عمدة القاري شرح صحيح البخاري

31 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأحْسِنُوا إنَّ الله يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (الْبَقَرَة: 195)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وأنفقوا} الخ. قَوْله: (وأنفقوا) عطف على قَوْله: {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} (الْبَقَرَة: 193) وَسبب نُزُولهَا أَن الْأَنْصَار كَانُوا يُنْفقُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ فَأَصَابَتْهُمْ سنة فأمسكوا، والسبيل الطَّرِيق وَالْمرَاد بِهِ طَرِيق الْخيرَات. قَوْله: (وَلَا تلقوا بأيدكم) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ الْبَاء زَائِدَة الْمَعْنى، أَي لَا تقبضوا التَّهْلُكَة أَيْدِيكُم، وَقيل: مَعْنَاهُ لَا تلقوا أَنفسكُم بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة، فالأنفس مضمرة وَالْبَاء أَدَاة وَالْأَيْدِي عبارَة عَن كل الْبدن، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {تبت يدا أبي لَهب} (المسد: 1) أَي: تب هُوَ، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: التَّهْلُكَة الْبُخْل، وَقَالَ سماك بن حَرْب عَن النُّعْمَان بن بشير فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} (الْبَقَرَة: 195) أَن يُذنب الرجل الذَّنب فَيَقُول: لَا يغْفر لي فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَلَا تلقوا بأيدكم إِلَى التَّهْلُكَة} الْآيَة، رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه، وروى عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس التَّهْلُكَة عَذَاب الله قَوْله: (وأحسنوا) فِيهِ أَقْوَال. أَحدهَا: فِي أَدَاء الْفَرَائِض وَالثَّانِي: الظَّن بِاللَّه. الثَّالِث: تفضلوا على من لَيْسَ فِي يَده شَيْء. الرَّابِع: صلوا الْخمس.
التَّهْلُكَةُ والْهَلاكُ وَاحِدٌ
يَعْنِي: كِلَاهُمَا مصدران لَكِن التَّهْلُكَة من نَوَادِر المصادر، يُقَال: هلك الشَّيْء يهْلك هَلَاكًا وهلوكا ومهلك ومهلكا وتهلكةً، وَالِاسْم الهلك، بِالضَّمِّ، والهلكة بِفَتْح اللَّام والهلاك قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَيجوز أَن يكون أصل التَّهْلُكَة بِكَسْر اللَّام كالتجربة، فأبدلت من الكسرة ضمة كَمَا جَاءَت الْجوَار فِي الْجوَار.

4516 - ح دَّثنا إسْحَاقُ أخْبَرَنا النَّضْرُ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أبَا وَائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ وأنْفِقُوا فِي سَبِيلِ الله وَلا تُلْقُوا بأيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلِكَةِ قَالَ نَزَلَتْ فِي النَّفَقَةِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِسْحَاق هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وَالنضْر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن شُمَيْل مصغر شَمل، وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة. قَوْله: (فِي النَّفَقَة) أَي: فِي ترك النَّفَقَة فِي سَبِيل الله.

(18/110)


32 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أَذَى مِنْ رأسِهِ} (الْبَقَرَة: 196)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} يَعْنِي: فَمن كَانَ بِهِ مرض يحوجه إِلَى الْحلق (أَو بِهِ أَذَى من رَأسه) وَهُوَ الْقمل أَو الْجراحَة فعلية إِذا حلق فديَة، وَيَجِيء بَيَان الْفِدْيَة عَن قريب.

