عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 47 - (بابُ قَوْلِهِ: {أيَوَدُّ أحَدُكُمْ
أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} إلَى
قَوْلِهِ {تَتَفَكَّرُونَ} (الْبَقَرَة: 266)
أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَوْله: (أيود أحدكُم) . الْآيَة،
هَذَا الْمِقْدَار من الْآيَة وَقع عِنْد جَمِيع الروَاة.
قَوْله: (أيود) الْهمزَة فِيهِ للإنكار. قَالَه
الزَّمَخْشَرِيّ: وَقيل: هُوَ مُتَّصِل بقوله: (وَلَا
تُبْطِلُوا) ، وَهَذِه الْآيَة مثل لعمل من أحسن الْعَمَل
أَو لَا ثمَّ بعد ذَلِك انعكس سيره فبدل الْحَسَنَات
بالسيئات فَأبْطل بِعَمَلِهِ الثَّانِي مَا أسلفه فِيمَا
تقدم من الصَّالح، وَاحْتَاجَ إِلَى شَيْء من الأول فِي
أضيق الْأَحْوَال فَلم يحصل مِنْهُ شَيْء وخانه أحْوج مَا
كَانَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: (وأصابه الْكبر)
الْآيَة. قَوْله: (جنَّة) ، أَي: بُسْتَان. قَوْله: (من
نخيل) ، وَهُوَ إِمَّا جمع نَادرا أَو اسْم جنس،
وَإِنَّمَا خص هذَيْن بِالذكر لِأَنَّهُمَا من أكْرم
الشّجر وَأكْثر الْمَنَافِع. قَوْله: (لَهُ فِيهَا من كل
الثمرات) ، أَي: لأحدكم فِي الْجنَّة من كل الثمرات،
وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا بعد ذكر النخيل وَالْأَعْنَاب
تَغْلِيبًا لَهما على غَيرهمَا، ثمَّ أدرفهما بِذكر
الثمرات. قيل: يجوز أَن يُرِيد بالثمرات الْمَنَافِع
الَّتِي كَانَت تحصل لَهُ فِيهَا. قَوْله: (وأصابه الْكبر)
، أَي: وَالْحَال أَنه أَصَابَهُ الْكبر. وَقيل: عطف ماضٍ
على مُسْتَقْبل قَالَ الْفراء: هُوَ جَائِز لِأَنَّهُ يَقع
مَعهَا لَو تَقول: وددت لَو ذهبت عَنَّا. وودت أَن يذهب
عَنَّا. قَوْله: (وَله ذُرِّيَّة ضعفاء) ، وقرىء: ضِعَاف.
قَوْله: (فأصابها) ، أَي الْجنَّة الْمَذْكُورَة. قَوْله:
(إعصار) ، وَهِي الرّيح الشَّدِيدَة، وَقد مر تَفْسِيره
عَن قريب، وَيجمع على أعاصير. قَوْله: (فِيهِ نَار) أَي:
فِي الإعصار نَار من السمُوم الحارة القتالة. قَوْله:
(وَكَذَلِكَ) أَي: كَمَا بَين الأقاصيص والأمثال (يبين
الله لكم الْآيَات) أَي: العلامات (لَعَلَّكُمْ تتفكرون)
أَي: تعتبرون وتفهمون الْأَمْثَال والمعاني وتنزلونها على
المُرَاد مِنْهَا.
4538 - ح دَّثنا إبْرَاهِيمُ أخبرنَا هِشَامُ عنِ ابنِ
جُرَيْجٍ سَمِعْتُ عَبْدَ الله بنَ أبِي مُلَيْكَةَ
يُحَدِّثُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَسَمِعْتُ أخاهُ أَبَا
بَكْرٍ بنَ أبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عنْ عُبَيْدِ بنِ
عُمَيْرٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِي الله عَنْهُ يَوْمَا
لأصْحَابِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَ
تُرَوْنَ هاذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ أيَوَدُّ أحَدُكُمْ أنْ
تَكُونَ لهُ جَنَّةٌ قَالُوا الله أعْلَمُ فَغَضِبَ عُمَرُ
فَقَالَ قُولُوا نَعْلَمُ أوْ لَا نَعْلَمُ فَقَالَ ابنُ
عَبَّاسٍ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أمِيرَ
المُؤْمِنينَ قَال عُمَرُ يَا ابنَ أخِي قُلْ وَلا
تَحْقِرْ نَفْسَكَ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ضُرِبَتْ مَثلاً
لِعَمَلٍ قَالَ عُمَرُ أيُّ عَمَلٍ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ
لِعَمَلٍ قَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطاعَةِ
الله عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ بعَثَ الله لهُ الشَّيْطَانَ
فَعَمِلَ بِالمَعَاصِي حَتَّى أغْرَقَ أعْمَالهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَإِبْرَاهِيم هُوَ ابْن
مُوسَى الْفراء، وَهِشَام هُوَ ابْن يُوسُف
الصَّنْعَانِيّ، وَابْن جريج هُوَ عبد الْعَزِيز بن عبد
الْملك ابْن جريج. وَأَبُو بكر بن أبي مليكَة لَا يعرف
اسْمه. . قَالَه بَعضهم: وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأَخُوهُ
عبد الله أَيْضا يكنى بِأبي بكر تَارَة وَتارَة بِأبي
مُحَمَّد، وَعبيد بن عُمَيْر كِلَاهُمَا مصغران أَبُو
عَاصِم اللَّيْثِيّ الْمَكِّيّ ولد فِي زمن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وسماعه من عمر صَحِيح قَوْله:
(وَسمعت أَخَاهُ) هُوَ مقول ابْن جريج والْحَدِيث من
أَفْرَاده.
قَوْله: فيمَ، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف أَي فِي أَي شَيْء قَوْله: (ترَوْنَ) بِضَم
أَوله. قَوْله: (شَيْء) أَي: من الْعلم بِهِ. قَوْله:
(مثلا) بِفتْحَتَيْنِ قَالَ أهل البلاغة: التَّشْبِيه
التمثيلي مَتى فشى اسْتِعْمَاله على سَبِيل الِاسْتِعَارَة
يُسمى مثلا قَوْله: غَنِي اسْم فِي مُقَابل الْفَقِير
ويروى عني. من الْعِنَايَة على لفظ الْمَجْهُول. قَوْله:
(أغرق) بالغين الْمُعْجَمَة. أَي: أضاع أَعماله
الصَّالِحَة بِمَا ارْتكب من الْمعاصِي. قيل: فِيهِ دَلِيل
للمعتزلة فِي مَسْأَلَة إحباط الطَّاعَة بالمعصية، ورد
بِأَن الْكفْر محبط للأعمال والأغراق. لَا يسْتَلْزم
الإحباط.
48 - (بابٌ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحافا}
(الْبَقَرَة: 273)
.
(18/129)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا
يسْأَلُون النَّاس إلحافا} وَله {للْفُقَرَاء الَّذين
أحْصرُوا فِي سَبِيل الله لَا يَسْتَطِيعُونَ ضربا فِي
الأَرْض يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف تعرفهم
بِسِيمَاهُمْ لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا وَمَا تنفقوا
من خير فَإِن الله بِهِ عليم} هَذِه الْآيَة نزلت فِي
أَصْحَاب الصّفة وَهِي سَقِيفَة كَانَت فِي مَسْجِد رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَكَانُوا أَرْبَعمِائَة
رجل من مُهَاجِرِي قُرَيْش لم يكن لَهُم مسَاكِن فِي
الْمَدِينَة وَلَا عشائر، يتعلمون الْقُرْآن بِاللَّيْلِ
يرضخون النَّوَى بِالنَّهَارِ، وَكَانُوا يخرجُون فِي كل
سَرِيَّة بعثها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمن
كَانَ بِهِ فضل أَتَى بِهِ إِلَيْهِم إِذا أَمْسَى.
قَوْله: (للْفُقَرَاء) أَي: اجعلوا مَا تنفقون
(للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي سَبِيل الله) أَي:
الْجِهَاد (لَا يَسْتَطِيعُونَ) لاشتغالهم بِهِ (ضربا فِي
الأَرْض) يَعْنِي سفرا للتسبب فِي المعاش. قَوْله: (يسبهم
الْجَاهِل) أَي: الْجَاهِل بحالهم (أَغْنِيَاء من التعفف)
أَي: من أجل تعففهم عَن الْمَسْأَلَة. قَوْله: (تعرفهم)
الْخطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل: لكل
رَاغِب فِي معرفَة حَالهم قَوْله: (بِسِيمَاهُمْ) أَي:
بِمَا يظْهر لِذَوي الْأَلْبَاب من صفاتهم. صفرَة الْوَجْه
ورثاثة الْحَال. قَوْله: (لَا يسْأَلُون النَّاس) أَي: من
صفاتهم أَن لَا يسْأَلُون النَّاس (إلحافا) أَي: إلحاحا
وَهُوَ اللُّزُوم، وَأَن لَا يُفَارق إلاَّ بِشَيْء يعطاه،
وانتصابه على أَنه صفة مصدر مَحْذُوف أَي: سؤالاً لحاحا
بِمَعْنى: ملحا وَقَالَ بَعضهم: وانتصاب: الحافا، على أَنه
مصدر فِي مَوضِع الْحَال أَي: لَا يسْأَلُون فِي حَال
الإلحاف، أَو: مفعول لأَجله أَي: لَا يسْأَلُون لأجل
الإلحاف انْتهى. (قلت) : لَيْسَ فِيمَا قَالَه صَوَاب إلاّ
قَوْله: على أَنه مصدر، فَقَط يفهمهُ من لَهُ ذوق من
التَّصَرُّف فِي الْكَلَام. (فَإِن قلت) هَذِه الصّفة
تَقْتَضِي السُّؤَال بالتلطف دون الإلحاح. وَقَوله:
(يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف) يَقْتَضِي نفي
السُّؤَال مُطلقًا. (قلت) : الْجَواب المرضي أَن يُقَال:
لَو فرض السُّؤَال مِنْهُم لَكَانَ على وَجه التلطف فَلَا
يَقْتَضِي وجوده لِأَن الْمحَال يفْرض كثيرا وَلَا يلْزم
من فَرْضه وجوده.
