عمدة القاري شرح صحيح البخاري

27 - (بَاب: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِيَّامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ علِمَ الله أنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسُكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} (الْبَقَرَة: 187)

أَي: هَذَا فِي بَيَان أَحْكَام هَذِه الْآيَة وَهَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر. وسَاق فِي رِوَايَة كَرِيمَة إِلَى آخر الْآيَة قَوْله: (أحل لكم) وقرىء (أُحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث) على بِنَاء الْفَاعِل فِي: أُحل، وبنصب الرَّفَث أَي أحل الله لكم الرَّفَث أَي: الْجِمَاع. وَقَرَأَ عبد الله الرفوث، وَإِنَّمَا أفْصح فِيمَا يَنْبَغِي أَن يكنى عَنهُ استقباحا لما وجد مِنْهُم قبل الْإِبَاحَة كَمَا سَمَّاهُ اختنانا لأَنْفُسِهِمْ عدى بِكَلِمَة إِلَى لتَضَمّنه معنى الْإِفْضَاء وَسبب نزُول الْآيَة هُوَ دفع الْمَشَقَّة عَن عباده، وَذَلِكَ أَن الرجل كَانَ يحل لَهُ الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع إِلَى أَن يُصَلِّي الْعشَاء الْآخِرَة أَو يرقد، فَإِذا صلى أَو رقد وَلم يفْطر حرم عَلَيْهِ الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع إِلَى الْقَابِلَة. ثمَّ أَن نَاسا من الْمُسلمين أَصَابُوا من الطَّعَام وَالشرَاب بعد الْعشَاء مِنْهُم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ وَاقع أَهله بعد الْعشَاء، فَلَمَّا اغْتسل أَخذ يبكي وَيَلُوم نَفسه فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأخْبرهُ بِمَا فعل. وَقَامَ نَاس أَيْضا فَاعْتَرفُوا بِمَا كَانُوا صَنَعُوا بعد الْعشَاء. فَنزلت رخصَة من الله وَرفع مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام قَوْله: (هن لِبَاس لكم) اسْتِئْنَاف كالبيان لسَبَب الْإِحْلَال، وَلما كَانَ الرجل وَالْمَرْأَة يعتنقان ويشتمل كل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه فِي عناقه شبه باللباس الْمُشْتَمل عَلَيْهِ. قَوْله: (تختانون أَنفسكُم) ، أَي: تظلمونها وتنقصونها حظها من الْخَيْر والاختنان من الختن كالاكتساب من الْكسْب فِيهِ زِيَادَة شدَّة. قَوْله: (فَتَابَ عَلَيْكُم) ، أَي: حِين تبتم من الْمَحْظُور. قَوْله: (فَالْآن باشروهن) ، أَي: فِي الْوَقْت الَّذِي كَانَ يحرم عَلَيْكُم الْجِمَاع فِيهِ. والمباشرة المجامعة لتصلاق بشرة كل مِنْهُم بِصَاحِبِهِ. قَوْله: (وابتغوا مَا كتب الله لكم) ، أَي: اطلبوه يُقَال: بغى الشَّيْء يبغيه بغيا وابتغاه يبتغيه ابْتِغَاء. وَمعنى: (مَا كتب الله لكم) مَا قَضَاهُ لكم من الْوَلَد. وَقيل: مَا أحل لكم من الْجِمَاع. وَقيل: مَا كتب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَالْأَمر أَمر إِبَاحَة وَقَالَ أهل الظَّاهِر أَمر إِيجَاب وَختم.

4508 - ح دَّثنا عُبَيْدُ الله عنْ إسْرَائِيلَ عنْ أبِي إسْحَاقَ عنِ البَرَاءِ وَحَدَّثنا أحْمَدُ بنُ عُثْمانَ حدَّثنا شُرَيْحُ بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ يوسُفَ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي إسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ البرَاءَ رَضِي الله تَعالَى عنهُ لمَّا نَزَل صَوْمُ رَمَضَانَ كانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّساءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ وكانَ رجالٌ يَخُونون أنْفُسَهُمْ فأنْزَلَ الله تَعَالَى {عَلِمَ الله أنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكْمْ} .

