عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 22 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنَ
النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ منْ دُونِ الله أنْدَاداً}
(الْبَقَرَة: 165) أضْدَاداً واحِدُها نِدٌّ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر قَوْله تَعَالَى: {وَمن
النَّاس} وهم الْمُشْركُونَ، جعلُوا الله أنداداً، وفسرها
البُخَارِيّ بقوله: أضداداً، وَكَذَا فَسرهَا أَبُو
عُبَيْدَة، قيل: الند فِي اللُّغَة الْمثل لَا الضِّدّ،
وَأجِيب: بِأَن الْمثل الْمُخَالف المعادي فِيهِ معنى
الضدية.
4497 - ح دَّثنا عَبْدَانُ عنْ أبي حَمْزَةَ عنِ الأعْمَشِ
عنْ شَقِيقٍ عنْ عبْدِ الله قَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَلِمَةً وقُلْتُ أُخْرَى قَالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ ماتَ وهْوَ يَدْعُو مِنْ
دُونِ الله نِدًّا دَخَلَ النَّارَ وقُلْتُ أَنا مَنْ
مَاتَ وهْوَ لاَ يَدْعُو لله نِدًّا دَخَلَ الجَنَّةَ.
(انْظُر الحَدِيث 1238 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِي الْآيَة مَا يدل
على أَن من مَاتَ وَهُوَ يَدْعُو لله نداد دخل النَّار.
وعبدان لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَأَبُو
حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي اسْمه مُحَمَّد
بن مَيْمُون، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وشقيق أَبُو وَائِل
بن سَلمَة، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود. والْحَدِيث مضى
فِي أول الْجَنَائِز فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عمر بن
حَفْص عَن أَبِيه عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَمضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قيل: من أَيْن علم ابْن مَسْعُود
ذَلِك؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ اسْتَفَادَ من قَول رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ انْتِفَاء السَّبَب
يَقْتَضِي انْتِفَاء الْمُسَبّب، وَهَذَا بِنَاء على أَن
لَا وَاسِطَة بَين الْجنَّة وَالنَّار، وَفِيه تَأمل.
23 - (بابٌ: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ القِصاصُ فِي الْقَتْلَى الحُرُّ بالحُرِّ}
(الْبَقَرَة: 178) إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابٌ ألِيمٌ} .
عُفِيَ تُرِكَ)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا
الَّذين آمنُوا} (الْبَقَرَة: 178) هَكَذَا وَقع فِي
رِوَايَة الْكل غير أبي ذَر، وَفِي رِوَايَته: بَاب: {يَا
أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص} . الْآيَة:
قَالَ الْفراء: نزلت هَذِه الْآيَة فِي حيين من الْعَرَب
كَانَ لأَحَدهمَا طول على الآخر فِي الْكَثْرَة والشرف،
فَكَانُوا يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَهُمْ بِغَيْر مهر، فَقتل
الأوضع من الْحَيَّيْنِ من الشريف قَتْلَى، فأقسم الشريف
ليقْتلن الذّكر بِالْأُنْثَى وَالْحر بِالْعَبدِ وَأَن
يضاعفوا الْجِرَاحَات، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذَا على
نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ نسخ أَيْضا، نُسْخَة
قَوْله تَعَالَى: {وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس
بِالنَّفسِ} (الْمَائِدَة: 45) إِلَى آخر الْآيَة،
فَالْأولى مَنْسُوخَة لَا يعْمل بهَا وَلَا يحكم، وَمذهب
أبي حنيفَة: أَن الْحر يقتل بِالْعَبدِ بِهَذِهِ الْآيَة،
وَإِلَيْهِ ذهب الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وَدَاوُد،
وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَسَعِيد بن
الْمسيب وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ
(18/100)
وَقَتَادَة وَالْحكم، وَعَن عمر بن عبد
الْعَزِيز وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء وَعِكْرِمَة،
وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك: أَن الْحر لَا يقتل
بِالْعَبدِ وَالذكر لَا يقتل بِالْأُنْثَى، أخذا بِهَذِهِ
الْآيَة، أَعنِي قَوْله: {الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد
بِالْعَبدِ} (الْبَقَرَة: 178) وَقد قُلْنَا: إِنَّهَا
مَنْسُوخَة. قَوْله: (كتب عَلَيْكُم الْقصاص) ، ذكر
الواحدي: أَن مَعْنَاهُ فِي اللُّغَة الْمُمَاثلَة
والمساواة، وَقَالَ ابْن الْحصار: الْقصاص الْمُسَاوَاة
والمجازاة، وَالْمرَاد بِهِ الْعدْل فِي الْأَحْكَام،
وَهَذَا حكم الله عز وَجل الَّذِي لم يزل وَلَا يزَال
أبدا، فَلَا نسخ فِيهِ وَلَا تَبْدِيل لَهُ، وَالْمرَاد
بِآيَة الْمَائِدَة تبين الْعدْل فِي تكافىء الدِّمَاء فِي
الْجُمْلَة وَترك التَّفَاضُل لاجتهاد الْعلمَاء، وعَلى
هَذَا فَلَيْسَ بَينهمَا تعَارض قُلْنَا الْأَنْسَب عُمُوم
آيَة الْمَائِدَة وفيهَا مُقَابلَة مُطلقَة، وَهَذِه
الْآيَة فِيهَا مُقَابلَة مُقَيّدَة، فَلَا يحمل الْمُطلق
على الْمُقَيد، على أَن مُقَابلَة الْحر بِالْحرِّ لَا
يُنَافِي مُقَابلَة الْحر بِالْعَبدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ إلاَّ ذكر بعض مَا يَشْمَلهُ الْعُمُوم على
مُوَافقَة حكمه، وَذَلِكَ لَا يُوجب تَخْصِيص مَا بَقِي.