يُقَالُ الْحَفَ عَلَيَّ وَأَلَحَّ عَلَيَّ وَأَحْفَانِي
بِالْمَسْأَلَةِ فَيُحْفِكُمْ يُجْهِدْكُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن قَوْله الحف عليّ وألح عَليّ
وأحفاني بِالْمَسْأَلَة بِمَعْنى وَاحِد، وَكَذَا فسره
أَبُو عُبَيْدَة، والإلحاف من قَوْلهم: ألحفني من فضل
لِحَافه. أَي: غطاني من فضل مَا عِنْده، وَقيل: اشتقاقه من
اللحاف لاشْتِمَاله على وجود الطّلب فِي الْمَسْأَلَة
كاشتمال اللحاف فِي الغطية. قَوْله: (وأحفاني) ، من
قَوْلهم: أحفى فلَان بِصَاحِبِهِ وحفى بِهِ وحفي لَهُ إِذا
بَالغ فِي السُّؤَال. قَوْله: (فيحفكم) أَشَارَ بِهِ إِلَى
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يسألكم أَمْوَالكُم إِن
يسألوكموها فيحفكم تبخلوا} (مُحَمَّد: 37) وَفسّر قَوْله
فيحفكم بقوله: يجهدكم يَعْنِي: يجهدكم فِي السُّؤَال
بالإلحاح.
4539 - ح دَّثنا ابنُ أبِي مَرْيَم حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ
جَعْفَرٍ قَالَ حدَّثني شَرِيك بنُ أبِي نِمَرٍ أنَّ
عَطَاءَ ابنَ يسارٍ وَعَبْدَ الرَّحْمانِ بن أبِي عَمْرَةَ
الأَنْصَارِيَّ قَالا سَمِعْنَا أبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ
الله عَنهُ يَقُولُ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرْدُّهُ الثَمْرَةُ
وَالثَّمْرَتَانِ وَلا اللُّقْمَةُ وَلَا اللُّقْمَتانِ
إنَّمَا المِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَفُ وَاقْرَؤُوا إنْ
شِئْتُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ
النَّاس إلُحَافا} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَابْن أبي مَرْيَم هُوَ
سعيد بن مُحَمَّد بن الحكم بن أبي مَرْيَم أَبُو مُحَمَّد
الْمصْرِيّ، وَمُحَمّد بن جَعْفَر بن أبي كثير أَخُو
إِسْمَاعِيل، وَشريك بن أبي نمرّ بِلَفْظ الْحَيَوَان
الْمَشْهُور مر فِي الْعلم، وَعَطَاء بن يسَار ضد
الْيَمين.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب قَول الله
تَعَالَى: {لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا} عَن أبي
هُرَيْرَة من وَجْهَيْن (الأول) : عَن حجاج بن منهال عَن
شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة
(وَالثَّانِي) : عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الله عَن مَالك
عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة، وَمر
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (يتعفف) ، أَي: يحْتَرز عَن السُّؤَال ويحسب
الْجَاهِل غَنِيا. قَوْله: (واقرؤوا إِن شِئْتُم) ،
يَعْنِي: قَوْله: (لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا) قَائِل
قَوْله: يَعْنِي، هُوَ سعيد بن أبي مَرْيَم شيخ
البُخَارِيّ، وَذَلِكَ الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي رِوَايَته
فَإِنَّهُ أخرجه عَن الْحسن بن سُفْيَان عَن حميد بن
زَنْجوَيْه عَن سعيد بن أبي مَرْيَم بِسَنَدِهِ، وَقَالَ
فِي آخِره: (قلت) : لسَعِيد بن أبي مَرْيَم
(18/130)
مَا يقْرَأ؟ يَعْنِي فِي قَوْله: (واقرؤوا
إِن شِئْتُم) ؟ قَالَ: {للْفُقَرَاء الَّذين أحْصرُوا فِي
سَبِيل الله} (الْبَقَرَة: 273) الْآيَة.
49 - (بابٌ: {وَأحَلَّ الله البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}
(الْبَقَرَة: 275)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأحل الله البيع
وَحرم الرِّبَا} وأوله: {وَالَّذين يَأْكُلُون الرِّبَا
لَا يقومُونَ} إِلَى آخر الْآيَة، وَلما ذكر الله تَعَالَى
قبل هَذِه الْآيَة الْأَبْرَار المؤدين النَّفَقَات
المخرجين الزكوات، شرع فِي ذكر أَكلَة الرِّبَا وأموال
النَّاس بِالْبَاطِلِ وأنواع الشُّبُهَات ووصفهم بِمَا
وَصفهم فِي الْآيَة الْكَرِيمَة. وَلما قَالُوا: (إِنَّمَا
البيع مثل الرِّبَا) أنكر الله عَلَيْهِم تسويتهم بَين
البيع والربا فَقَالَ: {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا}
. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فِيهِ دلَالَة على أَن الْقيَاس
يهدمه النَّص لِأَنَّهُ جعل الدَّلِيل على بطلَان قياسهما
إحلال الله وتحريمه.
المَسُّ الجُنونُ
فسر الْمس الْمَذْكُور فِي الْآيَة وَهُوَ قَوْله:
{ويتخطبه الشَّيْطَان من الْمس} بالجنون. وَهَكَذَا فسره
الْفراء وَمُجاهد وَالضَّحَّاك وَابْن أبي نجيح وَابْن
زيد.
4540 - ح دَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ بنِ غَياثٍ حدَّثنا
أبِي حدَّثنا الأعْمَشُ حدَّثنا مُسْلِمٌ عنْ مَسْرُوقٍ
عنْ عائِشَةَ رضِي الله عَنْهَا قَالَتْ لَمَا نَزَلَتِ
الآياتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي الرِّبا
قَرَأها رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى
النَّاس ثُمَّ حَرَّم التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان،
وَمُسلم هُوَ ابْن صبيح أَبُو الضُّحَى الْكُوفِي.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب البيع فِي: بَاب أكل الرِّبَا،
فَإِنَّهُ أخرجه عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور عَن
أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن عَائِشَة. قَوْله:
(قَرَأَهَا) أَي الْآيَات.
50 - (بابٌ: {يَمْحَقُ الله الرِّبا} يُذْهِبُهُ
(الْبَقَرَة: 276)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله: {يمحق الله الرِّبَا}
وَفسّر يمحق بقوله يذهبه. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يذهب
ببركته وَيهْلك المَال الَّذِي يدْخل فِيهِ، وَعَن ابْن
مَسْعُود: الرِّبَا وَإِن كثر إلاّ وَقل. قلت: هَذَا
رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَأحمد وَصَححهُ الْحَاكِم مَرْفُوعا.
4541 - ح دَّثنا بِشْرُ بنُ خَالِدٍ أخْبَرنا مُحَمَّدُ
بنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ
أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ عنْ عَائِشَةَ
أنَّها قَالَتْ لَمَّا أُنْزِلَتِ الآيَاتُ الأوَاخِرُ
مِنْ سِورَةِ البَقَرَةِ خَرَجَ رَسُولُ الله فَتَلاهُنَّ
فِي المَسْجِدِ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الخَمْرِ.
هَذَا الحَدِيث هُوَ الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق من
وَجه آخر، وَفِيه بعض زِيَادَة كَمَا نرى أخرجه عَن بشر،
بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة،
ابْن خَالِد أبي مُحَمَّد العسكري الْفَرَائِضِي عَن
مُحَمَّد بن جَعْفَر غنْدر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان
الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى مُسلم بن صبيح إِلَى آخِره،
وَمضى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب
تَحْرِيم تِجَارَة الْخمر فِي الْمَسْجِد، أخرجه عَن
عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة عَن الْأَعْمَش عَن مُسلم عَن
مَسْرُوق عَن عَائِشَة إِلَى آخِره.