(18/106)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَأنْزل الله) ، إِلَى آخِره وَأخرجه من طَرِيقين (الأول) : عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي عَن جده أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء بن عَازِب (وَالثَّانِي) : عَن أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم عَن شرح، بالشين الْمُعْجَمَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة عَن إِبْرَاهِيم بن يُوسُف عَن أَبِيه يُوسُف بن إِسْحَاق عَن جده أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ بِالطَّرِيقِ الأول فِي الصَّوْم عَن عبيد الله أَيْضا وَأخرج الثَّانِي هُنَا فَقَط، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (كَانُوا لَا يقربون النِّسَاء) وَقد اقْتصر هُنَا على إتْيَان النِّسَاء وَالَّذِي مضى فِي كتاب الصّيام من حَدِيث الْبَراء: أَنهم كَانُوا لَا يَأْكُلُون وَلَا يشربون إِذا نَامُوا، وَأَن الْآيَة نزلت فِي ذَلِك: وَلَكِن وَردت أَحَادِيث تدل على عدم الْفرق فَحِينَئِذٍ يحمل قَوْله: (كَانُوا لَا يقربون النِّسَاء) على الْغَالِب فتنفق الْأَخْبَار قَوْله: (وَكَانَ رجال يخونون أنفسهم) مِنْهُم عمر بن الْخطاب وَكَعب بن مَالك.

28 - (بابُ قوْله: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وأنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} إِلَى قَوْلِهِ {تُتَّقون} {الْعَاكِفُ المُقِيمُ} (الْبَقَرَة: 187)

قَوْله تَعَالَى: {وكلوا وَاشْرَبُوا} أَمر إِبَاحَة أَبَاحَ الله تَعَالَى الْأكل وَالشرب مَعَ مَا تقدم من إِبَاحَة الْجِمَاع فِي أَي اللَّيْل شَاءَ الصَّائِم إِلَى أَن يتَبَيَّن ضِيَاء الصَّباح من سَواد اللَّيْل، وَعبر عَن ذَلِك بالخيط الْأَبْيَض وَالْخَيْط الْأسود وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ الْخَيط أول مَا يَبْدُو من الْفجْر الْمُعْتَرض فِي الْأُفق كالخيط الْمَمْدُود وَالْخَيْط الْأسود مَا يَمْتَد مَعَه من غسق اللَّيْل، شبههما بالخيط الْأَبْيَض وَالْأسود. قَوْله: (من الْفجْر) بَيَان الْخَيط الْأَبْيَض وَاكْتفى بِهِ عَن بَيَان الْخَيط الْأسود. لِأَن بَيَان أَحدهمَا للْآخر، وَكَانَ هَذَا تَشْبِيها مخرجا من بَاب الِاسْتِعَارَة. قَوْله: (وَلَا تباشروهن) ، أَي: وَلَا تجامعوهن. وَالْحَال أَنكُمْ (عاكفون) أَي: معتكفون فِيهَا وَالِاعْتِكَاف هُوَ اللّّبْث فِي الْمَسْجِد بنية التَّعَبُّد.