قَوْله: (عُفيَ ترك) أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَوْله:
{فَمن عُفيَ لَهُ من أَخِيه شَيْء} أَي: فَمن ترك وصفح
لَهُ من الْوَاجِب عَلَيْهِ فِي الْعمد فَرضِي بِالدِّيَةِ
{فاتباع بِالْمَعْرُوفِ} أَي: فعلى الْقَتِيل
4498 - ح دَّثنا الحُمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيانُ حَدثنَا
عَمْروٌ قَالَ سمِعْتُ مجاهِداً قَالَ سَمِعْتُ ابنَ
عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُولُ كانَ فِي بَني
إسْرَائِيلَ القِصاصُ ولَمْ تَكُنْ فِيهِمِ الدِّيَّةُ
فَقَالَ الله تَعَالَى لِهاذِهِ الأُمَّةِ: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ القصاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بالحُرِّ
والعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ
لهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ} فالْعَفْوُ أنْ يَقْبَلَ
الدِّيَةَ فِي العَمْدِ {فاتِّباعٌ بالمعْرُوفِ وأدَاءٌ
إلَيْهِ بإحْسانٍ} يَتَّبِعُ بالمَعْرُوفِ ويُؤَدِّي
بإحْسانٍ {ذالِكَ تَخْفِيفٌ منْ رَبِّكُمْ ورَحْمَةٌ}
مِمَّا كُتبَ عَلَى مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ {فَمَنْ اعْتَدَى
بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ} قَتَلَ بَعْدَ
قَبُولِ الدِّيَةِ.
مطابقته لِلْآيَةِ أوضح مَا يكون، والْحميدِي هُوَ عبد
الله بن الزبير بن عِيسَى ونسبته إِلَى أحد أجداده وَهُوَ:
حميد بن زُهَيْر، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو
هُوَ ابْن دِينَار.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدِّيات عَن
قُتَيْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد
الْجَبَّار وَفِي الْقصاص عَن الْحَارِث بن مِسْكين.
قَوْله: (فَمن عُفيَ لَهُ من أَخِيه شَيْء) ، مَعْنَاهُ:
قبُول الدِّيَة فِي الْعمد، وَقيل: فِيمَن قتل وَله وليان
فَعَفَا أَحدهمَا فللآخر أَن يَأْخُذ مِقْدَار حِصَّته من
الدِّيَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْعَفو فِي الْآيَة
يحْتَاج إِلَى تَفْسِير، وَذَلِكَ أَن ظَاهر الْعَفو يُوجب
أَن لَا تبعة لأَحَدهمَا على الآخر، فَمَا معنى الإتباع؟
والإعفاء فَمَعْنَاه: أَن من عُفيَ عَنهُ الدَّم
بِالدِّيَةِ فعلى صَاحب الدِّيَة اتِّبَاع، أَي مُطَالبَة
بِالدِّيَةِ وعَلى الْقَاتِل أَدَاء الدِّيَة إِلَيْهِ؟
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وَأَخُوهُ: هُوَ ولي الْمَقْتُول،
وَقيل لَهُ: أَخُوهُ، لِأَنَّهُ لابسه من قبل أَنه ولي
الدَّم ومطالبه بِهِ أَو ذكره بِلَفْظ الْأُخوة ليعطف
أَحدهمَا على صَاحبه بِذكر مَا هُوَ ثَابت بَينهمَا من
الجنسية وَالْإِسْلَام. وَقَالَ: إِن عَفا يتَعَدَّى: بعن،
لَا بِاللَّامِ، فَمَا وَجه قَوْله: (فَمن عَفا لَهُ؟)
قلت: يتَعَدَّى: بعن إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الذَّنب،
فَيُقَال: عَفَوْت عَن فلَان وَعَن ذَنبه. قَالَ الله
تَعَالَى: {عَفا الله عَنْك} (التَّوْبَة: 43) وَعَفا الله
عَنْهَا فَإِذا تعدى إِلَى الذَّنب قيل: عَفَوْت لفُلَان
عَمَّا جنى، كَمَا تَقول: عَفَوْت لَهُ ذَنبه وتجاوزت لَهُ
عَنهُ، وعَلى هَذَا مَا فِي الْآيَة كَأَنَّهُ قيل فَمن
عَفا لَهُ عَن جِنَايَته، فاستغنى عَن ذكر الْجِنَايَة.
قَوْله: (شَيْء) ، أَي: من الْعَفو، إِنَّمَا قيل ذَلِك
للإشعار بِأَن بعض الْعَفو عَن الدَّم أَو عَفْو بعض
الْوَرَثَة يسْقط الْقصاص وَلم يجب إِلَّا الدِّيَة.
