عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 1 - (بابٌ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الحَلالُ وَالحَرَامُ: وَأُخَرُ
مُتشابِهاتٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضا كَقَوْلِهِ
تَعَالَى وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِفِينَ
وَكَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ وَيَجْعل الرِّجْسَ عَلَى
الَّذِينَ لَا يَعْقِلونَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ
هَذَا الْكَلَام كُله كَلَام مُجَاهِد رَوَاهُ عبد بن حميد
عَن روح عَن شبْل عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ: رَوَاهُ ابْن
الْمُنْذر عَن عَليّ بن الْمُبَارك عَن زيد بن الْمُبَارك
عَن مُحَمَّد بن ثَوْر عَن ابْن جريج عَنهُ قَوْله:
(مِنْهُ) . أَي: من الْكتاب، يَعْنِي: الْقُرْآن قَالَ:
{هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب مِنْهُ آيَات محكمات
هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات} (آل عمرَان: 7) قَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: محكمات أحكمت عبارتها بِأَن حفظت من
الِاحْتِمَال والاشتباه. هن أم الْكتاب أَي: أصل الْكتاب.
متشابهات مُشْتَبهَات محتملات وَقَالَ الْكرْمَانِي: أما
اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ فَالْحكم هُوَ الْمُشْتَرك
بَين النَّص وَالظَّاهِر الْمُتَشَابه هُوَ الْمُشْتَرك
بَين الْمُجْمل والمؤول وَقَالَ الْخطابِيّ الْمُحكم هُوَ
الَّذِي يعرف بِظَاهِر بَيَانه تَأْوِيله وبواضح أدلته
بَاطِن مَعْنَاهُ، والمتشابه مَا اشْتبهَ مِنْهَا فَلم
يتلق مَعْنَاهُ من لَفظه وَلم يدْرك حكمه من تِلَاوَته،
وَهُوَ على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: مَا إِذا رد إِلَى
الْمُحكم وَاعْتبر بِهِ علم مَعْنَاهُ. وَالْآخر: مَا لَا
سَبِيل إِلَى الْوُقُوف على حَقِيقَته وَهُوَ الَّذِي
يتبعهُ أهل الزبغ فيبطلون تَأْوِيله وَلَا يبلغون فيرتابون
فِيهِ فيفتنون بِهِ، وَذَلِكَ كالإيمان بِالْقدرِ
وَنَحْوه، وَيُقَال: الْمُحكم مَا اتضحت دلَالَته،
والمتشابه مَا يحْتَاج إِلَى نظر وَتَخْرِيج، وَقيل:
الْمُحكم مَا لم ينْسَخ، والمتشابه مَا نسخ، وَقيل:
الْمُحكم آيَات الْحَلَال وَالْحرَام، والمتشابه آيَات
الصِّفَات وَالْقدر، وَقيل: الْمُحكم آيَات الْأَحْكَام،
والمتشابه الْحُرُوف الْمُقطعَة. قَوْله: (وَأخر) جمع
أُخْرَى، وَاخْتلف فِي عدم صرفهَا. فَقيل: لِأَنَّهَا نعت،
كَمَا لَا تصرف كتع وَجمع لِأَنَّهُنَّ نعوت، وَقيل: لم
تصرف لزِيَادَة الْيَاء فِي واحدتها وَأَن جمعهَا مبْنى
على وَاحِدهَا فِي ترك الصّرْف: كحمراء وبيضاء فِي النكرَة
والمعرفة لزِيَادَة الْمدَّة والهمزة فيهمَا. قَوْله:
(يصدق) تَفْسِير للمتشابه. قَوْله: كَقَوْلِه تَعَالَى:
{وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين} (الْبَقَرَة: 26)
إِشَارَة إِلَى أَن الْمَفْهُوم مِنْهُ أَن الْفَاسِقين
أَي الضَّالّين إِنَّمَا ضلالتهم من جِهَة اتباعهم
الْمُتَشَابه بِمَا لَا يُطَابق الْمُحكم طلب افتتان
النَّاس عَن دينهم وَإِرَادَة إضلالهم. قَوْله:
وَكَقَوْلِه تَعَالَى: {وَيجْعَل الرجس على الَّذين لَا
يعْقلُونَ} (يُونُس: 100) إِنَّمَا ذكر هَذَا تَصْدِيقًا
لما تتضمنه الْآيَة الَّتِي قبلهَا حَيْثُ يَجْعَل الرجس
على الَّذين لَا يعْقلُونَ، وَقيل: الرجس السخط. وَقيل:
الْإِثْم، وَقيل: الْعَذَاب. وَقيل: الْفِتَن والنجاسة،
أَي: يحكم عَلَيْهِم بِأَنَّهُم أنجاس غير طَاهِرَة،
وَقَرَأَ الْأَعْمَش: الرجز: بالزاي وَبِه فسر الرجس
أَيْضا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الرجل الخذلان وَهُوَ
الْعَذَاب وَهُوَ شَبيه قَوْله: {على الَّذين لَا
يعْقلُونَ} أَي أَمر الله وَلَا أَمر رَسُوله لأَنهم مصرون
على الْكفْر. وَهَذَا أَيْضا رَاجع إِلَى معنى الَّذين
يتبعُون مَا تشابه بِمَا لَا يُطَابق علم الراسخين.
قَوْله: وَكَقَوْلِه: {وَالَّذين اهتدوا} (مُحَمَّد: 17)
إِلَى آخِره، رَاجع فِي الْحَقِيقَة إِلَى معنى الَّذين
صدرهم مُجَاهِد فِي كَلَامه الْمَذْكُور لِأَن مُرَاده من
ذَلِك فِي نفسر الْأَمر الراسخون فِي الْعلم الَّذين
اهتدوا وَزَادَهُمْ الله هدى، فَافْهَم، فَإِنِّي لم أر
أحدا من الشُّرَّاح أُتِي سَاحل هَذَا فضلا أَن يغوص
فِيهِ. وَالله أعلم.
زَيْغٌ شَكٌّ. ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين فِي
قُلُوبهم زيغ} وَفسّر الزيغ بِالشَّكِّ. قَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: هم أهل الْبدع، {فيتبعون مَا تشابه
مِنْهُ} أَي: من الْكتاب الَّذِي هُوَ الْقُرْآن،
وَيُقَال: هم أهل الضلال وَالْبَاطِل وَالْخُرُوج عَن
الْحق (يتبعُون مَا تشابه مِنْهُ) الَّذِي يُمكنهُم أَن
يحرفوه إِلَى مقاصدهم الْفَاسِدَة وينزلوه عَلَيْهَا.
قَوْله: (ابْتِغَاء الْفِتْنَة) ، أَي: طلبا أَن يفتنوا
النَّاس عَن دينهم.
والراسِخُونَ يَعْلَمُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
(18/138)
قَالَ ابْن نجيح عَن مُجَاهِد: {الراسخون
فِي الْعلم يعلمُونَ تَأْوِيله يَقُولُونَ آمنا بِهِ} (آل
عمرَان: 7) وَكَذَا قَالَ الرّبيع بن أنس. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: الراسخون فِي الْعلم الَّذين رسخوا أَي:
ثبتوا فِيهِ وتمكنوا، وَيَقُولُونَ كَلَام مُسْتَأْنف
يُوضح حَال الراسخين، يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْعَالمُونَ
بالتأويل يَقُولُونَ: آمنا بِهِ أَي: بالتشابه كل من عِنْد
رَبنَا أَي كل وَاحِد من الْمُتَشَابه والمحكم من عِنْد
الله، وَيجوز أَن يكون: يَقُولُونَ، حَالا من الراسخين.
وَقَرَأَ عبد الله أَن تَأْوِيله إلاَّ عِنْد الله،
وَقَرَأَ أبي: وَيَقُول الراسخون.
4547 - ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ حدَّثنا
يَزِيدُ بنُ إبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ عنِ ابنِ أبِي
مُلَيْكَةَ عنِ القاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عنْ عَائِشَةَ
رَضِي الله عَنْهَا قَالَتْ تَلا رَسُولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم هاذِهِ الآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أنْزَلَ
عَلَيْكَ الكتابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الكتابِ وَأُخَرُ مُتشابهاتٌ فَأمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ
ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} إلَى
قَوْلِهِ: {أُولُوا الألْبَابِ} قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولائِكَ الَّذِينَ
سَمَّى الله فَاحْذَرُوهُمْ.
عبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الميمين: ابْن قعنب القعْنبِي
شيخ مُسلم أَيْضا وَيزِيد من الزِّيَادَة. ابْن
إِبْرَاهِيم أَبُو سعيد التسترِي، بِضَم التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح
التَّاء الْأُخْرَى وبالراء نِسْبَة إِلَى تستر مَدِينَة
من كور الأهواز وَبهَا قبر الْبَراء بن مَالك، وتسميها
الْعَامَّة ششتر، بشينين معجمتين الأولى مَضْمُومَة
وَالثَّانيَِة سَاكِنة، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله
بن عبيد الله بن أبي مليكَة، واسْمه زُهَيْر، وَالقَاسِم
بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن القعْنبِي أَيْضا
وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن القعْنبِي فِي السّنة.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير. وَقَالَ: روى
هَذَا الحَدِيث غير وَاحِد عَن ابْن أبي مليكَة عَن
عَائِشَة. وَلم يذكر وَالقَاسِم، وَإِنَّمَا ذكره يزِيد بن
إِبْرَاهِيم عَن الْقَاسِم فِي هَذَا الحَدِيث، وَعبد الله
بن عبيد الله بن أبي مليكَة سمع من عَائِشَة أَيْضا
انْتهى. وَفِيه نظر لِأَن غير يزِيد ذكر فِيهِ الْقَاسِم
وَهُوَ حَمَّاد بن سَلمَة قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ:
أَنبأَنَا الْحسن بن عَليّ الشطوي حَدثنَا ابْن
الْمَدِينِيّ حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة
عَن ابْن أبي مليكَة. قَالَ: حَدثنِي الْقَاسِم بن
مُحَمَّد عَن عَائِشَة، فَذكره. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ
ذكر حَمَّاد فِي هَذَا الحَدِيث للاستشهاد على مُوَافَقَته
يزِيد بن إِبْرَاهِيم فِي الْإِسْنَاد. وَقَالَ ابْن أبي
حَاتِم: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ حَدثنَا
يزِيد بن إِبْرَاهِيم وَحَمَّاد بن سَلمَة عَن ابْن أبي
مليكَة عَن الْقَاسِم، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن سَلمَة أَيْضا
عِنْد الطَّبَرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن
أَبِيه عَن عَائِشَة.
قَوْله: (تَلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ،
أَي: قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه
الْآيَة: وَهِي قَوْله: (هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْك
الْكتاب) الْآيَة. قَوْله: (فَإِذا رَأَيْت الَّذين
يتبعُون مَا تشابه مِنْهُ) ، قَالَ الطَّبَرِيّ: قيل: إِن
هَذِه الْآيَة نزلت فِي الَّذين جادلوا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمر عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام،
وَقيل: فِي أَمر هَذِه الْأمة. وَهَذَا أقرب لِأَن أمرى
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، أعلمهُ الله نبيه مُحَمَّدًا
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته وَبَينه لَهُم بِخِلَاف
أَمر هَذِه الْأمة فَإِن علم أَمرهم خَفِي على الْعباد.
قَوْله: (فَأُولَئِك الَّذين سمى الله) ، قَالَ ابْن
عَبَّاس: هم الْخَوَارِج، قيل: أول بِدعَة وَقعت فِي
الْإِسْلَام بِدعَة الْخَوَارِج، ثمَّ كَانَ ظُهُورهمْ فِي
أَيَّام عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
ثمَّ تشعبت مِنْهُم شعوب وقبائل وآراء وَأَهْوَاء وَنحل
كَثِيرَة منتشرة، ثمَّ نبعت الْقَدَرِيَّة ثمَّ
الْمُعْتَزلَة ثمَّ الْجَهْمِية وَغَيرهم من أهل الْبدع
الَّتِي أخبر عَنْهَا الصَّادِق المصدوق فِي قَوْله:
وَسَتَفْتَرِقُ هَذِه الْأمة على ثَلَاث وَسبعين فرقة
كلهَا فِي النَّار إلاَّ وَاحِدَة. قَالُوا: وَمن هم يَا
رَسُول الله؟ قَالَ: مَا أَنا عَلَيْهِ وأصحابي: أخرجه
الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) . قَوْله: (فاحذروهم) ،
بِصِيغَة الْجمع وَالْخطاب للْأمة، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني فَاحْذَرْهُمْ، بِالْإِفْرَادِ أَي: احذرهم
أَيهَا الْمُخَاطب.
2 - (بابٌ: {وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَتَها مِنَ
الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (آل عمرَان: 36)
(18/139)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِنِّي أُعِيذهَا} الْآيَة هَذَا إِخْبَار من الله عز
وَجل عَن امْرَأَة عمرَان أم مَرْيَم، عَلَيْهَا
السَّلَام، وَهِي حنة بنت فاقوذا أَنَّهَا قَالَت: إِنِّي
أُعِيذهَا. أَي: عوذتها بِاللَّه عز وَجل وعوذت ذريتها
وَهُوَ وَلَدهَا عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فَاسْتَجَاب
الله لَهَا ذَلِك، كَمَا يَأْتِي الْآن فِي حَدِيث
الْبَاب.
4548 - ح دَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا عَبْدُ
الرزَّاقِ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَعِيدِ
ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ
أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا مِنْ
مَوْلُودٍ يُولَدُ إلاّ وَالشَّيْطَانُ يَمّسُّهُ حِينَ
يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ
إيَّا إلاّ مَرْيَمَ وَابْنَها ثُمَّ يَقُولُ أبُو
هُرَيْرَةَ وافْرَؤُا إنْ شِئْتُمْ {وَإنِّي أُعِيذُها
بِكَ وَذُرِّيَتَها مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} .
عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالمسندي. والْحَدِيث قد
مر فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام فِي:
بَاب قَول الله تَعَالَى: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم}
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب
عَن الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
3 - (بابٌ: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله
وَأيْمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَا خَلاقَ
لَهُمْ} لَا خَيْرَ (آل عمرَان: 77)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين
يشْتَرونَ} الْآيَة. أَي: يستبدلون (بِعَهْد الله) بِمَا
عاهدوه عَلَيْهِ من الْإِيمَان بالرسول الْمُصدق لما
مَعَهم. قَوْله: (أَيْمَانهم) أَي: بِمَا حلفوا بِهِ من
قَوْلهم، وَالله لنؤمنن بِهِ ولننصرنه. قَوْله: (ثمنا
قَلِيلا) هُوَ عرض هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا الزائلة
الفانية. قَوْله: (لَا خلاق لَهُم) فسره البُخَارِيّ
قَوْله: لَا خير لَهُم فِي الْآخِرَة، وَيُقَال: لَا نصيب
لَهُم.
ألِيمٌ مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ مِنَ الأَلَمِ وَهُوَ فِي
مَوْضِعِ مُفْعِلٍ
أَشَارَ بِأَن لفظ الْمِيم الَّذِي وَزنه فعيل بِمَعْنى
مؤلم على وزن مفعل. وَهُوَ معنى قَوْله: هُوَ فِي مَوضِع
مفعل بِكَسْر الْعين، كَقَوْل الشَّاعِر:
أَمن رَيْحَانَة الدَّاعِي السَّمِيع
فَإِن السَّمِيع بِمَعْنى المسمع. وَقَوله: موجع، تَفْسِير
قَوْله مؤلم.
4550 - ح دَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهَالٍ حدَّثنا أبُو
عَوَانَةَ عنِ الأَعْمَشِ عنْ أبِي وَائِلٍ عنْ عَبْدِ
الله ابنِ مَسْعُودٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنِ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ
لِيَقْتَطِعَ بِها مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ الله
وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَأُنْزَلَ الله تَصْدِيقَ
ذَلِكَ {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله
وَأيْمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَا خَلاقَ
لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} إلَى آخِرِ الآيَةِ قَالَ فَدَخَلَ
الأشْعَثُ ابنُ قَيْسٍ وَقَالَ مَا يُحَدِّثُكُمْ أبُو
عَبْدِ الرَّحْمانِ قُلْنا كَذَا وَكَذَا قَالَ فِيَّ
أُنْزِلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أرْض ابنِ عَمٍّ لِي
قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيِّنَتُكَ أوْ
يَمِينُهُ فَقُلْتُ إِذا يَحْلِفَ يَا رَسُولَ الله
فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِىءٍ
مُسْلِمٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ الله وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَأَبُو عوَانَة الوضاح بن
عبد الله الْيَشْكُرِي وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو
وَائِل شَقِيق بن سَلمَة.
والْحَدِيث قد مر فِي كتاب الشَّهَادَات فِي بَاب مُجَرّد
بعد: بَاب الْيَمين على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ
أخرجه هُنَاكَ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن
مَنْصُور عَن أبي وَائِل إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.
قَوْله: (من حلف يَمِين صَبر) بِإِضَافَة يَمِين إِلَى
صَبر، وَفِي آخر الحَدِيث على يَمِين صَبر ويروى، من حلف
يَمِينا صبرا، أَي: يَمِينا ألزم بهَا وَحبس عَلَيْهَا،
وأصل الصَّبْر الْحَبْس أَو يحبس نَفسه ليحلف. قَوْله:
(غَضْبَان) إِطْلَاق الْغَضَب على الله مجَاز، وَالْمرَاد
لَازمه وَهُوَ إِيصَال الْعقَاب. قَوْله: (فَدخل
الْأَشْعَث) بالشين الْمُعْجَمَة وَالتَّاء الْمُثَلَّثَة
ابْن قيس الْكِنْدِيّ. قَوْله: (مَا يُحَدثكُمْ) أَي: أَي
شَيْء يُحَدثكُمْ أَبُو عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ كنية عبد
الله بن مَسْعُود. قَوْله: فِي (بِكَسْر الْفَاء
(18/140)
وَتَشْديد الْيَاء) قَوْله: (فَاجر) أَي:
كَاذِب.