4517 - ح دَّثنا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الأصْبَهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ مِعْقِلٍ قَالَ قَعَدْتُ إلَى كَعْب بن عُجْرَةَ فِي الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْكُوفَةِ فَسَألْتُهُ مِنْ صِيامٍ فَقَالَ حُمِلْتُ إلَى النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ مَا كُنْتُ أرَى أنَّ الجَهْدَ قدْ بَلَغَ بِكَ هَذَا أما تَجِدُ شَاةً قُلْتُ لَا قَالَ صُمْ ثَلاثَةَ أيَّامٍ أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ صعامٍ واحْلقْ رأسَكَ فِنَزَلْت فيَّ خاصَّةً وَهِيَ لكُمْ عَامَّةً.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس واسْمه عبد الرَّحْمَن، وَعبد الرَّحْمَن الْأَصْبَهَانِيّ بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا وبالفاء وبالياء الْمُوَحدَة، وَعبد الله بن معقل، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف وَفِي آخِره لَام ابْن مقرن الْمُزنِيّ الْكُوفِي التَّابِعِيّ. والْحَدِيث مضى فِي الْحَج فِي بَاب الْإِطْعَام فِي الْفِدْيَة، بأتم مِنْهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

33 - (بابٌ: {فَمَنْ تَمَنَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ} (الْبَقَرَة: 196)

أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَمن تمنع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج} (الْبَقَرَة: 196) وأوله: (فَإِذا أمنتم) أَي: من خوفكم وبر أتم من مرضكم وتمكنتم من أَدَاء الْمَنَاسِك، فَمن كَانَ مِنْكُم مُتَمَتِّعا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج (فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي) أَي: فَعَلَيهِ مَا اسْتَيْسَرَ. أَي: فَعَلَيهِ مَا تيَسّر مِنْهُ، يُقَال: يسر الْأَمر واستيسر. كَمَا يُقَال: صَعب واستصعب، وَمحل كلمة مَا رفع بِالِابْتِدَاءِ وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا أَي: فاهدوا مَا اسْتَيْسَرَ من الْهدى، وَهُوَ اسْم لما يهدى إِلَى الْحرم من بعير أَو بقرة أَو شَاة.

34

- (بابٌ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} (الْبَقَرَة: 198) [/ يَا
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح} أَي حرج أَو إِثْم (أَن تَبْتَغُوا) أَي: أَن تَطْلُبُوا (فضلا من ربكُم) أَي: عَطاء مِنْهُ وتفضلاً، وَهُوَ النَّفْع وَالرِّبْح وَالتِّجَارَة.

(18/111)


4519 - ح دَّثني مُحَمَّدٌ قَالَ أخْبَرَني ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ عَمْرو عَن ابنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ كانَتْ عُكاظُ وَمَجَنةُ وذُو المَجاز أسْوَاقا فِي الجَاهِلِيَّةِ فَتأثَّمُوا أَن يَتَجِرُوا فِي المَوَاسِمِ فَنَزِلَتْ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} (الْبَقَرَة: 198) فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام بن الْفرج البيكندي البُخَارِيّ، وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان، وَعمر وَهُوَ ابْن دِينَار. والْحَدِيث مضى فِي الْحَج فِي: بَاب التِّجَارَة أَيَّام الْمَوْسِم.
وعكاظ: بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْكَاف وبالظاء الْمُعْجَمَة، ومجنة، بِفَتْح الْمِيم وَالْجِيم وَتَشْديد النُّون (وذوا الْمجَاز) ضد الْحَقِيقَة. وَهَذِه كَانَت أسواقا للْعَرَب. قَوْله: (فتأثموا) ، أَي: فتحرجوا قَوْله: (أَن يتجروا) أَي: بِأَن يتجروا. قَوْله: (فِي المواسم) ، جمع موسم، وَسمي بِهِ لِأَنَّهُ معلم مُجْتَمع النَّاس إِلَيْهِ. قَوْله: (فِي مواسم الْحَج) قيل: هَذَا اللَّفْظ عِنْد ابْن عَبَّاس من الْقُرْآن من تَتِمَّة الْآيَة، وَالصَّحِيح أَنه تَفْسِير مِنْهُ لمحل ابْتِغَاء الْفضل، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَي: فِي مواسم الْحَج.