51 - (بابٌ: {فَأُذِنُوا بِحَرْبٍ} فَاعْلَمُو
(الْبَقَرَة: 279)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فاذنوا} وأوله:
(فَإِن لم تَفعلُوا فاذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله)
وَله: فاذنوا أَي: فاعلموا بهَا. من آذن بالشَّيْء إِذا
أعلم بِهِ. وقرىء فآذنوا بِالْمدِّ أَي: فاعملوا بهَا
غَيْركُمْ. وَهُوَ من الْإِذْن، بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ
الِاسْتِمَاع لِأَنَّهُ من طَرِيق الْعلم، وَقَرَأَ
الْحسن. رَحمَه الله: فَأَيْقنُوا. قَالَ ابْن عَبَّاس:
فاستيقنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله. وَعَن سعيد بن
جُبَير: يُقَال يَوْم الْقِيَامَة لآكل الرِّبَا: خُذ
سِلَاحك للحرب، وَهَذَا تهديد شَدِيد ووعيد أكيد، وروى
ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن وَابْن سِيرِين
أَنَّهُمَا قَالَا إِن هَؤُلَاءِ الصيارفة قد أكلُوا
الرِّبَا وَأَنَّهُمْ أذنوا بِحَرب من الله وَرَسُوله،
وَلَو كَانَ على النَّاس إِمَام عَادل لاستتابهم، فَإِن
تَابُوا وَإِلَّا وضع فيهم السِّلَاح.
(18/131)
52 - (بابٌ: {وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظْرَةٌ إلَى مَيْسَرةٍ} الآيَةِ (الْبَقَرَة: 280)
هَذَا الْمِقْدَار وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَغَيره،
سَاق الْآيَة كلهَا أَي: وَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ دين
الرِّبَا مُعسرا فنظرة أَي: فَالْحكم أَو الْأَمر نظرة.
أَي: انْتِظَار إِلَى ميسرَة. أَي: يسَار، وَذكر الواحدي
أَن بني عَمْرو قَالُوا لبني الْمُغيرَة: هاتوا رُؤُوس
أَمْوَالنَا فَقَالَت بَنو الْمُغيرَة: نَحن الْيَوْم أهل
عسرة. فأخرونا إِلَى أَن تدْرك الثَّمَرَة فَأَبَوا أَن
يؤخروا. فَنزلت وَزعم ابْن عَبَّاس وَشُرَيْح. أَن الأنظار
فِي دين الرِّبَا خَاصَّة وَاجِب، وَيُقَال: هَذِه الْآيَة
ناسخة لما كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة من بيع من أعْسر
فِيمَا عَلَيْهِ من الدُّيُون، وَإِن كَانَ حرا، وَقد قيل:
إِنَّه كَانَ يُبَاع فِيهِ فِي أول الْإِسْلَام ثمَّ نسخ،
وَذهب اللَّيْث بن سعد إِلَى أَنه يُؤجر وَيقْضى دينه من
أجرته وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَعمر بن عبد الْعَزِيز
وَرِوَايَة عَن أَحْمد، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَا
وَجه لدُخُول هَذِه الْآيَة فِي هَذَا الْبَاب، وَأجِيب:
بِأَن هَذِه الْآيَة مُتَعَلقَة بآيَات الرِّبَا فَلذَلِك
ذكرهَا مَعهَا.
وأنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
أَي: وَأَن تتصدقوا برؤوس أَمْوَالكُم على من أعْسر
غرمائكم خير لكم لَا كَمَا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة.
يَقُول أحدهم لمدينة إِذا دخل عَلَيْهِ الدّين: إِمَّا أَن
تَقْتَضِي وَإِمَّا أَن تربي.
4543 - وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ عنْ سُفْيَانَ
عنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ عَنْ أبِي الضُّحَى عنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَا أُنْزِلَتِ
الآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ قَامَ رَسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَرَأَهُنَّ عَلَيْنَا
ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الخَمْرِ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهُوَ
مُعَلّق قَوْله: قَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف هَكَذَا
رِوَايَة أبي ذَر وَفِي رِوَايَة غَيره قَالَ لنا مُحَمَّد
بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ هُوَ الثَّوْريّ، والبقية
ذكرُوا عَن قريب.
53 - (بابٌ: {وَاتَّقُوا يَوْما تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى
الله} (الْبَقَرَة: 281)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله تَعَالَى: (وَاتَّقوا
يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله) قرىء: ترجعون، على
الْبناء للْفَاعِل وَالْمَفْعُول وقرىء: يرجعُونَ
بِالْيَاءِ على طَريقَة الِالْتِفَات، وَقَرَأَ عبد الله
تردون وَقَرَأَ أبي تصيرون، وَالْجُمْهُور على أَن
المُرَاد من الْيَوْم المحذر مِنْهُ هُوَ يَوْم
الْقِيَامَة، وَقَالَ بَعضهم يَوْم الْمَوْت.
4544 - ح دَّثنا قَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ حدَّثنا سُفْيَانُ
عنْ عَاصِم عنِ الشَّعْبِيِّ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
الله عَنْهُمَا قَال آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَةُ الرِّبا.
قيل: لَا مُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث على مَا
لَا يخفى، وَأجِيب بِأَنَّهُ رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس
أَيْضا من وَجه آخر: أَن آخر آيَة نزلت على النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ
إِلَى الله} أخرجه الطَّبَرِيّ من طرق عَنهُ، وَلَعَلَّه
أَرَادَ أَن يجمع بَين قولي ابْن عَبَّاس. قلت: يَعْنِي
بِالْإِشَارَةِ فَافْهَم.
وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَعَاصِم هُوَ ابْن سُلَيْمَان
الْأَحول وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن شرَاحِيل.
قَوْله عَن ابْن عَبَّاس، كَذَا قَالَ عَاصِم عَن
الشّعبِيّ، وَخَالفهُ دَاوُد بن أبي هِنْد عَن الشّعبِيّ.
قَالَ: عَن عمر أخرجه الطَّبَرِيّ بِلَفْظ كَانَ من آخر
مَا نزل من الْقُرْآن آيَات الرِّبَا، وَهُوَ مُنْقَطع
لِأَن الشّعبِيّ لم يلق عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (آخر آيَة نزلت على النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم آيَة الرِّبَا) وَفِي (تَفْسِير عبد بن حميد) عَن
الضَّحَّاك آخر آيَة نزلت {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ
إِلَى الله} فِي رِوَايَة أبي صَالح عَنهُ: نزلت بِمَكَّة
وَتُوفِّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بعْدهَا
بِأحد وَثَمَانِينَ يَوْمًا وَقيل: نزلت يَوْم النَّحْر
بمنى فِي حجَّة الْوَدَاع، وَفِي (تَفْسِير ابْن أبي
حَاتِم) من حَدِيث ابْن لَهِيعَة حَدثنِي عَطاء بن دِينَار
عَن سعيد بن جُبَير. قَالَ: عَاشَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بعد نزُول هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة تسع
لَيَال، وَعند مقَاتل: سبع لَيَال، وَهِي آخر آيَة نزلت،
وَعند الْقُرْطُبِيّ: ثَلَاث
(18/132)
لَيَال، وَقيل: ثَلَاث سَاعَات، وَقَالَ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اجْعَلُوهَا بَين آيَة الرِّبَا
وَآيَة الدّين، وَقيل: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
عَاشَ بعْدهَا أحد وَعشْرين يَوْمًا. فَإِن قلت: مَا
التَّوْفِيق بَين قولي ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، الْمَذْكُورين؟ قلت: طَرِيق الْجمع بَينهمَا
أَن هَذِه الْآيَة هِيَ ختام الْآيَات الْمنزلَة فِي
الرِّبَا لِأَنَّهَا معطوفة عَلَيْهَا فَتدخل فِي حكمهَا.
فَإِن قلت: روى عَن البراءان آخر آيَة نزلت: {يستفتونك قل
الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة} (النِّسَاء: 176) على مَا
سَيَأْتِي فِي آخر سُورَة النِّسَاء، فَمَا الْجمع
بَينهمَا؟ قلت: قيل بِأَن الْآيَتَيْنِ نزلتا جَمِيعًا
فَيصدق أَن كلاًّ مِنْهُمَا آخر بِالنِّسْبَةِ لما عداهما.
وَفِيه تَأمل. قلت: إِن الآخرية أَمر نسبي كالأولية فَلَا
يخفى صدق الآخرية على شَيْء بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قبله.
وَكَذَا يُجَاب عَمَّا قَالَ أبي بن كَعْب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، آخر آيَة نزلت {لقد جَاءَكُم رَسُول من
أَنفسكُم} (التَّوْبَة: 128) .
54
- (بابٌ: {وَإنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الْبَقَرَة: 284) 2.
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تبدوا مَا
فِي إنفسكم} إِلَى آخِره هَكَذَا فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين أَن الْآيَة الْمَذْكُورَة سبقت إِلَى آخرهَا
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر إِلَى قَوْله: (أَو تُخْفُوهُ) فِي
(تَفْسِير ابْن الْمُنْذر) عَن ابْن عَبَّاس ومولاه نزلت
هَذِه الْآيَة فِي كتمان الشَّهَادَة. وَقَالَ ابْن أبي
حَاتِم وروى عَن الشّعبِيّ ومقسم مثله وَفِي (صَحِيح
مُسلم) عَن أبي هُرَيْرَة: لما نزلت هَذِه الْآيَة
الْكَرِيمَة قَالَت الصحابية يَا رَسُول الله، كافنا من
الْأَعْمَال مَا نطيق الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْجهَاد
وَالصَّدَََقَة. وَقد أنزلت هَذِه الْآيَة لانطيقها.
