عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 10 - (بابُ قَوْلِهِ: {إنَّما الخَمْرُ
وَالمَيْسَرُ وَالأنْصابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ} (الْمَائِدَة: 90)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخمر}
الْآيَة لم يَقع لفظ بَاب إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر،
وَفِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة نهى الله عباده
الْمُؤمنِينَ عَن تعَاطِي الْخمر وَالْميسر وَهُوَ
الْقمَار، وروى ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه عَن عبس بن
مَرْحُوم عَن حَاتِم عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه
عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: الشطرنج
من الْقمَار، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم، حَدثنَا مُحَمَّد
بن إِسْمَاعِيل الأحمسي حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان أَن
اللَّيْث وَعَطَاء ومجاهدا وَطَاوُس، قَالُوا: كل شَيْء من
الْقمَار فَهُوَ الميسر حَتَّى لعب الصّبيان بالجوز، وروى
عَن رَاشد بن سعد وَحَمْزَة بن حبيب مثله، قَالَا: حَتَّى
الكعاب والجوز وَالْبيض الَّتِي يلْعَب بهَا الصّبيان،
وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) وَأما الشطرنج فقد
قَالَ عبد الله بن عمر: أَنه شَرّ من النَّرْد، وَنَصّ على
تَحْرِيمه مَالك وَأَبُو حنيفَة وَأحمد، وَكَرِهَهُ
الشَّافِعِي. قلت: إِذا كَانَ الشطرنج شرا من النَّرْد
فَانْظُر مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فِي النَّرْد، رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) وَأحمد فِي
(مُسْنده) وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه فِي (سنَنَيْهِمَا
عَن) أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(من لعب بالنرد فقد عصى الله وَرَسُوله) ، وروى مُسلم عَن
بُرَيْدَة بن الْحصيب الْأَسْلَمِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من لعب بالنرد شير
فَكَأَنَّمَا صبغ يَده بِلَحْم خِنْزِير وَدَمه) .
وَقَالَ ابنُ عَبَّاس الأزْلامُ القِدَاحُ يَسْتَقْسِمُونَ
بِهَا فِي الأُمورِ
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو بكر بن الْمُنْذر عَن
عَلان بن الْمُغيرَة حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا
مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس،
وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّد بن أبي حَاتِم بِسَنَد صَحِيح
نَحوه، قَالَ: وروى عَن الْحسن وَمُجاهد وَإِبْرَاهِيم
وَعَطَاء وَمُقَاتِل نَحْو ذَلِك. قَوْله:
(18/208)
(الأزلام) ، جمع زلم، بِفَتْح الزَّاي
وَاللَّام، وَجَاء فِيهِ ضم الزَّاي. قَوْله: (القداح) ،
جمع قدح، بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الدَّال، وَهُوَ السهْم
الَّذِي كَانُوا يستقسمون بِهِ أَو الَّذِي يرْمى بِهِ عَن
الْقوس، يُقَال للسهم أول مَا يقطع قطع، ثمَّ ينحت ويبرى
فيسمى: بريا ثمَّ يقوم فيسمى، قدحا، ثمَّ يراش ويركب نصله
فيسمى سَهْما. قَوْله: (يستقسمون بهَا) من الاستسقام
وَهُوَ طلب الْقسم الَّذِي قسم لَهُ وَقدر مِمَّا لم يقدر،
وَهُوَ استفعال مِنْهُ، وَكَانُوا إِذا أَرَادَ أحدهم سفرا
أَو تزويجا أَو نَحْو ذَلِك من الْمُهِمَّات ضرب بالأزلام،
وَهِي القداح، وَكَانَ على بَعْضهَا مَكْتُوب أَمرنِي
رَبِّي، وعَلى الآخر: نهاني رَبِّي، وعَلى الآخر: غفل،
فَإِن خرج أَمرنِي رَبِّي، مضى لشأنه، وَإِن خرج: نهاني
أمسك، وَإِن خرج الغفل عادا أحالها وَضرب بهَا أُخْرَى
إِلَى أَن يخرج الْأَمر أَو النَّهْي قلت: الغفل، بِضَم
الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْفَاء، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: هُوَ الَّذِي لَا يُرْجَى خَيره وَلَا شَره،
وَالْمرَاد هُنَا الْخَالِي عَن شَيْء، وَذكر ابْن
إِسْحَاق، أَن أعظم أصنام قُرَيْش كَانَ هُبل، وَكَانَ فِي
جَوف الْكَعْبَة وَكَانَت الأزلام عِنْده يتحاكمون فِيمَا
أشكل عَلَيْهِم فِيمَا خرج مِنْهَا رجعُوا إِلَيْهِ.
وَالنُّصُبُ أنْصابٌ يَذْبَحُونَ عَلَيْها
هَذَا أَيْضا من قَول ابْن عَبَّاس، وَصله ابْن أبي حَاتِم
من طَرِيق عَطاء عَن ابْن عَبَّاس. قَوْله: (وَالنّصب) ،
بِضَم النُّون وَالصَّاد وسكونها: مُفْرد جمعه أنصاب.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير النصب حجر كَانُوا ينصبونه ويذبحون
عَلَيْهِ فيحمر بِالدَّمِ، وَيُقَال: الأنصاب أَيْضا جمع
نصب، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الصَّاد، وَهِي
الْأَصْنَام.
وَقَالَ غَيْرُهُ الزَّلَمُ القِدحُ لَا رِيشَ لَهُ وَهُوَ
وَاحِدُ الأزْلامِ
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس: (الزلم) بِفتْحَتَيْنِ هُوَ
(الْقدح الَّذِي لَا ريش لَهُ) وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
عَن قريب قَوْله: (وأحدِ الأزلام) أَي: الزلم مُفْرد
وَجمعه أزلام، وَفِي الْحَقِيقَة لَا فرق بَين هَذَا
القَوْل وَبَين قَول ابْن عَبَّاس الَّذِي مضى، غير أَن
ابْن عَبَّاس لم يذكر فِي كَلَامه مُفْرد؟ الأزلام، وَفِي
القَوْل ذكر الْمُفْرد ثمَّ الْجمع.
وَالاسْتِسْقَامُ أنْ يُجيلَ القِدَاحَ فَإنْ نَهَتْهُ
انْتَهَى وإنْ أمَرْتُهُ فَعَلَ مَا تأمُرُهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير قَول ابْن عَبَّاس: يستقسمون
بهَا فِي الْأُمُور، وَهُوَ مُشْتَقّ من الاستقسام، وَهُوَ
أَن يجيل القداح فَإِن طلع الْقدح الَّذِي عَلَيْهِ
النَّهْي انْتهى وَترك، وَإِن طلع الَّذِي عَلَيْهِ
الْأَمر ائتمر وَفعل، وَقد مر بَيَانه عَن قريب.
يُجِيلُ يُدِيرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى قَوْله: يجيل يُدِير من
الإجالة بِالْجِيم وَهِي الإدارة، وَهَذَا مَا ثَبت إلاَّ
فِي رِوَايَة أبي ذَر.
وَقَدْ أعْلَمُوا القِدَاحَ أعْلاما بِضُرُوبٍ
يَسْتَسْقُمونَ بِهَا
أَي: الْجَاهِلِيَّة أعلمُوا القداح لضروب أَي: لأنواع من
الْأُمُور يطْلبُونَ بذلك بَيَان قسمهم من الْأَمر أَو
النَّهْي.
وَفَعَلْتُ مِنْهُ قَسَمْتُ وَالقُسُومُ المَصْدَرُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن من أَرَادَ أَن يخبر عَن نَفسه من
لفظ الاستسقام يَقُول: قسمت، بِضَم التَّاء، وَأَشَارَ
بقوله والقسوم الْمصدر إِلَى أَن مصدر قسمت الَّذِي هُوَ
إِخْبَار عَن نَفسه من الثلاثي الْمُجَرّد يَأْتِي قسوما
على وزن فعولًا، وَقد جَاءَ لفظ القسوم فِي قَول الشاعرة:
وَلم أقسم فتحبسني القسوم
وَلَكِن الِاحْتِجَاج بِهَذَا على أَن لفظ القسوم مصدر
فِيهِ نظر لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون جمع قسم، بِكَسْر
الْقَاف.
138 - (حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم أخبرنَا مُحَمَّد
بن بشر حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن عمر ابْن عبد الْعَزِيز
قَالَ حَدثنِي نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
قَالَ نزل تَحْرِيم الْخمر وَإِن
(18/209)
فِي الْمَدِينَة يَوْمئِذٍ لخمسة أشربة مَا
فِيهَا شراب الْعِنَب) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة
واسحق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه
وَمُحَمّد بن بشر بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون
الشين الْمُعْجَمَة ابْن الفرافصة أَبُو عبد الله
الْعَبْدي الْكُوفِي وَعبد الْعَزِيز بن عمر بن عبد
الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم الْقرشِي الْأمَوِي
الْمدنِي وَقَالَ الْحميدِي لَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح عَن
نَافِع إِلَّا هَذَا الحَدِيث والْحَدِيث من أَفْرَاده
قَوْله " لخمسة أشربة " وَهِي شراب التَّمْر وَالْعَسَل
وَالْحِنْطَة وَالشعِير والذرة فَإِن قلت روى أَحْمد من
رِوَايَة الْمُخْتَار بن فلفل قَالَ سَأَلت أنسا عَن
الأوعية الحَدِيث وَفِيه الْخمر من الْعِنَب وَالتَّمْر
وَالْعَسَل وَالْحِنْطَة وَالشعِير والذرة وَفِي رِوَايَة
أبي يعلى الْموصِلِي وَحرمت الْخمر وَهِي من الْعِنَب
وَالتَّمْر وَالْعَسَل وَالْحِنْطَة وَالشعِير والذرة
وَفِي رِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْخمر من هَاتين الشجرتين
النَّخْلَة وَالْعِنَب رَوَاهُ مُسلم قلت لَا تعَارض بَين
هَذِه الْأَحَادِيث لِأَن كل وَاحِد من الروَاة روى مَا
حفظه من الْأَصْنَاف وَأَيْضًا أَن مَفْهُوم الْعدَد
لَيْسَ بِحجَّة على الصَّحِيح وَعَلِيهِ الْجُمْهُور فَإِن
قلت حَدِيث أبي هُرَيْرَة يدل على الْحصْر قلت لَا نسلم
ذَلِك لِأَن الْحصْر إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ
الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر معرفتين كَقَوْلِك الله رَبنَا
وَنَحْوه -
4617 - ح دَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا ابنُ
عُلَيَّةَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ صُهَيْبٍ قَالَ
قَالَ أنَسُ بنُ مَالِكٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنهُ مَا
كانَ لَنَا خَمْرٌ غَيْرُ فَضِيخِكُمْ هَذا الَّذي
تُسَمُّونَهُ الْفَضِيخَ فَإنِّي لَقَائِمٌ أسْقِي أبَا
طَلْحَةَ وَفُلانا وَفُلانا إذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ
وَهَلْ بَلَغَكُمُ الخَبَرُ فَقَالُوا وَمَا ذَاكَ قَالَ
حُرِّمَتِ الخَمْرُ قَالُوا أهْرِقْ هاذِهِ القِلالَ يَا
أنَسُ قَالَ فَمَا سَألُوا عَنْهَا وَلا رَاجَعُوها خَبِر
الرَّجُلِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: حرمت الْخمر،
وَيَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدورق وَهُوَ شيخ مُسلم
أَيْضا، وَابْن علية هُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم
وَعليَّة أمه، والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة
عَن يحيى بن أَيُّوب.
