عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 9 - (بابُ قَوْلِهِ: {ثانِيَ اثْنَيْنِ
إِذْ هُما فِي الغارِ إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ
إنَّ الله مَعَنا} (التَّوْبَة: 40) أَي: ناصِرُنا)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {ثَانِي اثْنَيْنِ}
إِلَى آخِره، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب، وَقيل:
ثَانِي اثْنَيْنِ {إلاَّ تنصروه فقد نَصره الله إِذا خرجه
الَّذين كفرُوا ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هما فِي الْغَار}
الْآيَة. قَوْله: (إِلَّا تنصروه) أَي إلاَّ تنصرُوا
رَسُوله مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن الله
ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كَمَا تولى نَصره (إِذْ أخرجه
الَّذين كفرُوا) أَي حِين أخرجه مشركو مَكَّة وَذَلِكَ
عَام الْهِجْرَة حِين هموا بقتْله أَو حَبسه أَو نَفْيه.
قَوْله: (ثَانِي اثْنَيْنِ) أَي: أحد الْإِثْنَيْنِ،
كَقَوْلِك: ثَالِث ثَلَاثَة، وهما رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَأَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ.
وانتصابه على الْحَال، وقرىء: ثَانِي اثْنَيْنِ،
بِالسُّكُونِ قَوْله: (إِذْ هما) بدل من قَوْله: (إِذْ
أخرجه الَّذين كفرُوا) والغار ثقب فِي أَعلَى ثَوْر وَهُوَ
جبل مَشْهُور بالمفجر من خلف مَكَّة من طَرِيق الْيمن،
وَهُوَ الْمَعْرُوف بثور أطحل، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
وَهُوَ جبل فِي يمنى مَكَّة على مسيرَة سَاعَة. قَوْله:
(إِذْ يَقُول:) بدلٌ ثانٍ. قَوْله: (لصَاحبه) هُوَ أَبُو
بكر رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (أَي ناصرنا) هَذَا
تَفْسِير قَوْله: (مَعنا) .
السكِينَةُ فَعِيلَةٌ مِنَ السُّكُونِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِ
وأيده} الْآيَة، ثمَّ أَشَارَ إِلَى أَن وزن السكينَة:
فعيلة، وَأَنه مُشْتَقّ من السّكُون، وَفِي التَّفْسِير:
{فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِ} أَي: تأييده، وَنَصره
عَلَيْهِ أَي: على رَسُوله فِي أشهر الْقَوْلَيْنِ، وَقيل:
على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس
وَغَيره، قَالُوا: لِأَن الرَّسُول لم تزل مَعَه سكينَة،
وَهَذَا لَا يُنَافِي تَجْدِيد سكينَة خَاصَّة بِتِلْكَ
الْحَال، وَلِهَذَا قَالَ: {أيده بِجُنُود لم تَرَوْهَا}
أَي: الْمَلَائِكَة.
4663 - ح دَّثنا عبْدُ الله بن مُحَمَّدٍ حَدثنَا حَبَّانُ
حَدثنَا هَمَّامٌ حدّثنا ثابِتٌ حَدثنَا أنَسٌ قَالَ
حدّثني أبُو بَكرٍ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغارِ فَرَأيْتُ
آثارَ المُشْرِكِينَ قُلْتُ يار سُولَ الله لوْ أنَّ
أحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنا قَالَ مَا ظَنَّكَ
بإثْنَيْنِ الله ثالِثُهُما. (انْظُر الحَدِيث 3653 وطرفه)
.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبد الله بن مُحَمَّد
أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف
بالسندي، وحبان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد
الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن هِلَال الْبَاهِلِيّ، وَهَمَّام
بتَشْديد الْمِيم الأولى ابْن يحيى العوذي، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالذال الْمُعْجَمَة، وثابت
بن أسلم الْبنانِيّ وَلم يَأْتِ إِسْنَاد إِلَى هُنَا مثل
هَذَا الْإِسْنَاد، فَإِن رُوَاته كلهم بِالتَّحْدِيثِ
الصّرْف، والْحَدِيث مضى فِي مَنَاقِب أبي بكر رَضِي الله
عَنهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن سِنَان
عَن همام ... إِلَى آخِره. وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.
(18/266)
4664 - ح دَّثنا عبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ
حدّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عنِ ابنِ أبي
مُلَيْكَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّهُ
قَالَ حِينَ وقَعَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ابنِ الزُّبَيْرِ
قُلْتُ أبُوهُ الزُّبَيْرُ وأُمُّهُ أسْماءُ وخالَتُهُ
عائِشَةُ وجَدَّهُ أبُو بَكْرٍ وجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ
فَقُلْتُ لِسُفْيانَ إسْنادُهُ فَقَالَ حدّثنا فَشَغَلَهُ
إنْسانٌ ولَمْ يَقلِ ابنُ جُرَيْجٍ.
عبد الله بن مُحَمَّد هَذَا هُوَ الْمَذْكُور فِيمَا قبله
فَإِنَّهُ أخرج عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب ثَلَاثَة
أَحَادِيث مُتَوَالِيَات كَمَا ترَاهُ، وَيُمكن أَن يكون
وَجه الْمُطَابقَة فِي هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة وَفِي
الحَدِيث الَّذِي بعده من حَيْثُ كَونهم من رِوَايَة عبد
الله بن مُحَمَّد، ويكتفي بِهَذَا الْمِقْدَار على أَن فِي
هَذَا الحَدِيث ذكر أَسمَاء وَعَائِشَة فِي معرض فضيلتهما
المستلزمة لفضل أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِي
التَّرْجَمَة الْإِشْعَار بِفضل أبي بكر.
وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان، وَابْن جريج هُوَ عبد
الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَابْن أبي مليكَة هُوَ
عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة، وَقد تكَرر
ذكرهم.
قَوْله: (حِين وَقع بَينه وَبَين ابْن الزبير) أَي: حِين
وَقع بَين ابْن عَبَّاس وَبَين عبد الله بن الزبير. رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم، وَذَلِكَ بِسَبَب الْبيعَة،
وَمُلَخَّص ذَلِك أَن مُعَاوِيَة لما مَاتَ امْتنع ابْن
الزبير من الْبيعَة ليزِيد بن مُعَاوِيَة وأصر على ذَلِك،
وَلما بلغه خبر موت يزِيد بن مُعَاوِيَة دَعَا ابْن الزبير
إِلَى نَفسه فبويع بالخلافة وأطاعه أهل الْحجاز ومصر وعراق
وخراسان وَكثير من أهل الشَّام، ثمَّ جرت أُمُور حَتَّى
آلت الْخلَافَة إِلَى عبد الْملك، وَذَلِكَ كُله فِي سنة
أَربع وَسِتِّينَ، وَكَانَ مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي طَالب
الْمَعْرُوف بِابْن الْحَنَفِيَّة وَعبد الله بن عَبَّاس
مقيمين بِمَكَّة مُنْذُ قتل الْحُسَيْن، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فدعاهما ابْن الزبير إِلَى الْبيعَة لَهُ
فامتنعا وَقَالا: لَا نُبَايِع حَتَّى يجْتَمع النَّاس على
خَليفَة، وتبعهما على ذَلِك جمَاعَة فَشدد عَلَيْهِم ابْن
الزبير وحصرهم فَبلغ الْخَبَر الْمُخْتَار بن أبي عبيد
وَكَانَ قد غلب على الْكُوفَة وَكَانَ فر مِنْهُ من كَانَ
من قبل ابْن الزبير، فَجهز إِلَيْهِم جَيْشًا فأخرجوهما
واستأذنوهما فِي قتال ابْن الزبير فامتنعا، وخرجا إِلَى
الطَّائِف فأقاما بهَا حَتَّى مَاتَ ابْن عَبَّاس فِي سنة
ثَمَان وَسِتِّينَ، ورحل ابْن الْحَنَفِيَّة بعده إِلَى
جِهَة رضوى جبل يَنْبع فَأَقَامَ هُنَاكَ، ثمَّ أَرَادَ
دُخُول الشَّام فَتوجه إِلَى نَحْو أَيْلَة فَمَاتَ فِي
آخر سنة ثَلَاثَة أَو أول سنة أَربع وَسبعين، وَذَلِكَ
عقيل قتل ابْن الزبير على الصَّحِيح. قَوْله: (قلت أَبوهُ
الزبير) ، الْقَائِل هُوَ ابْن أبي مليكَة يعدد بِهَذَا
إِلَى آخِره شرف ابْن الزبير وفضله واستحقاقه الْخلَافَة
مثل الَّذِي يُنكر على ابْن عَبَّاس على امْتِنَاعه من
الْبيعَة لَهُ، يَقُول: أَبوهُ عبد الله هُوَ الزبير بن
الْعَوام أحد الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ. وَأمه
أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، وخالته عَائِشَة لِأَنَّهَا
أُخْت أَسمَاء، وجدته صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب وَهِي أم
الزبير. قَوْله: (فَقلت لِسُفْيَان) ، الْقَائِل هُوَ عبد
الله بن مُحَمَّد شيخ البُخَارِيّ. قَوْله: (إِسْنَاده) ،
أَي: اذكر إِسْنَاده، وَيجوز بِالرَّفْع على تَقْدِير: مَا
هُوَ إِسْنَاده. قَوْله: (فَقَالَ: حَدثنَا) ، أَي: قَالَ
سُفْيَان: حَدثنَا فَشَغلهُ إِنْسَان بِكَلَام أَو نَحوه
وَلم يقل حَدثنَا ابْن جريج، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قد ذكر
الْإِسْنَاد أَولا فَمَا معنى السُّؤَال عنة؟ ثمَّ أجَاب
عَن كَيْفيَّة العنعنة بِأَنَّهَا بالواسطة وبدونها. قلت:
فَلذَلِك أخرج البُخَارِيّ الحَدِيث من وَجْهَيْن آخَرين
على مَا يَجِيء الْآن لأجل الِاسْتِظْهَار.
4665 - ح دَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثني
يَحْيَى بنُ مُعِينٍ حدَّثنا حَجَّاجٌ قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ
قَالَ ابنُ أبِي مُلَيْكَةَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ
فَغَدَوْتُ عَلَى ابنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ أتُرِيدُ أنْ
تُقَاتِلَ ابنَ الزُّبَيْرِ فَتُحِلُّ حَرَمَ الله فَقال
مَعاذَ الله إنَّ الله كَتَبَ ابنَ الزُّبَيْرِ وَبَنِي
أُمَيَّةَ مُحِلِّينَ وَإنِّي وَالله لَا أُحِلُّهُ أبَدا
قَالَ قَالَ النَّاسُ بَايِعْ لابْنِ الزُّبَيْرٍ فَقُلْتُ
وَأيْنَ بِهَذا الأمْرِ عَنْهُ أمّا أبُوهُ فَحَوَارِيَّ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيدُ الزُّبَيْرَ
وَأمَّا جَدُّهُ فَصَاحِبُ الغَارِ يُريدُ أبَا بَكْرٍ
وَأمَّا أُمُّهُ فَذَاتُ النِّطاق يُرِيدُ أسْمَاءَ
وَأمَّا خَالَتُهُ فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ يُرِيدُ
عَائِشَةَ وَأمّا عَمَّتُهُ فَزَوْجُ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُرِيدُ خَدِيجَةَ
(18/267)
وَأمَّا عَمَّةُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَجَدَّتُهُ يُرِيدُ صَفِيَّةَ ثُمَّ عَفِيفٌ فِي
الإسْلامِ قَارِىءٌ لِلْقُرْآنِ وَالله إنْ وَصَلُونِي
وَصَلُونِي مِنْ قَرِيبٍ وَإنْ رَبُّونِي رَبُّونِي
أكْفاءٌ كِرَامٌ فَآثَرَ التُّوَيْتاتِ وَالأُساماتِ
وَالحُمِيدَاتِ يُرِيدُ أبْطُنا مِنْ بَنِي أسَدٍ بَنِي
تُوَيْتٍ وَبَنِي أُسَامَةَ وَبَنِي حُمَيْدٍ إنَّ ابنَ
أبِي العَاصِ بَرَزَ يَمْشِي القُدَمِيَّةَ يَعْنِي عَبْدَ
المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ وَأنَّهُ لَوَّى ذَنْبَهُ يَعْنِي
ابنَ الزُّبَيْرِ. .
هَذَا الحَدِيث الثَّالِث من الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة
الَّتِي أخرجهَا عَن عبد الله بن مُحَمَّد الْمَذْكُور،
وَهُوَ يرويهِ عَن يحيى بن معِين، بِضَم الْمِيم، ابْن عون
أبي زَكَرِيَّا الْبَغْدَادِيّ عَن حجاج بن مُحَمَّد
المصِّيصِي إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَكَانَ بَينهمَا) أَي: بَين ابْن عَبَّاس وَابْن
الزبير، وَلَكِن لم يجر ذكرهمَا فَأَعَادَ الضَّمِير
إِلَيْهِمَا اختصارا. قَوْله: (شَيْء) يَعْنِي: مِمَّا
يصدر بَين المتخاصمين، وَقيل: الَّذِي وَقع بَينه وَبَين
ابْن الزبير كَانَ فِي بعض قِرَاءَة الْقُرْآن. قَوْله:
(فَغَدَوْت) ، من الغدو وَهُوَ الذّهاب. قَوْله: (فَقلت:
أَتُرِيدُ) ؟ الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل
الْإِنْكَار يُخَاطب بِهِ ابْن أبي مليكَة ابْن عَبَّاس.
قَوْله: (فَتحل) ، بِالنّصب من الْإِحْلَال. قَوْله: (حرم
الله) بِالنّصب على المفعولية، ويروى: (فَتحل مَا حرم
الله) أَي: من الْقِتَال فِي الْحرم. قَوْله: (فَقَالَ:
معَاذ الله) أَي: فَقَالَ ابْن عَبَّاس: العوذ بِاللَّه
على إحلال الْحرم. قَوْله: (إِن الله كتب ابْن الزبير)
أَي: قدر ابْن الزبير وَبني أُميَّة محلين بِكَسْر
اللَّام، أرادتهم كَانُوا محلين يَعْنِي مبيحين الْقِتَال
فِي الْحرم، وَكَانَ ابْن الزبير يُسمى الْمحل. قَوْله:
(وَإِنِّي وَالله لَا أحله) ، من كَلَام ابْن عَبَّاس،
أَي: لَا أحل الْحرم أبدا. وَهَذَا مَذْهَب ابْن عَبَّاس
أَنه لَا يُقَاتل فِي الْحرم وَإِن قوتل فِيهِ. قَوْله:
(قَالَ: قَالَ النَّاس) ، الْقَائِل هُوَ ابْن عَبَّاس،
وناقل ذَلِك عَنهُ هُوَ ابْن أبي مليكَة، وَالْمرَاد
بِالنَّاسِ من كَانَ من جِهَة ابْن الزبير. قَوْله:
(بَايع) أَمر من الْمُبَايعَة. قَوْله: (فَقلت) ، قَائِله
ابْن عَبَّاس. قَوْله: (وَأَيْنَ بِهَذَا الْأَمر عَنهُ) ؟
أَرَادَ بِالْأَمر الْخلَافَة، يَعْنِي: لَيست بعيدَة
عَنهُ لما لَهُ من الشّرف من قَوْله: أما أَبوهُ إِلَى
آخِره، أَي: أما أَبُو عبد الله وَهُوَ الزبير بن الْعَوام
فحواري النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد مضى فِي
مَنَاقِب الزبير عَن جَابر. قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن لكل نَبِي حواريا وَإِن حوارِي
الزبير بن الْعَوام) والحواري النَّاصِر الْخَالِص.
قَوْله: (يُرِيد الزبير) أَي: يُرِيد ابْن عَبَّاس بقوله:
فحواري النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الزبير بن
الْعَوام، قَوْله: (وَأمه) أَي: وَأم عبد الله بن الزبير.
قَوْله: (فذات النطاق) وَسميت أمه بِذَات النطاق
لِأَنَّهَا شقَّتْ نطاقها السفرة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وسقائه عِنْد الْهِجْرَة. قَوْله: (يُرِيد
أَسمَاء) ، يَعْنِي: يُرِيد ابْن عَبَّاس بقوله: ذَات
النطاق أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ. قَوْله: (وَأما خَالَته) ، أَي خَالَة عبد الله
فَهِيَ أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة أُخْت أَسمَاء. قَوْله:
(وَأما عمته) فَهِيَ: أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة بنت خويلد
بن أَسد، وَهِي أُخْت الْعَوام بن خويلد، وَأطلق عَلَيْهَا
عمته تجوزا لِأَنَّهَا عمَّة أَبِيه على مَا لَا يخفى.
قَوْله: (وَأما عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فجدته) أَي: جدة عبد الله بن الزبير. وَهِي صَفِيَّة بنت
عبد الْمطلب. قَوْله: (ثمَّ عفيف) أَي: ثمَّ هُوَ يَعْنِي
عبد الله عفيف، وانتقل من بَيَان نسبه الشريف إِلَى بَيَان
صِفَاته الذاتية الحميدة بِكَلِمَة ثمَّ الَّتِي هِيَ
للتعقيب، وَأَرَادَ بالعفة فِي الْإِسْلَام النزاهة عَن
الْأَشْيَاء الَّتِي تشين الرجل، والعفة أَيْضا الْكَفّ
عَن الْحرم وَالسُّؤَال من النَّاس. قَوْله: (وَالله إِن
وصلوني) ، إِلَى آخِره من كَلَام ابْن عَبَّاس أَيْضا
فِيهِ عتب على ابْن الزبير وشكر بني أُميَّة، وَأَرَادَ
بقوله: (إِن وصلوني) بني أُميَّة من صلَة الرَّحِم.
وَفَسرهُ بقوله: (وصلوني من قريب) أَي: من أجل
الْقَرَابَة، وَذَلِكَ أَن ابْن عَبَّاس هُوَ عبد الله بن
عَبَّاس بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف، وَأُميَّة
بن عبد شمس بن عبد منَاف. قَوْله: (وَإِن ربوني) بِفَتْح
الرَّاء وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة المضمومة من
التربية. قَوْله: (ربوني أكفاء) ، من قبيل: أكلوني
البراغيث. وَأَصله: ربني أكفاء، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة
الْكشميهني على الأَصْل، وارتفاع أكفاء بقوله: ربوني أَو
رَبِّي، على الرِّوَايَتَيْنِ، والأكفاء جمع كُفْء من
الْكَفَاءَة فِي النِّكَاح، وَهُوَ فِي الأَصْل بِمَعْنى
النظير والمساوي. قَوْله: (كرام) ، جمع كريم وَهُوَ
الْجَامِع لأنواع الْخَيْر والشرف والفضائل، وروى ابْن
مخنف الْأنْصَارِيّ بِإِسْنَادِهِ أَن ابْن عَبَّاس لما
حَضرته الْوَفَاة بِالطَّائِف جمع بنيه فَقَالَ: يَا بني
إِن ابْن الزبير لما خرج بِمَكَّة شددت أزره ودعوت
(18/268)
النَّاس إِلَى بيعَته وَتركت بني عمنَا من
بني أُميَّة الَّذين إِن قتلونا قتلونا أكفاء وَأَن ربونا
ربونا كراما فَلَمَّا أصَاب مَا أصَاب جفاني. قَوْله:
(فآثر التويتات) أَي: اخْتَار التويتات والأسامات
والحميدات عَليّ وَرَضي بهم وَأَخذهم، وَفِي رِوَايَة ابْن
قُتَيْبَة: فشددت على عضده فآثر عَليّ فَلم أَرض بالهوان،
وآثر بِالْمدِّ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني:
فَأَيْنَ، بِسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون وَهُوَ
تَصْحِيف، والتويتات، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَفتح الْوَاو وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا
تَاء مثناة من فَوق أُخرى جمع تويت وَهُوَ ابْن الْحَارِث
بن عبد الْعُزَّى بن قصي، والأسامات، جمع أُسَامَة نِسْبَة
إِلَى بني أُسَامَة بن أَسد ابْن عبد الْعُزَّى،
والحميدات، نِسْبَة إِلَى بني حميد بن زُهَيْر بن
الْحَارِث بن أَسد بن عبد الْعُزَّى، فَهَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَة من بني عبد الْعُزَّى. قَوْله: (يُرِيد أبطنا)
، يَعْنِي: ابْن عَبَّاس من هَذِه الثَّلَاثَة أبطنا جمع
بطن وَهُوَ مَا دون الْقَبِيلَة وَفَوق الْفَخْذ، وَيجمع
على بطُون أَيْضا. قَوْله: (من بني أَسد بن تويت) ، قَالَ
عِيَاض: وَصَوَابه يُرِيد أبطنا من بني أَسد بن تويت،
وَكَذَا وَقع فِي (مستخرج) أبي نعيم. قَوْله: (وَبني
أُسَامَة) ، أَي: وَمن بني أُسَامَة. قَوْله: (وَبني حميد)
، أَي: وَمن بني حميد، وَذكر ابْن عَبَّاس هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَة على سَبِيل التحقير والتقليل، فَلذَلِك جمعهم
بِجمع الْقلَّة حَيْثُ قَالَ أبطنا. قَوْله: (أَن ابْن أبي
الْعَاصِ برز) ، أَي: ظهر، وَهُوَ عبد الْملك بن مَرْوَان
بن الحكم بن أبي الْعَاصِ نِسْبَة إِلَى جد أَبِيه.
قَوْله: (يمشي القدمية) ، بِفَتْح الْقَاف وَفتح الدَّال
وَضمّهَا وسكونها وَكسر الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف. قَالَ عبيد: يَعْنِي يمشي التَّبَخْتُر ضربه،
مثلا لركوبه معالي الْأُمُور وسعى فِيهَا وَعمل بهَا،
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: القدمية هِيَ التقدمة، وَقَالَ
ابْن الْأَثِير: الَّذِي عِنْد البُخَارِيّ: القدمية،
مَعْنَاهُ: تقدمه فِي الشّرف وَالْفضل، وَالَّذِي جَاءَ
فِي كتب الْغَرِيب، والتقدمية واليقدمية. بِالتَّاءِ
وَالْيَاء، يَعْنِي: التَّقَدُّم، وَعند الْأَزْهَرِي
بِالْيَاءِ أُخْت الْوَاو، وَعند الْجَوْهَرِي بِالتَّاءِ
الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقيل: إِن اليقدمية بِالْيَاءِ
أُخْت الْوَاو وَهُوَ التَّقَدُّم بالهمة، وَفِي
(الْمطَالع) رَوَاهُ بعض اليقدمية: بِفَتْح الدَّال
وَضمّهَا وَالضَّم صَحَّ عَن شَيخنَا أبي الْحسن. قَوْله:
(وَأَنه) أَي: وَأَن ابْن الزبير. قَوْله: (لوى ذَنبه)
أَي: ثناه وَصَرفه، يُقَال: لوى فلَان ذَنبه وَرَأسه
وَعطفه إِذا ثناه وَصَرفه، ويروى بِالتَّشْدِيدِ
للْمُبَالَغَة وَهُوَ مثل لترك المكارم والزوغان عَن
الْمَعْرُوف وإيلاء الْجَمِيل، وَقيل: هُوَ كِنَايَة عَن
التَّأَخُّر والتخلف، وَيُقَال: هُوَ كِنَايَة عَن
الْجُبْن وإيثار الدعة، وَقَالَ الدَّاودِيّ: الْمَعْنى
أَنه وقف فَلم يتَقَدَّم وَلم يتَأَخَّر وَلَا وضع
الْأَشْيَاء فأدنى الْكَاشِح وأقصى الناصح وَقَالَ ابْن
التِّين: معنى: لوى ذَنبه، لم يتم لَهُ مَا أَرَادَهُ
وَكَانَ الْأَمر كَمَا ذكر، والآن عبد الْملك لم يزل فِي
تقدم من أمره إِلَى أَن استنقذ الْعرَاق من ابْن الزبير
وَقتل أَخَاهُ مصعبا، ثمَّ جهر العساكر إِلَى ابْن الزبير
فَكَانَ من الْأَمر مَا وَقع، وَكَانَ وَلم يزل ابْن
الزبير فِي تَأَخّر إِلَى أَن قتل.
4666 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدٍ بنِ مَيْمُونٍ
حدَّثنا عِيسَى بنُ يُونُسَ عَنْ عُمَرَ بنِ سَعِيدٍ قَالَ
أخْبَرَنِي ابنُ أبِي مُلَيْكَةَ دَخَلْنَا عَلَى ابنِ
عَبَّاسٍ فَقَالَ أَلا تَعْجَبُونَ لابنِ الزُّبَيْرٍ
قَامَ فِي أمْرِهِ هَذَا فَقُلْتُ لأَحَاسِبَنَّ نَفْسِي
لَهُ مَا حَاسَبْتُها لأبِي بَكْرٍ وَلا لِعُمَرَ
وَلَهُمَا كَانَا أوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْهُ وَقُلْتُ
ابْن عَمَّةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وابنُ
الزُّبَيْرِ وَابنُ أبِي بَكْرٍ وَابنُ أخِي خَدِيجَةَ
وَابنُ أُخْتِ عَائِشَةَ فَإذَا هُوَ يَتَعَلَّى عَنِّي
وَلا يُرِيدُ ذَلِكَ فَقُلْتُ مَا كُنْتُ أظُنَّ أنِّي
أعْرِضُ هَذا مِنْ نَفْسِي فَيَدَعُهُ وَمَا أُرَاهُ
يُرِيدُ خَيْرا وإنْ كَانَ لَا بُدَّ لأنْ يَرُبَّنِي
بَنُو عَمِّي أحَبُّ إلَيَّ مِنْ أنْ يَرُ بَّنِي
غَيْرُهُمْ.
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن
مُحَمَّد بن عبيد بن مَيْمُون الْمَدِينِيّ، وَيُقَال
لَهُ: مُحَمَّد بن أبي عباد عَن عِيسَى بن يُونُس بن أبي
إِسْحَاق الْهَمدَانِي الْكُوفِي عَن عمر بن سعيد بن أبي
حُسَيْن النَّوْفَلِي الْقرشِي الْمَكِّيّ عَن عبد الله بن
أبي مليكَة إِلَى آخِره.
قَوْله: (قَامَ فِي أمره) أَي: فِي الْخلَافَة. قَوْله:
(لأحاسبن نَفسِي) أَي: لأناقشنها لَهُ. أَي: لِابْنِ
الزبير، وَقيل: لأطالبن نَفسِي بمراعاته وَحفظ حَقه
ولأنافسن فِي معونته ولاستقصين عَلَيْهَا فِي النصح لَهُ
والذب عَنهُ. قَوْله: (مَا حاسبتها)
(18/269)
كلمة. مَا للنَّفْي، أَي: مَا حاسبت نَفسِي
لأبي بكر وَلَا لعمر. قَوْله: (وَلَهُمَا كَانَ أولى بِكُل
خير) اللَّام فِيهِ لَام الِابْتِدَاء، وَالْوَاو فِيهِ
يصلح أَن يكون للْحَال. وهما يرجع إِلَى أبي بكر وَعمر،
قَوْله: (مِنْهُ) أَي: من ابْن الزبير. قَوْله: (وَقلت:
ابْن عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) تجوز،
وَإِنَّمَا هِيَ عمَّة أبي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَهِي صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب. وَكَذَلِكَ
قَوْله: (وَابْن أبي بكر) تجوز لِأَنَّهُ ابْن بنت أبي
بكر، وَكَذَلِكَ قَوْله: وَابْن أخي خَدِيجَة تجوز
لِأَنَّهُ ابْن ابْن أَخِيهَا الْعَوام. قَوْله: (فَإِذا
هُوَ) أَي: ابْن الزبير: (يتعلى عني) أَي: يترفع منتحيا
عني. قَوْله: (وَلَا يُرِيد ذَلِك) أَي: لَا يُرِيد أَن
أكون من خاصته. قَوْله: (مَا كنت أَظن أَنِّي أعرض هَذَا)
أَي: أظهر وأبذل هَذَا من نَفسِي وأرضى بِهِ فيدعه. أَي:
فَإِن يَدعه أَي يتْركهُ وَلَا يرضى هُوَ بذلك. قَوْله:
(وَمَا أرَاهُ يُرِيد خيرا) أَي: وَمَا أَظُنهُ يُرِيد
خيرا يَعْنِي فِي الرَّغْبَة عني. قَوْله: (وَإِن كَانَ
لابد) أَي: وَإِن كَانَ هَذَا الَّذِي صدر مِنْهُ لَا
فِرَاق لَهُ مِنْهُ لِأَن يربنِي بَنو عمي أَي بَنو
أُميَّة ويريني من التربية وَمَعْنَاهُ: يكون بَنو أُميَّة
أُمَرَاء عَليّ وقائمين بأَمْري قَوْله: (أحب إليّ) خبر
إِن. قَوْله: (غَيرهم) أَي: غير بني عمي. وهم الأمويون.
وَقَالَ الْحَافِظ إِسْمَاعِيل فِي كتاب (التَّخْيِير)
يَعْنِي: بقوله لِأَن يربنِي بَنو عمي إِلَى آخِره، لِأَن
أكون فِي طَاعَة بني أُميَّة وهم أقرب إِلَى قرَابَة من
بني أَسد أحب إليّ.
10 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَالمُؤْلَفَةِ قُلُوبُهُمُ}
(التَّوْبَة: 60)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {والمؤلفة قُلُوبهم}
وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ بَاب. وَقَبله: {إِنَّمَا
الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والعاملين
عَلَيْهَا والمؤلفة قُلُوبهم وَفِي الرّقاب} (التَّوْبَة:
60) الْآيَة. وَهَذِه الْآيَة فِي بَيَان قسْمَة
الصَّدقَات وَيبين الله عز وَجل حكمهَا وَتَوَلَّى قسمتهَا
بِنَفسِهِ ومصرفها ثَمَانِيَة أَصْنَاف، وَسَقَطت
الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم لِأَن الله تَعَالَى أعز
الْإِسْلَام وأغنى عَنْهُم، وَكَانَ يُعْطي لَهُم لتتألف
قُلُوبهم أَو ليدفع ضررهم عَن الْمُسلمين، وَهل تُعْطى
الْمُؤَلّفَة على الْإِسْلَام بعد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم؟ فِيهِ خلاف، فَروِيَ عَن عمر وَالشعْبِيّ
وَجَمَاعَة: أَنهم لَا يُعْطون بعده، وَقَالَ آخَرُونَ: بل
يُعْطون، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أَعْطَاهُم
بعد فتح مَكَّة وَكسر هوَازن، وَهَذَا أَمر قد يحْتَاج
إِلَيْهِ فَيصير إِلَيْهِم، وَاخْتلف فِي الْوَقْت الَّذِي
تألفهم فِيهِ فَقيل: قبل إسْلَامهمْ، وَقيل: بعد وَاخْتلف
مَتى قطع ذَلِك عَنْهُم؟ فَقيل: فِي خلَافَة الصّديق،
وَقيل: فِي خلَافَة الْفَارُوق، وَكَانَ الْمُؤَلّفَة
قُلُوبهم نَحْو الْخمسين مِنْهُم أَبُو سُفْيَان وَابْنه
مُعَاوِيَة وَحَكِيم بن حرَام وعباس بن مرداس.
قَالَ مُجاهِدٌ يَتَأَلَّفُهُمْ بِالْعَطِيَّةِ
هَذَا وَصله الْفرْيَابِيّ عَن وَرْقَاء عَن ابْن أبي نجيح
عَن مُجَاهِد.
4667 - ح دَّثنا مُحَمَّدُ بنُ كَثِيرٍ أخْبرنا سُفْيَانُ
عَنْ أبِيهِ عنِ ابنِ أبِي نُعَمٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ بُعِثَ إلَى النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِشَيْءٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ أرْبَعَةٍ
وَقَالَ أتألَفُهُمْ فَقَالَ رَجُلٌ مَا عَدَلْتَ فَقَالَ
يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِيءَ هاذا قَوْمٌ يَمْرَقُونَ مِنَ
الدِّينِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَكثير ضد الْقَلِيل
وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ يروي عَن أَبِيه سعيد بن
مَسْرُوق وَهُوَ يروي عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي نعم،
بِضَم النُّون وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة، وَمضى هَذَا
الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد فِي كتاب الْأَنْبِيَاء فِي
قصَّة هود بأتم مِنْهُ، وَأخرجه هُنَا مُخْتَصرا.
قَوْله: (بَين أَرْبَعَة) وهم الْأَقْرَع بن حَابِس وعيينة
بن بدر وَزيد بن مهلهل وعلقمة ابْن علاثة بالثاء
الْمُثَلَّثَة النجديون. قَوْله: (فَقَالَ رجل) هُوَ ذُو
الْخوَيْصِرَة مصغر الخاصرة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة
وَالصَّاد الْمُهْملَة. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (من ضئضيء) بِكَسْر
الضادين المعجمتين وَسُكُون الْهمزَة وبالياء آخر
الْحُرُوف، وَهُوَ الأَصْل، وَالْمرَاد بِهِ النَّسْل.
قَوْله: (يَمْرُقُونَ) أَي: يخرجُون.
11 - (بابُ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ
المُطَوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}
(التَّوْبَة: 79)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل قَوْله: {الَّذِي
يَلْمِزُونَ} الْآيَة. هَذِه الْآيَة فِي صِفَات
الْمُنَافِقين لَا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم فِي
(18/270)
جَمِيع الْأَحْوَال حَتَّى وَلَا المتصدقون
لَا يسلمُونَ مِنْهُم، إِن جَاءَ أحد مِنْهُم بِمَال جزيل
قَالُوا: هَذَا مراء، وَإِن جَاءَ بِشَيْء يسير قَالُوا:
إِن الله لَغَنِيّ عَن صَدَقَة هَذَا. قَوْله:
(الْمُطوِّعين) أَصله المتطوعين فأبدلت التَّاء طاء وأدغمت
الطَّاء فِي الطَّاء.
يَلْمِزُونَ يَعِيبُونِ
أَرَادَ أَن معنى اللمز الْعَيْب، وَلَيْسَ هَذَا فِي
رِوَايَة أبي ذَر.
وَجُهْدَهُمْ وَجَهْدَهُمْ طَاقَتَهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين لَا
يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ} وَفسّر الْجهد بالطاقة، وَهُوَ
بِضَم الْجِيم وبالفتح الْمَشَقَّة. وَعَن الشّعبِيّ
بِالْعَكْسِ. وَقيل: هما لُغَتَانِ.
4669 - ح دَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ ل
أبِي أُسَامَةَ أحَدَّثَكُمْ زَائِدَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ
عَنْ شَقِيقٍ عَنْ أبِي مَسْعُودِ الأنْصَارِيِّ قَالَ
كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرُ
بِالصَّدَقَةِ فَيَحْتالُ أحَدُنا
(18/271)
حَتَّى يَجِيءَ بِالمُدِّ وَإنَّ
لأحَدِهِمِ اليَوْمَ مِائَةَ ألْفٍ كَأنَّهُ يُعَرِّضُ
بِنَفْسِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ
مُطَابق لِمَعْنى الحَدِيث السَّابِق، والمطابق للمطابق
للشَّيْء مُطَابق لذَلِك الشَّيْء. وَإِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وَأَبُو إسامة
حَمَّاد بن أُسَامَة، وزائدة من الزِّيَادَة ابْن قدامَة
أَبُو الصَّلْت الْكُوفِي وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش،
وشقيق هُوَ ابْن سَلمَة أَبُو وَائِل والْحَدِيث مضى فِي
أَوَائِل الزَّكَاة.
قَوْله: (أحدثكُم) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل
الاستخبار قَوْله: (فيحتال) أَي: يجْتَهد وَيُسمى. قَوْله:
(مائَة ألف) بِالنّصب على أَنَّهَا اسْم. إِن، وَالْخَبَر
قَوْله لأَحَدهم: (مقدما) (وَالْيَوْم) نصب على الظّرْف
(وَمِائَة ألف) يحْتَمل الدَّرَاهِم وَيحْتَمل
الدَّنَانِير وَيحْتَمل الأمداد من الْقَمْح أَو التَّمْر
أَو نَحْوهمَا. قَوْله: (كَأَنَّهُ يعرض بِنَفسِهِ) من
كَلَام شَقِيق الرَّاوِي، وَقد صرح بِهِ إِسْحَاق فِي
مُسْنده، وَقَالَ فِي آخِره: قَالَ شَقِيق كَأَنَّهُ يعرض
بِنَفسِهِ قلت: كَأَن أَبَا مَسْعُود عرض بِنَفسِهِ لما
صَار من أَصْحَاب الْأَمْوَال الْكَثِيرَة.
12 - (بابُ قَوْلِهِ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لَا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ} (التَّوْبَة: 80)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم}
إِلَى آخر مَا ذكره فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَعند غَيره
مُخْتَصرا، خبر الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة
الْكَرِيمَة أَن هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقين اللمازين
لَيْسُوا أَهلا للاستغفار، وَأَنه لَو استغفرلهم وَلَو
سبعين مرّة فَإِن الله لَا يغْفر لَهُم، وَذكر السّبْعين
بِالنَّصِّ عَلَيْهِ لحسم مَادَّة الاسْتِغْفَار لَهُم
لِأَن الْعَرَب فِي أساليب كَلَامهم تذكر السّبْعين فِي
مُبَالغَة كَلَامهم وَلَا يُرَاد بهَا التَّحْدِيد وَلَا
أَن كَون مَا زالد عَلَيْهَا بِخِلَافِهَا.
4670 - ح دَّثنا عُبَيْدُ بنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ أبِي
أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ الله عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابنِ
عُمَرَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَمَا
تُوِفِّيَ عَبْدُ الله بنُ رَجاءَ ابْنُهُ عَبْدُ الله بنُ
عَبْدِ الله إلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَسَأَلَهُ أنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفَّنُ فِيهِ
أباهُ فَأعْطاهُ ثُمَّ سَأَلَهُ أنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ
فَقَامَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيُصَلِّيَ
فَقَامَ عُمَرُ فَأخذَ بِثَوْبِ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله أتُصَلِي عَلَيْهِ
وَقَدْ نَهَاك رَبَكَ أنْ تصليَ عَليْهِ فَقَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إنَّما خَيَّرَنِي الله)
فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً} (التَّوْبَة: 84) وَسأزِيدُهُ عَلَى
السَّبْعِينَ قَالَ إنَّهُ منافِقٌ قالَ فَصَلَّى عَلَيْهِ
رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَنْزَلَ الله:
{وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَدا وَلا
تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعبيد، بِضَم الْعين
وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، واسْمه فِي الأَصْل عبد الله
يكنى أَبَا مُحَمَّد الْكُوفِي، وَأَبُو أُسَامَة حَمَّاد
بن أُسَامَة، وَعبيد الله بن عمر الْعمريّ.
والْحَدِيث مضى فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب الْكَفَن
فِي الْقَمِيص أخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن أبي بكر بن
أبي شيبَة.
قَوْله: (لما توفّي عبد الله) يَعْنِي: ابْن أبي ابْن
سلول، وَوَقع فِي أَكثر النّسخ اسْم أَبِيه أبي، وَقَالَ
الْوَاقِدِيّ: إِنَّه مَاتَ بعد منصرفهم من تَبُوك
وَذَلِكَ فِي ذِي الْقعدَة سنة تسع، وَكَانَت مُدَّة مَرضه
عشْرين يَوْمًا وابتداؤها من لَيَال بقيت من شَوَّال،
وَكَذَا ذكره الْحَاكِم فِي (الإكليل) وَقَالُوا: وَكَانَ
قد تخلف هُوَ وَمن مَعَه عَن غَزْوَة تَبُوك وَفِيهِمْ
نزلت {لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إلاَّ خبالاً}
(التَّوْبَة: 47) قيل: هَذَا يدْفع قَول ابْن التِّين، إِن
هَذِه الْقِصَّة كَانَت فِي أول الْإِسْلَام قبل تَقْرِير
الْأَحْكَام. قَوْله: (فَأعْطَاهُ) . أَي: أعْطى النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَمِيصه عبد الله. قَالَ
الْكرْمَانِي: لم أعطي قَمِيصه الْمُنَافِق؟ ثمَّ أجَاب
بقوله: أعْطى لِابْنِهِ وَمَا أعْطى لأجل أَبِيه عبد الله
بن أبي. وَقيل: كَانَ ذَلِك مُكَافَأَة لَهُ على مَا أعْطى
يَوْم بدر قَمِيصًا للْعَبَّاس لِئَلَّا يكون
لِلْمُنَافِقِ منَّة عَلَيْهِم. قَوْله: (ثمَّ سَأَلَهُ
أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ) إِنَّمَا سَأَلَهُ بِنَاء على أَنه
(18/272)
حمل أَمر أَبِيه على ظَاهر الْإِسْلَام
ولدفع الْعَار عَنهُ وَعَن عشيرته فأظهر الرَّغْبَة فِي
صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوَقعت
إجَابَته إِلَى سُؤَاله على حسب مَا ظهر من حَاله إِلَى
أَن كشف الله الغطاء عَن ذَلِك. قَوْله: (فَقَامَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليُصَلِّي) عَلَيْهِ قَوْله:
(أَتُصَلِّي عَلَيْهِ) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على
سَبِيل الْإِنْكَار قَوْله: (وَقد) الْوَاو وَفِيه
للْحَال. قَوْله: (نهاك رَبك أَن تصلي عَلَيْهِ) قَالَ
الْكرْمَانِي: أَيْن نَهَاهُ ونزول قَوْله: {وَلَا تصل على
أحد مِنْهُم} (التَّوْبَة: 84) بعد ذَلِك؟ فَأجَاب بقوله:
لَعَلَّ عمر اسْتَفَادَ النَّهْي من قَوْله تَعَالَى: {مَا
كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا
للْمُشْرِكين} (التَّوْبَة: 113) أَو من قَوْله: {أَن
تستغفر لَهُم} فَإِنَّهُ إِذا لم يكن للاستغفار فَائِدَة
الْمَغْفِرَة يكون عَبَثا فَيكون مَنْهِيّا عَنهُ وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: لَعَلَّ ذَلِك وَقع فِي خاطر عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، فَيكون من قبيل الإلهام. قَوْله:
(إِنَّمَا خيرني الله) أَي: بَين الاسْتِغْفَار وَتَركه.
قَوْله: (وسأزيد) حمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عدد السّبْعين على حَقِيقَته، وَحمله عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، على الْمُبَالغَة. وَقَالَ الْخطابِيّ:
فِيهِ حجَّة لمن أرى الحكم بِالْمَفْهُومِ لِأَنَّهُ جعل
السّبْعين بِمَنْزِلَة الشَّرْط فَإِذا جَاوز هَذَا
الْعدَد كَانَ الحكم بِخِلَافِهِ، وَكَانَ رَأْي عمر
التصلب فِي الدّين والشدة على الْمُنَافِقين، وَقصد،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الشَّفَقَة على من تعلق
بِطرف من الدّين والتألف لِابْنِهِ ولقومه، فَاسْتعْمل
أحسن الْأَمريْنِ وأفضلهما. قَوْله: (إِنَّه مُنَافِق)
إِنَّمَا جزم بذلك جَريا على مَا كَانَ اطلع عَلَيْهِ من
أَحْوَاله وَلم يَأْخُذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
بقوله: وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِجْرَاء لَهُ على ظَاهر
حكم الْإِسْلَام، وَذهب بعض أهل الحَدِيث إِلَى تَصْحِيح
إِسْلَام عبد الله بن أبي بِصَلَاة النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيح لمُخَالفَته
الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة المصرحة بِمَا يُنَافِي فِي
ذَلِك، وَقد أخرج الطَّبَرِيّ من طَرِيق سعيد عَن قَتَادَة
فِي هَذِه الْقِصَّة قَالَ: فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَلَا
تصل على أحد مِنْهُم مَاتَ أبدا وَلَا تقم على قَبره}
قَالَ: فَذكر لنا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
وَمَا يُغني عَنهُ قَمِيصِي من الله وَإِنِّي لأرجو أَن
يسلم بذلك ألف من قومه، قَوْله: (فَأنْزل الله تَعَالَى)
إِلَى آخِره: زَاد مُسَدّد فِي حَدِيثه عَن يحيى الْقطَّان
عَن عبيد الله بن عمر فِي آخِره: فَترك الصَّلَاة
عَلَيْهِم، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: فصلى عَلَيْهِ ثمَّ
انْصَرف فَلم يمْكث إلاَّ يَسِيرا حَتَّى نزلت، وَزَاد
ابْن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي) فِي حَدِيث الْبَاب:
فَمَا صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
مُنَافِق بعده حَتَّى قَبضه الله تَعَالَى.
4671 - ح دَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدَّثنا اللَّيْثُ
عَنْ عُقَيلٍ وَقَالَ غَيْرُهُ حدَّثني اللَّيْثُ حدَّثني
عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهابٍ قَالَ أخبرَنِي عُبَيْدُ الله
بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنْ عُمَرَ بنِ
الخَطَابِ رَضِيَ الله عنهُ أنَّهُ قَالَ لمَّا مَاتَ
عَبْدُ الله بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُول دُعِيَ لهُ رَسُولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ
فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَثَبْتُ إلَيْهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَتُصَلِّي
عَلَى ابنِ أُبَيٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا كَذَا قَالَ
أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ أخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ
فَلمَّا أكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ إنِّي خُيِّرْتُ
فَاخْتَرْتُ لَوْ أعْلَمَ أنِّي إنْ زِدْتُ عَلَى
السَّبْعِينَ يُغْفَرْ لهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا قَالَ
فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ إلاَّ يَسِيرا حَتَّى
نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ {وَلا تُصلِّ عَلَى
أحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَدا} إلَى قَوْلِهِ: {وَهُمْ
فَاسِقُونَ} قَالَ فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى
رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله وَرَسُولُهُ
أعْلَمُ.
أخرج الحَدِيث الْمَذْكُور من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس
عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَمضى الحَدِيث فِي
الْجَنَائِز. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي
التَّفْسِير أَيْضا وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي
الْجَنَائِز.
قَوْله: (وَقَالَ غَيره) ، الْغَيْر هُوَ عبد الله بن
صَالح كَاتب اللَّيْث. قَوْله: (سلول) ، بِفَتْح السِّين
الْمُهْملَة وَضم اللَّام وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا الْأُم
اسْم أم عبد الله، وَهِي خزاعية، وَعبد الله من الْخَزْرَج
أحد قَبيلَة الْأَنْصَار. قَوْله: (ابْن سلول) ،
بِالرَّفْع لِأَنَّهُ صفة عبد الله لَا صفة أبي. قَوْله:
(فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كَانَ
ذَلِك تَعَجبا من صلابة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وبغضه لِلْمُنَافِقين قيل: لم يكن صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، يتبسم عِنْد شُهُود الْجَنَائِز
(18/273)
وَأجِيب بِأَنَّهُ كَانَ على وَجه
الْغَلَبَة. قَوْله: (يغْفر لَهُ) بجزم الرَّاء لِأَنَّهُ
جَوَاب الشَّرْط وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فغفر لَهُ،
بِالْفَاءِ على صِيغَة الْمَاضِي. قَوْله: (بعد) بِضَم
الدَّال لِأَنَّهُ قطع عَن الْإِضَافَة فَبنى على الضَّم.
قَوْله: (من جرأتي) بِضَم الْجِيم أَي: من إقدامي
عَلَيْهِ. (وَالله وَرَسُوله أعلم) قيل: الظَّاهِر أَنه من
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَيحْتَمل أَن يكون من
قَول ابْن عَبَّاس.
13 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُمْ
مَاتَ أبَدا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التَّوْبَة: 84)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تصل} إِلَى
آخِره، وَظَاهر الْآيَة أَنَّهَا نزلت فِي جَمِيع
الْمُنَافِقين لَكِن ورد مَا يدل على أَنَّهَا نزلت فِي
عدد معِين مِنْهُم. قَالَ الْوَاقِدِيّ: أخبرنَا معمر عَن
الزُّهْرِيّ: قَالَ: قَالَ حُذَيْفَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إِنِّي مسر إِلَيْك سرا فَلَا تذكره لأحد، إِنِّي نهيت أَن
أُصَلِّي على فلَان وَفُلَان، رَهْط ذَوي عدد من
الْمُنَافِقين، قَالَ: فَلذَلِك كَانَ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، إِذا أَرَادَ أَن يُصَلِّي على أحد استتبع
حُذَيْفَة فَإِن مَشى مَشى مَعَه، وَإِلَّا لم يصل
عَلَيْهِ، وَمن طَرِيق آخر عَن جُبَير ابْن مطعم، إِنَّهُم
اثْنَا عشر رجلا.
4672 - ح دَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ حدَّثنا أنَسُ
بنُ عِياض عَن عُبَيْدِ الله عَنْ نافعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ
رَضِيَ الله عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ لَمَا تُوُفِّيَ
عَبْدُ الله بنُ أُبَيٍّ جاءَ ابْنُهُ عَبْدُ الله بنُ
عَبْدِ الله إلَى رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَأعْطاهُ قَمِيصَهُ وَأَمَرَهُ أنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ
ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَأَخَذَ عُمَرُ بنُ
الخَطابِ بِثَوْبِهِ فَقَالَ تُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ
مُنافِقٌ وَقَدْ نَهَاكَ الله أنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ
قَالَ إنّما خَيَّرَنِي الله أوْ أُخبرَني الله فَقَالَ:
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةَ فَلَنْ يَغْفِرَ
الله لَهُمْ} (التَّوْبَة: 80) فَقَالَ سَأُزِيدُ عَلَى
سَبْعِينَ قَالَ فَصَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَصَلَيْنَا مَعَهُ ثُمَّ أنْزَلَ الله
عَلَيْهِ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَدا
وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِالله
وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} .
هَذَا وَجه آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن ابْن عمر فِي
الْبَاب الَّذِي قبله. قَوْله: (إِنَّمَا خيرني الله
أَخْبرنِي) ، كَذَا وَقع بِالشَّكِّ وَالْأول من
التَّخْيِير. وَالثَّانِي من الْإِخْبَار، وَوَقع فِي
أَكثر الرِّوَايَات: خيرني: يَعْنِي بَين الاسْتِغْفَار
وَتَركه، وَكَذَا وَقع بِغَيْر شكّ عِنْد
الْإِسْمَاعِيلِيّ أخرجه من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أبي
أويس عَن أبي ضَمرَة وَهُوَ أنس بن عِيَاض بِلَفْظ
إِنَّمَا خيرني الله من التَّخْيِير فَحسب، وَقد اسْتشْكل
فهم التَّخْيِير من الْآيَة حَتَّى إِن جمَاعَة من الأكابر
طعنوا فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث مَعَ كَثْرَة طرقه،
مِنْهُم: القَاضِي أَبُو بكر فَإِنَّهُ قَالَ لَا يجوز أَن
يقبل هَذَا وَلَا يَصح أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَه: وَمِنْهُم: أَبُو بكر الباقلاني فَإِنَّهُ
قَالَ فِي (التَّقْرِيب) هَذَا الحَدِيث من أَخْبَار
الْآحَاد الَّتِي لَا يعلم ثُبُوتهَا وَمِنْهُم: إِمَام
الْحَرَمَيْنِ. قَالَ فِي (مُخْتَصره) هَذَا الحَدِيث غير
مخرج فِي الصَّحِيح، وَقَالَ فِي (الْبُرْهَان) لَا
يُصَحِّحهُ أهل الحَدِيث. وَمِنْهُم: الْغَزالِيّ، قَالَ
فِي (الْمُسْتَصْفى) الْأَظْهر أَن هَذَا الحَدِيث غير
صَحِيح وَمِنْهُم: الدَّاودِيّ، قَالَ: هَذَا الحَدِيث غير
مَحْفُوظ، وَأجِيب بِأَنَّهُم ظنُّوا أَن قَوْله: (ذَلِك
بِأَنَّهُم كفرُوا) ، الْآيَة نزل مَعَ قَوْله: {اسْتغْفر
لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم} وَلم يكن نُزُوله إلاّ
متراخيا عَن صدر الْآيَة فَحِينَئِذٍ يرْتَفع الْإِشْكَال
وَقد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، مَا فِيهِ رفع للإشكال
الْمَذْكُور، وَمُلَخَّص سُؤَاله أَنه قد تَلا قَوْله:
(ذَلِك بِأَنَّهُم كفرُوا) قَوْله: (اسْتغْفر لَهُم أَو
لَا تستغفر لَهُم) فَبين الصَّارِف عَن الْمَغْفِرَة
لَهُم، وَمُلَخَّص جَوَابه أَنه مثل قَول إِبْرَاهِيم
عَلَيْهِ السَّلَام: {وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور
رَحِيم} (إِبْرَاهِيم: 36) وَذَلِكَ أَنه تخيل بِمَا قَالَ
إِظْهَار الْغَايَة رَحمته ورأفته على من بعث إِلَيْهِ،
وَقد رد كَلَام الزَّمَخْشَرِيّ هَذَا من لَا يدانيه وَلَا
يجاريه فِي مثل هَذَا الْبَاب، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يجوز
نِسْبَة مَا قَالَه إِلَى الرَّسُول لِأَن الله أخبر أَنه
لَا يغْفر للْكفَّار وَإِذا كَانَ لَا يغْفر لَهُم فَطلب
الْمَغْفِرَة لَهُم مُسْتَحِيل. وَهَذَا لَا يَقع من
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ورد عَلَيْهِ بِأَن
النَّهْي عَن الاسْتِغْفَار لمن مَاتَ مُشْركًا
(18/274)
لَا يسْتَلْزم النَّهْي عَن الاسْتِغْفَار
لمن مَاتَ مظْهرا لِلْإِسْلَامِ. قَوْله: (سأزيد على
السّبْعين) ، لاستمالة قُلُوب عشيرته لَا أَنه أَرَادَ
أَنه إِذا زَاد على السّبْعين يغْفر لَهُ، وَيُؤَيّد هَذَا
تردده فِي الحَدِيث الآخر حَيْثُ قَالَ: لَو أعلم أَنِّي
إِن زِدْت على السّبْعين يغْفر لَهُ لزدت، وَقيل: لما
قَالَ سأزيد نزلت {سَوَاء عَلَيْهِم استغفرت لَهُم}
(المُنَافِقُونَ: 6) الْآيَة فَتَركه.
14 - (بابُ قَوْلِهِ: {سَيَحْلِفُونَ بِالله لَكُمْ إذَا
انْقَلَبْتُم إلَيْهِمْ لِتُعرِضُوا عَنْهُمْ فَأعْرِضُوا
عَنْهُمْ إنّهُمْ رِجْسٌ وَمأوَاهُم جَهَنَّمُ جَزَاءً
بِمَا كَانَوا يَكْسِبُونَ} (التَّوْبَة: 95)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {سيحلفون بِاللَّه}
الْآيَة، وَسقط فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ لفظ: لكم،
وَالصَّوَاب إِثْبَاتهَا، وَأخْبر الله عَن الْمُنَافِقين
بِأَنَّهُم إِذا رجعُوا إِلَى الْمَدِينَة يَعْتَذِرُونَ
ويحلفون بِاللَّه لتعرضوا عَنْهُم فَلَا تؤنبوهم فأعرضوا
عَنْهُم احتقارا لَهُم إِنَّهُم رِجْس، أَي: جبناء نجس
بواطنهم واعتقاداتهم ومأواهم فِي آخِره جَهَنَّم جَزَاء
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ من الآثام والخطايا.
4673 - ح دَّثنا يَحْيَى حدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ
عَنِ ابنِ شهابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ عَبْدِ الله
أنَّ عَبْدَ الله بنَ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ
كَعْبَ بنَ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ وَالله
مَا أنْعَمَ الله عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ بَعْدَ إذْ
هَدَانِي أعْظَمَ مِنْ صِدْقِي رَسُولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أنْ لَا أكُونَ كَذَبْتُهُ فَأهْلِكَ كَمَا
هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أُنْزِلَ الوَحْيُ
{سَيَحْلِفُونَ بِالله لَكُمْ إذَا انْقَلَبْتُمْ
إلَيْهِمْ} إلَى قَوْلِهِ: {الفَاسِقِينَ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَيحيى هُوَ ابْن عبد الله
بن بكير المَخْزُومِي الْمصْرِيّ. والْحَدِيث مضى مطولا
فِي غَزْوَة تَبُوك بِهَذَا الْإِسْنَاد وَمضى الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (مَا أنعم الله عَليّ من نعْمَة) كَذَا فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي
وَحده على عبد نعْمَة، وَالْأول هُوَ الصَّوَاب. قَوْله:
(أَن لَا أكون) قَالَ عِيَاض: كَذَا وَقع فِي نسخ
البُخَارِيّ وَمُسلم، وَالْمعْنَى: أَن أكون كَذبته، وَلَا
زَائِدَة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {مَا مَنعك أَن لَا
تسْجد} أَي: أَن تسْجد. قَوْله: {أَن لَا أكون} مُسْتَقْبل
(وكذبته) مَاض وَبَينهمَا مُنَافَاة ظَاهرا، وَلَكِن
الْمُسْتَقْبل فِي معنى الِاسْتِمْرَار المتناول للماضي
فَلَا مُنَافَاة بَينهمَا. قَوْله: (إِلَى الْفَاسِقين)
تَفْسِير قَوْله: (إِلَيْهِم) .
بَابُ قَوْلِهِ: {يَحْلِفُونَ لَكُم لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ
فَإنْ تَرَضْوَا عَنْهُمْ} إلَى قَوْلِهِ {الفاسِقِينَ}
(التَّوْبَة: 96)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يحلفُونَ لكم}
إِلَى آخِره، هَكَذَا ثَبت هَذَا الْبَاب لأبي ذَر وَحده
بِغَيْر حَدِيث، وَلَيْسَ بمذكور أصلا فِي رِوَايَة
البَاقِينَ نزلت هَذِه فِي الْمُنَافِقين يحلفُونَ لكم
لأجل أَن ترضوا عَنْهُم فَإِن ترضوا عَنْهُم بحلفانهم
فَإِن الله لَا يرضى عَن الْقَوْم الْفَاسِقين، أَي:
الخارجين عَن طَاعَته وَطَاعَة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم.
15 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا
بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وَآخَرَ سَيِّئا
عَسَى الله أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ الله غَفُورٌ
رَحِيمٌ} (التَّوْبَة: 102)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَآخَرُونَ} الْآيَة
وسيقت الْآيَة كلهَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}
الْآيَة. وَلما أخبر الله تَعَالَى عَن حَال الْمُنَافِقين
المتخلفين عَن الْغُزَاة رَغْبَة عَنْهَا وتكذيبا. شرع فِي
بَيَان حَال الَّذين تَأَخَّرُوا عَن الْجِهَاد كسلاً
وميلاً إِلَى الرَّاحَة مَعَ إِيمَانهم وتصديقهم
بِالْحَقِّ، فَقَالَ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا
بِذُنُوبِهِمْ} أَي: أقرُّوا بهَا واعترفوا فِيمَا بَينهم
وَبَين رَبهم وَلَهُم أَعمال أخر صَالِحَة خلطوا هَذِه
بِتِلْكَ فَهَؤُلَاءِ تَحت عَفْو الله وغفرانه. فَهَذِهِ
الْآيَة وَإِن كَانَت نزلت فِي إناس مُعينين إِلَّا
أَنَّهَا عَامَّة فِي كل المذنبين الْخَطَّائِينَ المخلطين
المتلوثين وَقَالَ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا نزلت فِي أبي لبَابَة وَجَمَاعَة من
أَصْحَابه تخلفوا عَن غَزْوَة تَبُوك. فَقَالَ بَعضهم:
أَبُو لبَابَة وَخَمْسَة مَعَه، وَقيل: وَسَبْعَة مَعَه،
وَقيل: وَتِسْعَة مَعَه.)
(18/275)
4674 - ح دَّثنا مُؤَمَّلٌ هُوَ ابنُ
هِشامٍ حدَّثنا إسْماعِيلُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا عَوْفٌ
حدَّثنا أبُو رَجَاءٍ حدَّثنا سَمُرَةُ بنُ جُنْدَبٍ رَضِي
الله عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لَنَا أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيان فَابْتَعَثَانِي
فَانْتَهَيَا إلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبَ
وَلَبِنِ فِضَّةٍ فَتَلقَّانا رِجالٌ شطر مِنْ خَلْقِهِمْ
كأحْسَنِ مَا أنْتَ رَاءٍ وَشَطْرٌ كأقْبَحِ مَا أنْتَ
رَاءٍ قَالا لَهُمْ اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذالِكَ
النَّهْرِ فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْنَا قَدْ
ذَهَبَ ذالِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أحْسَنِ
صُورَةٍ قَالا لِي هاذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذا
مَنْزِلُكَ قَالا أمَّا القَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ
مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ فَإنَّهُمْ
خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحا وَآخَرَ صَيِّتا تَجَاوَزَ الله
عَنْهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: {فَإِنَّهُم خلطوا عملا
صَالحا وَآخر سَيِّئًا} ومؤمل بِضَم الْمِيم وَفتح
الْهمزَة وَكسر الْمِيم، وَفتحهَا، وَإِسْمَاعِيل ابْن
إِبْرَاهِيم هُوَ إِسْمَاعِيل بن علية، وعَوْف هُوَ
الْأَعرَابِي وَأَبُو رَجَاء ضد الْيَأْس. عمرَان
العطاردي. والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ مقطعا فِي
الصَّلَاة وَفِي الْجَنَائِز وَفِي الْبيُوع وَفِي
الْجِهَاد فِي بَدْء الْخلق وَفِي صَلَاة اللَّيْل وَفِي
الْأَدَب وَفِي الصَّلَاة، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء
وَفِي التَّفْسِير وَفِي التَّعْبِير عَن مُؤَمل بن
هِشَام، وَقد ذكرنَا فِي الْمَوَاضِع الْمَاضِيَة مَا
فِيهِ الْكِفَايَة.
قَوْله: (آتيان) ، أَي: ملكان. قَوْله: (فابتعثاني) أَي:
من النّوم. قَوْله: (شطر) أَي: نصف. قَوْله: (أما
الْقَوْم) قسيمه هُوَ قَوْله: هَذَا مَنْزِلك. قَوْله:
(الَّذين) ويروى: الَّذِي، بِالْإِفْرَادِ ويؤول بِمَا
يؤول بِهِ. قَوْله: (وخضتم كَالَّذي خَاضُوا) (التَّوْبَة:
69) قَوْله: (كَانُوا شطر مِنْهُم حسن) ، الْقيَاس كَانَ
شطر مِنْهُم حسنا. وَلَكِن كَانَ تَامَّة. وَشطر مُبْتَدأ:
وَحسن، خَبره وَالْجُمْلَة حَال بِدُونِ الْوَاو وَهُوَ
فصيح كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {اهبطوا بَعْضكُم لبَعض
عَدو} .
16 - (بابُ قَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِلنبيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} (الْبَقَرَة:
36)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ
للنَّبِي} إِلَى آخِره قَالَ قَتَادَة: فِي هَذِه الْآيَة
ذكر لنا أَن رجَالًا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا: يَا نَبِي الله! إِن من آبَائِنَا
من كَانَ يحسن الْجوَار ويصل الْأَرْحَام ويفك العاني
ويوفي بالذمم، أَفلا تستغفر لَهُم؟ فَقَالَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (بلَى. وَالله إِنِّي لأَسْتَغْفِرَن
لأبي كَمَا اسْتغْفر إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ) فَأنْزل الله:
{مَا كَانَ للنَّبِي وَالَّذين آمنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا}
حَتَّى بلغ {الْجَحِيم} . وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَن ابْن
عَبَّاس، فِي هَذِه الْآيَة أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ أَن يسْتَغْفر لأمه فَنَهَاهُ الله
عَن ذَلِك، فَقَالَ إِن إِبْرَاهِيم خَلِيل الله اسْتغْفر
لِأَبِيهِ فَأنْزل الله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار
إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ إِلَّا عَن موعدة وعدها إِيَّاه}
(التَّوْبَة: 114) وَقَالَ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن
عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُم
حَتَّى نزلت هَذِه الْآيَة فَلَمَّا أنزلت أَمْسكُوا عَن
الاسْتِغْفَار لأمواتهم وَلم ينهوا أَن يَسْتَغْفِرُوا
للأحياء حَتَّى يموتوا ثمَّ أنزل الله: {وَمَا كَانَ
اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ} الْآيَة.
4675 - ح دَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا عَبْدُ
الرَّزَاقِ أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عَنْ أبِيهِ قَالَ لَمَّا
حَضَرَتْ أبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعِنْدَهُ أبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ
الله بنُ أبِي جَهْلٍ وَعَبْدُ الله بنُ أبِي أُمَيَّةَ
يَا أبَا طِالِبِ أتَرْغَبُ عَنْ مِلَةِ عَبْدِ
الْمُطَلِبِ فَقَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ انْهَ عَنْكَ فَنَزَلَتْ:
{مَا كَانَ لِلنبيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولى
قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُمْ
أصْحَابُ الجَحِيمِ} .
(18/276)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقد مضى هَذَا الحَدِيث
فِي كتاب الْجَنَائِز فِي: بَاب إِذا قَالَ الْمُشرك عِنْد
الْمَوْت لَا إلاه إلاَّ الله، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ
عَن إِسْحَاق عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن
صَالح عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب عَن أَبِيه
إِلَى آخِره، بأتم مِنْهُ، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ
عَن سعيد بن الْمسيب عَن أَبِيه الْمسيب بِفَتْح الْبَاء
وَكسرهَا، وَقَالَ النَّوَوِيّ: لم يرو عَن الْمسيب إلاَّ
ابْنه، وَفِيه رد على الْحَاكِم أبي عبد الله فِيمَا
قَالَه: إِن البُخَارِيّ لم يخرج عَن أحد مِمَّن لم يرو
عَنهُ إلاَّ وَاحِد، وَلَعَلَّه أَرَادَ من غير
الصَّحَابَة. وَأَبُو طَالب اسْمه: عبد منَاف، وَأَبُو جهل
عَمْرو بن هِشَام المَخْزُومِي، وَعبد الله بن أبي أُميَّة
المَخْزُومِي أسلم عَام الْفَتْح. قَوْله: (أَي عَم) ،
يَعْنِي: يَا عمي، حذفت يَاء الْإِضَافَة للتَّخْفِيف.
قَوْله: (أُحَاج) ، جَوَاب لِلْأَمْرِ، وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: وَقد سَمِعت أَن الله أحيى عَمه أَبَا
طَالب فَآمن من بِهِ، وروى السُّهيْلي فِي (الرَّوْض)
بِسَنَدِهِ أَن الله أحيى أم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وأباه فَآمَنا بِهِ. |