قَوْله: (فاتباع بِالْمَعْرُوفِ) ، أَي: فَلْيَكُن
اتِّبَاع، أَو: فَالْأَمْر اتِّبَاع، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن
قريب. قَوْله: (ذَلِك) ، أَي: الحكم الْمَذْكُور من
الْعَفو وَالدية، لِأَن أهل التَّوْرَاة كتب عَلَيْهِم
الْقصاص اليته وَحرم عَلَيْهِم الْعَفو واخذ الدِّيَة
وعَلى أهل الْإِنْجِيل الْعَفو وَحرم الْقصاص وَالدية
وخيرت هَذِه الْأمة بَين الثَّلَاث: الْقصاص وَالدية
وَالْعَفو، وتوسعة عَلَيْهِم وتيسيراً. قَوْله: (كَمَا كتب
على من كَانَ قبلكُمْ) هم أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
قَوْله: (فَمن اعْتدى بعد ذَلِك) ، أَي: بعد التَّخْفِيف
وَتجَاوز مَا شرع لَهُ من قتل غير الْقَاتِل أَو الْقَتْل
بعد أَخذ الدِّيَة، وَهُوَ معنى قَوْله: (قتل بعد قبُول
الدِّيَة) وَهُوَ على صِيغَة الْمَعْلُوم من الْمَاضِي،
وَقع تَفْسِيرا لقَوْله: (فَمن اعْتدى) . قَوْله: (فَلهُ
عَذَاب أَلِيم) نوع من الْعَذَاب شَدِيد الْأَلَم فِي
الْآخِرَة.
4498 - ح دَّثنا الحُمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيانُ حَدثنَا
عَمْروٌ قَالَ سمِعْتُ مجاهِداً قَالَ سَمِعْتُ ابنَ
عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا يَقُولُ كانَ فِي بَني
إسْرَائِيلَ القِصاصُ ولَمْ تَكُنْ فِيهِمِ الدِّيَّةُ
فَقَالَ الله تَعَالَى لِهاذِهِ الأُمَّةِ: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ القصاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بالحُرِّ
والعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ
لهُ مِنْ أخِيهِ شَيْءٌ} فالْعَفْوُ أنْ يَقْبَلَ
الدِّيَةَ فِي العَمْدِ {فاتِّباعٌ بالمعْرُوفِ وأدَاءٌ
إلَيْهِ بإحْسانٍ} يَتَّبِعُ بالمَعْرُوفِ ويُؤَدِّي
بإحْسانٍ {ذالِكَ تَخْفِيفٌ منْ رَبِّكُمْ ورَحْمَةٌ}
مِمَّا كُتبَ عَلَى مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ {فَمَنْ اعْتَدَى
بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ} قَتَلَ بَعْدَ
قَبُولِ الدِّيَةِ.
مطابقته لِلْآيَةِ أوضح مَا يكون، والْحميدِي هُوَ عبد
الله بن الزبير بن عِيسَى ونسبته إِلَى أحد أجداده وَهُوَ:
حميد بن زُهَيْر، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو
هُوَ ابْن دِينَار.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدِّيات عَن
قُتَيْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد
الْجَبَّار وَفِي الْقصاص عَن الْحَارِث بن مِسْكين.
قَوْله: (فَمن عُفيَ لَهُ من أَخِيه شَيْء) ، مَعْنَاهُ:
قبُول الدِّيَة فِي الْعمد، وَقيل: فِيمَن قتل وَله وليان
فَعَفَا أَحدهمَا فللآخر أَن يَأْخُذ مِقْدَار حِصَّته من
الدِّيَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْعَفو فِي الْآيَة
يحْتَاج إِلَى تَفْسِير، وَذَلِكَ أَن ظَاهر الْعَفو يُوجب
أَن لَا تبعة لأَحَدهمَا على الآخر، فَمَا معنى الإتباع؟
والإعفاء فَمَعْنَاه: أَن من عُفيَ عَنهُ الدَّم
بِالدِّيَةِ فعلى صَاحب الدِّيَة اتِّبَاع، أَي مُطَالبَة
بِالدِّيَةِ وعَلى الْقَاتِل أَدَاء الدِّيَة إِلَيْهِ؟
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وَأَخُوهُ: هُوَ ولي الْمَقْتُول،
وَقيل لَهُ: أَخُوهُ، لِأَنَّهُ لابسه من قبل أَنه ولي
الدَّم ومطالبه بِهِ أَو ذكره بِلَفْظ الْأُخوة ليعطف
أَحدهمَا على صَاحبه بِذكر مَا هُوَ ثَابت بَينهمَا من
الجنسية وَالْإِسْلَام. وَقَالَ: إِن عَفا يتَعَدَّى: بعن،
لَا بِاللَّامِ، فَمَا وَجه قَوْله: (فَمن عَفا لَهُ؟)
قلت: يتَعَدَّى: بعن إِلَى الْجَانِي وَإِلَى الذَّنب،
فَيُقَال: عَفَوْت عَن فلَان وَعَن ذَنبه. قَالَ الله
تَعَالَى: {عَفا الله عَنْك} (التَّوْبَة: 43) وَعَفا الله
عَنْهَا فَإِذا تعدى إِلَى الذَّنب قيل: عَفَوْت لفُلَان
عَمَّا جنى، كَمَا تَقول: عَفَوْت لَهُ ذَنبه وتجاوزت لَهُ
عَنهُ، وعَلى هَذَا مَا فِي الْآيَة كَأَنَّهُ قيل فَمن
عَفا لَهُ عَن جِنَايَته، فاستغنى عَن ذكر الْجِنَايَة.
قَوْله: (شَيْء) ، أَي: من الْعَفو، إِنَّمَا قيل ذَلِك
للإشعار بِأَن بعض الْعَفو عَن الدَّم أَو عَفْو بعض
الْوَرَثَة يسْقط الْقصاص وَلم يجب إِلَّا الدِّيَة.