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا أتريدون
أَن تَقولُوا كَمَا قَالَ أهل الْكتاب من قبلكُمْ سمعنَا
وعصينا؟ بل قُولُوا: {سمعنَا وأطعنا غفرانك رَبنَا
وَإِلَيْك الْمصير} (الْبَقَرَة: 285) فَلَمَّا أقرأها
الْقَوْم زلت ألسنتهم فَأنْزل الله عز وَجل: {آمن
الرَّسُول} إِلَى {وَإِلَيْك الْمصير} فَلَمَّا فعلوا
ذَلِك نسخهَا الله تَعَالَى فَأنْزل {لَا يُكَلف الله نفسا
إِلَّا وسعهَا} (الْبَقَرَة: 286) إِلَى قَوْله:
{أَخْطَأنَا} وَعند الواحدي الصَّحَابَة الَّذين قَالُوا
ذَلِك أَبُو بكر وَعمر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف ومعاذ بن
جبل وناس من الْأَنْصَار، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،
فَقَالُوا: مَا نزلت آيَة أَشد علينا من هَذِه الْآيَة،
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَكَذَا
أنزلت. فَقولُوا: سمعنَا وأطعنا. فَمَكَثُوا بذلك حولا
فَأنْزل الله عزل وَجل الْفرج والراحة بقوله: {لَا يُكَلف
الله نفسا إِلَّا وسعهَا} فنسخت هَذِه الْآيَة مَا قبلهَا.
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الله تجَاوز لأمتي
مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم يعملوا أَو يتكلموا بِهِ،
وَعند النّحاس، قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا: هَذِه الْآيَة لم تنسخ، وَوجه مَا قَالَه بِأَن
هَذِه الْآيَة خبر، وَالْأَخْبَار لَا يلْحقهَا نَاسخ
وَلَا مَنْسُوخ. قيل: وَمن زعم أَن من الْأَخْبَار نَاسِخا
هَذِه الْآيَة لم تنسخ، وَوجه مَا قَالَه بِأَن هَذِه
الْآيَة خبر، وَالْأَخْبَار لَا يلْحقهَا نَاسخ وَلَا
مَنْسُوخ قيل: وَمن زعم أَن من الأبخار نَاسِخا ومنسوخا
فقد ألحد وأجهل. وَأجِيب بِأَنَّهُ وَإِن كَانَ خَبرا لكنه
يتَضَمَّن حكما وَمهما كَانَ من الْأَخْبَار مَا يتَضَمَّن
حكما أمكن دُخُول النّسخ فِيهِ كَسَائِر الْأَحْكَام
وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يدْخلهُ النّسخ من الْأَخْبَار
وَمَا كَانَ خَبرا مَحْضا لَا يتَضَمَّن حكما كالأخبار
عَمَّا مضى من أَحَادِيث الْأُمَم وَنَحْو ذَلِك: وَقيل:
يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالنسخ فِي الحَدِيث
التَّخْصِيص، فَإِن الْمُتَقَدِّمين يطلقون لفظ النّسخ
عَلَيْهِ كثيرا وَفِي (تَفْسِير ابْن أبي حَاتِم) من
طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: هَذِه
الْآيَة لم تنسخ، وَلَكِن إِذا جمع الله الْخَلَائق يَقُول
إِنِّي أخْبركُم مَا أخفيتم فِي أَنفسكُم مِمَّا لم يطلع
عَلَيْهِ ملائكتي، فَأَما الْمُؤْمِنُونَ فيخبرهم ثمَّ
يغْفر لَهُم، وَأما أهل الريب فيخبرهم بِمَا أخفوا من
التَّكْذِيب فَذَلِك قَوْله: {يغْفر لمن يَشَاء ويعذب من
يَشَاء} .
4545 - ح دَّثنا مُحَمَّدٌ حدَّثنا النُّفَيْلِيُّ حدَّثنا
مِسْكِينٌ عنْ شُعْبَةَ عنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ عَنْ
مَرْوَانَ الأَصْفَرِ عنْ رَجُلٍ مِنْ أصْحَابِ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابنُ عُمَرَ أَنَّهَا قَدْ
نُسِخَتْ {وإنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ
تُخْفُوهُ} الآيَةَ مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة
وَمُحَمّد شيخ البُخَارِيّ الَّذِي ذكره مُجَردا هُوَ ابْن
يحيى الذهلي قَالَ الكلاباذي وَقَالَ الْحَاكِم هُوَ
مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم البوشنجي وَقيل كَلَام أبي نعيم
يقتضى أَنه مُحَمَّد بن إِدْرِيس أبي حَاتِم الرَّازِيّ
فَإِنَّهُ أخرجه من طَرِيقه ثمَّ قَالَ أخرجه البُخَارِيّ
عَن مُحَمَّد عَن النُّفَيْلِي وَقَالَهُ الجياني كَذَا
هُوَ فِي أَكثر النّسخ يَعْنِي حَدثنَا مُحَمَّد حَدثنَا
النُّفَيْلِي وَسقط من كتاب ابْن السكن -.
(18/133)
ذكر مُحَمَّد، وَإِنَّمَا فِيهِ حدَّثنا
النُّفَيْلِي وَهُوَ عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ بن
نفَيْل البُخَارِيّ، وَالصَّوَاب ثُبُوته، وَزعم ابْن
السكن أَن مُحَمَّدًا هُوَ البُخَارِيّ فَحَذفهُ، وَلَيْسَ
كَذَلِك، ومسكين أَخُو الْفَقِير بن بكير مصغر بكر أَبُو
عبد الرَّحْمَن الْحَرَّانِي، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَتَشْديد الرَّاء وبالنون نِسْبَة إِلَى حران مَدِينَة
بالشرق وَالْيَوْم خرابة، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين
وَمِائَة وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا
ومروان الْأَصْفَر، وَيُقَال لَهُ الْأَحْمَر أَيْضا وَقد
تقدم فِي الْحَج وَلَيْسَ لَهُ إلاَّ هَذَا الحَدِيث وَآخر
فِي الْحَج.
قَوْله: (عَن رجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) ، وَهُوَ ابْن عمر، أبهم أَولا ثمَّ أوضح ثَانِيًا
بِأَنَّهُ عبد الله بن عمر، قَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا
التَّوْضِيح من الرَّاوِي عَن مَرْوَان، أَو تذكر بعد
نسيانه، وَقَالَ بَعضهم: لم يَتَّضِح لي من هُوَ الْجَازِم
بِأَنَّهُ ابْن عمر. فَإِن الرِّوَايَة الْآتِيَة بعد
هَذِه بِلَفْظ: أَحْسبهُ ابْن عمر. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى
إِيضَاح الْجَازِم إِيَّاه لِأَنَّهُ أحد رَوَاهُ الحَدِيث
على كل حَال. وهم ثِقَات، وَقد جزم فِي هَذِه الرِّوَايَة
بِأَنَّهُ ابْن عمر. وَقَوله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى:
أَحْسبهُ يحْتَمل أَن يكون قبل جزمه بِأَنَّهُ ابْن عمر
فَلَمَّا تحقق ابْن عمر ذكره بِالْجَزْمِ. وَقَالَ ابْن
التِّين إِن ثَبت هَذَا عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، فَمَعْنَى النّسخ هُنَا الْعَفو والوضع.
قَوْله: (أَنَّهَا نسخت) ، ويروى أَنه قَالَ أَنَّهَا
نسخت، أَي: أَن قَوْله: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو
تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} وَقَوله: (وَإِن تبدوا)
إِلَى آخِره بَيَان لما قبله، وَهُوَ أَن الْمَنْسُوخ هُوَ
قَوْله: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ
يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} فَإِن قلت: روى أَحْمد من طَرِيق
مُجَاهِد. قَالَ: دخلت على ابْن عَبَّاس. فَقلت: عبد الله
بن عمر، فَقَرَأَ {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم
يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} فَبكى. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِن
هَذِه الْآيَة لما نزلت غمت أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، غما شَدِيدا. وَقَالُوا: يَا رَسُول الله!
هلكنا، فَإِن قُلُوبنَا لَيست بِأَيْدِينَا فَقَالَ:
قُولُوا سمعنَا وأطعنا. فَقَالُوا: فنسختها هَذِه الْآيَة:
{لَا يُكَلف الله نفسا إلاَّ وسعهَا} انْتهى. فَهَذَا يدل
على أَن ابْن عمر لم يطلع على كَون هَذِه الْآيَة
مَنْسُوخَة. قلت: أُجِيب بِأَنَّهُ يُمكن أَن ابْن عمر لم
يكن عرف الْقِصَّة أَولا. ثمَّ لما تحقق ذَلِك جزم بالنسخ،
فَيكون مُرْسل صَحَابِيّ.