35 - (بابٌ: {ثُمَّ أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أفاضَ النَّاسُ} (الْبَقَرَة: 199)

أَي: هَذَا بَاب فِيهِ ذكر قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} أَي: لتكن إفاضتكم من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس وَلَا تكن من الْمزْدَلِفَة، وَحَاصِل الْمَعْنى: أَن الله عز وَجل، أَمر الْوَاقِف بِعَرَفَات أَن يدْفع إِلَى الْمزْدَلِفَة ليذكر الله تَعَالَى عِنْد الْمشعر الْحَرَام وَأمره أَن يكون وُقُوفه مَعَ جُمْهُور النَّاس يصنعون ويقفون بهَا. غير أَن قُريْشًا لم يَكُونُوا يخرجُون من الْحرم، فيقفون فِي طرف الْحرم عِنْد أدنى الْجَبَل وَيَقُولُونَ: نَحن أهل الله فِي بلدته وقطان بَيته، فَلَا يخرجُون مِنْهُ فيقفون بِجمع وَسَائِر النَّاس بِعَرَفَات.

4520 - ح دَّثنا عليُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ خازِمٍ حدَّثنا هِشامٌ عنْ أبِيهِ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَها يَقِفُون بِالمُزْدَلِفَةِ وَكَانُوا يُسَمِّوْنَ الحُمْسَ وَكَانِ سَائِرُ العَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ فَلَمَا جَاءَ الإسْلامُ أمَرَ الله نَبِيَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَأْتِي عَرَفَاتٍ ثُمَّ يَقِفُ بهَا ثُمَّ يُفِيضَ مِنْها فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أفَاضَ النَّاسُ} .

مطابقته هِيَ معنى التَّرْجَمَة وَمُحَمّد بن خازم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وبالزاي: أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير.
قَوْله: (وَمن دَان دينهَا) أَي: دين قُرَيْش قَالَ الْخطابِيّ: الْقَبَائِل الَّتِي كَانَت تدين مَعَ قُرَيْش هم بَنو عَامر بن صعصعة وَثَقِيف وخزاعة. وَكَانُوا إِذا أَحْرمُوا لَا يتناولون السّمن والأقط وَلَا يدْخلُونَ من أَبْوَاب بُيُوتهم، وَكَانُوا يسمون الْخمس، لأَنهم تحمسوا فِي دينهم وتصلبوا، والحماسة الشدَّة. قَوْله: (ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس) ثمَّ سَائِر الْعَرَب غير الحمس، وهم قُرَيْش وَمن كَانَ على دينهم، وَقيل: المُرَاد من النَّاس آدم عَلَيْهِ السَّلَام. وَقيل: إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، وقرىء شاذا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِي، يَعْنِي: آدم عَلَيْهِ السَّلَام.

4521 - ح دَّثني مُحَمَّدُ بنُ أبِي بَكْرٍ حدَّثنا فُضَيْلُ بنُ سُلَيْمَانَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ أَخْبرنِي كُرَيْبٌ عنِ ابْن عباسٍ قَالَ تَطَوُّفُ الرَّجُلِ بِالْبَيْتِ مَا كَانَ حَلالاً حَتَّى يُهِلَّ بِالحَجِّ فَإذَا رَكِبَ إلَى عَرَفَةَ فَمَنْ تَيَسَّرَ لهُ هَدِيَّة مِنَ الإبِلِ أَو الْبَقَرِ أَو الغَنَمِ مَا تَيَسَّرَ لهُ مِنْ ذَلِكَ أيّ ذَلِكَ شَاءَ غَيْرَ أنْ لمْ يَتَيَسَّرَ لهُ فَعَلَيْهِ ثَلاثَةُ أيَّامٍ فِي الحَجِّ وَذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ فإنْ كَانَ آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الأيامِ الثَّلاثَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَلا جُناح عَلَيْهِ ثُمَّ لِيَنْطَلِقْ حَتَّى يَقِفَ بِعَرَفَاتٍ مِنْ صَلاةِ العَصْرِ إلَى

(18/112)