4551 - ح دَّثنا عَلِيٌّ هُوَ ابنُ أبِي هَاشِمٍ سَمِعَ
هُشَيْما أخْبَرَنَا العَوَّامُ بنُ حَوْشَبٍ عنْ
إبْرَاهِيمَ ابنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَنْ عَبْدِ الله بنِ
أبِي أوْفَى رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّ رَجُلاً أقَامَ
سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَحَلَفَ فِيهَا لَقَدْ أعْطِيَ
بهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيها رَجُلاً مِنَ
المُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ
بِعَهْدِ الله وَأيْمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً} (آل
عمرَان: 77) إلَى آخِرِ الآيَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعلي بن أبي هَاشم
الْبَغْدَادِيّ من أَفْرَاده: وهشيم: مصغر هشيم بن بشير
مصغر بشرّ الوَاسِطِيّ والعوام. بتَشْديد الْوَاو بن
حَوْشَب: بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح
الشين الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. والْحَدِيث
قد مر فِي كتاب الْبيُوع فِي: بَاب مَا يكره من الْحلف فِي
البيع.
قَوْله: (لقد أعْطى) على صِيغَة الْمَجْهُول وَكَذَا
قَوْله: (مَا لم يُعْطه) وَلَا مُنَافَاة بَين هَذَا
الحَدِيث والْحَدِيث السَّابِق من حَيْثُ أَن ذَاك فِي
الْبِئْر وَهَذَا فِي السّلْعَة لِأَن الْآيَة نزلت
بالسببين جَمِيعًا. وَلَفظ الْآيَة عَام يتناولهما
وَغَيرهمَا، وَقيل: لَعَلَّ الْآيَة لم تبلغ عبد الله بن
أبي أوفى، إِلَّا عِنْد إِقَامَة السّلْعَة. فَظن أَنَّهَا
نزلت فِي ذَلِك.
73 - (حَدثنَا نصر بن عَليّ بن نصر حَدثنَا عبد الله بن
دَاوُد عَن ابْن جريج عَن ابْن أبي مليكَة أَن
امْرَأتَيْنِ كَانَتَا تخرزان فِي بَيت أَو فِي حجرَة
فَخرجت إِحْدَاهمَا وَقد أنفذ بإشفى فِي كفها فادعت على
الْأُخْرَى فَرفع إِلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ ابْن عَبَّاس
قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لذهب دِمَاء قوم وَأَمْوَالهمْ
ذكروها بِاللَّه واقرؤا عَلَيْهَا إِن الَّذين يشْتَرونَ
بِعَهْد الله فذكروها فَاعْترفت فَقَالَ ابْن عَبَّاس
قَالَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ) مطابقته للتَّرْجَمَة
ظَاهِرَة وَنصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي وَعبد الله بن
دَاوُد بن عَامر الْمَعْرُوف بالخريبي كُوفِي الأَصْل سكن
الخريبة محلّة بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ من أَصْحَاب أبي
حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَانَ ثِقَة زاهدا
يروي عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج وَهُوَ يروي
عَن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكَة والْحَدِيث مضى
مُخْتَصرا فِي الرَّهْن وَالشَّرِكَة عَن أبي نعيم وَأخرجه
بَقِيَّة الْجَمَاعَة وَقد ذَكرْنَاهُ قَوْله أَن
امْرَأتَيْنِ كَانَتَا تخرزان من خرز الْخُف وَنَحْوه يخرز
بِضَم الرَّاء وَكسرهَا قَوْله فِي بَيت أَو فِي حجرَة
كَذَا بِالشَّكِّ فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَحده والحجرة
بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم وبالراء قَالَ
ابْن الْأَثِير وَهِي الْموضع الْمُنْفَرد وَفِي الْمطَالع
وكل مَوضِع حجر عَلَيْهِ بِالْحِجَارَةِ فَهُوَ حجرَة
وَقَالَ الْجَوْهَرِي الْحُجْرَة حَظِيرَة الْإِبِل
وَمِنْه حجرَة الدَّار تَقول أحجرت حجرَة أَي اتخذتها
وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين فِي بَيت وَفِي حجرَة
بِالْوَاو دون أَو الَّتِي للتشكيك قَالَ بَعضهم وَالْأول
هُوَ الصَّوَاب يَعْنِي الَّذِي بِالْوَاو وَإِنَّمَا
قَالَ الأول لِأَن الَّذِي فِي نسخته ذكر بِالْوَاو أَولا
ثمَّ ذكر بِأَو وَنسب رِوَايَة أَو الَّتِي للشَّكّ إِلَى
الْخَطَأ ثمَّ قَالَ وَسبب الْخَطَأ أَن فِي السِّيَاق
حذفا بَينه ابْن السكن فِي رِوَايَته جَاءَ فِيهَا فِي
بَيت وَفِي حجرَة حداث فالواو عاطفة لَكِن الْمُبْتَدَأ
مَحْذُوف وحداث بِضَم الْمُهْملَة وَالتَّشْدِيد وَآخره
مُثَلّثَة أَي يتحدثون وَحَاصِله أَن الْمَرْأَتَيْنِ
كَانَتَا فِي الْبَيْت وَكَانَ فِي الْحُجْرَة
الْمُجَاورَة للبيت نَاس يتحدثون فَسقط الْمُبْتَدَأ من
الرِّوَايَة فَصَارَ مُشكلا فَعدل الرَّاوِي عَن الْوَاو
إِلَى أَو الَّتِي للشَّكّ فِرَارًا من اسْتِحَالَة كَون
الْمَرْأَتَيْنِ فِي الْبَيْت وَفِي الْحُجْرَة مَعًا
انْتهى قلت هَذَا تصرف عَجِيب وَفِيه تعسف من وُجُوه لَا
يحْتَاج إِلَى ارتكابها (الأول) أَن نسبته رِوَايَة أَو
للشَّكّ إِلَى الْخَطَأ خطأ لِأَن كَون أَو للشَّكّ
مَشْهُور فِي كَلَام الْعَرَب وَلَيْسَ فِيهِ مَانع هُنَا
لَا من جِهَة اللَّفْظ وَلَا من جِهَة الْمَعْنى
(الثَّانِي) أَن قَوْله فالواو للْعَطْف غير مُسلم هُنَا
لفساد الْمَعْنى (الثَّالِث) دَعْوَاهُ أَن الْمُبْتَدَأ
مَحْذُوف لَا دَلِيل عَلَيْهِ لِأَن حذف الْمُبْتَدَأ
إِنَّمَا يكون وجوبا أَو جَوَازًا فَلَا مُقْتَضى
(18/141)
لوَاحِد مِنْهُمَا هُنَا يعرفهُ من لَهُ
يَد فِي الْعَرَبيَّة (الرَّابِع) أَنه ادّعى أَن الْوَاو
للْعَطْف ثمَّ قَالَ وَحَاصِله أَن الْمَرْأَتَيْنِ
كَانَتَا فِي الْبَيْت وَكَانَ فِي الْحُجْرَة
الْمُجَاورَة للبيت نَاس يتحدثون فَهَذَا يُنَادي
بِأَعْلَى صَوته أَن الْوَاو هُنَا لَيست للْعَطْف بل هِيَ
وَاو الْحَال (الْخَامِس) أَن قَوْله الْحُجْرَة
الْمُجَاورَة للبيت يحْتَاج إِلَى بَيَان أَن تِلْكَ
الْحُجْرَة كَانَت مجاورة للبيت فَلم لَا يجوز أَن تكون
الْحُجْرَة نفس الْبَيْت لأَنا قد ذكرنَا أَن الْحُجْرَة
مَوضِع مُنْفَرد فَلَا مَانع من أَن يكون فِي الْبَيْت
مَوضِع مُنْفَرد (السَّادِس) أَنه ادّعى اسْتِحَالَة كَون
الْمَرْأَتَيْنِ فِي الْبَيْت وَفِي الْحُجْرَة فَلَا
اسْتِحَالَة هُنَا لجَوَاز كَون من كَانَ فِي الْحُجْرَة
وَهِي فِي الْبَيْت كَونه فِي الْحُجْرَة وَالْبَيْت
وَدَعوى اسْتِحَالَة مثل هَذَا هُوَ الْمحَال قَوْله "
وَقد أنفذ بإشفى " الْوَاو فِيهِ للْحَال وَقد للتحقيق
وأنفذ من النَّفاذ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة على صِيغَة
الْمَجْهُول والإشفى بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الشين
الْمُعْجَمَة وبالفاء مَقْصُورا وَهُوَ مثل المسلة لَهُ
مقبض يخرز بهَا الإسكاف قَوْله " فَرفع " أَي أَمر
الْمَرْأَتَيْنِ المذكورتين وَرفع على صِيغَة الْمَجْهُول
قَوْله " لَو يعْطى " على صِيغَة الْمَجْهُول قَوْله "
فذكروها " الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى لفظ
الْأُخْرَى وَهِي الْمُدعى عَلَيْهَا وَهُوَ بِصِيغَة
الْأَمر للْجَمَاعَة وَأَرَادَ بالتذكير تخويفها من
الْيَمين لِأَن فِيهَا هتك حُرْمَة اسْم الله عِنْد الْحلف
الْبَاطِل وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي قَوْله عَلَيْهَا
وَفِي قَوْله فذكروها وَهُوَ بِفَتْح الْكَاف لِأَنَّهُ
جملَة مَاضِيَة قَوْله " الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ "
يَعْنِي عِنْد عدم بَيِّنَة الْمُدَّعِي وَقَالَ صَاحب
التَّوْضِيح قَوْله " الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ "
أَي فَإِن نكل حلف الْمُدَّعِي قلت هَذَا الَّذِي قَالَه
لَيْسَ معنى قَول ابْن عَبَّاس بل الْمَعْنى فِيهِ أَن
الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا رد الْيَمين على الْمُدَّعِي لَا
يَصح لِأَن الْيَمين وَظِيفَة الْمُدعى عَلَيْهِ فَإِذا
نكل عَن الْيَمين يلْزمه مَا يَدعِيهِ الْمُدَّعِي -
4 - (بابٌ: {قُلْ يَا أهْل الكِتابِ تَعَالَوْ إلَى
كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أنْ لَا نَعْبُدَ
إِلَّا الله} (آل عمرَان: 64)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {قل يَا أهل الْكتاب}
الْآيَة. وَهَذَا الْمِقْدَار وَقع من الْآيَة
الْمَذْكُورَة فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
أبي ذَر هَكَذَا {قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى
كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم} الْآيَة. قَوْله: (قل)
أَي: يَا مُحَمَّد (يَا أهل الْكتاب) قيل: هم أهل
الْكِتَابَيْنِ، وَقيل: وَفد نَجْرَان، وَقيل: يهود
الْمَدِينَة. قَوْله: (إِلَى كلمة) أَرَادَ بهَا
الْجُمْلَة المفيدة ثمَّ وصفهَا بقوله: (سَوَاء بَيْننَا
وَبَيْنكُم) نستوي نَحن وَأَنْتُم فِيهَا وفسرها بقوله:
(أَن لَا نعْبد إِلَّا الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا) لَا
وثنا وَلَا صنما وَلَا صليبا وَلَا طاغوتا وَلَا نَارا بل
نعْبد الله وَحده لَا شريك لَهُ. وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا
بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله، فَلَا نقُول عُزَيْر ابْن
الله. وَلَا الْمَسِيح ابْن، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا
بشر مثلنَا (فَإِن توَلّوا فَقولُوا أشهدوا بِأَنا
مُسلمُونَ) .