قَوْله: (فاتباع بِالْمَعْرُوفِ) ، أَي: فَلْيَكُن
اتِّبَاع، أَو: فَالْأَمْر اتِّبَاع، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن
قريب. قَوْله: (ذَلِك) ، أَي: الحكم الْمَذْكُور من
الْعَفو وَالدية، لِأَن أهل التَّوْرَاة كتب عَلَيْهِم
الْقصاص اليته وَحرم عَلَيْهِم الْعَفو واخذ الدِّيَة
وعَلى أهل الْإِنْجِيل الْعَفو وَحرم الْقصاص وَالدية
وخيرت هَذِه الْأمة بَين الثَّلَاث: الْقصاص وَالدية
وَالْعَفو، وتوسعة عَلَيْهِم وتيسيراً. قَوْله: (كَمَا كتب
على من كَانَ قبلكُمْ) هم أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
قَوْله: (فَمن اعْتدى بعد ذَلِك) ، أَي: بعد التَّخْفِيف
وَتجَاوز مَا شرع لَهُ من قتل غير الْقَاتِل أَو الْقَتْل
بعد أَخذ الدِّيَة، وَهُوَ معنى قَوْله: (قتل بعد قبُول
الدِّيَة) وَهُوَ على صِيغَة الْمَعْلُوم من الْمَاضِي،
وَقع تَفْسِيرا لقَوْله: (فَمن اعْتدى) . قَوْله: (فَلهُ
عَذَاب أَلِيم) نوع من الْعَذَاب شَدِيد الْأَلَم فِي
الْآخِرَة.
(18/101)
4499 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عبْدِ الله
الأنْصارِيُّ حَدثنَا حُمَيْدٌ أنَّ أنْساً حَدَّثَهُمْ
عنِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كِتابُ الله
القِصاصُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة والْحَدِيث أخرجه
البُخَارِيّ فِي الصُّلْح وَفِي الدِّيات وَهنا تَارَة
مطولا وَتارَة مُخْتَصرا، وَهَذَا من ثلاثيات البُخَارِيّ،
وَهُوَ: السَّادِس عشر. مِنْهَا. قَوْله: (كتاب الله) أَي:
حكم الله ومكتوبه، وَكتاب الله مُبْتَدأ، أَو: الْقصاص،
خَبره وَيجوز النصب فيهمَا على أَن الأول إغراء
وَالثَّانِي بدل مِنْهُ، وَيجوز فِي الثَّانِي الرّفْع على
أَنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر أَي: اتبعُوا كتاب الله
فِيهِ الْقصاص.
4500 - ح دَّثني عبْدُ الله بنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عبْدَ الله
بنَ بَكْرٍ السَّهْمِيَّ حدَّثنا حُمَيْدٌ عنْ أنَسٍ أنَّ
الرُّبَيِّعَ عمَّتَهُ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جارِيَةٍ
فَطَلَبُوا إليْها العَفْوَ فأبَوْا فَعَرَضُوا الأرْشَ
فأبَوْا فأتَوْا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وأبَوْ إلاَّ القِصاصَ فأمَرَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بالقِصَاصِ فَقَالَ أنَسُ بنُ النَّضْرِ
يَا رسُولَ الله أتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ لاَ
والَّذِي بَعَثَكَ بالحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُها
فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أنَسُ
كِتابُ الله القِصاصُ فرَضِيَ القَوْمُ فَعَفَوْا فَقَالَ
رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ مِنْ عِبادِ
الله مَنْ لوْ أقْسَمَ عَلَى الله لأبَرَّهُ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث مضى فِي: بَاب
الصُّلْح فِي الدِّيَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن
مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ عَن حميد عَن أنس،
وَقَالَ الْحَافِظ الْمزي: لم يذكرهُ أَبُو مَسْعُود
وَذكره خلف، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
وَالربيع، بِضَم الرَّاء مصغر الرّبيع ضد الخريف وَهِي بنت
النَّضر عمَّة أنس، وَالْجَارِيَة الْمَرْأَة الشَّابَّة
(وَأنس بن النَّضر) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد
الْمُعْجَمَة، هُوَ: أَخُو الرّبيع. قَوْله: (لَأَبَره)
أَي: جعله باراً فِي قسمه وَفعل مَا أَرَادَهُ، قيل: كَيفَ
يَصح الْقصاص فِي الْكسر وَهُوَ غير مضبوط؟ وَأجِيب: بِأَن
المُرَاد بِالْكَسْرِ: الْقلع، أَو كَانَ كسراً مضبوطاً.
قلت: فِي الْجَواب نظر، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: أَرَادَ
بِالْكَسْرِ الْكسر الَّذِي يُمكن فِيهِ الْمُمَاثلَة،
وَقيل: مَا امْتنع عَن قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَأنكر الْكسر. وَأجِيب: بِأَنَّهُ أَرَادَ
لاستشفاع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
إِلَيْهِم وَلم يرد بِهِ الْإِنْكَار، أَو أَنه قبل أَن
يعرف أَن كتاب الله الْقصاص على التَّعْيِين، وَظن
التَّخْيِير بَين الْقصاص وَالدية.
24 - (بابٌ: {يَا أيُّها الذِينَ آمنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ كَمَا كتِبَ عَلَى الذِينَ مِن قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الْبَقَرَة: 183)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر قَوْله: (يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا) الْآيَة. قَوْله: (كتب) ، أَي: فرض عَلَيْكُم
الصّيام وَهُوَ الْإِمْسَاك عَن المفطرات الثَّلَاث:
الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع نَهَارا مَعَ النِّيَّة.
