيل: انتصب: شكرا، على أَنه مفعول
لَهُ، أَي: اعْمَلُوا لله واعبدوه، على وَجه الشُّكْر
لنعمائه، وَقيل: انتصب على الْحَال، أَي: شاكرين، وَقيل:
يجوز أَن ينْتَصب: باعملوا، مَفْعُولا بِهِ، مَعْنَاهُ:
أَنا سخرنا لكم الْجِنّ يعْملُونَ لكم مَا شِئْتُم فاعملوا
أَنْتُم شكرا، على طَرِيق المشاكلة. قَوْله: (الشكُور) ،
المتوفر على أَدَاء الشُّكْر الْبَاذِل وَسعه فِيهِ، قد
شغل بِهِ قلبه وَلسَانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً. وَعَن
ابْن عَبَّاس: الشكُور من يشْكر على أَحْوَاله كلهَا،
وَقَالَ السّديّ: هُوَ من يشْكر على الشُّكْر، وَقيل: من
يرى عَجزه عَن الشُّكْر.
{فلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دلَّهُمْ علَى
مَوْتِهِ إلاَّ دَابَّةُ الأرْضِ. الأرَضَةُ تأكُلُ
مِنْسَأتَهُ عَصاهُ فلَمَّا خَرَّ} إِلَى قَوْلِهِ
{المُهِينِ} (سبأ: 31 41) .
أَي: فَلَمَّا حكمنَا على سُلَيْمَان بِالْمَوْتِ مَا دلّ
الْجِنّ على مَوته إلاَّ دَابَّة الأَرْض وَهِي الأَرْض،
وَهِي دويبة تَأْكُل الْخشب. قَوْله: (منسأته) أَي:
عَصَاهُ. قَوْله: (فَلَمَّا خر) ، أَي: سقط سُلَيْمَان
مَيتا. قَوْله: (إِلَى قَوْله: المهين) ، يَعْنِي: اقْرَأ
إِلَى قَوْله: المهين، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {تبينت
الْجِنّ أَن لَو كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب مَا لَبِثُوا
فِي الْعَذَاب المهين} (سبإ: 31 41) . قَوْله: (تبينت
الْجِنّ) جَوَاب: لما، أَي: لما علمت الْجِنّ أَن لَو
كَانُوا يعلمُونَ الْغَيْب وَكَانُوا يدعونَ أَنهم
يعلمُونَ الْغَيْب. قَوْله: (فِي الْعَذَاب المهين) ، أَي:
فِي الْعَذَاب الَّذِي يهين المعذب، يَعْنِي: مَا عمِلُوا
مسخرين وَهُوَ ميت وهم يَظُنُّونَهُ حَيا.
حُبُّ الخَيْرِ عنْ ذِكْرِ رَبِّي مِنْ ذِكْرِ رَبِّي
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقَالَ
إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي حَتَّى
تَوَارَتْ بالحجاب} (ص: 23) . قَوْله: (حب الْخَيْر) ،
قَالَ الْفراء: الْخَيل وَالْخَيْر بِمَعْنى فِي كَلَام
الْعَرَب، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمى زيد
الْخَيل: زيد الْخَيْر، وَالْخَيْر: المَال أَيْضا.
قَوْله: (عَن ذكر رَبِّي) ، قَالَ قَتَادَة: عَن صَلَاة
الْعَصْر. قَوْله: (حَتَّى تَوَارَتْ) ، يَعْنِي:
الشَّمْس، أَي: غَابَتْ بالحجاب وَهُوَ جبل دون الْقَاف
بمسيرة سنة تغرب الشَّمْس من وَرَائه، قيل: مَعْنَاهُ
حَتَّى استترت الشَّمْس بِمَا يحجبها عَن الْأَبْصَار،
والإضمار قبل الذّكر يجوز إِذا جرى ذكر الشَّيْء أَو
دَلِيل الذّكر، وَقد جرى هُنَا، وَهُوَ قَوْله: بالْعَشي،
وَهُوَ مَا بعد الزَّوَال.
فَطَفِقَ مَسْحَاً بالسُّوقِ والأعناق يَمْسَحُ أعْرَافَ
الخَيْلِ وعَرَاقِيبَهَا
أول الْآيَة: {ردوهَا عَليّ} (ص: 13) . وَهِي
الْمَذْكُورَة قبله بقوله: {إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي
الصافنات الْجِيَاد} (ص: 13) . وَكَانَ سُلَيْمَان،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صلى الصَّلَاة الأولى
ثمَّ قعد على الْكُرْسِيّ وَهِي تعرض عَلَيْهِ، فعرضت
عَلَيْهِ مِنْهَا تِسْعمائَة وَكَانَت ألفا، وَكَانَ
سُلَيْمَان غزا دمشق ونصيبين فَأصَاب مِنْهَا ألف فرس،
وَقَالَ مقَاتل: ورث سُلَيْمَان عَن أَبِيه دَاوُد ألف
فرس، وَكَانَ أَبوهُ أَصَابَهَا من العمالقة، وَقَالَ
الْحسن: بَلغنِي أَنَّهَا كَانَت خيلاً خرجت من الْبَحْر
لَهَا أَجْنِحَة، وَقبل أَن يكمل الْعرض غربت الشَّمْس
ففاتته صَلَاة الْعَصْر وَلم يعلم بذلك فَاغْتَمَّ لذَلِك،
فَقَالَ: {ردوهَا عَليّ فَطَفِقَ مسحاً} (ص: 13) . أَي:
فَأقبل يمسح بسوقها وأعناقها بِالسَّيْفِ وينحرها تقرباً
إِلَى الله تَعَالَى وطلباً لرضاه حَيْثُ اشْتغل بهَا عَن
طَاعَته. قَوْله: (يمسح أعراف الْخَيل وعراقيبها) ،
والعراقيب جمع عرقوب، وَهُوَ العصب الغليظ عِنْد عقب
الْإِنْسَان.
والأصْفَادِ الوَثاقُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرين
مُقرنين فِي الأصفاد} (ص: 83) . وَفسّر الأصفاد
بِالْوَثَاقِ، وروى ابْن جرير من طَرِيق السّديّ، قَالَ:
مُقرنين فِي الأصفاد: أَن تجمع اليدان إِلَى الْعُنُق
بالأغلال، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الأصفاد والأغلال
وَاحِدهَا صفد، وَيُقَال للعطاء أَيْضا: صفد. قَوْله:
{وَآخَرين} (ص: 83) . عطف على قَوْله: {الشَّيَاطِين} (ص:
83) . أَي: سخرنا لَهُ الشَّيَاطِين وسخرنا لَهُ آخَرين،
يَعْنِي: مَرَدَة الشَّيَاطِين مُقرنين فِي الأصفاد،
يُقَال: صفده أَي: شده وأوثقه.
(16/13)
قَالَ مُجَاهِدٌ الصَّافِنَاتُ صَفَنَ
الفَرَس رَفَعَ إحْدى رِجْلَيْهِ حتَّى تَكُونَ علَى
طَرَفِ الحَافِرِ، الجِيَادُ السِّرَاع
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذْ عرض
عَلَيْهِ بالْعَشي الصافنات الْجِيَاد} (ص: 13) . أَن
الصافنات من صفن الْفرس إِلَى آخِره يَعْنِي: مُشْتَقّ
مِنْهُ وَهُوَ جمع صافنة، وَقَالَ النَّسَفِيّ: الصَّافِن
من الْخَيل الْقَائِم على ثَلَاث قَوَائِم، وَقد أَقَامَ
الرَّابِعَة على طرف الْحَافِر، والصفون لَا يكَاد يكون
فِي الهجن وَإِنَّمَا هُوَ فِي العراب الخلص، وَوصل
الْفرْيَابِيّ إِلَى مُجَاهِد مَا قَالَه، لَكِن فِي
رِوَايَته: يَدَيْهِ، وَالْمَوْجُود فِي أصل البُخَارِيّ:
رجلَيْهِ، وَصوب القَاضِي عِيَاض مَا عِنْد الْفرْيَابِيّ.
قَوْله: (الْجِيَاد السراع) بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة،
وَفِي التَّفْسِير: الْجِيَاد المسرعة فِي الجري جمع جواد،
وَقيل: جمع جيد، جمع لَهَا بَين وصفين محمودين.