سَوَاءٌ قَصْدا
هَكَذَا وَقع بِالنّصب فِي رِوَايَة أبي، وَفِي رِوَايَة
غَيره بِالْجَرِّ فيهمَا على الْحِكَايَة، وَالنّصب
قِرَاءَة الْحسن الْبَصْرِيّ. وَقيل: وَجه النصب على أَنه
مصدر تَقْدِيره: اسْتَوَت اسْتِوَاء. قَوْله: (قصدا) ،
تَفْسِير اسْتِوَاء أَي: عدلا. وَكَذَا فسر أَبُو
عُبَيْدَة فِي قَوْله: سَوَاء. أَي: عدل، وَكَذَا أخرجه
الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم من طَرِيق الرّبيع بن أنس
وَأخرج الطَّبَرِيّ أَيْضا عَن قَتَادَة نَحوه.
4553 - ح دَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى عنْ هِشَامِ عنْ
مَعْمَرٍ وحدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ حدَّثنا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيَّ
قَال أخْبَرَنِي عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله بنِ
عُتَيْبَةَ قَالَ حدَّثني ابنُ عَبَّاسٍ قَالَ حدَّثني
أبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إلَى فِيَّ قَالَ انْطَلَقْتُ
فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَال فَبَيْنَا أنَا
بِالشَّامِ إذْ جِيءَ بكتابٍ مِنَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إلَى هَرْقَلَ قَالَ وَكَانَ دَحْيَةُ
الْكَلْبِيُّ جَاءَ بِهِ إلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ
عَظِيمُ بَصْرَى إلَى هَرْقَلَ قَال فَقَال هِرَقْلُ هَلْ
هاهُنَا أحدٌ مِنْ قَوْمِ هاذا الرَّجُلِ يَزْعُمُ أنَّهُ
نَبِيٌّ فَقَالُوا
(18/142)
نَعَمْ قَالَ فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ
قُرَيْشٍ فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ فَأُجْلِسْنَا بَيْنَ
يَدَيْهِ فَقَالَ أيُّكُمْ أقْرَبُ نَسَبا مِنْ هاذَا
الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعَمُ أنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ أبُو
سُفْيَانَ فَقُلْتُ أنَا فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ
وَأَجْلَسُوا أصْحَابِي خَلْفِي ثُمّ دَعَا بِتَرْجُمانِهِ
فَقَالَ قُلْ لَهُمْ إنِّي سَائِلٌ هاذا عَنْ هاذا
الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ فَإنْ
كَذَبَنِي فَكَذَّبُوهُ قَالَ أبُو سُفْيَانَ وايْمُ الله
لَوْلا أنْ يُؤْثِرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ ثُمَّ
قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ سَلْه كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ قَال
قُلْتُ هُوَ فِينا ذُو حَسَبٍ قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ
آبَائِهِ مَلِكٌ قَال قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ كُنْتُمْ
تَتَّهِمُونَهُ بِالْكِذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ مَا قَالَ
قُلْتُ لَا قَالَ أيَتَّبِعُهُ أشَرَافُ النَّاسِ أمْ
ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ قُلْتُ بلْ ضُعَفَاؤُهُمْ قَالَ
يَزِيدُونَ أوْ يَنْقُصُونَ قَال قُلْتُ لَا بَلْ
يَزِيدُونَ قَال هَلْ يَرْتَدُّ أحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ
دِينِهِ بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ قَالَ
قُلْتُ لَا قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ قَال قُلْتُ
نَعَمْ قَال فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إيَّاهُ قَالَ
قُلْتُ تَكُونُ الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجالاً
يُصِيبُ مِنا وَنُصِيبُ مِنْهُ قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ
قَالَ قُلْتُ لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هاذِهِ المُدَّةِ
لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا قَالَ وَالله مَا
أمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيها شَيْئا غَيْرَ
هاذِهِ قَالَ فَهَلَ قَالَ هاذَا القَوْلَ أحَدٌ قَبْلُهُ
قُلْتُ لَا ثُمَّ قَالَ لَتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ إنِّي
سَألْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ فَزَعَمْتَ أنَّهُ
فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي
أحْسَابِ قَوْمِها وَسألْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ
مَلِكٌ فَزَعَمْتَ أنْ لَا فَقُلْتُ لَوْ كَانَ مِنْ
آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ
وَسألْتُكَ عنْ أتْبَاعِهِ أضُعَفَاؤهُمْ أمْ أشْرَافُهُمْ
فَقُلْت بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ وَهُمْ أتْبَاعُ الرُّسُلِ
وَسألْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ
أنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَزَعَمْتَ أنْ لَا فَعَرَفْتُ
أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ
ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى الله وَسَأَلْتُكَ هَلْ
يَرْتَدُّ أحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أنْ
يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ فَزَعَمْتَ أنْ لَا
وَكَذَلِكَ الإيمانُ إذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ القُلُوبِ
وَسألْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أمْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ
أنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الإيمانُ حَتَّى يَتِمَّ
وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ فَزَعَمْتَ أنَّكُمْ
قَاتَلْتُمُوهُ فَتَكُونُ الحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ
سِجالاً يَنَالُ مِنْكُم وَتَنَالُونَ مِنهُ وَكَذَلِكَ
الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمْ العاقِبَةُ
وَسألْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَزَعَمْتَ أنَّهُ لَا يَغْدِرُ
وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ وَسألَتُكَ هَلْ قَال
أحَدٌ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أنْ لَا
فَقُلْتُ لَوْ كَانَ قَال هَذَا الْقَوْل أحَدٌ قَبْلَهُ
قُلْتُ رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ قَال
ثُمَّ قَالَ بِمَ يَأْمُرُكُمْ قَال قُلْتُ يَأْمُرُنَا
بِالصَّلاةِ وَالزكاةِ وَالصِّلَةِ وَالعَفَافِ قَالَ إنْ
يَك مَا تَقول فِيه حَقا فَإنَّهُ نَبي وَقَدْ كُنْتُ
أعْلَمُ أنَّهُ خَارِجٌ وَلَمْ أكُ أظُنَّهُ مِنْكُمْ
وَلَوْ أنِّي أعْلَمُ أنِّي أخْلُصُ إلَيْهِ لأَحْبَبْتُ
لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ
قَدَمَيْهِ وَليَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ
قَالَ ثُمَّ دَعا بِكتابِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَرَأَهُ فَإذَا فِيهِ بِسْمِ الله الرَّحمانِ
الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إلَى هَرِقَلَ
عَظِيمِ الرُّومِ سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى أما
بَعْدُ فَإنِّي أدعُوكَ
(18/143)
بِدِعَايَةِ الإسْلامِ أسْلِمْ تَسْلَمْ
وَأسْلِمْ يُؤْتِكَ الله أجْرَكَ مَرَّتَيْنِ فَإنْ
تَوَلَيْتَ فَإنَّ عَلَيْكَ إثْمَ الأرِيسيِّينَ وَيَا
أهْلَ الكِتَابِ تَعَالوا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءِ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أنْ لَا نَعْبُدَ إلاَّ الله إلَى قَوْلِهِ
اشْهَدُوا بأنَّا مُسْلِمُونَ فَلَمَا فَرَغَ مِنْ
قِرَاءَةِ الكِتَابِ ارْتَفَعَتِ الأصْوَاتُ عِنْدَهُ
وَكَثُرَ اللَّفْظُ وَأُمِرَ بِنا فَأُخْرِجْنَا قَال
فَقُلْتُ لأصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا لَقَدْ أُمِرَ أمْرُ
ابنُ أبِي كَبْشَةَ أنَّهُ لَيخافُهُ مَلِكُ بَنِي
الأصْفَرِ فَمَا زِلْتُ مُوقِنا بأمْرِ رَسُولِ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم سَيَظْهَرُ حَتَّى أدْخَلَ الله
عَلَيَّ الإسْلامَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ فَدَعَا هرَقْلُ
عُظَمَاءَ الرُّومِ فَجَمَعَهُمْ فِي دَارٍ لهُ فَقَالَ
يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الفَلاحِ
وَالرُّشْدِ آخِرَ الأبَدِ وأنْ يَثبُتَ لَكُمْ مُلْكُكُمْ
قَالَ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إلَى الأبوَابِ
فَوَجَدُوها قَدْ غُلِقَتْ فَقَال عَلَيَّ بِهِمْ فَدَعَا
بِهِمْ فَقال إنِّي إِنَّمَا اخْتَبَرْتُ شِدَّتَكُمْ
عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأيْتُ مِنْكُمْ الَّذِي
أحْبَبْتُ فَسَجَدُوا لهُ وَرَضُوا عَنْهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأخرجه من طَرِيقين.