أنْ يَكْونَ الظَّلامُ ثُم لِيَدْفَعُوا مِنْ عَرَفَاتٍ إذَا أفَاضُوا مِنْهَا حَتَّى يَبْلُغُوا جَمْعا الَّذِي يَبِيتُونَ بِهِ ثُمَّ لِيَذْكُرُوا الله كَثِيرا وَأكْثِرُوا التَّكْبِيرَ وَالتَّهْلِيلَ قَبْلَ أنْ تُصْبِحُوا ثُمَّ أفِيضُوا فَإنَّ النَّاسَ كَانُوا يُفِيضُونَ وَقال الله تَعَالَى {ثُمَّ أفَيضُوا مِنْ حَيْثُ أفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا الله إنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الْبَقَرَة: 199) حَتَّى تَرْمُوا الجَمْرَةَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ أفيضوا) إِلَى آخِره. وَمُحَمّد بن أبي بكر بن عَليّ بن عَطاء بن مقدم أَبُو عبد الله الْمَعْرُوف بالمقدمي الْبَصْرِيّ، وفضيل مصغر فضل. بالضاد الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (مَا كَانَ حَلَالا) بِأَن كَانَ مُقيما بِمَكَّة أَو كَانَ قد دخل بِعُمْرَة ثمَّ تحلل مِنْهَا. قَوْله: (حَتَّى يهل) أَي: حَتَّى يحرم بِالْحَجِّ. قَوْله: (مَا تيَسّر لَهُ) جَزَاء للشّرط أَي: ففديته مَا تيَسّر لَهُ، أَو التَّقْدِير: فَعَلَيهِ مَا تيَسّر، وَيجوز أَن يكون قَوْله: مَا تيَسّر لَهُ بَدَلا من قَوْله: هَدِيَّة، وَيكون الْجَزَاء بأسره محذوفا تَقْدِيره، ففديته ذَلِك أَو: فليفتد بذلك. قَوْله: (غير أَن لم تيَسّر لَهُ) أَي: الْهدى فَعَلَيهِ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج أَي: قبل يَوْم عَرَفَة وَهَذَا تَقْيِيد من ابْن عَبَّاس لإِطْلَاق الْآيَة قَوْله: (ثمَّ لينطلق) ، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (ثمَّ ينْطَلق) بِدُونِ اللَّام. قَوْله: (من صَلَاة الْعَصْر) ، أَرَادَ من أول وَقت الْعَصْر وَذَلِكَ عِنْد صيرورة ظلّ كل شَيْء مثله، وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ من بعد صَلَاة الْعَصْر، لِأَنَّهَا تصلى عقيب صَلَاة الظّهْر جمع تَقْدِيم، وَيكون الْوُقُوف عقيب ذَلِك، وَلَا شكّ أَنه بعد الزَّوَال، وَسَأَلَ الْكرْمَانِي: بِأَن أول وَقت الْوُقُوف زَوَال الشَّمْس يَوْم عَرَفَة وَآخره صبح الْعِيد، ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك: بِأَنَّهُ اعْتبر فِي الأول الْأَشْرَف، لِأَن وَقت الْعَصْر أشرف، وَفِي الآخر الْعَادة الْمَشْهُورَة. انْتهى (قلت) فِيهِ تَأمل. قَوْله: (حَتَّى يبلغُوا جمعا) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم، وَهُوَ الْمزْدَلِفَة قَوْله: (الَّذِي يبيتُونَ بِهِ) ويروى (يتبرر فِيهِ) براءين مهملتين. أَي: يطْلب فِيهِ الْبر، ويروى: (يتبرز) ، برَاء ثمَّ زَاي من التبرز، وَهُوَ الْخُرُوج إِلَى البرَاز للْحَاجة، وَالْبرَاز بِالْفَتْح اسْم للفضاء الْوَاسِع. قَوْله: (أَو أَكْثرُوا) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (حَتَّى ترموا الْجَمْرَة) هَذِه غَايَة للإفاضة، وَيحْتَمل أَن يكون غَايَة لقَوْله: (اكثروا) .

36 - (بابٌ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (الْبَقَرَة: 201)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} الْآيَة. قَوْله: (وَمِنْهُم) أَي: وَمن النَّاس، وَقَالَ سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، كَانَ قوم من الْأَعْرَاب يجيئون إِلَى الْموقف فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عَام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، وَلَا يذكرُونَ من أَمر الْآخِرَة شَيْئا فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم: {فَمن النَّاس من يَقُول رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من خلاق} (الْبَقَرَة: 200) أَي: نصيب، وَكَانَ يَجِيء بعدهمْ آخَرُونَ من الْمُؤمنِينَ فَيَقُولُونَ: {رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار} (الْبَقَرَة: 200) فَأنْزل الله تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَهُم نصيب مِمَّا كسبوا وَالله سريع الْحساب} (الْبَقَرَة: 202) وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: الْحَسَنَة فِي الدُّنْيَا الْمَرْأَة الصَّالِحَة، وَفِي الْآخِرَة الْجنَّة، وَعَذَاب النَّار الْمَرْأَة السوء.

