عمدة القاري شرح صحيح البخاري

1 - (بَابٌ قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقرٍ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (ي س: 83)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالشَّمْس تجْرِي} الْآيَة. قَوْله: (ولمستقر) أَي: إِلَى مُسْتَقر لَهَا وَعَن ابْن عَبَّاس: لَا تبلغ مستقرها حَتَّى ترجع إِلَى منازلها، وَقيل: إِلَى انْتِهَاء أمرهَا عِنْد انْقِضَاء الدُّنْيَا، وَعَن أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مستقرها تَحت الْعَرْش. قَوْله: (ذَلِك) أَي: مَا ذكر من أَمر اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس تَقْدِير الْعَزِيز فِي ملكه الْعَلِيم بِمَا قدر من أمرهَا.

2084 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثنا الأعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي ذَرّ رَضِي الله عَنهُ قَالَ كُنْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَالَ يَا أبَا ذَرٍّ أتَدْرِي أيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ قُلْتُ الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ قَالَ فَإنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍ لَهَا ذالِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو نعيم بِالضَّمِّ الْفضل بن دُكَيْن، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن شريك التَّيْمِيّ الْكُوفِي، يروي عَن أَبِيه يزِيد عَن أبي ذَر جُنْدُب الْغِفَارِيّ، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي مَوَاضِع مِنْهَا فِي بَدْء الْخلق، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

3084 - حدَّثنا الحُمَيْدِيُّ حدَّثنا وَكِيعٌ حدَّثنا الأعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي ذَرٍّ قَالَ سَألْتُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقِرٍ لَهَا} قَالَ مُسْتَقَرُّها تَحْتَ العَرْشِ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَن الْحميدِي عَن عبد الله عَن وَكِيع بن الْجراح إِلَى آخِره، غير أَن فِي الرِّوَايَة الأولى استفهمه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بقوله: أَتَدْرِي، وَهنا أَبُو ذَر سَأَلَهُ عَن ذَلِك، وَفِي الأول إِخْبَار عَن سجودها تَحت الْعَرْش وَلَا يُنكر ذَلِك عِنْد محاذاتها للعرش فِي مسيرها وَقد ورد الْقُرْآن بسجود الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم. فَإِن قلت: قد قَالَ الله تَعَالَى: {فِي عين حمئه} (الْكَهْف: 68) بَينهمَا تخَالف. قلت: لَا تخَالف فِيهِ لِأَن الْمَذْكُور فِي الْآيَة إِنَّمَا هُوَ نِهَايَة مدرك الْبَصَر إِيَّاهَا حَال الْغُرُوب ومصيرها تَحت الْعَرْش للسُّجُود إِنَّمَا هُوَ بعد الْغُرُوب، وَلَيْسَ معنى فِي عين حمئه سُقُوطهَا فِيهَا وَإِنَّمَا هُوَ خبر عَن الْغَايَة الَّتِي بلغَهَا ذُو القرنين فِي مسيره حَتَّى لم يجد وَرَاءَهَا مسلكا لَهَا فَوْقهَا أَو على سعتها كَمَا يرى غُرُوبهَا من كَانَ فِي لجة الْبَحْر لَا يبصر السَّاحِل كَأَنَّهَا تغرب فِي الْبَحْر وَهِي فِي الْحَقِيقَة تغرب وَرَاءَهَا وَالله أعلم.

73 - (سُورَةُ: {وَالصَّافَاتِ} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {وَالصَّافَّات} وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ سُورَة: وَهِي مَكِّيَّة بالِاتِّفَاقِ إلاّ مَا رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن زَيْدَانَ. قَوْله: {قَالَ قَائِل مِنْهُم إِنِّي كَانَ لي قرين} (الصافات: 15) إِلَى آخر هَذِه الْقِصَّة، وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وَثَمَانمِائَة وَسِتَّة وَعِشْرُونَ حرفا، وَثَمَانمِائَة وَسِتُّونَ كلمة وَمِائَة وَاثْنَانِ وَثَمَانُونَ آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

ثبتَتْ الْبَسْمَلَة هُنَا عِنْد الْكل.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَيُقْذَفُونَ مِنْ كلِّ جَانِبٍ يُرْمَوْنَ

أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {ويقذفون من كل جَانب دحورا} (الصافات: 8) وَفسّر: (يقذفون) بقوله: (يرْمونَ) وَفِي التَّفْسِير: يرْمونَ ويطردون من كل جَانب من حميع جَوَانِب السَّمَاء أَي جِهَة صعدوا للاستراق. قَوْله: (دحورا) ، أَي: طردا مفعلو لَهُ أَي: يطردون للدحور، وَيجوز أَن يكون حَالا. أَي: مدحورين، وَهَذَا إِلَى قَوْله: (لازب لَازم) يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر.
وَاصبٌ دَائِمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُم عَذَاب واصب} (الصافات: 9) وَفَسرهُ بقوله: (دَائِم) نَظِيره قَوْله: {وَله الدّين واصبا} وَعَن ابْن عَبَّاس شَدِيد

(19/134)


وَقَالَ الْكَلْبِيّ: مرجع، وَقيل: خَالص.
لازِبٌ لازِمٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَنا خلقناهم من طين لازب} (الصافات: 11) وَفَسرهُ بقوله: (لَازم) فِي التَّفْسِير: طين لازب أَي: جيد حر يلصق ويعلق بِالْيَدِ، واللازب بِالْمُوَحَّدَةِ وَاللَّازِم بِالْمِيم بِمَعْنى وَاحِد، وَالْبَاء بدل من الْمِيم كَأَنَّهُ يلْزم الْيَد، وَعَن السّديّ: خَالص، وَعَن مُجَاهِد وَالضَّحَّاك: منين.
تَأْتونَنَا عَنِ اليَمِينِ يَعْنِي الجنَّ الكُفَّارُ تَقُولُهُ لِلْشيْطانِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّكُم كُنْتُم تأتوننا عَن الْيَمين} (الصافات: 82) وَفَسرهُ بقوله: (الْجِنّ) بِالْجِيم. وَالنُّون الْمُشَدّدَة هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَقَالَ عِيَاض: هَذَا قَول الْأَكْثَرين، ويروى: يَعْنِي الْحق، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْقَاف الْمُشَدّدَة فعلى هَذَا يكون لفظ الْحق تَفْسِير للْيَمِين أَي: كُنْتُم تأتوننا من جِهَة الْحق فتلبسونه علينا. وَقَوله: (الْكفَّار) مُبْتَدأ أَو تَقول خَبره أَي: تَقول الْكفَّار هَذَا القَوْل للشياطين، وَأما رِوَايَة الْجِنّ بِالْجِيم وَالنُّون: فَالْمَعْنى: الْجِنّ الْكفَّار تَقوله للشياطين، وَهَكَذَا أخرجه عبد بن حميد عَن مُجَاهِد فَيكون لفظ: الْكفَّار على هَذَا صفة للجن فَافْهَم، فَإِنَّهُ مَوضِع فِيهِ دقة.
غَوْلٌ: وَجَعُ بَطْنٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا فِيهَا غول وَلَا هم عَنْهَا ينزفون} (الصافات: 74) وَفسّر قَوْله: غول بقوله: (وجع بطن) وَهَذَا قَول قَتَادَة، وَعَن الْكَلْبِيّ: لَا فِيهَا إِثْم نَظِيره: (لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تأثيم) (الطّور: 32) وَعَن الْحسن: صداع، وَقيل: لَا تذْهب عُقُولهمْ. وَقيل: لَا فِيهَا مَا يكره، وَهَذَا أَيْضا لم يثبت لأبي ذَر.
يُنْزَفُونَ: لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَا هم عَنْهَا ينزفون} وَفَسرهُ بقوله: لَا تذْهب عُقُولهمْ، هَذَا على قِرَاءَة كسر الزَّاي، وَمن قَرَأَهَا بِفَتْحِهَا فَمَعْنَاه لَا ينفذ شرابهم، وَفِي التَّفْسِير: لَا يَغْلِبهُمْ على عُقُولهمْ وَلَا يسكرون بهَا، يُقَال: نزف الرجل فَهُوَ منزوف ونزيف إِذا سكر وَزَالَ عقله، وأنزف الرجل إِذا فنيت خمره.
قَرِينٌ: شَيْطَانٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ قَائِل مِنْهُم إِنِّي كَانَ لي قرين} (الصافات: 15) وَفَسرهُ بقوله: (شَيْطَان) يَعْنِي: كَانَ لي قرين فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا وَمَا قبله لم يثبت لأبي ذَر.
يَهْرَعُونَ: كَهَيْئَةِ الهَرْوَلَةِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فهم على آثَارهم يهرعون} (الصافات: 7) وَفَسرهُ بقوله: (كَهَيئَةِ الهرولة) أَرَادَ أَنهم يسرعون كالمهرولين، والهرولة الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي.
يَزِفُونَ: النَّسَلانُ فِي المَشْيِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون} (الصافات: 49) وَفسّر الزف الَّذِي يدل عَلَيْهِ يزفون، بقوله: (النسلان فِي الْمَشْي) والنسلان بِفتْحَتَيْنِ: الْإِسْرَاع مَعَ تقَارب الخطا، وَهُوَ دون السَّعْي، وَقيل: هُوَ من زفيف النعام وَهُوَ حَال بَين الْمَشْي والطيران. وَقَالَ الضَّحَّاك: يزفون مَعْنَاهُ يسعون، وَقَرَأَ حَمْزَة بِضَم أَوله وهما لُغَتَانِ.
وَبَيْنَ الجَنَّةِ نَسَبا. قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: المَلائِكَةُ بَنَاتُ الله وَأُمَّهَاتُهُمْ بَنَاتُ سَرَوَاتِ الجِنِّ، وَقَالَ الله تعَالَى {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجَنَّةُ أنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (الصافات: 851) سَتَحْضَرُ لِلْحِسابِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجعلُوا بَينه وَبَين الْجنَّة نسبا} الْآيَة، وَهَذَا كُله لم يثبت لأبي ذَر، أَي: جعل مشركو مَكَّة بَينه، أَي: بَين الله، وَبَين الْجنَّة أَي: الْمَلَائِكَة وسموهم جنَّة لاجتنابهم عَن الْأَبْصَار، وَقَالُوا الْمَلَائِكَة: بَنَات الله. قَوْله: وأمهاتهم أَي: أُمَّهَات الْمَلَائِكَة بَنَات سروات الْجِنّ أَي: بَنَات خواصهم، والسروات جمع سراة والسراة جمع سري وَهُوَ جمع عَزِيز أَن يجمع فعيل على فعلة، وَلَا يعرف غَيره. قَوْله: (وَلَقَد علمت الْجنَّة أَنهم) أَي: أَن قائلي هَذَا القَوْل لمحضرون فِي النَّار ويعذبهم وَلَو كَانُوا مناسبين لَهُ أَو شُرَكَاء فِي وجوب الطَّاعَة لما عذبهم.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَنَحْنُ الصَّافُّونَ: المَلائِكَةُ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّا لنَحْنُ الصافون وَإِنَّا لنَحْنُ المسبحون} (الصافات: 561، 661) الصافون هم الْمَلَائِكَة. هَذَا أخرجه