قَوْله: (كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ) أَي: على
الْأُمَم الَّذين مضوا قبلكُمْ. قَالَ النَّسَفِيّ فِي
(تَفْسِيره) : تكلمُوا فِي قَضِيَّة التَّشْبِيه، قيل:
إِنَّه تَشْبِيه فِي أصل الْوُجُوب لَا فِي قدر الْوَاجِب،
وَكَانَ الصَّوْم على آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
أَيَّام الْبيض، وَصَوْم عَاشُورَاء على قوم مُوسَى،
وَكَانَ على كل أمة صَوْم، والتشبيه لَا يَقْتَضِي
التَّسْوِيَة من كل وَجه، وَيُقَال: هَذَا قَول
الْجُمْهُور، وأسنده ابْن أبي حَاتِم والطبري عَن معَاذ
وَابْن مَسْعُود وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ، وَزَاد الضَّحَّاك: وَلم يزل الصّيام
مَشْرُوعا فِي زمن نوح عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالَ
النَّسَفِيّ: وَقيل: هَذَا التَّشْبِيه فِي الأَصْل
وَالْقدر وَالْوَقْت جَمِيعًا. وَكَانَ على الْأَوَّلين
صَوْم رَمَضَان لكِنهمْ زادوا فِي الْعدَد ونقلوه من
أَيَّام الْحر إِلَى أَيَّام الِاعْتِدَال، وروى فِيهِ
ابْن أبي حَاتِم من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا بِإِسْنَاد
فِيهِ مَجْهُول، وَلَفظه: صِيَام رَمَضَان كتبه الله
تَعَالَى على الْأُمَم قبلكُمْ، وَبِهَذَا قَالَ الْحسن
الْبَصْرِيّ وَالسُّديّ.
(18/102)
4501 - ح دَّثنا مُسَدَّدُ حدَّثنا يَحْيَى
عنْ عُبَيْدِ الله قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ عنِ ابنِ عُمَرَ
رضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ كانَ عاشُوراءُ يَصُومُهُ أهْلُ
الجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ قَالَ مَنْ شاءَ
صامَهُ ومَنْ شاءَ لَمْ يَصُمْهُ. (انْظُر الحَدِيث 1892
وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (فَلَمَّا نزل
رَمَضَان) . وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان، وَعبيد الله
هَذَا هُوَ ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم ابْن عمر بن
الْخطاب رَضِي الله عَنهُ. وَقد مضى هَذَا فِي كتاب
الصّيام فِي: بَاب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، من وَجه آخر.
وَتقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. قَوْله: (فَلَمَّا نزل
رَمَضَان) أَي: صَوْم رَمَضَان.
4502 - ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا ابنُ
عُيَيْنَة عنِ الزُّهريَّ عَن عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ كَانَ عاشُورَاءُ
يُصامُ قَبْلَ رَمَضانَ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ قَالَ
مَنْ شَاءَ صامَ ومَنْ شَاءَ أفْطَرَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل مُطَابقَة الَّذِي قبله وَابْن
عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان والْحَدِيث مضى فِي الصّيام فِي
بَاب صَوْم يَوْم عَاشُورَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن
عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ بأتم مِنْهُ
قَوْله: (كَانَ عَاشُورَاء) ، أَي: يَوْم عَاشُورَاء (يصام
فِيهِ) قَوْله: (قبل رَمَضَان) ، أَي: قبل فرض شهر
رَمَضَان.
4503 - حدَّثني مُحْمُودٌ أخْبَرنا عُبَيْدُ الله عنْ
إسْرَائِيلَ عَن مَنْصُورٍ عنْ إبْرَاهِيم عنْ عَلْقَمَةَ
عنْ عَبْدِ الله قَالَ دَخَلَ عَلَيْهِ الأشْعَثُ وَهُوَ
يَطْعَمُ فَقَالَ اليَوْمُ عاشورَاءُ فَقَالَ كَانَ يُصامُ
قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ رَمَضَانُ فَلَمَا نَزَلَ رَمَضَانُ
تُرِكَ فَادْنُ فَكَلْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة مثل ذَلِك. ومحمود هُوَ ابْن غيلَان.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ: مُحَمَّد، وَالْأول
أصح، وَعبيد الله هُوَ ابْن مُوسَى بن باذام الْكُوفِي
وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ أَيْضا روى عَنهُ هُنَا بالواسطة،
وَإِسْرَائِيل هُوَ أَبُو يُونُس، وَمَنْصُور هُوَ ابْن
الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وعلقمة هُوَ
ابْن قيس، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن إِسْحَاق ابْن
مَنْصُور.
قَوْله: (دخل عَلَيْهِ الْأَشْعَث) ، بِفَتْح الْهمزَة
وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَفِي
آخِره ثاء مُثَلّثَة، ابْن قيس بن معدي كرب بن مُعَاوِيَة
بن جبلة الْكِنْدِيّ، قدم على رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم سنة عشر فِي وَفد كِنْدَة، وَكَانَ رئيسهم.
وَقَالَ ابْن إِسْحَاق عَن الزُّهْرِيّ قدم فِي سِتِّينَ
رَاكِبًا من كِنْدَة وَأسلم وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة
رَئِيسا مُطَاعًا فِي كِنْدَة، وَكَانَ فِي الْإِسْلَام
وجيها فِي قومه إلاّ أَنه كَانَ مِمَّن ارْتَدَّ عَن
الْإِسْلَام بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ
رَاجع الْإِسْلَام فِي خلَافَة أبي بكر رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ بعد مقتل عَليّ بن
أبي طَالب بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا بِالْكُوفَةِ. قَوْله:
(وَهُوَ يطعم) ، أَي: وَالْحَال أَن عبد الله كَانَ
يَأْكُل. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: الْأَشْعَث. قَوْله:
(فَقَالَ كَانَ يصام) ، أَي: فَقَالَ عبد الله، كَانَ
عَاشُورَاء يصام قبل أَن ينزل فرض صَوْم رَمَضَان. قَوْله:
(ترك) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. أَي: ترك صَوْمه. قَوْله:
(فادن) أَمر، من: دنا يدنو وَكَذَلِكَ قَوْله: (فَكل) أَمر
من أكل.