(الأول) : عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى أَبُو إِسْحَاق
الْفراء عَن هِشَام بن يُوسُف عَن معمر بن رَاشد عَن
الزُّهْرِيّ. الخ (وَالْآخر) : عَن عبد الله بن مُحَمَّد
الْمَعْرُوف بالمسندي عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن
الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، وَقد مر الحَدِيث فِي أول
الْكتاب، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بأتم مِنْهُ عَن أبي
الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن
الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ مطولا
ولنذكر بعض شَيْء لطول الْمسَافَة.
قَوْله: (من فِيهِ إِلَى فِي) أَي: حَدثنِي حَال كَونه من
فَمه إِلَى فمي وَأَرَادَ بِهِ شدَّة تمكنه من الإصغاء
إِلَيْهِ. وَغَايَة قربه من تحديثه، وإلاّ فَهُوَ فِي
الْحَقِيقَة أَن يُقَال إِلَى أُذُنِي. قَوْله: (فِي
الْمدَّة) أَي: فِي مُدَّة الْمُصَالحَة. قَوْله:
(فَدُعِيت) ، على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فِي نفر)
كلمة فِي بِمَعْنى: مَعَ نَحْو ادخُلُوا فِي أُمَم أَي:
مَعَهم، وَيجوز أَن يكون التَّقْدِير: فَدُعِيت فِي جملَة
نفر، والنفر اسْم جمع يَقع على جمَاعَة من الرِّجَال
خَاصَّة مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة وَلَا
وَاحِد لَهُ من لَفظه. قَوْله: (فَدَخَلْنَا) الْفَاء
فِيهِ تسمى فَاء الفصيحة لِأَنَّهَا تفصح عَن مَحْذُوف
قبلهَا لِأَن التَّقْدِير: فجاءنا رَسُول هِرقل فطلبنا
فتوجهنا مَعَه حَتَّى وصلنا إِلَيْهِ فَاسْتَأْذن لنا
فَأذن فَدَخَلْنَا. قَوْله: (فأجلسنا) بِفَتْح اللَّام
جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول. قَوْله:
(إِنِّي سَائل هَذَا) أَي: أَبَا سُفْيَان. قَوْله:
(بترجمانه) هُوَ الَّذِي يترجم لُغَة بلغَة ويفسرها. قيل
إِنَّه عَرَبِيّ. وَقيل: مُعرب وَهُوَ الْأَشْهر فعلى
الأول النُّون زَائِدَة. قَوْله: (فَإِن كَذبَنِي)
بتَخْفِيف الذَّال (فَكَذبُوهُ) بِالتَّشْدِيدِ. وَيُقَال:
كذب. بِالتَّخْفِيفِ يتَعَدَّى إِلَى مفعولين مثل: صدق
تَقول كَذبَنِي الحَدِيث وصدقني الحَدِيث. قَالَ الله:
{لقد صدق الله رَسُوله الرُّؤْيَا} (الْفَتْح: 27) وَكذب
بِالتَّشْدِيدِ يتَعَدَّى إِلَى مفعول وَاحِد، وَهَذَا من
الغرائب قَوْله: (لَوْلَا أَن يؤثروا عَليّ) ، بِصِيغَة
الْجمع وَصِيغَة الْمَعْلُوم، ويروي: ويؤثر، بِفَتْح
الثَّاء الْمُثَلَّثَة بِصِيغَة الْإِفْرَاد على بِنَاء
الْمَجْهُول. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: لَوْلَا أَن يؤثروا
عني. أَي: لَوْلَا أَن يؤثروا عني ويحكوا قَوْله: (كَيفَ
حَسبه) ؟ والحسب مَا يعده الْمَرْء من مفاخر آبَائِهِ.
فَإِن قلت: ذكر فِي كتاب الْوَحْي، كَيفَ نسبه؟ قلت:
الْحسب مُسْتَلْزم للنسب الَّذِي يحصل بِهِ الإدلاء إِلَى
جِهَة الْآبَاء قَوْله: (فَهَل كَانَ من آبَائِهِ ملك)
وَفِي رِوَايَة غير الْكشميهني (فِي آبَائِهِ ملك) ؟ .
قَوْله: (يزِيدُونَ أَو ينقصُونَ) ؟ كَذَا فِيهِ
بِإِسْقَاط همزَة الِاسْتِفْهَام. وَأَصله أيزيدون أَو
ينقصُونَ، ويروى: (أم ينقصُونَ) . وَقَالَ ابْن مَالك:
يجوز حذف همزَة الِاسْتِفْهَام مُطلقًا. وَقَالَ بَعضهم:
لَا يجوز إِلَّا فِي الشّعْر. قَوْله: (هَل يرْتَد) ؟
إِلَى آخِره. فَإِن قلت:؟ لَم لمْ يسْتَغْن هِرقل عَن
هَذَا السُّؤَال بقول أبي سُفْيَان: بل يزِيدُونَ؟ قلت:
لَا مُلَازمَة بَين الارتداد وَالنَّقْص. فقد يرْتَد
بَعضهم وَلَا يظْهر فيهم النَّقْص بِاعْتِبَار كَثْرَة من
يدْخل وَقلة من يرْتَد، مثلا. قَوْله: (سخطَة لَهُ) ،
يُرِيد أَن من دخل فِي الشَّيْء على بَصِيرَة يبعد رُجُوعه
عَنهُ بِخِلَاف من لم يكن ذَلِك من صميم قلبه فَإِنَّهُ
يتزلزل سرعَة، وعَلى هَذَا يحمل حَال من ارْتَدَّ من
قُرَيْش، وَلِهَذَا لم يعرج أَبُو سُفْيَان على ذكرهم
وَفِيهِمْ صهره زوج ابْنَته أم حَبِيبَة وَهُوَ عبد الله
بن جحش فَإِنَّهُ كَانَ أسلم وَهَاجَر إِلَى الْحَبَشَة
وَمَات على
(18/144)
نصرانيته وَتزَوج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أم حَبِيبَة بعده، وَكَأَنَّهُ لم يكن دخل
فِي الْإِسْلَام على بَصِيرَة. وَكَانَ أَبُو سُفْيَان
وَغَيره من قُرَيْش يعْرفُونَ ذَلِك مِنْهُ فَلذَلِك لم
يعرج عَلَيْهِ خشيَة أَن يكذبوه قَوْله: (قَالَ: فَهَل
قاتلتموه) ؟ إِنَّمَا نسب ابْتِدَاء الْقِتَال إِلَيْهِم
وَلم يقل هَل قاتلكم؟ لاطلاعه على أَن النَّبِي لَا يبْدَأ
قومه حَتَّى يبدؤا. قَوْله: (يُصِيب منا وَنصِيب مِنْهُ) ،
الأول بِالْيَاءِ بِالْإِفْرَادِ وَالثَّانِي بالنُّون
عَلامَة الْجمع. قَوْله: (إِنِّي سَأَلتك عَن حَسبه
فِيكُم) ذكر الأسئلة والأجوبة المذكورتين على تَرْتِيب مَا
وَقعت وَحَاصِل الْجَمِيع ثُبُوت عَلَامَات النُّبُوَّة
فِي الْكل فالبعض مَا تلقفه من الْكتب وَالْبَعْض مِمَّا
استقرأه بِالْعَادَةِ وَلم تقع فِي كتاب بَدْء الْوَحْي
الْأَجْوِبَة بترتيب. وَالظَّاهِر أَنه من الرَّاوِي
بِدَلِيل أَنه حذف مِنْهَا وَاحِدَة. وَهِي قَوْله: (هَل
قاتلتموه) ؟ وَوَقع فِي رِوَايَة الْجِهَاد مُخَالفَة فِي
الْمَوْضِعَيْنِ فَإِنَّهُ أضَاف قَوْله: بِمَ
يَأْمُركُمْ؟ إِلَى بَقِيَّة الأسئلة، فكملت بهَا عشرَة.