4522 - ح دَّثنا أبُو مَعْمَرٍ حدَّثنا عبْدُ الوَارِثِ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ عنْ أنسٍ قَالَ كَانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ اللَّهُمَّ {رَبَّنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النَّارِ} .

مطابقته للتَّرْجَمَة أوضح مَا يكون وَأَبُو معمر، بِفَتْح الميمين عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج الْمنْقري المقعد، وَعبد الْوَارِث هُوَ ابْن سعيد، وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن صُهَيْب والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن مُسَدّد وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن مُسَدّد.

37 - (بَاب: {وَهُوَ ألَدُّ الخِصامِ} (الْبَقَرَة: 201)

أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله تَعَالَى:} وَهُوَ أَلد الْخِصَام} وَأول الْآيَة {وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله فِي الحيوة الدُّنْيَا وَيشْهد الله على

(18/113)


مَا فِي قلبه وَهُوَ أَلد الْخِصَام} (الْبَقَرَة: 204) قَوْله: (وَمن النَّاس) ، أَرَادَ بِهِ الْأَخْنَس بن شريق، وَكَانَ رجلا حُلْو الْمنطق إِذا لَقِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ألان لَهُ القَوْل وَادّعى أَنه يُحِبهُ. وَأَنه مُسلم (وَيشْهد الله على مَا فِي قلبه) أَي يحلف وَيَقُول: الله شَاهد على مَا فِي قلبِي من محبتك وَمن الْإِسْلَام، فَقَالَ الله فِي حَقه: {وَهُوَ أَلد الْخِصَام} ، أَي: شَدِيد الْجِدَال وَالْخُصُومَة والعداوة للْمُسلمين والألد أفعل التَّفْضِيل من اللدد وَهُوَ: شدَّة الْخُصُومَة، وَالْخِصَام الْمُخَاصمَة وَإِضَافَة الألد بِمَعْنى فِي أَو يَجْعَل الْخِصَام أَلد على الْمُبَالغَة وَقيل: الْخِصَام جمع خصم وصعاب بِمَعْنى: هُوَ أَشد الْخُصُوم خُصُومَة.
وَقَالَ عَطَاءٌ النَّسْلُ الحَيَوَانُ
أَي: قَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح النَّسْل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيهْلك الْحَرْث والنسل} (الْبَقَرَة: 205) الْحَيَوَان، وَوَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن جريج قلت لعطاء فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيهْلك الْحَرْث والنسل} قَالَ: الْحَرْث الزَّرْع، والنسل من النَّاس والأنعام.

4523 - ح دَّثنا قَبِيصَةُ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عَن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عائِشَةَ تَرْفَعُهُ أبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى الله الأَلَدُّ الخَصِمُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، نَص عَلَيْهِ الْحَافِظ الْمروزِي، وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة والْحَدِيث مضى فِي الْمَظَالِم فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي عَاصِم. قَوْله: (ترفعه) ، أَي: ترفع الحَدِيث إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ عَبْدُ الله حدَّثنا سُفْيَانُ حدَّثني ابنُ جُرَيْجٍ عَن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا عنِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
عبد الله هُوَ ابْن الْوَلِيد الْعَدنِي، نَص عَلَيْهِ الْمزي، وَكَذَلِكَ سُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ. وَأورد هَذَا التَّعْلِيق لتصريحه بِرَفْع حَدِيث عَائِشَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ مَوْصُول فِي (جَامع سُفْيَان الثَّوْريّ) وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد من عبد الله هُوَ الْجعْفِيّ شيخ البُخَارِيّ، وَيكون سُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة. لِأَن الحَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ وَغَيره من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة (قلت) يحْتَمل ذَلِك، وَلَكِن الْحَافِظ الْمزي وَخلف نصا على أَن عبد الله هُوَ ابْن الْوَلِيد، وَأَن سُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.

