عمدة القاري شرح
صحيح البخاري بِسم الله الرحمان الرَّحيم
53
- (بابُ قَوْلِ الله تعَالى: {وإنَّ يُونُسَ لَمِنَ
المُرْسَلِينَ} إِلَى قَوْلِهِ {وَهْوَ مُلِيمٍ} (الصافات:
931 241) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {وَإِن
يُونُس لمن الْمُرْسلين إِذْ أبق إِلَى الْفلك المشحون
فساهم فَكَانَ من المدحضين فالتقمه الْحُوت وَهُوَ مليم}
(الصافات: 931 241) . وَيُونُس بن مَتى، بِفَتْح الْمِيم
وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق مَقْصُور، وَقيل:
مَتى أمه وَلم يشْتَهر نَبِي بِأُمِّهِ غير يُونُس
والمسيح، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، وروى عبد
الرَّزَّاق: إِن مَتى اسْم أمه وَلَكِن الْأَصَح أَنه اسْم
أَبِيه، وَكَانَ رجلا صَالحا من أهل بَيت النُّبُوَّة وَلم
يكن ل ولد ذكر فَقَامَ إِلَى الْعين الَّتِي اغْتسل فِيهَا
أَيُّوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فاغتسل هُوَ
وَزَوجته مِنْهَا وصليا ودعوا الله تَعَالَى أَن يرزقهما
ولدا مُبَارَكًا، فيبعثه الله فِي بني إِسْرَائِيل،
فَاسْتَجَاب الله دعاءهما ورزقهما يُونُس، وَتُوفِّي مَتى
وَيُونُس فِي بطن أمه وَله أَرْبَعَة أشهر، وَقد قيل:
إِنَّه من بني إِسْرَائِيل وَإنَّهُ من سبط بنيامين،
وَكَانَ من أهل قَرْيَة من قرى الْموصل يُقَال لَهَا:
نِينَوَى، وَكَانَ قومه يعْبدُونَ الْأَصْنَام فَبَعثه
الله إِلَيْهِم.
قَالَ مُجَاهِد مُذْنِبٌ
هُوَ تَفْسِير قَوْله: مليم، هَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ
من طَرِيق مُجَاهِد من ألام الرجل إِذا أَتَى بِمَا يلام
عَلَيْهِ، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَهُوَ مليم
دَاخل فِي الْمَلَامَة، يُقَال: رب لائم مليم، أَي: يلوم
غَيره وَهُوَ أَحَق مِنْهُ باللوم، وَعَن الطَّبَرِيّ:
المليم هُوَ المكتسب اللوم.
الْمَشْحُونُ المُوَقَرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير تَعَالَى: {إِلَى الْفلك
المشحون} (الصافات: 041) . هَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي
حَاتِم من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد والموقر
بِضَم الْمِيم وَفتح الْقَاف المملوء وَقيل مَعْنَاهُ
المشحون الْمحمل المجهز.
{فَلَوْلاَ أنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ} (الصافات:
341) . الْآيَة
يَعْنِي أتم الْآيَة أَو اقْرَأ الْآيَة، وَهُوَ قَوْله:
{للبث فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يبعثون} (الصافات: 441) .
يَعْنِي: فلولا أَن يُونُس كَانَ من المسبحين، أَي:
المنزهين الذَّاكِرِينَ الله تَعَالَى قبل ذَلِك فِي
الرخَاء بالتسبيح وَالتَّقْدِيس للبث فِي بطن الْحُوت
إِلَى يَوْم يبعثون، يَعْنِي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : الظَّاهِر لبثه حَيا إِلَى
يَوْم الْقِيَامَة، وَعَن قَتَادَة: لَكَانَ بطن الْحُوت
قبراً لَهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَقَالَ الْكَلْبِيّ:
كَانَ لبثه فِي بطن الْحُوت أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَالَ
الضَّحَّاك: عشْرين يَوْمًا. وَقَالَ عَطاء: سَبْعَة
أَيَّام، وَقيل: ثَلَاثَة أَيَّام، وَعَن الْحسن
الْبَصْرِيّ: لم يلبث إلاَّ قَلِيلا ثمَّ أخرج من بَطْنه
بعيد الْوَقْت الَّذِي الْتَقم فِيهِ.
فنَبَذْناهُ العَرَاءِ} بِوَجْهِ الأرْضِ {وهْوَ سَقِيمٌ}
(الصافات: 541) .
(16/2)
أَي: فطرحناه، وَفسّر العراء: بِوَجْه
الأَرْض، وَهَكَذَا فسره الْكَلْبِيّ، وَقَالَ مقَاتل:
هُوَ ظهر الأَرْض، وَقَالَ مقَاتل بن سُلَيْمَان: هُوَ
البرَاز من الأَرْض، وَقَالَ الْأَخْفَش: هُوَ الفضاء،
وَقَالَ السّديّ: هُوَ السَّاحِل، وَيُقَال: العراء
الأَرْض الخالية من الشّجر والنبات، وَمِنْه قيل للمتجرد:
عُرْيَان. قَوْله: (سقيم) ، أَي: عليل مِمَّا حل بِهِ.
{وأنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} (الصافات:
641) . من غَيْرِ ذَاتِ أصْلِ الدُّبَّاءِ ونَحْوِهِ
قَوْله: (عَلَيْهِ) أَي: لَهُ، وَقيل: عِنْده، واليقطين:
القرع، وَعَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَمُقَاتِل: كل نبت
يمتذ وينبسط على وَجه الأَرْض وَلَيْسَ لَهُ سَاق نَحْو
القثاء والبطيخ والقرع والحنظل، وَقَالَ سعيد بن جُبَير:
هُوَ كل نبت ينْبت ثمَّ يَمُوت فِي عَامه، وَقيل: هُوَ
يفعيل من: قطن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ إِقَامَة
زائل لَا إِقَامَة ثَابت، وَقيل: هُوَ الدُّبَّاء.
وَفَائِدَة الدُّبَّاء: أَن الذُّبَاب لَا يجْتَمع عِنْده،
وَقيل: لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّك
لِتُحَبّ القرع؟ قَالَ: أجل، هِيَ شَجَرَة أخي يُونُس،
وَقيل: هِيَ التِّين، وَقيل: هِيَ شَجَرَة الموز يُغطي
بورقها ويستظل بأغصانها وَيفْطر على ثمارها، وَقَالَ
مقَاتل بن حَيَّان: كَانَ يستظل بِالشَّجَرَةِ. وَكَانَت
وَعلة تخْتَلف إِلَيْهِ فيشرب من لَبنهَا. قَوْله: (من غير
ذَات أصل) ، صفة يَقْطِين أَي: من يَقْطِين كَائِن من غير
ذَات أصل. قَوْله: (الدُّبَّاء) ، بِالْجَرِّ بدل من:
يَقْطِين، أَو بَيَان وَلَيْسَ هُوَ مُضَافا إِلَيْهِ.
فَافْهَم. قَوْله: (وَنَحْوه) ، أَي: وَنَحْو اليقطين:
القثاء والبطيخ.