55 - (بابٌ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ
مِنْ رَبِّهِ} (الْبَقَرَة: 284)
أَي: هَذَا بَاب فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {آمن الرَّسُول
بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه} إِلَى آخر السُّورَة. قَوْله:
(آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه) ، إِخْبَار من
الله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك (فَإِن
قلت) قَالَ: آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ، وَلم يقل:
آمن الرَّسُول بِاللَّه، وَقَالَ: {والمؤمنون كل آمن
بِاللَّه} (قلت) : الْكفْر مُمْتَنع فِي حق الرَّسُول
وَغير مُمْتَنع فِي حق الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (والمؤمنون)
، عطف على الرَّسُول. قَوْله: (كل آمن بِاللَّه) إِخْبَار
عَن الْجَمِيع، وَالتَّقْدِير: والمؤمنون كلهم آمنُوا
بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتب الْمنزلَة، وَإِن كَانَ
بَعضهم نسخ شَرِيعَة بعض بِإِذن الله تَعَالَى. قَوْله:
{لَا نفرق} أَي: تَقولُونَ لَا نفرق، وَعَن أبي عمر: لَا
يفرق، بِالْيَاءِ، على أَن الْفِعْل لكل وَاحِد، وَقَرَأَ
عبد الله، لَا يفرقون. قَوْله: {وَقَالُوا سمعنَا} أَي:
أجبنا قَوْله: {غفرانك} مَنْصُوب بإضمار فعله فَقَالَ:
غفرانك لَا كُفْرَانك. أَي: نستغفرك وَلَا نكفرك. قَوْله:
(نفسا إِلَّا وسعهَا) الوسع مَا يسع الْإِنْسَان وَلَا
يضيق عَلَيْهِ، وَالنَّفس يعم الْملك وَالْجِنّ
وَالْإِنْس، قَالَه ابْن الْحصار. قَوْله: (لَهَا مَا
كسبت) خص الْخَيْر بِالْكَسْبِ. وَالشَّر بالاكتساب لِأَن
فِي الِاكْتِسَاب اعتمالاً وقصدا وجهدا. قَوْله: (إِن
نَسِينَا) المُرَاد بِالنِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ السَّهْو.
وَقيل: التّرْك والإغفال. قَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَت بَنو
إِسْرَائِيل إِذا نسوا شَيْئا مِمَّا أَمرهم الله بِهِ أَو
أخطأوا أعجلت لَهُم الْعقُوبَة فَيحرم عَلَيْهِم شَيْء من
الْمطعم وَالْمشْرَب على حسب ذَلِك الذَّنب، فَأمر الله
تَعَالَى نبيه وَالْمُؤمنِينَ أَن يسألوه ترك مؤاخذتهم
بذلك. قَوْله: (وأخطأنا) قيل: من الْقَصْد والعمد. وَقيل:
من الْخَطَأ الَّذِي هُوَ الْجَهْل والسهو، وَقَالَ ابْن
زيد: إِن نَسِينَا شَيْئا مِمَّا افترضته علينا. أَو
أَخْطَأنَا شَيْئا مِمَّا حرمته علينا. (فَإِن قلت) :
النسْيَان وَالْخَطَأ متجاوز عَنْهُمَا. فَمَا فَائِدَة
الدُّعَاء بترك الْمُؤَاخَذَة بهما؟ (قلت) : المُرَاد
استدامته والثبات عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله: {اهدنا
الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} (الْفَاتِحَة: 6) وَتَفْسِير:
الإصر. يَأْتِي الْآن. قَوْله: (على الَّذين من قبلنَا)
وهم الْيَهُود، وَهُوَ الشَّيْء الَّذِي يشق، وَذَلِكَ أَن
الله تَعَالَى فرض عَلَيْهِم خمسين صَلَاة وَأمره بأدائهم
ربع أَمْوَالهم فِي الزَّكَاة وَمن أصَاب ثَوْبه نَجَاسَة
قطعهَا وَمن أصَاب مِنْهُم ذَنبا أصبح وذنبه مَكْتُوب على
بَابه وَنَحْوه من الأثقال والأغلال الَّتِي كَانَت
عَلَيْهِم. قَوْله: {لَا تحملنا مَا لَا طَاقَة لنا بِهِ}
فِيهِ
(18/134)
سَبْعَة أَقْوَال: (الأول) : مَا لَا
يُطَاق ويشق من الْأَعْمَال. (الثَّانِي) : الْعَذَاب.
(الثَّالِث) : حَدِيث النَّفس والوسوسة. (الرَّابِع) :
الغلمة وَهِي شدَّة شَهْوَة الْجِمَاع، لِأَنَّهَا رُبمَا
جرت إِلَى جَهَنَّم. (الْخَامِس) : الْمحبَّة حُكيَ أَن
ذَا النُّون تكلم فِي الْمحبَّة فَمَاتَ أحد عشر نفسا فِي
الْمجْلس. (السَّادِس) : شماتة الْأَعْدَاء. قَالَ الله
تَعَالَى إِخْبَارًا عَن مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا
السَّلَام: وَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء. (السَّابِع) :
الْفرْقَة والقطيعة. قَوْله: {واعف عَنَّا} (الْبَقَرَة:
286) أَي: تجَاوز عَنَّا (واغفر لنا) أَي: اسْتُرْ علينا
(وارحمنا) أَي: لَا توقعنا بتوفيقك فِي الذُّنُوب (أَنْت
مَوْلَانَا) أَي: ناصرنا وولينا {وَانْصُرْنَا على
الْقَوْم الْكَافرين} الَّذين جَحَدُوا دينك وأنكروا
وحدانيتك وعبدوا غَيْرك.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ إصْرا عَهْدا
هَذَا وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة
عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَلَا تحمل علينا إصرا}
أَي: عهدا قلت: المُرَاد بالعهد الْمِيثَاق الَّذِي لَا
نطيقه وَلَا نستطيع الْقيام بِهِ. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: الإصر العبء الَّذِي يأصر حامله أَي
يحْبسهُ مَكَانَهُ لَا يسْتَقلّ لثقله. وَعَن ابْن عَبَّاس
(لَا تحمل علينا إصرا) لَا تمسخنا قردة وَلَا خنازير،
وَقيل: ذَنبا لي فِيهِ تَوْبَة وَلَا كَفَّارَة وقرىء
آصار، على الْجمع.
وَيُقالُ: غُفْرَانَكَ مَغْفِرَتَكَ فاغْفِرْ لَنَا
هَذَا تَفْسِير أبي عُبَيْدَة. قلت: كل وَاحِد من الغفران
وَالْمَغْفِرَة مصدر: وَقد مضى الْآن وَجه النصب.
4546 - ح دَّثني إسْحَاقُ أخْبَرنا رَوْحٌ أخْبَرنَا
شُعْبَةُ عنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانِ الأصْفَرِ
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ أحْسبُهُ ابنَ عُمَرَ {وَإنْ تُبْدُوا مَا فِي
أنْفسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ} قَالَ نَسَخَتْها الآيَةَ
الَّتِي بَعْدَها.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث السَّابِق، قبل هَذَا
الْبَاب، وَمضى الْكَلَام فِيهِ، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن
مَنْصُور، ذكره أَبُو نعيم وَأَبُو مَسْعُود وَخلف وروح بن
عبَادَة. قَوْله: (الْآيَة) الَّتِي بعْدهَا هِيَ قَوْله
تَعَالَى: {لَا يُكَلف نفسا إلاَّ وسعهَا} .
3 - ( {سُورَةُ آل عِمْرَانَ} )
أَي: هَذَا تَفْسِير سُورَة آل عمرَان.
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر دون غَيره. وَهُوَ حسن
لِأَن ابْتِدَاء الْأَمر بِبسْم الله الرحمان الرَّحِيم
يتبارك فِيهِ: وَلما فرغ من بَيَان سُورَة الْبَقَرَة شرع
فِي تَفْسِير سُورَة آل عمرَان، وابتدأ بالبسملة لما
ذكرنَا، وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل أَمر ذِي
بَال الحَدِيث وَهُوَ مَشْهُور.
(بابٌ: تُقاةُ وتقيَّةٌ واحدَة)
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا
أَن تتقوا مِنْهُم تقاة ويحذركم الله نَفسه وَإِلَى الله
الْمصير} (آل عمرَان: 28) وَالْمعْنَى مُرْتَبِط بِمَا
قبله. وَهُوَ أول الْآيَة: {لَا يتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ
الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ وَمن يفعل
ذَلِك} يَعْنِي: وَمن يوالي الْكفَّار. (فَلَيْسَ من الله
فِي شَيْء) يَقع عَلَيْهِ اسْم الْوُلَاة. (إِلَّا أَن
تتقوا مِنْهُم تقاة) . يَعْنِي: إِلَّا أَن تخافوا من
جهتهم أمرا يجب اتقاؤه، وانتصاب: تقاة. على أَنه مفعول
تتقوا، وَيجوز أَن يكون، تتقوا، متضمنا معنى: تخافوا،
كَمَا ذكرنَا وَيكون: تقاة. نصبا على التَّعْلِيل، وَمعنى
قَول البُخَارِيّ: تقاة وتقية وَاحِدَة، يَعْنِي:
كِلَاهُمَا مصدر بِمَعْنى وَاحِد. قرىء فِي مَوضِع تقاة
تقية، وَالْعرب إِذا كَانَ معنى الْكَلِمَتَيْنِ وَاحِدًا،
وَاخْتلف اللَّفْظ يخرجُون مصدر أحد اللَّفْظَيْنِ على
مصدر اللَّفْظ الآخر، وَكَانَ الأَصْل هُنَا أَن يُقَال:
إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم اتقاء، وَهنا أخرج كَذَلِك لِأَن
تقاة مصدر: تقيت فلَانا، وَلم يخرج على مصدر: اتَّقَيْت،
لِأَن مصدر اتَّقَيْت إتقاء وتقاة وتقية وتقى وتقوى، كلهَا
مصَادر تقيته،
(18/135)
بِمَعْنى وَاحِد، يُقَال: تقى يَتَّقِي.