4509 - ح دَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ حُصَيْنٍ عَن الشَّعْبِيّ عَن عَدِيّ قَالَ أخَذَ عَدِيٌّ عِقالاً أبْيَضَ وَعِقالاً أسْوَدَ حَتَّى كَانَ بَعْضُ اللَّيْلِ نَظَرَ فَلَمْ يَسْتَبِينا فَلَمَّا أصْبَحَ قَالَ يَا رَسُولَ الله جَعَلْتُ تَحْتَ وَسَادَتِي عِقَالَيْنِ قَالَ إنَّ وَسَادَك إِذا لَعَرِيضٌ أنْ كَانَ الخَيْطُ الأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ تَحْتَ وِسَادَتِكَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي ذكر الْخَيط الْأَبْيَض وَالْأسود وَأَبُو عوَانَة بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة الوضاح الْيَشْكُرِي، وحصين، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، وَالشعْبِيّ عَامر بن شرَاحِيل، والْحَدِيث مضى فِي الصّيام فِي بَاب قَوْله تَعَالَى: (وكلوا وَاشْرَبُوا) وَتقدم الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

4510 - ح دَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا جَرِيرٌ عنْ مُطَرَفٍ عَن الشَّعْبِيّ عَنْ عَدِيَّ بن حاتمٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قُلْتُ يَا رسولَ الله مَا الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ أهُما الخَيْطانِ قَالَ إِنَّك لَعَرِيضُ القَفا إنْ أبْصَرْتَ الخَيْطَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَا بَلْ هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ.

هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عدي عَن قُتَيْبَة عَن جرير بن عبد الحميد عَن مطرف بِضَم الْمِيم وَفتح الطَّاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة ابْن طريف إِلَى آخِره.

4511 - ح دَّثنا ابنُ أبِي مَرْيَمَ حدَّثنا أبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بنُ مُطَرَّفٍ حدَّثني أبُو حَازِمٍ عنْ سَهْلٍ بنِ سَعْدٍ قَالَ وَأُنْزِلَتُ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ وَلَمْ يَنْزِلْ

(18/107)


مِنَ الفَجْرِ وَكَانَ رِجالُ إذَا أرَدُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالخَيْطَ الأَسْوَدَ وَلا يَزَالُ يَأكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا فأنْزَلَ الله بَعْدَهُ مِنَ الفَجْرِ فَعَلِمُوا أنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم الْبَصْرِيّ، وَأَبُو غَسَّان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة مُحَمَّد بن مطرف بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من التطريف بِالطَّاءِ الْمُهْملَة مِلَّة وبالراء الْمدنِي، وَأَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي سَلمَة بن دِينَار. والْحَدِيث مضى فِي الصّيام فِي بَاب قَوْله: {كلوا وَاشْرَبُوا} (الْبَقَرَة: 187) بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

29 - (بابُ قَوْلِهِ: {لَيْسَ الْبِرُّ بأنْ تَأتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلاكِنَّ البرُّ مَنِ اتَّقَى وَأَتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابها وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الْبَقَرَة: 189)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَوْله: (وَلَيْسَ الْبر) الْآيَة كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره سَاق إِلَى آخر الْآيَة، وَاخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة. فروى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء، قَالَ: كَانَت الْأَنْصَار إِذا قدمُوا من سفر لم يدْخل الرجل من قبل بَابه، فَنزلت هَذِه الْآيَة وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: كَانَ أَقوام الْجَاهِلِيَّة إِذا أَرَادَ أحدهم سفرا أَو خرج من بَيته يُرِيد سَفَره الَّذِي خرج لَهُ ثمَّ بدا لَهُ بعد خُرُوجه أَن يُقيم ويدع سَفَره لم يدْخل الْبَيْت من بَابه وَلَكِن يتسوره من قبل ظَهره. فَقَالَ الله تَعَالَى: {لَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} (الْبَقَرَة: 189) الْآيَة. وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ الرجل إِذا اعْتكف لم يدْخل من بَاب الْبَيْت فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح: كَانَ أهل يثرب إِذا رجعُوا من عيدهم دخلُوا مَنَازِلهمْ من ظُهُورهَا، ويرون ذَلِك من أدنى الْبر فَقَالَ الله تَعَالَى: {لَيْسَ البربان تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} (الْبَقَرَة: 189) .