{وأرْسَلْناهُ إلَى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ}
(الصافات: 741) .
أَي: وَأَرْسَلْنَا يُونُس. وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ)
: يجوز أَن يكون قبل حَبسه فِي بطن الْحُوت، وَهُوَ مَا
سبق من إرْسَاله إِلَى قومه من أهل نِينَوَى، وَقيل: هُوَ
إرْسَال ثَان بَعْدَمَا جرى عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلين،
وَالْغَرَض من قَوْله: {إِلَى مائَة ألف أَو يزِيدُونَ}
(الصافات: 741) . الْكَثْرَة، وَقَالَ مقَاتل: مَعْنَاهُ
بل يزِيدُونَ، وَعَن ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ وَيزِيدُونَ،
وَعنهُ مبلغ الزِّيَادَة على مائَة ألف عشرُون ألفا، وَعَن
الْحسن وَالربيع، بضع وَثَلَاثُونَ ألفا، وَعَن ابْن
حبَان: سَبْعُونَ ألفا.
{فآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (الصافات: 841) .
يَعْنِي: فأمن قوم يُونُس عِنْد مُعَاينَة الْعَذَاب.
قَوْله: (فمتعناهم إِلَى حِين) أَي: إِلَى أجل مُسَمّى
إِلَى حِين انْقِضَاء آجالهم.
وَلاَ تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ إذْ نَادَى وهْوَ مَكْظُومٌ
كَظِيمٌ وهْوَ مَغْمُومٌ} (الْقَلَم: 84) .
الْخطاب للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: لَا تكن
يَا مُحَمَّد كصاحب الْحُوت وَهُوَ يُونُس فِي الضجر
وَالْغَضَب والعجلة. قَوْله: (إِذْ نَادَى) ، أَي: حِين
دَعَا ربه فِي بطن الْحُوت وَهُوَ كظيم، أَي: مَمْلُوء
غيظاً، من كظم السقاء إِذا ملأَهُ. وَأَشَارَ بقوله: كظيم،
إِلَى أَن مكظوم على وزن مفعول، وَلكنه بِمَعْنى: كظيم على
وزن فعيل، وَفَسرهُ بقوله: وَهُوَ مغموم، وَقيل: مَحْبُوس
عَن التَّصَرُّف.
2143 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ حدَّثنا يَحْيَى عنْ سُفْيَانَ
قَالَ حدَّثني الأعْمَشُ ح حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا
سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ عَبْدِ الله
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ إنِّي
خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ زَادَ مُسَدَّدٌ يُوُنُسَ بنِ مَتَّى.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأخرجه من طَرِيقين:
أَحدهمَا: عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش. وَالْآخر: عَن أبي
نعيم الْفضل بن دُكَيْن عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش عَن
أبي وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير: عَن
أبي نعيم وَعَن مُسَدّد عَن قُتَيْبَة أَيْضا. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن مَحْمُود بن غيلَان،
قَالَ الْعلمَاء: إِنَّمَا قَالَه، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لما خشِي على من سمع قصَّته أَن يَقع فِي نَفسه
تنقيص لَهُ، فَذكره لسد هَذِه الذريعة.
(16/3)
3143 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا
شُعْبَةُ عنْ قَتَادَةَ عنْ أبِي العَالِيَةِ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ النَّبِيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أنْ
يَقُولَ إنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بنِ مَتَّى ونَسَبَهُ
إِلَى أبِيهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو الْعَالِيَة رفيع
بن مهْرَان. والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب قَول الله
تَعَالَى: {وَهل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} (طه: 9) . وَمضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
4143 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ عنِ اللَّيْثِ عنْ
عَبْدِ العَزِيزِ بنِ أبِي سلَمَةَ عنْ عَبْدِ الله بنِ
الفَضْلِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ بيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ
سِلْعَتَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئاً كَرِهَهُ فَقَالَ لَا
والَّذِي اصْطَفى مُوسَى علَى البَشَرِ فسَمِعَهُ رَجُلٌ
مِنَ الأنْصَارِ فَقامَ فلَطَمَ وجْهَهُ وَقَالَ تَقُولُ
والَّذِي اصْطَفى مُوسَى علَى البَشَرِ وَالنَّبِيّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أظهرنَا فَذهب إِلَيْهِ فَقَالَ
أَبَا الْقَاسِم إِن لي ذمَّة وعهدا ففما بَال فلَان لطم
وَجْهي فَقَالَ لم لطمت وَجهه؟ فَذكره فَغَضب النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجهه ثمَّ قَالَ
لَا تفضلوا بَين أنْبِياءِ الله فإنَّهُ يُنْفَخْ فِي
الصُّوَرِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَواتِ ومَنْ فِي
الأرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ الله ثُمَّ يُنْفَخُ فيهِ أخْرَى
فأكُونُ أوَّلَ مَنْ بُعِثَ فإذَا مُوسَى آخِذٌ بالْعَرْشِ
فَلاَ أدْرِي أحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أمْ
بُعِثَ قَبْلِي وَلاَ أقُولُ إنَّ أحدَاً أفْضَلُ مِنْ
يُونُسَ بنِ مَتَّى. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي آخر الحَدِيث، والأعرج
هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز، والْحَدِيث مضى عَن قريب
فِي: بَاب وَفَاة مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قَوْله: (يعرض) ، أَي: يبرز مَتَاعه للنَّاس لِيَرْغَبُوا
فِي شِرَائِهِ فَأعْطى لَهُ بِهِ ثمنا بخساً. قَوْله:
(أظهرنَا) ، مقحم، وَقد يُوَجه عدم إقحامه وَهُوَ أَنه جمع
ظهر، وَمَعْنَاهُ: أَنه بَينهم على سَبِيل الِاسْتِظْهَار
كَانَ ظهرا مِنْهُ قدامه وظهراً وَرَاءه، فَهُوَ مَكْنُون
من جانبيه، إِذا قيل: بَين ظهرانيهم، وَمن جوانبه إِذا
قيل: بَين أظهرهم. قَوْله: (ذمَّة وعهداً) ، يَعْنِي: مَعَ
الْمُسلمين، فَلم أَخْفَر ذِمَّتِي وَنقض عهدي باللطم.
قَوْله: (لَا تفضلوا بَين أَنْبيَاء الله) ، مَعْنَاهُ:
لَا تفضلوا بَعْضًا بِحَيْثُ يلْزم مِنْهُ نقص
الْمَفْضُول، أَو يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَة والنزاع،
أَو: لَا تفضلوا بِجَمِيعِ أَنْوَاع الْفَضَائِل، وَإِن
كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل مِنْهُم
مُطلقًا، إِذْ الإِمَام أفضل من الْمُؤَذّن مُطلقًا، وَإِن
كَانَ فَضِيلَة التأذين غير موجدة فِيهِ، أَو: لَا تفضلوا
من تِلْقَاء أَنفسكُم وأهوائكم. فَإِن قلت: نهى صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن التَّفْضِيل وَقد فضل هُوَ بِنَفسِهِ
مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت: لم يفضل،
إِذْ مَعْنَاهُ: وَأَنا لَا أَدْرِي أَن هَذَا الْبَعْث
فَضِيلَة لَهُ أم لَا؟ أَو جَازَ لَهُ مَا لم يجز لغيره.