قَوْله: (غير فضيخكم) ، الفضيخ، بِفَتْح الْفَاء وَكسر
الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة، وَهُوَ
شراب يتَّخذ من الْبُسْر وَحده من غير أَن تمسه النَّار،
واشتقاقه من الفضخ وَهُوَ الْكسر، وَقَالَ إِبْرَاهِيم
الْحَرْبِيّ: الفضيخ أَن يكسر الْيُسْر وَيصب عَلَيْهِ
المَاء وَيتْرك حَتَّى يغلي، وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ مَا
فضخ من الْبُسْر من غير أَن تمسه نَار، فَإِن كَانَ تَمرا
فَهُوَ خليط. قَوْله: (أَبَا طَلْحَة) ، هُوَ زيد بن سهل
الْأنْصَارِيّ زوج أم أنس. قَوْله: (وَفُلَانًا
وَفُلَانًا) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث عبد
الْعَزِيز بن صُهَيْب: إِنِّي لقائم أسقيهاأبا طَلْحَة
وَأَبا أَيُّوب ورجالاً من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي بيتنا إِذْ جَاءَ رجل الحَدِيث، وَفِي
رِوَايَة لَهُ من حَدِيث قَتَادَة عَن أنس، قَالَ: كنت
أَسْقِي أَبَا دُجَانَة ومعاذ بن جبل فِي رَهْط من
الْأَنْصَار، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ من حَدِيث
سُلَيْمَان التَّيْمِيّ: حَدثنَا أنس بن مَالك قَالَ:
إِنِّي لقائم على الْحَيّ على عمومتي أسقيهم من قضيخ لَهُم
وَأَنا أَصْغَرهم سنا لحَدِيث، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن
قَتَادَة عَن أنس قَالَ: إِنِّي لأسقي أَبَا طَلْحَة
وَأَبا دُجَانَة وَسُهيْل بن بَيْضَاء من مزادة الحَدِيث،
وَسَيَأْتِي فِي كتاب الأشرية من حَدِيث أنس قَالَ: كنت
أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَة وَأَبا طَلْحَة وَأبي بن كَعْب من
فضيخ الحَدِيث. قَوْله: (إِذْ جَاءَ رجل) ، كلمة إِذا
انْظُر فِيهِ معنى المفاجأة وَالرجل لم يسم. قَوْله:
(أهرق) ، أَمر من إهراق، وَقيل: الصَّوَاب أرق لِأَن
الْهَاء بدل من الْهمزَة فَلَا يجمع بَينهمَا، ورد
عَلَيْهِ بِأَن أهل اللُّغَة أثبتته كَذَلِك. قَوْله:
(القلال) ، بِالْكَسْرِ جمع قلَّة وَهِي الجرة الَّتِي
يقلها الْقوي من الرِّجَال، والكوز اللَّطِيف الَّذِي تقله
الْيَد وَلَا يثقل عَلَيْهَا، وَفِي الحَدِيث جَوَاز
الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد، وَفِيه أَن الْخمر كَانَت
مُبَاحَة قبل التَّحْرِيم.
4618 - ح دَّثنا صَدَقَةُ بنُ الفَضْلِ أخْبَرنا ابنُ
عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرو عَنْ جَابِرٍ قَالَ صَبَّحَ أُناسٌ
غَدَاةَ أُحُدٍ الخَمْرَ فَقُتِلُوا مِنْ يَوْمِهِمْ
جَمِيعا شُهَدَاءً وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِها.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (وَذَلِكَ قبل
تَحْرِيمهَا) وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان، وَعَمْرو
هُوَ ابْن دِينَار، والْحَدِيث مضى فِي
(18/210)
الْجِهَاد فِي: بَاب فضل قَول الله
تَعَالَى: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله}
(آل عمرَان: 169) الْآيَة. فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن
عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن عَمْرو عَن جَابر
إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَمر فِي
الْمَغَازِي أَيْضا عَن عبد الله بن مُحَمَّد.
والْحَدِيث أخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) حَدثنَا أَحْمد
بن عَبدة حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار سمع
جَابر بن عبد الله يَقُول: اصطبح نَاس الْخمر من أَصْحَاب
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قتلوا شُهَدَاء
يَوْم أُحد. فَقَالَت الْيَهُود: فقد مَاتَ بعض الَّذين
قتلوا وَهِي فِي بطونهم، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَيْسَ
على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا
طعموا} (الْمَائِدَة: 93) ثمَّ قَالَ: وَهَذَا إِسْنَاد
صَحِيح، وَهُوَ كَمَا قَالَ: وَلَكِن فِي سِيَاقه غرابة،
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن تَحْرِيم الْخمر كَانَ بعد
غَزْوَة أحد فِي شَوَّال سنة ثَلَاث من الْهِجْرَة.
4619 - ح دَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ
أخْبَرَنَا عِيسَى وَابْنُ إدْرِيسَ عَنْ أبي حَيَّانَ
عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ
رَضِيَ الله عنهُ عَلَى مِنْبَرِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ أمَّا بَعْدُ أيُّها النَّاسُ
إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ
مِنَ العِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالعَسَلِ والحِنْطَةِ
والشَّعِيرِ وَالخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
هُوَ ابْن رَاهَوَيْه، وَعِيسَى هُوَ ابْن يُونُس بن أبي
إِسْحَاق السبيعِي، وَابْن إِدْرِيس هُوَ عبد الله بن
إِدْرِيس الأودي الْكُوفِي، وَأَبُو حَيَّان، بِفَتْح
الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف:
يحيى بن سعيد التَّيْمِيّ، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر بن
شرَاحِيل.
والْحَدِيث أخرجه أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن إِسْحَاق
أَيْضا وَفِي الْأَشْرِبَة أَيْضا عَن أَحْمد بن أبي
رَجَاء، وَأخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة وَغَيره، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَشْرِبَة عَن
أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
أَحْمد بن منيع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي
الْوَلِيمَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن آخَرين،
وَهَذَا الحَدِيث مَوْقُوف على عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة زَكَرِيَّا بن
أبي زَائِدَة وَمُحَمّد بن قيس كِلَاهُمَا عَن الشّعبِيّ،
وَمن رِوَايَة أبي حُصَيْن عَن الشّعبِيّ عَن ابْن عمْرَة
(وَلم يذكر عمر) .
قَوْله: (وَالْخمر مَا خمرالعقل) أَي: ستره وغطاه وَسَار
عَلَيْهِ كالخمار، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل كل مَا
أَزَال الْعقل سَوَاء كَانَ متخذا من الْعِنَب وَالزَّبِيب
والحبوب بأنواعها أَو نباتا كجوز الْهِنْد والحشيش وَلبن
الخشخاش وكل ذَلِك إِذا أسكر حرم، وَلَا تعَارض بَين
حَدِيث عمر هَذَا وَبَين حَدِيث ابْنه عبد الله
الْمَذْكُور فِي أول الْبَاب لما ذكرنَا من الْجَواب عَنهُ
هُنَاكَ.
11 - (بابٌ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُناحٌ فِيمَا طعِمُوا} إلَى قَوْلِهِ:
{وَالله يُحِبُّ المُحْسِنينَ} (الْمَائِدَة: 93)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {لَيْسَ على الَّذين
آمنُوا} الْآيَة. هَذَا الْمِقْدَار الْمَذْكُور رِوَايَة
أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب {لَيْسَ على الَّذين
آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} إِلَى
قَوْله: {وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} لَيْسَ فِي بعض
النّسخ لفظ بَاب، وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: حَدثنَا أسود
بن عَامر أَنبأَنَا إِسْرَائِيل عَن سماك عَن عِكْرِمَة
عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: لما حرمت الْخمر قَالَ أنَاس:
يَا رَسُول الله أَصْحَابنَا الَّذين مَاتُوا وهم
يشربونها؟ فَأنْزل الله عز وَجل: {لَيْسَ على الَّذين
آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} قَالَ:
وَلما حولت الْقبْلَة قَالَ أنَاس: يَا رَسُول الله!
أَصْحَابنَا الَّذين مَاتُوا وهم يصلونَ إِلَى بَيت
الْمُقَدّس، فَأنْزل الله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع
إيمَانكُمْ} (الْبَقَرَة: 113) قَوْله: (جنَاح) أَي:
إِثْم. قَوْله: (إِذا مَا اتَّقوا) ، يَعْنِي الْمعاصِي
والشرك. قَوْله: (وآمنوا) قيل بِاللَّه وَرَسُوله، وَقيل
بِتَحْرِيم الْخمر. قَوْله: (وَعمِلُوا الصَّالِحَات)
يَعْنِي: أَقَامُوا على الْفَرَائِض. قَوْله: (ثمَّ
اتَّقوا) هَذِه الثَّانِيَة المُرَاد بهَا اجتنبوا الْعود
إِلَى الْخمر بعد التَّحْرِيم، وَقيل: ظلم الْعباد، وَقيل:
ثمَّ اتَّقوا الشُّبُهَات، وَقيل: جَمِيع الْمَحَارِم.
قَوْله: (وأحسنوا) أَي الْعَمَل.
4620 - ح دَّثنا أبُو النُّعْمَانِ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ
زَيْدٍ حدَّثنا ثابِتٌ عَنْ أنَسٍ رَضِي الله عنهُ أنَّ
(18/211)
الخَمْرَ الَّتِي أُهْرِيقَتِ الفَضِيخُ
وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ عَنْ أبِي النُّعْمَانِ قَالَ كُنْتُ
ساقِيَ القَوْمِ فِي مَنْزِلِ أبِي طَلْحَةَ فَنَزَلَ
تَحْرِيمُ الخَمْرَ فَأمَرَ مُناديا فَنادَى فَقَالَ أبُو
طَلْحَةَ اخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا الصَّوْتُ قَالَ
فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ هَذَا منادٍ يُنادي أَلا إنَّ
الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ لي اذْهَبْ فأهْرِقْها
قَالَ فَجَرَتْ فِي سِكَكِ المَدِينَةِ قَالَ وَكَانَتْ
خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ الفَضِيخَ فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ
قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي بُطُونِهِمْ قَال فأنْزَلَ الله
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
جُناحٌ فِيما طَعِمُوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو النُّعْمَان
مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي ولقبه عَارِم، والْحَدِيث
مضى فِي الْمَظَالِم فِي: بَاب صب الْخمر فِي الطَّرِيق،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن
عَن عَفَّان عَن حَمَّاد بن زيد عَن ثَابت عَن أنس.
قَوْله: (الفضيخ) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ خبر: إِن قَوْله:
(وَزَادَنِي مُحَمَّد) ، أَي: قَالَ البُخَارِيّ: أَي
زادني مُحَمَّد فِيهِ، وَهُوَ مُحَمَّد بن سَلام البيكندي،
وَلم يَقع لفظ البيكندي إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر وَهُوَ
يعلم أَن المُرَاد بِمُحَمد الْمَذْكُور مُجَردا عَن
النِّسْبَة هُوَ البيكندي، وَلم يقف الْكرْمَانِي على
هَذَا، فَقَالَ: مُحَمَّد. قَالَ الغساني: هُوَ مُحَمَّد
بن يحيى الذهلي، وَكَذَا لم يقف عَلَيْهِ بعض من كتب على
مَوَاضِع من البُخَارِيّ مِمَّن عاصرناه، فَقَالَ
الْقَائِل: وَزَادَنِي هُوَ الْفربرِي، وَمُحَمّد هُوَ
البُخَارِيّ، وَهُوَ ذُهُول جدا، وَحَاصِل الْكَلَام: أَن
البُخَارِيّ سمع هَذَا الحَدِيث من أبي النُّعْمَان
مُخْتَصرا. وَمن مُحَمَّد بن سَلام عَن أبي النُّعْمَان
مطولا. قَوْله: (فَأمر) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (فجرت) أَي سَالَتْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا
الحَدِيث تعْيين وَقت التَّحْرِيم، وَقد روى أَحْمد
وَأَبُو يعلى من حَدِيث تَمِيم الدَّارِيّ أَنه كَانَ يهدي
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل عَام راوية خمر.
فَلَمَّا كَانَ عَام حرمت جَاءَ براوية فَقَالَ: أشعرت
أَنَّهَا قد حرمت بعْدك؟ قَالَ أَفلا أبيعها وانتفع
بِثمنِهَا؟ فَنَهَاهُ. انْتهى. وَكَانَ إِسْلَام تَمِيم
بعد الْفَتْح.