وَأما هُنَا فَإِنَّهُ أخر قَوْله: بِمَ يَأْمُركُمْ؟
إِلَى مَا بعد إِعَادَة الأسئلة والأجوبة وَمَا رتب
عَلَيْهَا. قَوْله: (وَقَالَ لِترْجُمَانِهِ: قل لَهُ) ،
أَي: قَالَ هِرقل لِترْجُمَانِهِ: قل لأبي سُفْيَان.
قَوْله: (فَإِنَّهُ نَبِي) ، وَوَقع فِي رِوَايَة
الْجِهَاد (وَهَذِه صفة نَبِي) وَفِي مُرْسل سعيد بن
الْمسيب عِنْد ابْن أبي شيبَة فَقَالَ: (هُوَ نَبِي) .
قَوْله: (لأحببت لقاءه) ، وَفِي كتاب الْوَحْي: (لتشجشمت)
. أَي: لتكلفت، وَرجح عِيَاض هَذِه لَكِن نَسَبهَا إِلَى
مُسلم خَاصَّة وَهِي عِنْد البُخَارِيّ أَيْضا. قَوْله:
(ثمَّ دَعَا بِكِتَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فقرأه) ، قيل: ظَاهره أَن هِرقل هُوَ الَّذِي
قَرَأَ الْكتاب، وَيحْتَمل أَن يكون الترجمان قَرَأَهُ
فنسبت إِلَى هِرقل مجَازًا لكَونه آمرا بهَا. قلت: ظَاهر
الْعبارَة يَقْتَضِي أَن يكون فَاعل: دَعَا، هُوَ هِرقل،
وَيحْتَمل أَن يكون الْفَاعِل الترجمان لكَون هِرقل آمرا
بِطَلَبِهِ وقراءته فَلَا يرتكب فِيهِ الْمجَاز. وَعند
ابْن أبي شيبَة فِي مُرْسل سعيد بن الْمسيب: أَن هِرقل لما
قَرَأَ الْكتاب قَالَ: هَذَا لم أسمعهُ بعد سُلَيْمَان.
عَلَيْهِ السَّلَام، فَكَأَنَّهُ يُرِيد الِابْتِدَاء:
بِبسْم الله الرحمان الرَّحِيم، وَهَذَا يدل على أَن هِرقل
كَانَ عَالما بأخبار أهل الْكتاب. قَوْله: (من مُحَمَّد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ذكر المدايني أَن
القارىء لما قَرَأَ بِسم الله الرحمان الرَّحِيم. من
مُحَمَّد رَسُول الله، غضب أَخُو هِرقل واجتذب الْكتاب.
فَقَالَ هِرقل: مَالك؟ فَقَالَ: بَدَأَ بِنَفسِهِ وَسماك
صَاحب الرّوم. قَالَ: إِنَّك لضعيف الرَّأْي، أَتُرِيدُ
أَن أرمي بِكِتَاب قبل أَن أعلم مَا فِيهِ؟ لَئِن كَانَ
رَسُول الله فَهُوَ حق أَن يبْدَأ بِنَفسِهِ. وَلَقَد صدق
أَنا صَاحب الرّوم، وَالله مالكي ومالكهم. قَوْله: (عَظِيم
الرّوم) بِالْحرِّ على أَنه بدل من هِرقل، وَيجوز
بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، وَيجوز
بِالنّصب أَيْضا على الِاخْتِصَاص وَمَعْنَاهُ: من تعظمه
الرّوم، وتقدمه للرياسة. قَوْله: (ثمَّ الأريسين) ، قد مضى
ضَبطه مشروحا وَجزم ابْن التِّين أَن المُرَاد هُنَا
بالأريسيين أَتبَاع عبد الله بن أريس كَانَ فِي الزَّمن
الأول بعث إِلَيْهِم نَبِي فاتفقواكلهم على مُخَالفَة
نَبِيّهم. فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَيْك إِن خَالَفت إِثْم
الَّذين خالفوا نَبِيّهم، وَقيل: الأريسيون الْمُلُوك
وَقيل: الْعلمَاء، وَقَالَ ابْن فَارس: الزراعون، وَهِي
شامية الْوَاحِد أويس وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً فِي
أول الْكتاب. قَوْله: (فَلَمَّا فرغ) أَي: قارىء الْكتاب.
وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون هِرقل وَنسب إِلَيْهِ
ذَلِك مجَازًا لكَونه الْآمِر بِهِ. قلت: الَّذِي يظْهر
أَن الضَّمِير فِي: فرغ، يرجع إِلَى هِرقل وَيُؤَيّد.
قَوْله: عِنْده بعد قَوْله: فَلَمَّا فرغ من قِرَاءَة
الْكتاب ارْتَفَعت الْأَصْوَات عِنْده. أَي: عِنْدهم
هِرقل، فَحِينَئِذٍ يكون حَقِيقَة لَا مجَازًا. قَوْله:
(لقد أُمِرَ أَمْرُ ابْن أبِي كَبْشَة) بِفَتْح الْهمزَة
وَكسر الْمِيم وَفتح الرَّاء على وزن علم وَمَعْنَاهُ، عظم
وقوى أَمر ابْن أبي كَبْشَة، وَهَذَا يكون الْمِيم وَضم
الرَّاء لِأَنَّهُ فَاعل أَمر الأول. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: ابْن أبي كَبْشَة كِتَابَة عَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شبهوه بِهِ فِي مُخَالفَته دين
آبَائِهِ. قلت: هَذَا تَوْجِيه بعيد. وَقد مر فِي بَدْء
الْوَحْي بَيَان ذَلِك مَبْسُوطا. قَوْله: (قَالَ
الزُّهْرِيّ) أَي: أحد الروَاة الْمَذْكُورين فِي
الحَدِيث: هَذِه قِطْعَة من الرِّوَايَة الَّتِي وَقعت فِي
يَده الْوَحْي عقيب الْقِصَّة الَّتِي حَكَاهَا ابْن
الناطور، وَقد بَين هُنَاكَ أَن هِرقل دعاهم فِي دسكرة
لَهُ بحمص وَذَلِكَ بعد أَن رَجَعَ من بَيت الْمُقَدّس،
فَعَاد جَوَابه يُوَافقهُ على خُرُوج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى هَذَا فالفاء فِي قَوْله: فَدَعَا
فَاء فصيحة، وَالتَّقْدِير: قَالَ الزُّهْرِيّ: فَسَار
هِرقل إِلَى حمص فَكتب إِلَى صَاحبه ضغاطر الأسقف برومية
فَجَاءَهُ جَوَابه، فَدَعَا الرّوم. قَوْله: (آخر
الْأَبَد) أَي: إِلَى آخر الزَّمَان. قَوْله: (فحاصوا)
بالمهملتين أَي: نفروا قَوْله: (فَقَالَ: عليّ بهم) أَي:
هاتوهم لي، يُقَال: عَليّ يزِيد. أَي: احضروه لي. قَوْله:
(اختبرت) أَي: جربت. قَوْله: (الَّذِي أَحْبَبْت) أَي:
الشَّيْء الَّذِي أحببته.
(18/145)
5 - (بابٌ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} إلَى {بِهِ عَلِيمٌ} (آل
عمرَان: 92)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر}
إِلَى آخر الْآيَة قَوْله: إِلَى (بِهِ عليم) هَكَذَا
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة ابي ذَر لن تنالوا
الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون. الْآيَة قَوْله: (لن
تنالوا الْبر) أَي: لن تبلغوا حَقِيقَة الْبر وَلنْ
تَكُونُوا أبرارا (حَتَّى تنفقوا) أَي: حَتَّى تكون نفقتكم
من أَمْوَالكُم الَّتِي تحبونها. فَإِن الله عليم بِكُل
شَيْء تنفقونه فيجازيكم بِحَسبِهِ.