38 - (بابٌ: {أمْ حَسَبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَما يَأْتِيكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ والضَّرَاءُ} إلَى {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} (الْبَقَرَة: 214)

أَي: هَذَا بَاب ذكر فِيهِ (أم حسبتم) إِلَى آخِره ذكر عبد الرَّزَّاق فِي (تَفْسِيره) : عَن قَتَادَة: نزلت هَذِه الْآيَة فِي يَوْم الْأَحْزَاب أصَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ وَأَصْحَابه بلَاء وَحصر، قَالَه الْقُرْطُبِيّ: وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين، قَالَ وَقيل: نزلت فِي يَوْم أحد. وَقيل: نزلت تَسْلِيَة للمهاجرين حِين تركُوا دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ بأيدي الْمُشْركين وآثروا رضَا الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (أم حسبتم) ، قد علم فِي النَّحْو أَن: أم عَليّ نَوْعَيْنِ مُتَّصِلَة وَهِي الَّتِي تتقدمها همزَة التَّسْوِيَة نَحْو: {سَوَاء علينا أجزعنا أم صَبرنَا} (إِبْرَاهِيم: 121) وَسميت مُتَّصِلَة لِأَن مَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا لَا يسْتَغْنى بِأَحَدِهِمَا عَن الآخر، ومنقطعة وَهِي الَّتِي لَا يفارقها معنى الإضراب، وَزعم ابْن الشجري عَن جَمِيع الْبَصرِيين أَنَّهَا أبدا بِمَعْنى: بل، وَهِي مسبوقة بالْخبر الْمَحْض. نَحْو: {تَنْزِيل الْكتاب لَا ريب فِيهِ من رب الْعَالمين أم يَقُولُونَ افتراه} (السَّجْدَة: 2) ومسبوقة بِهَمْزَة لغير الِاسْتِفْهَام. نَحْو: {ألهم أرجل يَمْشُونَ بهَا أم لَهُم أيد يبطشون بهَا} (الْأَعْرَاف: 195) إِذْ الْهمزَة فِيهَا للإنكار ثمَّ إِن: أم هَذِه قد اخْتلفُوا فِيهَا، فَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهَا بل حسبتم وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مُنْقَطِعَة وَمعنى الْهمزَة فِيهَا للتقرير، وَفِي (تَفْسِير الْجَوْزِيّ) أم هُنَا لِلْخُرُوجِ من حَدِيث إِلَى حَدِيث، وَفِي (تَفْسِير ابْن أبي السنان) أم، هَذِه مُتَّصِلَة بِمَا قبلهَا لِأَن الِاسْتِفْهَام لَا يكون فِي ابْتِدَاء الْكَلَام فَلَا يُقَال: أم عِنْد خبر، بِمَعْنى: عنْدك،

(18/114)