4512 - ح دَّثنا عُبَيْدُ الله بنُ مُوسَى عنْ إسْرَائِيلَ عنْ أبِي إسْحَاقَ عَن البَرَاءِ قَالَ كانُوا إذَا أحْرَمُوا فِي الجاهِلِيَّةِ أتُوا البَيْتَ مِنْ ظُهْرِهِ فَأنْزَلَ الله {وَلَيْسَ البِرُّ بأنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورها وَلاكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأَتُوا البُيُوتَ مِنْ أبْوابها} .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْرَائِيل هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق يروي عَن جده أبي إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي الْكُوفِي.
والْحَدِيث من أَفْرَاده بِهَذَا الطَّرِيق وَعَن الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن جَابر كَانَت قُرَيْش تدعى الحمس، وَكَانُوا لَا يدْخلُونَ من الْأَبْوَاب فِي الْإِحْرَام، وَكَانَت الْأَنْصَار وَسَائِر الْعَرَب لَا يدْخلُونَ الْأَمْن الْبَاب فِي الْإِحْرَام فَبينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي بُسْتَان إِذْ خرج من بَابه وَخرج مَعَه قُطْبَة بن عَامر الْأنْصَارِيّ: فَقَالُوا يَا رَسُول الله أَن قُطْبَة بن عَامر رجل فَاجر، وَإنَّهُ خرج مَعَك من الْبَاب فَقَالَ لَهُ: مَا حملك على مَا صنعت؟ قَالَ: رَأَيْتُك فعلته ففعلته. فَقَالَ إِنِّي رجل أحمس. قَالَ: فَإِن ديني دينك، فَأنْزل الله: {وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} (الْبَقَرَة: 189) الْآيَة قلت الحمس: بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وبسين مُهْملَة جمع أحمس: وهم قُرَيْش وكنانة وجديلة قيس سمو: حمسا لأَنهم تحمسوا فِي دينهم أَي: تشددوا والحماسة الشجَاعَة وَكَانُوا يقفون بِمُزْدَلِفَة وَلَا يقفون بِعَرَفَة وَيَقُولُونَ نَحن أهل الله فَلَا تخرج من الْحرم وَكَانُوا يدْخلُونَ الْبيُوت من أَبْوَابهَا وهم محرمون.

30 - (بابُ قَوُلِهِ: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِن انْتَهُوا فَلا عُدْوَانَ إلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (الْبَقَرَة: 193)
.

(18/108)


أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وقاتلوهم} الْآيَة. قَوْله: قَوْله: (وقاتلوهم) أَي: الْمُشْركين. قَوْله: (حَتَّى لَا تكون فتْنَة) ، أَي: شرك، قَالَه ابْن عَبَّاس وَأَبُو الْعَالِيَة وَمُجاهد وَالْحسن وَقَتَادَة وَالربيع وَمُقَاتِل بن حبَان وَالسُّديّ وَزيد بن أسلم. قَوْله: (وَيكون الدّين) أَي: دين الله كُله لله لِأَنَّهُ الظَّاهِر العالي على سَائِر الْأَدْيَان قَوْله: (فَإِن انْتَهوا) أَي: عَن الشّرك والقتال (فَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين) فَلَا تَعْتَدوا على المنتهين لِأَن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم فَوضع قَوْله: (إلاَّ على الظَّالِمين) ، مَوضِع على المنتهين كَذَا فسره الزَّمَخْشَرِيّ لَكِن يحْتَاج إِلَى تَحْرِير الْكَلَام لِأَن هَذِه الْجُمْلَة الأسمية لَا يُمكن أَن تكون جَزَاء لِأَن الشَّرْط لَا بُد أَن يكون سَببا للجزاء وَإِثْبَات الْعدوان على سَبِيل الْحصْر على الظَّالِمين لَيْسَ سَببا لانْتِهَاء الْمُشرك عَن الشّرك. وَهَذَا الْموضع لَا يحْتَمل بسط الْكَلَام فِيهِ.