4554 - ح دَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مَالِكٌ عَنْ
إسْحَاقَ بنِ عَبْدِ الله بنِ أبِي طَلْحَةَ أنَّهُ سَمِعَ
أنَسَ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنهُ يَقُولُ كانَ أبُو
طَلْحَةَ أكْثَرَ أنْصَارِيٍّ بِالمَدِينَةِ نَخْلاً
وَكَانَ أحَبَّ أمْوَالِهِ إلَيْهِ بِيْرَحاءِ وَكَانَتْ
مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَدْخلُها وَيَشْرَبُ مِنْ ماءٍ فِيها
طَيْبٍ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أبُو طَلْحَةَ
فَقَالَ يَا رَسُولَ الله إنَّ الله يَقُولُ لنْ تَنَالُوا
البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَإنَّ
أحَبَّ أمْوَالِي إلَّى بَيْرَحَاءَ وَإنَّهَا صَدَقَةُ
لله أرْجُو برَّها وَذُخْرَها عِنْدَ الله فَضَعْها يَا
رَسُولَ الله حَيْثُ أرَاكَ الله قَالَ رَسُولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بَخٍّ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ
مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْت مَا قُلْت وَإنّي أرَى أنْ
تَجْعَلَها فِي الأقْرَبِينَ قَالَ أبُو طَلْحَةَ أفْعلُ
يَا رَسُولَ الله فَقَسَمَها أبُو طَلْحَةَ فِي أقارِبِهِ
وَبَنِي عَمِّهِ. قَالَ عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ وَرَوْحُ
بنُ عُبادَةَ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن
أبي أويس ابْن أُخْت مَالك بن أنس والْحَدِيث قد مضى فِي
كتاب الزَّكَاة: بَاب الزَّكَاة على الْأَقَارِب،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك
إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (أَبُو طَلْحَة) اسْمه زيد بن سهل زوج أم أنس بن
مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (بيرحاء) أشهر
الْوُجُوه فِيهِ فتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْبَاء
آخر الْحُرُوف وَفتح الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة
مَقْصُورا وَهُوَ بُسْتَان بِالْمَدِينَةِ فِيهِ مَاء.
قَوْله: (طيب) بِالْجَرِّ لِأَنَّهُ صفة من مَاء قَوْله:
(بخ) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَهِي كلمة تقال عِنْد الْمَدْح وَالرِّضَا
بالشَّيْء، والتكرار وللمبالغة. قَوْله: (رابح) بِالْبَاء
الْمُوَحدَة. أَي: يربح صَاحبه فِيهِ فِي الْآخِرَة.
قَوْله: (قَالَ عبد الله بن يُوسُف) هُوَ أحد رُوَاة
الحَدِيث عَن مَالك، وروح، بِفَتْح الرَّاء ابْن عبَادَة:
بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة
أَرَادَ أَن الْمَذْكُورين رويا الحَدِيث الْمَذْكُور عَن
مَالك بإسناديهما فوافقا فِيهِ إلاَّ فِي هَذِه اللَّفْظَة
يَعْنِي: (رَايِح) أَنَّهَا بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف من
الرواح، أَي: من شَأْنه الذّهاب والفوات، فَإِذا ذهب فِي
الْخَيْر فَهُوَ أولى.
حدَّثني يَحْيَى بنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ
مالٌ رَابِحٌ
ذكره هُنَا مُخْتَصرا، وَسَاقه بِتَمَامِهِ من هَذَا
الْوَجْه فِي كتاب الْوكَالَة فِي: بَاب إِذا قَالَ الرجل
لوَكِيله: ضَعْهُ حَيْثُ أَرَاك الله.
4555 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيُّ
قَالَ حدَّثني أبِي عَنْ تُمامَةَ عنْ أنَسٍ رَضِيَ الله
عَنهُ قَالَ فَجَعَلَها لِحَسَّانَ وَأُبيّ وَأنا أقْرَبُ
إلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلَ لِي مِنْها شَيْئا.
هَذَا لم يَقع لأبي ذَر، وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث أخرجه
بِتَمَامِهِ فِي كتاب الْوَقْف فِي: بَاب إِذا وقف أَو
أوصى لأقاربه، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ حَيْثُ قَالَ:
وَقَالَ الْأنْصَارِيّ، وَهُوَ مُحَمَّد بن عبد الله
الْأنْصَارِيّ: حَدثنِي أبي وَهُوَ عبد الله بن الْمثنى بن
عبد الله بن أنس بن مَالك عَن ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء
الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن عبد الله بن أنس
قَاضِي الْبَصْرَة، وَهُوَ يروي عَن جده أنس بن مَالك.
قَوْله:
(18/146)
(فَجَعلهَا) أَي: فَجعل أَبُو طَلْحَة
بيرحاء الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث السَّابِق لحسا بن
ثَابت وَأبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
قَوْله: (وَأَنا أقرب إِلَيْهِ، مِنْهُمَا) (وَلم يَجْعَل
لي مِنْهَا شَيْئا) .
6 - (بابٌ: {قُلْ فَأَتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوها إنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمرَان: 93)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {قل فَأتوا}
الْآيَة. وَقبلهَا {كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني
إِسْرَائِيل إلاَّ مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه من قبل
أَن تنزل التَّوْرَاة قل فاتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن
كُنْتُم صَادِقين} (آل عمرَان: 93) قَوْله: (كل الطَّعَام)
أَي: كل المطعومات (كَانَ حلا لبني إِسْرَائِيل) وَهُوَ
يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام (إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه)
وَهُوَ لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا. وَقيل: الْعُرُوق،
وَكَانَ بِهِ عرق النِّسَاء فَنَذر إِن شفي أَن يحرم على
نَفسه أحب الطَّعَام إِلَيْهِ وَكَانَ ذَلِك أحب إِلَيْهِ
فحرمه، وَأنكر الْيَهُود ذَلِك فَأنْزل الله (قل فاتوا)
أَي: قل يَا مُحَمَّد للْيَهُود: (قاتلوها إِن كُنْتُم
صَادِقين) فِيمَا تنكرون من ذَلِك.
4556 - ح دَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ حدَّثنا أبُو
ضَمَرَةَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافعٍ عنْ
عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ
الْيَهُودَ جاؤُا إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرأةٍ قَدْ زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ
كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَا مِنْكُمْ نحَمِّمُهُما
وَنَضْرِبُهُما فَقَالَ لَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة
الرَّجْمَ فقالُوا لَا نَجِدُ فِيهَا شَيْئا فَقَال لَهُمْ
عَبْدُ الله بنُ سَلامٍ كَذَبْتُمْ فأتُوا بِالتَوْرَةِ
فَاتْلُوها إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَوَضَعَ مِدْرَاسُها
الَّذِي يُدَرِّسُها مِنْهُمْ كَفَّهُ عَلَى آيَةِ
الرَّجْمِ فَطَفِقَ يقْرَأ مَا دون يَده وَمَا وَرَاءَهَا
وَلَا يقْرَأ آيَة الرَّجْم فَنزع يَده عَن آيَة الرَّجْم
فَقَال مَا هاذِهِ فَلَما رَأوْا ذَلِكَ قَالُوا هِيَ
آيَةُ الرَّجْمِ فَأمَرَ بِهِما فَرُجِمَا قَرِيبا مِنْ
حَيْثُ مَوْضِعُ الجَنِائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ فَرَأيْتُ
صَاحِبها يَجْنَأُ عَلَيْهَا يَقِيها الحِجَارَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَذبْتُمْ فاتوا
بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين)
وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي
الْمَدِينِيّ، وَأَبُو ضَمرَة، بِفَتْح الضَّاد
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم واسْمه أنس بن عِيَاض
اللَّيْثِيّ والْحَدِيث قد مضى مُخْتَصرا فِي الْجَنَائِز
فِي: بَاب الصَّلَاة على الْجِنَازَة فِي الْمصلى
وَالْمَسْجِد.
قَوْله: (إِن الْيَهُود جاؤوا إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل وَامْرَأَة زَنَيَا) قَالَ ابْن
بطال: قيل: إنَّهُمَا لم يَكُونَا أهل ذمَّة وَإِنَّمَا
كَانَا أهل حَرْب، ذكره الطَّبَرِيّ، وَفِي رِوَايَة
عِيسَى عَن ابْن الْقَاسِم: كَانَا من أهل فدك وخيبر
حَربًا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم ذَاك،
وَعَن أبي هُرَيْرَة: كَانَ هَذَا حِين قدم سيدنَا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة. وَقَالَ مَالك
إِنَّمَا كَانَا أهل حَرْب وَلَو كَانَا أهل ذمَّة لم
يسألهم كَيفَ الحكم فيهم؟ وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَعند
مَالك لَا يَصح إِحْصَان الْكَافِر وَإِنَّمَا رجمهما
لِأَنَّهُمَا لم يَكُونَا أهل ذمَّة. قيل: هَذَا غير جيد
لِأَنَّهُمَا كَانَا من أهل الْعَهْد، وَلِأَنَّهُ رجم
الْمَرْأَة وَالنِّسَاء الحربيات لَا يجوز قتلهن مُطلقًا.
وَقَالَ السُّهيْلي: اسْم الْمَرْأَة المرجومة: بسرة.