4504 - ح دَّثني مُحَمّدُ بنُ المُثَنَّى حَدثنَا يَحْيَى
حَدثنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ عائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا قالَتْ كانَ يَوْمُ عاشُوراءَ تَصُومُهُ
قُرَيْشٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَصُومُهُ فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ
صامَهُ وأمَرَ بِصَيامِهِ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كانَ
رَمَضَانُ الفَرِيضَةَ وتُرِكَ عاشُورَاءُ فَكانَ مَنْ
شاءَ صامَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَيحيى هُوَ الْقطَّان،
وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن
الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
والْحَدِيث مضى فِي الصّيام فِي: بَاب صِيَام عَاشُورَاء
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك
عَن هِشَام. وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
(18/103)
25 - (بابُ قَولِهِ: {أيَّاما مَعْدُودَاتٍ
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِنْ أيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرا
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَة: 184)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {أَيَّامًا
معدودات} إِلَى آخر الْآيَة. قَوْله: (أَيَّامًا) ،
مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف تَقْدِيره: صُومُوا أَيَّامًا
معدودات. يَعْنِي: فِي أَيَّام معدودات أَي: مؤقتا بِعَدَد
مَعْلُوم، وَقيل: مَنْصُوب بقوله: (ولعلكم تَتَّقُون
أَيَّامًا) أَي: فِي أَيَّام. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
انتصاب: أَيَّامًا بالصيام كَقَوْلِك: نَوَيْت الْخُرُوج
يَوْم الْجُمُعَة، وَقَالَ بَعضهم: وللزمخشري فِي إعرابه
كَلَام متعقب لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. (قلت) التعقيب فِي
كَلَام المتعقب من غير تَأمل. وَقد سَمِعت الأساتذة
الْكِبَار من عُلَمَاء الْعَرَب والعجم: أَن من رد على
الزَّمَخْشَرِيّ فِي غير الاعتقاديات فَهُوَ رد عَلَيْهِ،
والمتعقب هُوَ أَبُو الْبَقَاء حَيْثُ قَالَ: لَا يجوز أَن
ينصب بالصيام لِأَنَّهُ مصدر وَقد فرق بَينه وَبَين
أَيَّام بقوله: كَمَا كتب. وَمَا يعْمل فِيهِ الْمصدر
كالصلة، وَلَا يفرق بَين الصِّلَة والموصول بأجنبي انْتهى
(قلت) . قَالَ القَاضِي أَيْضا نصبها لَيْسَ بالصيام
لوُقُوع الْفَصْل بَينهمَا، بل بإضمار صُومُوا. (قلت)
للزمخشري فِيهِ دقة نظر وَهُوَ أَنه إِنَّمَا قَالَ:
انتصاب أَيَّامًا بالصيام نظرا إِلَى أَن قَوْله: كَمَا
كتب. حَال فَلَا يكون أَجْنَبِيّا عَن الْعَامِل والمعمول.
وَقَالَ صَاحب (اللّبَاب) يجوز أَن ينْتَصب بالصيام إِذا
جعلت: (كَمَا كتب) حَالا. وَقَالَ الزّجاج: الأجود أَن
يكون الْعَامِل فِي أَيَّامًا، الصّيام كَأَن الْمَعْنى:
كتب عَلَيْكُم أَن تَصُومُوا أَيَّامًا معدودات. وَلَقَد
أَجَاد من قَالَ:
(وَكم من عائب قولا صَحِيحا ... وآفته من الْفَهم السقيم)
قَوْله: (أَو على سفر) أَي: أَو رَاكب سفر قَوْله:
(فَعدَّة) ، أَي: فَعَلَيهِ عدَّة، وقرىء بِالنّصب
يَعْنِي: فليصم عدَّة. قَوْله: (من أَيَّام أخر) ، وَفِي
قِرَاءَة أبي: (من أَيَّام أخر مُتَتَابِعَات) . قَوْله:
(وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ) ، أَي: الصَّوْم أَي: الَّذين
لَا عذر لَهُم إِن أفطروا (فديَة طَعَام مِسْكين) نصف صَاع
من بر أَو صَاع من غَيره، وَكَانَ ذَلِك فِي أول
الْإِسْلَام حِين فرض عَلَيْهِم الصَّوْم وَلم يتعودوه
فَاشْتَدَّ عَلَيْهِم. فَرخص لَهُم فِي الْإِفْطَار
والفدية، وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: (يطوقونه) ، أَي:
يكلفونه. وَعنهُ: (يتطوقونه) ، يَعْنِي: يتكلفونه، وهم
الشُّيُوخ والعجائز وحكمهم الْإِفْطَار والفدية قَوْله:
(فَمن تطوع خيرا) ، أَي: زَاد على مِقْدَار الْفِدْيَة
قَوْله: (فَهُوَ خير لَهُ) ، أَي: فالتطوع خير لَهُ وقرىء:
(فَمن يطوع) ، بِمَعْنى: يتَطَوَّع. قَوْله: (وَأَن
تَصُومُوا) ، أَي: وصومكم أَيهَا المطيقون (خير لكم) من
الْفِدْيَة وتطوع الْخَيْر، وَفِي قِرَاءَة أبي:
(وَالصِّيَام خير لكم) .