12 - (بابُ قَوْلِهِ: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أشْيَاءَ إنْ
تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤُكُمْ} (الْمَائِدَة: 101)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تسألوا عَن
أَشْيَاء} هَذَا هَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَلَيْسَ
فِي رِوَايَة غَيره لفظ: بَاب قَوْله: وَإِنَّمَا هُوَ
(لَا تسألوا) إِلَى آخِره. قَوْله: (لَا تسألوا) الْآيَة
تَأْدِيب من الله تَعَالَى عباده الْمُؤمنِينَ، وَنهي
لَهُم عَن أَن يسْأَلُوا عَن أَشْيَاء مِمَّا لَا فَائِدَة
لَهُم فِي السُّؤَال والنقيب عَنْهَا لِأَنَّهَا إِن ظَهرت
تِلْكَ الْأُمُور رُبمَا ساءتهم وشق عَلَيْهِم سماعهَا،
كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يبلغنِي أحد عَن أحد شَيْئا
آني أحب أَن أخرج إِلَيْكُم وَأَنا سليم الصَّدْر) .
4621 - ح دَّثنا مُنْذِرُ بنُ الوَلِيدِ بنِ عَبْدِ
الرَّحْمانِ الجَارُودِيُّ حدَّثنا أبي حَدِيثا شُعْبَةُ
عَنْ مُوسَى بنِ أنَسٍ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عَنهُ قَالَ
خَطَبَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُطْبَةً مَا
سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطَّ قَالَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا
أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرا
قَالَ فَغَطَى أصْحَابُ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وُجُوهَهُمْ لَهُمْ حَنِينٌ فَقَالَ رَجُلٌ مَنْ
أبَى قَالَ فُلانٌ فَنَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةُ لَا
تَسْأَلُوا عَنْ أشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤَكُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُنْذِر، على وزن اسْم
الْفَاعِل من الْإِنْذَار ابْن الْوَلِيد بن عبد
الرَّحْمَن بن أبي حبيب ابْن علْبَاء بن حبيب بن
الْجَارُود الْعَبْدي الْبَصْرِيّ الجارودي، نِسْبَة إِلَى
جده الْأَعْلَى، وَهُوَ ثِقَة وَلَيْسَ لَهُ فِي
البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي كفارت
الْأَيْمَان، وَأَبوهُ مَاله ذكر إلاَّ فِي هَذَا الْموضع،
ومُوسَى بن أنس هُوَ ابْن أنس بن مَالك يروي عَن أَبِيه
هَذَا الحَدِيث.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الرقَاق وَفِي
الِاعْتِصَام عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم. وَأخرجه
مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
مُحَمَّد بن معمر وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن معمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الرقَاق عَن مَحْمُود بن غيلَان مُخْتَصرا.
قَوْله: (لَهُم حنين) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة،
(18/212)
قَالَ النَّوَوِيّ: فِي مُعظم النّسخ،
ولمعظم الروَاة يَعْنِي بِالْمُعْجَمَةِ، قَالَ
الْقُرْطُبِيّ: وَهُوَ الْمَشْهُور، وَهُوَ خُرُوج
الصَّوْت من الْأنف بغنة وَفِي (التَّوْضِيح) وَعند العذري
بحاء مُهْملَة، وَمِمَّنْ ذكرهَا القَاضِي وَصَاحب
(التَّحْرِير) ، وَذكر الْقَزاز أَنه قد يكون الحنين
والخنين وَاحِدًا إِلَّا أَن الَّذِي بِالْمُهْمَلَةِ من
الصَّدْر وبالمعجمة من الْأنف، وَقَالَ ابْن سَيّده الحنين
من بكاء النِّسَاء دون الانتحاب، وَقيل: هُوَ تردد الْبكاء
حَتَّى يصير فِي الصَّوْت غنة، وَقيل: هُوَ رفع الصَّوْت
بالبكاء، وَقيل: هُوَ صَوت يخرج من الْأنف حَتَّى يخن،
والخنين أَيْضا الضحك إِذا أظهره الْإِنْسَان فَخرج خافيا.
وَقَالَ فِي الْحَاء الْمُهْملَة، الحنين الشَّديد من
الْبكاء والطرب، وَقيل: هُوَ صَوت الطَّرب كَانَ ذَلِك عَن
حزن أَو فَرح، وَقَالَ الْخطابِيّ: الحنين بكاء دون
الانتحاب. قلت: وَأَصله من حنين الْمَرْأَة وَهُوَ نزاعها
إِلَى وَلَدهَا وَإِن لم يكن لَهَا صَوت عِنْد ذَلِك،
وَقَالَ ابْن فَارس، وَقد يكون حنينها صَوتهَا، وَيدل
عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي الحَدِيث من حنين الْجذع قَوْله:
(فَقَالَ رجل: من أبي) قَالَ بَعضهم: تقدم فِي الْعلم أَنه
عبد الله بن حذافة. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى لِأَن الَّذِي
فِي الْعلم من رِوَايَة شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس
وَهَذَا من رِوَايَة شُعْبَة عَن مُوسَى بن أنس عَن أنس
فَمن أَيْن التَّعْيِين؟ على أَن فِي رِوَايَة العسكري
نزلت فِي قيس بن حذافة وَفِي رِوَايَة: خَارِجَة بن حذافة،
وكل هَؤُلَاءِ صحابة.
رَوَاهُ النَّضْرُ وَرَوْحُ بنُ عُبَادَةَ عَنْ شُعْبَةَ
أَي: روى هَذَا الحَدِيث النَّضر بن شُمَيْل، وروح بن
عبَادَة عَن شُعْبَة بِإِسْنَادِهِ: أما رِوَايَة النَّضر
فوصلها مُسلم، قَالَ: حَدثنَا مَحْمُود ابْن غيلَان
وَمُحَمّد بن قدامَة السّلمِيّ وَيحيى بن مُحَمَّد
اللؤْلُؤِي، وَأَلْفَاظهمْ مُتَقَارِبَة. قَالَ مَحْمُود:
حَدثنَا النَّضر بن شُمَيْل، وَقَالَ الْآخرَانِ أخبرنَا
النَّضر أخبرنَا شُعْبَة حَدثنَا مُوسَى بن أنس عَن أنس بن
مَالك. قَالَ: بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
عَن أَصْحَابه شَيْء، فَخَطب فَقَالَ: عرضت عَليّ الْجنَّة
وَالنَّار الحَدِيث، وَفِي آخِره. فَنزلت هَذِه الْآيَة:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن
تبدُ لكم تَسُؤْكُمْ} (الْمَائِدَة: 101) وَأما رِوَايَة
روح بن عبَادَة فوصلها البُخَارِيّ فِي كتاب الِاعْتِصَام،
وَرَوَاهَا مُسلم أَيْضا. وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن
معمر بن ربعي الْقَيْسِي حَدثنَا روح بن عبَادَة حَدثنَا
شُعْبَة. قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، من أبي؟ قَالَ:
أَبوك فلَان، فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا
تسألوا عَن أَشْيَاء} الْآيَة بِتَمَامِهَا.
(18/213)
13 - (بابُ: {مَا جَعَلَ الله مِنْ
بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ}
(الْمَائِدَة: 103)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا جعل الله}
إِلَى آخِره. قَوْله: (مَا جعل الله) ، أَي: مَا أوجبهَا،
وَلَا أَمر بهَا وَلم يرد حَقِيقَة الْجعل لِأَن الْكل
خلقه وتدبيره، وَلَكِن المُرَاد بَيَان ابتداعهم فِيمَا
صنعوه من ذَلِك، والآن يَأْتِي تَفْسِير هَذِه الْأَشْيَاء
الْمَذْكُورَة.
وَإذْ قَالَ الله يَقُولُ قَالَ الله وَإذْ هاهُنَا صِلَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا قَالَ الله
يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم} (الْمَائِدَة: 110) وَأَن لفظ.
قَالَ الَّذِي هُوَ مَاض بِمَعْنى يَقُول الْمُضَارع لِأَن
الله تَعَالَى إِنَّمَا يَقُول هَذَا القَوْل يَوْم
الْقِيَامَة وَإِن كلمة إِذْ صلَة أَي: زَائِدَة. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: لِأَن للماضي وَهَاهُنَا المُرَاد بِهِ
الْمُسْتَقْبل. قلت: اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ هُنَا.
فَقَالَ قَتَادَة: هَذَا خطاب الله تَعَالَى لعَبْدِهِ
وَرَسُوله عِيسَى ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا السَّلَام،
يَوْم الْقِيَامَة توبيخا وتقريعا لِلنَّصَارَى، وَقَالَ
السّديّ: هَذَا الْخطاب وَالْجَوَاب فِي الدُّنْيَا،
وَقَالَ ابْن جرير: هَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَكَانَ ذَلِك
حِين رَفعه إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، وَاحْتج فِي ذَلِك
بشيئين: أَحدهمَا: أَن لفظ الْكَلَام لفظ الْمَاضِي.
وَالثَّانِي: قَوْله: {إِن تُعَذبهُمْ فَإِنَّهُم عِبَادك
وَإِن تغْفر لَهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم}
قلت: فعلى هَذَا لَا يتَوَجَّه مَا قَالَه من أَن قَالَ:
بِمَعْنى يَقُول وَلَا أَن كلمة إِذْ صلَة على أَنه لَا
يُقَال: إِن فِي كَلَام الله عز وَجل شَيْئا زَائِدا،
وَلَئِن سلمنَا وُقُوع ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة فَلَا
يلْزم من ذَلِك ذكره بِلَفْظ الْمُضَارع لِأَن كل مَا ذكر
الله من وُقُوع شَيْء فِي الْمُسْتَقْبل فَهُوَ كالواقع
جزما لِأَنَّهُ مُحَقّق الْوُقُوع فَكَأَنَّهُ قد وَقع
وَأخْبر بالماضي، ونظائر هَذَا فِي الْقُرْآن كَثِيرَة.
وَقَالَ بَعضهم قَوْله: (وَإِذ قَالَ الله يَقُول، قَالَ
الله وَإِذ هَاهُنَا صلَة) كَذَا ثَبت هَذَا وَمَا بعده
هُنَا، وَلَيْسَ بخاص بِهِ، وَهُوَ على قدمْنَاهُ من
تَرْتِيب بعض الروَاة انْتهى. قلت: كَيفَ رَضِي أَكثر
الروَاة بِهَذَا التَّرْتِيب الَّذِي مَا رتبه الْمُؤلف؟
وَالْحَال أَنه نقح مُؤَلفه كَمَا يَنْبَغِي وقرىء
عَلَيْهِ مرَارًا عديدة، والقرائن تدل على أَن هَذَا
وَأَمْثَاله من وضع الْمُؤلف، وَغَيره مِمَّن هُوَ دونه
لَا يستجرىء أَن يزِيد شَيْئا فِي نفس مَا وَضعه هُوَ،
وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ ذَلِك بِغَيْر مُنَاسبَة أَو
بتعسف فِيهِ.
المَائِدَةُ أصْلُها مَفْعُولَةٌ كَعِيشَةٍ رَاضِيَةٍ
وَتَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ وَالمَعْنَى مِيدَ بِها صَاحبُها
مِنْ خَيْرٍ يُقَالُ مَادَنِي يَمِيدُنِي.
أَشَارَ بِهِ إِلَى بَيَان لفظ مائدة فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم هَل
يَسْتَطِيع رَبك أَن ينزل علينا مائدة من السَّمَاء}
(الْمَائِدَة: 112) فَقَوله: (الْمَائِدَة أَصْلهَا
مفعولة) لَيْسَ على طَرِيق أهل الْفَنّ فِي هَذَا الْبَاب
لِأَن أصل كل كلمة حروفها وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا بَيَان
الْحُرُوف الْأُصُول، وَإِنَّمَا المُرَاد أَن لفظ
الْمَائِدَة، وَإِن كَانَ على لفظ فاعلة، فَهُوَ بِمَعْنى
مفعولة يَعْنِي: مميودة، لِأَن ماد أَصله ميد. قلبت
الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَالْمَفْعُول
مِنْهَا للمؤنث. مميودة، وَلَكِن تنقل حَرَكَة الْيَاء
إِلَى مَا قبلهَا فتحذف الْوَاو فَتبقى مميدة، فيفعل فِي
إعلال هَذَا كَمَا يفعل فِي إعلال مبيعة، لِأَن أَصْلهَا
مبيوعة فأعل بِمَا ذكرنَا وَلَا يسْتَعْمل إلاَّ هَكَذَا
على أَن فِي بعض اللُّغَات اسْتعْمل على الأَصْل حَيْثُ
قَالُوا: تفاحة مطيوبة على الأَصْل ثمَّ إِن تَمْثِيل
البُخَارِيّ بقوله: كعيشة راضية صَحِيح لِأَن لفظ راضية.
وَإِن كَانَ وَزنهَا فاعلة، فِي الظَّاهِر وَلكنهَا
بِمَعْنى المرضية، لِامْتِنَاع وصف العيشة بِكَوْنِهَا
راضية، وَإِنَّمَا الرِّضَا وصف صَاحبهَا، وتمثيله بقوله
وتطليقة بَائِنَة غير صَحِيح لِأَن لفظ بَائِنَة هُنَا على
أَصله بِمَعْنى قَاطِعَة لِأَن التطليقة البائنة تقطع حكم
العقد حَيْثُ لَا يبْقى للمطلق بِالطَّلَاق الْبَائِن
رُجُوع إِلَى الْمَرْأَة إلاَّ بِعقد جَدِيد بِرِضَاهَا،
بِخِلَاف حكم الطَّلَاق الْغَيْر الْبَائِن كَمَا علم فِي
مَوْضِعه. قَوْله: (وَالْمعْنَى) ، إِلَى آخِره، إِشَارَة
إِلَى بَيَان معنى الْمَائِدَة من حَيْثُ اللُّغَة،
وَإِلَى بَيَان اشتقاقها، أما مَعْنَاهَا، فميد بهَا
صَاحبهَا يَعْنِي: امتير بهَا، لِأَن معنى ماده يميده
لُغَة فِي ماره يميره من الْميرَة، وَأما اشتقاقها فَمن
ماد يميد من بَاب: فعل يفعل، بِفَتْح الْعين فِي الْمَاضِي
وَكسرهَا فِي الْمُسْتَقْبل، وَهُوَ اجوف يائي، كباع
يَبِيع، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الممتار مفعتل من الْميرَة،
وَمِنْه الْمَائِدَة، وَهُوَ خوان عَلَيْهِ طَعَام فَإِذا
لم يكن عَلَيْهِ طَعَام فَلَيْسَ بمائدة وَإِنَّمَا هُوَ
خوان.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ مُتَوَفِّيكَ مُمِيتُكَ
(18/214)
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِذا
قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي متوفيك ورافعك إليّ} (آل
عمرَان: 55) وَلَكِن هَذَا فِي سُورَة آل عمرَان، وَكَانَ
الْمُنَاسب أَن يذكر هُنَاكَ، وَقَالَ بَعضهم: كَأَن بعض
الروَاة ظَنّهَا من سُورَة الْمَائِدَة فكتبها فِيهَا
وَقَالَ الْكرْمَانِي: ذكر هَذِه الْكَلِمَة هَاهُنَا
وَإِن كَانَت من سُورَة آل عمرَان لمناسبة قَوْله
تَعَالَى: {فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب
عَلَيْهِم} (الْمَائِدَة: 117) وَكِلَاهُمَا من قصَّة
عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قلت: هَذَا بعيد
لَا يخفى بعده، وَالَّذِي قَالَه بَعضهم أبعد مِنْهُ
فَلْيتَأَمَّل، ثمَّ إِن تَعْلِيق ابْن عَبَّاس هَذَا
رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه: حَدثنَا أَبُو صَالح
حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن
عَبَّاس.
4623 - ح دَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ حدَّثنا
إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ بنِ كَيْسَانَ عَنْ
ابنِ شِهاب عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ قَالَ البَحِيرَةُ
الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّها لِلطَّواغِيتِ فَلا يَحْلُبُها
أحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ كَانُوا
يُسَيِّبُونَها لآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْها
شَيْءٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا غير
مرّة خُصُوصا على هَذَا النسق.
وَهَذَا أخرجه مُسلم فِي صفة أهل النَّار عَن عَمْرو
النَّاقِد وَغَيره، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير
عَن مُحَمَّد بن عبد الله الْمَرْفُوع مِنْهُ دون
الْمَوْقُوف.
قَوْله: (الْبحيرَة) على وزن فعيلة مفعولة واشتقاقها من
بَحر إِذا شقّ، وَقيل هَذَا من الاتساع فِي الشَّيْء.
قَوْله: (درها) ، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَتَشْديد
الرَّاء، وَهُوَ اللَّبن. قَوْله: (للطواغيت) ، أَي: لأجل
الطواغيت وَهِي الْأَصْنَام، وَقَالَ ابْن الْأَثِير:
كَانُوا إِذا ولدت إبلهم سبعا بحروا أذنها. أَي: شقوها.
وَقَالُوا: اللَّهُمَّ إِن عَاشَ ففتى وَإِن مَاتَ فذكى،
فَإِذا مَاتَ أكلوه وسموه الْبحيرَة. وَقيل: الْبحيرَة
هِيَ بنت السائبة، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة جعلهَا قوم من
الشَّاء خَاصَّة إِذا ولدت خَمْسَة أبطن بحروا أذنها أَي:
شقوها وَتركت وَلَا يَمَسهَا أحد، وَقَالَ آخَرُونَ: بل
الْبحيرَة النَّاقة كَذَلِك يخلوا عَنْهَا فَلم تركب وَلم
يضْربهَا فَحل، وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة الْبحيرَة
هِيَ النَّاقة إِذا انتجت خَمْسَة أبطن نظرُوا إِلَى
الْخَامِس، فَإِن كَانَ ذكرا ذبحوه وَأكله الرِّجَال دون
النِّسَاء، وَإِن كَانَ أُنْثَى جذعوا أذنها فَقَالُوا
هَذِه بحيرة، وَعَن السّديّ مثله. قَوْله: (فَلَا يحلبها
أحد من النَّاس) ، أطلق نفي الْحَلب، وَكَلَام أَتَى
عُبَيْدَة يدل على أَن الْمَنْفِيّ هُوَ الشّرْب الْخَاص.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانُوا يحرمُونَ وبرها ولحمها
وظهرها ولبنها على النِّسَاء وَيحلونَ ذَلِك للرِّجَال،
وَمَا ولدت فَهُوَ بمنزلتها وَإِن مَاتَت اشْترك الرِّجَال
وَالنِّسَاء فِي أكل لَحمهَا. قَوْله: (والسائبة) ، على
وزن فاعلة بِمَعْنى مسيبة، وَهِي المخلاة تذْهب حَيْثُ
شَاءَت وَكَانُوا يسيبونها لآلهتهم فَلَا يحمل عَلَيْهَا
شَيْء، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كَانَت السائبة من جَمِيع
الْأَنْعَام وَتَكون من النذور للأصنام فتسيب فَلَا تحبس
عَن مرعى وَلَا عَن مَاء وَلَا يركبهَا أحد، قَالَ: وَقيل:
السائبة لَا تكون إلاَّ من الْإِبِل كَانَ الرجل ينذر إِن
برىء من مَرضه أَو قدم من سَفَره ليسيبن بَعِيرًا. وَقَالَ
مُحَمَّد بن إِسْحَاق السائبة هِيَ النَّاقة إِذا ولدت
عشرَة إناث من الْوَلَد لَيْسَ بَينهُنَّ ذكر سيبت فَلم
تركب وَلم يجز وبرها وَلم يجلب لبها إِلَّا لضيف.
قَالَ وَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم رأيْتُ عُمَرو بنَ عَامرِ
الخُزَاعِيَّ يَجْرُّ قُصْبَةُ فِي النَّارِ كانَ أوَّلَ
مَنْ سيِّبَ السَّوائِبَ.
أَي: قَالَ سعيد بن الْمسيب: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة، قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخِره. هَذَا
حَدِيث مَرْفُوع أوردهُ فِي أثْنَاء الْمَوْقُوف. قَوْله:
(عَمْرو بن عَامر) ، قَالَ الْكرْمَانِي: تقدم فِي: بَاب
إِذا انفلتت الدَّابَّة فِي الصَّلَاة وَرَأَيْت فِيهَا
عَمْرو بن لحي، بِضَم اللَّام وَفتح الْمُهْملَة، وَهُوَ
الَّذِي سيب السوائب. ثمَّ قَالَ: لَعَلَّ عَامر اسْم ولحي
لقب أَو بِالْعَكْسِ أَو أَحدهمَا اسْم الْجد. قلت: ذكر
فِي (التَّوْضِيح) إِنَّمَا هُوَ عَمْرو بن لحي، ولحي
اسْمه: ربيعَة بن حَارِثَة بن عَمْرو مزيقيا بن عَامر مَاء
السَّمَاء، وَقيل: لحي بن قمعة ابْن الياس بن مُضر، نبه
عَلَيْهِ الدمياطي، وَفِي (تَفْسِير ابْن كثير) وَعمر
وَهَذَا هُوَ ابْن لحي بن قمعة أحد رُؤَسَاء خُزَاعَة
الَّذين ولوا الْبَيْت بعد جرهم، وَكَانَ أول من غير دين
إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، فَأدْخل
الْأَصْنَام إِلَى الْحجاز ودعا الرعاع من النَّاس إِلَى
عبادتها والتقرب بهَا، وَشرع لَهُم هَذِه الشَّرَائِع
الْجَاهِلِيَّة فِي الْأَنْعَام وَغَيرهَا. قَوْله: (قصبه)
، بِضَم الْقَاف، وَاحِدَة الأقصاب.
(18/215)
وَالوَصِيلَةُ النَّاقَةُ البِكْرُ
تُبْكَّرُ فِي أوَّلِ نِتاجِ الإبلِ ثُمَّ تُثَنَّى بَعْدُ
بِأُثْنَى وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهُمْ لِطَواغِيتِهِمْ إنْ
وَصَلَتْ إحْدَاهُما بالأُخرى لَيْسَ بَيْنَهُما ذَكَرٌ.
هَذَا أَيْضا من تَفْسِير سعيد بن الْمسيب الْمَوْقُوف
وَلَيْسَ بِمُتَّصِل بالمرفوع. قَوْله: (الوصيلة) ، من
الْوَصْل بِالْغَيْر فِي اللُّغَة وَالَّتِي فِي الْآيَة
الَّتِي فَسرهَا ابْن الْمسيب بقوله: النَّاقة الْبكر تبكر
أَي: تبتدىء وكل من بكر إِلَى الشَّيْء فقد بَادر
إِلَيْهِ. قَوْله: (بأنثى) ، يتَعَلَّق بقوله: تبكر
قَوْله: (ثمَّ تثنى) من التَّثْنِيَة أَي: تَأتي فِي
الْمرة الثَّانِيَة بعد الْأُنْثَى الأولى بأنثى أُخْرَى،
وَالضَّمِير فِي: يسيبونها، يرجع إِلَى الوصيلة. قَوْله:
(إِن وصلت) ، أَي: من أجل أَن وصلت (إِحْدَاهمَا) : أَي:
إِحْدَى الْأُنْثَيَيْنِ بِالْأُنْثَى الْأُخْرَى،
وَالْحَال أَن لَيْسَ بَينهمَا ذكر. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
إِن وصلت، بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا. قلت: الْأَظْهر أَن
يكون بِالْفَتْح على مَا لَا يخفى، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: الوصيلة الشَّاة إِذا ولدت سِتَّة أبطن أُنثيين
أُنثيين وَولدت فِي السَّابِعَة ذكرا، وَأُنْثَى. قَالُوا:
وصلت أخاها فأحلوا لَبنهَا للرِّجَال وحرموه على
النِّسَاء، وَقيل: إِن كَانَ السَّابِع ذكرا ذبح وَأكل
مِنْهُ الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَإِن كَانَ أُنْثَى تركت
فِي الْغنم، إِن كَانَ ذكر أَو أنث قَالُوا: وصلت أخاها
وَلم تذبح، وَكَانَ لَبنهَا حَرَامًا على النِّسَاء
وَقَالَ ابْن اسحاق الوصيلة الشَّاة تنْتج عشر أناث
مُتَتَابِعَات فِي خَمْسَة أبطن فيدعونها الوصيلة وَمَا
ولدت بعد ذَلِك فللذكور دون الْإِنَاث، وَتَفْسِير ابْن
الْمسيب رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ
عَنهُ، وَكَذَا روى عَن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَالحَامُ فَحْلُ الإبِلِ يَضْرِبُ الضِّرَاب المَعْدُودَ
فَإذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوهُ للطَوَاغِيتِ وأعْفُوهُ
مِنَ الحمْلِ فَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَسَمَّوْهُ
الحَامِيَ.
هَذَا أَيْضا من تَفْسِير ابْن الْمسيب. قَوْله: (يضْرب)
أَي: ينزو، يُقَال: ضرب الْحمل النَّاقة يضْربهَا إِذا نزا
عَلَيْهَا، وأضرب فلَان نَاقَته إِذا أنزى الْفَحْل
عَلَيْهَا، وضراب الْفَحْل نزوه على النَّاقة، والضراب
الْمَعْدُود هُوَ أَن ينْتج من صلبه بطن بعد بطن إِلَى أَن
يصير عشرَة أبطن، فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ: قد حمى ظَهره.
قَوْله: (وَدعوهُ) أَي: تَرَكُوهُ لأجل الطواغيت وَهِي
الْأَصْنَام. قَوْله: (وسموه الحامي) لِأَنَّهُ حمى ظَهره،
فَلذَلِك يُقَال لَهُ: حام، مَعَ أَنه فِي الأَصْل محمي،
وَهَذَا التَّفْسِير مَنْقُول عَن ابْن مَسْعُود وَابْن
عَبَّاس، وَقيل: الحام هُوَ الْفَحْل يُولد لوَلَده
فَيَقُولُونَ حمى ظَهره فَلَا يجزون وبره وَلَا يمنعونه
مَاء وَلَا مرعى، وَقيل: هُوَ الَّذِي ينْتج لَهُ سبع إناث
مُتَوَالِيَات قَالَه ابْن دُرَيْد، وَقيل: هُوَ الْفَحْل
يضْرب فِي إبل الرجل عشر سِنِين فيخلى، وَيُقَال فِيهِ: قد
حمى ظَهره.
وَقَالَ لِيَ أبُو اليَمانِ أخبَرَنا شُعَيْبٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ سَمِعْتُ سَعِيدا قَال يُخْبِرُهُ بِهاذا
قَالَ وقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم نَحْوَهُ.
قَوْله: (وَقَالَ لي أَبُو الْيَمَان) رِوَايَة أبي ذَر،
وَفِي رِوَايَة غَيره، قَالَ أَبُو الْيَمَان: بِغَيْر
لَفْظَة لي، وَأَبُو الْيَمَان، بِفَتْح الْيَاء آخر
الْحُرُوف: الحكم بن نَافِع يروي عَن شُعَيْب بن أبي
حَمْزَة الْحِمصِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ،
وَقد تكَرر هَذَا الْإِسْنَاد على هَذَا النمط قَوْله:
(يُخبرهُ) بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة من الْفِعْل
الْمُضَارع من الْإِخْبَار، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ
يرجع إِلَى سعيد بن الْمسيب، والمنصوب يرجع إِلَى
الزُّهْرِيّ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن الْحَمَوِيّ
وَالْمُسْتَمْلِي: بحيرة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وبالراء وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى تَفْسِير
الْبحيرَة وَغَيرهَا كَمَا فِي رِوَايَة إِبْرَاهِيم بن
سعد عَن صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ. قَوْله: (قَالَ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة) أَي: قَالَ سعيد بن الْمسيب.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قَوْله: (نَحوه) أَي: نَحْو مَا رَوَاهُ فِي
الرِّوَايَة الْمَاضِيَة، وَهُوَ قَوْله: (الْبحيرَة)
الَّتِي يمْنَع درها للطواغيت. وَقد تقدم فِي مَنَاقِب
قُرَيْش قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان أخبرنَا شُعَيْب
عَن الزُّهْرِيّ سَمِعت
(18/216)
ابْن الْمسيب قَالَ: الْبحيرَة الَّتِي
يمْنَع درها إِلَى آخِره. ثمَّ قَالَ: وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: رَأَيْت
عَمْرو بن عَامر الْخُزَاعِيّ إِلَى آخِره.
وَرَوَاهُ ابنُ الهادِ عنِ ابنِ شهابٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ
أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنهُ سَمِعْتُ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور يزِيد بن عبد الله بن
أُسَامَة بن الْهَاد اللَّيْثِيّ عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن
شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب، وَقَالَ
الْحَاكِم: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن يزِيد بن عبد الله بن
الْهَاد رَوَاهُ عَن عبد الْوَهَّاب بن بخت عَن
الزُّهْرِيّ كَذَا حَكَاهُ الْحَافِظ الْمزي فِي
(الْأَطْرَاف) وَسكت وَلم يُنَبه عَلَيْهِ، وَفِيمَا قَالَ
الْحَاكِم نظر لِأَن الإِمَام أَحْمد وَابْن جرير روياه من
حَدِيث اللَّيْث ابْن سعد عَن ابْن الْهَاد عَن
الزُّهْرِيّ نَفسه، وَالله أعلم.
4624 - ح دَّثني مُحَمَّدُ بنُ أبِي يَعْقُوبَ أبُو عَبدِ
الله الكِرْمَانِيُّ حدَّثنا حسَّانُ بنُ إبْرَاهِيمَ
حدَّثنا يُونُسُ عنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أنَّ
عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ
بَعْضُها بَعْضا وَرَأيْتُ عَمْرا يَجُرُّ قُصْبَهُ وَهُوَ
أوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: {وَهُوَ أول من
سَبَب السوائب} وَمُحَمّد بن أبي يَعْقُوب واسْمه إِسْحَاق
أَبُو عبد الله الْكرْمَانِي، قَالَ البُخَارِيّ: كتبت
عَنهُ بِالْبَصْرَةِ قدم علينا، وَقَالَ: مَاتَ سنة أَربع
وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَقَالَ النَّوَوِيّ:
الْكرْمَانِي، بِفَتْح الْكَاف. وَقَالَ الْكرْمَانِي
الشَّارِح: أَقُول بِكَسْرِهَا، وَهِي بَلْدَتنَا وَأهل
مَكَّة أعرف بشعابها، وَحسان إِمَّا من الْحسن أَو من
الْحس وَهُوَ كرماني أَيْضا تقدما فِي أَوَائِل البيع،
وَيُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. والْحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (يحطم) من الحطم وَهُوَ الْكسر. قَوْله: (عمرا)
هُوَ عَمْرو بن عَامر الْخُزَاعِيّ. قَوْله: (قصبه) وَاحِد
الأقصاب وَهِي الأمعاء.
14 - (بابٌ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا مَا دُمْتُ
فِيهمْ فَلمَّا تَوَفَيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرقِيبَ
عَلَيْهِمْ وَأنْتَ عَلَى كُلُّ شَيْءٍ شَهِيدا}
(الْمَائِدَة: 117)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكنت عَلَيْهِم
شَهِيدا} الْآيَة هَذِه والآيات الَّتِي قبلهَا من قَوْله:
{وَإِذا قَالَ الله يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت
للنَّاس} (الْمَائِدَة: 116) إِلَى آخر السُّورَة، مِمَّا
يُخَاطب الله بِهِ عَبده وَرَسُوله عِيسَى ابْن مَرْيَم
عَلَيْهِمَا السَّلَام قَائِلا لَهُ يَوْم الْقِيَامَة
بِحَضْرَة من اتَّخذهُ وَأمه إلاهين من دون الله تهديدا
لِلنَّصَارَى وتوبيخا وتقريعا على رُؤُوس الأشهاد،
وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَة وَغَيره.)
4625 - ح دَّثنا أبُو الوَلِيدِ حدَّثنا شُعْبَةُ أخْبَرنا
المُغِيرَةُ بنُ النُّعْمَانِ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بن
جُبَيْرٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَال
خَطَبَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا
أيُّها النَّاسُ إنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إلَى الله حُفاةً
عُرَاةً غُرلاً ثُمَّ قَالَ: {كَمَا بَدَأْنَا أولَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ وَعْدا عَلَيْنَا إنّا كُنّا فَاعِلِينَ}
(الْأَنْبِيَاء: 104) إلَى آخِرِ الآيَةِ ثُمَّ قَالَ أَلا
وَإنَّ أوَّلَ الخَلائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إبْرَاهِيمُ أَلا وَإنَّهُ يُجاءُ بِرِجالٍ مِنْ أُمَّتِي
فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فأقُولُ يَا رَبِّ
أُصَيْحَابِي فَيُقال إنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أحْدَثُوا
بَعْدَكَ فَأقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَالِحُ:
{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا
تَوَفَيْتَنِي كُنْتُ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}
فَيُقَالُ إنَّ هاؤُلاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِينَ عَلَى
أعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام
بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، والْحَدِيث قد مضى فِي
مَنَاقِب إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، وَأخرجه هُنَاكَ
عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن الْمُغيرَة بن
النُّعْمَان عَن سعيد بن جُبَير عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى آخِره.
قَوْله: (غرلًا) بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة جمع أغرل
وَهُوَ الَّذِي لم يختن وَبقيت مِنْهُ غرلته وَهِي مَا
يقطعهُ
(18/217)
الْخِتَان من ذكر الصَّبِي. قَوْله: (ذَات
الشمَال) ، جِهَة النَّار. قَوْله: (أصيحابي) ، مصغر
الْأَصْحَاب، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين
بِالتَّصْغِيرِ يدل على تقليل عَددهمْ وَلم يرد بِهِ خَواص
أَصْحَابه الَّذين لزموه وَعرفُوا بِصُحْبَتِهِ أُولَئِكَ
صانهم الله وعصمهم من التبديل، وَالَّذِي وَقع من تَأْخِير
بعض الْحُقُوق إِنَّمَا كَانَ من جُفَاة الْأَعْرَاف
وَكَذَلِكَ الَّذِي ارْتَدَّ مَا كَانَ إلاَّ مِنْهُم
مِمَّن لَا بَصِيرَة لَهُ فِي الدّين وَذَلِكَ لَا يُوجب
قدحا فِي الصَّحَابَة الْمَشْهُورين، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم أَجْمَعِينَ. قَوْله: (العَبْد الصَّالح) ، هُوَ
عِيسَى ابْن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا السَّلَام.
15
- (بابُ قَوْلِهِ: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ
عِبَادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ} (الْمَائِدَة: 118)
(
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أَن تُعَذبهُمْ}
الْآيَة. هَذَا حِكَايَة عَن كَلَام عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَام، ذكر ذَلِك على وَجه الاستعطاف وَالتَّسْلِيم
لأَمره عز وَجل، وَالْمعْنَى: إِن تعذب هَؤُلَاءِ فَذَلِك
بإقامتهم على كفرهم، وَإِن تغْفر لَهُم فبتوبة كَانَت
مِنْهُم لأَنهم عِبَادك وَأَنت الْعَادِل فيهم وَأَنت فِي
مغفرتك عَزِيز لَا يمْتَنع عَلَيْك مَا تُرِيدُ حَكِيم فِي
ذَلِك.
15
- (بابُ قَوْلِهِ: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ
عِبَادُكَ وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ} (الْمَائِدَة: 118)
(
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أَن تُعَذبهُمْ}
الْآيَة. هَذَا حِكَايَة عَن كَلَام عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَام، ذكر ذَلِك على وَجه الاستعطاف وَالتَّسْلِيم
لأَمره عز وَجل، وَالْمعْنَى: إِن تعذب هَؤُلَاءِ فَذَلِك
بإقامتهم على كفرهم، وَإِن تغْفر لَهُم فبتوبة كَانَت
مِنْهُم لأَنهم عِبَادك وَأَنت الْعَادِل فيهم وَأَنت فِي
مغفرتك عَزِيز لَا يمْتَنع عَلَيْك مَا تُرِيدُ حَكِيم فِي
ذَلِك.
4626 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ حدَّثنا سُفْيَانُ
حدَّثنا المُغِيرَةُ بنُ النُّعْمَانِ قَالَ حدَّثني
سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إنَّكُمْ مَحْشُورُونَ وَإنَّ
نَاسا يُؤْخَذْ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأقُولُ كَمَا
قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ. وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدا
مَا دُمْتُ فِيهِمْ إلَى قَوْلِهِ العَزِيزُ الحَكيمُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وسُفْيَان هُوَ
الثَّوْريّ، والْحَدِيث أخرجه أَيْضا فِي الرقَاق عَن
بنْدَار عَن غنْدر، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن
مُحَمَّد بن يُوسُف، وَأخرجه مُسلم فِي صفة الْقِيَامَة
عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار وَغَيرهمَا. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الزّهْد عَن أبي مُوسَى وَغَيره،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن
غيلَان وَغَيره، وَفِي التَّفْسِير عَن سُلَيْمَان بن عبد
الله. قَوْله: (مَحْشُورُونَ) ، يَعْنِي: مجموعون يَوْم
الْقِيَامَة. قَوْله: (وَأَن نَاسا) ويروى، وَأَن رجَالًا.
6 - ( {سُورَةُ الأنْعامِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير سُورَة الْأَنْعَام، ذكر ابْن
الْمُنْذر بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: نزلت
سُورَة الْأَنْعَام بِمَكَّة شرفها الله لَيْلًا جملَة،
وحولها سَبْعُونَ ألف ملك يجأرون بالتسبيح، وَذكر نَحوه
عَن أبي جُحَيْفَة، وَعَن مُجَاهِد، نزل مَعهَا
خَمْسمِائَة ملك يزفونها ويحفونها. وَفِي تَفْسِير أبي
مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم البستي خَمْسمِائَة
ألف ملك، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَعَطَاء
والكلبي: نزلت الْأَنْعَام بِمَكَّة إلاَّ ثَلَاث آيَات
فَإِنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ وَهِي من قَوْله تَعَالَى:
{قل تَعَالَوْا} إِلَى قَوْله: {تَتَّقُون} (الْأَنْعَام:
151، 153) وَفِي أُخْرَى عَن الْكَلْبِيّ: هِيَ مَكِّيَّة
إلاَّ قَوْله: {مَا أنزل الله على بشر} (الْأَنْعَام: 91)
الْآيَتَيْنِ، وَقَالَ قَتَادَة: هما قَوْله تَعَالَى:
{وَمَا قدرُوا الله حق قدره} الْآيَة الْأُخْرَى: {وَهُوَ
الَّذِي أنشأ جنَّات معروشات} (الْأَنْعَام: 141) وَذكر
ابْن الْعَرَبِيّ أَن قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أجد}
(الْمَائِدَة: 145) نزلت بِمَكَّة يَوْم عَرَفَة. وَقَالَ
السخاوي نزلت بعد الْحجر، وَقبل: الصافات، وَفِي (كتاب
الْفَضَائِل) لأبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد
الغافقي، قَالَ: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ سور الْأَنْعَام تدعى فِي ملكوت الله،
وَفِي رِوَايَة تدعى فِي التَّوْرَاة. المرضية، سَمِعت
سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: من
قَرَأَهَا فقد انْتهى، وَفِي الْكتاب (الْفَائِق فِي
اللَّفْظ الرَّائِق) لأبي الْقَاسِم عبد المحسن الْقَيْسِي
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَرَأَ سُورَة
الْأَنْعَام جملَة وَلم يقطعهَا بِكَلَام غفر لَهُ مَا
أسلف من عمل لِأَنَّهَا نزلت جملَة وَمَعَهَا موكب من
الْمَلَائِكَة سد مَا بَين الْخَافِقين، لَهُم زجل
بالتسبيح وَالْأَرْض بهم ترتج) ، وَهِي مائَة وَخمْس
وَسِتُّونَ آيَة وَثَلَاث آلَاف وَاثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ
كلمة وَاثنا عشر ألف حرف وَأَرْبَعمِائَة وَاثْنَانِ
وَعِشْرُونَ حرفا.
(18/218)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
ثَبت الْبَسْمَلَة فِي رِوَايَة أبي ذَر لَيْسَ إِلَّا.
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ
مَعْذِرَتُهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى بَيَان تَفْسِير قَوْله عز وَجل:
{وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول للَّذي أشروا أَيْن
شركاؤكم الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ ثمَّ لم تكن فتنتهم
إلاَّ أَن قَالُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين}
(الْمَائِدَة: 22) وفسرها ابْن عَبَّاس بقوله معذرتهم،
وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه
حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى حَدثنَا هِشَام بن يُوسُف
عَن ابْن جريج عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن ابْن عَبَّاس،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ معمر عَن
قَتَادَة: فتنتهم مقالتهم، وَعَن الضَّحَّاك عَن ابْن
عَبَّاس أَي: حجتهم.
مَعْرُوشَاتٍ مَا يُعْرَش مِنَ الكَرْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
لم يَقع هَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأَشَارَ بِهِ إِلَى
قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات معروشات
وَغير معروشات} (الْأَنْعَام: 14) وَفسّر معروشات بقوله:
مَا يعرش من الْكَرم، وَغير ذَلِك، وَوَصله ابْن أبي
حَاتِم من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات
معروشات} قَالَ: مَا يعرش من الكروم، وَغير معروشات مَا
لَا يعرش، وَفِي التَّفْسِير، وَقَالَ عَليّ ابْن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: المعروشات مَا عرش النَّاس،
وَغير معروشات مَا خرج فِي الْبر وَالْجِبَال من الثمرات
وَعَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: معروشات
مسموكات، وَقيل: معروشات مَا يقوم على العراش، وَفِي
(الْمغرب) : الْعَرْش السّقف فِي قَوْله: (وَكَانَ عرش
الْمَسْجِد من جريد النّخل) أَي: من أفنانه وأغصانه، وعريش
الْكَرم مَا يهيأ ليرتفع عَلَيْهِ، وَالْجمع عراش.
حَمُولَةَ مَا يُحْمَلُ عَلَيْها
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن الْأَنْعَام
حمولة وفرشا} (الْأَنْعَام: 142) وَفسّر الحمولة بقوله:
مَا يحمل عَلَيْهَا، وَعَن الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق
عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله فِي قَوْله حمولة، مَا
حمل من الْإِبِل وفرشا. قَالَ: الصغار من الْإِبِل رَوَاهُ
الْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح وَلم يخرجَاهُ، وَقَالَ ابْن
عَبَّاس: الحمولة هِيَ الْكِبَار، والفرش الصغار من
الْإِبِل، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِد، وَقَالَ عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: الحمولة الْإِبِل وَالْخَيْل
وَالْبِغَال وَالْحمير وكل شَيْء يحمل عَلَيْهِ، والفرش
الْغنم، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير، قَالَ، وَأَحْسبهُ
إِنَّمَا سمى فرشا لدنوه من الأَرْض، وَقَالَ الرّبيع بن
أنس وَالْحسن وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة، الحمولة الْإِبِل
وَالْبَقر، والفرش الْغنم، وَقَالَ السّديّ: أما الحمولة
فالإبل، وَأما الْفرش فالفصلان والعجاجيل وَالْغنم وَمَا
حمل عَلَيْهِ فَهُوَ حمولة وَقَالَ عبد الرَّحْمَن ابْن
زيد بن أسلم: الحمولة تَرْكَبُونَ، والفرش مَا تَأْكُلُونَ
وتحلبون، الشَّاة لَا تحمل ويؤكل لَحمهَا وتتخذون من صوفها
لحافا وفرشا.
وَلَلَبَسْنا لَشَبَّهْنَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وللبسنا عَلَيْهِم
مَا يلبسُونَ} (الْأَنْعَام: 9) وَفسّر: للبسنا، بقوله:
لشبهنا، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي
طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، فِي قَوْله: {وللبسنا عَلَيْهِم
مَا يلبسُونَ} بقوله لشبهنا عَلَيْهِم، وَأَصله من اللّبْس
بِفَتْح اللَّام وَهُوَ الْخَلْط، تَقول: لبس يلبس من بَاب
ضرب يضْرب لبسا بِالْفَتْح، وَلبس الثَّوْب يلبس من بَاب
علم يعلم لبسا بِالضَّمِّ.
وَيَنْأَوْنَ يَتَبَاعَدُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وهم ينهون عَنهُ
وينأون} وَفسّر: ينأون بقوله: يتباعدون، وَكَذَا رَوَاهُ
ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن
عَبَّاس، وَالْمعْنَى: أَن كفار مَكَّة ينهون النَّاس عَن
اتِّبَاع الْحق ويتباعدون عَنهُ، وَقَالَ عَليّ بن أبي
طَلْحَة: ينهون النَّاس عَن مُحَمَّد ويتباعدون أَن
يُؤمنُوا.
(18/219)
تُبْسلُ تُفْضَحُ أُبْسِلُوا: افْضِحُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَذكر أَن تبسل نفس
بِمَا كسبت} وَفسّر لفظ: تبسل بقوله: تفضح، وَكَذَا
رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة
عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ الضَّحَّاك: عَن ابْن عَبَّاس
وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وَالْحسن وَالسُّديّ، إِن تبسل: أَن
تفضح، وَقَالَ قَتَادَة: تحبس، وَقَالَ أبي زيد: تؤاخذ،
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: تجزي، وَفِي التَّفْسِير قَوْله
تَعَالَى: {وَذكر بِهِ} (الْأَنْعَام: 70) أَي: ذكر
النَّاس بِالْقُرْآنِ وحذرهم نعْمَة الله وعذابه الْأَلِيم
يَوْم الْقِيَامَة {أَن تبسل نفس بِمَا كسبت} أَي لِئَلَّا
تبسل. قَوْله: (أبسلوا) ، إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{أُولَئِكَ الَّذين أبسلوا بِمَا كسبوا} أَي: أفضِحوا
بِسَبَب كسبهم، ويروى: فضحوا من الثلاثي على صِيغَة
الْمَجْهُول.
باسِطو أيْدِيهِمْ: البَسْطُ الضَّرْبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَة
باسطو أَيْديهم} (الْأَنْعَام: 93) وَقَبله: {وَلَو ترى
إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة
باسطو أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم} وَجَوَاب: لَو. مَحْذُوف
تَقْدِيره لرأيت عجيبا. قَوْله: (باسطو أَيْديهم) ، أَي:
بِالضَّرْبِ، وَقيل: بِالْعَذَابِ، وَقيل: بِقَبض
الْأَرْوَاح من الأجساد وَيكون هَذَا وَقت الْمَوْت،
وَقيل: يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: فِي النَّار، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: باسطو أَيْديهم يبسطون إِلَيْهِم
أَيْديهم يَقُولُونَ أخرجُوا أرواحكم إِلَيْنَا من
أجسادكم، وَهَذَا عبارَة عَن العنف والإلحاح فِي الإزهاق.
قَوْله: (الْبسط الضَّرْب) ، تَفْسِير الْبسط بِالضَّرْبِ
غير موجه لِأَن الْمَعْنى الْبسط بِالضَّرْبِ يَعْنِي:
الْمَلَائِكَة يبسطون أَيْديهم بِالضَّرْبِ، كَمَا ذكرنَا.
اسْتَكْثَرْتُمْ أضْلَلْتُمْ كَثِيرا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَا معشر الْجِنّ قد
استكثرتم من الْإِنْس} (الْأَنْعَام: 128) وَفَسرهُ بقوله:
أضللتم كثيرا. وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن
عَبَّاس: قد استكثرتم من الْإِنْس بِمَعْنى أضللتم مِنْهُم
كثيرا. وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِد وَالْحسن وَقَتَادَة،
وعجبي من شرَّاح هَذَا الْكتاب كَيفَ أهملوا تَحْقِيق
هَذَا الْموضع وَأَمْثَاله، فَمنهمْ من قَالَ هُنَا قَوْله
استكثرتم أضللتم كثيرا وَوَصله ابْن أبي حَاتِم كَذَلِك،
وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ كَمَا قَالَ: وَمِنْهُم من لم
يذكرهُ أصلا، فَإِذا وصل قارىء البُخَارِيّ إِلَى هَذَا
الْموضع ووقف على قَوْله: استكثرتم أضللتم، وَلم يكن
الْقُرْآن فِي حفظه حَتَّى يقف عَلَيْهِ وَلم يعلم أَوله
وَلَا آخِره، تحير فِي ذَلِك، فَإِذا رَجَعَ إِلَى شرح من
شُرُوح هَؤُلَاءِ يزْدَاد تحيرا. وَشرح البُخَارِيّ لَا
يظْهر بِقُوَّة الْحِفْظ فِي الحَدِيث أَو بعلوا السَّنَد
أَو بِكَثْرَة النَّقْل، ولايخرج من حَقه إلاَّ من لَهُ
يَد فِي الْفُنُون وَلَا سِيمَا فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة
والمعاني وَالْبَيَان وَالْأُصُول مَعَ تتبع مَعَاني
أَلْفَاظه كلمة كلمة، وَبَيَان المُرَاد مِنْهُ والتأمل
فِيهِ والغوص فِي تيار تحقيقاته والبروز مِنْهُ بمكنونات
تدقيقاته.
ذَرَأ مِنَ الحِرْثِ جَعَلُوا لله مِنْ ثَمَرَاتِهِمْ
وَمَا لَهُمْ نَصِيبا وَلِلْشَّيْطَانِ وَالأوْثَانِ
نَصِيبا.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَجعلُوا لله مِمَّا
ذَرأ من الْحَرْث والأنعام نَصِيبا} وَفسّر قَوْله: ذَرأ
من الْحَرْث، بقوله: جعلُوا لله إِلَى آخِره، وَهَكَذَا
رَوَاهُ بن الْمُنْذر بِسَنَدِهِ عَن ابْن عَبَّاس،
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس،
وَزَاد فَإِن سقط من ثمره مَا جعلُوا لله فِي نصيب
الشَّيْطَان تَرَكُوهُ، وَإِن سقط مِمَّا جَعَلُوهُ
للشَّيْطَان فِي نصيب الله لفظوه.
أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحَامُ الأُنْثَييْنِ يَعْنِي
هَلْ تَشْتَمِلُ إلاَّ عَلَى ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى فلِمَ
تحرِّمونَ بَعْضا وتحلونَ بَعْضا.
هَذَا وَقع لغير أبي ذَر، وَلم أنظر نُسْخَة إلاَّ وَهَذِه
التفاسير فِيهَا بَعْضهَا مُتَقَدم وَبَعضهَا مُتَأَخّر
وَبَعضهَا غير مَوْجُود، وَفِي النُّسْخَة الَّتِي اعتمادي
عَلَيْهَا وَقع هُنَا وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله
تَعَالَى: {قل آلذكرين حرم أم الأُنثيين أما اشْتَمَلت
عَلَيْهِ أَرْحَام الأُنثيين} (الْأَنْعَام: 144) ثمَّ
فسره قَوْله: يَعْنِي هَل تشْتَمل يَعْنِي: الْأَرْحَام
إلاَّ على ذكر أَو أُنْثَى، وَكَانَ الْمُشْركُونَ
يحرمُونَ أجناسا من النعم بَعْضهَا على الرِّجَال
وَالنِّسَاء وَبَعضهَا على النِّسَاء دون الرِّجَال، فاحتج
الله عَلَيْهِم. قَوْله: {قَالَ آلذاكرين من حرم أم
الأُنثيين} الْآيَة.
(18/220)
فَالَّذِي حرمتم بِأَمْر مَعْلُوم من جِهَة
الله يدل عَلَيْهِ أم فَعلْتُمْ ذَلِك كذبا على الله
تَعَالَى؟ وَقَالَ الْفراء: جَاءَكُم التَّحْرِيم فِيمَا
حرمتم من السائبة والبحيرة والوصيلة والحام من قبل الذكرين
أم الأُنثيين؟ فَإِن قَالُوا: من قبل الذّكر لزم تَحْرِيم
كل ذكر أم من قبل الْأُنْثَى، فَكَذَلِك وَإِن قَالُوا: من
قبل مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الرَّحِم لزم تَحْرِيم
الْجَمِيع لِأَن الرَّحِم لَا يشْتَمل إلاَّ على ذكر أَو
أُنْثَى.
أكِنَّةً وَاحِدُها كِنَانٌ
هَذَا ثَبت لأبي ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي، وَهُوَ مُتَقَدم
فِي بعض النّسخ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى:
{أكنة أَن يفقهوه} (الْأَنْعَام: 25) وَقَبله {وَمِنْهُم
من يستمع إِلَيْك وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه
وَفِي آذانهم وَقَرَأَ} الْآيَة، ثمَّ قَالَ: وَاحِدهَا
أَي: أحد أكنة كنان على وزن فعال مثل: أَعِنَّة جمع عنان
وأسنة جمع سِنَان وَفِي التَّفْسِير: أكنة أَي أغطية
لِئَلَّا يفهموا الْقُرْآن {وَجَعَلنَا فِي آذانهم
وَقَرَأَ} أَي: صمما من السماع النافع لَهُم.
مَسْفُوحا مُهْراقا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قل لَا أجد فِيمَا
أوحى إِلَى محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة
أَو دَمًا مسفوحا} (الْأَنْعَام: 145 وَفسّر مسفوحا بقوله
مهراقا. أَي: مصبوبا وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس
أَو دَمًا مسفوحا يَعْنِي مهراقا.
صَدَفَ أعْرَضَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {فَمن أظلم مِمَّن كذب بآيَات
الله وصدف عَنْهَا} (الْأَنْعَام: 157) الْآيَة. وَفسّر:
صدف. بقوله أعرض، وَعَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَقَتَادَة،
صدف عَنْهَا أعرض عَنْهَا. أَي: عَن آيَات الله تَعَالَى،
وَقَالَ السّديّ: أَي صدف عَن اتِّبَاع آيَات الله أَي:
صرف النَّاس وصدهم عَن ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: قَوْله:
(صدف) أعرض قَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِي قَوْله تَعَالَى:
{ثمَّ هم يصدقون} (الْأَنْعَام: 46) أَي يعرضون قلت
البُخَارِيّ لم يذكر إلاّ لفظ صدف وَإِن كَانَ معنى يصدقون
كَذَلِك فَلَا بِلَاد من رِعَايَة الْمُنَاسبَة.
أُبْلِسُوا أُوبِسُوا وَأُبْسِلُوا أُسْلِمُوا
أَشَارَ بقوله أبلسوا أوبسوا إِلَى أَن معنى قَوْله
تَعَالَى: {فَإِذا هم مبلسون} (الْأَنْعَام: 44) من ذَلِك.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة فِيهِ: المبلس الحزين النادم،
وَقَالَ الْفراء: المبلس الْمُنْقَطع رجاؤه. قَوْله:
(أُوبسوا) على صِيغَة الْمَجْهُول كَذَا وَقع فِي رِوَايَة
الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره أيسوا على صِيغَة
الْمَعْلُوم من أيس إِذا انْقَطع رجاؤه قَوْله: أبسلوا
بِتَقْدِيم السِّين على اللَّام وَفَسرهُ بقوله أَسْلمُوا
أَي: إِلَى الْهَلَاك وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله
تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين أبسلو بِمَا كسبوا}
(الْأَنْعَام: 70) وَقد مر هَذَا عَن قريب بِغَيْر هَذَا
التَّفْسِير.
سَرْمدا دَائما
لَا مُنَاسبَة لذكر هَذَا هَاهُنَا لِأَنَّهُ لم يَقع
هَذَا إلاَّ فِي سُورَة الْقَصَص فِي قَوْله تَعَالَى: {قل
أَرَأَيْتُم أَن جعل الله عَلَيْكُم اللَّيْل سرمدا إِلَى
يَوْم الْقِيَامَة} (الْقَصَص: 71) سرمدا أَي: دَائِما.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: ذكره هُنَا لمناسبة فالق الإصباح
وجاعل اللَّيْل سكنا. قلت: لم يذكر وَجه أَكثر هَذِه
الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة وَلَا تعرض إِلَى تَفْسِيرهَا
وَإِنَّمَا ذكر هَذَا مَعَ بَيَان مُنَاسبَة بعيدَة على
مَا لَا يخفى.
اسْتَهْوَتْهُ أضَلَّتْهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كَالَّذي استهوته
الشَّيَاطِين} (الْأَنْعَام: 71) وَفَسرهُ بقوله أضلته
وَكَذَا فسره قَتَادَة.
تَمْتَرُونَ تَشُكُّونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَنْتُم
تمترون} (الْأَنْعَام: 20) وَفَسرهُ بقوله: تشكون وَكَذَا
فسره السّديّ.
وَقْرٌ صَمْمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَفِي آذانهم وقر}
وَفَسرهُ بقوله: صمم هَذَا بِفَتْح الْوَاو عِنْد
الْجُمْهُور، وَقَرَأَ طَلْحَة بن مصرف بِكَسْر الْوَاو.
(18/221)
وأمْا الوِقْرُ الحِمْلُ
أَي: وَأما الوقر، بِكَسْر الْوَاو فَمَعْنَاه الْحمل،
ذكره مُتَّصِلا بِمَا قبله لبَيَان الْفرق بَين مَفْتُوح
الْوَاو وَبَين مكسورها.
فَإنَّهُ أسَاطِيرُ وَاحِدُها أُسْطُورَةٌ وَإسْطَارَةٌ
وَهِيَ التُّرَّهاتُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إلاَّ أساطير
الْأَوَّلين} وَذكر أَن الأساطير وَاحِدهَا أسطورة، بِضَم
الْهمزَة وأسطارة أَيْضا بِكَسْر الْهمزَة ثمَّ فَسرهَا
بقوله وَهِي الترهات، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَتَشْديد الرَّاء وَهِي الأباطيل، قَالَ أَبُو زيد هِيَ
جمع ترهة، وَقَالَ ابْن الْأَثِير، وَهِي فِي الأَصْل
الطّرق الصغار المتشعبة عَن الطَّرِيق الْأَعْظَم، وَهِي
كِنَايَة عَن الأباطيل، وَقَالَ الْأَصْمَعِي الترهات
الطّرق الصغار، وَهِي فارسية معربة ثمَّ استعيرت فِي
الأباطيل، فَقيل: الترهات السباسب والترهات الصحاصح، وَهِي
من أَسمَاء الْبَاطِل وَرُبمَا جَاءَت مُضَافَة، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: وناس يَقُولُونَ ترة، وَالْجمع: ترارية.
البَأْسَاءُ مِنَ البَأْسِ وَيَكُونُ مِن البُؤْسِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فأخذناهم بالبأساء}
وَأَشَارَ إِلَى أَنه يجوز أَن يكون من الْبَأْس هُوَ
الشدَّة، وَيجوز، أَن يكون من الْبُؤْس بِالضَّمِّ وَهُوَ
الضّر، وَقيل: هُوَ الْفقر وَسُوء الْحَال، وَقَالَ
الدَّاودِيّ الْبَأْس الْقِتَال.
جَهْرَةً مُعَايَنَةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم إِن
أَتَاكُم عَذَاب الله بَغْتَة أَو جهرة وهم يَشْعُرُونَ
هَل يُهلك إلاَّ الْقَوْم الظَّالِمُونَ} (الْأَنْعَام:
47) البغتة الْفجأَة، والجهرة المعاينة وَكَذَا فسره أَبُو
عُبَيْدَة.
الصُّوَرُ جَماعَةُ صُورةٍ كَقَوْلِهِ صُورَةٌ وَسُوَرٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ينْفخ فِي
الصُّدُور} (الْأَنْعَام: 33) وَذكر أَن الصُّور جمع
صُورَة كَمَا أَن السُّور جمع سُورَة، وَاخْتلف
الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله: {يَوْم ينْفخ فِي الصُّور}
فَقَالَ بَعضهم: المُرَاد بالصور هُنَا جمع سُورَة أَي:
يَوْم ينْفخ فِيهَا ضحى، قَالَ ابْن جرير: كَمَا يُقَال
سور لسور الْبَلَد وَهُوَ جمع سُورَة، وَالصَّحِيح أَن
المُرَاد بالصور، الْقرن الَّذِي ينْفخ فِيهِ إسْرَافيل،
عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا
إِسْمَاعِيل حَدثنَا سُلَيْمَان التَّمِيمِي عَن أسلم
الْعجلِيّ عَن بشر بن سعاف عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ:
قَالَ أَعْرَابِي: يَا رَسُول الله مَا الصُّور؟ قَالَ:
قرن ينْفخ فِيهِ انْتهى، وَهُوَ وَاحِد لَا اسْم جمع.
مَلكُوتٌ مُلْكٌ مِثْلُ رَهَبُوتٍ خَبَرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ
وَتقُولُ تُرْهَبُ خَيْرٌ مِنْ أنْ تُرْحَمَ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نري
إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض} وَفسّر ملكوت
بقوله: ملك، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الملكوت من الْملك
كالرهبوت من الرهبة، وَيُقَال: الْوَاو وَالتَّاء فِيهَا
زائدتان، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: ملكوت كل شَيْء
مَعْنَاهُ ملك كل شَيْء أَي: هُوَ مَالك كل شَيْء والمتصرف
فِيهِ على حسب مَشِيئَته وَمُقْتَضى إِرَادَته، وَقيل:
الملكوت الْملك مَا بلغ الْأَلْفَاظ، وَقيل: الملكوت عَالم
الْغَيْب كَمَا أَن الْملك عَالم الشَّهَادَة. قَوْله:
{مثل رهبوت خير من رحموت} أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن وزن
ملكوت مثل وزن رهبوت ورحموت، وَهَذَا مثل يُقَال: رهبوت
خير من رحموت، أَي: رهبة خير من رَحْمَة، وَفِي رِوَايَة
أبي ذَر هَكَذَا ملكوت وَملك رهبوت رحموت، وَتقول: ترهب
خير من أَن ترحم، وَفِيه تعسف وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين
الَّذِي ذكر أَولا هُوَ الصَّوَاب.
جَنَّ أظْلَمَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا جن
عَلَيْهِ اللَّيْل} (الْأَنْعَام: 76) وَفَسرهُ بقوله:
أظلم، وَعَن أبي عُبَيْدَة أَي: غطى عَلَيْهِ وأظلم،
وَهَذَا فِي قصَّة إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام.
تَعَالَى عَلا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ} وَفسّر تَعَالَى بقوله: علا
ورقع فِي (مستخرج) أبي نعيم تَعَالَى الله علا الله
(18/222)
وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَفِي
التَّفْسِير: سُبْحَانَ الله. أَي: تقدس وتنزه وتعاظم
عَمَّا يصفه الجهلة الضالون من الأنداد والنظراء والشركاء.
وَإنْ تَعْدِلْ تُقْسِطْ: لَا يُقْبَلْ مِنْها فِي ذَلِكَ
اليَوْمِ
هَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر وَحده، وَأَشَارَ بِهِ
إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تعدل كل عدل لَا يُؤْخَذ
مِنْهَا} (الْأَنْعَام: 70) وَفسّر تعدل بقوله: تقسط،
بِضَم التَّاء من الإقساط، وَهُوَ الْعدْل وَالضَّمِير
فِي: وَإِن تعدل. يرجع إِلَى النَّفس الْكَافِرَة
الْمَذْكُورَة فِيمَا قبله، وَفسّر أَبُو عُبَيْدَة
الْعدْل بِالتَّوْبَةِ. قَوْله: {لَا يقبل مِنْهَا فِي
ذَلِك الْيَوْم} يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة لِأَن
التَّوْبَة إِنَّمَا كَانَت تَنْفَع فِي حَال الْحَيَاة
قبل الْمَوْت كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا
وماتوا وهم كفار فَلَنْ يقبل من أحدهم ملْء الأَرْض ذَهَبا
وَلَو اقْتدى بِهِ} (آل عمرَان: 91) الْآيَة.
يُقَالُ عَلَى الله حُسْبَانُهُ أَي حِسابُهُ وَيُقالُ
حُسْبانا مَرَامِيَ. وَرُجُوما لِلشَّياطِينِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْس
وَالْقَمَر حسبانا} (الْأَنْعَام: 96) وَقَالَ: هُوَ جمع
حِسَاب، وَفِي التَّفْسِير: {وَالشَّمْس وَالْقَمَر
حسبانا} أَي: يجريان بِحِسَاب مقنن مُقَدّر لَا يتَغَيَّر
وَلَا يضطرب. قَوْله: (على الله حسبانه) أَشَارَ بِهِ
إِلَى أَن حسبانا كَمَا يَجِيء جمع حِسَاب يَجِيء أَيْضا،
بِمَعْنى حِسَاب مثل شهبان وشهاب، وَكَذَا فسره بقوله: أَي
حسابه. قَوْله: (وَيُقَال: حسبانا مرامي ورجوما للشياطين)
، مضى الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب بَدْء الْخلق فِي: بَاب
صفة الشَّمْس وَالْقَمَر.
مُسْتَقِرٌ فِي الصُّلْبِ وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الرَّحِمِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي
أنشأكم من نفس وَاحِدَة فمستقر ومستودع} (الْأَنْعَام: 98)
وَقد فسر قَوْله مُسْتَقر. بقوله مُسْتَقر فِي الصلب،
وَقَوله: مستودع، بقوله مستودع فِي الرَّحِم، وَكَذَا
رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَطَائِفَة، وَعَن ابْن عَبَّاس
وَأبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَقيس بن أبي حَازِم
وَمُجاهد وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة
وَالسُّديّ وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي، مُسْتَقر فِي
الْأَرْحَام مستودع فِي الأصلاب، وَعَن ابْن مَسْعُود
أَيْضا فمستقر فِي الدُّنْيَا ومستودع حَيْثُ يَمُوت،
وَعَن الْحسن، والمستقر الَّذِي قد مَاتَ فاستقر بِهِ
عمله، وَعَن ابْن مَسْعُود أَيْضا مستودع فِي الدَّار
الْآخِرَة، وَعَن الطَّبَرَانِيّ فِي حَدِيثه المستقر
الرَّحِم والمستودع الأَرْض، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرو وَابْن
كثير، فمستقر، بِكَسْر الْقَاف وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا
وَقَرَأَ الْجَمِيع مستودع، بِفَتْح الدَّال إلاَّ
رِوَايَة عَن أبي عَمْرو فبكسرها.
الْقِنُوا العِذْقُ وَالإثْنانِ قِنْوَانِ وَالجَماعَةُ
أَيْضا قِنْوانٌ مِثْلُ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن النّخل من
طلعها قنوان دانية} (الْأَنْعَام: 99) قَوْله الغدق
بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة
وَفِي آخِره قَاف، وَهُوَ العرجون، بِمَا فِيهِ من
الشماريخ، وَيجمع على عذاق، والعذق بِالْفَتْح النَّخْلَة.
قَوْله: {والاثنان قنوان} يَعْنِي: تَثْنِيَة القنو قنوان،
وَكَذَلِكَ جمع القنو قنوان فيستوي فِيهِ التَّثْنِيَة
وَالْجمع فِي اللَّفْظ وَيَقَع الْفرق بَينهمَا بِأَن نون
التَّثْنِيَة مَكْسُورَة وَنون الْجمع تجْرِي عَلَيْهِ
أَنْوَاع الْإِعْرَاب، تَقول فِي التَّثْنِيَة، هَذَانِ
قنوان بِالْكَسْرِ، وَأخذت قنوين فِي النصب وَضربت بقنوين
فِي الْجَرّ، فألف التَّثْنِيَة تنْقَلب يَاء فيهمَا،
وَتقول فِي الْجمع: هَذِه قنوان بِالرَّفْع لِأَنَّهُ لَا
يتَغَيَّر فِي حَالَة الرّفْع، وَأخذت قنوانا بِالنّصب
وَضربت بقنوان بِالْجَرِّ، وَلَا يتَغَيَّر فِيهِ الْألف
أصلا وَالْإِعْرَاب يجْرِي على النُّون، وَكَذَا يَقع
الْفرق فِي حَالَة الْإِضَافَة فَإِن نون التَّثْنِيَة
تحذف فِي الْإِضَافَة دون نون الْجمع قَوْله: {مثل
صنْوَان} يَعْنِي: أَن تَثْنِيَة صنو وَجمعه كَذَلِك على
لفظ وَاحِد، وَالْفرق بِمَا ذكرنَا وَهُوَ بِكَسْر الصَّاد
الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون، وَهُوَ الْمثل وَأَصله أَن
تطلع نخلتان من عرق وَاحِد. وَقَرَأَ الْجُمْهُور: قنوان
بِكَسْر أَوله وَقَرَأَ الْأَعْمَش والأعرج بضَمهَا، وَهِي
رِوَايَة عَن أبي عَمْرو، وَهِي لُغَة قيس.
1 - (بابٌ: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُها
إلاّ هُوَ} (الْأَنْعَام: 59)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَعِنْده مفاتح
الْغَيْب لَا يعلمهَا إلاّ هُوَ} أَي: وَفِي علم الله
مفاتح مَا لَا يعلم من الْأُمُور، والمفاتح جمع
(18/223)
مفتح، بِكَسْر الْمِيم لِأَن اسْم للآلة الَّتِي يفتح
بهَا، وَاسم الْآلَة مفعل ومفعال ومفعلة كلهَا بِكَسْر
الْمِيم، وقرىء (مَفَاتِيح الْغَيْب) جمع مِفْتَاح، وَقيل:
المفاتح هُنَا جمع مفتح بِفَتْح الْمِيم أَي: مَكَان
الْفَتْح، وَقيل: هُوَ مصدر ميمي على معنى: وَعِنْده فتح
الْغَيْب وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: جعل للغيب مفاتح على
طَرِيق الِاسْتِعَارَة لِأَن المفاتح يتَوَصَّل بهَا إِلَى
مَا فِي المخازن المتوثق مِنْهَا بالإغلاق والأقفال وَمن
علم مفاتحها وَكَيف تفتح توصل إِلَيْهَا فَأَرَادَ أَنه
هُوَ المتوصل إِلَى علم المغيبات وَحده لَا يتَوَصَّل
إِلَيْهَا غَيره، كمن عِنْده مفاتح أقفال المخازن يعلم
فتحهَا فَهُوَ المتوصل إِلَى مَا فِي المخازن، وَذكر ابْن
أبي حَاتِم عَن السّديّ (وَعِنْده مفاتح الْغَيْب) قَالَ:
خَزَائِن الْغَيْب. وَقَالَ مقَاتل: عِنْده خَزَائِن غيب
الْعَذَاب مَتى ينزله بكم، وَقَالَ الْجَوْزِيّ: مفاتح
الْغَيْب هُوَ مَا غَابَ عَن بني آدم من الرزق والمطر
وَالثَّوَاب، وَقيل: مفاتح الْغَيْب السَّعَادَة والشقاوة،
وَقيل: الْغَيْب عواقب الْأَعْمَار وخواتيم الْأَعْمَال.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: مفاتح الْغَيْب خَزَائِن الأَرْض،
وَقيل: هُوَ مَا لم يكن بعد أَنه يكون لم لَا يكون وَمَا
يكون وَكَيف يكون.
4627 - ح دَّثنا عَبْدِ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا
إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سَالِم بنِ
عَبْد الله عَنْ أبِيهِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ: إنَّ
الله عَنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا
تَكْسِبُ غَدا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ أيِّ أرْضٍ تَمُوتُ
إنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن
عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأوسي
والمديني من أَفْرَاد البُخَارِيّ يروي عَن إِبْرَاهِيم بن
سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سَالم بن عبد
الله عَن أَبِيه عبد الله بن عمر بن الْخطاب.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي النعوت عَن عبيد الله
بن فضَالة وَمر فِي الاسْتِسْقَاء من حَدِيث عبد الله بن
دِينَار عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم. وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ. |