قَوْله: (كَيفَ تَفْعَلُونَ) ؟ لم يرد بِهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم تقليدهم وَلَا معرفَة الحكم بِهِ مِنْهُم،
وَإِنَّمَا أَرَادَ إلزامهم بِمَا يعتقدونه فِي كِتَابهمْ،
وَلَعَلَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أوحى إِلَيْهِ أَن
الرَّجْم فِي التَّوْرَاة الْمَوْجُودَة فِي أَيْديهم لم
يغيروه كَمَا غيروا غَيره، أَو أَنه أخبرهُ من أسلم
مِنْهُم. قَوْله: (نحممهما) من التحميم يَعْنِي: نسود
وُجُوههمَا بالحمم، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح
الْمِيم، وَهُوَ الفحم، وَفِي رِوَايَة تحملهما: بِالْحَاء
الْمُهْملَة وَاللَّام يَعْنِي: تحملهما على شَيْء ليظهرا.
وَفِي رِوَايَة: تحملهما: بِالْجِيم وَاللَّام أَي:
نجعلهما جَمِيعًا على شَيْء ليظهرا قَوْله: (فَوضع
مدراسها) ، بِكَسْر الْمِيم يُرِيد بِهِ صَاحب دراسة
كتبهمْ، والمفعال من أبنية الْمُبَالغَة، وَهُوَ عبد الله
بن صوريا، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو
وَكسر الرَّاء وَفتحهَا. وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد:
ائْتُونِي بِأَعْلَم رجلَيْنِ مِنْك، فَأتوهُ يَا بني
صوريا، قَالَ الْمُنْذِرِيّ: لَعَلَّه عبد الله بن صوريا
وكنانة بن صوريا، وَكَانَ عبد الله أعلم من بَقِي من
الْأَحْبَار بِالتَّوْرَاةِ ثمَّ كفر بعد ذَلِك، وَزعم
السُّهيْلي أَنه أسلم. قَوْله: (فَطَفِقَ) أَي: فَجعل
(يقْرَأ مَا دون يَده) أَي: مَا قبلهَا. قَوْله: (فَنزع
يَده) أَي: نزع
(18/147)
عبد الله بن سَلام يَد الْمِدْرَاس عَن
آيَة الرَّجْم. قَوْله: (فَرُجِمَا) على صِيغَة
الْمَجْهُول، وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رجمهما بِالْبَيِّنَةِ وَقَالَ الْخطابِيّ:
إِنَّمَا رجمهما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِمَا أوحى إِلَيْهِ من أمره، وَإِنَّمَا احْتج عَلَيْهِم
بِالتَّوْرَاةِ استظهارا للحجة وإحياءً لحكم الله تَعَالَى
الَّذِي كَانُوا يكتمونه. قَوْله: (من حَيْثُ مَوضِع
الْجَنَائِز عِنْد الْمَسْجِد) ، وَفِي رِوَايَة: عِنْد
البلاط، وهما متقاربان. قَوْله: (يحنأ) بِالْجِيم. قَالَ
ابْن الْأَثِير: يَعْنِي أكب عَلَيْهَا. وَقيل: هُوَ
مَهْمُوز. وَقيل: الأَصْل فِيهِ الْهَمْز من جنأ يجنأ إِذا
مَال عَلَيْهِ وَعطف ثمَّ خفف وَهُوَ لُغَة، وَقَالَ
الْمُنْذِرِيّ: ياؤه مَفْتُوحَة وجيمه سَاكِنة، يُقَال:
جنى الرجل على الشَّيْء إِذا أكب عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ
بَعضهم بِضَم الْيَاء، وَرُوِيَ: يجاني من جانى يجاني.
وَقيل: رُوِيَ بجيم ثمَّ بَاء مُوَحدَة ثمَّ همزَة، أَي:
يرْكَع. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْمَحْفُوظ بِالْحَاء
وَالنُّون، يُقَال: حنا يحنو وحنوا وَرُوِيَ بِالْحَاء
وَتَشْديد النُّون، وَقَالَ يحيى بن يحيى: بحاء وَنون
مَكْسُورَة بِغَيْر همزَة وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: عِنْد
أهل الحَدِيث يجني بِالْحَاء، وَعند أهل اللُّغَة
بِالْجِيم. قَوْله: (يَقِيهَا) أَي: يحفظها من وقى يقي
وقاية، وَفِي الحَدِيث الحكم بَين أهل الذِّمَّة، وَفِي
(التَّوْضِيح) الْأَصَح عندنَا وُجُوبه وفَاقا لأبي
حنيفَة. وَهُوَ قَول الزُّهْرِيّ وَعمر بن عبد الْعَزِيز
وَالثَّوْري وَالْحكم. وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس: وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: إِن كَانَ مَا رَفَعُوهُ إِلَى الإِمَام
ظلما كَالْقَتْلِ وَالْغَصْب بَينهم فَلَا خلاف فِي مَنعهم
مِنْهُ، وَنقل عَن مَالك وَالشَّافِعِيّ أَنه بِالْخِيَارِ
بَين الحكم بَينهم وَتَركه غير أَن مَالِكًا يرى
الْإِعْرَاض أولى، وَنقل عَن الشَّافِعِي أَنه لَا يحكم
بَينهم فِي الْحُدُود، وَفِيه أَن أنكحة الْكفَّار
صَحِيحَة وَلذَلِك رجمهما وَهُوَ الْأَصَح عِنْد
الشَّافِعِيَّة وَفِيه دَلِيل على أَنه لَا يحْفر لمن رجم
إِذْ لَو حفر لَهُ لما اسْتَطَاعَ أَن يجنا عَلَيْهَا،
لَكِن فِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث بُرَيْدَة أَنه حفر
لما عز والغامدية إِلَى صدرها. وَقيل: يحْفر لمن قَامَت
عَلَيْهِ الْبَيِّنَة دون الْمقر.
7 - (بابٌ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ} (آل عمرَان: 110)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: (كُنْتُم خير أمة)
أَي: وجدْتُم خير أمة وَقيل: كُنْتُم فِي علم الله خير
أمة. وَقيل: كُنْتُم فِي الْأُمَم قبلكُمْ مذكورين بأنكم
خير أمة موصوفين بِهِ وروى عبد بن حميد عَن ابْن عَبَّاس:
هم الَّذين هَاجرُوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وروى الطَّبَرِيّ عَن السّديّ، قَالَ عمر بن
الْخطاب رَضِي الله عَنهُ: لَو شَاءَ الله عز وَجل لقَالَ:
أَنْتُم خير أمة، وَلَو قَالَ لَكنا كلنا وَلَكِن هَذَا
خَاص بالصحابة وَمن صنع مثل مَا صَنَعُوا كَانُوا خير أمة
وَقَالَ الواحدي: إِن رُؤُوس الْيَهُود، وَعدد مِنْهُم
جمَاعَة مِنْهُم ابْن صوريا، عَمدُوا إِلَى مؤمنيهم، عبد
الله بن سَلام وَأَصْحَابه، فآذوهم لإسلامهم، فَنزلت
وَقَالَ مقَاتل: نزلت فِي أبي ومعاذ وَابْن مَسْعُود
وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة وَذَلِكَ أَن مَالك بن
الضَّيْف ووهب بن يهودا قَالَا للْمُسلمين ديننَا خير
مِمَّا تدعوننا إِلَيْهِ وَنحن خير، وأوصل مِنْكُم فَنزلت.
وَيُقَال: هَذَا الْخطاب للصحابة وَهُوَ يعم سَائِر الْأمة
قَوْله: (أخرجت) قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ أَي: أظهرت.
قَوْله: (للنَّاس) يَعْنِي: خير النَّاس للنَّاس،
وَالْمعْنَى أَنهم خير الْأُمَم وأنفع النَّاس للنَّاس،
وَلِهَذَا قَالَ: (تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن
الْمُنكر) وَهَذَا هُوَ الشَّرْط فِي هَذِه الْخَيْرِيَّة
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: تأمرون، كَلَام مُسْتَأْنف بيَّن
بِهِ كَونهم خير أمة.
4557 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ عنْ سُفْيَانَ عنْ
مَيْسَرَةَ عنْ أبِي حَازِمٍ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي
الله عَنهُ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ} قَالَ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ
بِهِمْ فِي السَلاسِلِ فِي أعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا
فِي الإسْلامِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن يُوسُف أَبُو
أَحْمد البُخَارِيّ البيكندي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ،
وميسرة ضد الميمنة ابْن عمار الْأَشْجَعِيّ الْكُوفِي،
وَمَاله فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر تقدم
فِي بَدْء الْخلق، وَأَبُو حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة
وَالزَّاي هُوَ سلمَان الْأَشْجَعِيّ. والْحَدِيث أخرجه
النَّسَائِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن عبد
الله المَخْزُومِي.
قَوْله: (خير النَّاس) ، أَي: خير بعض النَّاس لبَعْضهِم
وأنفعهم لَهُم من يَأْتِي بأسير مُقَيّد فِي السلسلة إِلَى
دَار الْإِسْلَام فَيسلم، وَإِنَّمَا كَانَ خيرا لِأَنَّهُ
بِسَبَبِهِ صَار مُسلما، وَحصل أَصله جَمِيع السعادات
الدنياوية والأخراوية.
(18/148)
|