عمدة القاري شرح صحيح البخاري

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

5 - ( {بابُ تَفْسِيرِ سُورَةِ المَائِدَةِ} )

أَي: هَذَا بَيَان تَفْسِير بعض شَيْء من سُورَة الْمَائِدَة، وَهِي على وزن فاعلة. بِمَعْنى: مفعولة. أَي: ميد بهَا صَاحبهَا، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: مَا دهم يميدهم، لُغَة فِي مارهم من الْميرَة، وَمِنْه الْمَائِدَة، وَهِي خوان عَلَيْهِ طَعَام فَإِذا لم يكن عَلَيْهِ طَعَام فَلَيْسَ بمائدة، وَإِنَّمَا هُوَ خوان، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة مائدة. فاعلة بِمَعْنى مفعولة، مثل: {عيشة راضية} (الحاقة: 21) بِمَعْنى: مرضية. وَقَالَ مقَاتل: هِيَ مَدَنِيَّة كلهَا نزلت بِالنَّهَارِ. وَقَالَ عَطاء بن أبي مُسلم: نزلت سُورَة الْمَائِدَة ثمَّ سُورَة التَّوْبَة، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس فِي (مقامات التَّنْزِيل) هِيَ آخر مَا نزل وفيهَا اخْتِلَاف فِي سِتّ آيَات آيَة مِنْهَا نزلت فِي عَرَفَات لم أسمع أحدا اخْتلف فِيهَا. وَهِي: {الْيَوْم أكلمت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) وَآيَة التَّيَمُّم نزلت بالأبواء، وَآيَة: {وَالله يَعْصِمك} (الْمَائِدَة: 67) نزلت بِذَات الرّقاع وآيتان فيهمَا دلَالَة على أقاويل، بَعضهم: أَنَّهَا نزلت قبل الْهِجْرَة وَهِي: {ذَلِك بِأَن مِنْهُم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} (الْمَائِدَة: 82) إِلَى قَوْله: {مَعَ الشَّاهِدين} وَآيَة اخْتلفُوا فِيهَا، فَقيل: إِنَّهَا نزلت بنخلة فِي الْغَزْوَة السَّابِعَة. وَقيل: إِنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ فِي شَأْن كَعْب بن

(18/195)


الْأَشْرَف وَهِي: {اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم} (الْمَائِدَة: 7) وَذكر أَبُو عُبَيْدَة عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ. قَالَ: نزلت سُورَة الْمَائِدَة على سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع فِيمَا بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وَهُوَ على نَاقَته، فابتدر ركبتها فَنزل عَنْهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ السخاوي: ذهب جمَاعَة إِلَى أَن الْمَائِدَة لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخ لِأَنَّهَا مُتَأَخِّرَة النُّزُول، وَقَالَ آخَرُونَ: فِيهَا من الْمَنْسُوخ عشرَة مَوَاضِع. وَقَالَ النّحاس: قَالَ بَعضهم: فِيهَا آيَة وَاحِدَة مَنْسُوخَة ذكرهَا الشّعبِيّ، ثمَّ ذكر سِتَّة أُخْرَى لتكملة سبع آيَات، وَهِي: أحد عشر ألفا وَسَبْعمائة وَثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ حرفا وَأَلْفَانِ وَثَمَانمِائَة كلمة، وَأَرْبع كَلِمَات، وَمِائَة وَعِشْرُونَ آيَة. كُوفِي وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ مدنِي وشامي ومكي، وَعِشْرُونَ وَثَلَاث بَصرِي.

1 - (بابٌ: {حُرُمٌ وَاحِدُها حَرَامٌ} )

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله فِي أول السُّورَة: {غير محلى الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 1) ثمَّ ذكر أَن وَاحِد حرم حرَام، وَمعنى: وَأَنْتُم حرم. وَأَنْتُم محرمون، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يَعْنِي: حرَام محرم، وَقَرَأَ الْجُمْهُور بصنم أَيْضا الرَّاء، وَقَرَأَ يحيى بن وثاب: حرم، بِإِسْكَان الرَّاء وَهِي لُغَة: كرسل ورسل.

(بابُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} (الْمَائِدَة: 13)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فبمَا نقضهم} وَفِي بعض النّسخ: بَاب فِيمَا نقضهم، وَلَيْسَ لفظ بَاب فِي كثير من النّسخ، وَهُوَ الظَّاهِر لِأَنَّهُ لم يرو عَن أحد هُنَا لفظ: بَاب.
فَبِنَقْضِهِمْ
هَذَا تَفْسِير قَوْله: {فبمَا نقضهم} وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن كلمة مَا زَائِدَة، رُوِيَ كَذَا عَن قَتَادَة رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أَحْمد، حَدثنَا يزِيد عَن سعيد عَن قَتَادَة، وَقَالَ الزّجاج: مَا لغووا الْمَعْنى: فبنقضهم ميثاقهم، وَمعنى: مَا الملغاة فِي الْعَمَل توكيد الْقِصَّة، وَعَن الْكسَائي: مَا صلَة كَقَوْلِه {عَمَّا قَلِيل} (الْمُؤْمِنُونَ: 40) وَكَقَوْلِه: {فبمَا رَحْمَة من الله لنت لَهُم} (النِّسَاء: 12) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: إِنَّمَا دخلت فِيهِ مَا للمصدر وَكَذَلِكَ كل ماأشبهه. قلت: أول هَذِه الْكَلِمَة الْآيَة الطَّوِيلَة الَّتِي هِيَ: {وَلَقَد أَخذ الله مِيثَاق بني إِسْرَائِيل} الْآيَة وَبعدهَا {فبمَا نقضهم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية} إِلَى قَوْله: {إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ} وَلَقَد أخبر الله تَعَالَى عَمَّا أحل بالذين نقضوا الْمِيثَاق بعد عقده وتوكيده وشده من الْعقُوبَة. بقوله: {فبمَا نقضهم} أَي: بِسَبَب نقضهم ميثاقهم لعناهم أَي: بعدناهم عَن الْحق وطردناهم عَن الْهدى وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية، أَي: لَا تنْتَفع بموعظة لغلظها وقساوتها.
الَّتِي كَتَبَ الله جَعَلَ الله
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم} (الْمَائِدَة: 21) وَفَسرهُ بقوله: جعل الله وَعَن ابْن إِسْحَاق. كتب لكم، أَي: وهب لكم أخرجه الطَّبَرِيّ وَأخرج غَيره من طَرِيق السّديّ أَن مَعْنَاهُ أَمر، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: معنى كتب الله: قسمهَا وسماها، أَو خطّ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَنَّهَا لكم، وَالْأَرْض المقدسة بَيت الْمُقَدّس أَو أرِيحَا أَو فلسطين أَو دمشق أَو الشَّام، وَكَانَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صعد جبل لبنان فَقيل لَهُ انْظُر فَمَا أدْركهُ بَصرك فَهُوَ مقدس وميراث لذريتك من بعْدك.
تَبُوءُ تَحْمِلُ
أَشَارَ بِهِ فِي قصَّة قابيل بن آدم إِلَى قَول هابيل يَقُول، لقابيل: {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وأثمك} (الْمَائِدَة: 29) تحمل. ثمَّ فسر: تبوء، بقوله: تحمل، هَكَذَا فسره مُجَاهِد رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مُوسَى: حَدثنَا أَبُو بكر حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَمُجاهد. أَي: قَتْلَى وإثمك الَّذِي عملته قبل ذَلِك، وَقَالَ ابْن جرير: قَالَ آخَرُونَ: معنى ذَلِك، إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي، أَي: بخطيئتي فَتحمل أَوزَارهَا وإثمك فِي قَتلك إيَّايَ، وَقَالَ هَذَا قَول وجدته عَن مُجَاهِد وأخشى أَن يكون غَلطا لِأَن الرِّوَايَة الصَّحِيحَة عَنهُ خلاف هَذَا يَعْنِي: مَا رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي. قَالَ: بقتلك إيَّايَ وإثمك. قَالَ: بِمَا كَانَ قبل ذَلِك؟ قلت: هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ مَعَ ابْن عَبَّاس الَّذِي نَص عَلَيْهَا بِالصِّحَّةِ فَإِن قلت: قد روى مَا ترك الْقَاتِل

(18/196)


على الْمَقْتُول من ذَنْب؟ قلت: هَذَا الحَدِيث لَا أصل لَهُ. قَالَه الْخطابِيّ من الْمُحدثين. فَإِن قلت: روى الْبَزَّار بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث عُرْوَة ابْن الزبير عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قتل الصَّبْر لَا يمر بذنب إلاَّ محاه. قلت: هَذَا لَا يَصح، وَلَئِن صَحَّ فَمَعْنَاه أَن الله يكفر عَن الْمَقْتُول بإثم الْقَتْل ذنُوبه فإمَّا أَنه يحمل على الْقَاتِل فَلَا.
دَائِرَةٌ دَوْلَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة} (الْمَائِدَة: 52) ثمَّ فَسرهَا بقوله: دولة، وَهَكَذَا فسره السّديّ: رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم عَن أَحْمد بن مفضل حَدثنَا أَسْبَاط عَن السّديّ بِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ الإغْرَاءُ التَّسْلِيطُ
أَشَارَ بِلَفْظ الإغراء إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فاغرينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} (الْمَائِدَة: 14) وَفسّر الإغراء بالتسليط، وَفِي التَّفْسِير قَوْله: فأغرينا. أَي: القينا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فاغرينا. الصقنا وألزمنا، من غرى بالشَّيْء إِذا لزمَه فلصق بِهِ، وأغراه بِهِ غَيره وَمِنْه الغرى الَّذِي يلصق بِهِ. فَإِن قلت: مَا أَرَادَ بقوله. وَقَالَ غَيره؟ وَمن هُوَ هَذَا الْغَيْر؟ وَإِلَى أَي شَيْء يرجع الضَّمِير؟ قلت: قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) لَعَلَّه يَعْنِي: لَعَلَّ البُخَارِيّ يَعْنِي بِالْغَيْر من فسر مَا قبله، وَقد نَقَلْنَاهُ عَن قَتَادَة. انْتهى قلت: قَتَادَة لم يذكر صَرِيحًا فِيمَا قبله حَتَّى يرجع الضَّمِير إِلَيْهِ. وَلَا ذكر فِيمَا قبله مَا يصلح أَن يرجع إِلَيْهِ الضَّمِير، وَالظَّاهِر أَن هُنَا شَيْئا سقط من النساخ، وَالصَّوَاب: أَن هَذَا لَيْسَ من البُخَارِيّ، وَلِهَذَا لم يذكر فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَلَا فِي بعض النّسخ، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله عقيب هَذَا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَخْمَصَة مجاعَة، مَذْكُورا قبل قَوْله، وَقَالَ غَيره: أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس: الإغراء التسليط، وَوَقع من النَّاسِخ أَنه أخر هَذَا وَقدم ذَاك، وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَال مَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْفربرِي بِالْإِجَازَةِ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَخْمَصَة مجاعَة. وَقَالَ غَيره الإغراء التسليط، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب لَا مرية فِيهِ.
أُجُورَهُنَّ مُهُورَهُنَّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ محصنين غير مسافحين} (الْمَائِدَة: 5) وَفسّر الأجور بالمهور، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن غيلَان: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنِي مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
المُهَيْمِنُ الأمِينُ القُرْآنُ أمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتابٍ قَبْلَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ومهيمنا عَلَيْهِ} (الْمَائِدَة: 484) وَفَسرهُ بقوله الْأمين. وَقَالَ فِي (فَضَائِل الْقُرْآن) قَالَ قَالَ ابْن عَبَّاس الْمُهَيْمِن الْأمين. وَقَالَ عبد بن حميد حَدثنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق سَمِعت التَّيْمِيّ سَمِعت ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس قَوْله عز وَجل: {ومهيمنا عَلَيْهِ} قَالَ الْمُهَيْمِن الْأمين، الْقُرْآن أَمِين على كل كتاب قبله، وَقَالَ الْخطابِيّ: أَصله مؤيمن، فقلبت الْهمزَة هَاء لِأَن الْهَاء أخف من الْهمزَة وَهُوَ على وزن مسيطر ومبيطر، قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَآخَرُونَ، مهيمن مفيعل يَعْنِي بِالتَّصْغِيرِ من أَمِين، قلبت همزته هَاء وَقد أنكر ذَلِك ثَعْلَب فَبَالغ حَتَّى نسب قَائِله إِلَى الْكفْر لِأَن الْمُهَيْمِن من الْأَسْمَاء الْحسنى وَأَسْمَاء الله تَعَالَى لَا تصغر، وَالْحق أَنه أصل بِنَفسِهِ لَيْسَ مبدلاً من شَيْء وأصل الهيمنة الْحِفْظ والارتقاب، يُقَال: هيمن فلَان على فلَان إِذا صَار رقيبا عَلَيْهِ فَهُوَ مهيمن، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة لم يَجِيء فِي كَلَام الْعَرَب على هَذَا الْبناء إلاَّ أَرْبَعَة أَلْفَاظ: مبيطر ومسيطر ومهيمن ومبيقر، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الْمُهَيْمِن من صِفَات الله تَعَالَى، وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: الْمُهَيْمِن الشَّهِيد وَالشَّاهِد، وَقيل: الرَّقِيب، وَقيل: الحفيظ.
قَالَ سُفْيَانُ مَا فِي الْقُرْآنِ آيَّةٌ أشَدُّ عَلَيَّ مِنْ {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الْمَائِدَة: 68) [/ ح.
إِنَّمَا كَانَ أَشد عَلَيْهِ لما فِيهِ من تكلّف الْعلم بِأَحْكَام التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْعَمَل بهَا، وَأول الْآيَة: {قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم

(18/197)


على شَيْء} الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَقُول الله تَعَالَى: قل يَا مُحَمَّد {يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء أَي من الدّين، حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. أَي: حَتَّى تؤمنوا بِجَمِيعِ مَا فِي أَيْدِيكُم من الْكتب الْمنزلَة من الله على الْأَنْبِيَاء وتعملوا بِمَا فِيهَا من الْأَمر من اتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْإِيمَان بمبعثه والاقتداء بِشَرِيعَتِهِ، وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق سعيد ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: جَاءَ مَالك بن الضَّيْف وَجَمَاعَة من الْأَحْبَار فَقَالُوا يَا مُحَمَّد: أَلَسْت تزْعم أَنَّك على مِلَّة إِبْرَاهِيم وتؤمن بِمَا فِي التَّوْرَاة وَتشهد أَنَّهَا حق؟ قَالَ: بلَى. وَلَكِنَّكُمْ كتمتم مِنْهَا مَا أمرْتُم ببيانه فَأَنا أَبْرَأ مِمَّا أحدثتموه. وَقَالُوا: إِنَّا نتمسك بِمَا فِي أَيْدِينَا من الْهدى وَالْحق وَلَا نؤمن بك وَلَا بِمَا جِئْت بِهِ، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة.
{مَنْ أحْيَاهَا يَعْنِي مَنْ حَرَّمَ قَتْلَها إلاَّ بِحَقِّ حَييَ النَّاسُ مِنْهُ جَمِيعا}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أحيى النَّاس جَمِيعًا} (الْمَائِدَة: 32) وَفَسرهُ بقوله: يَعْنِي من حرم إِلَى آخِره، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ مُجَاهِد: من لم يقتل أحدا فقد حيى النَّاس مِنْهُ، وَعنهُ فِي رِوَايَة: وَمن أَحْيَاهَا. أَي: أنجاها من غرق أَو حرق أَو هلكة.
شِرْعةً وَمِنْهاجا سَبِيلاً وَسُنَّةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} (الْمَائِدَة: 48) وَفسّر شرعة. بقوله: سَبِيلا ومنهاجا. بقوله: سنة قَالَ الْكرْمَانِي: مَا يفهم مِنْهُ أَن قَوْله: سَبِيلا تَفْسِير قَوْله: منهاجا. وَقَوله: وَسنة تَفْسِير قَوْله: شرعة، حَيْثُ قَالَ: وَفِيه لف وَنشر غير مُرَتّب. قلت: روى ابْن أبي حَاتِم بِمَا فِيهِ لف وَنشر مُرَتّب مثل ظَاهر تَفْسِير البُخَارِيّ حَيْثُ قَالَ: سَبِيلا وَسنة فَقَوله سَبِيلا تَفْسِير شرعة. وَقَوله: منهاجا تَفْسِير قَوْله: وَسنة، وَذَلِكَ حَيْثُ قَالَ ابْن أبي حَاتِم، حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن يُوسُف بن أبي إِسْحَاق عَن التَّيْمِيّ عَن ابْن عَبَّاس، الْكل جعلنَا مِنْكُم شرعة قَالَ سَبِيلا وَحدثنَا ابو سعيد حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن ابي اسحاق عَن التَّيْمِيّ عَن ابْن عَبَّاس ومنهاجا سنة وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالسُّديّ وَأبي إِسْحَاق السبيعِي أَنهم قَالُوا فِي قَوْله شرعة ومنهاجا أَي: سَبِيلا وَسنة، وَهَذَا كَمَا هُوَ لفظ البُخَارِيّ، وَفِيه لف وَنشر مُرَتّب، وَقَالَ ابْن كثير: وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي، شرعة ومنهاجا أَي: سنة وسبيلاً، ثمَّ قَالَ: وَالْأول أنسب، فَإِن الشرعة وَهِي الشَّرِيعَة أَيْضا هِيَ مِمَّا يبْدَأ فِيهِ إِلَى الشَّيْء، وَمِنْه يُقَال: شرع فِي كَذَا أَي: ابْتَدَأَ وَكَذَا الشَّرِيعَة وَهِي مَا يشرع مِنْهَا إِلَى المَاء، وَأما الْمِنْهَاج فَهُوَ الطَّرِيق الْوَاضِح السهل، وَتَفْسِير قَوْله: شرعة ومنهاجا بالسبيل وَالسّنة أظهر فِي الْمُنَاسبَة من الْعَكْس.
فَإنْ عَثُرَ ظَهَرَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا} وَفسّر عثر بقوله: ظهر، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَي فَإِن اشْتهر وَظهر وَتحقّق من شَاهِدي الْوَصِيَّة أَنَّهُمَا خَانا أَو غلا شَيْئا من المَال الْمُوصى بِهِ بنسبته إِلَيْهِمَا وَظهر عَلَيْهِمَا بذلك فآخران يقومان مقامهما، وتوضيح هَذَا يظْهر من تَفْسِير الْآيَة الَّتِي هَذِه اللَّفْظَة فِيهَا وَمَا قبلهَا، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} إِلَى قَوْله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} (الْمَائِدَة: 107) .
الأوْلَيانِ وَاحِدُها أوْلَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان فيقسمان بِاللَّه} (الْمَائِدَة: 106) الْآيَة وَأَشَارَ إِلَى أَن مَا ذكر من قَوْله: الأوليان تَثْنِيَة أولى، والأوليان مَرْفُوع، بقوله اسْتحق من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم انتداب الْأَوليين مِنْهُم للشَّهَادَة، وقرىء الْأَوَّلين على أَنه وصف للَّذين، وقرىء الْأَوَّلين على التَّثْنِيَة وانتصابه على الْمَدْح، وَقَرَأَ الْحسن الْأَوَّلَانِ، وَأكْثر هَذِه الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة هَاهُنَا لم تقع فِي كثير، من النّسخ، وَفِي النّسخ الَّتِي وَقعت فِيهَا بالتقديم وَالتَّأْخِير، وَالله أعلم.

1 - (بابٌ: {حُرُمٌ وَاحِدُها حَرَامٌ} )

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله فِي أول السُّورَة: {غير محلى الصَّيْد وَأَنْتُم حرم} (الْمَائِدَة: 1) ثمَّ ذكر أَن وَاحِد حرم حرَام، وَمعنى: وَأَنْتُم حرم. وَأَنْتُم محرمون، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يَعْنِي: حرَام محرم، وَقَرَأَ الْجُمْهُور بصنم أَيْضا الرَّاء، وَقَرَأَ يحيى بن وثاب: حرم، بِإِسْكَان الرَّاء وَهِي لُغَة: كرسل ورسل.

(بابُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} (الْمَائِدَة: 13)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فبمَا نقضهم} وَفِي بعض النّسخ: بَاب فِيمَا نقضهم، وَلَيْسَ لفظ بَاب فِي كثير من النّسخ، وَهُوَ الظَّاهِر لِأَنَّهُ لم يرو عَن أحد هُنَا لفظ: بَاب.
فَبِنَقْضِهِمْ
هَذَا تَفْسِير قَوْله: {فبمَا نقضهم} وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن كلمة مَا زَائِدَة، رُوِيَ كَذَا عَن قَتَادَة رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أَحْمد، حَدثنَا يزِيد عَن سعيد عَن قَتَادَة، وَقَالَ الزّجاج: مَا لغووا الْمَعْنى: فبنقضهم ميثاقهم، وَمعنى: مَا الملغاة فِي الْعَمَل توكيد الْقِصَّة، وَعَن الْكسَائي: مَا صلَة كَقَوْلِه {عَمَّا قَلِيل} (الْمُؤْمِنُونَ: 40) وَكَقَوْلِه: {فبمَا رَحْمَة من الله لنت لَهُم} (النِّسَاء: 12) وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: إِنَّمَا دخلت فِيهِ مَا للمصدر وَكَذَلِكَ كل ماأشبهه. قلت: أول هَذِه الْكَلِمَة الْآيَة الطَّوِيلَة الَّتِي هِيَ: {وَلَقَد أَخذ الله مِيثَاق بني إِسْرَائِيل} الْآيَة وَبعدهَا {فبمَا نقضهم ميثاقهم لعناهم وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية} إِلَى قَوْله: {إِن الله يحب الْمُحْسِنِينَ} وَلَقَد أخبر الله تَعَالَى عَمَّا أحل بالذين نقضوا الْمِيثَاق بعد عقده وتوكيده وشده من الْعقُوبَة. بقوله: {فبمَا نقضهم} أَي: بِسَبَب نقضهم ميثاقهم لعناهم أَي: بعدناهم عَن الْحق وطردناهم عَن الْهدى وَجَعَلنَا قُلُوبهم قاسية، أَي: لَا تنْتَفع بموعظة لغلظها وقساوتها.
الَّتِي كَتَبَ الله جَعَلَ الله
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم} (الْمَائِدَة: 21) وَفَسرهُ بقوله: جعل الله وَعَن ابْن إِسْحَاق. كتب لكم، أَي: وهب لكم أخرجه الطَّبَرِيّ وَأخرج غَيره من طَرِيق السّديّ أَن مَعْنَاهُ أَمر، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: معنى كتب الله: قسمهَا وسماها، أَو خطّ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَنَّهَا لكم، وَالْأَرْض المقدسة بَيت الْمُقَدّس أَو أرِيحَا أَو فلسطين أَو دمشق أَو الشَّام، وَكَانَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صعد جبل لبنان فَقيل لَهُ انْظُر فَمَا أدْركهُ بَصرك فَهُوَ مقدس وميراث لذريتك من بعْدك.
تَبُوءُ تَحْمِلُ
أَشَارَ بِهِ فِي قصَّة قابيل بن آدم إِلَى قَول هابيل يَقُول، لقابيل: {إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي وأثمك} (الْمَائِدَة: 29) تحمل. ثمَّ فسر: تبوء، بقوله: تحمل، هَكَذَا فسره مُجَاهِد رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مُوسَى: حَدثنَا أَبُو بكر حَدثنَا شَبابَة عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح عَنهُ وَعَن ابْن عَبَّاس وَقَتَادَة وَمُجاهد. أَي: قَتْلَى وإثمك الَّذِي عملته قبل ذَلِك، وَقَالَ ابْن جرير: قَالَ آخَرُونَ: معنى ذَلِك، إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي، أَي: بخطيئتي فَتحمل أَوزَارهَا وإثمك فِي قَتلك إيَّايَ، وَقَالَ هَذَا قَول وجدته عَن مُجَاهِد وأخشى أَن يكون غَلطا لِأَن الرِّوَايَة الصَّحِيحَة عَنهُ خلاف هَذَا يَعْنِي: مَا رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن مُجَاهِد إِنِّي أُرِيد أَن تبوء بإثمي. قَالَ: بقتلك إيَّايَ وإثمك. قَالَ: بِمَا كَانَ قبل ذَلِك؟ قلت: هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ مَعَ ابْن عَبَّاس الَّذِي نَص عَلَيْهَا بِالصِّحَّةِ فَإِن قلت: قد روى مَا ترك الْقَاتِل على الْمَقْتُول من ذَنْب؟ قلت: هَذَا الحَدِيث لَا أصل لَهُ. قَالَه الْخطابِيّ من الْمُحدثين. فَإِن قلت: روى الْبَزَّار بِإِسْنَادِهِ من حَدِيث عُرْوَة ابْن الزبير عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قتل الصَّبْر لَا يمر بذنب إلاَّ محاه. قلت: هَذَا لَا يَصح، وَلَئِن صَحَّ فَمَعْنَاه أَن الله يكفر عَن الْمَقْتُول بإثم الْقَتْل ذنُوبه فإمَّا أَنه يحمل على الْقَاتِل فَلَا.
دَائِرَةٌ دَوْلَةٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يَقُولُونَ نخشى أَن تصيبنا دَائِرَة} (الْمَائِدَة: 52) ثمَّ فَسرهَا بقوله: دولة، وَهَكَذَا فسره السّديّ: رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم عَن أَحْمد بن مفضل حَدثنَا أَسْبَاط عَن السّديّ بِهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ الإغْرَاءُ التَّسْلِيطُ
أَشَارَ بِلَفْظ الإغراء إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فاغرينا بَينهم الْعَدَاوَة والبغضاء إِلَى يَوْم الْقِيَامَة} (الْمَائِدَة: 14) وَفسّر الإغراء بالتسليط، وَفِي التَّفْسِير قَوْله: فأغرينا. أَي: القينا وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: فاغرينا. الصقنا وألزمنا، من غرى بالشَّيْء إِذا لزمَه فلصق بِهِ، وأغراه بِهِ غَيره وَمِنْه الغرى الَّذِي يلصق بِهِ. فَإِن قلت: مَا أَرَادَ بقوله. وَقَالَ غَيره؟ وَمن هُوَ هَذَا الْغَيْر؟ وَإِلَى أَي شَيْء يرجع الضَّمِير؟ قلت: قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) لَعَلَّه يَعْنِي: لَعَلَّ البُخَارِيّ يَعْنِي بِالْغَيْر من فسر مَا قبله، وَقد نَقَلْنَاهُ عَن قَتَادَة. انْتهى قلت: قَتَادَة لم يذكر صَرِيحًا فِيمَا قبله حَتَّى يرجع الضَّمِير إِلَيْهِ. وَلَا ذكر فِيمَا قبله مَا يصلح أَن يرجع إِلَيْهِ الضَّمِير، وَالظَّاهِر أَن هُنَا شَيْئا سقط من النساخ، وَالصَّوَاب: أَن هَذَا لَيْسَ من البُخَارِيّ، وَلِهَذَا لم يذكر فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ وَلَا فِي بعض النّسخ، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله عقيب هَذَا، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَخْمَصَة مجاعَة، مَذْكُورا قبل قَوْله، وَقَالَ غَيره: أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس: الإغراء التسليط، وَوَقع من النَّاسِخ أَنه أخر هَذَا وَقدم ذَاك، وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَال مَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْفربرِي بِالْإِجَازَةِ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مَخْمَصَة مجاعَة. وَقَالَ غَيره الإغراء التسليط، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب لَا مرية فِيهِ.
أُجُورَهُنَّ مُهُورَهُنَّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ محصنين غير مسافحين} (الْمَائِدَة: 5) وَفسّر الأجور بالمهور، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس، رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن غيلَان: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنِي مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
المُهَيْمِنُ الأمِينُ القُرْآنُ أمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتابٍ قَبْلَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ومهيمنا عَلَيْهِ} (الْمَائِدَة: 484) وَفَسرهُ بقوله الْأمين. وَقَالَ فِي (فَضَائِل الْقُرْآن) قَالَ قَالَ ابْن عَبَّاس الْمُهَيْمِن الْأمين. وَقَالَ عبد بن حميد حَدثنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد عَن شُعْبَة عَن أبي إِسْحَاق سَمِعت التَّيْمِيّ سَمِعت ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنَا مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس قَوْله عز وَجل: {ومهيمنا عَلَيْهِ} قَالَ الْمُهَيْمِن الْأمين، الْقُرْآن أَمِين على كل كتاب قبله، وَقَالَ الْخطابِيّ: أَصله مؤيمن، فقلبت الْهمزَة هَاء لِأَن الْهَاء أخف من الْهمزَة وَهُوَ على وزن مسيطر ومبيطر، قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَآخَرُونَ، مهيمن مفيعل يَعْنِي بِالتَّصْغِيرِ من أَمِين، قلبت همزته هَاء وَقد أنكر ذَلِك ثَعْلَب فَبَالغ حَتَّى نسب قَائِله إِلَى الْكفْر لِأَن الْمُهَيْمِن من الْأَسْمَاء الْحسنى وَأَسْمَاء الله تَعَالَى لَا تصغر، وَالْحق أَنه أصل بِنَفسِهِ لَيْسَ مبدلاً من شَيْء وأصل الهيمنة الْحِفْظ والارتقاب، يُقَال: هيمن فلَان على فلَان إِذا صَار رقيبا عَلَيْهِ فَهُوَ مهيمن، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة لم يَجِيء فِي كَلَام الْعَرَب على هَذَا الْبناء إلاَّ أَرْبَعَة أَلْفَاظ: مبيطر ومسيطر ومهيمن ومبيقر، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الْمُهَيْمِن من صِفَات الله تَعَالَى، وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: الْمُهَيْمِن الشَّهِيد وَالشَّاهِد، وَقيل: الرَّقِيب، وَقيل: الحفيظ.
قَالَ سُفْيَانُ مَا فِي الْقُرْآنِ آيَّةٌ أشَدُّ عَلَيَّ مِنْ {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الْمَائِدَة: 68) [/ ح.
إِنَّمَا كَانَ أَشد عَلَيْهِ لما فِيهِ من تكلّف الْعلم بِأَحْكَام التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْعَمَل بهَا، وَأول الْآيَة: {قل يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء} الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَقُول الله تَعَالَى: قل يَا مُحَمَّد} يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء أَي من الدّين، حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل. أَي: حَتَّى تؤمنوا بِجَمِيعِ مَا فِي أَيْدِيكُم من الْكتب الْمنزلَة من الله على الْأَنْبِيَاء وتعملوا بِمَا فِيهَا من الْأَمر من اتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْإِيمَان بمبعثه والاقتداء بِشَرِيعَتِهِ، وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق سعيد ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: جَاءَ مَالك بن الضَّيْف وَجَمَاعَة من الْأَحْبَار فَقَالُوا يَا مُحَمَّد: أَلَسْت تزْعم أَنَّك على مِلَّة إِبْرَاهِيم وتؤمن بِمَا فِي التَّوْرَاة وَتشهد أَنَّهَا حق؟ قَالَ: بلَى. وَلَكِنَّكُمْ كتمتم مِنْهَا مَا أمرْتُم ببيانه فَأَنا أَبْرَأ مِمَّا أحدثتموه. وَقَالُوا: إِنَّا نتمسك بِمَا فِي أَيْدِينَا من الْهدى وَالْحق وَلَا نؤمن بك وَلَا بِمَا جِئْت بِهِ، فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة.
{مَنْ أحْيَاهَا يَعْنِي مَنْ حَرَّمَ قَتْلَها إلاَّ بِحَقِّ حَييَ النَّاسُ مِنْهُ جَمِيعا}
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أحيى النَّاس جَمِيعًا} (الْمَائِدَة: 32) وَفَسرهُ بقوله: يَعْنِي من حرم إِلَى آخِره، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ مُجَاهِد: من لم يقتل أحدا فقد حيى النَّاس مِنْهُ، وَعنهُ فِي رِوَايَة: وَمن أَحْيَاهَا. أَي: أنجاها من غرق أَو حرق أَو هلكة.
شِرْعةً وَمِنْهاجا سَبِيلاً وَسُنَّةً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لكل جعلنَا مِنْكُم شرعة ومنهاجا} (الْمَائِدَة: 48) وَفسّر شرعة. بقوله: سَبِيلا ومنهاجا. بقوله: سنة قَالَ الْكرْمَانِي: مَا يفهم مِنْهُ أَن قَوْله: سَبِيلا تَفْسِير قَوْله: منهاجا. وَقَوله: وَسنة تَفْسِير قَوْله: شرعة، حَيْثُ قَالَ: وَفِيه لف وَنشر غير مُرَتّب. قلت: روى ابْن أبي حَاتِم بِمَا فِيهِ لف وَنشر مُرَتّب مثل ظَاهر تَفْسِير البُخَارِيّ حَيْثُ قَالَ: سَبِيلا وَسنة فَقَوله سَبِيلا تَفْسِير شرعة. وَقَوله: منهاجا تَفْسِير قَوْله: وَسنة، وَذَلِكَ حَيْثُ قَالَ ابْن أبي حَاتِم، حَدثنَا أَبُو سعيد الْأَشَج حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن يُوسُف بن أبي إِسْحَاق عَن التَّيْمِيّ عَن ابْن عَبَّاس، الْكل جعلنَا مِنْكُم شرعة قَالَ سَبِيلا وَحدثنَا ابو سعيد حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن ابي اسحاق عَن التَّيْمِيّ عَن ابْن عَبَّاس ومنهاجا سنة وَكَذَا رُوِيَ عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك وَالسُّديّ وَأبي إِسْحَاق السبيعِي أَنهم قَالُوا فِي قَوْله شرعة ومنهاجا أَي: سَبِيلا وَسنة، وَهَذَا كَمَا هُوَ لفظ البُخَارِيّ، وَفِيه لف وَنشر مُرَتّب، وَقَالَ ابْن كثير: وَعَن ابْن عَبَّاس أَيْضا وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي، شرعة ومنهاجا أَي: سنة وسبيلاً، ثمَّ قَالَ: وَالْأول أنسب، فَإِن الشرعة وَهِي الشَّرِيعَة أَيْضا هِيَ مِمَّا يبْدَأ فِيهِ إِلَى الشَّيْء، وَمِنْه يُقَال: شرع فِي كَذَا أَي: ابْتَدَأَ وَكَذَا الشَّرِيعَة وَهِي مَا يشرع مِنْهَا إِلَى المَاء، وَأما الْمِنْهَاج فَهُوَ الطَّرِيق الْوَاضِح السهل، وَتَفْسِير قَوْله: شرعة ومنهاجا بالسبيل وَالسّنة أظهر فِي الْمُنَاسبَة من الْعَكْس.
فَإنْ عَثُرَ ظَهَرَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِن عثر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا} وَفسّر عثر بقوله: ظهر، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَي فَإِن اشْتهر وَظهر وَتحقّق من شَاهِدي الْوَصِيَّة أَنَّهُمَا خَانا أَو غلا شَيْئا من المَال الْمُوصى بِهِ بنسبته إِلَيْهِمَا وَظهر عَلَيْهِمَا بذلك فآخران يقومان مقامهما، وتوضيح هَذَا يظْهر من تَفْسِير الْآيَة الَّتِي هَذِه اللَّفْظَة فِيهَا وَمَا قبلهَا، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا شَهَادَة بَيْنكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} إِلَى قَوْله: {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} (الْمَائِدَة: 107) .
الأوْلَيانِ وَاحِدُها أوْلَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم الأوليان فيقسمان بِاللَّه} (الْمَائِدَة: 106) الْآيَة وَأَشَارَ إِلَى أَن مَا ذكر من قَوْله: الأوليان تَثْنِيَة أولى، والأوليان مَرْفُوع، بقوله اسْتحق من الَّذين اسْتحق عَلَيْهِم انتداب الْأَوليين مِنْهُم للشَّهَادَة، وقرىء الْأَوَّلين على أَنه وصف للَّذين، وقرىء الْأَوَّلين على التَّثْنِيَة وانتصابه على الْمَدْح، وَقَرَأَ الْحسن الْأَوَّلَانِ، وَأكْثر هَذِه الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة هَاهُنَا لم تقع فِي كثير، من النّسخ، وَفِي النّسخ الَّتِي وَقعت فِيهَا بالتقديم وَالتَّأْخِير، وَالله أعلم.