مثل رمى يرْمى، وأصل التَّاء الْوَاو لِأَنَّهَا فِي
الأَصْل من الْوِقَايَة، وَمن كَثْرَة اسْتِعْمَالهَا
بِالتَّاءِ يتَوَهَّم أَن التَّاء من نفس الْحُرُوف.
صِرٌّ بَرْدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مثل مَا
يُنْفقُونَ فِي هَذِه الحيواة الدُّنْيَا كَمثل ريح فِيهَا
صر أَصَابَت حرث قوم ظلمُوا} (آل عمرَان: 117) الْآيَة
وَفسّر الصَّبْر بقوله برد، والصر بِكَسْر الصَّاد
وَتَشْديد الرَّاء وَهُوَ الرّيح الْبَارِدَة نَحْو
الصرصر.
شفَا حُفْرَةٍ مِثْلُ شَفا الرَّكِيَّةِ وَهُوَ حَرْفُها
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وكنتم على
شفا حُفْرَة من النَّار فأنقذكم مِنْهَا} (آل عمرَان: 103)
. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مَعْنَاهُ. وكنتم مشفين على أَن
تقعوا فِي نَار جَهَنَّم لما كُنْتُم عَلَيْهِ من الْكفْر
فأنقذكم مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ قَوْله: (مثل شفا
الرَّكية) بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْكَاف وَتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف. وَهِي الْبِئْر، والشفا، بِفَتْح
الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء الْحَرْف وَهُوَ
معنى قَوْله: (وَهُوَ حرفها) ، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء، وَهَكَذَا رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ بِضَم الْجِيم
وَالرَّاء.
تُبوِّيءُ تَتَّخِذُ مُعَسْكَرا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ
غَدَوْت من أهلك تبوىء الْمُؤمنِينَ مقاعد لِلْقِتَالِ}
(آل عمرَان: 121) وَفَسرهُ بقوله: تتَّخذ معسكرا. وَفَسرهُ
أَبُو عُبَيْدَة كَذَلِك، والمقاعد جمع مقْعد وَهُوَ
مَوْضُوع القعد.
المُسَوِّمُ الَّذِي لهُ سِيما بِعَلامَةٍ أوْ بِصُوفَةٍ
أوْ بِمَا كَان
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْل المسومة
والأنعام والحرث} (آل عمرَان: 141) . قَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: الْخَيل المسومة المعلمة من السومة وَهِي
الْعَلامَة أَو المطهمة أَو المرعية من أسام الدَّابَّة
وسومها وَعَن ابْن عَبَّاس: المسومة الراعية المطهمة
الحسان، وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد
بن جُبَير وَعبد الله بن أَبْزَى وَالسُّديّ وَالربيع بن
أنس وَأبي سِنَان وَغَيرهم، وَقَالَ مَكْحُول: المسومة
الْغرَّة والتحجيل. قَوْله: (المسوم الَّذِي لَهُ سِيمَا)
، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وبالميم المخففة هُوَ الْعَلامَة قَوْله: (أَو
بِمَا كَانَ) أَي: أَو بِأَيّ شَيْء كَانَ من العلامات.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالخَيْلُ المُسَوَّمَةُ المُطَهَّمَةُ
الحِسانُ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد بن حميد عَن روح عَن شبْل
عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد. قَالَ الْأَصْمَعِي
المطهم التَّام كل شَيْء مِنْهُ على حِدته فَهُوَ رباع
الْجمال، يُقَال: رجل مطهم وَفرس مطهم.
رِيِّبُّونَ الجمِيعُ وَالوَاحدُ رِبيٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكأين من نَبِي
قَاتل مَعَه ربيون} (آل عمرَان: 146) قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ الربيون الربانيون، وقرىء بالحركات
الثَّلَاث الْفَتْح، على الْقيَاس، وَالضَّم وَالْكَسْر من
تغييرات النّسَب. قَوْله: (الْجَمِيع) ويروى الْجمع أَي
جمع الربيون ربى، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عَاصِم
عَن زر عَن ابْن مَسْعُود، ربيون كثير أَي: أُلُوف وَقَالَ
ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير
وَالْحسن وَقَتَادَة وَالسُّديّ وَالربيع وَعَطَاء
الْخُرَاسَانِي: الربيون الجموع الْكَثِيرَة، وَقَالَ عبد
الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن ربيون كثير أَي: عُلَمَاء
كَثِيرُونَ، وَعنهُ أَيْضا: عُلَمَاء صبراء أبرار أتقياء،
وَحكى ابْن جرير عَن بعض نحاة الْبَصْرَة أَن الربيين هم
الَّذين يعْبدُونَ الرب، عز وَجل قَالَ: وَقد رد بَعضهم
عَلَيْهِ فَقَالَ: لَو كَانَ كَذَلِك لقيل، ربيون،
بِالْفَتْح انْتهى. قلت: لَا وَجه للرَّدّ لأَنا قُلْنَا:
إِن الكسرة من تغييرات النّسَب.
تحُسُّونَهَمْ تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صدقكُم الله
وعده إِذْ تحسونهم بِإِذْنِهِ} (آل عمرَان: 156) وَفسّر:
تحسونهم بقوله: تستأصلونهم: من الاستئصال وَهُوَ الْقلع من
الأَصْل، وَفِي التَّفْسِير: إِذْ تحسونهم أَي: تقتلونهم
قتلا ذريعا.
غُزّا وَاحِدُها غَازٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لإخوانهم
إِذا ضربوا فِي الأَرْض أَو كَانُوا غزا لَو كَانُوا
عندنَا مَا مَاتُوا} (آل عمرَان: 156) الْآيَة. وغزّا،
بِضَم الْغَيْن وَتَشْديد الزَّاي جمع غاز كعفى جمع عاف.
وَقَالَ بَعضهم: غزا وَاحِدهَا غاز. تَفْسِير أبي
عُبَيْدَة. قلت: مثل هَذَا لَا يُسمى تَفْسِيرا فِي
اصْطِلَاح أهل التَّفْسِير، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه
قَالَ جمع غاز. وأصل غاز غازى فأعل إعلال قَاض. وَقَرَأَ
الْحسن غزا بِالتَّخْفِيفِ. وَقيل: أَصله غزَاة فَحذف
الْهَاء، وَفِيه نظر.
سَنَكْتُبُ سَنَحْفَظُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لقد سمع الله قَول
الَّذين قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء سنكتب
مَا قَالُوا} (آل عمرَان: 181) الْآيَة. وَفسّر: سنكتب،
بقوله سنحفظ. أَي: سنحفظه وتثبته فِي علمنَا، وَفِي
التَّفْسِير: (سنكتب مَا قَالُوا) فِي صَحَائِف الْحفظَة،
وَقَرَأَ حَمْزَة: (سيكتب) . بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف
على الْبناء للْمَجْهُول، وَتَفْسِير البُخَارِيّ تَفْسِير
باللازم لِأَن الْكِتَابَة تَسْتَلْزِم الْحِفْظ.
نُزُلاً ثَوَابا وَيَجُوزُ وَمُنَزّلٌ مِنْ عِنْدِ الله
كَقَوْلِكَ أنْزَلْتُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَكِن الَّذين
اتَّقوا رَبهم لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار
خَالِدين فِيهَا نزلا من عِنْد الله وَمَا عِنْد الله خير
للأبرار} (آل عمرَان: 198) وَفسّر: نزلا، بقوله: ثَوابًا.
وَفَسرهُ فِي التَّفْسِير. بقوله: أَي ضِيَافَة من الله،
والنزل: بِسُكُون الزَّاي وَضمّهَا مَا يقدم للنازل.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وانتصابه إِمَّا على الْحَال من:
جنَّات، لتخصصها بِالْوَصْفِ، وَالْعَامِل اللَّام، وَيجوز
أَن يكون بِمَعْنى مصدر مُؤَكد كَأَنَّهُ قيل: رزقا أَو
عَطاء، من عِنْد الله. قَوْله: (وَيجوز: ومنزل من عِنْد
الله) أَرَادَ بِهِ أَن نزلا الَّذِي هُوَ الْمصدر يكون
بِمَعْنى منزلا على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول من قَوْلك:
أنزلته. وَيكون الْمَعْنى: لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا
الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا منزلَة، يَعْنِي: معطى لَهُم
منزلا من عِنْد الله كَمَا يعْطى الضَّيْف النزل وَقت
قدومه.