جَسَداً شَيْطانَاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وألقينا على
كرسيه جسداً} (ص: 43) . وَفسّر جسداً بقوله: شَيْطَانا،
وَقَالَ الْفرْيَابِيّ: حَدثنَا وَرْقَاء عَن ابْن أبي
نجيح فِي قَوْله تَعَالَى: {وألقينا على كرسيه جسداً} (ص:
43) . قَالَ: شَيْطَانا يُقَال لَهُ آصف، قَالَ لَهُ
سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَيفَ تفتن
النَّاس؟ قَالَ: أَرِنِي خاتمك أخْبرك، فَأعْطَاهُ فنبذه
آصف فِي الْبَحْر فساخ، فَذهب سُلَيْمَان وَقعد أصف على
كرسيه وَمنع الله نسَاء سُلَيْمَان فَلم يقربهن، فأنكرته
أم سُلَيْمَان، وَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، يستطعم ويعرفهم بِنَفسِهِ فيكذبونه حَتَّى
أَعطَتْهُ امْرَأَة حوتاً فطب بَطْنه فَوجدَ خَاتمه فِي
بَطْنه، فَرد الله إِلَيْهِ ملكه، وفر آصف فَدخل الْبَحْر.
وَرَوَاهُ ابْن جرير من وَجه آخر عَن مُجَاهِد: أَن اسْمه
آصر، آخِره رَاء، وَمن طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن
ابْن عَبَّاس: أَن اسْم الْجِنّ: صَخْر، وَمن طَرِيق
السّديّ كَذَلِك. انْتهى.
قلت: فِي هَذَا نظر من وُجُوه: الأول: أَنه يبعد من
سُلَيْمَان أَن يناول خَاتمه لغيره ليراه مَعَ علمه أَن
ملكه قَائِم بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَلِيق أَن يقْعد
شَيْطَان على كرْسِي نَبِي مُرْسل الَّذِي أعطي مَا لَا
يعْطى غَيره من الْملك الْعَظِيم. وَالثَّالِث: أَن آصف،
بِالْفَاءِ فِي آخِره: هُوَ معلم سُلَيْمَان وكاتبه فِي
أَيَّام ملكه، وَالَّذِي أَظن أَن الصَّحِيح أَن
سُلَيْمَان لما افْتتن بِسَبَب ابْنة ملك صيدون وَاصْطفى
ابْنة ملكهَا لنَفسِهِ وأحبها صورت فِي بَيتهَا صُورَة
أَبِيهَا، وَكَانَ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، إِذا خرج من بَيتهَا كَانَت هِيَ وجواريها
يعْبدُونَ هَذِه الصُّورَة حَتَّى أَتَى على ذَلِك
أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَبلغ ذَلِك آصف بن برخياء فعتب على
سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِسَبَب
ذَلِك، فَعِنْدَ ذَلِك سقط الْخَاتم من يَده، وَكَانَ كلما
أَعَادَهُ كَانَ يسْقط، فَقَالَ لَهُ آصف: إِنَّك مفتون،
ففر إِلَى الله تَائِبًا من ذَلِك وَأَنا أقوم مقامك وأسير
فِي عِيَالك وَأهل بَيْتك بسيرك إِلَى أَن يَتُوب الله
عَلَيْك ويردك إِلَى ملكك، ففر سُلَيْمَان هَارِبا إِلَى
الله تَعَالَى، وَأخذ آصف الْخَاتم فَوَضعه فِي يَده
فَثَبت وَغَابَ مُدَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ أَن الله
تَعَالَى لما قبل تَوْبَته رَجَعَ إِلَى منزله فَرد الله
إِلَيْهِ ملكه وَأعَاد الْخَاتم فِي يَده. وَقيل: المُرَاد
من الْجَسَد ابْنه، وَذَلِكَ أَنه لما ولد لَهُ قَالَت
الشَّيَاطِين: نَقْتُلهُ وإلاَّ لَا نَعِيش مَعَه بعده،
وَلما علم سُلَيْمَان ذَلِك أَمر السَّحَاب حَتَّى حملت
ابْنه وعدى فِي السَّحَاب خوفًا من مضرَّة الشَّيَاطِين،
فَعَاتَبَهُ الله لذَلِك، وَمَات الْوَلَد فَألْقى مَيتا
على كرسيه فَهُوَ الْجَسَد الَّذِي قَالَ الله تَعَالَى:
{وألقينا على كرسيه جسداً} (ص: 43) . وَهَذَا هُوَ
الْأَنْسَب والأليق من غَيره، وَيُؤَيِّدهُ مَا قَالَه
الْخَلِيل: لَا يُقَال الْجَسَد لغير الْإِنْسَان من خلق
الأَرْض، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ الْخَاتم من
ياقوتة خضراء أَتَاهُ بهَا جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، من الْجنَّة مَكْتُوب عَلَيْهَا: لَا إلاه
إلاَّ الله مُحَمَّد رَسُول الله، وَهُوَ الْخَاتم الَّذِي
ألبسهُ الله آدم فِي الْجنَّة.
رُخَاءً طَيِّبةً حَيْثُ أصابَ حَيْثُ شَاءَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فسخرنا لَهُ
الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء} (ص: 63) . وَفسّر رخاء بقوله:
طيبَة، ويروى طيبا، بالتذكير، وَفسّر قَوْله: حَيْثُ
أصَاب، بقوله: حَيْثُ شَاءَ، بلغَة حِمْيَر.
فامْنُنْ أعْطِ بِغَيْرِ حِسابٍ بِغَيْرِ حَرَجٍ
أول الْآيَة: {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر
حِسَاب} (ص: 93) . وَفسّر قَوْله: فَامْنُنْ، بقوله: أعْط،
وَالْعرب تَقول: منَّ عَليّ برغيف، أَي: أعطانيه، وَفسّر
قَوْله: بِغَيْر حِسَاب، بقوله: بِغَيْر حرج، وَقَالَ
الْحسن الْبَصْرِيّ. رَحمَه الله: إِن الله لم يُعْط أحد
أعطية إلاَّ جعل فِيهَا حسابا إلاَّ سُلَيْمَان، فَإِن
الله أعطَاهُ عَطاء هَنِيئًا، فَقَالَ: هَذَا عطاؤنا
فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب، قَالَ: إِن أعطي أجر،
وَإِن لم يُعْط
(16/14)
لم يكن عَلَيْهِ تبعة. وَقَالَ مقَاتل:
هُوَ فِي أَمر الشَّيَاطِين، أَي: حل من شِئْت مِنْهُم
وأوثق من شِئْت فِي وثاقك وَلَا تبعة عَلَيْك فِيمَا
تتعاطاه.
3243 - حدَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا مُحمَّدُ
بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيادٍ
عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ عِفْرِيتاً مِنَ
الجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطع علَيَّ صَلاَتِي
فأمْكَنَنِي الله مِنْهُ فأخَذْتُهُ فأرَدْتُ أنْ
أرْبُطَهُ علَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ
حَتَّى تَنْظُرُوا إلَيْهِ كُلُّكُمْ فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ
أخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكَاً لَا يَنْبَغِي
لأِحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرَدَدْتُهُ خاسِئاً. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة. والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب
الْأَسير يرْبط فِي الْمَسْجِد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
قَوْله: (تفلَّت) ، بتَشْديد اللَّام، أَي: تعرض لي فلتة،
أَي: بَغْتَة، وَفِي قَوْله: (فَذكرت دَعْوَة أخي
سُلَيْمَان)
إِلَى آخِره، دلَالَة على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَ يقدر على ذَلِك، إلاَّ أَنه تَركه رِعَايَة
لِسُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
عِفْرِيتٌ مُتَمَرِّدٌ مِنْ إنْسٍ أوْ جانٍّ مِثْلُ
زِبْنِيَةٍ جَمَاعَتُهَا الزَّبَانِيَّةُ
فسر: عفريتاً، بقوله: متمرد، سَوَاء كَانَ من إنس أَو من
جَان، واشتقاقه من: العفر، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: العفر
والعفرية والعفارية والعفريت: الْقوي المتشيطن الَّذِي
يعفر قرنه، وَالْيَاء فِي عفرية وعفارية للإلحاق بشرذمة
وعذافرة، وَالْهَاء فيهمَا للْمُبَالَغَة، وَالتَّاء فِي:
عفريت، للإلحاق بقنديل، وَفِي الحَدِيث: أَن الله تَعَالَى
يبغض العفرية التفرية، قَالَ ابْن الْأَثِير: هُوَ الداهي
الْخَبيث الشرير، وَمِنْه العفريت. قَوْله: (مثل زبنية) ،
بِكَسْر الزَّاي وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر
النُّون وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره هَاء،
وَيجمع على: زَبَانِيَة. وَفِي قَوْله: (عفريت) مثل زبنية،
نظر، لِأَن مثل الزبنية العفرية لَا العفريت، وَقَالَ
بَعضهم: مُرَاد المُصَنّف بقوله: مثل زبنية، إِنَّه قيل
فِي عفريت: عفرية، وَهِي قِرَاءَة جَاءَت شَاذَّة عَن أبي
بكر الصّديق وَأبي رَجَاء العطاردي، وَأبي السمال،
بِالسِّين الْمُهْملَة وباللام. انْتهى. قلت: قد تقدم من
قَول الزَّمَخْشَرِيّ أَن عفرية لُغَة مُسْتَقلَّة
وَلَيْسَت هِيَ وعفرية لُغَة وَاحِدَة، والزبانية فِي
الأَصْل إسم أَصْحَاب الشرطة واشتقاقها من الزَّبْن وَهُوَ
الدّفع، وَأطلق ذَلِك على مَلَائِكَة النَّار لأَنهم
يدْفَعُونَ الْكفَّار إِلَى النَّار، وَيُقَال وَاحِد
الزَّبَانِيَة زبني، وَيُقَال: زابن، وَقيل: زباني،
وَالْكل لَا يَخْلُو عَن نظر.
4243 - حدَّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ حدَّثنا مُغِيرَةُ بنُ
عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ
أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عنِ النَّبِيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ
دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَام لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ
علَى سَبْعِينَ امْرَأةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأةٍ فارِسَاً
يُجاهِدُ فِي سَبِيلِ الله فَقَالَ لَهُ صاحِبُهُ إنْ
شَاءَ الله فلَمْ يَقُلْ ولَمْ تَحْمِلْ شَيْئاً إلاَّ
واحِدَاً ساقِطَاً إحْدَى شِقَّيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْ قالَهَا لَجاهَدُوا فِي
سَبِيلِ الله. قَالَ شُعَيْبٌ وابنُ أبِي الزِّنادِ
تَسْعِينَ وهْوَ أصَحُّ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وخَالِد بن مخلد، بِفَتْح
الْمِيم البَجلِيّ الْكُوفِي وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر
الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد الرَّحْمَن ابْن عبد الله
بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. قَوْله:
(لأطوفن) ، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي:
لأطيفن، وهما لُغَتَانِ: طَاف بالشَّيْء وأطاف بِهِ، إِذا
دَار خَلفه وتكرر عَلَيْهِ، وَالطّواف هُنَا كِنَايَة عَن
الْجِمَاع، وَاللَّام فِيهِ جَوَاب قسم مَحْذُوف
تَقْدِيره: وَالله لأطوفن. قَوْله: (اللَّيْلَة) ، نصب على
الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (على سبعين امْرَأَة) ، وَمضى
الحَدِيث فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب من طلب الْوَلَد،
وَفِيه لأطوفن اللَّيْلَة على مائَة امْرَأَة أَو تسع
وَتِسْعين، وَفِي رِوَايَة شُعَيْب فِي الْأَيْمَان
وَالنُّذُور، فَقَالَ: تسعين، وَفِي رِوَايَة مُسلم عَن
ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان، فَقَالَ: سبعين، وَفِي
رِوَايَة البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد من رِوَايَة أَيُّوب
عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة: كَانَ لِسُلَيْمَان
سِتُّونَ امْرَأَة، وَفِي رِوَايَة أَحْمد وَأبي عوَانَة
من طَرِيق هِشَام عَن ابْن سِيرِين، فَقَالَ: مائَة
امْرَأَة، وَكَذَا
(16/15)
عِنْد ابْن مرْدَوَيْه من رِوَايَة عمرَان
بن خَالِد عَن ابْن سِيرِين، وَقد مر وَجه الْجمع بَين
هَذِه الرِّوَايَات فِي كتاب الْجِهَاد، وَقيل: إِن
السِّتين كن حرائر وَمَا زَاد عَلَيْهِنَّ كن سراري، أَو
بِالْعَكْسِ، وَعَن وهب: كَانَ لِسُلَيْمَان ألف امْرَأَة
ثَلَاثمِائَة مهيرة وَسَبْعمائة سَرِيَّة، وروى الْحَاكِم
فِي (مُسْتَدْركه) من طَرِيق أبي معشر عَن مُحَمَّد بن
كَعْب قَالَ: بلغنَا أَنه كَانَ لِسُلَيْمَان صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ألف بَيت من قَوَارِير على الْخشب، مِنْهَا
ثَلَاثمِائَة صَرِيحَة وَسَبْعمائة سَرِيَّة. قَوْله:
(فَقَالَ لَهُ صَاحبه: قل: إِن شَاءَ الله تَعَالَى) ،
وَفِي رِوَايَة معمر عَن طَاوُوس، على مَا سَيَأْتِي،
فَقَالَ لَهُ الْملك، وَفِي رِوَايَة هِشَام بن حُجَيْر:
فَقَالَ لَهُ صَاحبه. قَالَ سُفْيَان: يَعْنِي الْملك
هَذَا يدل على أَن تَفْسِير صَاحبه بِالْملكِ لَيْسَ
بمرفوع، وَوَقع فِي (مُسْند الْحميدِي) : عَن سُفْيَان:
فَقَالَ لَهُ صَاحبه أَو الْملك، بِالشَّكِّ، وَمثلهَا فِي
مُسلم، وَبِهَذَا كُله يرد قَول من يَقُول بِأَنَّهُ هُوَ
الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب، وَهُوَ: آصف بن برخيا،
وَأبْعد من هَذَا من قَالَ: المُرَاد بِالْملكِ خاطره،
وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل: المُرَاد بِصَاحِبِهِ الْملك
وَهُوَ الظَّاهِر من لَفظه، وَقيل: القرين، وَقيل: صَاحب
لَهُ آدَمِيّ. قَوْله: (إلاَّ وَاحِدًا سَاقِطا شقَّه) ،
وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: فَلم تحمل مِنْهُنَّ إلاَّ
امْرَأَة وَاحِدَة جَاءَت بشق رجل، وَفِي رِوَايَة أَيُّوب
عَن ابْن سِيرِين: شقّ غُلَام، وَفِي رِوَايَة هِشَام
عَنهُ. نصف إِنْسَان، وَفِي رِوَايَة معمر: حكى النقاش فِي
(تَفْسِيره) : أَن الشق الْمَذْكُور هُوَ الْجَسَد الَّذِي
ألقِي على كرسيه. قَوْله: (لَو قَالَهَا) ، أَي: لَو قَالَ
سُلَيْمَان: إِن شَاءَ الله، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيل الله،
وَفِي رِوَايَة شُعَيْب: لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله،
وَزَاد فِي آخِره: فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ، وَفِي رِوَايَة
ابْن سِيرِين: لَو اسْتثْنى لحملت كل امْرَأَة مِنْهُنَّ
فَولدت فَارِسًا يُقَاتل فِي سَبِيل الله، وَفِي رِوَايَة
طَاوُوس: لَو قَالَ: إِن شَاءَ الله، لم يَحْنَث وَكَانَ
دركاً لِحَاجَتِهِ، أَي: كَانَ يحصل لَهُ مَا طلب، وَفِي
رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيق معمر: وَكَانَ أَرْجَى
لِحَاجَتِهِ. قَوْله: (قَالَ شُعَيْب) ، هُوَ شُعَيْب بن
أبي حَمْزَة الْحِمصِي، وَابْن أبي الزِّنَاد هُوَ عبد
الله بن ذكْوَان، وهما قَالَا فِي روايتهما: تسعين، على
مَا سَيَأْتِي فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور. قَوْله:
(وَهُوَ الْأَصَح) ، أَي: مَا روياه من تسعين هُوَ
الْأَصَح.
5243 - حدَّثني عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا أبي حدَّثَنا
الأعْمَشُ حدثناإبْرَاهِيمُ التِيمِيُّ عنْ أبِيهِ عنْ
أبِي ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قُلْتُ يَا
رسُولَ الله أيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أوَّلُ قَالَ المَسْجِدُ
الحَرَامُ قُلْتُ ثُمَّ أيُّ قَالَ ثُمَّ المَسْجِدُ
الأقْصَى قُلْتُ كَمْ كانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أرْبَعُونَ
ثُمَّ قَالَ حَيْثُما أدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ
والأرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ. (انْظُر الحَدِيث 6633) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تستأنس من قَوْله: (ثمَّ الْمَسْجِد
الْأَقْصَى) ، لِأَن سُلَيْمَان صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هُوَ الَّذِي بناه، وَإِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ يروي عَن
أَبِيه يزِيد بن شريك عَن أبي ذَر الْغِفَارِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي: بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاتخذ
الله إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 521) . فَإِنَّهُ
رُوِيَ هُنَاكَ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد
الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ ...
إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله:
(قَالَ: أَرْبَعُونَ) أَي: أَرْبَعُونَ سنة، وَقد صرح بِهِ
هُنَاكَ، وَالْمُطلق يحمل على الْمُقَيد.
6243 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ أخْبرَنَا شُعَيْبٌ حدَّثنا
أَبُو الزِّنادِ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ حدَّثَهُ أنَّهُ
سَمِعَ أبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّهُ
سَمِعَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ
مَثَلِي ومثَلُ النَّاسِ كمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ
نارَاً فجعَلَ الفَرَاشُ وهَذِهِ الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي
النَّارِ. وقَالَ كَانَتِ امْرَأتَانِ مَعَهُما ابناهُمَا
جاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بابنِ إحْدَيْهِمَا فقالَتْ
صاحِبَتُهَا إنَّما ذَهَبَ بابْنِكِ وقالَتِ الأخْرَى
إنَّمَا ذَهَبَ بابْنِكِ فتَحَاكَما إِلَى داوُدَ فَقَضَى
بِهِ لِلْكُبْرَى فخَرَجَتَا علَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ
فأخْبَرَتاهُ فَقال ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أشُقُّهُ
بَيْنَهُمَا فقَالَتِ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ
الله هوَ ابنُهَا فَقَضَى بِهِ للْصُّغْرَى. قَالَ أبُو
هُرَيْرَةَ وَالله إنْ سَمِعْتُ بالسِّكِّينِ إلاَّ
يَوْمَئِذٍ وَمَا كُنَّا نَقُولُ إلاَّ المُدْيَةُ.
(الحَدِيث 7243 طرفه فِي: 9676) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَقَالَ كَانَت
امْرَأَتَانِ) إِلَى آخِره، فَإِن فِيهِ ذكر سُلَيْمَان،
وَأما تَعْلِيق الحَدِيث الأول بِحَدِيث التَّرْجَمَة
(16/16)
فَهُوَ أَن الرَّاوِي ذكره مَعَه كَمَا
سَمعه مَعَه، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مُتَابعَة
الْأَنْبِيَاء مُوجبَة للخلاص، كَمَا أَن فِي هَذَا
التحاكم خلاص الْكُبْرَى من تلبسها بِالْبَاطِلِ ووباله
فِي الْآخِرَة، وخلاص الصُّغْرَى من ألم فِرَاق وَلَدهَا،
وخلاص الابْن من الْقَتْل، وَتَمام الحَدِيث الأول هُوَ
قَوْله: فَجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فِيهَا فَذَلِك مثلي
ومثلكم أَنا آخذ بِحُجزِكُمْ عَن النَّار فتغلبوني
وتقتحمون فِيهَا. وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع،
وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن هُرْمُز الْأَعْرَج.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفَرَائِض عَن
أبي الْيَمَان أَيْضا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء
عَن عمرَان بن بكار وَعَن الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مثلي وَمثل النَّاس) ، بِفَتْح
الْمِيم أَي: صِفَتي وحالي وشأني فِي دُعَائِهِمْ إِلَى
الْإِسْلَام المنقذ لَهُم من النَّار، وَمثل مَا تزين
لَهُم أنفسهم من التَّمَادِي على الْبَاطِل كَمثل رجل. .
إِلَى آخِره، وَهَذَا من تَمْثِيل الْجُمْلَة
بِالْجُمْلَةِ، وَالْمرَاد من ضرب الْمثل الزِّيَادَة فِي
الْكَشْف والتنبيه للْبَيَان. قَوْله: (استوقد نَارا) أَي:
أوقد نَارا، يُؤَيّدهُ مَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم وَأحمد
من حَدِيث جَابر: مثلي ومثلكم كَمثل رجل أوقد نَارا،
وَقَالَ بَعضهم: زِيَادَة السِّين وَالتَّاء للْإِشَارَة
إِلَى أَنه عالج إيقادها وسعى فِي تَحْصِيل آلاتها. قلت:
معنى الاستفعال الطّلب، وَلَكِن قد يكون صَرِيحًا نَحْو:
استكتبته، أَي: طلبت مِنْهُ الْكِتَابَة، وَقد يكون
تَقْديرا نَحْو استخرجت الوتد من الْحَائِط، وَلَيْسَ
فِيهِ طلب صَرِيح، واستوقد هَهُنَا من هَذَا الْقَبِيل،
وَالنَّار جَوْهَر لطيف مضيء محرق حَار والنور ضوؤها.
قَوْله: (الْفراش) ، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء
وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، قَالَ الْخَلِيل: يطير كالبعوض،
وَقيل: هُوَ كصغار البق، وَقَالَ الْفراء: هُوَ غوغاء
الْجَرَاد الَّذِي يتفرش ويتراكم ويتهافت فِي النَّار.
قَوْله: (وَهَذِه الدَّوَابّ) ، عطف على الْفراش، وَهُوَ
جمع دَابَّة، وَأَرَادَ بهَا هُنَا مثل البرغش والبعوض
والجندب وَنَحْوهَا. قَوْله: (تقع فِي النَّار) خبر: جعل،
لِأَن جعل، من أَفعَال المقاربة يعْمل عمل: كَانَ، فِي
اقتضائه الِاسْم وَالْخَبَر. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شبه الْمُخَالفين لَهُ بالفراش
وتساقطهم فِي نَار الْآخِرَة بتساقط الْفراش فِي نَار
الدُّنْيَا مَعَ حرصهم على الْوُقُوع فِي ذَلِك وَمنعه
إيَّاهُم، وَالْجَامِع بَينهمَا اتِّبَاع الْهوى وَضعف
التَّمْيِيز وحرص كل من الطَّائِفَتَيْنِ على هَلَاك
نَفسه، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: هَذَا مثل كثير
الْمعَانِي، وَالْمَقْصُود: أَن الْخلق لَا يأْتونَ مَا
يجرهم إِلَى النَّار على قصد الهلكة، وَإِنَّمَا يأتونه
على قصد الْمَنْفَعَة وَاتِّبَاع الشَّهْوَة، كَمَا أَن
الْفراش يقتحم النَّار لَا ليهلك فِيهَا بل لما يَصْحَبهُ
من الضياء، وَقد قيل: إِنَّهَا لَا تبصر بِحَال وَهُوَ
بعيد جدا. قَوْله: (وَقَالَ كَانَت امْرَأَتَانِ) ، لَيْسَ
فِيهِ تَصْرِيح بِرَفْعِهِ وَهُوَ مَرْفُوع فِي نُسْخَة
شُعَيْب عِنْد الطَّبَرَانِيّ وَغَيره، وَفِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ من طَرِيق عَليّ بن عَيَّاش عَن شُعَيْب:
حَدثنِي أَبُو الزِّنَاد مِمَّا حَدثهُ عبد الرَّحْمَن
الْأَعْرَج مِمَّا ذكر أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يحدث عَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: بَينا
امْرَأَتَانِ. قَوْله: (فتحاكما) وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: فتحاكمتا، وَفِي نُسْخَة شُعَيْب: فاختصما.
قَوْله: (فَقضى بِهِ للكبرى) ، أَي: للْمَرْأَة
الْكُبْرَى، قيل: إِن ذَلِك كَانَ على سَبِيل الْفتيا
مِنْهُمَا لَا الحكم، فَلذَلِك سَاغَ لِسُلَيْمَان أَن
ينْقضه، ورده الْقُرْطُبِيّ بِأَن فتيا النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كحكمه وهما سَوَاء فِي التَّنْفِيذ. فَإِن
قلت: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فَكيف جَازَ
لِسُلَيْمَان نقض حكم دَاوُد؟ قلت: إِن كَانَ حكمهمَا
بِالْوَحْي فَحكم سُلَيْمَان نَاسخ لحكم دَاوُد، وَإِن
كَانَ بِالِاجْتِهَادِ فاجتهاده كَانَ أقوى لِأَنَّهُ
بالحيلة اللطيفة أظهر مَا فِي نفس الْأَمر، وَقَالَ
الْوَاقِدِيّ: إِنَّمَا كَانَ بَينهمَا على سَبِيل
الْمُشَاورَة، فوضح لداود صِحَة رَأْي سُلَيْمَان فأمضاه،
وَقيل: إِن من شرع دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، الحكم للكبرى من حَيْثُ هِيَ كبرى. ورد بِأَن
هَذَا غلط، لِأَن الْكُبْرَى وَالصُّغْرَى وصف طردي مَحْض
لَا يُوجب شَيْء من ذَلِك تَرْجِيحا لأحد المتداعيين
حَتَّى يحكم لَهُ أَو عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الطول وَالْقصر
والسواد وَالْبَيَاض، وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن سُلَيْمَان
فعل ذَلِك تحيلاً على إِظْهَار الْحق فَلَمَّا أقرَّت بِهِ
الصُّغْرَى عمل بإقرارها وَإِن كَانَ الحكم قد نفذ، كَمَا
لَو اعْترف الْمَحْكُوم لَهُ بعد الحكم أَن الْحق لخصمه،
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: وَإِنَّمَا حكما
بِالِاجْتِهَادِ إِذْ لَو كَانَ بِنَصّ لما سَاغَ خِلَافه،
وَهُوَ دَال على أَن الفطنة والفهم موهبة من الله تَعَالَى
وَلَا الْتِفَات لقَوْل من يَقُول: إِن الإجتهاد إِنَّمَا
يسوغ عِنْد فقد النَّص، والأنبياء، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لَا يفقدون النَّص، فَإِنَّهُم متمكنون من
استطلاع الْوَحْي وانتظاره، وَالْفرق بَينهم وَبَين غَيرهم
قيام الْعِصْمَة بهم عَن الْخَطَأ وَعَن التَّقْصِير فِي
الِاجْتِهَاد، بِخِلَاف غَيرهم. قَوْله: (لَا تفعل
يَرْحَمك الله) ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي
من طَرِيق وَرْقَاء عَن أبي الزِّنَاد: لَا يَرْحَمك الله،
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يَنْبَغِي أَن يكون على هَذِه
(16/17)
الرِّوَايَة أَن يقف على: لَا، دقيقة
حَتَّى يتَبَيَّن للسامع أَن مَا بعده كَلَام مستأنمف،
لِأَنَّهُ إِذا وصل بِمَا بعد: لَا يتَوَهَّم للسامع أَنه
دُعَاء عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاء لَهُ. قَوْله:
(قَالَ أَبُو هُرَيْرَة) صورته تَعْلِيق، لَكِن ادّعى
بَعضهم أَنه مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول، وَفِيه تَأمل.
قَوْله: (إِن سَمِعت) ، كلمة: إِن، بِكَسْر الْهمزَة
وَسُكُون النُّون كلمة نفي. أَي: وَالله مَا سَمِعت
بِلَفْظ السكين إلاَّ يَوْمئِذٍ. قَوْله: (المدية) بِضَم
الْمِيم، وَقيل: الْمِيم مُثَلّثَة، سمي السكين بهَا
لِأَنَّهَا تقطع مدى حَيَاة الْحَيَوَان، وَسمي السكين
سكيناً لِأَنَّهُ يسكن حَرَكَة الْحَيَوَان، وَهُوَ يذكر
وَيُؤَنث.
14 - (بابُ قَوْلِ الله تعالَى {ولَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أنِ اشْكُرْ لله} إِلَى قَوْلِهِ
{إنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
(لُقْمَان: 21 81) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي قَول الله
تَعَالَى: {وَلَقَد آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة أَن أشكر
لله وَمن يشْكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ وَمن كفر فَإِن
الله غَنِي حميد} (لُقْمَان: 21 81) .) ، قَوْله: (إِلَى
قَوْله) أَي: إقرأ إِلَى قَوْله: {إِن الله لَا يحب كل
مختال فخور} (لُقْمَان: 21 81) . وَمن قَوْله: {غَنِي
حميد} إِلَى قَوْله: {فخور} سِتّ آيَات. قَوْله:
(الْحِكْمَة) أَي: الْعقل وَالْعلم وَالْعَمَل بِهِ
والإصابة فِي الْأُمُور. قَوْله: (أَن أشكر) ، قيل: لِأَن
تشكر الله، وَيجوز أَن تكون: أَن، مفسرة أَي: أشكر الله،
وَالتَّقْدِير: قُلْنَا لَهُ: اشكر الله. وَقيل: بدل من
الْحِكْمَة. قَوْله: (مختال) ، من الاختيال وَهُوَ أَن يرى
لنَفسِهِ طولا على غَيره فيشمخ بِأَنْفِهِ. قَوْله: (فخور)
، يعدد مناقبه تطاولاً.
ولقمان بن باعور بن ناخور بن تارخ وَهُوَ آزر أَب
إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا
قَالَه ابْن إِسْحَاق، وَقَالَ مقَاتل: لُقْمَان بن عنقًا
بن سدون. وَيُقَال: لُقْمَان بن ثاران، حَكَاهُ السُّهيْلي
عَن ابْن جرير والقعنبي، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: لُقْمَان
بن عبقر بن مرْثَد بن صَادِق بن التوت من أهل أَيْلَة، ولد
على عشر سِنِين خلت من أَيَّام دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَقَالَ مقَاتل: كَانَ ابْن أُخْت أَيُّوب،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقيل: ابْن خَاله،
وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق ثمَّ عَاشَ ألف سنة وَأدْركَ
دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأخذ عَنهُ
الْعلم. وَحكى الثَّعْلَبِيّ عَن ابْن الْمسيب: أَنه كَانَ
عبدا أسود عَظِيم الشفتين مشقق الْقَدَمَيْنِ من سودان مصر
ذَا مشافر، وَقَالَ الرّبيع: كَانَ عبدا نوبياً اشْتَرَاهُ
رجل من بني إِسْرَائِيل بِثَلَاثِينَ دِينَارا وَنصف
دِينَار، وَقَالَ السُّهيْلي: كَانَ نوبياً من أَيْلَة،
وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ عبدا حَبَشِيًّا نجاراً، وَقيل:
كَانَ خياطاً، وَقيل: كَانَ رَاعيا، وَقيل: كَانَ يحتطب
لمَوْلَاهُ حزمة حطب، وَرُوِيَ أَنه كَانَ عبدا لقصاب.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ قَاضِيا لبني إِسْرَائِيل
فَكَانَ يسكن ببلدة أَيْلَة ومدين، وَقَالَ مقَاتل: كَانَ
اسْم أمه: تارات، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَاتفقَ
الْعلمَاء أَنه كَانَ حكيماً وَلم يكن نَبيا إلاَّ
عِكْرِمَة فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: إِنَّه كَانَ نَبيا.
قَالَ الْوَاقِدِيّ وَالسُّديّ: مَاتَ بأيلة، وَقَالَ
قَتَادَة: بالرملة.
ولاَ تُصَعِّرْ الإعْرَاضُ بالوَجْهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تصعر
خدك للنَّاس} (لُقْمَان: 81) . وَفسّر: تصعر، بقوله:
الْإِعْرَاض بِالْوَجْهِ، وَكَأَنَّهُ جعل الْإِعْرَاض
بِمَعْنى التصغير الْمُسْتَفَاد من: لَا تصعر، وَهَكَذَا
فسره عِكْرِمَة، أوردهُ عَنهُ الطَّبَرِيّ، وَقَالَ
الطَّبَرِيّ: أصل الصعر دَاء يَأْخُذ الْإِبِل فِي أعناقها
حَتَّى تلفت أعناقها عَن رؤوسها فَيُشبه بِهِ الرجل المعرض
عَن النَّاس المتكبر، وَقِرَاءَة عَاصِم وَابْن كثير:
وَلَا تصعر، وَقِرَاءَة الْبَاقُونَ: وَلَا تصاغر، وَقَالَ
الطَّبَرِيّ: القراءتان مشهورتان ومعناهما صَحِيح.
8243 - حدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ
الأعْمَشِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ عَلْقَمَةَ عنْ عَبْدِ الله
قَالَ لَ مَّا نَزَلَتِ الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ
يَلْبِسُوا إيْمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ أصْحَابُ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ
إيْمَانَهُ بِظُلْمٍ فنَزَلَتْ {لاَ تُشْرِكْ بِاللَّه
إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لُقْمَان: 31) . .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله تَعَالَى: {لَا
تشرك بِاللَّه ... } إِلَى آخِره، لِأَن الله تَعَالَى
قَالَ حِكَايَة عَن لُقْمَان: {وَإِذ قَالَ لُقْمَان
لِابْنِهِ وَهُوَ يعظه يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن
الشّرك لظلم عَظِيم} (لُقْمَان: 31) . وَأَبُو الْوَلِيد
هِشَام بن عبد الْملك، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ،
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب ظلم دون
ظلم، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
(16/18)
9243 - حدَّثني إسْحَاقُ أخبرَنا عِيسَى
بنُ يُونُسَ حدَّثنا الأعمشُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ
عَلْقَمَةَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ
قَالَ لَمَّا نَزَلَتِ {الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ
يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} (الْأَنْعَام: 28) .
شَقَّ ذَلِكَ علَى المُسْلِمِينَ فَقَالُوا يَا رسوُلَ
الله أيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ لَيْسَ ذَلِكَ
إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ ألَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ
لُقْمانُ لابْنِهِ وهْوَ يَعِظُهُ {يَا بُنَيَّ لاَ
تُشْرِكْ بِاللَّه إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن
رَاهَوَيْه، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، وَهَذَا
طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور.
قَوْله: (إِنَّمَا هُوَ الشّرك) ، أَي: الظُّلم
الْمَذْكُور فِي تِلْكَ الْآيَة هُوَ الشّرك، وَالظُّلم
لفظ عَام يعم الشّرك وَغَيره، وَقد خص فِي الْآيَة بالشرك.
وَمعنى: اخْتِلَاط الْإِيمَان، هُوَ أَن الْإِيمَان
التَّصْدِيق بِاللَّه وَهُوَ لَا يُنَافِي جعل الْأَصْنَام
آلِهَة، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم
بِاللَّه إلاَّ وهم مشركون} (يُوسُف: 601) . قَوْله: (مَا
قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ) قَالَ السُّهيْلي، اسْم ابْنه:
باران، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبالراء، وَكَذَا قَالَه
الطَّبَرِيّ والعتبي، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: اسْمه أنعم،
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: أشكم. قَوْله: (وَهُوَ يعظه) جملَة
حَالية، وَالله أعلم.
24 - (بابٌ {واضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أصْحَابَ القَرْيَةِ}
(ي س: 31) . الْآيَة)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاضْرِبْ
لَهُم مثلا أَصْحَاب الْقرْيَة إِذْ جاءها المُرْسَلُونَ
إِذْ أرسلنَا إِلَيْهِم اثْنَيْنِ فكذبوهما فعززنا بثالث
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مرسلون} (ي س: 31) . قَوْله:
(وَاضْرِبْ لَهُم مثلا) أَي: لأجلهم، وَقيل: وَاضْرِبْ
لأجل نَفسك أَصْحَاب الْقرْيَة مثلا، وَحَاصِل الْمَعْنى:
اذكر لَهُم قصَّة عَجِيبَة، يَعْنِي: قصَّة أَصْحَاب
الْقرْيَة، وَهِي أنطاكية: {إِذْ جاءها المُرْسَلُونَ} (ي
س: 31) . أَي: رسل عِيسَى، وَكلمَة إِذْ، بدل من أَصْحَاب
الْقرْيَة، وَكَانَ إرْسَال عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، رسله فِي أَيَّام مُلُوك الطوائف.
وَاخْتلفُوا فِي اسْم الرسولين اللَّذين أرسلا أَولا،
فَقَالَ ابْن إِسْحَاق: قاروص وماروص، وَقَالَ وهب: يحيى
وَيُونُس، وَقَالَ مقَاتل: تومان ومالوس، وَقَالَ كَعْب:
صَادِق وصدوق، وَاسم الرَّسُول الثَّالِث: شَمْعُون
الصَّفَا رَأس الحواريين، وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين،
وَقَالَ كَعْب: اسْمه شلوم، وَقَالَ مقَاتل: سمْعَان،
وَقيل: بولص، وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب
حَدِيثا مَرْفُوعا، وَقد روى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث
ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: السَّبق ثَلَاثَة: يُوشَع إِلَى
مُوسَى، وَصَاحب يس إِلَى عِيسَى، وَعلي إِلَى مُحَمَّد،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي إِسْنَاده حُسَيْن بن
الْحسن الْأَشْقَر وَهُوَ ضَعِيف، وَاسم صَاحب يس: حبيب
النجار، وَعَن السّديّ: كَانَ قصاراً، وَقيل: كَانَ
إسكافاً، وَكَانَ اسْم ملك أنطاكية أنطيخس بن أنطيخس
وَكَانَ يعبد الْأَصْنَام.
فَعَزَّزْنا. . قَالَ مُجَاهِدٌ شَدَّدْنَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {فعززنا} (ي
س: 31) . وَحكي عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: مَعْنَاهُ:
شددنا، يَعْنِي: قوينا الرسولين الْأَوَّلين برَسُول
ثَالِث، وعَلى يَده كَانَ الْخَلَاص.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ طائِرُكُمْ مَصَائِبُكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا
طائركم مَعكُمْ أئن ذكرْتُمْ بل أَنْتُم قوم مسرفون} (ي س:
91) . وَوصل ابْن أبي حَاتِم قَول ابْن عَبَّاس من طَرِيق
عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ بِهِ. قَوْله: {طائركم}
وَفَسرهُ ابْن عَبَّاس بقوله: مصائبكم، وَلما قَالُوا:
{إنَّا تطيرنا بكم} (ي س: 81) . يَعْنِي: تشاءمنا بكم،
قَالُوا: طائركم، أَي: شؤمكم مَعكُمْ، وَهُوَ كفرهم.
34 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {كَهيَعَصَ ذِكْرُ
رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاءَ إذْ نادَى رَبَّهُ
نِدَاءً خَفِيَّاً قَالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ الْعَظْمُ
مِنِّي واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} إِلَى قولِهِ {لَمْ
نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيَّاً} (مَرْيَم: 3 7) .)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الله تَعَالَى: {كهيعص
ذكر رَحْمَة رَبك عَبده زَكَرِيَّا} (مَرْيَم: 3 7) .
إِلَى آخِره. قَوْله: (إِلَى قَوْله) ، أَي: إقرأ إِلَى
قَوْله: {لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا} (مَرْيَم: 3 7) .
وَهُوَ قَوْله: {وَلم أكن بدعائك رب شقيا وَإِنِّي خفت
الموالى من ورائي وَكَانَت امْرَأَتي عاقراً فَهَب لي
(16/19)
من لَدُنْك وليا يَرِثنِي وَيَرِث من آل
يَعْقُوب واجعله رب رَضِيا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نبشرك
بِغُلَام اسْمه يحيى لم نجْعَل لَهُ من قبل سميا}
(مَرْيَم: 5 7) [/ ح.
قَوْله: (ذكر) ، مَرْفُوع بِأَنَّهُ خبر لقَوْله: {كهيعص}
، وَقيل: خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هَذَا القَوْل
الَّذِي نتلو عَلَيْك ذكر رَحْمَة رَبك، وَقيل: مَرْفُوع
بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَر مُقَدّر تَقْدِيره، فِيمَا
أُوحِي إِلَيْك ذكر رَحْمَة رَبك، و: ذكر مصدر مُضَاف
إِلَى الرَّحْمَة، وَهِي فَاعله، و: عَبده، مفعولها.
قَوْله: (خفِيا) أَي: خافياً يخفى ذَلِك فِي نَفسه لم يطلع
عَلَيْهِ إلاَّ الله. قَوْله: (وَهن) ، يُقَال: وَهن يهن
وَهنا، فَهُوَ واهن، وَقَالَ الْفراء: وَهن الْعظم،
بِالْفَتْح وَالْكَسْر فِي الْهَاء: أَرَادَ أَن قُوَّة
عِظَامه ذهبت لكبر سنه، وَإِنَّمَا خص الْعظم لِأَنَّهُ
الأَصْل فِي التَّرْكِيب، وَقَالَ قَتَادَة: شكى ذهَاب
أَضْرَاسه. قَوْله: (واشتعل الرَّأْس شيباً) أَي: من
حَيْثُ الشيب شبه الشيب بشواظ النَّار فِي بياضه وإنارته
وانتشاره فِي الشّعْر وفشوه فِيهِ وَأَخذه كل مَأْخَذ
باشتعال النَّار، ثمَّ أخرجه مخرج الِاسْتِعَارَة، ثمَّ
أسْند الاشتعال إِلَى مَكَان الشّعْر ومنبته وَهُوَ
الرَّأْس، وَأخرج الشيب مُمَيّزا وَلم يضف الرَّأْس،
يَعْنِي لم يقل: رَأْسِي، اكْتِفَاء بِعلم الْمُخَاطب أَنه
رَأس زَكَرِيَّا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمن ثمَّ فَصحت
هَذِه الْجُمْلَة وَشهد لَهَا بالبلاغة. قَوْله: (وَلم أكن
بدعائك رب شقياً) أَي: بدعائي إياك شقياً أَي: خائباً.
قَوْله: الموَالِي، وهم الَّذين يلونه فِي النّسَب، وهم:
بَنو الْعم والعصبة، وَكَانَ عَمه وعصبته شرار بني
إِسْرَائِيل فخافهم على الدّين أَن يغيروه ويبدلوه وَأَن
لَا يحسنوا للخلافة على أمته، فَطلب عقباً من صلبه صَالحا
يُقتدى بِهِ فِي إحْيَاء الدّين. قَوْله: (عاقراً) أَي:
عقيماً لَا تَلد. قَوْله: (وليا) ، أَي: ولدا صَالحا يحمل
أَمر الدّين بعدِي. قَوْله: (يَرِثنِي) ، أَي: يَرث
النُّبُوَّة وَقيل: الْعلم، وَقيل: يرثهما. قَوْله:
(وَيَرِث من آل يَعْقُوب) ، قَالَ ابْن عَبَّاس: يَرِثنِي
مَالِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب النُّبُوَّة، وَعنهُ:
يَرِثنِي الْعلم وَيَرِث من آل يَعْقُوب الْملك،
فَأَجَابَهُ الله إِلَى وراثة الْعلم دون الْملك. قَوْله:
(لم نجْعَل لَهُ من قبل سمياً) ، يَعْنِي: لم يسم أحد قبله
بِيَحْيَى. فَإِن قلت: مَا وَجه المدحة باسم لم يسم أحد
قبله ونرى كثيرا من الْأَسْمَاء لم يسْبق إِلَيْهَا؟ قلت:
لِأَن الله تَعَالَى تولى تَسْمِيَته وَلم يكل ذَلِك إِلَى
أَبَوَيْهِ فَسَماهُ باسم لم يسْبق إِلَيْهِ.
وَاعْلَم أَن فِي زَكَرِيَّا أَربع لُغَات: الْمَدّ
وَالْقصر وَحذف الْألف مَعَ إبْقَاء الْبَاء مُشَدّدَة
وَتَخْفِيف الْيَاء، فَإِن مددت أَو قصرت لم تصرف، وَإِن
حذفت الْألف مَعَ إبْقَاء الْيَاء مُشَدّدَة صرفته.
وزَكَرِيا بن آدن بن مُسلم بن صَدُوق بن نخشان بن دَاوُد
بن سُلَيْمَان بن مُسلم بن صديقَة بن ناخور بن شلوم بن
بهفاشاط بن أسا بن أفيا بن رَحِيم بن سُلَيْمَان بن
دَاوُد، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا ذكره
الثَّعْلَبِيّ، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر فِي (تَارِيخه) :
زَكَرِيَّا بن برخيا، وَيُقَال: زَكَرِيَّا بن دَان،
وَيُقَال: ابْن آدن ... إِلَى آخِره، وَعَن أبي هُرَيْرَة،
قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَانَ
زَكَرِيَّا نجاراً. انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ مُسلم وَابْنه
يحيى من الْحَيَاة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: كَانَ يحيى
أعجمياً وَهُوَ الظَّاهِر، فَمنع صرفه للتعريف والعجمة:
كموسى وَعِيسَى، وَإِن كَانَ عَرَبيا فللتعريف وَوزن
الْفِعْل، وَاخْتلفُوا فِيهِ لِمَ سمي يحيى؟ فَقَالَ ابْن
عَبَّاس: لِأَن الله تَعَالَى أحيى بِهِ عقر أمه، وَقَالَ
قَتَادَة: لِأَن الله تَعَالَى أحيى قلبه بِالْإِيمَان
والنبوة، وَقيل: أَحْيَاهُ بِالطَّاعَةِ حَتَّى لم يعْص
أصلا وَلم يهم بِمَعْصِيَة، وَاسم أم يحيى: أشياع بنت
فاقوذا أُخْت حنة أم مَرْيَم، صلى الله تَعَالَى
عَلَيْهِمَا وَسلم، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: كَانَ
زَكَرِيَّا وَابْنه يحيى، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِم
وَسلم، آخر من بعث فِي بني إِسْرَائِيل من أَنْبِيَائهمْ.
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ مِثْلاً
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس: معنى: سمياً، مثلا فِي
قَوْله تَعَالَى: {هَل تعلم لَهُ سمياً} (مَرْيَم: 56) .
يُقَالُ: رَضِيَّاً مَرْضِيَّاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير: رَضِيا فِي قَوْله: {واجعله
رب رَضِيا} (مَرْيَم: 6) . بِأَنَّهُ بِمَعْنى: مرضياً.
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: مرضيا ترضاه أَنْت وعبادك.
عَتِيَّاً عَصِياً عَتَا يَعْتُو
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقد بلغت
(16/20)
من الْكبر عتياً} (مَرْيَم: 8) . وَفَسرهُ
بقوله: عصياً، وَذكره بالصَّاد الْمُهْملَة وَالصَّوَاب
بِالسِّين الْمُهْملَة، وروى الطَّبَرِيّ بِإِسْنَاد
صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: مَا أَدْرِي أَكَانَ
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ عتياً أَو
عسياً؟ يُقَال: قَرَأَ مُجَاهِد: عسياً بِالسِّين، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: عتا الشَّيْخ يعتو عتياً، بِضَم الْعين
وَكسرهَا: كبر وَولى، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: عسا الشَّيْخ
يعسو عسياً، ولى وَكبر مثل: عتا، وَقَالَ قَتَادَة: العتو
نحول الْعظم، يُقَال: ملك عَاتٍ: إِذا كَانَ قاسي الْقلب
غير لين، وَعَن أبي عُبَيْدَة: كل مبالغ فِي شَرّ أَو كفر
فقد عتا وعسا، وَيُقَال: عتا الْعود وعسا من أجل الْكبر
والطعن فِي السن الْعَالِيَة، وَقَرَأَ حَمْزَة
وَالْكسَائِيّ: {وَقد بلغت من الْكبر عتياً} (مَرْيَم: 8)
. بِكَسْر الْعين وَالْبَاقُونَ بضَمهَا. قَوْله: (عتا
يعتو) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه من بَاب فعل يفعل، مثل: غزا
يَغْزُو، من معتل اللَّام الواوي.
{قالَ رَبِّ أنَّى يَكُونَ لِي غُلاَمٌ} إِلَى قَوْلِهِ
{ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيَّاً} (مَرْيَم: 8 01) . ويُقَالُ
صَحِيحاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالَ رب
أَنى يكون لي غُلَام وَكَانَت امْرَأَتي عاقراً وَقد بلغت
من الْكبر عتيا قَالَ كَذَلِك قَالَ رَبك هُوَ على هَين
وَقد خلقتك من قبل وَلم تَكُ شَيْئا قَالَ رب اجْعَل لي
آيَة قَالَ آيتك أَن لَا تكلم النَّاس ثَلَاث لَيَال
سوياً} (مَرْيَم: 8 01) . قَوْله: (قَالَ رب) أَي: قَالَ
زَكَرِيَّا: يَا رب أنَّى يكون لي غُلَام؟ أَي: من أَيْن
يكون لي غُلَام؟ وَكَيف يكون لي غُلَام وَالْحَال أَن
امْرَأَتي عَاقِر وَأَنا قد بلغت من الْكبر عتياً؟ قَوْله:
(قَالَ كَذَلِك) ، أَي: قَالَ جِبْرِيل صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِن الْأَمر كَذَلِك كَمَا قيل لَك من هبة الْوَلَد
على الْكبر. قَوْله: (هُوَ عليَّ هيِّن) ، أَي: خلقه عليّ
هيّن بِأَن أرد عَلَيْك قوتك حَتَّى تقوى على الْجِمَاع،
وأفتق رحم امْرَأَتك. قَوْله: (قد خلقتك من قبل) ، أَي:
أوجدتك من قبل يحيى وَلم تَكُ شَيْئا، لِأَن الْمَعْدُوم
لَيْسَ بِشَيْء أَو شَيْئا لَا يعْتد بِهِ. قَوْله:
(قَالَ: رب) ، أَي: قَالَ زَكَرِيَّا: يَا رب إجعل لي آيَة
أَي: عَلامَة على حمل امْرَأَتي. قَوْله: (قَالَ آيتك)
أَي: قَالَ الله، عز وَجل: علامتك أَن لَا تكلم النَّاس
ثَلَاث لَيَال سوياً مَنْصُوب على الْحَال، أَي: وَأَنت
صَحِيح سليم الْجَوَارِح عَن سوء الْخلق مَا بك خرس وَلَا
بكم، وَدلّ ذكر اللَّيَالِي هُنَا وَالْأَيَّام فِي آل
عمرَان، على أَن الْمَنْع من الْكَلَام اسْتمرّ بِهِ
ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن.
فخَرَجَ علَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فأوْحَى إلَيْهِمْ
أنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وعَشِيَّاً} (مَرْيَم: 11) .
فأوْحَى فأشارَ
أَي: فَخرج زَكَرِيَّا وَكَانَ النَّاس من وَرَاء
الْمِحْرَاب ينتظرون أَنه يفتح لَهُم الْبَاب فَيدْخلُونَ
وَيصلونَ، إِذْ خرج إِلَيْهِم زَكَرِيَّا متغير اللَّوْن
فأنكروه، فَقَالُوا لَهُ: يَا زَكَرِيَّا! مَالك؟ فَأوحى
إِلَيْهِم، أَي: أَشَارَ إِلَيْهِم بِيَدِهِ وَرَأسه.
قَالَه مُجَاهِد: وَعَن ابْن عَبَّاس: فَكتب إِلَيْهِم فِي
كتاب، وَقيل: على الأَرْض. قَوْله: (أَن سبحوا) ، وَكلمَة:
أَن، هِيَ المفسرة أَي: صلوا لله بكرَة وعشياً، وَهَذَا
فِي صَبِيحَة اللَّيْلَة الَّتِي حملت امْرَأَته، فَلَمَّا
حملت امْرَأَته أَمرهم بِالصَّلَاةِ إِشَارَة.
{يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ} إِلَى قَوْلِهِ
{ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيَّا} (مَرْيَم: 21 51) .
أَي: إقرأ الْآيَة إِلَى قَوْله: (وَيَوْم يبْعَث حَيا) .
وَهُوَ: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا وَحَنَانًا من لدنا
وَزَكَاة وَكَانَ تقياً وَبرا بِوَالِديهِ وَلم يكن جباراً
عصيّاً وَسَلام عَلَيْهِ يَوْم ولد وَيَوْم يَمُوت وَيَوْم
يبْعَث حَيا} (مَرْيَم: 21 51) . قَوْله: (يَا يحيى) ،
التَّقْدِير: فوهبنا لَهُ يحيى وَقُلْنَا لَهُ: يَا يحيى
خُذ الْكتاب، أَي: التَّوْرَاة، وَكَانَ مَأْمُورا بالتمسك
بهَا. قَوْله: (الحكم) ، أَي: الْحِكْمَة وَهِي الْفَهم
للتوراة وَالْفِقْه فِي الدّين، صَبيا، أَي: حَال كَونه
صَبيا، وَعَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: أَنه سبع سِنِين، وَعَن قَتَادَة وَمُقَاتِل:
ثَلَاث سِنِين وَكَانَ ذَلِك معْجزَة بِهِ. قَوْله:
(وَحَنَانًا) ، قَالَ الزّجاج: وَآتَيْنَاهُ حناناً،
وَقيل: وجعلناه حناناً لأهل زَمَانه، أَي: رَحْمَة
لِأَبَوَيْهِ وَغَيرهمَا، وتعطفاً وشفقة. قَوْله:
(وَزَكَاة) ، أَي: زِيَادَة فِي الْخَيْر على مَا وصف،
وَقيل: طَهَارَة من الذُّنُوب، وَقيل: عملا صَالحا.
قَوْله: (تقياً) ، يَعْنِي: مُسلما مخلصاً مُطيعًا.
قَوْله: (وبرّاً) أَي: وبارّاً بِوَالِديهِ، لطيفاً بهما،
محسناً إِلَيْهِمَا، وَلم يكن جباراً متكبراً. قَوْله:
(عصياً) أَي: عَاصِيا لرَبه. قَوْله: (وَسَلام عَلَيْهِ)
أَي: سَلام من الله عَلَيْهِ فِي هَذِه الْأَيَّام،
وَإِنَّمَا خص التَّسْلِيم وَالسَّلَام بِهَذِهِ
الْأَحْوَال لِأَنَّهَا أصعب الْأَوْقَات وأوحشها.
حَفِيَّاً لَطِيفاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّه
كَانَ بِي حفيّاً} (مَرْيَم: 74) . وَفسّر: حفياً، بقوله:
لطيفاً، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي محتفياً.
عاقِرَاً الذَّكَرُ والأنْثَى سَوَاءٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكَانَت
امْرَأَتي عاقراً} (مَرْيَم: 5 و 8) . وَقَالَ: الذّكر
وَالْأُنْثَى سَوَاء، يَعْنِي: يُقَال للرجل الَّذِي لَا
يلد: عَاقِر، وللمرأة الَّتِي لَا تَلد: عَاقِر.
(16/21)
0343 - حدَّثنا هُدْبَةُ بنُ خَالِدٍ حدَّثنا هَمَّامُ بنُ
يَحْيَى حدَّثنا قَتادَةُ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ عنْ مالِكِ
بنِ صَعْصَعَةَ أنَّ نَبِيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حدَّثَهُمْ عنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ ثُمَّ صَعِدَ حتَّى
أتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ
هَذَا قَالَ جِبْرِيلُ قِيلَ ومَنْ مَعَكَ قَالَ مُحَمَّدٌ
قِيلَ وقَدْ أُرْسِلَ إلَيْهِ قَالَ نعَمْ فلَمَّا
خَلَصْتُ فإذَا يَحْيَى وعِيسَى وهُمَا ابْنَا خالَةٍ
قَالَ هذَا يَحْيَى وعيسَى فسَلَّم عَلَيْهِمَا فسَلَّمْتُ
فَرَدَّا ثُمَّ قالاَ مَرْحَباً بالأخِ الصَّالِحِ
والنَّبيِّ الصَّالِحِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن يحيى مَذْكُور فِي
قصَّة زَكَرِيَّا، وَهَذِه قِطْعَة من حَدِيث مطول قد مضى
فِي: بَاب ذكر الْمَلَائِكَة، وَمر الْكَلَام فِيهِ.
قَوْله: (فَلَمَّا خلصت) أَي: للصعود إِلَى السَّمَاء
الثَّانِيَة ووصلت إِلَيْهَا. قَوْله: (وهما) أَي: يحيى
وَعِيسَى، وَلَعَلَّ الْقَرَابَة الَّتِي كَانَت بَينهمَا
كَانَت سَببا لِكَوْنِهِمَا فِي سَمَاء وَاحِد مُجْتَمعين. |