فَإِن قلت: السِّيَاق يَقْتَضِي تَفْضِيل مُوسَى على
سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت: لَئِن
سلمنَا لَا يَقْتَضِي إلاَّ تفضيله بِهَذَا الْوَجْه
وَهَذَا لَا يُنَافِي كَونه أفضل مُطلقًا من مُوسَى.
قَوْله: (بصعقته يَوْم الطّور) ، وَهُوَ فِي قَوْله
تَعَالَى: {فَلَمَّا تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر مُوسَى
صعقاً} (طه) . فَإِن قلت: إِن مُوسَى قد مَاتَ، فَكيف
تُدْرِكهُ الصعقة؟ وَأَيْضًا قد ورد النَّص وَأَجْمعُوا
أَيْضا على أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ
أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة؟ فَإِن
قلت: المُرَاد من الْبَعْث الْإِفَاقَة بِقَرِينَة الروايا
الْأُخَر حَيْثُ قَالَ: أَفَاق قبلي، وَهَذِه الصعقة هِيَ
غشية بعد الْبَعْث عِنْد نفخة الْفَزع الْأَكْبَر. قَوْله:
(وَلَا أَقُول) إِلَى آخِره، أَي: لَا أَقُول من عِنْد
نَفسِي أَو قَالَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تواضعا وهضما
لنَفسِهِ.
78 - (حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا شُعْبَة عَن سعد بن
إِبْرَاهِيم قَالَ سَمِعت حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي
هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَا يَنْبَغِي لعبد أَن
يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى) مطابقته للتَّرْجَمَة
ظَاهِرَة وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ عَن قريب وَالله أعلم -
63 - (بابٌ {واسألْهُمْ عنِ القَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ
حاضِرَةَ البَحْرِ إذُ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} )
(الْأَعْرَاف: 361) .
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَول الله تَعَالَى: {واسألهم
عَن الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر إِذْ
يعدون فِي السبت إِذْ تأتيهم
(16/4)
حيتانهم يَوْم سبتهم شرعا وَيَوْم لَا
يسبتون لَا تأتيهم كَذَلِك نبلوهم بِمَا كَانُوا يفسقون}
(الْأَعْرَاف: 361) . قَوْله: (واسألهم) ، أَي: اسْأَل يَا
مُحَمَّد هَؤُلَاءِ الْيَهُود الَّذين بحضرتك عَن قصَّة
أَصْحَابهم الَّذين خالفوا أَمر الله ففاجأتهم نقمته على
صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم فِي الْمُخَالفَة، وحذر
هَؤُلَاءِ من كتمان صِفَتك الَّتِي يجدونها فِي كتبهمْ
لِئَلَّا يحل بهم مَا حل بإخوانهم وسلفهم. قَوْله: (عَن
الْقرْيَة) هِيَ أَيْلَة وَهِي على شاطىء بَحر القلزم
وَهِي على طَرِيق الْحَاج الذَّاهِب إِلَى مَكَّة من مصر
وَحكى ابْن التِّين عَن الزُّهْرِيّ أَنَّهَا طبرية وَقبل
هِيَ مَدين وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَقَالَ ابْن زيد
هِيَ قَرْيَة يُقَال لَهَا منتنا بَين مَدين وعينونا
قَوْله (إِذْ يعدون) أَي: يعتدون فِيهِ ويخالفون فِيهِ
أَمر الله وَهُوَ اصطيادهم فِي يَوْم السبت وَقد نهو
عَنهُ، وَإِذ يعدون بدل من الْقرْيَة بدل الاشتمال، وَيجوز
أَن يكون مَنْصُوبًا بقوله: كَانَت، أَو بقوله: حَاضِرَة.
قَوْله: (إِذْ تأتيهم) كلمة: إِذْ، مَنْصُوب بقوله: يعدون.
قَوْله: (شرعا) أَي: ظَاهِرَة على المَاء، قَالَه ابْن
عَبَّاس. قَوْله: (كَذَلِك نبلوهم) أَي: نختبرهم
بِإِظْهَار السّمك لَهُم على ظهر المَاء فِي الْيَوْم
الْمحرم عَلَيْهِم صَيْده.
يَعْدُونَ يتَعَدَّوْنَ يَتَجَاوَزُونَ فِي السَّبْتِ
{إِذْ تأتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً}
(الْأَعْرَاف: 361) . شَوَارِعَ
فسر قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يعدون} بقوله: يتعدون
يتجاوزون، وَقد فسرناه، وَقد فسر شرعا بقوله: شوارع،
وَفِيه نظر، لِأَن الشَّرْع جمع شَارِع، والشوارع جمع
شارعة، ومادته تدل على الظُّهُور وَمِنْه شرع الدّين: إِذا
بَينه وأظهره.
إِلَى قَوْلِهِ {كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ}
(الْأَعْرَاف: 361 761) .
إِلَى: مُتَعَلق بقوله: شرعا، وَلَيْسَ هُوَ بتعلق نحوي،
وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: إقرأ بعد قَوْله: شرعا، إِلَى
قَوْله {كونُوا قردة خَاسِئِينَ} وَهُوَ قَوْله: {وَيَوْم
لَا يسبتون لَا تأتيهم كَذَلِك نبلوهم بِمَا كَانُوا
يفسقون وَإِذ قَالَت أمة مِنْهُم لم تعظون قوما الله
مهلكهم أَو معذبهم عذَابا شَدِيدا قَالُوا معذرة إِلَى
ربكُم ولعلهم يَتَّقُونَ فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ
أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء وأخذنا الَّذين ظلمُوا
بِعَذَاب بئيس بِمَا كَانُوا يفسقون فَلَمَّا عتوا عَمَّا
نهوا عَنهُ قُلْنَا لَهُم كونُوا قردة خَاسِئِينَ}
(الْأَعْرَاف: 361 761) . قَوْله: أمة مِنْهُم، أَي:
جمَاعَة من أَصْحَاب السبت وَكَانُوا ثَلَاث فرق: فرقة
ارتكبت الْمَحْذُور واحتالوا على صيد السّمك يَوْم السبت.