وَقَالَ عَطَاءٌ يُفطِرُ مِنَ المَرَضِ كُلّه كَمَا قَالَ
الله تَعَالَى
أَي: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: يفْطر الْمَرِيض مُطلقًا،
أَي مرض كَانَ: كَمَا قَالَ الله عزَّ وجلَّ، من غير قيد،
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج
قَالَ: قلت لعطاء: من أَي وجع أفطر فِي رَمَضَان؟ قَالَ:
من الْمَرَض كُله.
وَقَالَ الحَسَنُ وإبْرَاهِيمُ فِي المُرْضِعِ والحامِلِ:
إذَا خَافَتا عَلَى أنْفُسِهِما
أوْ وَلَدِهِما تُقْطِرانِ ثُمَّ تَقْضِيان
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ
الخ. وَتَعْلِيق الْحسن وَصله عبد بن حميد من طَرِيق
يُونُس بن عبيد عَنهُ قَالَ: الْمُرْضع إِذا خَافت على
وَلَدهَا أفطرت وأطعمت، وَالْحَامِل إِذا خَافت على
نَفسهَا أفطرت وقضت، وَهِي بِمَنْزِلَة الْمَرِيض. وَمن
طَرِيق قَتَادَة عَن الْحسن: تفطران وتقضيان، وَتَعْلِيق
إِبْرَاهِيم وَصله عبد بن حميد أَيْضا من طَرِيق أبي معشر
عَنهُ. قَالَ: الْحَامِل والمرضع إِذا خافتا أفطرتا وقضتا
صومهما.
وَأمَّا الشَّيْخُ الكَبِيرُ إذَا لَمْ يُطِقِ الصِّيامَ
فَقَدْ أطْعَمَ أنَسٌ بَعْدَ مَا كَبِرَ
عَاما أوْ عَامَيْنِ كلَّ يَوْمِ مِسْكِينا خُبْرا
وَلَحْما وَأفْطَرَ
(18/104)
أَي: وَأما الشَّيْخ الْكَبِير إِذا لم
يقدر على الصَّوْم فقد أطْعم أنس بن مَالك بَعْدَمَا كبر
بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة. قَوْله: (عَاما) ، أَي: فِي
عَام. قَوْله: (أَو عَاميْنِ) شكّ من الرَّاوِي تَقْدِير
الْكَلَام. أما الشَّيْخ الْكَبِير إِذا لم يطق الصَّوْم.
فقد اسْتحق الْأكل يَأْكُل وَلَيْسَ قَوْله: فقد أطْعم
جَوَاب أما بل هُوَ دَلِيل على الْجَواب محذوفا كَمَا
قُلْنَاهُ: وروى عبد بن حميد من طَرِيق النَّضر بن أنس عَن
أنس: أَنه أفطر فِي رَمَضَان وَكَانَ قد كبر، فأطعم
مِسْكينا كل يَوْم. انْتهى وَكَانَ أنس حِينَئِذٍ فِي
عشرَة الْمِائَة.
قِرَاءَةَ العَامَةِ يُطِيقُونَهُ وَهُوَ أكْثَرُ
دأب البُخَارِيّ أَنه يذكر عِنْد عقيب آيَة من الْقُرْآن
مَا يتَعَلَّق بلغَة لفظ مِنْهَا أَو بِقِرَاءَة فِيهَا.
قَوْله: (يطيقُونَهُ) من أطَاق يُطيق، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ عَن قريب.
4505 - ح دَّثني إسْحَاقُ أخْبَرَنَا رَوْحٌ حدَّثنا
زَكَرِيَّا بنُ إسْحَاقَ حدَّثنا عَمْرُو بنُ دِينارٍ عنْ
عَطَاءَ سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ ابنُ
عَبَّاسٍ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ هُوَ الشَّيْخُ
الْكَبِيرُ والْمَرْأةُ الكَبِيرَةُ لَا يَسْتَطِيعَانِ
أنْ يَصُومَا فَلْيُطْعِما مَكانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينا.
إِسْحَاق هُوَ ابْن رَاهَوَيْه. قَالَ بَعضهم: وَقَالَ
صَاحب (التَّوْضِيح) ، إِسْحَاق هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم،
كَمَا صرح بِهِ أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) قلت روى
البُخَارِيّ عَن خَمْسَة أنفس كل مِنْهُم يُسمى إِسْحَاق
بن إِبْرَاهِيم وَلم يبين أَي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
هُوَ، وَالظَّاهِر أَنه إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم الَّذِي
يُقَال لَهُ. رَاهَوَيْه، لِأَنَّهُ روى عَن روح بن
عبَادَة عَن زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق الْمَكِّيّ عَن عَمْرو
بن دِينَار الْمَكِّيّ عَن عَطاء ابْن أبي رَبَاح
الْمَكِّيّ.
قَوْله: (يطوقونه) بِضَم الْيَاء وَتَخْفِيف الطَّاء
وَتَشْديد الْوَاو على الْبناء للْمَجْهُول بِمَعْنى
يتكلفونه، وَكَذَا وَقع تَفْسِيره عِنْد النَّسَائِيّ
وَهِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود أَيْضا قَوْله: (قَالَ ابْن
عَبَّاس) إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى أَن ابْن عَبَّاس لَا
يرى النّسخ فِي هَذَا، وَقد خَالفه الْجُمْهُور. وَحَدِيث
مسلمة الَّذِي يَأْتِي عَن قريب يدل على أَنَّهَا
مَنْسُوخَة وَحَاصِل الْأَمر أَن النّسخ ثَابت فِي حق
الصَّحِيح الْقيم بِإِيجَاب الصّيام عَلَيْهِ لقَوْله
تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْك الشَّهْر فليصمه} (الْبَقَرَة:
185) وَأما الشَّيْخ الفاني الْهَرم الَّذِي لَا
يَسْتَطِيع الصَّوْم فَلهُ أَن يفْطر وَلَا قَضَاء
عَلَيْهِ، وَلكنه هَل يجب عَلَيْهِ إِذا أفطر أَن يطعم عَن
كل يَوْم مِسْكينا إِذا كَانَ ذَا جدة، فِيهِ قَولَانِ
للْعُلَمَاء: أَحدهمَا: لَا يجب كَالصَّبِيِّ وَهُوَ أحد
قولي الشَّافِعِي. وَالثَّانِي: هُوَ الصَّحِيح وَعَلِيهِ
أَكثر الْعلمَاء: أَنه يجب عَلَيْهِ فديَة عَن كل يَوْم،
كَمَا فسره ابْن عَبَّاس على قِرَاءَة: يطوقون، أَي:
يتجشمونه. كَمَا قَالَه ابْن مَسْعُود وَغَيره، وَهُوَ
اخْتِيَار البُخَارِيّ حَيْثُ قَالَ: وَأما الشَّيْخ
الْكَبِير، الخ كَمَا مر آنِفا.
26 - (بَاب: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ} (الْبَقَرَة: 185)
أَي: هَذَا فِي بَيَان قَوْله تَعَالَى:} {فَمن شهد} أَي:
فَمن كَانَ شَاهدا أَي حَاضرا مُقيما غير مُسَافر فِي
الشَّهْر فليصمه وَلَا يفْطر قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
الشَّهْر، مَنْصُوب على الظّرْف وَكَذَلِكَ الْهَاء فِي:
فليصمه وَلَا يكون مَفْعُولا لِأَنَّهُ انْتهى. قلت:
أَرَادَ بِهَذَا الرَّد على من قَالَ أَنه مفعول بِهِ
وَمثل لما قَالَه بقوله كَقَوْلِك: شهِدت الْجُمُعَة،
لِأَن الْمُقِيم وَالْمُسَافر كِلَاهُمَا شَاهِدَانِ
للشهر.
4506 - ح دَّثنا عَياش بن الوَلِيدِ حدَّثنا عَبْدُ
الأَعْلَى حدَّثنا عُبَيْدُ الله عنْ نافِعٍ عنِ ابنِ
عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُما أنَّهُ قَرَأَ فِدْيَةُ
طَعَامِ مَسَاكِينَ قَالَ هِيَ مَنْسُوخَةٌ.
عَيَّاش، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة
ابْن الْوَلِيد الرقام الْبَصْرِيّ يروي عَن عبد
الْأَعْلَى السَّامِي الْبَصْرِيّ عَن عبيد الله بن عمر بن
حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ.
قَوْله: (فديَة طَعَام) بِالْإِضَافَة ومساكين، بِالْجمعِ
وَهِي قِرَاءَة نَافِع وَابْن ذكْوَان وَالْبَاقُونَ
بتنوين فديَة، وتوحيد: مِسْكين، وَطَعَام بِالرَّفْع على
أَنه بدل من فديَة. قَوْله: (هِيَ مَنْسُوخَة) ، أَي:
الْآيَة الَّتِي هِيَ قَوْله: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ}
(الْبَقَرَة: 184) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب،
وَرجحه ابْن الْمُنْذر من جِهَة قَوْله: {وَأَن
(18/105)
تَصُومُوا خير لكم} (الْبَقَرَة: 184) قَالَ: لِأَنَّهَا
لَو كَانَت فِي الشَّيْخ الْكَبِير الَّذِي لَا يُطيق
الصّيام لم يُنَاسب أَن يُقَال: {وَإِن تَصُومُوا خير لكم}
مَعَ أَنه لَا يُطيق الصّيام.
4507 - ح دَّثنا قُتَيْبَةُ حدَّثنا بَكْرُ بنُ مُضَرَ عنْ
عَمْرو بن الحَارِثِ عنْ بُكَيْرِ بن عَبْدِ الله عنْ
يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ عَنْ سَلَمَةَ
قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أرَادَ أنْ
يُفْطِرَ وَيَقْتَدِيَ حَتَّى نَزَلَتِ الآيةُ الَّتِي
بَعْدَها فَنَسَخَتْها.
هَذَا أَيْضا صَرِيح فِي دَعْوَى النّسخ وَأخرجه مُسلم فِي
الصَّوْم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا فِيهِ
وَالنَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير، خمستهم عَن قُتَيْبَة عَن
بكر بن مُضر.
قَالَ أبُو عبْدِ الله مَاتَ بُكَيْرٌ قَبْلَ يَزِيدَ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، هَذَا ثَبت فِي
رِوَايَة المستعلى وَحده، أَي: مَاتَ بكير بن عبد الله بن
الْأَشَج الرَّاوِي عَن يزِيد بن أبي عبيد مولى مسلمة قبل
شَيْخه يزِيد، وَكَانَت وَفَاة بكير سنة عشْرين وَمِائَة،
وَقيل: قبلهَا أَو بعْدهَا، وَمَات يزِيد سنة سِتّ أَو سبع
وَأَرْبَعين وَمِائَة. |