عمدة القاري شرح صحيح البخاري

01 - (بابُ قصَّة زمْزَم وَفِيه بَاب قصَّة إسْلامُ أبي ذَرّ، رَضِي الله تَعَالَى عنهُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قصَّة زَمْزَم، وَفِي ذكر إِسْلَام أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهَذَا الْبَاب وَقع هُنَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَغَيرهَا، وَوَقع عِنْد أبي ذَر قبل: بَاب قصَّة الْحَبَش.

2253 - حدَّثنا زَيْدٌ هُوَ ابنُ أخْزَمَ قَالَ أبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بنُ قُتَيْبَةَ حدَّثنِي مُثَنَّى بنُ سَعِيدٍ القَصِيرُ قَالَ حدَّثني أبُو جَمْرَةَ قَالَ قَالَ لَنا ابنُ عَبَّاسٍ ألاَ أخْبِرُكُمْ بإسْلاَمِ أبي ذَرٍّ قَالَ قُلْنَا بَلاى قَالَ قَالَ

(16/84)


أبُو ذَرٍّ كُنْتُ رَجُلاً مِنْ غِفارَ فبَلَغَنَا أنَّ رَجُلاً قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَزْعَمُ أنَّهُ نَبِي فَقُلْتُ لأِخِي انْطَلِقْ إلَى هَذَا الرَّجُلِ كَلِّمْهُ وائْتِنِي بِخَبَرِهِ فانْطَلَقَ فَلَقِيَهُ ثُمَّ رَجَعَ فقُلْتُ مَا عِنْدَكَ فَقَالَ وَالله لَقَدْ رأيْتُ رَجُلاً يَأمُرُ بالخَيْرِ ويَنْهَى عنِ الشَّرِّ فَقُلْتُ لَهُ لَمْ تَشْفِنِي مِنَ الخَبَرِ فأخَذْتُ جِرَابَاً وعَصاً ثُمَّ أقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فجَعَلْتُ لاَ أعْرِفُهُ وأكْرَهُ أنْ أسْألَ عَنْهُ وأشْرَبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وأكُونُ فِي المَسْجِدِ قَالَ فَمَرَّ بِي عَلِيٌّ فقَالَ كأنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ قالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ فانْطَلِقْ إلَى المَنْزِلِ قَالَ فانْطَلَقْتُ مَعَهُ لاَ يَسْألُنِي عنْ شَيْءٍ ولاَ أُخْبِرُهُ فلَمَّا أصْبَحْتُ غَدَوْتُ إِلَى المَسْجِدِ لأِسْألَ عَنْهُ ولَيْسَ أحَدٌ يُخْبِرُنِي عنهُ بِشَيْءٍ قَالَ فَمَرَّ بِي عَلِيُّ فقالَ أما نَالَ لِلرَّجُلِ يَعْرِفُ مَنْزِلَهُ بَعْدُ قَالَ قُلْتُ لاَ قَالَ انْطَلِقْ مَعِي قَالَ فَقَالَ مَا أمْرُكَ وَمَا أقْدَمَكَ هَذِهِ البَلْدَةَ قَالَ قُلْتُ لَهُ إنْ كَتَمْتَ علَيَّ أخْبَرْتُكَ قَالَ فإنِّي أفْعَلُ قَالَ قُلْتُ لَهُ بلَغَنَا أنَّهُ قَدْ خَرَجَ هاهُنَا رَجُلٌ يَزْعَمُ أنَّه نَبِيٌّ فأرْسَلْتُ أخِي لِيُكَلِّمَهُ فرَجَعَ ولَمْ يَشْفنِي مِنَ الخَبَرِ فأرَدْتُ أنْ ألْقَاهُ فَقَالَ لَهُ أمَا إنَّكَ قَدْ رَشِدْتَ هَذَا وجْهِي إلَيْهِ فاتَّبِعْنِي ادْخُلُ حَيْثُ أدْخُلُ فإنِّي إنْ رَأيْتُ أحَدَاً أخافُهُ علَيْكَ قُمْتُ إلَى الحَائِطِ كأنِّي أُصْلِحُ نَعْلِي وامْضِ أنْتَ فمَضَي ومَضَيْتُ مَعَهُ حتَّى دخَلَ ودَخَلْتُ معَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقُلْتُ لَهُ اعْرَضْ عَلَيَّ الإسْلاَمَ فعَرَضَهُ فأسْلَمْتُ مَكَانِي فَقَالَ لي يَا أبَا ذَرٍّ أكْتُمْ هاذَا الأمْرَ وارْجِعْ إِلَيّ بَلَدِكَ فإذَا بَلَغَكَ ظُهُورُنًّا فأقْبِلْ فقُلْتُ والَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ لأصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ أظْهُرِهِمْ فجَاءَ إلَى المَسْجِدِ وقُرَيْشٌ فِيهِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنِّي أشْهَدُ أنْ لَا إلاه إلاَّ الله وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ فقالُوا قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِىء فقامُوا فَضُرِبْتُ لأِمُوتَ فأدْرَكَنِي العَبَّاسُ فأكَبَّ علَيَّ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ وَيْلَكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلاً مِنْ غِفارَ ومَتْجَرُكُمْ ومَمَرُّكُمْ علَى غِفَارٍ فأقْلَعُوا عَنِّي فلَمَّا أنْ أصْبَحْتُ الْغَدَ رَجَعْتُ فَقُلْتُ مِثْلَ مَا قُلْتُ بالأمْسِ فَقَالُوا قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِىءِ فَصُنِعَ بِي مِثْلُ مَا صُنِعَ بالأمْسِ وأدْرَكَنِي العَبَّاسُ فأكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ مِثْلَ مقَالَتهِ بالأمْسِ قَالَ فَكانَ هَذَا أوَّلَ إسْلاَمِ أبِي ذَرُ رَحِمَهُ الله. (الحَدِيث 2253 طرفه فِي: 1683) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، أما قصَّة زَمْزَم فَلِأَن فِيهِ ذكر زَمْزَم، وَاكْتفى أَبُو ذَر بِهِ فِي الْمدَّة الَّتِي أَقَامَ فِيهَا بِمَكَّة، وَأما قصَّة إِسْلَامه فظاهرة من هَذَا الْبَاب، هَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ وَحده: ذكر قصَّة إِسْلَام أبي بكر فَقَط، وَوَقع هَذَا الْبَاب أَيْضا عِنْد أبي ذَر بعد قصَّة خُزَاعَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: زيد بن أخزم، بِسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الزَّاي: أَبُو طَالب الطَّائِي الْحَافِظ الْبَصْرِيّ، قتلته الزنج زمَان خُرُوجهمْ فِي الْبَصْرَة سنة سبع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ. الثَّانِي: سلم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام: ابْن قُتَيْبَة مصغر القتبة بِفَتْح الْقَاف وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَالْبَاء الْمُوَحدَة: أَبُو قُتَيْبَة الشعيري الْخُرَاسَانِي، سكن بصرة وَمَات بهَا فِي حُدُود الْمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: مثنى ضد الْمُفْرد ابْن سعيد الْقصير ضد الطَّوِيل القسام الضبعِي، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وبالعين الْمُهْملَة: الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو جَمْرَة، بِفَتْح الْجِيم: واسْمه نصر بن عمرَان الضبعِي الْبَصْرِيّ. الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عَمْرو بن الْعَبَّاس

(16/85)


عَن ابْن مهْدي. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عرْعرة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَلا أخْبركُم) كلمة: ألاَ، للتّنْبِيه على شَيْء يُقَال. قَوْله: (من غفار) ، قد ذكرنَا أَنه إِذا أُرِيد بِهِ الْحَيّ ينْصَرف، وَإِذا أُرِيد بِهِ الْقَبِيلَة لَا ينْصَرف. قَوْله: (فَبَلغنَا أَن رجلا قد خرج بِمَكَّة) وَفِي رِوَايَة مُسلم: لما بلغ أَبَا ذَر مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِمَكَّة. قَالَ لِأَخِيهِ ... الحَدِيث. قَوْله: (يزْعم أَنه نَبِي) ، حَال من: رجلا، لَا يُقَال: إِنَّه نكرَة. فَلَا يَقع الْحَال مِنْهُ، لأَنا نقُول: قد تخصص بِالصّفةِ، وَهُوَ قَوْله: قد خرج بِمَكَّة. قَوْله: (فَقلت لأخي: إنطلق إِلَى هَذَا الرجل) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: قَالَ لِأَخِيهِ: إركب إِلَى هَذَا الْوَادي فَاعْلَم لي علم هَذَا الرجل الَّذِي يزْعم أَنه يَأْتِيهِ الْخَبَر من السَّمَاء، واسمع قَوْله ثمَّ ائْتِنِي. وَاسم أَخِيه: أنيس. قَوْله: (كلمة) ، فِيهِ حدف تَقْدِيره: فَإِذا رَأَيْته واجتمعتَ بِهِ كَلمه وآتني بِخَبَرِهِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: واسمع قَوْله ثمَّ ائْتِنِي. قَوْله: (فَانْطَلق) ويروى: فَانْطَلق الْأَخ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فَانْطَلق الآخر، وَهُوَ أَخُوهُ أنيس. قَالَ عِيَاض: وَوَقع عِنْد بَعضهم فَانْطَلق الْأَخ الآخر، وَالصَّوَاب الِاقْتِصَار على أَحدهمَا فَإِنَّهُ لَا يعرف لأبي ذَر إلاَّ أَخ وَاحِد وَهُوَ أنيس. قَوْله: (فَلَقِيَهُ) ، أَي: فلقي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ رَجَعَ إِلَى أَخِيه، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَانْطَلق الآخر حَتَّى قدم مَكَّة، وَسمع من قَوْله ثمَّ رَجَعَ إِلَى أبي ذَر. قَوْله: (رَأَيْت رجلا يَأْمر بِالْخَيرِ وَينْهى عَن الشَّرّ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: رَأَيْته يَأْمر بمكارم الْأَخْلَاق وكلاماً مَا هُوَ بالشعر. قَوْله: (فَقلت لَهُ) أَي: لأخي: (لم تشفني من الْخَبَر) من الشِّفَاء أَي: لم تجئني بِجَوَاب يشفيني من مرض الْجَهْل. قَوْله: (فَأخذت جراباً) بِالْجِيم (وعصا) وَفِي رِوَايَة مُسلم: مَا شفيتني فِيمَا أردْت، فتزود وَحمل شنة لَهُ فِيهَا مَاء حَتَّى قدم مَكَّة. قَوْله: (ثمَّ أَقبلت إِلَى مَكَّة فَجعلت لَا أعرفهُ) ، يَعْنِي: لَا تَدْرِي بِهِ قُرَيْش فيؤذوه، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَأتى الْمَسْجِد فالتمس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يعرفهُ وَكره أَن يسْأَل عَنهُ حَتَّى أدْركهُ، يَعْنِي اللَّيْل فاضطجع. قَوْله: (فَمر بِي عَليّ) ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ: عَليّ بن أبي طَالب (فَقَالَ: كَأَن الرجل غَرِيب) وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَرَآهُ عَليّ فَعرف أَنه غَرِيب. قَوْله: (قَالَ: فَانْطَلق إِلَى الْمنزل) ، أَي: قَالَ عَليّ لَهُ: انْطلق معي إِلَى منزلنا، قَالَ أَبُو ذَر: (فَانْطَلَقت مَعَه لَا يسألني عَن شَيْء وَلَا أخبرهُ) وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَلَمَّا رَآهُ تبعه فَلم يسْأَل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه عَن شَيْء حَتَّى أصبح. قَوْله: (فَلَمَّا أَصبَحت غَدَوْت إِلَى الْمَسْجِد لأسأل عَنهُ) ، أَي: عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلَيْسَ أحد يُخْبِرنِي عَنهُ بِشَيْء) وَفِي رِوَايَة مُسلم بعد قَوْله: حَتَّى أصبح، ثمَّ احْتمل قربته وزاده إِلَى الْمَسْجِد فظل ذَلِك الْيَوْم وَلَا يرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أَمْسَى، فَعَاد إِلَى مضجعه، قَوْله: (قَالَ فَمر بِي عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: أما نَالَ للرجل يعرف منزله؟) يُقَال: نَالَ لَهُ إِذا آن لَهُ، ويروى: مَا أَنى، وَفِي رِوَايَة مُسلم: مَا آن أَن يعلم منزله، ويروى بِدُونِ همزَة الِاسْتِفْهَام فِي اللَّفْظَة، أَي: مَا جَاءَ الْوَقْت الَّذِي يعرف بِهِ منزل الرجل بِأَن يكون لَهُ مسكن معِين يسكنهُ؟ ويروى: يعرف، بِلَفْظ الْمَبْنِيّ للْفَاعِل، وَيحْتَمل أَن يُرِيد عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِهَذَا القَوْل دَعوته إِلَى بَيته للضيافة، وَيكون إِضَافَة الْمنزل إِلَيْهِ بملابسة إِضَافَته لَهُ فِيهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(ذَرِينِي، قلت بِاللَّه حلفة لتغني عني ذَا أَنا بك أجمعا)