وَفرْقَة نهت عَن ذَلِك وَأنْكرت واعتزلتهم. وَفرْقَة سكتت
فَلم تفعل وَلم تنه، وَلَكنهُمْ قَالُوا للمنكرة: لِمَ
تَعِظُونَ قوما الله مهلكهم؟ قَوْله: (معذرة) ، قرىء
بِالرَّفْع على تَقْدِير: هَذَا معذرة، وَبِالنَّصبِ على
تَقْدِير: نَفْعل ذَلِك معذرة إِلَى ربكُم أَي: فِيمَا
أَخذ علينا بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن
الْمُنكر، ولعلهم يَتَّقُونَ أَي: لَعَلَّهُم بِهَذَا
الْإِنْكَار يَتَّقُونَ مَا هم فِيهِ ويتركونه ويرجعون
إِلَى الله تَعَالَى تَائِبين، فَإِذا تَابُوا تَابَ الله
عَلَيْهِم. قَوْله: (فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ) أَي:
فَلَمَّا أبي الفاعلون الْمُنكر قبُول النَّصِيحَة (أنجينا
الَّذين ينهون عَن السوء وأخذنا الَّذين ظلمُوا) أَي:
ارتكبوا الْمعْصِيَة. قَوْله: (فَلَمَّا عتوا) أَي:
فَلَمَّا تكبروا. قَوْله: (قردة) ، جمع قرد، قَوْله:
(خَاسِئِينَ) أَي: ذليلين حقيرين مهانين، وروى ابْن جرير
من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس: صَار شُبَّانهمْ
قردة وشيوخهم خنازير.
بَئِيسٌ شَدِيدٌ
هَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَهَكَذَا فسره
الزَّمَخْشَرِيّ يُقَال: بؤس ببؤس بَأْسا: إِذا اشْتَدَّ
فَهُوَ بئيس، وقرىء: بئس، بِوَزْن حذر وَبئسَ على تَخْفيف
الْعين وَنقل حركتها إِلَى الْفَاء، كَمَا يُقَال: كبد فِي
كبد، وبيس على قلب الْهمزَة يَاء: كذيب، فِي ذِئْب، وبيئس
على وزن فيعل بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا، وبيس على وزن ريس
وبيس على وزن هَين فِي هَين.
وَلم يذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيثا.
73
- (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {وآتَيْنَا داوُدَ
زَبُورَاً} (النِّسَاء: 261، الْإِسْرَاء: 55) .
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى: {وآتينا
دَاوُد زبوراً} (الْأَعْرَاف: 361 761) . وَقَبله: {إِنَّا
أَوْحَينَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نوح والنبيين
من بعده وأوحينا إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل
وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَعِيسَى وَأَيوب وَيُونُس
وَهَارُون وَسليمَان وآتينا دَاوُد زبوراً} (النِّسَاء:
261، والأسراء: 55) . وَدَاوُد اسْم أعجمي، وَعَن ابْن
عَبَّاس: هُوَ بالعبرانية الْقصير الْعُمر، وَيُقَال: سمي
بِهِ لِأَنَّهُ داوى جراحات الْقُلُوب، وَقَالَ مقَاتل:
ذكره الله فِي
(16/5)
الْقُرْآن فِي اثْنَي عشر موضعا، وَهُوَ
دَاوُد بن إيشا، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة: ابْن عوبد، بِفَتْح
الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة، على وزن جَعْفَر: ابْن باعر، بباء مُوَحدَة
وَعين مُهْملَة مَفْتُوحَة: ابْن سَلمُون بن يارب، بياء
آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: ابْن رام بن
حضرون، بحاء مُهْملَة وضاد مُعْجمَة: ابْن فارص، بفاء
وَفِي آخِره صَاد مُهْملَة ابْن يهوذا بن يَعْقُوب بن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام. وَمِنْهُم من زَاد بعد سَلمُون: يحشون بن
عمينا ابْن دَاب بن رام، وَقيل: ارْمِ. قَوْله: (زبورا) ،
هواسم الْكتاب الَّذِي أنزل الله عَلَيْهِ، وروى أَبُو
صَالح عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: أنزل الله الزبُور على
دَاوُد، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مائَة وَخمسين
سُورَة بالعبرانية، فِي خمسين مِنْهَا مَا يلقونه من بخت
نصر، وَفِي خمسين مَا يلقونه من الرّوم، وَفِي خمسين مواعظ
وَحكم، وَلم يكن فِيهِ حَلَال وَلَا حرَام وَلَا حُدُود
وَلَا أَحْكَام، وروى: أَنه نزل عَلَيْهِ فِي شهر
رَمَضَان.
الزُّبُرُ الْكُتُبُ واحِدُها زَبُورٌ. زَبَرْتُ كَتَبْتُ
الزبر، بِضَم الزَّاي وَالْبَاء: جمع زبور، قَالَ
الْكسَائي: يَعْنِي الْمَزْبُور، يَعْنِي: الْمَكْتُوب،
يُقَال: زبرت الْوَرق فَهُوَ مزبور أَي: كتبته، فَهُوَ
مَكْتُوب، وَقَرَأَ حَمْزَة: زبور، بِضَم الزَّاي وَغَيره
من الْقُرَّاء بِفَتْحِهَا.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبالُ
أوِّبِي مَعَهُ} (سبأ: 01 11) .
فضلا أَي: نبوة وكتاباً هُوَ الزبُور وصوتاً بديعاً
وَقُوَّة وقدرة وتسخير الْجبَال وَالطير، قَوْله: (يَا
جبال) ، بدل من قَوْله: (فضلا) بِتَقْدِير قَوْلنَا: يَا
جبال، أَو هُوَ بدل من قَوْله تَعَالَى: آتَيْنَا،
بِتَقْدِير: قُلْنَا يَا جبال.
قَالَ مُجَاهِدٌ سَبِّحِي مَعَهُ
هُوَ تَفْسِير قَوْله تَعَالَى أوِّبي مَعَه، يَعْنِي: يَا
جبال سبحي مَعَ دَاوُد، وأوِّبي أَمر من التأويب أَي:
رَجْعِيّ مَعَه التَّسْبِيح أَو رَجْعِيّ مَعَه فِي
التَّسْبِيح كلما رَجَعَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِذا رجعه فقد
رَجَعَ، وَقيل: سبحي مَعَه إِذا سبح، وَقيل: هِيَ بِلِسَان
الْحَبَشَة، وَقيل: نواحي مَعَه وَالطير تساعدك على ذَلِك،
وَكَانَ إِذا نَادَى بالنياحة أَجَابَتْهُ الْجبَال بصداها
وعكفت عَلَيْهِ الطير من فَوْقه، فصدى الْجبَال الَّذِي
يسمعهُ النَّاس من ذَلِك الْيَوْم.
والطيْرَ
هُوَ مَنْصُوب بالْعَطْف على مَحل الْجبَال، وَقيل:
مَنْصُوب على أَنه مفعول مَعَه، وَقيل: مَنْصُوب بالْعَطْف
على: فضلا، يَعْنِي: وسخرنا لَهُ الطيرَ.
وألَنَّا لَهُ الحَدِيدَ
أَي: ألنَّا لداود الْحَدِيد فَصَارَ فِي يَده مثل الشمع،
وَكَانَ سَأَلَ الله أَن يسبب لَهُ سَببا يَسْتَغْنِي بِهِ
عَن بَيت المَال فيتقوت مِنْهُ وَيطْعم عِيَاله، فألان
الله لَهُ الْحَدِيد.
أنِ اعْمَلْ سابِغَاتٍ الدُّرُوعَ
كلمة: أَن، هَذِه مفسرة بِمَنْزِلَة: أَي، كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {فأوحينا إِلَيْهِ أَن اصْنَع الْفلك}
(الْمُؤْمِنُونَ: 72) . وسابغات، مَنْصُوب بقوله: اعْمَلْ،
وَفَسرهُ بقوله: الدروع، وَكَذَا فسر أَبُو عُبَيْدَة
السابغات بالدروع، وَقَالَ أهل التَّفْسِير: أَي كوامل
واسعات، وقرىء: صابغات، بالصَّاد.