4513 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا عَبْدُ الوَهابِ حدَّثنا عُبَيْدُ الله عنْ نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا أتاهُ رجُلانٍ فِي فِتْنَةَ ابنِ الزُّبَييْر فَقَالَا إنَّ النَّاسَ ضَيَّعُوا وأنْتَ ابنُ عُمَرَ وصاحبُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا يَمْنَعُكَ أنْ تَخْرُجَ فَقال يَمْنَعُنِي أنَّ الله حَرَّمَ دَمَ أخِي فَقَالَا ألَمْ يَقلِ الله {وقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (الْبَقَرَة: 193) فَقَالَ قَاتَلْنا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ وَكَانَ الدِّينُ لله. وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَن تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَتَكُونِ الدِّينُ لِغَيْرِ الله وَزَادَ عُثْمَانُ بنُ صالِح عنِ ابنِ وَهْب قَالَ أخْبَرَنِي فلانٌ وَحَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ عنْ بَكْرٍ بنِ عَمْرٍ والمَعافِرِيَّ أنَّ بُكَيْرَ بنَ عَبْدِ الله حدَثهُ عنْ نافِعٍ أنَّ رجلا أتَى ابنَ عُمَر فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمانِ مَا حَمَلَكَ عَلَى أنْ تَحُجَّ عَام وَتَعْتَمِرَ عَاما وَتَتْرُكَ الجِهادَ فِي سَبِيلِ الله عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ عَلِمْتَ مَا رَغِّبَ الله فِيهِ قَالَ يَا ابنَ أخِي بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسِ إيمانٍ بِاللَّه وَرَسولِهِ والصلَوَاتِ الخَمْسِ وِصيامِ رَمَضَانَ وأداءِ الزَّكَاةِ وَحَجَّ البَيْتِ قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمانِ أَلا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ الله فِي كِتَابِهِ {وَإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فإنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أمْرِ الله قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَة} (الحجرات: 9) قَالَ فعَلْنا عَلَى عَهْدِ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ الإسْلامُ قَلِيلاً فَكانَ الرَّجُلْ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ إمَّا قَتَلُوهُ وَإمَّا يُعَذِّبوهُ حَتَّى كَثُرَ الإسْلامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ قَالَ فَمَا قَوْلُكَ فِي علِيٍّ وَعُثْمَانَ قَالَ أمَّا عُثْمَانُ فكأنَّ الله عَفا عَنْهُ وَأمّا أنْتُمْ فَكَرِهْتُمْ أنْ تَعْفُوا عَنْهُ وَأمّا عَلِيٌّ فَابْنُ عَمِّ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَتَمُهُ وَأشَارَ بِيَدِهِ فَقال هاذَا بَيْتُهُ حَيْثُ تَرَوْنَ.

مُطَابقَة لِلْآيَةِ ظَاهِرَة، وَفِيه عشرَة رجال (الأول) : مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة وَقد تكَرر ذكره (وَالثَّانِي) : عبد الْوَهَّاب بن عبد الحميد الثَّقَفِيّ (الثَّالِث) : عبيد الله بن عمر الْعمريّ. (الرَّابِع) : نَافِع مولى ابْن عمر. (الْخَامِس) : عُثْمَان بن صَالح السَّهْمِي وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ. وَقد أخرج عَنهُ فِي الْأَحْكَام حَدِيثا غير هَذَا. (السَّادِس) : عبد الله بن وهب (السَّابِع) : فلَان قيل إِنَّه عبيد الله بن لَهِيعَة، بِفَتْح اللَّام وَكسر الْهَاء وبالعين الْمُهْملَة. قَاضِي مصر مَاتَ سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: اجْمَعُوا على ضعفه وَترك الِاحْتِجَاج بِمَا ينْفَرد بِهِ (الثَّامِن) : حَيْوَة بن شُرَيْح الْمصْرِيّ، وَهَذَا غير حَيْوَة بن شُرَيْح الْحَضْرَمِيّ، فَلَا يشْتَبه عَلَيْك (التَّاسِع) : بكر بن عمر وَالْعَابِد الْقدْوَة الْمعَافِرِي، بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْفَاء وبالراء، وَقيل بِضَم الْمِيم نِسْبَة إِلَى المعافر بن يعفر بن مَالك بن الْحَارِث بن قُرَّة بن ادد بن يشجب بن عريب بن زيد ابْن كهلان، ينْسب إِلَيْهِ كثير وعامتهم بِمصْر (الْعَاشِر) : بكير. مصغر ابْن عبد الله بن الْأَشَج، وَمن عُثْمَان بن صَالح إِلَى هُنَا كلهم

(18/109)


مصريون.
قَوْله: (رجلَانِ) (أَحدهمَا) : الْعَلَاء بن عرار، بالمهملات وَالْأولَى مَكْسُورَة قَالَ ابْن مَاكُولَا: عَلَاء بن عرار سمع عبد الله بن عمر وروى عَنهُ أَبُو إِسْحَاق السبيعِي (وَالْآخر) حبَان: بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: صَاحب الدثنية، ضَبطه بَعضهم بِفَتْح الدَّال والثاء الْمُثَلَّثَة وَكسر النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَفْتُوحَة، وَقَالَ: هُوَ مَوضِع بِالشَّام، قلت: كل ذَلِك غلط، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الدثنية، بِكَسْر الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَسُكُون الْيَاء نَاحيَة قرب عدن. قَوْله: (فِي فتْنَة ابْن الزبير) وَهِي محاصرة الْحجَّاج عبد الله بن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَكَانَت فِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث وَسبعين، وَكَانَ الْحجَّاج أرْسلهُ عبد الْملك بن مَرْوَان لقِتَال ابْن الزبير، وَقتل عبد الله بن الزبير فِي آخر تِلْكَ السّنة وَمَات عبد الله بن عمر فِي أول سنة أَربع وَسبعين. قَوْله: (أَن النَّاس ضيعوا) ، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكسر الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة من التضييع وَهُوَ الْهَلَاك فِي الدُّنْيَا وَالدّين هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة، وَفِيه حذف تَقْدِيره: صَنَعُوا مَا ترى من الِاخْتِلَاف.
قَوْله: (وَزَاد عُثْمَان بن صَالح) أَي: زَاد على رِوَايَة مُحَمَّد بن بشار. قَوْله: (أَن رجلا) قيل: إِنَّه حَكِيم، ذكره الْحميدِي عَن البُخَارِيّ. قَوْله: (وتترك الْجِهَاد) أَي الْجِهَاد الَّذِي هُوَ الْقِتَال مَعَ هَؤُلَاءِ كالجهاد فِي سَبِيل الله فِي الْأجر، وَلَيْسَ المُرَاد الْجِهَاد الْحَقِيقِيّ الَّذِي هُوَ الْقِتَال مَعَ الْكفَّار. قَوْله: (أما قَتَلُوهُ وَأما يعذبوه) إِنَّمَا قَالَ فِي الْقَتْل بِلَفْظ الْمَاضِي وَفِي الْعَذَاب بِلَفْظ الْمُضَارع لِأَن التعذيب كَانَ مستمرا بِخِلَاف الْقَتْل. قَوْله: (فكرهتم أَن تعفوا عَنهُ) بِلَفْظ خطاب لجمع ويروى أَن يعْفُو بِالْإِفْرَادِ للْغَائِب أَي: الله عز وَجل. قَوْله: (وخنته) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وبالنون. قَالَ ابْن فَارس: الختن أَبُو الزَّوْجَة، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْأخْتَان من قبل الْمَرْأَة، والأحماء من قبل الزَّوْج، والصهر يجمع ذَلِك كُله. قَوْله: (فَهَذَا بَيته) ، يُرِيد بَين بيُوت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَرَادَ بذلك قربه.