وَقيل: هِيَ معطوفة على اسْتِفْهَام مَحْذُوف مقدم أَي: أعلمتم أَن الْجنَّة حفت بالمكاره أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة بِغَيْر مَكْرُوه. قَوْله: (وَلما يأتكم) ، كلمة لما، لنفي: لم يفعل، وَكلمَة لم لنفي فعل. قَوْله: (مثل الَّذين خلوا) ، أَي: صفة الَّذين مضوا من قبلكُمْ من النَّبِيين وَالْمُؤمنِينَ، وَفِيه إِضْمَار أَي: مثل محنة الَّذين. أَو مُصِيبَة الَّذين مضوا. قَوْله: (مستهم البأساء والضرآء) ، أَي: الْأَمْرَاض والأسقام والآلام والمصائب والنوائب، وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَأَبُو الْعَالِيَة وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَمرَّة الْهَمدَانِي وَالْحسن وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالربيع وَالسُّديّ وَمُقَاتِل بن حَيَّان، البأساء الْفقر، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الضراء السقم. قَوْله: (وزلزلوا) ، أَي: أزعجوا إزعاجا شَدِيدا شَبِيها بالزلزلة بِمَا أَصَابَهُم من الْأَهْوَال والأفزاع. قَوْله: (حَتَّى يَقُول الرَّسُول) يَعْنِي: إِلَى الْغَايَة الَّتِي يَقُول الرَّسُول وَمن مَعَه فِيهَا: مَتى نصر الله يَعْنِي: بلغ مِنْهُم الْجهد إِلَى أَن استبطؤا النَّصْر. وَقَالُوا: مَتى ينزل نصر الله؟ قَالَ مقَاتل: الرَّسُول هُوَ أليسع، واسْمه: شعيا وَالَّذين آمنُوا حزقيا الْملك حِين حضر الْقِتَال وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ وَأَن مِيشَا بن حزقيا قتل اليسع، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: هَذَا فِي كل رَسُول بعث إِلَى أمته. وَعَن الضَّحَّاك: يَعْنِي مُحَمَّدًا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَعَلِيهِ يدل نزُول الْآيَة الْكَرِيمَة، وَأكْثر المتأولين على أَن الْكَلَام إِلَى آخر الْآيَة من قَول الرَّسُول وَالْمُؤمنِينَ، أَي: بلغ بهم الْجهد حَتَّى استبطؤ النَّصْر فَقَالَ الله، عز وَجل: (أَلا إِن نصر الله قريب) وَيكون ذَلِك من قَول الرَّسُول على طلب استعجال النَّصْر لَا على شكّ وارتياب، وَقَالَت طَائِفَة: فِي الْكَلَام تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَالتَّقْدِير: يَقُول الَّذين آمنُوا مَتى نصر الله؟ فَيَقُول الرَّسُول: أَلا إِن نصر الله قريب. فَقدم الرَّسُول فِي الرُّتْبَة لمكانته وَلم يقدم الْمُؤمنِينَ. لِأَنَّهُ الْمُقدم فِي الزَّمَان، وَيَقُول: بِالرَّفْع وَالنّصب، فقراءة الْقُرَّاء بِالنّصب إلاّ مُجَاهدًا، قَالَه الْفراء: وَبَعض أهل الْمَدِينَة رَفَعُوهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ النصب على إِضْمَار أَن، وَالرَّفْع على أَنه فِي معنى الْحَال كَقَوْلِك: شربت الْإِبِل حَتَّى يَجِيء الْبَعِير حَتَّى يجر بطته إِلَّا أَنَّهَا حَال مَاضِيَة محكية. قَوْله: (أَلا إِن نصر الله قريب) ، أَي: قيل لَهُم: أَن نصر الله قريب، إِجَابَة لَهُم إِلَى طَلَبهمْ.