وقَدِّرْ فِي السَّرْدِ المَسَامِيرِ والحَلَقِ وَلَا
تُدِقَّ المِسْمَارَ فيَتَسَلْسَلَ ولاَ تُعَظِّمُ
فَيَفْصِمَ
فسر السرد بقوله: المسامير وَالْحلق، قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ معنى قَوْله: {وَقدر فِي السرد} (سبإ: 11)
. أَي: لَا تجْعَل المسامير دقاقاً، وَلَا غلاظاً،
وَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى ذَلِك بقوله: وَلَا تدق
بِالدَّال الْمُهْملَة، من التدقيق، وَيدل عَلَيْهِ مَا
روى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) : من
طَرِيق مُجَاهِد فِي قَوْله: {وَقدر فِي السرد} (سبإ: 11)
. لَا تدق المسامير، فيتسلل وَلَا تغلظها فيفصمها، وَقيل:
وَلَا ترق، بالراء من الرقة وَهُوَ أَيْضا يُؤَدِّي ذَلِك
الْمَعْنى. قَوْله: (فيتسلسل) ، ويروى: فيتسلل، ويروى:
فيسلس، وَالْكل يرجع إِلَى معنى
(16/6)
واحدِ، يُقَال: شَيْء سَلس، أَي: سهل،
وَرجل سَلس أَي: لين منقاد بَين السلس والسلاسة. قَوْله:
(وَلَا تعظم) أَي: المسمار، فَيفْصم، من الفصم: وَهُوَ
الْقطع.
أفْرِغْ أنْزِلْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا أفرغ
علينا صبرا} (الْبَقَرَة: 052) . وَفسّر أفرغ بقوله: أنزل
من الْإِنْزَال، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، معنى قَوْله:
{أفرغ علينا صبرا} أَي: أنزل علينا صبرا من عنْدك، وَهَذَا
فِي قصَّة طالوت، وفيهَا قَضِيَّة دَاوُد عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَكَأَنَّهُ ذكر هَهُنَا لِأَن
قضيتهما وَاحِدَة، وَقَالَ بَعضهم: أفرغ أنزل لم أعرف
المُرَاد من هَذِه الْكَلِمَة هُنَا! قلت: لَيْسَ هَذَا
الْموضع من الْمَوَاضِع الَّتِي يدعى فِيهَا الْعَجز،
وَالْوَجْه فِيهِ من الْمَعْنى والمناسبة مَا ذَكرْنَاهُ.
((بسطة زِيَادَة وفضلا))
أإشاربه إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى إِن الله اصطفاه
عَلَيْكُم وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم وَهَذَا أَيْضا
فِي قصَّة الْمَوْت وَالْوَجْه فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ وَقد
فسر البُخَارِيّ بسطة بقوله زِيَادَة وفضلا أَي زِيَادَة
فِي الْقُوَّة وفضلا فِي المَال وَفِي علم الحروب وَهَذَا
وَالَّذِي قبله لم يقعا إِلَّا فِي رِوَايَة الْكشميهني
وَحده {واعْمَلُوا صالِحَاً إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ} (سبإ: 11) .
فأجازيكم عَلَيْهِ أحسن جَزَاء وأتمه.
7143 - حدَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عنْ هَمَّامٍ عنْ أبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خُفِّفَ علَى دَاودَ السَّلاَمُ
القُرْآنُ فكانَ يأمُرُ بِدَوَابِهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ
القُرْآنَ قَبْلَ أنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ ولاَ يأكُلُ
إلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
التَّفْسِير عَن إِسْحَاق ابْن نصر.
قَوْله: (خفف) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّخْفِيف.
قَوْله: (الْقُرْآن) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
الْقِرَاءَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْقُرْآن أَي
التَّوْرَاة أَو الزبُور، وَقَالَ التوربشتي: وَإِنَّمَا
أطلق الْقُرْآن لِأَنَّهُ قصد بِهِ إعجازه من طَرِيق
الْقِرَاءَة. وَقَالَ صَاحب (النِّهَايَة) : الأَصْل فِي
هَذِه اللَّفْظَة الْجمع، وكل شَيْء جمعته فقد قرأته، وسمى
الْقُرْآن قُرْآنًا لِأَنَّهُ جمع الْأَمر وَالنَّهْي
وَغَيرهمَا، وَقد يُطلق الْقُرْآن على الْقِرَاءَة،
وَقُرْآن كل نَبِي يُطلق على كِتَابه الَّذِي أوحى
إِلَيْهِ، قَوْله: (فَكَأَن) أَي: دَاوُد يَأْمر بدوابه،
وَفِي رِوَايَته فِي التَّفْسِير: بدابته بِالْإِفْرَادِ،
وَيحمل الْإِفْرَاد على مركوبه خَاصَّة، وبالجمع مركوبه
ومراكيب أَتْبَاعه. قَوْله: (قبل أَن تسرج) ، وَفِي
رِوَايَة مُوسَى: فَلَا تسرج حَتَّى يقْرَأ الْقُرْآن،
وَالْأول أبلغ. وَفِيه: الدّلَالَة على أَن الله تَعَالَى
يطوي الزَّمَان لمن يَشَاء من عباده كَمَا يطوي الْمَكَان،
وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَى إِدْرَاكه إلاَّ بالفيض الرباني،
وَجَاء فِي الحَدِيث: إِن الْبركَة قد تقع فِي الزَّمن
الْيَسِير حَتَّى يَقع فِيهِ الْعَمَل الْكثير، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: أَكثر مَا بلغنَا من ذَلِك من كَانَ يقْرَأ
أَربع ختمات بِاللَّيْلِ وأربعاً بِالنَّهَارِ. انْتهى،
وَلَقَد رَأَيْت رجلا حَافِظًا قَرَأَ ثَلَاث ختمات فِي
الْوتر فِي كل رَكْعَة ختمة فِي لَيْلَة الْقدر. قَوْله:
(وَلَا يَأْكُل إلاَّ من عمل يَده) ، وَهُوَ من ثمن مَا
كَانَ يعْمل من الدروع من الْحَدِيد بِلَا نَار وَلَا
مطرقة وَلَا سندان، وَهُوَ أول من عمل الدروع من زرد،
وَكَانَت قبل ذَلِك صَفَائِح.
رَوَاهُ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ صَفْوانَ عنْ عطَاءِ بنِ
يَسَارٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور مُوسَى بن عقبَة عَن
صَفْوَان بن سليم عَن عَطاء بن يسَار عَن أبي هُرَيْرَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَوَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من
حَدِيث إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مُوسَى بن عقبَة،
وَوَصله البُخَارِيّ أَيْضا فِي كتاب خلق أَفعَال الْعباد
عَن أَحْمد بن أبي عَمْرو عَن أَبِيه، وَهُوَ حَفْص بن عبد
الله عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مُوسَى بن عقبَة.
8143 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ
عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ أنَّ سَعِيدَ بنَ
(16/7)
المُسَيَّبِ أخْبَرَهُ وأبَا سلَمَةَ بنَ
عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ عَبْدَ الله بن ,َ عَمْرٍ وَرَضي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أنِّي أقولُ وَالله لأَصُومَنَّ
النَّهَارَ ولأقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا عشْتُ فَقَالَ لَهُ
رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْتَ الَّذِي تقُولُ
وَالله لأصُومَنَّ النَّهَارَ ولأقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا
عِشْتُ قُلْتُ قَدْ قُلْتُهُ قَالَ إنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ
ذَلِكَ فَصُمْ وأفْطِرْ وقُمْ ونَمْ وصُمْ مِنَ الشَّهْرِ
ثَلاثَةَ أيَّامٍ فإنَّ الحَسَنَةَ بِعَشْرٍ أمْثَالِهَا
وذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقُلْتُ إنِّي أُطِيقُ
أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رسولَ الله قَالَ فَصُمْ يَوْمَاً
وأفْطِرْ يَوْمَيْنِ قَالَ قُلْتُ إنِّي أطِيقُ أفْضَلَ
مِنْ ذَلِكَ قَالَ فَصُمْ يَوْماً وأفْطِرْ يَوْماً وذلِكَ
صِيَامُ دَاوُدَ وهْوَ عَدْلُ الصِّيَامِ قُلْتُ إنِّي
أطِيقُ أفْضَلَ مِنْهُ يَا رسُولَ الله قَالَ لَا أفْضَلَ
مِنْ ذَلِكَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (صِيَام دَاوُد،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، والْحَدِيث قد مر فِي
كتاب الصَّوْم فِي: بَاب صَوْم الدَّهْر، وَمر الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ.
9143 - حدَّثنا خَلاَّدُ بنُ يَحْيَى حدَّثنا مِسْعَرٌ
حدَّثنا حَبِيبُ بنُ أبِي ثابِتٍ عنْ أبي العَبَّاسِ عنْ
عَبْدِ الله بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ قَالَ قَالَ لي رسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألَمْ أنَبَّأ أنَّكَ
تَقُومُ اللَّيْل وتَصُومُ النَّهارَ فَقُلْتُ نَعَمْ
فَقَالَ فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتِ العَيْنُ
ونَفِهَتِ النَّفْسُ صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ
أيَّامٍ فَذالِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ أوْ كَصَوْمِ الدَّهْرِ
قُلْتُ إنِّي أجِدُ بِي قَالَ مِسْعَرٌ يَعْنِي قُوَّةً
قَالَ فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ علَيْهِ السَّلامُ وكانَ
يَصُومُ يَوْماً ويُفْطِرُ يَوْماً ولاَ يَفِرُّ إذَا
لاَقَى. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (صَوْم دَاوُد صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) . ومسعر، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون
السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره
رَاء: ابْن كدام، وَأَبُو الْعَبَّاس اسْمه السَّائِب من
السيب الْمَشْهُور بالشاعر، والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب
الصَّوْم فِي: بَاب حق الْأَهْل فِي الصَّوْم، وَفِي كتاب
التَّهَجُّد فِي: بَاب مُجَرّد من التَّرْجَمَة.
قَوْله: هجمت) ، أَي: غارت، قَالَ الْأَصْمَعِي: هجمت مَا
فِي الضَّرع إِذا حلبت كل مَا فِيهِ. قَوْله: (نفهت) ،
بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء أَي: ضعفت. قَوْله: (وَلَا
يفر إِذا لَاقَى) ، وَجه اتِّصَاله بِمَا قبله هُوَ بَيَان
أَن صَوْمه مَا كَانَ يُضعفهُ عَن الْحَرْب.
83 - (بابٌ أحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى الله صَلاَةُ دَاوُد
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأحَبُّ الصِّيامِ إِلَى الله
صِيامُ داوُدَ كانَ يَنامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ويَقُومُ
ثُلُثَهُ ويَنامُ سُدُسَهُ ويَصُومُ يَوماً ويُفْطِرُ
يَوْماً قَالَ عَلِيٌّ وهْوَ قَوْلُ عائِشَةَ مَا ألْفَاهُ
السَّحَرُ عِنْدِي إلاَّ نائِماً)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أحب الصَّلَاة ... إِلَى
آخِره. قَوْله: (قَالَ عَليّ) ، الظَّاهِر أَنه عَليّ بن
الْمَدِينِيّ أحد مشايخه. قَوْله: (وَهُوَ قَول عَائِشَة)
، أَي: قَوْله: (وينام سدسه) أَي: السُّدس الْأَخير
مُوَافق لقَوْل عَائِشَة: (مَا ألفاه السَّحَرَ)
بِالْفَاءِ أَي: مَا وجده السحر عِنْدِي إلاَّ نَائِما،
أَي: إلاَّ حَال كَونه نَائِما، وَالسحر، مَرْفُوع
لِأَنَّهُ فَاعل الْفَاء، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ
يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد مر
هَذَا الحَدِيث فِي كتاب التَّهَجُّد فِي: بَاب من نَام
عِنْد السحر، قَالَ: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد قَالَ: ذكر أبي عَن أبي سَلمَة
عَن عَائِشَة، قَالَت: مَا ألفاه السحر عِنْدِي إلاَّ
نَائِما يَعْنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد
مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
0243 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ
عنْ عَمْرِو بنِ دِينارٍ عنْ عَمْرِو بنِ أوْسٍ
الثَّقَفِيِّ سَمِعَ عَبْدَ الله بنَ عَمْرَو قَالَ قَالَ
لي رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحَبُّ الصِّيَامِ
إِلَى الله صِيامُ دَاوُدَ
(16/8)
كَانَ يَصُومُ يَوْماً ويُفْطِرُ يَوْمَاً
وأحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى الله صَلاَةُ داوُدَ كانَ يَنامُ
نِصْفَ اللَّيْلِ ويَقُومُ ثُلُثَهُ ويَنامُ سُدُسَهُ. .
الحَدِيث والترجمة شَيْء وَاحِد غير أَن فيهمَا تَقْدِيمًا
وتأخيراً. والْحَدِيث مضى فِي كتاب التَّهَجُّد فِي: بَاب
من نَام عِنْد السحر، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن عَليّ بن عبد
الله عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار إِلَى آخِره،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
93 - (بابٌ {واذْكُرْ عَبْدَنا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ
إنَّهُ أوَّابٌ} إِلَى قَوْلِهِ {وفَصْلِ الخِطَابِ} (ص:
71 02) .)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر
عَبدنَا دَاوُد ذَا الأيد إِنَّه أواب أَنا سخرنا الْجبَال
مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق وَالطير محشورة كل
لَهُ أواب وشددنا ملكه وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة وَفصل
الْخطاب} (ص: 71 02) . قَوْله: (وَاذْكُر عَبدنَا) عطف على
مَا قبله وَهُوَ قَوْله: {إصبر على مَا يَقُولُونَ} (ص:
71) . خَاطب الله تَعَالَى نبيه بقوله: إصبر على مَا
يَقُولُونَ أَي: الْكفَّار، وَاذْكُر عَبدنَا دَاوُد فِي
صبره على الْعِبَادَة وَالطَّاعَة. قَوْله: (ذَا الأيد)
أَي: الْقُوَّة إِنَّه أواب أَي: رَاجع عَن كل مَا يكرههُ
الله تَعَالَى. قَوْله: (بالْعَشي) ، أَي: بآخر النَّهَار
وَالْإِشْرَاق أَوله. قَوْله: (وَالطير) ، أَي: وسخرنا
لَهُ الطير محشورة أَي: مَجْمُوعَة. قَوْله: (كل لَهُ)
أَي: كل وَاحِد من الْجبَال وَالطير لَهُ أَي: لداود أواب،
أَي: مُطِيع. قَوْله: (وشددنا ملكه) ، أَي: ملك دَاوُد،
وَعَن ابْن عَبَّاس: كَانَ دَاوُد أَشد مُلُوك الأَرْض
سُلْطَانا كَانَ يحرس محرابه كل لَيْلَة ثَلَاثَة
وَثَلَاثُونَ ألف رجل، وَعنهُ: سِتَّة وَثَلَاثُونَ ألف
رجل، فَإِذا أَصْبحُوا قيل: إرجعوا فقد رَضِي نَبِي الله
مِنْكُم، وَقيل: ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ ألفا من بني
إِسْرَائِيل ثمَّ يَأْتِي عوضهم، قَالَ قَتَادَة: فَكَأَن
جملَة حرسه مِائَتَان وَثَلَاثُونَ ألف حرس. قَوْله:
(وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة) يَعْنِي: النُّبُوَّة
وَالزَّبُور وَعلم الشَّرَائِع والإصابة فِي الْأَمر.
قَوْله: (فصل الْخطاب) ، الْفَصْل: التَّمْيِيز بَين
الشَّيْئَيْنِ وَقيل: الْكَلَام الْبَين، والفصل بِمَعْنى
المفصول، وَقيل: الْفَصْل بِمَعْنى الْفَاصِل، والفاصل من
الْخطاب الَّذِي يفصل بَين الْحق وَالْبَاطِل وَالصَّحِيح
وَالْفَاسِد، وَقيل: فصل الْخطاب هُوَ قَوْله: أما بعد،
فَإِنَّهُ أول من قَالَهَا.
قَالَ مُجَاهِدٌ الْفَهْمَ فِي القَضاءِ
أَي: قَالَ مُجَاهِد: فصل الْخطاب هُوَ الْفَهم فِي
الْقَضَاء. وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي بشر عَن
مُجَاهِد، قَالَ: الْحِكْمَة الصَّوَاب، وَمن طَرِيق لَيْث
عَن مُجَاهِد: فصل الْخطاب: إِصَابَة الْقَضَاء وفهمه.
ولاَ تُشْطِطْ لاَ تُسْرِف
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فاحكم
بَيْننَا بِالْحَقِّ وَلَا تشطط واهدنا إِلَى سَوَاء
الصِّرَاط} (ص: 22) . وَفسّر: لَا تشطط، بقوله: لَا تسرف.
قَالَ بَعضهم: كَذَا وَقع هُنَا. قلت: فَكَأَنَّهُ استبعد
هَذَا التَّفْسِير، وَقد فسره السّديّ هَكَذَا، وَفَسرهُ
أَيْضا بقوله: لَا تحف، وَقَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ لَا
تجرُ، وروى ان جرير من طَرِيق قَتَادَة فِي قَوْله: وَلَا
تشطط، أَي: لَا تمل، وَعَن المورج: لَا تفرط والشطط
مُجَاوزَة الْحَد، وأصل الْكَلِمَة من قَوْلهم: شطت
الدَّار وأشطت إِذا بَعدت.
واهْدِنَا إلَى سَواءِ الصِّرَاطِ
هُوَ بعد قَوْله: وَلَا تشطط، وَمَعْنَاهُ: واهدنا إِلَى
وسط الطَّرِيق.
{إنَّ هَذَا أخِي لَهُ تَسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَة} (ص: 32
42) .
نذْكر الْآيَة بِتَمَامِهَا ثمَّ نذْكر مَا ذكره
البُخَارِيّ من أَلْفَاظ هَذِه الْآيَة وتمامها: {ولي نعجة
وَاحِدَة فَقَالَ اكفلنيها وعزني فِي الْخطاب} (ص: 32 42)
. وَبعد هَذِه الْآيَة: {قَالَ لقد ظلمك بسؤال نعجتك إِلَى
نعاجه وَإِن كثير من الخلطاء ليبغي بَعضهم على بعض إلاَّ
الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هم
وَظن دَاوُد أَنما فتناه فَاسْتَغْفر ربه وخرَّ رَاكِعا
وأناب} (ص: 32 42) . قَوْله: (إِن هَذَا أخي) أَي: فِي
الدّين، أَو المُرَاد: أخوة الصداقة والألفة وأخوة
الشّركَة، وَالْمرَاد من النعجة الْمَرْأَة، وَهَذَا من
أحسن التَّعْرِيض حَيْثُ كنى بالنعاج عَن النِّسَاء،
وَالْعرب تفعل هَذَا كثيرا، توري عَن النِّسَاء بالظباء
وَالشَّاء وَالْبَقر.
(16/9)
يُقالُ لِلْمَرْأةِ نَعْجَةٌ ويُقالُ لَهَا
أَيْضا شاةٌ
هَذَا كثير فَاش فِي أشعارهم. وَقَالَ الْحُسَيْن بن
الْفضل، هَذَا تَعْرِيض للتّنْبِيه والتفهيم لِأَنَّهُ لم
يكن هُنَاكَ نعاج، وَإِنَّمَا هَذَا مثل قَول النَّاس: مَا
ضرب زيد عمرا، وَمَا كَانَ هُنَاكَ ضرب.
{ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقَالَ أكْفِلْنِيهَا} (ص: 32)
. مِثْلُ {وكَفَلَهَا زَكَرِيَّاءُ} (آل عمرَان: 73) .
ضَمَّها
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى الكفل الضَّم، فَلذَلِك
قَالَ: إكفلنيها مثل {وكفلها زَكَرِيَّا} (آل عمرَان: 73)
. أَي: ضم زَكَرِيَّاء مَرْيَم بنت عمرَان إِلَى نَفسه،
وَعَن أبي الْعَالِيَة معنى: إكفلنيها ضمهَا إِلَيّ حَتَّى
أكفلها. وَقَالَ ابْن كيسَان: إجعلها كفلي، أَي: نَصِيبي.
وعَزَّنِي غلَبَنِي صارَ أعَزَّ مِنِّي أعْزَرْتُهُ
جَعَلْتُهُ عَزِيزاً فِي الخِطَابِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَوْله: (وعزني فِي الْخطاب) ،
أَي: صَار أعز مني فِيهِ، وَيُقَال: عزني فِي الْخطاب أَي
المحاورة، وَعَن قَتَادَة مَعْنَاهُ: ظَلَمَنِي وقهرني.
يُقالُ الْمُحَاوَرَةُ
أَي: الْخطاب، يُقَال: المحاورة، بِالْحَاء الْمُهْملَة.
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالٍ نَعْجَتِكَ إلَى
نِعَاجِهِ} (ص: 42) .
أَي: قَالَ دَاوُد، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) : لقد
ظلمك، جَوَاب قسم مَحْذُوف، وَفِي ذَلِك استنكار لفعل
خليطه وتهجين لطمعه. قَوْله: {بسؤال نعجتك} (ص: 42) . مصدر
مُضَاف إِلَى الْمَفْعُول.
وإنَّ كَثِيرَاً مِنَ الخُلَطَاءِ أَي الشُّرَكَاءِ
لَيَبْغِي إِلَى قَوْلِهِ {إنَّمَا فَتَنَّاهُ} .
فسر الخلطاء بالشركاء، وَهَكَذَا فسره الْمُفَسِّرُونَ
وَهُوَ جمع خليط. قَوْله: (ليبغي) أَي: ليظلم. قَوْله:
إِلَى قَوْله: {إِنَّمَا فتناه} (ص: 42) . قد ذكرنَا الْآن
تَمام الْآيَة.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: اخْتَبَرْنَاهُ
أَي: قَالَ عبد الله بن عَبَّاس: معنى فتناه اختبرناه،
وَهَذَا وَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَنهُ.
وقَرَأ عُمَرُ: فَتناهُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ
هَذِه قِرَاءَة شَاذَّة، ونقلت هَذِه الْقِرَاءَة أَيْضا
عَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَأبي رَجَاء العطاردي.
{فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخَرَّ رَاكِعَاً وأنابَ} (ص: 42) .
خر رَاكِعا، أَي: حَال كَونه رَاكِعا سَاجِدا، وَعبر عَن
السُّجُود بِالرُّكُوعِ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنى الإنحناء.
قَوْله: (وأناب) أَي: رَجَعَ إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ، من
الْإِنَابَة وَهُوَ الرُّجُوع إِلَى الله بِالتَّوْبَةِ،
يُقَال: أناب ينيب إنابة فَهُوَ منيب إِذا أقبل وَرجع.
1243 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ حدَّثنا سَهْلُ بنُ يُوسُفَ
قَالَ سَمِعْتُ الْعَوَّامَ عنْ مُجَاهِدٍ قَالَ قُلْتُ ل
اِبنِ عَبَّاسٍ أنَسْجُدُ فِي ص فَقَرَأ} وَمِنْ
ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ} حتَّى أتَي
{فَبِهُدَاهُمُ اقْتدِهْ} (الْأَنْعَام: 09) . فَقَالَ
نَبِيُّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَمَّنْ أُمِرَ أنْ
يَقْتَدِيَ بِهِمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمن ذُريَّته دَاوُد)
. وَمُحَمّد شَيْخه هُوَ ابْن سَلام، كَذَا جزم بِهِ
بَعضهم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ إِمَّا مُحَمَّد ابْن
سَلام، وَإِمَّا ابْن الْمثنى، وَإِمَّا ابْن بشار على مَا
اخْتلفُوا فِيهِ. انْتهى. وَقيل: يُقَال إِنَّه أَبُو
مُوسَى الزَّمِن وَهُوَ مُحَمَّد ابْن الْمثنى
الْبَصْرِيّ، وَسَهل بن يُوسُف أَبُو عبد الله الْأنمَاطِي
الْبَصْرِيّ، والعوام، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة
وَتَشْديد الْوَاو: ابْن حَوْشَب.
والْحَدِيث
(16/10)
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن
عبد الله وَعَن بنْدَار عَن غنْدر عَن شُعْبَة.
قَوْله: (أنسجد؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام وبنون
الْمُتَكَلّم مَعَ الْغَيْر، وَفِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي والكشميهني: أأسجد، بهمزتين الأولى
للاستفهام وَالثَّانيَِة للمتكلم وَحده. قَوْله:
(فَقَرَأَ) ، أَي: ابْن عَبَّاس قَوْله تَعَالَى: {وَمن
ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى
وَهَارُون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ} (الْأَنْعَام:
48) . وَقَرَأَ بعده خمس آيَات أُخْرَى حَتَّى قَرَأَ
بعْدهَا: {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده قل
لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن هُوَ إلاَّ ذكرى
للْعَالمين} (الْأَنْعَام: 09) . قَوْله: (فَقَالَ
نَبِيكُم) أَي: فَقَالَ ابْن عَبَّاس، وَفِي بعض
الرِّوَايَات: فَقَالَ ابْن عَبَّاس. قَوْله: (مِمَّن
أَمر) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَن يُقتدى بهم)
أَي: بهؤلاء الرُّسُل الْمَذْكُورين فِي هَذِه الْآيَات
الْمَذْكُورَة وهم سَبْعَة عشر نَبيا. قَوْله: (وَمن
ذُريَّته) أَي: وَمن ذُرِّيَّة نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لِأَن قبله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق
وَيَعْقُوب كلاًّ هدينَا ونوحاً هدينَا من قبل وَمن
ذُريَّته دَاوُد} (الْأَنْعَام: 48) . وَإِنَّمَا قُلْنَا:
الضَّمِير يرجع إِلَى نوح لِأَنَّهُ أقرب الْمَذْكُورين
وَهُوَ اخْتِيَار ابْن جرير أَيْضا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِن
الضَّمِير يرجع إِلَى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لِأَنَّهُ الَّذِي سيق الْكَلَام من أَجله،
لَكِن يشكل على هَذَا ذكر لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَإِنَّهُ لَيْسَ من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بل هُوَ ابْن أَخِيه
هاران بن آزر أللهم إلاَّ أَن يُقَال: إِنَّه دخل فِي
الذُّرِّيَّة تَغْلِيبًا.
وَفِي ذكر عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي
ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم أَو نوح على القَوْل الآخر دلَالَة
على دُخُول ولد الْبَنَات فِي ذُرِّيَّة الرجل، لِأَن
عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا ينْسب
الى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، بِأُمِّهِ مَرْيَم،
عَلَيْهَا السَّلَام، فَإِنَّهُ لَا أَب بِهِ.
2243 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا وُهَيْبٌ
حدَّثنا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُما قَالَ لَ يْسَ ص مِنْ عَزَائِمِ
السُّجُودِ ورَأيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَسْجُدُ فِيهَا. (انْظُر الحَدِيث 9601) .
وَجه ذكر هَذَا الحَدِيث عقيب الحَدِيث الْمَذْكُور من
حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يتَضَمَّن ذكر السُّجُود فِي
ص، ووهيب مصغر وهب ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَأَيوب هُوَ
السّخْتِيَانِيّ، والْحَدِيث مضى فِي: أَبْوَاب سُجُود
التِّلَاوَة فِي: بَاب سَجْدَة ص، وَمضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ، وَالله أعلم. |