2 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (الْمَائِدَة: 3)

(18/198)


لم يذكر لفظ بَاب إِلَّا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِه أكبر نعم الله عز وَجل على هَذِه الْأمة حَيْثُ أكمل لَهُم دينهم فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى دين غَيره وَلَا إِلَى نَبِي غير نَبِيّهم، وَلِهَذَا جعله الله خَاتم الْأَنْبِيَاء وَبَعثه إِلَى الْإِنْس وَالْجِنّ، فَلَا حَلَال إلاَّ مَا أحله الله، وَلَا حرَام إلاَّ مَا حرمه الله، وَلَا دين إلاَّ مَا شَرعه وكل شَيْء أخبر بِهِ فَهُوَ حق وَصدق لَا كذب فِيهِ وَلَا خلف. قَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة. عَن ابْن عَبَّاس {كملت لكم دينكُمْ} (الْمَائِدَة: 3) وَهُوَ الْإِسْلَام، وَالْمرَاد بِالْيَوْمِ: يَوْم عَرَفَة. قَالَ أَسْبَاط عَن السّديّ: نزلت هَذِه الْآيَة يَوْم عَرَفَة فَلم ينزل بعْدهَا حَلَال وَلَا حرَام، وَرجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَات. وَقَالَ ابْن جريج وَغير وَاحِد: مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد يَوْم عَرَفَة بِأحد وَثَمَانِينَ يَوْمًا.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ مَخْمَصَةٌ مَجَاعَةٌ
هَذَا لم يثبت إِلَّا لغير أبي ذَر، وَقد ذكرنَا عِنْد قَوْله: (وَقَالَ غَيره) الإغراء التسليط، أَن الْمُنَاسبَة كَانَت تَقْتَضِي أَن يذكر هَذِه اللَّفْظَة قبل قَوْله: وَقَالَ ابْن عَبَّاس: فَليرْجع إِلَيْهِ هُنَاكَ يظْهر لَك مَا فِيهِ الْكِفَايَة. وَأَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَمن اضْطر فِي مَخْمَصَة غير متجانف لإثم} وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم عَن أَبِيه حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنِي مُعَاوِيَة عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.

4606 - ح دَّثني مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ طَارِقِ بنِ شِهابٍ قَالَتِ اليَهُودُ لِعُمَرَ إنكُمْ تَقْرؤُونَ آيَةً لَوْ نَزِلَتْ فِينا لاتَخَذْناها عِيدا فَقَال عُمَرُ إنِّي لأَعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ وأيْنَ أُنْزِلَتْ وَأيْنَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ أُنْزِلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ وَإنَّا وَالله بِعَرَفَةَ. قَالَ سُفْيَانُ وأشُكُّ كَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ أمْ لَا {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن مهْدي، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَقيس هُوَ ابْن مُسلم، وطارق هُوَ ابْن شهَاب بن عبد شمس البَجلِيّ الأحمسي الْكُوفِي، رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغزا فِي خلَافَة أبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ أَو ثَلَاثًا وَأَرْبَعين غَزْوَة، وَمَات سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ.
والْحَدِيث مر فِي كتاب الْإِيمَان من طَرِيق آخر عَن الْحسن بن الصَّباح عَن حَفْص بن عون عَن أبي العميس عَن قيس بن مُسلم عَن طَارق إِلَى آخِره.
قَوْله: (قَالَت الْيَهُود) ، وَفِي كتاب الْإِيمَان أَن رجلا من الْيَهُود، وَإِنَّمَا جمع هُنَا بِاعْتِبَار السَّائِل وَمن كَانَ مَعَه، وَكَانَ هَذَا الرجل كَعْب الْأَحْبَار، وَكَانَ سُؤَاله قبل إِسْلَامه، وَأَنه أسلم فِي خلَافَة عمر، على الْمَشْهُور، أَو أطلق عَلَيْهِ ذَلِك بِاعْتِبَار مَا مضى. قَوْله: (حَيْثُ أنزلت وَأَيْنَ أنزلت) أعلم أَن حَيْثُ للمكان اتِّفَاقًا وَقَالَ الْأَخْفَش، وَقد ترد للزمان، وَهنا للمكان خَاصَّة، وَأَيْنَ، للزمان فَلَا تكْرَار وَحِينَئِذٍ، وَالْغَالِب كَون، حَيْثُ فِي مَحل نصب على الظَّرْفِيَّة، أَو خفض: بِمن، ويلزمها الْإِضَافَة إِلَى الْجُمْلَة إسمية كَانَت أَو فعلية، وَإِلَى الفعلية أَكثر، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن مهْدي: (حَيْثُ أنزلت، وَأي يَوْم أنزلت) وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى: (حِين أنزلت وَأَيْنَ أنزلت) قلت: فَحِينَئِذٍ يلْزم التّكْرَار. قَوْله: (وَأَيْنَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين أنزلت) . كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (حَيْثُ أنزلت) . قَوْله: (يَوْم عَرَفَة) بِالرَّفْع أَي: يَوْم النُّزُول يَوْم عَرَفَة ويروى بِالنّصب أَي أنزلت فِي يَوْم عَرَفَة. قَوْله: (وَأَنا وَالله بِعَرَفَة) إِشَارَة إِلَى الْمَكَان إِذْ عَرَفَة تطلق على عَرَفَات، وَكَذَا هُوَ فِي وَرَايَة الْجَمِيع، وَعند أَحْمد: (وَرَسُول الله وَاقِف بِعَرَفَة) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم. قَوْله: (قَالَ سُفْيَان: وَأَنا أَشك) وَقد تقدم فِي كتاب الْإِيمَان عَن قيس بن مُسلم الْجَزْم بِأَن ذَلِك كَانَ يَوْم الْجُمُعَة، وَسَيَجِيءُ الْجَزْم أَيْضا فِي كتاب الِاعْتِصَام من رِوَايَة مسعر عَن قيس.

3 - (بابُ قَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طَيِّبا} )

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} (الْمَائِدَة: 6) قيل: وَقع هُنَا. فَإِن لم تَجدوا. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فالقرآن {فَلم تَجدوا} وَفِي الْأُصُول كَذَلِك.

(18/199)


تَيَمَّمُوا تَعَمَّدُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا} تعمدوا الْآن معنى التَّيَمُّم فِي اللُّغَة الْقَصْد، والعمد هُوَ الْقَصْد، وَكَذَا رُوِيَ عَن سُفْيَان رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن زَكَرِيَّا حَدثنَا أَحْمد بن خَلِيل حَدثنَا مُعَاوِيَة بن عَمْرو عَن أبي إِسْحَاق عَنهُ.
آمِّينَ قَاصِدينَ أمَّمْتُ وَيَمَّمْتُ وَاحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا الْهَدْي وَلَا القلائد وَلَا آمين الْبَيْت الْحَرَام} (الْمَائِدَة: 2) وَفسّر آمين بقوله: قَاصِدين، لِأَنَّهُ من الأمّ وَهُوَ الْقَصْد، أَي: وَلَا تستحلوا قتال آمين الْبَيْت أَي: القاصدين إِلَى بَيت الله الْحَرَام الَّذِي من دخله كَانَ آمنا. قَوْله: (أممت ويممت وَاحِد) ، أَي: فِي الْمَعْنى قَالَ الشَّاعِر:
وَلَا أَدْرِي إِذا يممت أَرضًا
وَقَرَأَ الْأَعْمَش: وَلَا آمي الْبَيْت، بِإِسْقَاط النُّون للإضافة.
وَقَال ابنُ عَبَّاسٍ لَمَسْتُمْ وَتَمَسُّوهُنَّ وَاللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ والإفْضاءُ النِّكاحُ
أَشَارَ بقول ابْن عَبَّاس هَذَا إِلَى أَن معنى أَرْبَعَة أَلْفَاظ فِي الْقُرْآن بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ: النِّكَاح أَي: الْوَطْء. وَقَوله: لمستم، فِي مَحل الرّفْع على الِابْتِدَاء بِتَقْدِير قَوْله: لمستم، وَمَا بعده عطف عَلَيْهِ، وَقَوله: النِّكَاح، على أَنه خَبره، وَقد ذكر هَذَا عَن ابْن عَبَّاس بطرِيق التَّعْلِيق. أما اللَّفْظ الأول: فقد وَصله إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي (أَحْكَام الْقُرْآن) من طَرِيق مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أَو لمستم النِّسَاء} قَالَ هُوَ الْجِمَاع، وروى ابْن الْمُنْذر حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ حَدثنَا سعيد حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي بشر عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن اللَّمْس والمس والمباشرة الْجِمَاع، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي (تَفْسِيره) . وَرُوِيَ عَن عَليّ ابْن أبي طَالب وَأبي بن كَعْب وَمُجاهد وَالْحسن وَطَاوُس وَعبيد بن عُمَيْر وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَقَتَادَة وَمُقَاتِل نَحْو ذَلِك، وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَالْأَعْمَش وَيحيى بن وثاب (لمستم) وَقَرَأَ عَاصِم وَأَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء وَأهل الْحجاز (لامستم) بِالْألف (وَأما اللَّفْظ الثَّانِي) : فوصله ابْن الْمُنْذر وَقد مر الْآن (وَأما اللَّفْظ الثَّالِث) : فَرَوَاهُ عَليّ بن أبي حَاتِم من طَرِيق وَابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن} (النِّسَاء: 23) قَالَ الدُّخُول النِّكَاح (وَأما اللَّفْظ الرَّابِع) : فَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقد أفْضى بَعْضكُم إِلَى بعض} (النِّسَاء: 21) قَالَ: الْإِفْضَاء الْجِمَاع، وروى ابْن الْمُنْذر عَن عَليّ بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا حجاج حَدثنَا حَمَّاد أخبرنَا عَاصِم الْأَحول عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: الْمُلَامسَة والمباشرة والإفضاء والرفث وَالْجِمَاع نِكَاح وَلَكِن الله يكني.

4607 - ح دَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ القاسِمِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْها زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَعْضِ أسْفَارِهِ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أوْ بِذَاتِ الجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى التِماسِهِ وأقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ إلَى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا أَلا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أقامَتْ بِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذَي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ قَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ الله أنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي وَلا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إلاَّ مَكَانُ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فَخِذِي فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأنْزَلَ الله آيَةَ التَيَمُّمِ فَقَالَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ مَا هِيِ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ

(18/200)


يَا أبي آلِ بَكْرٍ قَالَتْ فَبَعَثْنا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَإذَا العِقْدُ تَحْتَهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {فَتَيَمَّمُوا} وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس عبد الله الْمدنِي يروي عَن خَاله مَالك بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. والْحَدِيث قد مر فِي أول كتاب التَّيَمُّم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بِالْبَيْدَاءِ) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف. (وَذَات الْجَيْش) بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة. وهما اسمان لموضعين بَين مَكَّة وَالْمَدينَة. قَوْله: (عقد) بِكَسْر الْعين. القلادة، وَكَانَت لأسماء أُخْت عَائِشَة فاستعارتها عَائِشَة مِنْهَا وأضافتها إِلَى نَفسهَا بملابسة الْعَارِية.

4 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فاذهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلاً إنّا هاهُنا قاعِدُونَ} (الْمَائِدَة: 24)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاذْهَبْ} الْآيَة هَكَذَا وَقع للمستملي وَفِي رِوَايَة غَيره فَاذْهَبْ إِلَى آخِره وَقَبله قَوْله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لن ندْخلهَا أبدا مَا داموا فِيهَا فَاذْهَبْ} الْآيَة. وَاصل هَذَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ

(18/201)


السَّلَام، أَمر قومه أَن يجاهدوا ويدخلوا بَيت الْمُقَدّس الَّذِي كَانَ بِأَيْدِيهِم فِي زمن أَبِيهِم يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام، كَمَا أخبر الله عَن ذَلِك قبل هَذِه الْآيَة. بقوله: {يَا قوم ادخُلُوا الأَرْض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم} (الْمَائِدَة: 21) الْآيَة، فَكَانَ جوابهم (إِن فِيهَا قوما جبارين وَإِنَّا لن ندْخلهَا) الْآيَة {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك} الْآيَة. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: حَدثنَا أبي قَالَ حَدثنَا أَبُو صَالح حَدثنِي مُعَاوِيَة بن صَالح عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن بَان عَبَّاس. قَالَ: لما نزل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَومه الأَرْض المقدسة وجدوا فِيهَا مَدِينَة فِيهَا قوم جبارون خَلْقهم خَلْقِ مُنكر، بعث اثْنَي عشر رجلا وهم النُّقَبَاء الَّذين ذكرهم الله ليأتوا بخبرهم، فَلَقِيَهُمْ رجل من الجبارين فجعلهم فِي كسائه وَحَملهمْ حَتَّى أَتَى بهم الْمَدِينَة، ونادى فِي قومه فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ ثمَّ قَالُوا لَهُم: اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى وَقَومه فَأَخْبرُوهُمْ بِمَا رَأَيْتُمْ. فَقَالَ لَهُم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: اكتموا هَذَا فَلم يكتم إلاَّ رجلَانِ، يُوشَع وكالب، وهما الْمَذْكُورَان فِي قَوْله عز وَجل: {قَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ} (الْمَائِدَة: 23) الْآيَة. قيل: اسْم هَذِه الْمَدِينَة أرِيحَا، وَقَالَ الْبكْرِيّ: يُقَال لَهَا أَيْضا: أُرِيح، وَفِي حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: دخل مِنْهُم رجلَانِ حَائِطا لرجل من الجبارين فَأَخذهُمَا فجعلهما فِي كمه، وَفِي (تَفْسِير مقَاتل) كَانَ فِي أرِيحَا ألف قَرْيَة فِي كل قَرْيَة ألف بُسْتَان، فَلَمَّا دَخلهَا النُّقَبَاء خرج إِلَيْهِم عوج بن عنق فاحتملهم ومتاعهم بِيَدِهِ حَتَّى وضعهم بَين يَدي ملكهم واسْمه: مَا نوس بن ششورة، فَلَمَّا نظر إِلَيْهِم أَمر بِقَتْلِهِم، فَقَالَت امْرَأَته: أنعم على هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِين ودعهم فليرجعوا وليأخذوا طَرِيقا غير الَّذِي جاؤوا مِنْهَا. فأرسلهم فَأخذُوا عنقودا من كرومهم فَحَمَلُوهُ على عَمُود بَين رجلَيْنِ فعجزوا عَن حمله، وحملوا رمانتين على بعض دوابهم فعجزت الدَّابَّة عَن حملهَا، فقدموا على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَذكروا حَالهم، وَأَن طول كل رجل مِنْهُم سَبْعَة أَذْرع وَنصف، وَكَانُوا من بقايا قوم عاذ يُقَال لَهُم: العماليق، وَعَن مُجَاهِد كَانَ لَا يُقلُّ عنقود عنبهم إلاَّ خَمْسَة رجال أَو أَرْبَعَة، وَفِي رِوَايَة عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، فاعطوهم حَبَّة عِنَب تَكْفِي الرجل. قلت: المُرَاد بِالْأَرْضِ المقدسة الْمَذْكُورَة دمشق وفلسطين وَبَعض الْأُرْدُن، وَقَالَ قَتَادَة: هِيَ الشَّام كلهَا، وَقَالَ السُّهيْلي: الأَرْض المقدسة هِيَ بَيت الْمُقَدّس وَمَا حولهَا، وَيُقَال: لَهَا إيليا، وتفسر بَيت الله، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ عَن الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، الأَرْض المقدسة هِيَ الطّور وَمَا حوله. قَوْله: (فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك) ، يُقَال: الظَّاهِر أَنهم أَرَادوا حَقِيقَة الذّهاب كفرا واستهانة بِدَلِيل مُقَابلَة ذهابهم بقعودهم، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: يحْتَمل أَن يعبر بالذهاب هُنَا عَن الْقَصْد والإرادة، كَمَا تَقول: كَلمته ذهب يجيبني أَي: قصدا اجابتي. وَقَالَ الداوردي: المُرَاد بقوله، وَرَبك هَارُون عَلَيْهِ السَّلَام، لِأَنَّهُ كَانَ أكبر سنا من مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، ورد عَلَيْهِ ابْن التِّين بقوله: هَذَا خلاف قَول أهل التَّفْسِير وَمَا أَرَادوا إلاَّ الرب، عز وَجل، وَلأَجل هَذَا عوقبوا.

4609 - ح دَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا إسْرَائِيلُ عَنْ مُخارِقٍ عَنْ طَارِقٍ بنِ شِهابٍ سَمِعْتُ ابنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ شَهَدْتُ مِنَ المِقْدَادِ ح وحدَّثني حَمْدَانُ بنُ عُمَرَ حدَّثنا أبُو النِّضْرِ حدَّثنا الأشْجَعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخارِقٍ عَنْ طارِقٍ عَنْ عَبْدِ الله قَالَ قَالَ المُقدَادُ يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولِ الله إنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُوا إسْرَائِيلَ لِمُوسَى {فَاذْهَبْ أنْتَ وَرَبكَ فَقَاتِلا إنَا هاهُنا قَاعِدُونَ} وَلاكِنِ امْضِ ونحنُ مَعَكَ فَكأنَّهُ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأخرجه من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن أبي نعيم، بِضَم النُّون الْفضل بن ديكن عَن إِسْرَائِيل بن يُونُس السبيعِي عَن مُخَارق، بِضَم الْمِيم وَتَخْفِيف الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء وبالقاف: ابْن عبد الله الأحمسي الْكُوفِي عَن طَارق بن شهَاب الأحمسي البَجلِيّ الْكُوفِي وَعَن عبد الله بن مَسْعُود، وَمر فِي غَزْوَة بدر فِي بَاب قَول الله تَعَالَى: {إِذا تَسْتَغِيثُونَ ربكُم} (الْأَنْفَال: 9) فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد عَن أبي نعيم إِلَى آخِره وَمر الْكَلَام فِيهِ (الطَّرِيق الآخر) عَن حمدَان بن عمر أبي جَعْفَر الْبَغْدَادِيّ واسْمه أَحْمد وحمدان لقبه وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الْموضع، وَهُوَ من صغَار شُيُوخ البُخَارِيّ وعاش بعد البُخَارِيّ سنتَيْن، يروي عَن أبي النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة هَاشم بن الْقَاسِم التَّمِيمِي، وَيُقَال: اللَّيْثِيّ الْكِنَانِي خراساني سكن بَغْدَاد توفّي بهَا سنة سبع وَمِائَتَيْنِ، يروي عَن عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن الْأَشْجَعِيّ الْكُوفِي عَن سُفْيَان الثَّوْريّ إِلَى آخر.
قَوْله: (يَوْم بدر) ، وَعَن قَتَادَة فِيمَا ذكره الطَّبَرِيّ أَنه كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَة حِين صد. قَوْله: (فَكَأَنَّهُ سري عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، أَي: أزيل عَنهُ المكروهات كلهَا.
وَرَوَاهُ وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُخارِقٍ عَنْ طَارِق أنَّ المِقْدَادَ قَالَ ذَلِكَ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

(18/202)


أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور وَكِيع بن الْجراح عَن سُفْيَان الثَّوْريّ إِلَى آخِره، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث سُفْيَان بن وَكِيع بن الْجراح عَن أَبِيه. قَوْله: (أَن الْمِقْدَاد) ، أَي ابْن الْأسود الْكِنْدِيّ الْمَذْكُور. قَوْله: (قَالَ ذَلِك) ، إِشَارَة إِلَى قَوْله يَوْم بدر: يَا رَسُول الله! إِنَّا لَا نقُول إِلَى آخر مَا مر من الحَدِيث، وَجَاء أَن سعد بن معَاذ قَالَه أَيْضا، فَيجوز أَن يكون قَالَاه.

5 - (بابٌ: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَه وَيَسْعُونَ فِي الأرْضِ فَسَادا أنْ يُقْتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا} إلَى قَوْلِهِ: {أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (الْمَائِدَة: 33)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله} إِلَى آخِره وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ بَاب، وَوَقع فِي رِوَايَة: أبي ذَر: بَاب {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا} الْآيَة، وَغَيره سَاق الْآيَة. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: اخْتلف أهل التَّأْوِيل فِيمَن نزلت هَذِه الْآيَة، فروى عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس: أَنَّهَا نزلت فِي قوم من أهل الْكتاب كَانُوا أهل موادعة لسيدنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنقضوا الْعَهْد وأفسدوا فِي الأَرْض، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس نزلت فِي الْمُشْركين فَمن تَابَ مِنْهُم قبل أَن يقدر عَلَيْهِ لم يمنعهُ ذَلِك أَن يُقَام فِيهِ الْحَد الَّذِي أَصَابَهُ، وَعَن السّديّ: نزلت فِي سودان عرينة أَتَوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبهم المَاء الْأَصْفَر فشكوا ذَلِك إِلَيْهِ الحَدِيث، وَذكر الثَّعْلَبِيّ عَن الْكَلْبِيّ أَنَّهَا نزلت فِي قوم من بني هِلَال، كَانَ أَبُو بَرزَة الْأَسْلَمِيّ عَاهَدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا يُعينهُ وَلَا يعين عَلَيْهِ وَمن أَتَاهُ من الْمُسلمين فَهُوَ آمن فَمر قوم من بني كنَانَة يُرِيدُونَ الْإِسْلَام بناسٍ مِمَّن أسلم من قوم أبي بَرزَة قَالَ: وَلم يكن أَبُو بَرزَة يَوْمئِذٍ شَاهدا، فَقَتَلُوهُمْ وَأخذُوا أَمْوَالهم، فَنزلت هَذِه الْآيَة.
المُحَارَبَةُ لله الْكُفْرُ بِهِ
رُوِيَ هَذَا عَن سعيد بن جُبَير، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم، حَدثنَا أَبُو زرْعَة حَدثنَا يحيى بن عبد الله بن بكير حَدثنِي ابْن لَهِيعَة حَدثنِي عَطاء بن دِينَار عَن سعيد فِي قَوْله: عز وَجل: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} ، قَالَ: يَعْنِي بالمحاربة الْكفْر بعد الْإِسْلَام.

4610 - ح دَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مُحَمَّد بنُ عَبْدِ الله الأنْصَارِيُّ حدَّثنا ابنُ عَوْنٍ قَالَ حدَّثني سَلْمانُ أبُو رَجَاءٍ مَوْلَى أبِي قِلابَةَ عَنْ أبِي قِلابَةَ أنَّهُ كَانَ جَالِسا خَلْفَ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ فَذَكَرُوا وَذَكَرُوا فَقَالُوا وَقَالُوا قَدْ أقادَتْ بِهَا الخُلَفَاءُ فَالْتَفَتَ إلَى أبِي قَلابَةَ وَهُوَ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا عَبْدَ الله بنَ زَيْدٍ أوْ قَالَ مَا تَقُولُ يَا أبَا قِلابَةَ قُلْتُ مَا عَلِمْتُ نَفْسا حَلٍّ قتْلُها فِي الإسْلامِ إلاَّ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ أوْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عَنْبَسَةُ حدَّثنا أنَسٌ بِكَذَا وَكَذَا قُلْتُ إيايَ حَدَّثَ أنَسٌ قَالَ قَدِمَ قَوْمٌ عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَلموهُ فَقَالُوا قَدِ اسْتَوْخَمْنا هاذِهِ الأَرْضَ فَقَالَ هاذِهِ نَعَمٌ لَنَا تَخْرُجُ فَاخْرُجُوا فِيها فَاشْرَبُوا مِنْ ألْبَانِها وَأبْوَالِها فَخَرَجُوا فِيهَا فَشَرِبُوا مِنْ أبْوَالِها وَألْبَانِها وَاسْتَصَحُّوا وَمَالُوا عَلَى الرَّاعِي فَقَتَلُوهُ وَاطَّرَدُوا النِّعَمَ فَمَا يَسْتَنْبطا مِنْ هاؤُلاءِ قَتَلُوا النَّفْسَ وَحَارَبُوا الله وَرَسُولَهُ وَخَوَّفُوا رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ سُبْحَانَ الله فِقُلْتُ تَتَّهِمُنِي قَالَ حدَّثنا بِهاذا أنَسٌ قَالَ وَقَالَ يَا أهْلَ كَذا إنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا أبْقَى هاذَا فِيكُمْ أَو مِثْلُ هَذا.

(18/203)


مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وَمُحَمّد هُوَ ابْن عبد الله الْأنْصَارِيّ من شُيُوخ البُخَارِيّ روى عَنهُ هُنَا بِوَاسِطَة، وَابْن عون هُوَ عبد الله بن عون بن أرطبان الْمُزنِيّ الْبَصْرِيّ، وسلمان، بِفَتْح السِّين وَسُكُون اللَّام. أَبُو رَجَاء مولى أبي قلَابَة الْجرْمِي الْبَصْرِيّ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، سُلَيْمَان، بِضَم السِّين وَفتح اللَّام وَالْأول هُوَ الصَّوَاب، وَأَبُو قلَابَة بِكَسْر الْقَاف عبد الله بن زيد.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع عديدة، فقطعة من ذَلِك مَضَت فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب أَبْوَاب الْإِبِل وَالدَّوَاب وَالْغنم، فَإِنَّهُ أخرج فِيهَا حَدِيث العرنيين عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَقطعَة مُشْتَمِلَة على مَا فِي حَدِيث الْبَاب أخرجهَا فِي كتاب الْمَغَازِي فِي: بَاب قصَّة عكل وعرينة أخرجهَا عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم عَن حَفْص بن عمر عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب وَالْحجاج الصَّواف عَن أبي رَجَاء مولى أبي قلَابَة الحَدِيث.
قَوْله: (خلف عمر بن عبد الْعَزِيز) وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة فِي الْمَغَازِي، قَالَ: يَعْنِي أَبُو رَجَاء وَأَبُو قلَابَة خلف سَرِيره. قَوْله: (فَذكرُوا ذكرُوا) أَي: الْقسَامَة، وَقد بَين البُخَارِيّ هَذَا فِي مَكَان آخر أَعنِي فِي كتاب الدِّيات، وَهُوَ: أَن عمر بن عبد الْعَزِيز أبرز سَرِيره يَوْمًا للنَّاس ثمَّ أذن لَهُم فَدَخَلُوا. فَقَالَ لَهُم: مَا تَقولُونَ فِي الْقسَامَة؟ قَالُوا: نقُول فِي الْقسَامَة الْقود بهَا حق وَقد أقادت بهَا الْخُلَفَاء، فَقَالَ لي: مَا تَقول يَا أَبَا قلَابَة ونصبني للنَّاس؟ فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، عنْدك رُؤُوس الأجناد وأشراف الْعَرَب، أَرَأَيْت لَو أَن خمسين رجلا مِنْهُم شهدُوا على رجل مُحصن بِدِمَشْق أَنه قَدرنَا وَلم يروه أَكنت تَرْجَمَة؟ قَالَ: لَا. قلت: أَرَأَيْت لَو أَن خمسين مِنْهُم شهدُوا على رجل بحمص أَنه قد سرق أَكنت تقطعه وَلم يروه؟ قَالَ: لَا. قلت: فوَاللَّه مَا قتل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطّ إلاَّ فِي إِحْدَى ثَلَاث خِصَال: رجل قتل بحديدة نفسا فَقتل، وَرجل زنى بعد إِحْصَان، وَرجل حَارب الله وَرَسُوله وارتد عَن الْإِسْلَام. فَقَالَ الْقَوْم: أَو لَيْسَ قد حدث أنس بن مَالك أَن نَفرا من عكل؟ الحَدِيث. قَوْله: (فَقَالُوا وَقَالُوا) ، مقول القَوْل الأول مَحْذُوف، وَهُوَ الَّذِي ذكره البُخَارِيّ فِي مَكَان آخر، ومقول القَوْل الثَّانِي هُوَ قَوْله: قد أقادت بهَا الْخُلَفَاء. يُقَال: أقاد الْقَاتِل بالقتيل إِذا قَتله بِهِ، وَفِي الرِّوَايَة الْمُتَقَدّمَة فِي الْمَغَازِي: أَن عمر ابْن عبد الْعَزِيز اسْتَشَارَ النَّاس يَوْمًا فَقَالَ: مَا تَقولُونَ فِي هَذِه الْقسَامَة؟ فَقَالُوا: حق قضى بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقضت بهَا الْخُلَفَاء قبلك. قَوْله: (فالتف) ، أَي: عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى أبي قلَابَة، وَالْحَال أَنه خلف ظهر. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: عمر بن عبد الْعَزِيز. قَوْله: (يَا عبد الله بن زيد) ، هُوَ المكنى بِأبي قلَابَة. قَوْله: (أَو مَا تَقول يَا أَبَا قلَابَة) ؟ شكّ من الرَّاوِي هَل سَمَّاهُ باسمه أَو خاطبه بكنيته. قَوْله: قلت: الْقَائِل هُوَ أَبُو قلَابَة. قَوْله: (فَقَالَ عَنْبَسَة) بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَالسِّين الْمُهْملَة ابْن سعيد بن الْعَاصِ بن أُميَّة أَبُو خَالِد الْقرشِي الْأمَوِي أَخُو يحيى وَعَمْرو الْأَشْدَق، سمع أَبَا هُرَيْرَة، روى عَنهُ الزُّهْرِيّ فِي غَزْوَة خَيْبَر عَن البُخَارِيّ، وَسمع أنسا فِي الْحُدُود، روى عَنهُ أَبُو قلَابَة حَدِيث العرنيين عِنْد مُسلم. قَوْله: (حَدثنَا أنس بِكَذَا وَكَذَا) أَي: قَالَ عَنْبَسَة: حَدثنَا أنس بن مَالك بِقصَّة الْقسَامَة، وَحَدِيث العرنيين. قَوْله: (قلت) : الْقَائِل أَبُو قلَابَة ويروى: (فَقلت) ، وَفِي رِوَايَة كتاب الدِّيات، (فَقلت: أَنا أحدثكُم بِحَدِيث أنس، حَدثنِي أنس أَن نَفرا من عكل ثَمَانِيَة قدمُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَايعُوهُ على الْإِسْلَام فاستوخموا الأَرْض) الحَدِيث. قَوْله: (قدم قوم) هم نفر من عكل (فكلموه) أَي: فَكَلَّمُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرِيد بِهِ الْمُبَايعَة على الْإِسْلَام كَمَا صرح بِهِ فِي الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة الْآن. قَوْله: (قد استوخمنا) من استوخمت الْبَلَد إِذا لم يُوَافق بدنك، وَأَصله من الوخم وَهُوَ ثقالة الطَّعَام فِي الْمعدة، يُقَال: وخم الطَّعَام إِذا ثقل فَلم يستمرىء فَهُوَ وخيم، قَالَ ابْن الْأَثِير فِي حَدِيث العرنيين: واستوخموا الْمَدِينَة أَي: استثقلوها وَلم يُوَافق هواؤها أبدانهم. قَوْله: (هَذِه نعم لنا) المُرَاد بِالنعَم الْإِبِل، فَإِن قلت: قد قَالَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: أخرجُوا إِلَى إبل الصَّدَقَة. قلت: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِاعْتِبَار أَنه كَانَ حَاكما عَلَيْهَا أَو كَانَت لَهُ نعم ترعى مَعَ إبل الصَّدَقَة. قَوْله: (تخرج) فِي مَحل النصب على الْحَال. قَوْله: (واستصحوا) أَي: حصلت لَهُم الصِّحَّة، وَالسِّين فِيهِ للصيرورة. قَوْله: (واطَّردوا النعم) ، أَي: ساقوها سوقا شَدِيدا. وَأَصله من طرد فَنقل إِلَى بَاب الافتعال فَصَارَ: اتطرد، ثمَّ قلبت التَّاء طاء وأدغمت الطَّاء فِي الطَّاء. قَوْله: (فَمَا يستبطأ من هَؤُلَاءِ) على صِيغَة الْمَجْهُول من بَاب الاستفعال، من البطء بِالْهَمْزَةِ فِي آخِره وَهُوَ نقيض السرعة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَمَا يستبطأ. اسْتِفْهَام. قلت: مَعْنَاهُ على قَوْله أَي شَيْء يستبطأ من هَؤُلَاءِ الَّذين قتلوا راعي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاسْتَاقُوا الْإِبِل؟ وَفِيه معنى التَّعَجُّب أَيْضا فَافْهَم، وَيُؤَيّد

(18/204)


مَا ذَكرْنَاهُ مَا جَاءَ فِي كتاب الدِّيات فِي هَذَا الحَدِيث. قلت: وَأي شَيْء أَشد مِمَّا صنع هَؤُلَاءِ؟ ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام وَقتلُوا وسرقوا؟ ! وَفِي رِوَايَة بِالْقَافِ بدل الطَّاء، وَمَعْنَاهُ: مَا يتْرك من هَؤُلَاءِ، وَهُوَ اسْتِفْهَام أَيْضا فِيهِ معنى التَّعَجُّب، وَأَصله من استبقيت الشَّيْء أَي: تركت بعضه. قَوْله: (فَقَالَ: سُبْحَانَ الله) الْقَائِل عَنْبَسَة مُتَعَجِّبا من قَول أبي قلَابَة. قَوْله: (فَقلت تتهمني) ؟ الْقَائِل أَبُو قلَابَة يَقُول لعنبسة تتهمني فِيمَا رويته من حَدِيث أنس؟ ويوضح هَذَا مَا جَاءَ فِي كتاب الدِّيات فِيهِ، فَقَالَ عَنْبَسَة بن سعيد يَعْنِي: عِنْد رِوَايَة أبي قلَابَة الحَدِيث، وَالله إِن سَمِعت كَالْيَوْمِ قطّ؟ فَقلت: أترد على حَدِيثي يَا عَنْبَسَة؟ قَالَ لَا وَلَكِن جِئْت بِالْحَدِيثِ على وَجهه. قَوْله: (قَالَ: حَدثنَا بِهَذَا أنس) أَي: قَالَ أَبُو قلَابَة، حَدثنَا بِهَذَا الحَدِيث أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (قَالَ: وَقَالَ يَا أهل كَذَا) أَي: قَالَ الرَّاوِي وَقَالَ عَنْبَسَة يَا أهل كَذَا مُرَاده يَا أهل الشَّام وَقَالَ بَعضهم وَفِي الرِّوَايَة الْآتِيَة فِي الدِّيات يَا أهل الشَّام قلت هَذَا لَيْسَ بمذكور فِي كتاب الدِّيات، وَلَكِن المُرَاد بخطاب عَنْبَسَة بقوله: (يَا أهل كَذَا) هُوَ أهل الشَّام لِأَن هَذَا كُله وَقع فِي دمشق. قَوْله: (مَا أبقى هَذَا فِيكُم) بِضَم الْهمزَة وَكسر الْقَاف على صِيغَة الْمَجْهُول، وَأَشَارَ عَنْبَسَة بقوله هَذَا إِلَى أبي قلَابَة، وَفِي رِوَايَة كتاب الدِّيات: وَالله لَا يزَال هَذَا الْجند بِخَير مَا عَاشَ هَذَا الشَّيْخ بَين أظهرهم، ويروى: مَا أبقى الله مثل هَذَا. قَوْله: (أَو مثل هَذَا) ، شكّ من الرَّاوِي، أَي: أَو قَالَ عَنْبَسَة مثل مَا ذكر من قَوْله: (مَا أبقى هَذَا فِيكُم) ؟ وَمثله مَا ذكر فِي الدِّيات فَافْهَم فَإِنِّي مَا رَأَيْت شارحا أَتَى بِحَق شرح هَذَا الحَدِيث.

6 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَالْجُرُوحُ قِصَاصٌ} (الْمَائِدَة: 45)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {والجروح قصاص} هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: بَاب والجروح قصاص، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب وَهَذَا اللَّفْظ فِي قَوْله: (وكتبنا عَلَيْهِم فِيهَا أَن النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص) ، هَذَا تَعْمِيم بعد التَّخْصِيص لِأَنَّهُ ذكر الْعين بِالْعينِ وَنَحْوهَا، وَالْقصاص فِي الْجرْح إِنَّمَا يثبت فِيمَا يُمكن أَن يقْتَصّ فِيهِ مثل الشفتين وَالذكر وَالْيَدَيْنِ وَمَا أشبه ذَلِك، وَمَا عدا ذَلِك من كسر عظم أَو جِرَاحَة فِي الْبَطن فَفِيهِ أرش، وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء وَابْن عَامر وَالْكسَائِيّ بِرَفْع الْحَاء، وَالْبَاقُونَ: ينصبها، وَالْقصاص من: قصّ الْأَثر أَي: اتبعهُ فَكَانَ المحني عَلَيْهِ يقص أَثَره وَيتبع ليقْتل.

4611 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ سَلامٍ أخْبَرَنا الفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ الله عنهُ قَالَ كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ وَهِيَ عَمَّةُ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةَ مِنَ الأَنْصَارِ فَطَلَبَ القَوْمُ القِصاصَ فأتَوُا النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالقِصاصِ فَقَالَ أنَسُ بنُ النَّضْرِ عَمُّ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ لَا وَالله لَا تَكْسَرْ سِنها يَا رَسُول الله فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا أنَسُ كتابُ الله القِصاصُ فَرَضِيَ القَوْمُ وَقَبُلُوا الأرْشَ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ مِنْ عِبادِ الله مَنْ لَوْ أقْسَمَ عَلَى الله لأبَرَّهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والفزاري، بِفَتْح الْفَاء وَالزَّاي المخففة وبالراء، واسْمه: مَرْوَان بن مُعَاوِيَة والْحَدِيث مضى فِي كتاب الصُّلْح فِي: بَاب الصُّلْح فِي الدِّيَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ عَن حميد عَن أنس، وَأخرجه هُنَا عَن الْفَزارِيّ مُعَلّقا وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (الرّبيع) ، بِضَم الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَكْسُورَة، وَالْجَارِيَة الشَّابَّة، وَالنضْر بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة. قَوْله: (وقبلوا الْأَرْش) قَالَ ابْن الْأَثِير: الْأَرْش الْمَشْرُوع فِي الحكومات وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذهُ المُشْتَرِي من البَائِع إِذا اطلع على عيب فِي الْمَبِيع، وَأرش الْجِنَايَات والجراحات من ذَلِك لِأَنَّهَا جابرة لَهَا عَمَّا حصل فِيهَا من النَّقْص. قَوْله: (لَا بره) من إبرار الْقسم وَهُوَ امضاؤه على الصدْق.

(18/205)


7 - (بابٌ: {يَا أيُّها الرَّسولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (الْمَائِدَة: 67)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرَّسُول} الْآيَة، ذكر الواحدي من حَدِيث الْحسن بن مُحَمَّد قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عَبَّاس عَن الْأَعْمَش وَأبي الحجاف عَن عَطِيَّة عَن أبي سعيد، قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة: {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} يَوْم غَدِير خم فِي عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ مقَاتل: قَوْله: {بلغ مَا أنزل إِلَيْك} وَذَلِكَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا الْيَهُود إِلَى الْإِسْلَام فَأكْثر الدُّعَاء فَجعلُوا يستهزؤن بِهِ وَيَقُولُونَ: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّد أَن نتخذك حنانا كَمَا اتَّخذت النَّصَارَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حنانا؟ فَلَمَّا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك سكت عَنْهُم، فحرض الله تَعَالَى نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الدُّعَاء إِلَى دينه لَا يمنعهُ تكذيبهم إِيَّاه واستهزاؤهم بِهِ عَن الدُّعَاء، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: نزلت هَذِه الْآيَة بعد أحد، وَذكر الثَّعْلَبِيّ عَن الْحسن: قَالَ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما بَعَثَنِي الله عز وَجل برسالته ضقت بهَا ذرعا وَعرفت أَن من النَّاس من يكذبنِي، وَكَانَ يهاب قُريْشًا وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَنزلت، وَقيل: نزلت فِي عُيَيْنَة بن حُصَيْن وفقراء أهل الصّفة، وَقيل: فِي الْجِهَاد، وَذَلِكَ أَن الْمُنَافِقين كرهوه وَكَرِهَهُ أَيْضا بعض الْمُؤمنِينَ، فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يمسك فِي بعض الْأَحَايِين عَن الْحَث على الْجِهَاد لما يعرف من كَرَاهِيَة الْقَوْم لَهُ، فَنزلت: وَقيل: {بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} فِي أَمر زَيْنَب بنت جحش، وَهُوَ مَذْكُور فِي البُخَارِيّ. وَقيل: {بلغ مَا أنزل إِلَيْك} أَي: فِي أَمر نِسَائِك، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن مَعْنَاهُ بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك فِي فضل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة أَخذ بيد عَليّ، وَقَالَ: من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ، وَقيل: بلغ مَا أنزل إِلَيْك من حُقُوق الْمُسلمين، فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة خطب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَل بلغت؟ وَعند الْجَوْزِيّ: بلغ مَا أنزل إِلَيْك من الرَّجْم وَالْقصاص.

4612 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنَ يُوسُفَ حدَّثنا سُفْيانُ عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوق عَنْ عَائِشةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ مَنْ حَدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّدا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَتَمَ شَيْئا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ وَالله يَقولُ: {يَا أيُّها الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الْآيَة.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَمُحَمّد بن يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ صرح بِهِ أَبُو نعيم وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد البَجلِيّ الْكُوفِي، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر، ومسروق هُوَ ابْن الأجدع. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ مطولا ومختصرا وَأخرجه فِي التَّوْحِيد مقطعا. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن ابْن نمير وَغَيره. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن أَحْمد بن منيع وَعَن ابْن أبي عَمْرو. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى مطولا. وَفِيه الزِّيَادَة، وَأخرجه عَن آخَرين أَيْضا.

8 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ الله بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ} (الْبَقَرَة: 225)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} وَلَيْسَ لفظ: بَاب، إلاَّ فِي رِوَايَة أبي ذَر واللغو فِي الْيَمين هُوَ قَوْلك: لَا وَالله، ويلي وَالله، وَقيل: معنى اللَّغْو الْإِثْم، وَالْمعْنَى لَا يُؤَاخِذكُم الله بالإثم فِي الْحلف إِذا كَفرْتُمْ، وَقَالَ ابْن جُبَير: هُوَ الرجل يحلف على الْمعْصِيَة، وَقَالَ إِبْرَاهِيم: هُوَ أَن ينسى، وَقَالَ زيد بن أسلم: هُوَ قَول الرجل: أعمى الله بَصرِي إِن لم أفعل كَذَا وَكَذَا وَنَحْوه، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ أَن يحرم مَا أحل الله لَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَة، وَقَالَ طَاوس وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيل: هُوَ أَن يحلف وَهُوَ غَضْبَان، وَعند الشَّافِعِي، هُوَ سبق اللِّسَان من غير قصد، وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد بن رشيد، ذهب مَالك وَأَبُو حنيفَة إِلَى أَنَّهَا الْيَمين على شَيْء يظنّ الرجل أَنه على يَقِين مِنْهُ فَيخرج الشَّيْء على خلاف مَا حلف عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَغْو الْيَمين مَا لم تَنْعَقِد النِّيَّة عَلَيْهِ مثل مَا جرت بِهِ الْعَادة من قَول الرجل فِي أثْنَاء المخاطبة، لَا وَالله وبلى وَالله من غير أَن يعْتَقد لُزُومه انْتهى، يُقَال: لَغَا فِي القَوْل يَلْغُو ويلغى لَغوا ولغى لَغَا ولغاة، اخطأ، وَكلمَة لاغية فَاحِشَة، ولغا يَلْغُو لَغوا، تكلم، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: لَغَا يَلْغُو، لَغوا: أَي قَالَ بَاطِلا يُقَال: لغوت بِالْيَمِينِ، ونباح الْكَلْب لَغْو أَيْضا، ولغى: بِالْكَسْرِ يلغى لغى مثله، واللغي الصَّوْت مثل الوغي، وَيُقَال أَيْضا: لغى بِهِ يلغى لَغَا أَي: لهج بِهِ، واللغة

(18/206)


أَصْلهَا لغى ولغو، وَالْهَاء عوض وَجَمعهَا ولغات، وَفِي (تَفْسِير الْجَوْزِيّ) لما نزلت: {لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} (الْمَائِدَة: 87) قَالُوا: يَا رَسُول الله! كَيفَ نصْنَع بأيماننا؟ يَعْنِي: حلفهم على مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ. فَنزلت: {لَا يُؤَاخِذكُم الله} الْآيَة. قَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَ ابْن عَبَّاس: اتِّفَاقهم كَانَ على الصَّوْم نَهَارا وَالْقِيَام لَيْلًا. وَقَالَ مقَاتل: كَانُوا عشرَة حلفوا على ذَلِك أَبُو بكر وَعمر وَعلي والمقداد وَعُثْمَان بن مَظْعُون وَأَبُو ذَر وسلمان وَابْن مَسْعُود وعمار وَحُذَيْفَة، وَزَاد بَعضهم سالما مولى أبي حُذَيْفَة وَقُدَامَة، وَزَاد أَبُو أَحْمد إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم البستي عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

4613 - ح دَّثنا عَلِيُّ بنُ سَلَمَةَ حدَّثنا مَالِكُ بنُ سُعَيْرٍ حدَّثنا هِشامٌ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أُنْزِلَتْ هاذِهِ الآيَةَ {لَا يُؤَاخِذُكُمْ الله بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ} (الْبَقَرَة: 225) فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لَا وَالله وَبَلى وَالله.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعلي بن سَلمَة هُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ اللبقي، بِكَسْر اللَّام وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وبالقاف، النَّيْسَابُورِي من صغَار مَشَايِخ البُخَارِيّ وَلم يَقع لَهُ ذكر عِنْد البُخَارِيّ إلاَّ فِي هَذَا الْموضع وَآخر فِي الشُّفْعَة وَآخر فِي الدَّعْوَات، وَهَكَذَا فِي الْأُصُول عَليّ بن سَلمَة، وَبِه صرح أَبُو مَسْعُود وَغَيره، وَبِه صرح أَبُو ذَر عَن الْمُسْتَمْلِي، حدثَّنا عَليّ بن سَلمَة، وَرُوِيَ عَن الْكشميهني والحموي، حَدثنَا عَليّ بن عبد الله، قيل: إِنَّه خطأ، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: حَدثنَا عَليّ، وَلم ينْسبهُ، وَقَالَ الكلاباذي، هُوَ غير مَنْسُوب، وَمَالك بن سعير، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالراء التَّيْمِيّ الْكُوفِي، ضعفه أَبُو دَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة وَالدَّارَقُطْنِيّ: صَدُوق وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي الدَّعْوَات، وَاسم جده الْحسن، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم وسين مُهْملَة، وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير. والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَأخرجه أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا وَصَححهُ ابْن حبَان.

4614 - ح دَّثنا أحْمَدُ بنُ أبِي رَجَاءِ حدَّثنا النضْرُ عنْ هشامٍ قَالَ أخْبَرَنِي أبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا أنَّ أَبَاهَا كَانَ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ حَتَّى أنْزَلَ الله كَفَّارَةَ اليَمِينِ قَالَ أبُو بَكْرٍ لَا أرَى يَمِينا أُرِيَ غَيْرُها خَيْرا مِنْهَا إلاّ قَبِلْتُ رُخْصَة الله وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.

هَذَا أَيْضا عَن عَائِشَة نَفسهَا، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هَذَا الحَدِيث تَفْسِير للْحَدِيث الأول، وَقَالَ ابْن التِّين: الْحق أَن الحَدِيث الأول فِي تَفْسِير لَغْو الْيَمين، وَالثَّانِي: فِي تَفْسِير عقد الْيَمين وَأخرجه عَن أَحْمد بن أبي رَجَاء بِالْجِيم ضد الْخَوْف، واسْمه عبد الله بن أَيُّوب أبي الْوَلِيد الْحَنَفِيّ الْهَرَوِيّ، عَن النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن شُمَيْل الْمَازِني عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة عَن أَبِيهَا أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرجه ابْن حبَان من طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا حلف على يَمِين لم يَحْنَث إِلَى آخِره، قيل: الْمَحْفُوظ مَا وَقع فِي (الصَّحِيح) أَن ذَلِك فعل أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

9 - (بابُ قَوْلِهِ: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أحَلَّ الله لَكُمْ} (الْمَائِدَة: 87)

أَي: هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا تحرموا} وَلَيْسَ لغير أبي ذَر، بَاب قَوْله: وَإِنَّمَا الْمَرْوِيّ عَن غَيره. {لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله لكم} بِدُونِ لفظ: بَاب قَوْله: وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، نزلت هَذِه الْآيَة فِي رَهْط من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدُّنْيَا ونسيح فِي الأَرْض كَمَا يفعل الرهبان، فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأرْسل إِلَيْهِم فَذكر لَهُم ذَلِك، فَقَالُوا: نعم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لكني أَصوم وَأفْطر وأصلي وأنام وأنكح النِّسَاء، فَمن أَخذ بِسنتي فَهُوَ مني، وَمن لم يَأْخُذ بِسنتي فَلَيْسَ مني، وروى ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس نَحْو ذَلِك.

(18/207)


4615 - ح دَّثنا عَمْرُو بنُ عَوْنٍ حدَّثنا خَالِدٌ عنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَغْزُوا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ فَقُلْنا أَلا نَخْتَصِي فَنهانا عَنِ ذَلِكَ فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أنْ نَتَزَوَّجَ المَرْأَةَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ قَرَأ: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أحَلَّ الله لَكُمْ} (الْمَائِدَة: 87) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعَمْرو بن عون بن أَوْس السّلمِيّ الوَاسِطِيّ نزل الْبَصْرَة، وخَالِد هُوَ ابْن عبد الله الطَّحَّان، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي خَالِد، وَقيس هُوَ ابْن أبي حَازِم، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن المثني وَعَن قُتَيْبَة وَأخرجه مُسلم فِي النِّكَاح عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَغَيره. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَغَيره.
قَوْله: (أَلا نختصي) ، من خصاه إِذا نزع خصيته يخصيه خصاءً. قَوْله: (فنهانا عَن ذَلِك) ، يَعْنِي: عَن الاختصاء، وَفِيه تَحْرِيم الاختصاء لما فِيهِ من تَغْيِير خلق الله تَعَالَى، وَلما فِيهِ من قطع النَّسْل وتعذيب الْحَيَوَان. قَوْله: (بِالثَّوْبِ) لَيْسَ بِقَيْد أَي: بِالثَّوْبِ وَغَيره مِمَّا يتراضيان بِهِ. قَوْله: (ثمَّ قَرَأَ) أَي: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ النوري: فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن عبد الله كَانَ يعْتَقد إِبَاحَة الْمُتْعَة، كَقَوْل ابْن عَبَّاس، وَأَنه لم يبلغهما نسخهَا وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: روى حَدِيث إِبَاحَة الْمُتْعَة جمَاعَة من الصَّحَابَة، فَذكره مُسلم فِي رِوَايَة ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، وَجَابِر وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وسبرة بن معبد الْجُهَنِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَلَيْسَ فِي أَحَادِيثهم أَنَّهَا كَانَت فِي الْحَضَر، وَإِنَّمَا كَانَت فِي أسفارهم فِي الْغَزْو وَعند ضرورتهم وَعدم النِّسَاء مَعَ أَن بِلَادهمْ حارة وصبرهم عَنْهُن قَلِيل، وَقد ذكر فِي حَدِيث ابْن عمر: أَنَّهَا كَانَت رخصَة فِي أول الْإِسْلَام إِن اضطروا إِلَيْهَا كالميتة وَنَحْوهَا، وَعَن ابْن عَبَّاس نَحوه، وَقَالَ الْمَازرِيّ: ثَبت أَن نِكَاح الْمُتْعَة كَانَ جَائِزا فِي أول الْإِسْلَام ثمَّ ثَبت بالأحاديث الصَّحِيحَة أَنه نسخ وانعقد الْإِجْمَاع على تَحْرِيمه وَلم يُخَالف فِيهِ إلاَّ طَائِفَة من المبتدعة، وتعلقوا بالأحاديث المنسوخة فَلَا دلَالَة لَهُم فِيهَا، وتعلقوا بقوله تَعَالَى: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فأتوهن أُجُورهنَّ} (النِّسَاء: 24) وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أجل. وَقِرَاءَة ابْن مَسْعُود هَذِه شَاذَّة لَا يحْتَج بهَا قُرْآنًا وَلَا خَبرا.