4524 - ح دَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى أخبرنَا هِشامٌ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ أبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا حَتَّى إذَا استَيْأسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا خَفِيفَةَ ذَهَبَ بِها هُنَاكَ وَتَلا {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله قَرِيبٌ} (الْبَقَرَة: 141) فَلقِيتُ عُرْوَةَ ابنَ الزُّبَيْرِ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ قَالَتْ عَائِشَةَ مَعَاذَ الله وَالله مَا وَعَدَ الله رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ إلاّ عَلِمَ أنَّهُ كَائِنٌ قَبْلَ أنْ يَمُوتَ وَلاكِنْ لَمْ يَزَل البَلاءُ بَالرُّسُلِ حَتَّى خَافُوا أنْ يَكُونَ من مَعَهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ فَكَانَتْ تَقّرَؤُها وَظَنُّوا أنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا مُثَقَّلَةً.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِبْرَاهِيم بن مُوسَى يزِيد الرَّازِيّ الْفراء، يعرف بالصغير، وَهِشَام هُوَ ابْن حسان يروي عَن عبد الْملك ابْن جريج عَن عبد الله بن أبي مليكَة والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة.
قَوْله: (قَالَ ابْن عَبَّاس: حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل) أَي: من النَّصْر (وظنوا أَنهم قد كذبُوا) أَي: كذبتهم أنفسهم حِين حدثتهم بِأَنَّهُم ينْصرُونَ. قَوْله: (خَفِيفَة) أَي: خَفِيفَة الذَّال فِي قَوْله: قد كذبُوا. قَوْله: (ذهب بهَا) أَي: ذهب ابْن عَبَّاس بِهَذِهِ الْآيَة أَي: قَوْله: (حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل) الْآيَة الَّتِي فِي سُورَة يُوسُف لَا الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَة، يَعْنِي: فهم من هَذِه الْآيَة مَا فهم من تِلْكَ الْآيَة لكَون الِاسْتِفْهَام فِي مَتى نصر الله للاستبعاد والاستبطاء فهما متناستان فِي مَجِيء النَّصْر بعد الْيَأْس والاستيعادة. قَوْله: (فَلَقِيت عُرْوَة بن الزبير) الْقَائِل بِهَذَا هُوَ ابْن أبي مليكَة الرَّاوِي.
قَوْله: (فَقَالَ) أَي: عُرْوَة بن الزبير (قَالَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا) قَوْله: (قبل أَن يَمُوت) ظرف للْعلم لَا للكون. قيل: لم أنْكرت عَائِشَة على ابْن عَبَّاس بقولِهَا: معَاذ الله إِلَى آخِره مَعَ أَن قِرَاءَة التَّخْفِيف تحْتَمل معنى مَا قَالَت عَائِشَة بِأَن يُقَال خَافُوا أَن يكون من مَعَهم يكذبونهم؟ وَأجِيب بِأَن الْإِنْكَار من جِهَة أَن مُرَاده أَن الرُّسُل ظنُّوا أَنهم مكذبون من عِنْد الله لَا من عِنْد أنفسهم بِقَرِينَة الاستشهاد بِالْآيَةِ الَّتِي فِي الْبَقَرَة. فَقيل: لَو كَانَ كَمَا قَالَت عَائِشَة لقيل: وتيقنوا أَنهم قد كذبُوا، لِأَن تَكْذِيب الْقَوْم لَهُم كَانَ متيقنا وَأجِيب: بِأَن تَكْذِيب أتباعهم

(18/115)


من الْمُؤمنِينَ كَانَ مظنونا والمتيقن هُوَ تَكْذِيب الَّذين لم يُؤمنُوا أصلا فَإِن قيل: فَمَا وَجه كَلَام ابْن عَبَّاس؟ قيل: وَجهه مَا ذكره الْخطابِيّ: بِأَن يُقَال لَا شكّ أَن مذْهبه أَنه لم يجز على الرُّسُل أَن يكذبوا بِالْوَحْي الَّذِي يَأْتِيهم من قبل الله لَكِن يحْتَمل أَن يُقَال: إِنَّهُم عِنْد تطاول الْبلَاء وإبطاء نجز الْوَعْد توهموا أَن الَّذِي جَاءَهُم من الْوَحْي كَانَ غَلطا مِنْهُم. فالكذب متأول بالغلط. كَقَوْلِهِم: كذبتك نَفسك. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَعَن ابْن عَبَّاس: وظنوا حِين ضعفوا أَو غلبوا أَنهم قد خلفوا مَا وعدهم الله من النَّصْر، وَقَالَ: وَكَانُوا بشرا وتلا قَوْله: {وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول} (الْبَقَرَة: 214) فَإِن صَحَّ هَذَا فقد أَرَادَ بِالظَّنِّ مَا يهجس فِي الْقلب من شبه الوسوسة. وَحَدِيث النَّفس على مَا عَلَيْهِ البشرية وَأما الظَّن الَّذِي يتَرَجَّح أحد الْجَانِبَيْنِ على الآخر فِيهِ فَغير جَائِز على آحَاد الْأمة فَكيف بالرسل؟ قَوْله: (تقرؤها) أَي: فَكَانَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا. تقْرَأ قَوْله وكذبوا، مثقلة أَي: بِالتَّشْدِيدِ، وَهِي قِرَاءَة نَافِع وَابْن كثير وَأبي عَمْرو وَابْن عَامر، وَقِرَاءَة عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِالتَّخْفِيفِ.