عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 2 - (بابُ قَوْلِهِ: {فَسِيحُوا فِي
الأرْضِي أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أنَّكُمْ غَيْرُ
مُعْجِزِي الله وَأنَّ الله مُخْزِى الكَافِرِينَ}
(التَّوْبَة: 2)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فسيحوا فِي الأَرْض}
الْآيَة وَقد مر الْكَلَام فِي {أَرْبَعَة أشهر} عَن قريب.
قَوْله: (غير معجزي الله) ، أَي: غير سابقي الله بأعمالكم.
قَوْله: (وَأَن الله) ، أَي: وَاعْلَمُوا أَن الله مخزي
(الْكَافرين) أَي مذلهم، وَيُقَال: معذب الْكَافرين فِي
الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، وَفِي الْآخِرَة بالنَّار.
(18/259)
سِيحُوا سِيرُوا
أَي: معنى قَوْله: سيحوا سِيرُوا فِي الأَرْض مُقْبِلين
ومدبرين آمِنين غير خَائِفين أحدا بِحَرب وَلَا سلب وَلَا
قتل. وَلَا أسر، يُقَال: ساح فلَان فِي الأَرْض يسيح سيحا
وسياحة وسيوحا.
4655 - ح دَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثني
اللَّيْثُ قَالَ حدَّثني عُقَيْلٌ عَنِ ابنِ شِهابٍ
وَأخْبَرَنِي حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أبَا
هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ قَالَ بَعَثَنِي أبُو بَكْرٍ
فِي تِلْكَ الحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ
النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمَنًى أنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ
العامِ مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ قَالَ
حُمَيْدُ ابنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ ثُمَّ أرْدَفَ رسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَلِيِّ بنِ أبِي طَالِبٍ
وَأمَرَهُ أنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ قَالَ أبُو
هُرَيْرَةَ فَأذَّنَ مَعَنا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ فِي
أهْلِ منى بِبَرَاءَةَ وَأنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ العامِ
مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عَرْيَانٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن هَذِه التَّرْجَمَة من
تَتِمَّة الْآيَة الَّتِي هِيَ أول السُّورَة أَعنِي
قَوْله تَعَالَى: {بَرَاءَة من الله وَرَسُوله} وَفِيه
أَيْضا لفظ بَرَاءَة.
وَسَعِيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء
وَهُوَ سعيد بن كثير بن عفير الْمصْرِيّ، وروى لَهُ مُسلم
أَيْضا. وَعقيل: بِضَم الْعين المهلمة وَفتح الْقَاف ابْن
خَالِد الْأَيْلِي يروي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الصَّلَاة فِي: بَاب مَا يستر من
الْعَوْرَة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم عَن يَعْقُوب إِلَى آخِره، وَمضى فِي كتاب
الْحَج أَيْضا فِي: بَاب لَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان،
فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث
عَن يُونُس قَالَ ابْن شهَاب: حَدثنِي حميد بن عبد
الرَّحْمَن أَن أَبَا هُرَيْرَة أخبرهُ إِلَى آخِره، وَمضى
الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (وَأَخْبرنِي حميد) ، وَفِي كتاب الْحَج: وحَدثني
حميد بن عبد الرَّحْمَن، وَإِنَّمَا قَالَ بواو الْعَطف
أشعارا بِأَنَّهُ أخبرهُ أَيْضا بِغَيْر ذَلِك فَهُوَ عطف
على مُقَدّر، قَالَ الْكرْمَانِي: وَلم يعين الْمُقدر.
قلت: الظَّاهِر أَن الْمُقدر هَكَذَا عَن ابْن شهَاب
حَدثنِي وَأَخْبرنِي حميد، وَتظهر الْفَائِدَة فِيهِ على
قَول من يَقُول بِالْفرقِ بَين حَدثنَا وَبَين أخبرنَا.
قَوْله: (أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ بَعَثَنِي) وَفِي كتاب
الْحَج: أَن أَبَا هُرَيْرَة أخبرهُ أَن أَبَا بكر بَعثه.
قَوْله: (فِي تِلْكَ الْحجَّة) ، وَهِي الْحجَّة الَّتِي
كَانَ فِيهَا أَبُو بكر أَمِيرا على الْحَاج، وَهِي فِي
السّنة التَّاسِعَة. قَوْله: (فِي مؤذنين) جمع مُؤذن من
الإيذان وَهُوَ الْإِعْلَام بالشَّيْء قَالَ ابْن
الْأَثِير: يُقَال آذن يُؤذن إِيذَانًا وَأذن يُؤذن تأذينا
والمشدد مَخْصُوص فِي الِاسْتِعْمَال بإعلام وَقت
الصَّلَاة. قَوْله: (قَالَ حميد) مُتَّصِل بِالْإِسْنَادِ
الأول قَوْله: (ثمَّ أرْدف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بعلي بن أبي طَالب) أَي: أرْسلهُ بعد أبي بكر رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد حَدثنَا
عَفَّان حَدثنَا حَمَّاد عَن سماك عَن أنس بن مَالك، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، بعث بِبَرَاءَة مَعَ أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فَلَمَّا بلغ ذَا الحليفة قَالَ: لَا يبلغهَا إلاَّ
أَنا أَو رجل من أهل بَيْتِي، فَبعث بهَا مَعَ عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
أَيْضا فِي التَّفْسِير، وَقَالَ: حسن غَرِيب، وَقَالَ عبد
الله بن أَحْمد بن حَنْبَل بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، لما نزلت عشر آيَات من بَرَاءَة على
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَبَا بكر فَبَعثه بهَا
لِيَقْرَأهَا على أهل مَكَّة. ثمَّ دَعَاني فَقَالَ: أدْرك
أَبَا بكر فَحَيْثُ مَا لَقيته فَخدَّ الْكتاب مِنْهُ
فَاذْهَبْ إِلَى أهل مَكَّة فاقرأه عَلَيْهِم، فلحقته
بِالْجُحْفَةِ فَأخذت الْكتاب مِنْهُ وَرجع أَبُو بكر
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا
رَسُول الله أنزل فِي شَيْء؟ فَقَالَا: لَا وَلَكِن
جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جَاءَنِي
وَقَالَ: لن يُؤَدِّي عَنْك إلاَّ أَنْت أَو رجل مِنْك،
قَالَ ابْن كثير: هَذَا إِسْنَاد فِيهِ ضعف، وَلَيْسَ
المُرَاد أَن أَبَا بكر رَجَعَ من فوره، وَإِنَّمَا رَجَعَ
بعد قَضَائِهِ الْمَنَاسِك الَّتِي أمَّره عَلَيْهَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا جَاءَ مُبينًا
فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن
معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة
فِي قَوْله: {بَرَاءَة من الله وَرَسُوله} قَالَ: لما
كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمن حنين اعْتَمر
من الْجِعِرَّانَة ثمَّ أمَّر أَبَا بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، على تِلْكَ الْحجَّة، قَالَ معمر: قَالَ
الزُّهْرِيّ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يحدث أَن أَبَا بكر
أَمر أَبَا هُرَيْرَة أَن يُؤذن بِبَرَاءَة فِي حجَّة أبي
بكر بِمَكَّة. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: ثمَّ اتَّبعنَا
النَّبِي
(18/260)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا وَأمره أَن
يُؤذن بِبَرَاءَة وَأَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
كَمَا هُوَ على الْمَوْسِم. أَو قَالَ: على هَيئته، قَالَ
ابْن كثير وَهَذَا السِّيَاق فِيهِ غرابة من جِهَة أَن
أَمِير الْحَج سنة عمْرَة الْجِعِرَّانَة إِنَّمَا كَانَ
عتاب بن أسيد، وَأما أَبُو بكر فَإِنَّمَا كَانَ أَمِيرا
سنة تسع. قَوْله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فَأذن مَعنا
عَليّ) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني وَحده. قَالَ أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فَأذن مَعنا، قيل: هَذَا غلط فَاحش مُخَالف
لرِوَايَة الْجَمِيع، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام أبي
هُرَيْرَة قطعا فَهُوَ الَّذِي كَانَ يُؤذن بذلك وَقَالَ
عِيَاض: أَن أَكثر رُوَاة الْفربرِي وافقوا الْكشميهني
قَالَ: وَهُوَ غلط.
3 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَأذَانٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إلَى
النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أنَّ الله بَرِيءٌ
مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فإنْ تُبْتُمْ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أنَّكُمْ
غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِعَذَابٍ ألِيمٍ إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئا وَلَمْ
يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا فأتِمُّوا إلَيْهِمْ
عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ الله يُحِبُّ
المُتَّقِينَ} (التَّوْبَة: 3، 4)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وأذان من الله}
إِلَى آخِره. قَوْله: (وأذان من الله) أَي: إِعْلَام من
الله وَرَسُوله وإنذار إِلَى النَّاس وارتفاع: أَذَان،
عطفا على براة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وارتفاعه كارتفاع
بَرَاءَة على الْوَجْهَيْنِ. قَوْله: (إِلَى النَّاس) أَي:
لجميعهم. قَوْله: (يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) ، وَهُوَ
الْيَوْم الَّذِي هُوَ أفضل أَيَّام الْمَنَاسِك، وأظهرها
وأكثرها جمعا، وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أبي
إِسْحَاق: سَأَلت أبام جُحَيْفَة عَن يَوْم الْحَج
الْأَكْبَر، قَالَ: يَوْم عَرَفَة، وروى عبد الرَّزَّاق
أَيْضا عَن ابْن جريج عَن عَطاء قَالَ: يَوْم الْحَج
الْأَكْبَر يَوْم عَرَفَة، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن ابْن
عَبَّاس وَعبد الله بن الزبير وَمُجاهد وَعِكْرِمَة وطاووس
أَنهم قَالُوا: يَوْم عَرَفَة هُوَ يَوْم الْحَج
الْأَكْبَر، وَقد ورد فِي ذَلِك حَدِيث مُرْسل رَوَاهُ
ابْن جريج: أخْبرت عَن مُحَمَّد بن قيس بن مخرمَة (أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خطب يَوْم عَرَفَة
فَقَالَ: هَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر) . وَقَالَ هشيم
عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ عَن عَليّ
رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم
النَّحْر، وَرُوِيَ عَن عَليّ من وُجُوه أخر كَذَلِك،
وَقَالَ عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا سُفْيَان وَشعْبَة عَن
عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عبد الله بن أبي أوفى أَنه
قَالَ: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، وَكَذَا
رُوِيَ عَن الْمُغيرَة ابْن شُعْبَة أَنه خطب يَوْم
الْأَضْحَى على بعير، فَقَالَ: هَذَا يَوْم الْأَضْحَى
وَهَذَا يَوْم النَّحْر وَهَذَا يَوْم الْحَج الْأَكْبَر،
وروى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا،
أَنه قَالَ: الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، وَكَذَا
رُوِيَ عَن ابْن أبي جُحَيْفَة وَسَعِيد بن جُبَير
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَمُجاهد وَأبي جَعْفَر الباقر
وَالزهْرِيّ وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم أَنهم
قَالُوا: يَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، وروى
ابْن جرير بِإِسْنَادِهِ عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ:
(وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم النَّحْر
عِنْد الجمرات فِي حجَّة الْوَدَاع، وَقَالَ: هَذَا يَوْم
الْحَج الْأَكْبَر) ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم
وَابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث أبي جَابر واسْمه مُحَمَّد بن
عبد الْملك بِهِ، وَعَن سعيد بن الْمسيب أَنه قَالَ: يَوْم
الْحَج الْأَكْبَر الْيَوْم الثَّانِي من يَوْم النَّحْر.
رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم، وَقَالَ مُجَاهِد أَيْضا: يَوْم
الْحَج الْأَكْبَر أَيَّام الْحَج كلهَا، وَكَذَا قَالَ
أَبُو عبيد. وَقَالَ سهل السراج: سُئِلَ الْحسن
الْبَصْرِيّ عَن يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، فَقَالَ: مَا
لكم وللحج الْأَكْبَر ذَاك عَام حج فِيهِ أَبُو بكر رَضِي
الله عَنهُ، الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فحج بِالنَّاسِ، رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم،
وَقَالَ ابْن جرير: حَدثنَا ابْن وَكِيع حَدثنَا أَبُو
أُسَامَة عَن ابْن عَوْف. سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي: ابْن
سِيرِين عَن يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، قَالَ: كَانَ
يَوْمًا وَافق فِيهِ حج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَحج أهل الْوَبر. قَوْله: (أَن الله بَرِيء من
الْمُشْركين) أَي: ليعلم النَّاس بَعضهم بَعْضًا (أَن
الله) وقرىء (إِن الله) بِالْكَسْرِ لِأَن الإيذان فِي
معنى القَوْل. قَوْله: (وَرَسُوله) فِيهِ قراءتان الرّفْع
وَهِي الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة وَمَعْنَاهُ: وَرَسُوله
أَيْضا برىء من الْمُشْركين، وَالنّصب وَمَعْنَاهُ: وَأَن
رَسُول الله بَرِيء من الْمُشْركين، وَهِي قِرَاءَة
شَاذَّة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَرَسُوله، عطف على
الْمَنوِي فِي: بَرِيء أَي: بَرِيء، هُوَ أَو على مَحل:
إِن الْمَكْسُورَة وَاسْمهَا، وقرىء بِالنّصب عطفا على إسم
إِن، أَو لِأَن الْوَاو بِمَعْنى: مَعَ أَي: برىء مَعَه
مِنْهُم، وبالجر على الْجوَار، وَقيل: على الْقسم
كَقَوْلِك: لعمرك. قَوْله: (فَإِن تبتم) أَي: من الْغدر
وَالْكفْر {فَهُوَ خير لكم وَإِن توليتم} عَن التَّوْبَة
أَو ثبتمْ على التولي والإعراض عَن الْإِسْلَام
وَالْوَفَاء، فاعلموا أَنكُمْ غير سابقين الله وَلَا
فائتين أَخذه وعقابه. قَوْله: (إِلَّا الَّذين) ،
اسْتثِْنَاء من: برىء، وَقيل:
(18/261)
مُنْقَطع أَي: أَن الله بَرِيء مِنْهُم
وَلَكِن الَّذين عاهدتم فثبتوا على الْعَهْد فكفوا عَنْهُم
بَقِيَّة الْمدَّة. قَوْله: (ثمَّ لم ينقصوكم شَيْئا) ،
أَي: من شُرُوط الْعَهْد، وقرىء بالضاد الْمُعْجَمَة.
قَوْله: (وَلم يظاهروا) أَي: وَلم يعاونوا عَلَيْكُم أحدا.
قَوْله: (إِلَى مدتهم) ، أَي إِلَى انْقِضَاء مدتهم.
قَوْله: {إِن الله يحب الْمُتَّقِينَ} أَي: الْمُوفينَ
بعهدهم.
آذَنَهُمْ أعْلَمَهُمْ
أَي: معنى آذنهم أعلمهم، وَالْمرَاد بِهِ مُطلق
الْإِعْلَام لِأَنَّهُ من الإيذان، وَقد ذَكرْنَاهُ.
4656 - ح دَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ حدّثنا اللَّيْثُ
حدّثني عُقَيْلٌ قَالَ ابنُ شِهابٍ فأخْبرني حُمَيْدُ ابنُ
عبدِ الرَّحْمانِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ بَعَثَنِي
أبُو بَكْرٍ رضيَ الله عَنهُ فِي تِلْكَ الحَجَّةِ فِي
المُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْر يُؤَذِّنونَ
بِمنًى أنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ ولاَ
يَطوفَ بالبَيْتِ عُرْيانٌ قَالَ حُمَيْدٌ ثُمَّ أرْدَفَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ
فأمَرَهُ أنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ
فأذّنَ مَعَنا عَلِيٌّ فِي أهلِ منى يَوْمَ النَّحْرِ
بِبَرَاءَةَ وأنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ
وَلَا يَطُوفَ بالبَيْتِ عُرْيان. .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور
قبل هَذَا الْبَاب. قَوْله: (أَن لَا يحجّ) ويروى: ألاَّ
بِفَتْح الْهمزَة وإدغام النُّون فِي اللَّام. قَوْله:
(بعد الْعَام) أَي: بعد الزَّمَان الَّذِي وَقع فِيهِ
الْإِعْلَام بذلك. قَوْله: (وَلَا يطوف) بِالنّصب عطفا على
أَن لَا يحجّ. قَوْله: (قَالَ حميد) هُوَ ابْن عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف الْمَذْكُور فِيهِ، وَاسْتشْكل
الطَّحَاوِيّ فِي قَوْله: أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ:
بَعَثَنِي أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ، وَذَلِكَ أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث أَبَا بكر ثمَّ
أردفه عليا رَضِي الله عَنهُ، فَأمره أَن يُؤذن فَكيف
يبْعَث أَبُو بكر أَبَا هُرَيْرَة؟ ثمَّ أجَاب بقوله: إِن
أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: كنت مَعَ عَليّ حِين بَعثه
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبَرَاءَة إِلَى أهل
مَكَّة، فَكنت أنادي مَعَه بذلك حَتَّى يصهل صوتي، وَكَانَ
يُنَادي بِأَمْر أبي بكر، بِمَا يلقنه عَليّ بِمَا أَمر
بتبليغه. قَوْله: (أَن يُؤذن بِبَرَاءَة) يجوز فِيهِ
الرّفْع بِالتَّنْوِينِ على سَبِيل الْحِكَايَة. والجر
بِالْبَاء، وَيجوز أَن يكون عَلامَة الْجَرّ فَتْحة.
قَوْله: (قَالَ أَبَا هُرَيْرَة) مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور. قَوْله: (بِبَرَاءَة) . لَيْسَ المُرَاد
مِنْهَا السُّورَة كلهَا، وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب
الْقرظِيّ وَغَيره، قَالُوا: بعث رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر أَمِيرا على الْمَوْسِم سنة تسع،
وَبعث عَليّ بن أبي طَالب بِثَلَاثِينَ آيَة أَو
أَرْبَعِينَ من بَرَاءَة الحَدِيث. قَوْله: (وَأَن لَا
يحجّ) إِلَى آخِره، اسْتشْكل فِيهِ الْكرْمَانِي بِأَن
عليا رَضِي الله عَنهُ، كَانَ مَأْمُورا بِأَن يُؤذن
بِبَرَاءَة، فَكيف يُؤذن بِأَن لَا يحجّ بعد الْعَام
مُشْرك؟ ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ أذن بِبَرَاءَة، وَمن جملَة
مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك
من قَوْله تَعَالَى فِيهَا: {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس
فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد عَامهمْ هَذَا}
(التَّوْبَة: 28) وَيحْتَمل أَن يكون أَمر أَن يُؤذن
بِبَرَاءَة وَبِمَا أَمر أَبُو بكر أَن يُؤذن بِهِ أَيْضا،
انْتهى. قلت: فَإِنَّهُ الْجَواب عَن زِيَادَة قَوْله:
(وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان) وَعَن شَيْء آخر
رَوَاهُ الشّعبِيّ: حَدثنِي مُحرز بن أبي هُرَيْرَة عَن
أَبِيه قَالَ: كنت مَعَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ، حِين
بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُنَادي، فَكَانَ
إِذا صَهل ناديت. قلت: بِأَيّ شَيْء كُنْتُم تنادون؟
قَالَ: بِأَرْبَع لَا يطوف بِالْكَعْبَةِ عُرْيَان، وَمن
كَانَ لَهُ عهد من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فعهده إِلَى مدَّته، وَلَا يدْخل الْجنَّة إلاَّ نفس
مُؤمنَة، وَلَا يحجّ بعد عامنا مُشْرك. وَرَوَاهُ ابْن
جرير عَن الشّعبِيّ بِهِ من غير وَجه.
4 - (بَاب: {إلاّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ
المُشْرِكِينَ} (التَّوْبَة: 4)
قد مر تَفْسِيره عَن قريب، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ ذكر
هَذِه.
4657 - ح دَّثنا إسْحَاقُ حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ
إبْرَاهِيمَ حدّثنا أبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابنِ شِهَابٍ
أنَّ حُمَيْدَ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ أخْبَرَهُ أنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ أخْبَرَهُ أنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِي الله
عنْهُ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أمَّرَهُ رَسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ
الوَداعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ
(18/262)
أنْ لاَ يَحُجَنَّ بَعْدَ الْعَامِ
مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيانٌ فَكان
حُمَيْدٌ يَقُولُ يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ
الأَكْبَرِ مِنْ أجْلِ حَدِيثِ أبي هُرَيْرَةَ. .
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور
أخرجه عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، كَذَا جزم بِهِ الْحَافِظ
الْمزي عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه ابراهيم بن
سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن صَالح
بن كيسَان التَّابِعِيّ عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن. وَفِيه ثَلَاثَة
من التَّابِعين على نسق وَاحِد. قَوْله: (فَكَانَ حميد
يَقُول) إِلَى آخِره، قد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
قَوْله: (من أجل حَدِيث أبي هُرَيْرَة) لِأَنَّهُ نَادَى
بِإِذن أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، يَوْم النَّحْر.
5 - (بَاب: {فَقَاتِلُوا أئِمَّةَ الْكُفْر إنهُمْ لاَ
أيْمانَ لَهُمْ} (التَّوْبَة: 12)
وَفِي بعض النّسخ: بَاب: {فَقَاتلُوا} وَأول الْآيَة:
{وَإِن نكثوا إِيمَانهم من بعد عَهدهم وطعنوا فِي دينكُمْ
فَقَاتلُوا أَئِمَّة الْكفْر إِنَّهُم لَا أَيْمَان لَهُم
لَعَلَّهُم ينتهون} قَوْله: (وَإِن نكثوا) أَي: وَإِن نكث
هَؤُلَاءِ الْمُشْركُونَ الَّذين عاهدتموهم على مُدَّة
مُعينَة، قَوْله إِيمَانهم أَي عهودهم وَعَن الْحسن
الْبَصْرِيّ بِكَسْر الْهمزَة وَهِي قِرَاءَة شَاذَّة
قَوْله وطعنوا فِي دينكُمْ أَي عابوه وَانْتَقَصُوهُ
قَوْله: (فَقَاتلُوا أَئِمَّة الْكفْر) قَالَ قَتَادَة
وَغَيره: أَئِمَّة الْكفْر كَأبي جهل وَعتبَة وَشَيْبَة
وَأُميَّة بن خلف وَعدد رجَالًا، وَالصَّحِيح أَن الْآيَة
عَامَّة لَهُم ولغيرهم. وَعَن حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ:
مَا قوتل أهل هَذِه الْآيَة بعد. وَرُوِيَ عَن عَليّ بن
أبي طَالب مثله وَعَن ابْن عَبَّاس: نزلت فِي أبي سُفْيَان
بن حَرْب والْحَارث بن هِشَام وَسُهيْل بن عَمْرو
وَعِكْرِمَة بن أبي جهل وَسَائِر رُؤَسَاء قُرَيْش الَّذين
نقضوا الْعَهْد وهم الَّذين همُّوا بِإِخْرَاج الرَّسُول
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ مجاهدهم: أهل فَارس
وَالروم.
4658 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى حدَّثنا يَحْيَى
حدَّثنا إسْماعيلُ حدَّثنا زَيْدُ بنُ وَهْبٍ قَالَ كُنا
عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ مَا بَقِيَ مِنْ أصْحابِ هاذِهِ
الْآيَة إلاَّ ثَلاثَةٌ ولاَ مِنَ المُنافِقِينَ إِلَّا
أرْبَعَةٌ فَقَالَ أعْرَابِيٌّ إنكُمْ أصْحابَ مُحَمَّدٍ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تُخْبِرُونا فَلاَ نَدْرِي فَما
بَال هاؤُلاَءِ الَّذِينَ يُبَقِّرُونَ بُيُوتنا
ويَسْرِقُونَ أعْلاَقَنا قَالَ أُولَئِكَ الفُسَّاقُ أجَلْ
لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلاَّ أرْبَعَةٌ أحَدُهُمْ شَيْخٌ
كَبِيرٌ لَوْ شَرِبَ المَاءَ البارِدَ لَما وَجَدَ
بَرْدَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَا بَقِي من أَصْحَاب
هَذِه الْآيَة) لِأَن إِيرَاد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث
بِهَذِهِ التَّرْجَمَة يدل على أَن المُرَاد بِهَذِهِ
الْآيَة هُوَ. قَوْله: {فَقَاتلُوا أَئِمَّة الْكفْر}
الْآيَة، وَلَكِن الْإِسْمَاعِيلِيّ اعْترض بِمَا رَوَاهُ
من حَدِيث سُفْيَان عَن إِسْمَاعِيل عَن زيد: سَمِعت
حُذَيْفَة يَقُول: مَا بَقِي من الْمُنَافِقين من أهل
هَذِه الْآيَة: {لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ
أَوْلِيَاء} (الممتحنة: 1) إِلَّا أَرْبَعَة أنفس، ثمَّ
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَإِذا كَانَ مَا ذكر فِي خبر
سُفْيَان فَحق هَذَا أَن يخرج فِي سُورَة الممتحنة. وَأما
ذكر الْمُنَافِقين فِي الْقُرْآن فَفِي كثير من سُورَة
الْبَقَرَة وَآل عمرَان وَغَيرهمَا، فَلِمَ أَتَى بِهَذَا
الحَدِيث فِي ذكرهم؟ قلت: هَذَا النَّسَائِيّ وَابْن
مرْدَوَيْه وافقا البُخَارِيّ على إخراجهما من طَرِيق
إِسْمَاعِيل عِنْد آيَة بَرَاءَة وَلَيْسَ عِنْدهمَا
تعْيين الْآيَة كَمَا أخرجهَا البُخَارِيّ أَيْضا
مُبْهمَة.
وَيحيى هُوَ الْقطَّان وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أبي
خَالِد.
قَوْله: (أَصْحَاب) بِالنّصب على أَنه منادى حذف مِنْهُ
حرف النداء. قَوْله: (تخبرونا) خبر: إِن، ويروى: تخبروننا،
على الأَصْل لِأَن النُّون لَا تحذف إلاَّ بناصب أَو جازم،
وَلَكِن قد ذكرنَا أَنه لُغَة بعض الْعَرَب وَهِي لُغَة
فصيحة، وتخبرونا بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف. قَوْله:
(إلاَّ ثَلَاثَة) سمى مِنْهُم فِي رِوَايَة أبي بشر عَن
مُجَاهِد: أَبُو سُفْيَان بن حَرْب، وَفِي رِوَايَة معمر
عَن قَتَادَة: أَبُو جهل بن هِشَام وَعتبَة بن ربيعَة
وَأَبُو سُفْيَان وَسُهيْل بن عَمْرو، ورد هَذَا بِأَن
أَبَا جهل وَعتبَة قتلا ببدر، وَإِنَّمَا ينطبق
التَّفْسِير على من نزلت الْآيَة الْمَذْكُورَة وهم
أَحيَاء، فَيصح فِي أَن أَبَا سُفْيَان وَسُهيْل بن عَمْرو
وَقد أسلما جَمِيعًا. قَوْله: (إلاَّ أَرْبَعَة) لم يُوقف
على أسمائهم.
(18/263)
قَوْله: (يبقرون) بِالْبَاء الْمُوَحدَة
وَالْقَاف من الْبَقر وَهُوَ الشق. قَالَ الْخطابِيّ: أَي:
ينقبون. قَالَ: وَالْبَقر أَكثر مَا يكون فِي الشّجر
والخشب، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: مَعْنَاهُ يفتحون،
يُقَال: بقرت الشَّيْء إِذا فَتحته، وَيُقَال: ينقرون
بالنُّون بدل الْبَاء. قَوْله: (أعلاقنا) بِفَتْح الْهمزَة
جمع علق بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَهُوَ الشَّيْء
النفيس سمي بذلك لتَعلق الْقلب بِهِ، وَالْمعْنَى: يسرقون
نفائس أَمْوَالنَا. وَقَالَ الْخطابِيّ: كل شَيْء لَهُ
قيمَة أَو لَهُ فِي نَفسه قدر فَهُوَ علق، وبخط الدمياطي
بالغين الْمُعْجَمَة مضبوطة، وَحَكَاهُ ابْن التِّين
أَيْضا، ثمَّ قَالَ: لَا أعلم لَهُ وَجها. قلت لَهُ: وَجه،
لِأَن الأغلاق بالغين الْمُعْجَمَة جمع غلق بِفَتْح
الْغَيْن وَاللَّام، وَفِي (الْمغرب) : الغلق
بِالتَّحْرِيكِ والمغلاق هُوَ مَا يغلق وَيفتح بالمفتاح،
والغلق أَيْضا الْبَاب، فَيكون الْمَعْنى: يسرقون الأغلاق
أَي: مَفَاتِيح الأغلاق ويفتحون الْأَبْوَاب وَيَأْخُذُونَ
مَا فِيهِ من الْأَشْيَاء، أَو يكون الْمَعْنى: يسرقون
الْأَبْوَاب وَتَكون السّرقَة كِنَايَة عَن قلعهَا
وَأَخذهَا ليتمكنوا من الدُّخُول فِيهَا. قَوْله:
(أُولَئِكَ الْفُسَّاق) أَي: الَّذين يبقرون
وَيَسْرِقُونَ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَا الْكفَّار وَلَا
المُنَافِقُونَ. قَوْله: (أجل) . مَعْنَاهُ: نعم قَوْله:
(أحدهم) أَي: أحد الْأَرْبَعَة وَلم يدر اسْمه. قَوْله:
(لما وجد برده) يَعْنِي: لذهاب شَهْوَته وَفَسَاد معدته
فَلَا يفرق بَين الْأَشْيَاء، وَقَالَ التَّيْمِيّ:
يَعْنِي عاقبه الله فِي الدُّنْيَا ببلاء لَا يجد مَعَه
ذوق المَاء وَلَا طعم برودته. انْتهى. وَحَاصِل معنى هَذَا
الحَدِيث أَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ،
كَانَ صَاحب سر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
شَأْن الْمُنَافِقين وَكَانَ يعرفهُمْ وَلَا يعرفهُمْ
غَيره بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْبشر،
وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أسر إِلَيْهِ
بأسماء عدَّة من الْمُنَافِقين وَأهل الْكفْر الَّذين نزلت
فيهم الْآيَة، وَلم يسر إِلَيْهِ بأسماء جَمِيعهم.
6 - (بابُ قوْلِهِ: {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
والفِضّةَ وَلَا يَنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ الله
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ} (التَّوْبَة: 34)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: (وَالَّذين) الْآيَة،
وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ ذكر لفظ: بَاب، وَهَذِه الْآيَة
نزلت فِي عَامَّة أهل الْكتاب وَالْمُسْلِمين، وَقيل: بل
خَاصَّة بِأَهْل الْكتاب، وَقيل: بل هُوَ كَلَام
مُسْتَأْنف فِي حق من لَا يُزكي من هَذِه الْأمة. قَالَه
ابْن عَبَّاس وَالسُّديّ وَعَامة الْمُفَسّرين: وَقَرَأَ
يحيى بن يعمر، بِضَم النُّون وَالزَّاي والعامة بِكَسْر
النُّون، وَأما الْكَنْز فَقَالَ مَالك: عَن عبد الله ابْن
دِينَار عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: الْكَنْز هُوَ المَال
الَّذِي لَا تُؤدِّي مِنْهُ الزَّكَاة وَهُوَ الْمُسْتَحق
عَلَيْهِ الْوَعيد. قَوْله: (وَلَا يُنْفِقُونَهَا)
الضَّمِير يرجع إِلَى الذَّهَب وَالْفِضَّة من جِهَة
الْمَعْنى لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا جملَة وافية وعدة
كَثِيرَة، وَقيل: إِلَى الْكُنُوز، وَقيل: إِلَى
الْأَمْوَال. قَوْله: (فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم) جعل
الْوَعيد لَهُم بِالْعَذَابِ مَوضِع الْبُشْرَى بالنعيم.
4659 - ح دَّثنا الحَكَمُ بنُ نافِعٍ أخبرَنا شُعَيْبٌ
حَدثنَا أبُو الزّنادِ أنَّ عبْدَ الرَّحْمانِ الأعْرَجَ
حدَّثَهُ أنّهُ قَالَ حدّثني أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله
عَنهُ أنّهُ سَمِعَ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُولُ يَكُونُ كَنْزُ أحَدِكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ
شُجاعاً أقرَعَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (شجاعاً أَقرع)
وَأخرجه هُنَا مُخْتَصرا وَقد مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي:
بَاب إِثْم مَانع الزَّكَاة، بِغَيْر هَذَا الْإِسْنَاد
عَن أبي هُرَيْرَة بأتم مِنْهُ، وَأخرج بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور هُنَا بِعَيْنِه عَن أبي هُرَيْرَة بِعَين
الْمَتْن الْمَذْكُور. وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي
وبالنون الْخَفِيفَة: عبد الله بن ذكْوَان، وَعبد
الرَّحْمَن هُوَ ابْن هُرْمُز الْأَعْرَج، والشجاع
الْحَيَّة فَإِذا كَانَ الشجاع أَقرع يكون أقوى سما.
4660 - ح دَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثَنا جَرِيرٌ
عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ زَيْدِ بنِ وَهْب قَالَ مَرَرْتُ عَلَى
أَبى ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ فَقُلْتُ مَا أنْزَلَكَ بهاذِهِ
الأَرْضِ قَالَ كُنَّا بالشَّأْمِ فَقَرَأتُ: {والذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَها
فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ} قالَ
مُعاوِيَة: مَا هاذِهِ فِينَا مَا هاذِهِ إلاَّ فِي أهْلِ
الكِتَابِ قَالَ قُلْتُ إنَّها لَفِينا وَفِيهمْ. .
(18/264)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَجَرِير
هُوَ ابْن عبد الحميد، وحصين، بِضَم الْحَاء وَفتح الصَّاد
الْمُهْمَلَتَيْنِ: ابْن عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ
الْكُوفِي، وَزيد بن وهب الْهَمدَانِي الْكُوفِي خرج إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقبض النَّبِي وَهُوَ
فِي الطَّرِيق، مَاتَ سنة سِتّ وَسبعين، وَأَبُو ذَر اسْمه
جُنْدُب بِضَم الْجِيم.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب مَا أدّى
زَكَاته فَلَيْسَ بكنز، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ بأتم
مِنْهُ وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (بالربذة) ، بالراء الْمُهْملَة وَالْبَاء
الْمُوَحدَة والذال الْمُعْجَمَة المفتوحات: قَرْيَة
قريبَة من الْمَدِينَة وَكَانَ سَبَب إِقَامَته هُنَاكَ
أَنه لما كَانَ بِالشَّام وَقعت بَينه وَبَين مُعَاوِيَة
مناظرة فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة، فتضجر خاطره فارتحل
إِلَى الْمَدِينَة ثمَّ تضجر مِنْهَا فارتحل إِلَى
الربذَة.
7 - (بابُ قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: {يَوْمَ يُحْمَى
عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَي بِها جِباهُهُمْ
وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ هاذَا مَا كَنَزْتُمْ
لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}
(التَّوْبَة: 35)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عزل وَجل: {يَوْم يحمى
عَلَيْهَا} الْآيَة، وَلَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ:
بَاب، وَمضى تَفْسِير هَذِه الْآيَة فِي كتاب الزَّكَاة
فِي: بَاب إِثْم مَانع الزَّكَاة.
4661 - وَقَالَ أحْمَدُ بنُ شَبِيبِ بنِ سَعِيدٍ حَدثنَا
أبي عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ خالِدِ بنِ أسْلَمَ
قَالَ خَرَجْنا مَعَ عبْدِ الله بنِ عُمَرَ فَقَالَ هاذَا
قَبْلَ أنْ تُنْزَلَ الزَّكاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ
جَعَلَها طُهْراً لِلأَمْوَالِ. (انْظُر الحَدِيث 1404) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله هَذَا قبل أَن
تنزل الزَّكَاة، وَأحمد بن شبيب. بِفَتْح الشين
الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الأولى: من
أَفْرَاد البُخَارِيّ يروي عَن أَبِيه شبيب بن سعيد أبي
عبد الرَّحْمَن الْبَصْرِيّ، وَيُونُس بن يزِيد
الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ،
وخَالِد بن أسلم على وزن أفعل التَّفْضِيل أَخُو زيد بن
أسلم مولى عمر بن الْخطاب، وَهُوَ من أَفْرَاد
البُخَارِيّ. والْحَدِيث مضى بِهَذَا السَّنَد بِعَيْنِه
فِي كتاب الزَّكَاة فِي: بَاب مَا أدّى زَكَاته فَلَيْسَ
بكنز، بأتم مِنْهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
8 - (بابُ قَوْلِهِ: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله
اثْنَا عشَرَ شَهْراً فِي كتابِ الله يَوْمَ خَلَقَ
السَّماوَاتِ والأرْضَ مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ}
(التَّوْبَة: 36)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {إِن عدَّة
الشُّهُور} إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ:
بَاب.
{ذالِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} القَيِّمُ هُوَ القائِمُ
أَي: هَذَا هُوَ الشَّرْع الْمُسْتَقيم من امْتِثَال أَمر
الله عز وَجل فِيمَا جعل من الْأَشْهر الْحرم والحذو بهَا
على ماسبق فِي كتاب الله تَعَالَى، وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: {ذَلِك الدّين الْقيم} يَعْنِي: أَن
تَحْرِيم الْأَشْهر الْأَرْبَعَة هُوَ الدّين الْمُسْتَقيم
دين إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام.
قَوْله: (الْقيم) على وزن فعل بتَشْديد الْعين مُبَالغَة
فِي معنى الْقَائِم، وَفِي بعض التفاسير: {ذَلِك الدّين
الْقيم} أَي: الْحساب الْمُسْتَقيم الصَّحِيح وَالْعدَد
المستوي، قَالَه الْجُمْهُور.
فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
أَي: فِي الْأَرْبَعَة الْأَشْهر، وَقيل فِي الإثني عشر
بِالْقِتَالِ، ثمَّ نسخ وَقيل: بارتكاب الآثام.
182 - (حَدثنَا عبد الله بن عبد الْوَهَّاب حَدثنَا
حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد عَن ابْن أبي
بكرَة عَن أبي بكرَة عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ
كَهَيْئَته يَوْم خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض السّنة
اثْنَا عشر شهرا مِنْهَا أَرْبَعَة حرم ثَلَاث
مُتَوَالِيَات ذُو الْقعدَة
(18/265)
وَذُو الْحجَّة وَالْمحرم وَرَجَب مُضر الَّذِي بَين
جُمَادَى وَشَعْبَان) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَعبد
الله بن عبد الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي
الْبَصْرِيّ وَأَيوب هُوَ السّخْتِيَانِيّ وَمُحَمّد هُوَ
ابْن سِيرِين وَابْن أبي بكرَة هُوَ عبد الرَّحْمَن يروي
عَن أَبِيه أبي بكرَة نفيع بن الْحَارِث والْحَدِيث مضى
فِي أَوَائِل بَدْء الْخلق فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن
مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب عَن أَيُّوب عَن
مُحَمَّد بن سِيرِين إِلَى آخِره قَوْله إِن الزَّمَان
المُرَاد بِهِ السّنة قد اسْتَدَارَ المُرَاد بالاستدارة
انْتِقَال الزَّمَان إِلَى هَيئته الأولى وَذَلِكَ أَن
الْعَرَب كَانُوا يؤخرون الْمحرم إِلَى صفر وَهُوَ النسيء
لِيُقَاتِلُوا فِيهِ ويفعلون ذَلِك سنة بعد سنة فَينْتَقل
الْمحرم من شهر إِلَى شهر حَتَّى يَجْعَلُوهُ فِي جَمِيع
شهور السّنة قَوْله كَهَيْئَته أَي على الْوَضع الَّذِي
كَانَ قبل النسيء لَا زَائِدا فِي الْعدَد وَلَا مغيرا كل
شهر عَن مَوْضِعه قَوْله مُتَوَالِيَات أَي مُتَتَابِعَات
قَوْله وَرَجَب مُضر إِنَّمَا أضيف رَجَب إِلَى مُضر
الَّتِي هِيَ الْقَبِيلَة لأَنهم كَانُوا يعظمونه وَلم
يغيروه عَن مَكَانَهُ وَرَجَب من الترجيب وَهُوَ
التَّعْظِيم وَيجمع على أرجاب ورجاب ورجبات وَقَوله بَين
جُمَادَى وَشَعْبَان تَأْكِيد وَالْمرَاد بجمادى جُمَادَى
الْآخِرَة وَقد يذكر وَيُؤَنث فَيُقَال جُمَادَى الأول
وَالْأولَى وجمادى الآخر وَالْآخِرَة وَيجمع على جمادات
كحبارى وحباريات وَسمي بذلك لجمود المَاء فِيهِ قلت
كَأَنَّهُ حِين وضع أَولا اتّفق جمود المَاء فِيهِ
وَإِلَّا فالشهور تَدور - |