أَو يُرِيد إرشاده إِلَى مَا قدم لَهُ وقصده، يَعْنِي: أما جَاءَ وَقت إِظْهَار الْمَقْصُود والاشتغال بِهِ، كالاجتماع برَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثلا وكالدخول فِي منزله وَنَحْوه؟ وَإِنَّمَا قَالَ: لَا، فِي قَوْله: قلت: لَا، على التَّقْدِير الأول، إِذْ لم يكن قَصده التوطن ثمَّة، وعَلى الثَّانِي إِذْ كَانَ عِنْده أَمر أهم من ذَلِك، وَهُوَ التفتيش عَن مَقْصُوده، وعَلى الثَّالِث: إِذْ خَافَ من الْإِظْهَار. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَاذَا فَاعل نَالَ؟ قلت: يعرف فِي تَقْدِير الْمصدر نَحْو: تسمع بالمعيدي خير من أَن تراهُ قلت: التَّقْدِير: أَن تسمع بالمعيدي، أَي: سماعك بالمعيدي خير من رُؤْيَته، وَهنا التَّقْدِير: مَا نَالَ للرجل أَن يعرف منزله؟ قَوْله: مَا أَمرك وَمَا أقدمك هَذِه الْبَلدة؟ وَفِي رِوَايَة مُسلم: ألاَ تُحَدِّثنِي مَا الَّذِي أقدمك هَذَا الْبَلَد؟ قَوْله: (إِن كتمت عَليّ أَخْبَرتك) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: إِن أَعْطَيْتنِي عهدا وميثاقاً لترشدني فعلت. قَوْله: (قَالَ: فَإِنِّي أفعل) ، أَي: قَالَ عَليّ: فَإِنِّي أفعل مَا ذكرته، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَفعل. قَوْله: (قد رشدت) ، من: رشد يرشد من بَاب علم يعلم رَشَدَاً بِفتْحَتَيْنِ، ورشد يرشد من بَاب نصر ينصر رُشْدَاً بِضَم الرَّاء وَسُكُون الشين، وأرشدته أَنا، والرشد خلاف الغي. قَوْله: (هَذَا وَجْهي إِلَيْهِ) ، أَي: هَذَا تَوَجُّهِي إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاتبعني، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فَقَالَ: إِنَّه حق، وَهُوَ

(16/86)


رَسُول الله فَإِذا أَصبَحت فاتبعني. قَوْله: (أُدخل حَيْثُ أَدخل) ، أَمر، وأَدخل مضارع. قَوْله: (قُمْت إِلَى الْحَائِط كَأَنِّي أصلح نَعْلي وامضِ أنْتَ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم، فَإِنِّي إِن رَأَيْت شَيْئا أَخَاف عَلَيْك قُمْت كَأَنِّي أريق المَاء. فَإِن مضيت فاتبعني حَتَّى تدخل مدخلي. قَوْله: (فَمضى) ، أَي: عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (فمضيت مَعَه حَتَّى دخل) أَي: عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (بَين ظُهُورهمْ) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: بَين ظهرانيهم. قَوْله: (وقريش) فِيهِ حَال أَي: فِي الْمَسْجِد. قَوْله: (إِلَى هَذَا الصابىء) من صَبأ يصبؤ إِذا انْتقل من شَيْء إِلَى شَيْء وَكَانُوا يسمون من أسلم صابئاً. قَوْله: (فَضربت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله: (لأموت) أَي: لِأَن أَمُوت، يَعْنِي: ضربوه ضرب الْمَوْت، وَفِي رِوَايَة مُسلم: فضربوه حَتَّى اضجعوه. قَوْله: (فأكب عَليّ) أَي: رمى نَفسه عَليّ، قَوْله: (فأقلعوا) أَي: كفوا عني.
وَفِي الحَدِيث: دلَالَة على تقدم إِسْلَام أبي ذَر، وَلَكِن الظَّاهِر أَنه بعد الْبَعْث بِمدَّة طَوِيلَة لما فِيهِ من الْحِكَايَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من مخاطبته لأبي ذَر وتضيفه إِيَّاه، وَالأَصَح أَن سنه حِين الْبَعْث كَانَ عشر سِنِين، وَقيل: أقل من ذَلِك، فَظهر من ذَلِك أَن إِسْلَام أبي ذَر بعد الْبَعْث بِمدَّة بِأَكْثَرَ من سنتَيْن بِحَيْثُ يتهيأ لعَلي مَا فعله، وروى عبد الله بن الصَّامِت إِسْلَام أبي ذَر عَن نفس أبي ذَر، أخرجه مُسلم مطولا جدا، وَفِيه مُغَايرَة كَثِيرَة لسياق ابْن عَبَّاس، وَلَكِن الْجمع بَينهمَا مُمكن بِاعْتِبَار ان ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، اقْتصر فِي حكايته عَن ذَلِك، وَالله أعلم.

7 - (بابُ ذِكْرِ قَحْطانَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر قحطان مُجَردا عَن الْكَلَام فِيهِ: هَل هُوَ من ذُرِّيَّة إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أم لَا؟ وَعَن ذكر نسبه، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى عَن قريب.

7153 - حدَّثنا عبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنِي سُلَيْمَانُ بنُ بِلاَلٍ عنْ ثَوْرِ بنِ زَيْدٍ عنْ أبي الغَيْثِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ. (الحَدِيث 7153 طرفه فِي: 7117) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي ذكر اسْم قحطان، وثور بِلَفْظ الْحَيَوَان الْمَعْرُوف ابْن زيد الديلِي الْمدنِي، مر فِي الْجُمُعَة، وَأَبُو الْغَيْث. وَهُوَ الْمَطَر اسْمه سَالم مولى عبد الله بن مُطِيع الْأسود الْقرشِي الْعَدوي الْمدنِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْفِتَن عَن عبد الْعَزِيز أَيْضا. وَأخرجه مُسلم فِي الْفِتَن عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (رجل) لم يدر اسْمه عِنْد الْأَكْثَرين، لَكِن الْقُرْطُبِيّ جزم أَنه: جَهْجَاه، الَّذِي وَقع ذكره فِي (صَحِيح مُسلم) من طَرِيق آخر عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (لَا تذْهب الْأَيَّام والليالي حَتَّى يملك رجل يُقَال لَهُ: الجهجاه، وَأخرجه عقيب حَدِيث القحطاني. قَوْله: (يَسُوق النَّاس بعصاه) كِنَايَة عَن تسخير النَّاس واسترعائهم كسوق الرَّاعِي الْغنم بعصاه، وَفِي (التَّوْضِيح) : حَدِيث القحطان يدل على أَنه خَليفَة وَلكنه يحمل على تغلبه، وروى نعيم بن حَمَّاد فِي (الْفِتَن) : عَن أَرْطَأَة بن الْمُنْذر، أحد التَّابِعين من أهل الشَّام: أَن القحطاني يخرج بعد الْمهْدي ويسير على سيرة الْمهْدي، وَأخرج أَيْضا من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن قيس بن جَابر الصَّدَفِي عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: يكون بعد الْمهْدي القحطاني، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا هُوَ دونه. قيل: هَذَا الثَّانِي، مَعَ كَونه مَرْفُوعا، ضَعِيف الْإِسْنَاد، وَالْأول مَعَ كَونه مَوْقُوفا أصلح إِسْنَادًا مِنْهُ فَإِن ثَبت ذَلِك فَهُوَ فِي زمن عِيسَى ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا السَّلَام، لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، إِذا نزل يجد الْمهْدي إِمَام الْمُسلمين. انْتهى. قلت: إِذا كَانَ القحطاني فِي زمن عِيسَى، كَيفَ يَسُوق النَّاس بعصاه وَكَيف يملك مَعَ وجود عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ على أَن فِي رِوَايَة أَرْطَأَة ابْن الْمُنْذر: أَن القحطاني يعِيش فِي الْملك عشْرين سنة.

8 - (بابُ مَا يُنْهَى عنْ دَعْوَى الجاهِلِيَّةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ذمّ مَا ينْهَى من دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة، وَكلمَة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة، وَيجوز أَن تكون مَصْدَرِيَّة، وَينْهى على صِيغَة الْمَجْهُول، وَدَعوى الْجَاهِلِيَّة هِيَ الاستغاثة عِنْد إِرَادَة الْحَرْب، كَانُوا يَقُولُونَ: يَا آل فلَان، يَا آل فلَان، فيجتمعون وينصرون الْقَاتِل وَلَو كَانَ ظَالِما، فجَاء الْإِسْلَام بِالنَّهْي عَن ذَلِك.

(16/87)


8153 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ أخبَرَنَا مَخْلَدُ بنُ يَزِيدَ أخبرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أخبرنِي عَمْرُو بنُ دِينارٍ أنَّهُ سَمِعَ جابِرَاً رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقُولُ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَدْ ثابَ معَهُ ناسٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ حتَّى كَثُرُوا وكانَ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلً لعَّابٌ فَكَسَعَ أنْصَارِيَّاً فغَضِبَ الأنْصَارِيُّ غضَبَاً شَدِيدَاً حتَّى تدَاعَوْا وقالَ الأنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ فَما بالُ دَعْوَى أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَالَ مَا شَأنُهُمْ فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأنْصَارِيِّ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعُوهَا فإنَّهَا خَبِيثَةٌ وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ أُبَيٍّ بنُ سَلُولَ أقَدْ تدَاعَوْا علَيْنَا {لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ} (المُنَافِقُونَ: 8) . فَقَالَ عُمَرُ ألاَ نَقْتُلُ يَا رسُولَ الله هَذَا الخَبِيثَ لِعَبْدِ الله فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أنَّهُ كانَ يَقْتُلُ أصْحَابَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد، كَذَا وَقع مُحَمَّد غير مَنْسُوب عِنْد جَمِيع الروَاة، وَقَالَ أَبُو نعيم: هُوَ مُحَمَّد بن سَلام نَص عَلَيْهِ فِي (الْمُسْتَخْرج) وَكَذَا قَالَه أَبُو عَليّ الجياني، وَجزم بِهِ الدمياطي أَيْضا. الثَّانِي: مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي الْجَزرِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج الْمَكِّيّ، وَقد تكَرر ذكره. الرَّابِع: عَمْرو بن دِينَار الْقرشِي الْأَثْرَم الْمَكِّيّ. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عنهُما. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (غزونا) ، هَذِه الْغَزْوَة هِيَ عزوة الْمُريْسِيع وَفِي مُسلم: قَالَ سُفْيَان: يروون أَن هَذِه الْغَزْوَة غَزْوَة بني المصطلق، وَهِي غَزْوَة الْمُريْسِيع، وَكَانَت فِي سنة سِتّ من الْهِجْرَة. قَوْله: (ثاب) ، بالثاء الْمُثَلَّثَة، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي اجْتمع مَعَه نَاس، وَقَالَ الدَّاودِيّ: مَعْنَاهُ خرج، وَالَّذِي عَلَيْهِ أهل اللُّغَة أَن معنى: ثاب رَجَعَ. قَوْله: (لعاب) ، قيل: مَعْنَاهُ مطال، وَقيل: كَانَ يلْعَب بالحراب كَمَا تصنع الْحَبَشَة، وَقيل: مزاح، واسْمه: جَهْجَاه بن قيس الْغِفَارِيّ، وَكَانَ أجِير عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فَكَسَعَ) ، بِفَتْح الْكَاف وَالسِّين الْمُهْملَة وَالْعين الْمُهْملَة: من الكسع، وَهُوَ أَن تضرب بِيَدِك أَو برجلك دبر إِنْسَان، وَيُقَال: هُوَ أَن تضرب عجز إِنْسَان بقدمك، وَقيل: هُوَ ضربك بِالسَّيْفِ على مؤخره. وَفِي (الموعب) : كسعته بِمَا سَاءَهُ: إِذا تكلم فرميته على إِثْر قَوْله بِكَلِمَة تسوؤه بهَا. قَوْله: (أَنْصَارِيًّا) ، أَي: رجلا أَنْصَارِيًّا وَهُوَ: سِنَان بن وبرة، حَلِيف بني سَالم الخزرجي. قَوْله: (حَتَّى تداعوا) ، أَي: حَتَّى اسْتَغَاثُوا بالقبائل يستنصرون بهم فِي ذَلِك، وَالدَّعْوَى الانتماء، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة ينتمون بالاستغاثة إِلَى الْآبَاء، وتداعوا، بِصِيغَة الْجمع وَعَن أبي ذَر: تداعوا: بالتثنية. قَالَ بَعضهم: وَالْمَشْهُور فِي هَذَا: تداعياً بِالْيَاءِ عوض الْوَاو. قلت: الَّذِي قَالَ بِالْوَاو أخرجه على الأَصْل. قَوْله: (يَا للْأَنْصَار) ، ويروى: يَا آل الْأَنْصَار. قَالَ النَّوَوِيّ: كَذَا فِي مُعظم نسخ البُخَارِيّ بلام مفصولة فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي بَعْضهَا يوصلها، وَفِي بَعْضهَا: يَا آل، بِهَمْزَة ثمَّ لَام مفصولة وَاللَّام فِي الْجَمِيع مَفْتُوحَة وَهِي لَام الاستغاثة، قَالَ: وَالصَّحِيح بلام مَوْصُولَة، وَمَعْنَاهُ: ادعو الْمُهَاجِرين واستغيث بهم. قَوْله: (مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة؟) يَعْنِي: لَا تداعوا بالقبائل بل تداعوا بدعوة وَاحِدَة بِالْإِسْلَامِ، ثمَّ قَالَ: مَا شَأْنهمْ؟ أَي: مَا جرى لَهُم وَمَا الْمُوجب فِي ذَلِك؟ قَوْله: (دَعُوهَا) ، أَي: دعوا هَذِه الْمقَالة، أَي: اتركوها أَو: دعوا هَذِه الدَّعْوَى، ثمَّ بيَّن حِكْمَة التّرْك بقوله: (فَإِنَّهَا خبيثة) أَي: فَإِن هَذِه الدعْوَة خبيثة أَي قبيحة مُنكرَة كريهة مؤذية لِأَنَّهَا تثير الْغَضَب على غير الْحق، والتقاتل على الْبَاطِل، وَتُؤَدِّي إِلَى النَّار. كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: (من دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَلَيْسَ منا وليتبوأ مَقْعَده من النَّار) ، وتسميتها: دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة، لِأَنَّهَا كَانَت من شعارهم وَكَانَت تَأْخُذ حَقّهَا بالعصبية فجَاء الْإِسْلَام بِإِبْطَال ذَلِك وَفصل الْقَضَاء بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة إِذا تعدى إِنْسَان على آخر حكم الْحَاكِم بَينهمَا وألزم كلاَّ مَا لزمَه. وَقَالَ السُّهيْلي: من دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة يتَوَجَّه للفقهاء فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: يجلد من اسْتَجَابَ لَهَا بِالسِّلَاحِ خمسين سَوْطًا، اقْتِدَاء بِأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عنهُ، فِي جلده النَّابِغَة الْجَعْدِي خمسين سَوْطًا حِين سمع: يَا لعامر. .

(16/88)


الثَّانِي: فِيهِ الْجلد دون الْعشْرَة أسواط لنَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجلد أحد فَوق عشرَة أسواط. الثَّالِث: يُوكل إِلَى إجتهاد الإِمَام على حسب مَا يرَاهُ من سد الذريعة وإغلاق بَاب الشَّرّ، إِمَّا بالوعيد، وَإِمَّا بالسجن، وَإِمَّا بِالْجلدِ قيل: فِي القَوْل الأول الَّذِي ذكره السُّهيْلي فِيهِ نظر، لِأَن أَبَا الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ وهيره ذكرُوا أَن النَّابِغَة لما سمع: يَا لعامر، أَخذ عَصَاهُ وَجَاء مغيثاً، والعصا لَا تعد سِلَاحا يقتل. قَوْله: وَقَالَ عبد الله بن أبي سلول ... إِلَى آخِره، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك عبد الله لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ عمر بن الْخطاب أَجِيرا لَهُ من غفار يُقَال لَهُ جِعَال كَانَ مَعَه فرس يَقُودهُ فحوض لعمر حوضاً فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِم على الْحَوْض إِذْ أقبل رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ وبرة بن سِنَان الْجُهَنِيّ، وَسَماهُ أَبُو عمر: سِنَان بن تَمِيم، وَكَانَ حليفاً لعبد الله بن أبي، فقاتله، فتداعيا بقبائلهما، فَقَالَ عبد الله بن أبي: أقد تداعوا علينا؟ {لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الأعزُ مِنها الأذلَ} (الْمُنَافِقين: 8) . وَأما قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْمُنَافِقين: {يَقُولُونَ لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} (الْمُنَافِقين: 8) . فقد قَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) : يَقُولُونَ، أَي: المُنَافِقُونَ عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه: وَالله لَئِن رَجعْنَا من غزَاة بني لحيان ثمَّ بني المصطلق، وَهُوَ حَيّ من هُذَيْل، إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز عَنى بِهِ نَفسه مِنْهَا: من الْمَدِينَة، الْأَذَل: يَعْنِي مُحَمَّدًا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَقَد كذب عَدو الله. قَوْله: (فَقَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَلاَ نقْتل؟) بالنُّون، ويروى بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق. قَوْله: (هَذَا الْخَبيث) أَرَادَ بِهِ عبد الله ابْن أبي، وَقد بَينه بقوله لعبد الله، وَاللَّام فِيهِ يتَعَلَّق بقوله: قَالَ عمر، أَي: قَالَ لأجل عبد الله، وَقَالَ الْكرْمَانِي أَو اللاَّم للْبَيَان، نَحْو: هيت لَك، وَفِي بَعْضهَا يَعْنِي: عبد الله، وَقَالَ بَعضهم: اللَّام بِمَعْنى: عَن قلت: قَالَ هَذَا بَعضهم فِي قَوْله: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا لَو كَانَ خيرا مَا سبقُونَا إِلَيْهِ} (الْأَحْقَاف: 11) . ورده ابْن مَالك وَغَيره، وَقَالُوا: اللَّام، هَهُنَا للتَّعْلِيل، وَقيل غير ذَلِك. قَوْله: (فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا) أَي: لَا نقْتل. قَوْله: (يتحدث النَّاس) إِلَى آخِره، كَلَام مُسْتَقل وَلَيْسَ لَهُ تعلق: بِكَلِمَة: لَا، فَافْهَم. قَوْله: (أَنه) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَانَ يقتل أَصْحَابه) ويتنفر النَّاس عَن الدُّخُول فِي الْإِسْلَام، وَيَقُول بَعضهم لبَعض: مَا يؤمنكم إِذا دَخَلْتُم فِي دينه أَن يَدعِي عَلَيْكُم كفر الْبَاطِن فيستبيح بذلك دماءكم وَأَمْوَالكُمْ؟ فَلَا تسلموا أَنفسكُم إِلَيْهِ للهلاك، فَيكون ذَلِك سَبِيلا لنفور النَّاس عَن الدّين.

9153 - حدَّثنا ثابِتُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ عَبْدِ الله بنُ مُرَّةَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وثابت بن مُحَمَّد أَبُو إِسْمَاعِيل العابد الشَّيْبَانِيّ الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب لَيْسَ منا من ضرب الخدود، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
عنْ سُفْيَانَ عنْ زُبَيْدٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وشَقَّ الجُيُوبَ ودَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ
هَذَا مَعْطُوف على قَوْله: حَدثنَا سُفْيَان عَن الْأَعْمَش، فِي الحَدِيث السَّابِق، فَيكون مَوْصُولا وَلَيْسَ بمعلق وزبيد، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: ابْن الْحَارِث بن عبد الْكَرِيم اليامي بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف: الْكُوفِي، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، مَسْرُوق هُوَ ابْن الأجدع، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب لَيْسَ منا من شقّ الْجُيُوب، حَدثنَا أَبُو نعيم حَدثنَا سُفْيَان قَالَ: زبيد اليامي عَن إِبْرَاهِيم عَن مَسْرُوق عَن عبد الله ... إِلَى آخِره.

9153 - حدَّثنا ثابِتُ بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ عَبْدِ الله بنُ مُرَّةَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وثابت بن مُحَمَّد أَبُو إِسْمَاعِيل العابد الشَّيْبَانِيّ الْكُوفِي، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب لَيْسَ منا من ضرب الخدود، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان ... إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
عنْ سُفْيَانَ عنْ زُبَيْدٍ عنْ إبْرَاهِيمَ عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَبْدِ الله عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وشَقَّ الجُيُوبَ ودَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ
هَذَا مَعْطُوف على قَوْله: حَدثنَا سُفْيَان عَن الْأَعْمَش، فِي الحَدِيث السَّابِق، فَيكون مَوْصُولا وَلَيْسَ بمعلق وزبيد، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة: ابْن الْحَارِث بن عبد الْكَرِيم اليامي بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف: الْكُوفِي، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، مَسْرُوق هُوَ ابْن الأجدع، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب لَيْسَ منا من شقّ الْجُيُوب، حَدثنَا أَبُو نعيم حَدثنَا سُفْيَان قَالَ: زبيد اليامي عَن إِبْرَاهِيم عَن مَسْرُوق عَن عبد الله ... إِلَى آخِره.

9 - (بابُ قِصَّةِ خزَاعَة)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قصَّة خُزَاعَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالزاي المخففة وَفتح الْعين الْمُهْملَة. قَالَ الرشاطي: خُزَاعَة هُوَ عَمْرو بن ربيعَة، وَرَبِيعَة هَذَا هُوَ لحي بن حَارِثَة بن عَمْرو مزيقيا بن عَامر مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن امرىء الْقَيْس بن ثَعْلَبَة بن مَازِن ابْن الأزد، هَذَا مَذْهَب من يرى أَن خُزَاعَة من الْيمن، وَمن يرى أَن خُزَاعَة من مُضر يَقُول: هُوَ عَمْرو بن ربيعَة بن قمعة، ويحتج بِحَدِيث

(16/89)


رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأكثم ابْن أبي الجون الْخُزَاعِيّ: (رَأَيْت عَمْرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه فِي النَّار) وَجمع بَعضهم بَين الْقَوْلَيْنِ، أَعنِي نِسْبَة خُزَاعَة إِلَى الْيمن وَإِلَى مُضر، فَزعم أَن حَارِثَة بن عَمْرو لما مَاتَ قمعة بن خندف كَانَت امْرَأَته حَامِلا بِلحي فولدته وَهِي عِنْد حَارِثَة فَتَبَنَّاهُ فنسب إِلَيْهِ، فعلى هَذَا هُوَ من مُضر بِالْولادَةِ، وَمن الْيمن بالتبني، وَقَالَ صَاحب (الموعب) : خُزَاعَة اسْمه عَمْرو بن لحي، ولحي اسْمه: ربيعَة، سمي خُزَاعَة لِأَنَّهُ انخزع فَلم يتبع عَمْرو بن عَامر حِين ظعن عَن الْيمن بولده، وَسمي عَمْرو: مزيقيا، لِأَنَّهُ مزق الأزد فِي الْبِلَاد، وَقيل: لِأَنَّهُ كَانَ يمزق كل يَوْم حلَّة. وَفِي (التيجان) لِابْنِ هِشَام: انخزعت خُزَاعَة فِي أَيَّام ثَعْلَبَة العنقاء بن عَمْرو بعد وَفَاة عمر، وَفِي (التَّلْوِيح) : قيل لَهُم ذَلِك لأَنهم تخزعوا من بني مَازِن بن الأزد فِي إقبالهم مَعَهم أَيَّام سيل العرم لما صَارُوا إِلَى الْحجاز، فافترقوا، فَصَارَ قوم إِلَى عمان وَآخَرُونَ إِلَى الشَّام، قَالَ حسان بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
(فَلَمَّا قَطعنَا بطن مر تخزعت ... خُزَاعَة منا فِي جموع كراكر)

وانخزعت أَيْضا بَنو أفصى بن حَارِثَة بن عَمْرو، وأفصى هُوَ عَم عَمْرو بن لحي، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سموا خُزَاعَة لِأَن بني مَازِن ابْن الأزد لما تَفَرَّقت الأزد بِالْيمن نزل بَنو مَازِن على مَاء عِنْد زبيد يُقَال لَهُ غَسَّان، فَمن شرب مِنْهُ فَهُوَ غساني. وَأَقْبل بَنو عَمْرو بن لحي فانخزعوا من قَومهمْ فنزلوا مَكَّة، ثمَّ أقبل بَنو أسلم وَملك وملكان بَنو أفصى بن حَارِثَة فانخزعوا أَيْضا، فسموا خُزَاعَة، وتفرق سَائِر الأزد، وَأول من سماهم هَذَا الِاسْم: جدع بن سِنَان الَّذِي يُقَال فِيهِ: خُذ من جدع مَا أَعْطَاك، وَذَلِكَ أَنه لما رَآهُمْ قد تفَرقُوا قَالَ: أَيهَا النَّاس إِن كُنْتُم كلما أَعجبتكُم بَلْدَة أَقَامَت مِنْكُم طَائِفَة كَيْفَمَا انخزعت خزاعتكم هَذِه أوشكتم أَن يأكلكم أقل حَيّ وأذل قبيل.

0253 - حدَّثني إسحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا يَحْيَى بنُ آدَم أخبرَنا إسْرائِيلُ عنْ أبِي حَصِين عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ عَمْرُو بنُ لُحَيِّ بنِ قَمَعَةَ بنِ خِنْدَفَ أبُو خُزَاعَةَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم هُوَ مَشْهُور بِابْن رَاهَوَيْه، وَيحيى بن آدم بن سُلَيْمَان أَبُو زَكَرِيَّا الْقرشِي الْكُوفِي صَاحب الثَّوْريّ، وَإِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي، وَأَبُو حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ، واسْمه: عُثْمَان بن عَاصِم الْأَسدي، وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات.
والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (عَمْرو بن لحي) ، مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (أَبُو خُزَاعَة) . ولحي، بِضَم اللَّام وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء. قَوْله: (ابْن قمعة) ، بِفَتْح الْقَاف وَالْمِيم وتخفيفها وبإهمال الْعين، وَقيل: بِكَسْر الْقَاف وَتَشْديد الْمِيم بِفَتْحِهَا وَكسرهَا، وَقيل: بِفَتْحِهَا مَعَ سُكُون الْمِيم. قَوْله: (ابْن خندف) ، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَفتحهَا وبالفاء، وَهِي أم الْقَبِيلَة فَلَا تَنْصَرِف، وقمعة، مَنْسُوب إِلَى الْأُم، وإلاَّ فأبوه اسْمه: الياس بن مُضر. قَالَ قَائِلهمْ:
(أمهتي خندف وإلياس أبي)

وَاسم خندف: ليلى بنت حلوان بن عمرَان بن ألحاف من قضاعة، لقبت بخندف لمشيتها بالخندفة وَهِي الهرولة، واشتهر بنوها بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا دون أَبِيهِم. قَوْله: (أَبُو خُزَاعَة) أَي: هُوَ حَيّ من الأزد.

1253 - حدَّثنا أَبُو اليمانِ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ سَعيدَ بنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ البَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّواغِيتِ ولاَ يَحْلُبُهَا أحَدٌ مِنَ النَّاسِ: والسَّائِبَةُ الَّتِي كانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآِلِهَتِهِمْ فَلاَ يُحْمَلُ علَيْهَا شَيْءٌ قَالَ وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأيْتُ عمْرَو بنَ عامِرِ بنِ لُحَيٍّ الخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وكانَ أوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ. (الحَدِيث 1253 طرفه فِي: 3264) .

أول هَذَا الحَدِيث مَوْقُوف على سعيد بن الْمسيب رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع الْحِمصِي عَن شُعَيْب بن

(16/90)


أبي حَمْزَة الْحِمصِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب، وَآخره عَنهُ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا نذْكر مفصلا.
أما الْبحيرَة فَهِيَ الَّتِي يمْنَع درها أَي: لَبنهَا للطواغيت، أَي: لأَجلهَا، وَهِي جمع: طاغوت، وَهُوَ الشَّيْطَان وكل رَأس فِي الضلال، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة إِذا أنتجت النَّاقة خَمْسَة أبطن آخرهَا ذكر بحروا أذنها، أَي: شَقوا وحرموا ركُوبهَا ودرها فَلَا تطرد عَن مَاء وَلَا عَن مرعًى لتعظيم الطواغيت، وَتسَمى تِلْكَ النَّاقة الْبحيرَة. وَأما السائبة فَهِيَ: أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يَقُول: إِذا قدمت من سَفَرِي أَو بَرِئت من مرضِي فناقتي سائبة، وَجعلهَا كالبحيرة فِي تَحْرِيم الِانْتِفَاع بهَا، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَقد خصصه البُخَارِيّ بقوله: والسائبة الَّتِي كَانُوا يسيبونها لآلهتهم، أَي: لأصنامهم الَّتِي كَانُوا يعبدونها، وَبعد ذَلِك لَا يحمل عَلَيْهَا شَيْء. وَفِي (التَّلْوِيح) : والسائبة هِيَ الْأُنْثَى من أَوْلَاد الْأَنْعَام كلهَا، كَانَ الرجل يسيِّب لآلهته مَا شَاءَ من إبِله وبقره وغنمه وَلَا يسيب إلاَّ أُنْثَى، فظهورها وَأَوْلَادهَا وأصوافها وأوبارها للآلهة، وَأَلْبَانهَا ومنافعها للرِّجَال دون النِّسَاء، قَالَه مقَاتل. وَقيل: هِيَ النَّاقة إِذا تابعت بَين عشر إِنَاثًا لم يركب ظهرهَا وَلم يجز وبرها وَلم يشرب لَبنهَا إلاَّ ضيف، فَمَا نتجت بعد ذَلِك من أُنْثَى شقّ أذنها ثمَّ خلي سَبِيلهَا مَعَ أمهَا فِي الْإِبِل فَلم يركب ظهرهَا وَلم يجز وبرها وَلم يشرب لَبنهَا إلاَّ ضيف كَمَا فعل بأمها، فَهِيَ الْبحيرَة بنت السائبة. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: هِيَ أَنهم كَانُوا إِذا نتجت النَّاقة خَمْسَة أبطن، فَإِن كَانَ الْخَامِس ذكرا نحروه وَأكله الرِّجَال

(16/91)


وَالنِّسَاء جَمِيعًا، وَإِن كَانَت أُنْثَى شَقوا أذنها وَتلك الْبحيرَة لَا يجز لَهَا وبر وَلَا يذكر عَلَيْهَا اسْم الله، عز وَجل، إِن ركبت وَلَا إِن حمل عَلَيْهَا، وَحرمت على النَّاس فَلَا يذقن من لَبنهَا شَيْئا، وَلَا ينتفعن بهَا، وَكَانَ لَبنهَا ومنافعها خَاصَّة للرِّجَال دون النِّسَاء حَتَّى تَمُوت، فَإِذا مَاتَت اشْترك الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي أكلهَا.
قَوْله: (قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة) أَي: قَالَ سعيد بن الْمسيب: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره. وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول. قَوْله: (يجر قصبه) ، بِضَم الْقَاف وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة، وَهِي: الأمعاء. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْقصب بِالضَّمِّ المعاء وَجمعه أقصاب، وَقيل: الْقصب اسْم للأمعاء كلهَا، وَقيل: هُوَ مَا كَانَ أَسْفَل الْبَطن من الأمعاء. قَوْله: (وَكَانَ) ، أَي: عَمْرو بن عَامر (أول من سيب السوائب) ، وَهُوَ جمع، وروى مُحَمَّد بن إِسْحَاق بِسَنَد صَحِيح: عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: أَن أَبَا صَالح السمان حَدثهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة: سَمِعت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لأكتم: رَأَيْت عَمْرو بن لحي يجر قصبه فِي النَّار، إِنَّه أول من غير دين إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فنصب الْأَوْثَان وسيب السائبة وبحر الْبحيرَة وَوصل الوصيلة وَحمى الحامي قَالَ: وحَدثني بعض أهل الْعلم: أَن عَمْرو بن لحي خرج من مَكَّة إِلَى الشَّام، فَلَمَّا قدم مآب من أَرض البلقاء وَبهَا يَوْمئِذٍ العماليق، فَرَآهُمْ يعْبدُونَ الْأَصْنَام فَقَالَ لَهُم: مَا هَذِه الْأَصْنَام الَّتِي أَرَاكُم تَعْبدُونَ؟ قَالُوا لَهُ: هَذِه نعبدها ونستمطر بهَا فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فَقَالَ لَهُم: أَفلا تعطوني مِنْهَا صنماً فأسير بِهِ إِلَى أَرض الْعَرَب فيعبدونه؟ فَأَعْطوهُ صنماً يُقَال لَهُ: هُبل، فَقدم بِهِ مَكَّة فنصبه وَأمر النَّاس بِعِبَادَتِهِ وتعظيمه. وَيُقَال: كَانَ عَمْرو بن لحي، حِين غلبت خُزَاعَة على الْبَيْت ونفت جرهم عَن مَكَّة، جعلته الْعَرَب رَبًّا لَا يبتدع لَهُم بِدعَة إِلَّا اتَّخَذُوهَا شرعة، لِأَنَّهُ كَانَ يطعم النَّاس ويكسو فِي المواسم، فَرُبمَا نحر فِي الْمَوْسِم عشرَة آلَاف بَدَنَة وكسا عشرَة آلَاف حلَّة حَتَّى إِنَّه اللاَّت الَّذِي يلت السويق للحجيج على صَخْرَة مَعْرُوفَة تسمى صَخْرَة اللاَّت، وَيُقَال: إِن اللاَّت كَانَ من ثَقِيف، فَلَمَّا مَاتَ قَالَ لَهُم عَمْرو: إِنَّه لم يمت وَلكنه دخل فِي الصَّخْرَة، ثمَّ أَمرهم بعبادتها وَأَن يبنوا عَلَيْهَا بَيْتا يُسمى اللاَّت، ودام أَمر عَمْرو وَأمر وَلَده عَليّ هَذَا بِمَكَّة ثَلَاثمِائَة سنة، وَذكر أَبُو الْوَلِيد الْأَزْرَقِيّ فِي (أَخْبَار مَكَّة) : أَن عمرا فَقَأَ عين عشْرين بَعِيرًا وَكَانُوا من بلغت إبِله ألفا فَقَأَ عين بعير، وَإِذا بلغت أَلفَيْنِ فَقَأَ الْعين الْأُخْرَى، قَالَ الراجز:
(وَكَانَ شكر الْقَوْم عِنْد المننكي الصحيحات وفقأ الْأَعْين)

وَهُوَ الَّذِي زَاد فِي التَّلْبِيَة: إلاَّ شَرِيكا هُوَ لَك تملكه، وَملك، وَذَلِكَ أَن الشَّيْطَان تمثل فِي صُورَة شيخ يُلَبِّي مَعَه، فَقَالَ عَمْرو: لبيْك لَا شريك لَك، قَالَ الشَّيْخ: إلاَّ شَرِيكا هُوَ لَك، فَأنْكر ذَلِك عَمْرو بن لحي، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ الشَّيْخ: تملكه وَمَا ملك، فَإِنَّهُ لَا بَأْس بِهِ، فَقَالَهَا عَمْرو فدانت بهَا الْعَرَب.
وَأما تَفْسِير الوصيلة فِي رِوَايَة ابْن إِسْحَاق: فَهِيَ الشَّاة إِذا ولدت سَبْعَة أبطن، فَإِن كَانَ السَّابِع ذكرا ذبحوه وأهدوه للآلهة، وَإِن كَانَت انثى استحيوها، وَإِن كَانَت ذكرا وَأُنْثَى اسْتَحْيوا الذّكر من أجل الْأُنْثَى. وَقَالُوا: وصلت أخاها، فَلم يذبحوهما. وَقَالَ مقَاتل: وَكَانَت الْمَنْفَعَة للرِّجَال دون النِّسَاء، فَإِن وضعت مَيتا اشْترك فِي أكله الرِّجَال وَالنِّسَاء، قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِن يكن ميتَة فهم فِيهِ شُرَكَاء} (الْأَنْعَام: 931) . وَأما الحام: فَهُوَ الْفَحْل إِذا ركب ولد وَلَده فَبلغ ذَلِك عشرَة أَو أقل من ذَلِك قيل: حمي ظَهره، فَلَا يركب وَلَا يحمل عَلَيْهِ وَلَا يمْنَع من مَاء وَلَا مرعى وَلَا ينْحَر أبدا إِلَى أَن يَمُوت فتأكله الرِّجَال وَالنِّسَاء.

21 - (بابُ قِصَّةِ زَمْزَمَ وجَهْلِ العَرَبِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي قصَّة زَمْزَم وَجَهل الْعَرَب، هَكَذَا وَقع لأبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره مَا وَقع إلاَّ: بَاب جهل الْعَرَب، فَقَط، وَهُوَ الصَّوَاب لِأَنَّهُ لم يذكر فِيهِ أصلا زَمْزَم، وَمَا يتَعَلَّق بِهِ، وَقد وَقع فِي بعض النّسخ: بَاب قصَّة إِسْلَام أبي ذَر قبل هَذَا الْبَاب.

4253 - حدَّثنا أبُو النُّعْمَانِ حدَّثنا أَبُو عَوَانَةَ عنْ أبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا قَالَ إذَا سَرَّكَ أنْ تَعْلَمَ جَهْلَ العَرَبِ فاقْرَأ مَا فَوْقَ الثلاَثِينَ ومِائَةٍ فِي سُورَةِ الأنْعَامِ {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قتَلُوا أوْلادَهُمْ سَفَهَاً بِغَيْرِ عَلْمٍ} (الْأَنْعَام: 041) . إِلَى قَوْلِهِ {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كانُوا مُهْتَدِينَ} (الْأَنْعَام: 041) .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جهل الْعَرَب) وَأما الْجُزْء الأول مِنْهَا فَلَا ذكر لَهُ هُنَا أصلا كَمَا ذكرنَا آنِفا. وَأَبُو النُّعْمَان مُحَمَّد ابْن الْفضل السدُوسِي وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: الوضاح الْيَشْكُرِي، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: واسْمه جَعْفَر بن أبي وحشية واسْمه إِيَاس الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ، وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي (تَفْسِيره) : حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم حَدثنَا مُحَمَّد بن أَيُّوب حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي بشر عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس نَحوه.
قَوْله: (إِذا سرك) ، من سره الْأَمر سُرُورًا، إِذا فَرح بِهِ. قَوْله: {قد خسر الَّذين قتلوا أَوْلَادهم سفهاً بِغَيْر علم وحرموا مَا رزقهم الله افتراءً على الله قد ضلوا وَمَا كَانُوا مهتدين} ) وَقد أخبر الله تَعَالَى: {أَن الَّذين قتلوا أَوْلَادهم سفهاً بِغَيْر علم} (الْأَنْعَام: 041) . أَي: من غير علم أَتَاهُم فِي ذَلِك {وحرموا مَا رزقهم الله} (الْأَنْعَام: 041) . من الْأَنْعَام والحرث {إفتراء على الله} (الْأَنْعَام: 041) . حَيْثُ قَالُوا: إِن الله أَمركُم بِهَذَا قد ضلوا فِي ذَلِك وخسروا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَأما فِي الدُّنْيَا: فخسروا أَوْلَادهم بِقَتْلِهِم وضيقوا عَلَيْهِم فِي أَمْوَالهم وحرموا أَشْيَاء ابتدعوها من تِلْقَاء أنفسهم. وَأما فِي الْآخِرَة: فيصيرون إِلَى شَرّ الْمنَازل بكذبهم على الله وافترائهم، وَعَن ابْن عَبَّاس: نزلت هَذِه الْآيَة فِي ربيعَة وَمُضر وَالَّذين كَانُوا يدفنون بناتهم أَحيَاء فِي الْجَاهِلِيَّة من الْعَرَب، قَالَ قَتَادَة: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يقتلُون بناتهم مَخَافَة السَّبي عَلَيْهِم والفاقة، إلاَّ مَا كَانَ من بني كنَانَة فَإِنَّهُم كَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِك.

31 - (بابُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى آبَائِهِ فِي الإسْلاَمِ أوْ الجاهِلِيَّةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز انتساب من انتسب إِلَى آبَائِهِ الَّذين مضوا فِي الْإِسْلَام أَو فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكره بَعضهم ذَلِك مُطلقًا، وَمحل الْكَرَاهَة إِنَّمَا كَانَ إِذا ذكره على طَرِيق الْمُفَاخَرَة والمشاجرة، وَقد روى الإِمَام أَحْمد وَأَبُو يعلى فِي (مسنديهما) بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث أبي رَيْحَانَة رَفعه: من انتسب إِلَى تِسْعَة آبَاء كفار، يزيدهم عزا وكرامة فَهُوَ عاشرهم فِي النَّار.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ وأبُو هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ الكَرِيمَ ابنَ الكَرِيمِ ابنِ الكَرِيمُ ابنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ إسْحَاقَ بنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الله
مطابقته للجزء الأول من التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (فِي الْإِسْلَام) ، ظَاهِرَة لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما نسب يُوسُف إِلَى آبَائِهِ كَانَ ذَلِك دَلِيلا على جَوَازه لغيره فِي مثل ذَلِك، وَأما تَعْلِيق عبد الله بن عَمْرو أبي هُرَيْرَة فقد مر كِلَاهُمَا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.

(16/92)


وَقَالَ البَرَاءُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ
مطابقته للجزء الثَّانِي للتَّرْجَمَة، من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انتسب إِلَى جده عبد الْمطلب، وَتَعْلِيق الْبَراء قِطْعَة من حَدِيث مضى مطولا مَوْصُولا فِي كتاب الْجِهَاد فِي: بَاب من صف أَصْحَابه عِنْد الْهَزِيمَة.

5253 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ حدَّثنا أبي حدَّثنا الأعْمَشُ حدَّثنا عَمْرُو بنُ مُرَّةَ عنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ لَ مَّا نَزَلَتْ {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} (الشُّعَرَاء: 412) . جعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُنادي يَا بَني فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ بِبُطُونِ قُرَيْشٍ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشيرته بِنِسْبَة كل قَبيلَة إِلَى آبائها.
وَحَفْص بن غياث بن طلق أَبُو عمر النَّخعِيّ الْكُوفِي قاضيها، يروي عَن الْأَعْمَش وَهُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن عبد الله وَمُحَمّد بن سَلام فرقهما وَعَن أبي يُوسُف بن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة وَعَن أبي بكر وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن أبي مُعَاوِيَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن هناد وَأحمد بن منيع، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن هناد وَعَن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب وَفِيه وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن أبي كريب.
قَوْله: (يَا بني فهر) ، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الْهَاء: ابْن مَالك ابْن النَّضر بن كنَانَة، بطن من قُرَيْش، وَكَذَا: بَنو عدي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: ابْن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر رَهْط عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (ببطون قُرَيْش) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: لبطون قُرَيْش، بِاللَّامِ، وَقد أَمر الله تَعَالَى نبيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بإنذار الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب من قومه، وَبَدَأَ فِي ذَلِك بِمن هُوَ أولى بالبدء، ثمَّ بِمن يَلِيهِ، وَأَن يقدم إِنْذَارهم على إنذار غَيرهم، وَهَذَا الحَدِيث من مرسلات ابْن عَبَّاس لِأَن الْآيَة نزلت فِي مَكَّة وَابْن عَبَّاس ولد بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين، وَالله أعلم.