وَقَالَ ابنُ جُبَيْرٍ: وَحَصُورا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يبشرك
بِيَحْيَى مُصدقا بِكَلِمَة من الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا
وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} (آل عمرَان: 39) وَقَالَ سعيد
ابْن جُبَير معنى حصورا لَا يَأْتِي النِّسَاء، وَوصل
هَذَا الْمُعَلق عبد فَقَالَ: حَدثنَا جَعْفَر بن عبد الله
السّلمِيّ عَن أبي بكر الْهُذلِيّ عَن الْحسن وَسَعِيد بن
جُبَير وَعَطَاء وَأبي الشعْثَاء أَنهم قَالُوا: السَّيِّد
الَّذِي يغلب غَضَبه، والحصور الَّذِي لَا يغشى النِّسَاء،
وأصل الْحصْر الْحَبْس وَالْمَنْع يُقَال لمن لَا يَأْتِي
النِّسَاء وَهُوَ أَعم من أَن يكون بطبعه كالعنين أَو
المجاهدة نَفسه وَهُوَ الممدوح وَهُوَ المُرَاد فِي وصف
السَّيِّد يحيى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَقَالَ عِكْرَمَةُ مِنْ فَوْرِهِمْ مِنْ غَضَبِهِمْ
يَوْمَ بَدْرٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {بلَى أَن تصبروا
وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا} (آل عمرَان: 125) الْآيَة،
وَفسّر عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس: من فوره، بقوله: من
غضبهم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق
دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عِكْرِمَة، قَالَ: فورهم، ذَلِك
كَانَ يَوْم أحد غضبوا ليَوْم بدر مِمَّا لقوا.
وَقَال مُجَاهدٌ يُخْرِجُ الحَيَّ النُّطْفَةُ تَخْرُجُ
مَيِّتَةً وَيُخْرِجُ مِنْها الحَيُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَتخرج الْحَيّ من
الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وترزق من تشَاء
بِغَيْر حِسَاب} (آل عمرَان: 27) قَالَ مُجَاهِد: تخرج
الْحَيّ، مَعْنَاهُ النُّطْفَة تخرج حَال كَونهَا ميتَة.
وَيخرج من تِلْكَ الْميتَة الْحَيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق
وَصله مُحَمَّد بن جرير عَن الْقَاسِم. حَدثنَا حجاج عَن
ابْن جريج عَن مُجَاهِد، وَحَكَاهُ أَيْضا عَن ابْن
مَسْعُود وَالضَّحَّاك وَالسُّديّ وَإِسْمَاعِيل بن أبي
خَالِد وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير، وَفِي (تَفْسِير
ابْن كثير) يخرج الْحبَّة من الزَّرْع وَالزَّرْع من
الْحبَّة والنخلة من النواة والنواة من النَّخْلَة
وَالْمُؤمن من الْكَافِر وَالْكَافِر من الْمُؤمن والدجاجة
من الْبَيْضَة والبيضة من الدَّجَاجَة. وَقَالَ الْحسن:
يخرج الْمُؤمن الْحَيّ من الْكَافِر الْمَيِّت. قَوْله:
(النُّطْفَة) مُبْتَدأ وَتخرج، جملَة فِي مَحل الرّفْع
خَبره، وميتة نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي
تخرج.
الإبْكَارُ أوَّلُ الفَجْرِ وَالعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ
أُرَاهُ إلَى أنْ تَغْرُبَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {وَاذْكُر رَبك كثيرا وَسبح
بالْعَشي والأبكار} (آل عمرَان: 41) . وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: العشى من حِين تَزُول الشَّمْس إِلَى أَن
تغيب والأبكار من طُلُوع الْفجْر إِلَى وَقت الضُّحَى
وقرىء والأبكار بِفَتْح الْهمزَة جمع بكر كشجر وأشجار.
3 - ( {سُورَةُ آل عِمْرَانَ} )
أَي: هَذَا تَفْسِير سُورَة آل عمرَان.
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر دون غَيره. وَهُوَ حسن
لِأَن ابْتِدَاء الْأَمر بِبسْم الله الرحمان الرَّحِيم
يتبارك فِيهِ: وَلما فرغ من بَيَان سُورَة الْبَقَرَة شرع
فِي تَفْسِير سُورَة آل عمرَان، وابتدأ بالبسملة لما
ذكرنَا، وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كل أَمر ذِي
بَال الحَدِيث وَهُوَ مَشْهُور.
(بابٌ: تُقاةُ وتقيَّةٌ واحدَة)
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا
أَن تتقوا مِنْهُم تقاة ويحذركم الله نَفسه وَإِلَى الله
الْمصير} (آل عمرَان: 28) وَالْمعْنَى مُرْتَبِط بِمَا
قبله. وَهُوَ أول الْآيَة: {لَا يتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ
الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ وَمن يفعل
ذَلِك} يَعْنِي: وَمن يوالي الْكفَّار. (فَلَيْسَ من الله
فِي شَيْء) يَقع عَلَيْهِ اسْم الْوُلَاة. (إِلَّا أَن
تتقوا مِنْهُم تقاة) . يَعْنِي: إِلَّا أَن تخافوا من
جهتهم أمرا يجب اتقاؤه، وانتصاب: تقاة. على أَنه مفعول
تتقوا، وَيجوز أَن يكون، تتقوا، متضمنا معنى: تخافوا،
كَمَا ذكرنَا وَيكون: تقاة. نصبا على التَّعْلِيل، وَمعنى
قَول البُخَارِيّ: تقاة وتقية وَاحِدَة، يَعْنِي:
كِلَاهُمَا مصدر بِمَعْنى وَاحِد. قرىء فِي مَوضِع تقاة
تقية، وَالْعرب إِذا كَانَ معنى الْكَلِمَتَيْنِ وَاحِدًا،
وَاخْتلف اللَّفْظ يخرجُون مصدر أحد اللَّفْظَيْنِ على
مصدر اللَّفْظ الآخر، وَكَانَ الأَصْل هُنَا أَن يُقَال:
إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم اتقاء، وَهنا أخرج كَذَلِك لِأَن
تقاة مصدر: تقيت فلَانا، وَلم يخرج على مصدر: اتَّقَيْت،
لِأَن مصدر اتَّقَيْت إتقاء وتقاة وتقية وتقى وتقوى، كلهَا
مصَادر تقيته، بِمَعْنى وَاحِد، يُقَال: تقى يَتَّقِي. مثل
رمى يرْمى، وأصل التَّاء الْوَاو لِأَنَّهَا فِي الأَصْل
من الْوِقَايَة، وَمن كَثْرَة اسْتِعْمَالهَا بِالتَّاءِ
يتَوَهَّم أَن التَّاء من نفس الْحُرُوف.
صِرٌّ بَرْدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مثل مَا
يُنْفقُونَ فِي هَذِه الحيواة الدُّنْيَا كَمثل ريح فِيهَا
صر أَصَابَت حرث قوم ظلمُوا} (آل عمرَان: 117) الْآيَة
وَفسّر الصَّبْر بقوله برد، والصر بِكَسْر الصَّاد
وَتَشْديد الرَّاء وَهُوَ الرّيح الْبَارِدَة نَحْو
الصرصر.
شفَا حُفْرَةٍ مِثْلُ شَفا الرَّكِيَّةِ وَهُوَ حَرْفُها
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وكنتم على
شفا حُفْرَة من النَّار فأنقذكم مِنْهَا} (آل عمرَان: 103)
. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: مَعْنَاهُ. وكنتم مشفين على أَن
تقعوا فِي نَار جَهَنَّم لما كُنْتُم عَلَيْهِ من الْكفْر
فأنقذكم مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ قَوْله: (مثل شفا
الرَّكية) بِفَتْح الرَّاء وَكسر الْكَاف وَتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف. وَهِي الْبِئْر، والشفا، بِفَتْح
الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْفَاء الْحَرْف وَهُوَ
معنى قَوْله: (وَهُوَ حرفها) ، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء، وَهَكَذَا رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ بِضَم الْجِيم
وَالرَّاء.
تُبوِّيءُ تَتَّخِذُ مُعَسْكَرا
أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ
غَدَوْت من أهلك تبوىء الْمُؤمنِينَ مقاعد لِلْقِتَالِ}
(آل عمرَان: 121) وَفَسرهُ بقوله: تتَّخذ معسكرا. وَفَسرهُ
أَبُو عُبَيْدَة كَذَلِك، والمقاعد جمع مقْعد وَهُوَ
مَوْضُوع القعد.
المُسَوِّمُ الَّذِي لهُ سِيما بِعَلامَةٍ أوْ بِصُوفَةٍ
أوْ بِمَا كَان
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْل المسومة
والأنعام والحرث} (آل عمرَان: 141) . قَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: الْخَيل المسومة المعلمة من السومة وَهِي
الْعَلامَة أَو المطهمة أَو المرعية من أسام الدَّابَّة
وسومها وَعَن ابْن عَبَّاس: المسومة الراعية المطهمة
الحسان، وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد
بن جُبَير وَعبد الله بن أَبْزَى وَالسُّديّ وَالربيع بن
أنس وَأبي سِنَان وَغَيرهم، وَقَالَ مَكْحُول: المسومة
الْغرَّة والتحجيل. قَوْله: (المسوم الَّذِي لَهُ سِيمَا)
، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وبالميم المخففة هُوَ الْعَلامَة قَوْله: (أَو
بِمَا كَانَ) أَي: أَو بِأَيّ شَيْء كَانَ من العلامات.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالخَيْلُ المُسَوَّمَةُ المُطَهَّمَةُ
الحِسانُ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ عبد بن حميد عَن روح عَن شبْل
عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد. قَالَ الْأَصْمَعِي
المطهم التَّام كل شَيْء مِنْهُ على حِدته فَهُوَ رباع
الْجمال، يُقَال: رجل مطهم وَفرس مطهم.
رِيِّبُّونَ الجمِيعُ وَالوَاحدُ رِبيٌّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وكأين من نَبِي
قَاتل مَعَه ربيون} (آل عمرَان: 146) قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ الربيون الربانيون، وقرىء بالحركات
الثَّلَاث الْفَتْح، على الْقيَاس، وَالضَّم وَالْكَسْر من
تغييرات النّسَب. قَوْله: (الْجَمِيع) ويروى الْجمع أَي
جمع الربيون ربى، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن عَاصِم
عَن زر عَن ابْن مَسْعُود، ربيون كثير أَي: أُلُوف وَقَالَ
ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بن جُبَير
وَالْحسن وَقَتَادَة وَالسُّديّ وَالربيع وَعَطَاء
الْخُرَاسَانِي: الربيون الجموع الْكَثِيرَة، وَقَالَ عبد
الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن ربيون كثير أَي: عُلَمَاء
كَثِيرُونَ، وَعنهُ أَيْضا: عُلَمَاء صبراء أبرار أتقياء،
وَحكى ابْن جرير عَن بعض نحاة الْبَصْرَة أَن الربيين هم
الَّذين يعْبدُونَ الرب، عز وَجل قَالَ: وَقد رد بَعضهم
عَلَيْهِ فَقَالَ: لَو كَانَ كَذَلِك لقيل، ربيون،
بِالْفَتْح انْتهى. قلت: لَا وَجه للرَّدّ لأَنا قُلْنَا:
إِن الكسرة من تغييرات النّسَب.
تحُسُّونَهَمْ تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد صدقكُم الله
وعده إِذْ تحسونهم بِإِذْنِهِ} (آل عمرَان: 156) وَفسّر:
تحسونهم بقوله: تستأصلونهم: من الاستئصال وَهُوَ الْقلع من
الأَصْل، وَفِي التَّفْسِير: إِذْ تحسونهم أَي: تقتلونهم
قتلا ذريعا.
(18/136)
غُزّا وَاحِدُها غَازٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لإخوانهم
إِذا ضربوا فِي الأَرْض أَو كَانُوا غزا لَو كَانُوا
عندنَا مَا مَاتُوا} (آل عمرَان: 156) الْآيَة. وغزّا،
بِضَم الْغَيْن وَتَشْديد الزَّاي جمع غاز كعفى جمع عاف.
وَقَالَ بَعضهم: غزا وَاحِدهَا غاز. تَفْسِير أبي
عُبَيْدَة. قلت: مثل هَذَا لَا يُسمى تَفْسِيرا فِي
اصْطِلَاح أهل التَّفْسِير، غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه
قَالَ جمع غاز. وأصل غاز غازى فأعل إعلال قَاض. وَقَرَأَ
الْحسن غزا بِالتَّخْفِيفِ. وَقيل: أَصله غزَاة فَحذف
الْهَاء، وَفِيه نظر.
سَنَكْتُبُ سَنَحْفَظُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لقد سمع الله قَول
الَّذين قَالُوا إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء سنكتب
مَا قَالُوا} (آل عمرَان: 181) الْآيَة. وَفسّر: سنكتب،
بقوله سنحفظ. أَي: سنحفظه وتثبته فِي علمنَا، وَفِي
التَّفْسِير: (سنكتب مَا قَالُوا) فِي صَحَائِف الْحفظَة،
وَقَرَأَ حَمْزَة: (سيكتب) . بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف
على الْبناء للْمَجْهُول، وَتَفْسِير البُخَارِيّ تَفْسِير
باللازم لِأَن الْكِتَابَة تَسْتَلْزِم الْحِفْظ.
نُزُلاً ثَوَابا وَيَجُوزُ وَمُنَزّلٌ مِنْ عِنْدِ الله
كَقَوْلِكَ أنْزَلْتُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَكِن الَّذين
اتَّقوا رَبهم لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار
خَالِدين فِيهَا نزلا من عِنْد الله وَمَا عِنْد الله خير
للأبرار} (آل عمرَان: 198) وَفسّر: نزلا، بقوله: ثَوابًا.
وَفَسرهُ فِي التَّفْسِير. بقوله: أَي ضِيَافَة من الله،
والنزل: بِسُكُون الزَّاي وَضمّهَا مَا يقدم للنازل.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وانتصابه إِمَّا على الْحَال من:
جنَّات، لتخصصها بِالْوَصْفِ، وَالْعَامِل اللَّام، وَيجوز
أَن يكون بِمَعْنى مصدر مُؤَكد كَأَنَّهُ قيل: رزقا أَو
عَطاء، من عِنْد الله. قَوْله: (وَيجوز: ومنزل من عِنْد
الله) أَرَادَ بِهِ أَن نزلا الَّذِي هُوَ الْمصدر يكون
بِمَعْنى منزلا على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول من قَوْلك:
أنزلته. وَيكون الْمَعْنى: لَهُم جنَّات تجْرِي من تحتهَا
الْأَنْهَار خَالِدين فِيهَا منزلَة، يَعْنِي: معطى لَهُم
منزلا من عِنْد الله كَمَا يعْطى الضَّيْف النزل وَقت
قدومه.
وَقَالَ ابنُ جُبَيْرٍ: وَحَصُورا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن الله يبشرك
بِيَحْيَى مُصدقا بِكَلِمَة من الله وَسَيِّدًا وَحَصُورًا
وَنَبِيًّا من الصَّالِحين} (آل عمرَان: 39) وَقَالَ سعيد
ابْن جُبَير معنى حصورا لَا يَأْتِي النِّسَاء، وَوصل
هَذَا الْمُعَلق عبد فَقَالَ: حَدثنَا جَعْفَر بن عبد الله
السّلمِيّ عَن أبي بكر الْهُذلِيّ عَن الْحسن وَسَعِيد بن
جُبَير وَعَطَاء وَأبي الشعْثَاء أَنهم قَالُوا: السَّيِّد
الَّذِي يغلب غَضَبه، والحصور الَّذِي لَا يغشى النِّسَاء،
وأصل الْحصْر الْحَبْس وَالْمَنْع يُقَال لمن لَا يَأْتِي
النِّسَاء وَهُوَ أَعم من أَن يكون بطبعه كالعنين أَو
المجاهدة نَفسه وَهُوَ الممدوح وَهُوَ المُرَاد فِي وصف
السَّيِّد يحيى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَقَالَ عِكْرَمَةُ مِنْ فَوْرِهِمْ مِنْ غَضَبِهِمْ
يَوْمَ بَدْرٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {بلَى أَن تصبروا
وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا} (آل عمرَان: 125) الْآيَة،
وَفسّر عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس: من فوره، بقوله: من
غضبهم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق
دَاوُد بن أبي هِنْد عَن عِكْرِمَة، قَالَ: فورهم، ذَلِك
كَانَ يَوْم أحد غضبوا ليَوْم بدر مِمَّا لقوا.
وَقَال مُجَاهدٌ يُخْرِجُ الحَيَّ النُّطْفَةُ تَخْرُجُ
مَيِّتَةً وَيُخْرِجُ مِنْها الحَيُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَتخرج الْحَيّ من
الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وترزق من تشَاء
بِغَيْر حِسَاب} (آل عمرَان: 27) قَالَ مُجَاهِد: تخرج
الْحَيّ، مَعْنَاهُ النُّطْفَة تخرج حَال كَونهَا ميتَة.
وَيخرج من تِلْكَ الْميتَة الْحَيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق
وَصله مُحَمَّد بن جرير عَن الْقَاسِم. حَدثنَا حجاج عَن
ابْن جريج عَن مُجَاهِد، وَحَكَاهُ أَيْضا عَن ابْن
مَسْعُود وَالضَّحَّاك وَالسُّديّ وَإِسْمَاعِيل بن أبي
خَالِد وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير، وَفِي (تَفْسِير
ابْن كثير) يخرج الْحبَّة من الزَّرْع وَالزَّرْع من
الْحبَّة والنخلة من النواة والنواة من النَّخْلَة
وَالْمُؤمن من الْكَافِر وَالْكَافِر من الْمُؤمن والدجاجة
من الْبَيْضَة والبيضة من الدَّجَاجَة. وَقَالَ الْحسن:
يخرج الْمُؤمن الْحَيّ من الْكَافِر الْمَيِّت. قَوْله:
(النُّطْفَة) مُبْتَدأ وَتخرج، جملَة فِي مَحل الرّفْع
خَبره، وميتة نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي
تخرج.
(18/137)
الإبْكَارُ أوَّلُ الفَجْرِ وَالعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ
أُرَاهُ إلَى أنْ تَغْرُبَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {وَاذْكُر رَبك كثيرا وَسبح
بالْعَشي والأبكار} (آل عمرَان: 41) . وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: العشى من حِين تَزُول الشَّمْس إِلَى أَن
تغيب والأبكار من طُلُوع الْفجْر إِلَى وَقت الضُّحَى
وقرىء والأبكار بِفَتْح الْهمزَة جمع بكر كشجر وأشجار. |