6253 - وقَالَ لَنَا قَبيصَةُ أخبرنَا سُفْيانُ عنْ حَبِيبِ بنِ أبِي ثابِتٍ عنْ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَ مَّا نَزَلَتْ {وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} (الشُّعَرَاء: 412) . جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُوهُمْ قَبَائِلَ قَبائِلَ. .

هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَإِنَّمَا قَالَ: (قَالَ لنا قبيصَة) لِأَنَّهُ سَمعه مِنْهُ فِي المذاكرة. وَقبيصَة، بِفَتْح الْقَاف: هُوَ ابْن عقبَة وَقد تكَرر ذكره، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وحبِيب بن أبي ثَابت اسْمه قيس بن دِينَار أَبُو يحيى الْكُوفِي. والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مَحْمُود بن غيلَان. قَوْله: (يَدعُوهُم) أَي: يَدْعُو عشيرته. (قبائل قبائل) بِأَن قَالَ: يَا بني فلَان، يَا بني فلَان، بِمَا يعرف بِهِ كل قَبيلَة، كَمَا يَأْتِي تَوْضِيحه فِي الحَدِيث الْآتِي.

7253 - حدَّثنا أبُو اليَمانِ أخبرَنَا شُعَيْبٌ أخبَرَنا أبُو الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ الله يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ عَمَّة رسولِ الله يَا فاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْترِيا أنْفُسَكُمَا مِنَ الله لاَ أمْلِكُ لَكُمَا مِنَ الله شَيْئَاً سَلاَنِي مِنْ مالِي مَا شِئْتُمَا. .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَأَبُو الزِّنَاد بالزاي وَالنُّون عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (اشْتَروا) إِنَّمَا قَالَ: اشْتَروا أَنفسكُم، مَعَ أَنهم البائعون، قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم} (التَّوْبَة: 111) . لأَنهم مشترون أنفسهم بِاعْتِبَار التخليص من الْعَذَاب، بائعون بِاعْتِبَار تَحْصِيل الثَّوَاب. قَوْله: (عمَّة رَسُول الله) عطف بَيَان من قَوْله: أم الزبير، وَاسْمهَا: صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب.
وَفِيه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناداهم طبقَة بعد طبقَة الى أَن انْتهى الى ابْنَته فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا
وَفِيه: أَن قُريْشًا كلهم من الْأَقْرَبين. وَفِيه: بداءته، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقَوْمه، فَإِذا قَامَت

(16/93)


حجَّة عَلَيْهِم قَامَت على من سواهُم مِمَّن أَمر بتبليغه. وَفِيه: فضل صَفِيَّة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَفِيه: تكنية الْمَرْأَة حَيْثُ قَالَ: يَا أم الزبير بن الْعَوام.

51 - (بابُ قِصَّةِ الحَبَشِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قصَّة الْحَبَش، وَلم يذكر فِيهِ إلاَّ شَيْئا نزراً من قصَّة الْحَبَشَة، وَذكر ابْن إِسْحَاق قصتهم مُطَوَّلَة، فَمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهَا فَليرْجع إِلَى كِتَابه، والحبش والحبشة جنس من السودَان، وَالْجمع: الحبشان مثل حمل وحملان، قَالَه الْجَوْهَرِي وهم من أَوْلَاد حام بن نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانُوا سبع أخوة: السَّنَد والهند والزنج والقبط والحبش والنوبة وكنعان، والحبش على أَنْوَاع: الدهلك وناصع والزيلع والكوكر والفافور واللابة والقوماطين ودرقلة والقرنة، والحبش بن كوش بن حام وهم مجاورون لأهل الْيمن يقطع بَينهم الْبَحْر، وَقد غلبوا على الْيمن قبل الْإِسْلَام، وقصتهم مَشْهُورَة.
وقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا بَنِي أرْفِدَةَ
وَقَول، مجرور لِأَنَّهُ عطف على: قَوْله قصَّة الْحَبَش، وأرفدة، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْفَاء: اسْم جدٍ لَهُم، وَقيل: أرفدة، اسْم أمه، وَقد مضى هَذَا اللَّفْظ فِي حَدِيث طَوِيل فِي كتاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الحراب والدرق يَوْم الْعِيد، وَفِيه: وَكَانَ يَوْم عيد يلْعَب فِيهِ السودَان، فإمَّا سَأَلت يَعْنِي: عَائِشَة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِمَّا قَالَ: تشتهين تنظرين؟ فَقلت: نعم، فأقامني وَرَاءه خدي على خَدّه، وَهُوَ يَقُول: دونكم يَا بني أرفدة، حَتَّى إِذا مللت، قَالَ: حَسبك! قلت: نعم، قَالَ: فاذهبي.

9253 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثَنا اللَّيْثُ عنْ عُقَيْلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ أنَّ أبَا بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ دخَلَ علَيْهَا وعِنْدَهَا جارِيَتانِ فِي أيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ وتُدَفِّفَانِ وتَضْرِبَانِ والنَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَغَشٍّ بِثَوْبِهِ فانْتَهَرَهُمَا أبُو بَكْرٍ فكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ وَجْهِهِ فَقَالَ دَعْهُمَا يَا أبَا بَكْرٍ فإنَّهَا أيَّامُ عَيدٍ وتِلْكَ الأيَّامُ أيَّامُ مِنًى. وقالَتْ عائِشَةُ رأيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتُرُنِي وأنَا أنْظُرُ إِلَى الحَبَشَةِ وهُمْ يَلْعَبُونَ فِي المَسْجِدِ فزَجَرَهُمْ عُمَرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعْهُمْ أمْناً بَني أرْفِدَةَ يَعْنِي مِنَ الأمْنِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة الأولى فِي قَوْله: (إِلَى الْحَبَشَة) وَفِي الثَّانِيَة فِي قَوْله: (بني أرفدة) وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب الحراب والدرق يَوْم الْعِيد، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فِي أَيَّام منى تُغنيَانِ) ويروى: فِي أَيَّام منى تدفعان وتضربان، وَلَيْسَ فِيهِ: تُغنيَانِ. قَوْله: (فَإِنَّهَا) أَي: فَإِن أَيَّام منى (أَيَّام عيد) أَيَّام فَرح وسرور، وَقيل: هَذَا يدل على أَن أَيَّام الْعِيد أَرْبَعَة أَيَّام، ورد بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك الْيَوْم ثَانِي يَوْم الْعِيد أَو ثالثه، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ من أَيَّام منى، وَلَا يُقَال: إِنَّه على عُمُومه، لِأَن دَعْوَى الْعُمُوم فِي الْأَفْعَال غير صَحِيحَة عِنْد الْأَكْثَرين لِأَنَّهَا قصَّة عين. قَوْله: (متغش) ويروى: متغشي، وَالْكل بِمَعْنى وَاحِد من قَوْلهم: تغشى، أَي: تغطى بِثَوْبِهِ. قَوْله: (فزجرهم) أَي: فزجر أَبُو بكر الْحَبَشَة الَّذين يَلْعَبُونَ. قَوْله: (دعهم) أَي: أتركهم آمِنين، وَيجوز أَن يكون: (أمنا) مَفْعُولا مُطلقًا أَي: إئمنوا أمنا لَيْسَ لأحد أَن يمنعكم، وَنَحْوه. قَوْله: (بني أرفدة) أَي: يَا بني أرفدة. قَوْله: (يَعْنِي من الْأَمْن) وَالْغَرَض من ذكر لفظ: يَعْنِي، بَيَان أَنه مُشْتَقّ من الْأَمْن الَّذِي هُوَ ضد الْخَوْف، لَا من الْإِيمَان.

61 - (بابُ منْ أحبَّ أنْ لاَ يُسُبَّ نَسَبَهُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أحب أَن لَا يسب أَي: لَا يشْتم نسبه، أَي: أهل نسبه.

1353 - حدَّثني عُثْمانُ بنُ أبِي شَيْبَةَ حدَّثنا عَبْدَةُ عنْ هِشَامٍ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتِ اسْتأذَنَ حَسَّانُ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هجاءِ المُشْرِكِينَ فقَالَ كَيْفَ بِنَسَبِي فَقَالَ حسَّانٌ لأسُلَّنَّكَ

(16/94)


مِنْهُم كَمَا تُسَلَّ الشَّعَرَةُ مِنَ العَجِينِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَقَالَ: كَيفَ بنسبي؟) فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرد أَن يهجى نسبه مَعَ هجو الْكفَّار، وَعَبدَة هُوَ ابْن سُلَيْمَان، وَهِشَام يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة أَيْضا، وَفِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن سَلام. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة.
قَوْله: (كَيفَ بنسبي؟) أَي: كَيفَ بنسبي مجتمعاً بنسبهم؟ يَعْنِي: كَيفَ تهجو قُريْشًا مَعَ اجتماعي مَعَهم فِي النّسَب؟ وَفِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن مُعظم طرق الهجو النَّقْص من الْآبَاء. قَوْله: (لأسلَّنَّكَ مِنْهُم) أَي: لأخلصنَّ نسبك مِنْهُم، أَي: من نسبهم، بِحَيْثُ يخْتَص الهجو بهم دُونك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي: لأتلطفن فِي تَخْلِيص نسبك من هجوهم بِحَيْثُ لَا يبْقى جُزْء من نسبك فِيمَا ناله الهجو. قَوْله: (كَمَا تسل الشعرة) ، ويروى: (الشّعْر) ، وَإِنَّمَا عين الشّعْر والعجين لِأَنَّهُ إِذا سل من الْعَجِين لَا يتَعَلَّق بِهِ شَيْء وَلَا يَنْقَطِع لنعومته، بِخِلَاف مَا إِذا سل من شَيْء صلب فَإِنَّهُ رُبمَا يَنْقَطِع وَيبقى مِنْهُ بَقِيَّة، وروى أَنه: لما اسْتَأْذن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي هجاء الْمُشْركين قَالَ لَهُ: إئتِ أَبَا بكر فَإِنَّهُ أعلم قُرَيْش بأنسابها حَتَّى يخلص لَك نسبي، فَأَتَاهُ حسان ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَهُ: قد خلص لي نسبك.
وعنْ أبِيهِ قَالَ ذَهَبْتُ أسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عائِشَةَ فقالَتْ لاَ تَسُبُّهُ فإنَّهُ كانَ يُنافِحُ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: وَعَن أبي هِشَام وَهُوَ عُرْوَة بن الزبير وَهَذَا مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور إِلَى عُرْوَة وَلَيْسَ بمعلق وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن عبد الله بِهَذَا الْإِسْنَاد وَقَالَ فِيهِ وَعَن هِشَام عَن أَبِيه فَذكر الزِّيَادَة وَكَذَلِكَ أخرجه فِي الْأَدَب الْمُفْرد قَوْله: (كَانَ ينافح) بِكَسْر الْفَاء بعْدهَا حاء مُهْملَة وَمَعْنَاهُ يدافع يُقَال نافحت عَن فلَان أَي خَاصَمت عَنهُ. وَيُقَال نفحت الدَّابَّة إِذا رمحت بحوافرها ونفحه بِالسَّيْفِ إِذا تنَاوله من بعيد وأصل النفح بِالْمُهْمَلَةِ الضَّرْب وَقيل للعطاء نفح كَانَ الْمُعْطى يضْرب السَّائِل بِهِ.

71 - (بابُ مَا جاءَ فِي أسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من أَسمَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي بعض النّسخ: فِي أَسمَاء رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وقَوْلِ الله تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله والَّذِينَ معَهُ أشِدَّاءُ علَى الكُفَّارِ} (الْفَتْح: 92) . وقَوْلِهِ {مِنْ بَعْدِيَ اسْمُهُ أحْمَدَ} (الصَّفّ: 6) .
وَقَول الله، بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: مَا جَاءَ، وَقَوله: (وَقَوله: من بعدِي اسْمه أَحْمد) بِالْجَرِّ أَيْضا عطفا على: قَول الله، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِمَا ذكر من بعض الْآيَتَيْنِ إِلَى أَن أشهر أَسمَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّد وَأحمد، فمحمد من بَاب التفعيل للْمُبَالَغَة، وَأحمد من بَاب التَّفْضِيل، وَقيل: مَعْنَاهُمَا إِذا حمدني أحد فَأَنت أَحْمد، وَإِذا حمدت أحد فَأَنت مُحَمَّد، وَقَالَ عِيَاض: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحْمد قبل أَن يكون مُحَمَّدًا، كَمَا وَقع فِي الْوُجُود، لِأَن تَسْمِيَته أَحْمد وَقعت فِي الْكتب السالفة، وتسميته مُحَمَّدًا وَقعت فِي الْقُرْآن الْعَظِيم، وَذَلِكَ أَنه حمد ربه قبل أَن يحمده النَّاس، وَكَذَلِكَ فِي الْآخِرَة يحمد ربه فيشفعه فيحمده النَّاس، وَقد خص: بِسُورَة الْحَمد، ولواء الْحَمد، وبالمقام الْمَحْمُود، وَشرع لَهُ الْحَمد بعد الْأكل وَبعد الشّرْب وَبعد الدُّعَاء وَبعد الْقدوم من السّفر، وَسميت أمته: الحمادين، فَجمعت لَهُ مَعَاني الْحَمد وأنواعه، وَقيل: اسْمه فِي السَّمَوَات أَحْمد وَفِي الْأَرْضين مَحْمُود، وَفِي الدُّنْيَا مُحَمَّد، وَقيل: الْأَنْبِيَاء كلهم حمادون لله تَعَالَى وَنَبِينَا أَحْمد، أَي: أَكثر حمداً لله مِنْهُم، وَقيل: الْأَنْبِيَاء كلهم محمودون وَنَبِينَا أَحْمد، أَي: أَكثر مناقباً، وَأجْمع للفضائل. قَوْله: (مُحَمَّد رَسُول الله) ، مُحَمَّد، إِمَّا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هُوَ مُحَمَّد، لتقدم قَوْله: {هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله} (التَّوْبَة: 33، الْفَتْح: 82، والصف: 9) . وَإِمَّا مُبْتَدأ، وَرَسُول الله، عطف بَيَان {وَالَّذين مَعَه} أَي: أَصْحَابه عطف على الْمُبْتَدَأ. وَقَوله: {أَشد} خبر عَن الْجَمِيع، وَيجوز أَن يكون استئنافاً: مُحَمَّد مُبْتَدأ وَرَسُول الله خَبره، وَالَّذين مَعَه مُبْتَدأ، وأشداء خَبره، وَيجوز أَن يكون: وَالَّذين مَعَه فِي مَحل الْجَرّ عطفا على قَوْله: بِاللَّه، فِي قَوْله: {وَكفى بِاللَّه} . وَالْجُمْهُور على أَن المُرَاد من قَوْله: وَالَّذين مَعَه رسل الله، فَيحسن الْوَقْف على: مَعَه. قَوْله: (أشداء) ، جمع شَدِيد وَمَعْنَاهُ: يغلظون على الْكفَّار وعَلى من

(16/95)


خَالف دينهم، وَإِن كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم. قَوْله: (من بعدِي اسْمه أَحْمد) ، وَقَبله: {وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} (الصَّفّ: 6) . وَعَن كَعْب: أَن الحواريين قَالُوا لعيسى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا روح الله! فَهَل بَعدنَا من أمة؟ قَالَ: نعم أمة مُحَمَّد، حَكَاهُ عُلَمَاء أبرار أتقياء.

39 - (حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر قَالَ حَدثنِي معن عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لي خَمْسَة أَسمَاء أَنا مُحَمَّد وَأحمد وَأَنا الماحي الَّذِي يمحو الله بِهِ الْكفْر وَأَنا الحاشر الَّذِي يحْشر النَّاس على قدمي وَأَنا العاقب) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة ومعن بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون ابْن عِيسَى الْقَزاز مر فِي الْوضُوء والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَن زُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عَمْرو عَن حَرْمَلَة بن يحيى وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب وَعَن عبد بن حميد وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَفِي الشَّمَائِل عَن غير وَاحِد وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن شُعَيْب الْبَغْدَادِيّ عَن معن بن عِيسَى بِهِ قَوْله " عَن مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم عَن أَبِيه " كَذَا وَقع مَوْصُولا عِنْد معن بن عِيسَى عَن مَالك وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن مُحَمَّد بن جُبَير مُرْسلا وَوَافَقَ مَعنا على وَصله عَن مَالك جوَيْرِية بن أَسمَاء عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَمُحَمّد بن الْمُبَارك وَعبد الله بن نَافِع عِنْد أبي عوَانَة وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي الغرائب عَن آخَرين عَن مَالك وَقَالَ إِن أَكثر أَصْحَاب مَالك أَرْسلُوهُ وَرَوَاهُ مُسلم مَوْصُولا من رِوَايَة يُونُس بن يزِيد وَعقيل وَمعمر وَرَوَاهُ البُخَارِيّ أَيْضا مَوْصُولا فِي التَّفْسِير من رِوَايَة شُعْبَة وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا مَوْصُولا من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة كلهم عَن الزُّهْرِيّ قَوْله " لي خَمْسَة أَسمَاء " فِيهِ سؤالان الأول أَنه قصر أسماءه على خَمْسَة وأسماؤه أَكثر من ذَلِك وَقد قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي شرح التِّرْمِذِيّ عَن بَعضهم أَن لله تَعَالَى ألف اسْم وَكَذَا للرسول. وَالثَّانِي أَن قَوْله الماحي وَنَحْوه صفة لَا اسْم. الْجَواب عَن الأول أَن مَفْهُوم الْعدَد لَا اعْتِبَار لَهُ فَلَا يَنْفِي الزِّيَادَة وَقيل إِنَّمَا اقْتصر عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَوْجُودَة فِي الْكتب الْقَدِيمَة ومعلومة للأمم السالفة وَزعم بَعضهم أَن الْعدَد لَيْسَ من قَول النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَإِنَّمَا ذكره الرَّاوِي بِالْمَعْنَى ورد عَلَيْهِ لتصريحه فِي الحَدِيث بذلك وَقيل مَعْنَاهُ ولي خَمْسَة أَسمَاء لم يسم بهَا أحد قبلي وَقيل مَعْنَاهُ أَن مُعظم أسمائي خَمْسَة. وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي أَن الصّفة قد يُطلق عَلَيْهَا الِاسْم كثيرا قَوْله " أَنا مُحَمَّد " هَذَا هُوَ الأول من الْخَمْسَة وَقَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض لَا يعرف فِي الْعَرَب من تسمى مُحَمَّدًا قبل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا ثَلَاثَة مُحَمَّد بن سُفْيَان بن مجاشع وَمُحَمّد بن أحيحة بن الجلاح وَمُحَمّد بن حمْرَان بن ربيعَة وَقد رد عَلَيْهِ وَمِنْهُم من عد سِتَّة ثمَّ قَالَ وَلَا سَابِع لَهُم ثمَّ عدهم فَذكر مِنْهُم هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة وَزَاد عَلَيْهِم مُحَمَّد بن خزاعي السّلمِيّ وَمُحَمّد بن مسلمة الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن برَاء الْبكْرِيّ ورد عَلَيْهِ أَيْضا بِجَمَاعَة تسموا بِمُحَمد وهم مُحَمَّد بن عدي بن ربيعَة السَّعْدِيّ روى حَدِيثه الْبَغَوِيّ وَابْن سعد وَابْن شاهين وَغَيرهم وَمُحَمّد بن اليحمد الْأَزْدِيّ ذكره المفجع الْبَصْرِيّ فِي كتاب المنقذ وَمُحَمّد بن خولي الْهَمدَانِي ذكره ابْن دُرَيْد وَمُحَمّد بن حرماز ذكره أَبُو مُوسَى فِي الزيل وَمُحَمّد بن عَمْرو بن مُغفل بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَكسر الْفَاء وباللام وَمُحَمّد الأسيدي وَمُحَمّد الْفُقيْمِي وَمُحَمّد بن يزِيد بن ربيعَة وَمُحَمّد بن أُسَامَة وَمُحَمّد بن عُثْمَان وَمُحَمّد بن عتوارة اللَّيْثِيّ قَوْله " وَأَنا أَحْمد " هَذَا هُوَ الثَّانِي من الْخَمْسَة ويروى وَأَنا مُحَمَّد وَأحمد بِغَيْر لَفْظَة وَأَنا قَوْله " وَأَنا الماحي " هَذَا هُوَ الثَّالِث من الْخَمْسَة قيل أَرَادَ بقوله الَّذِي يمحو الله بِي الْكفْر من جَزِيرَة الْعَرَب وَقَالَ الْكرْمَانِي محو الْكفْر إِمَّا من بِلَاد الْعَرَب وَنَحْوهَا وَفِيه نظر لِأَنَّهُ وَقع فِي رِوَايَة عقيل وَمعمر يمحو الله بِي الْكَفَرَة وَفِي رِوَايَة نَافِع بن جهير وَأَنا الماحي فَإِن الله يمحو بِهِ سيئات من اتبعهُ (قلت) قَوْله هَذَا عَام يتَنَاوَل كفر كل أحد فِي كل أَرض قَوْله " وَأَنا الحاشر " هَذَا هُوَ الرَّابِع من الْخَمْسَة وَقد فسره بقوله الَّذِي يحْشر النَّاس على قدمي أَي على أثري أَي أَنه يحْشر قبل

(16/96)


النَّاس ويوافق هَذَا لقَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى يحْشر النَّاس على عَقبي وَيُقَال مَعْنَاهُ على زماني وَوقت قيامي على الْقدَم بِظُهُور عَلَامَات الْحَشْر وَيُقَال مَعْنَاهُ لَا نَبِي بعدِي قَوْله " قدمي " ضبطوه بتَخْفِيف الْيَاء وتشديدها مُفردا ومثنى قَوْله " وَأَنا العاقب " هَذَا هُوَ الْخَامِس وَزَاد يُونُس بن يزِيد فِي رِوَايَته عَن الزُّهْرِيّ الَّذِي لَيْسَ بعده أحد وَقد سَمَّاهُ الله رؤفا رحِيما وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل قَوْله " وَقد سَمَّاهُ الله " إِلَى آخِره مدرج من قَول الزُّهْرِيّ وَفِي دَلَائِل الْبَيْهَقِيّ العاقب يَعْنِي الْخَاتم وَفِي لفظ الماحي والخاتم وَفِي لفظ فَأَنا حاشر فَبعثت مَعَ السَّاعَة نذيرا لكم بَين يَدي عَذَاب شَدِيد وَعند مُسلم فِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَنَبِي التَّوْبَة وَنَبِي الملحمة وَعَن أبي صَالح قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّمَا أَنا رَحْمَة مهداة " وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا الْعَنْبَري لنبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَمْسَة أَسمَاء فِي الْقُرْآن الْعَظِيم قَالَ الله عز وَجل {مُحَمَّد رَسُول الله} وَقَالَ {وَمُبشرا برَسُول يَأْتِي من بعدِي اسْمه أَحْمد} وَقَالَ {وَأَنه لما قَامَ عبد الله} يَعْنِي النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيْلَة الْجِنّ وَقَالَ (طه) وَقَالَ (يس) يَعْنِي يَا إِنْسَان وَالْإِنْسَان هُنَا الْعَاقِل وَهُوَ مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ وَزَاد عَبدة وَسَماهُ فِي الْقُرْآن رَسُولا نَبيا أُمِّيا وَسَماهُ {شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا وداعيا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا} وَسَماهُ مذكرا وَرَحْمَة وَجعله نعْمَة وهاديا عَن كَعْب قَالَ الله عز وَجل لمُحَمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَبدِي المتَوَكل الْمُخْتَار وَعَن حُذَيْفَة بِسَنَد صَحِيح يرفعهُ " أَنا المقفى وَنَبِي الرَّحْمَة " وَعَن مُجَاهِد قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنا رَسُول الرَّحْمَة أَنا رَسُول الله الملحمة بعثت بالحصاد وَلم أبْعث بالزراع " وَفِي كتاب الشِّفَاء وَأَنا رَسُول الرَّاحَة وَرَسُول الْمَلَاحِم وَأَنا قثم والقثم الْجَامِع فِي الْكَامِل وَفِي الْقُرْآن المزمل والمدثر والنور وَالْمُنْذر والبشير وَالشَّاهِد والشهيد وَالْحق والمبين والأمين وَقدم الصدْق ونعمة الله والعروة الوثقى والصراط الْمُسْتَقيم والنجم الثاقب والكريم وداعي الله والمصطفى والمجتبى والحبيب وَرَسُول رب الْعَالمين وَالشَّفِيع والمشفع والمتقي والمصلح وَالظَّاهِر والصادق والمصدوق وَالْهَادِي وَسيد ولد آدم وَسيد الْمُرْسلين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ وقائد الغر المحجلين وحبِيب الله وخليل الرَّحْمَن وَصَاحب الْحَوْض المورود والشفاعة وَالْمقَام الْمَحْمُود وَصَاحب الْوَسِيلَة والفضيلة والدرجة الرفيعة وَصَاحب التَّاج والمعراج واللواء والقضيب وراكب الْبراق والناقة والنجيب وَصَاحب الْحجَّة وَالسُّلْطَان والعلامة والبرهان وَصَاحب الهراوة والنعلين وَالْمُخْتَار ومقيم السّنة والمقدس وروح الْقُدس وروح الْحق وَهُوَ معنى البارقليط فِي الْإِنْجِيل وَقَالَ ثَعْلَب البارقليط الَّذِي يفرق بَين الْحق وَالْبَاطِل وماذماذ مَعْنَاهُ طيب طيب والبرقليطس بالرومية وَقَالَ ثَعْلَب الْخَاتم الَّذِي ختم الْأَنْبِيَاء والخاتم أحسن الْأَنْبِيَاء خلقا وخلقا وَيُسمى بالسُّرْيَانيَّة مشفح والمنحمنا وَفِي التَّوْرَاة أحيد ذكره ابْن دحْيَة بِمد الْألف وَكسر الْحَاء وَمَعْنَاهُ أحيد أمتِي عَن النَّار وَقيل مَعْنَاهُ الْوَاحِد وَقَالَ عِيَاض وَمَعْنَاهُ صَاحب الْقَضِيب أَي السَّيْف وَفِي الدّرّ المنظم للعرقي من أَسْمَائِهِ الْمُصدق الْمُسلم الإِمَام المُهَاجر الْعَامِل اذن خير الْآمِر الناهي الْمُحَلّل الْمحرم الْوَاضِع الرافع المجير وَقَالَ ابْن دحْيَة أسماؤه وَصِفَاته إِذا بحث عَنْهَا تزيد على الثلاثمائة وَقد ذكرنَا عَن ابْن الْعَرَبِيّ أَن أسماءه بلغت ألفا كأسماء الله تَعَالَى -
3353 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا سُفُيانُ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألاَ تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ الله عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ ولَعْنَهُمْ يَشْتِمُونَ مُذَمَّماً ويَلْعَنُونَ مُذَمَّماً وأنَا مُحَمَّدٌ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأَنا مُحَمَّد) ، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَبُو الزِّنَاد، بالزاي وَالنُّون: عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
قَوْله: (أَلا تعْجبُونَ؟) كلمة ألاَ للتّنْبِيه، وَكَانَ الْكفَّار من قُرَيْش من شدَّة كراهتهم فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يسمونه باسمه الدَّال على الْمَدْح فيعدلون إِلَى ضِدّه، فيقولوا: مذمم ومذمم، لَيْسَ باسمه، وَلَا يعرف بِهِ فَكَانَ الَّذِي يَقع مِنْهُم فِي ذَلِك مصروفاً إِلَى غَيره، وَأَنا أسمي مُحَمَّد، كثير الْخِصَال الحميدة، وألهم الله أَهله أَن يسموه بِهِ لما علم من حميد صِفَاته، وَفِي الْمثل الْمَشْهُور: الألقاب تنزل من السَّمَاء، وَقَالَ ابْن التِّين: اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث من أسقط حد الْقَذْف بالتعريض، وهم الْأَكْثَرُونَ خلافًا لمَالِك، وَأجَاب بِأَنَّهُ لم يَقع فِي الحَدِيث أَنه: لَا شَيْء عَلَيْهِم فِي ذَلِك، بل الْوَاقِع أَنهم عوقبوا على ذَلِك، ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يدل على النَّفْي وَلَا على الْإِثْبَات، فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ.

(16/97)


81 - (بابُ خاتَمِ النَّبِيِّينَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
98
- أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان معنى الْخَاتم من أَسْمَائِهِ: أَنه خَاتم النَّبِيين.

4353 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنانٍ حدَّثنا سَلِيمٌ حدَّثنا سَعِيدُ بنُ مِيناءَ عنْ جابِرِ بنِ عَبْده الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثَلِي ومثَلُ الأنْبِيَاءِ كمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارَاً فأكْمَلَهَا وأحْسَنَها إلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ فجَعَلَ النَّاسَ يَدْخُلُونَها ويتَعَجَّبُونَ ويَقُولُونَ لَوْلاَ مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ، لِأَن فِي طَرِيق من طرق الحَدِيث عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة عُثْمَان عَن سليم بن حَيَّان: فَأَنا مَوضِع اللبنة جِئْت فختمت الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَمُحَمّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف النُّون وَبعد الْألف نون أُخْرَى: أَبُو بكر الْعَوْفِيّ الْبَاهِلِيّ الْأَعْمَى، وَهُوَ من أَفْرَاده، وسليم، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر اللاَّم: ابْن حَيَّان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَسَعِيد بن ميناء، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون: ممدوداً ومقصوراً.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَمْثَال عَن مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ بِهِ، وَقَالَ: صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه.
قَوْله: (مثلي) ، مُبْتَدأ (وَمثل الْأَنْبِيَاء) عطف عَلَيْهِ. وَقَوله: (كَمثل رجل) خَبره، والمثل مَا يضْرب بِهِ الْأَمْثَال، وَفِي (الجمهرة) : الْمثل النظير والمشبه هُنَا وَاحِد والمشبه بِهِ مُتَعَدد فَكيف يَصح التَّشْبِيه؟ وَوَجهه أَنه جعل الْأَنْبِيَاء كلهم كواحد فِيمَا قصد فِي التَّشْبِيه، وَهُوَ أَن الْمَقْصُود من تعيينهم مَا تمّ إلاَّ بِاعْتِبَار الْكل، فَكَذَلِك الدَّار لم يتم إلاَّ بِجَمِيعِ اللبنات، وَيُقَال: إِن التَّشْبِيه هُنَا لَيْسَ من بَاب تَشْبِيه الْمُفْرد بالمفرد بل هُوَ تَشْبِيه تمثيلي، فَيُؤْخَذ وصف من جَمِيع أَحْوَال الْمُشبه وَيُشبه بِمثلِهِ من أَحْوَال الْمُشبه بِهِ، فَيُقَال: شبه الْأَنْبِيَاء وَمَا بعثوا بِهِ من إرشاد النَّاس إِلَى مَكَارِم الْأَخْلَاق بدار أسس قَوَاعِده وَرفع بُنْيَانه وَبَقِي مِنْهُ مَوضِع لبنة، فنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث لتتميم مَكَارِم الْأَخْلَاق كَأَنَّهُ هُوَ تِلْكَ اللبنة الَّتِي بهَا إصْلَاح مَا بَقِي من الدَّار، قَوْله: (إلاَّ مَوضِع لبنة) ، بِفَتْح الَّلام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَجَاز إسكانها مَعَ فتح اللَّام وَكسرهَا، وَهِي الْقطعَة من الطين تعجن وتيبس ويبنى بهَا بِنَاء، فَإِذا أحرقت تسمى آجرَّة. قَوْله: (لَوْلَا مَوضِع اللبنة) ، بِالرَّفْع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف أَي: لَوْلَا مَوضِع اللبنة يُوهم النَّقْص لَكَانَ بِنَاء الدَّار كَامِلا، كَمَا فِي قَوْلك: لَوْلَا زيد لَكَانَ كَذَا أَي: لَوْلَا زيد مَوْجُود لَكَانَ كَذَا، وَيجوز أَن تكون: لَوْلَا، تخصيصية لَا امتناعية، وَفعله مَحْذُوف أَي: لَوْلَا ترك مَوضِع اللبنة أَو سوى، وَيجوز مَوضِع بِالنّصب أَي: لَوْلَا تركت أَيهَا الرجل موضعهَا وَنَحْو ذَلِك، وَوَقع فِي رِوَايَة همام عِنْد أَحْمد. ألاَ وضعت هَهُنَا لبنة فَيتم بنيانك؟

5353 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ عبْدِ الله بنِ دِينارٍ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ مَثَلِي ومثَلَ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتَاً فأحْسَنَهُ وأجْمَلَهُ إلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فجَعَلَ النَّاسَ يَطُوفُونَ بِهِ ويَعْجَبُونَ لَهُ ويَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنا اللَّبِنَةُ وأنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو صَالح ذكْوَان الزيات.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن يحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عَليّ بن حجر، ثَلَاثَتهمْ عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَنهُ بِهِ.
قَوْله: (من زَاوِيَة) ، قَالَ الدَّاودِيّ: هِيَ الرُّكْن، وَفِي رِوَايَة همام عِنْد مُسلم: إلاَّ مَوضِع لبنة من زَاوِيَة من زواياها فَظهر أَن المُرَاد أَنَّهَا مكملة محسنة وإلاَّ لاستلزم أَن يكون الْأَمر بِدُونِهَا نَاقِصا وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن شَرِيعَة كل نَبِي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَامِلَة، فَالْمُرَاد مِنْهُ هُنَا النّظر إِلَى الْأَكْمَل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرِيعَة المحمدية مَعَ مَا خص بِهِ من الشَّرَائِع.
وَفِيه: ضرب الْأَمْثَال للتقريب للأفهام، وَفضل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَائِر الْأَنْبِيَاء، وَأَن الله ختم بِهِ الْمُرْسلين وأكمل بِهِ شرائع الدّين.

(16/98)