(19/135)


ابْن جرير عَنهُ بِزِيَادَة: صافون نُسَبِّح لَهُ، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أَي: لنَحْنُ الصافون فِي الصَّلَاة.
صِرَاطِ الجَحَيمِ سَوَاءِ الجَحِيمِ وَوَسَطِ الجَحِيمِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فاهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم} (الصافات: 32) قَوْله: فَاطلع فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم. وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة بِمَعْنى وَاحِد. وَفِي التَّفْسِير: صِرَاط الْجَحِيم طَرِيق النَّار، والصراط الطَّرِيق، وَلم يثبت هَذَا لأبي ذَر وَالَّذِي قبله أَيْضا.
لَشَوْبا يُخْلَط طَعَامُهُمْ وَيُسلطُ بِالحَمِيمِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِن لَهُم عَلَيْهَا لشوبا من حميم} (الصافات: 76) وَفسّر: (شوبا) بقوله: (يخلط) إِلَى آخِره. قَوْله: (ويساط) أَي: يخلط من ساطه يسوطه سَوْطًا أَي: خلطه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: السَّوْط خلط الشَّيْء بعضه بِبَعْض، وَالْحَمِيم: هُوَ المَاء الْحَار.
مَدْحُورا: مَطْرُودا

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالَ اخْرُج مِنْهَا مذؤوما مَدْحُورًا} (الصافات: 81) لَكِن هَذَا فِي الْأَعْرَاف وَلَيْسَ هُنَا مَحَله، وَالَّذِي فِي هَذِه السُّورَة هُوَ قَوْله: (ويقذفون من كل جَانب دحورا) وَقد مر بَيَانه عَن قريب، وَفسّر: (مَدْحُورًا) بقوله: (مطرودا) لِأَن الدَّحْر هُوَ الطَّرْد والإبعاد.
بَيْضٌ مَكْنُونٌ: اللؤْلُؤ المَكْنُونُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: (كأنهن بيض مَكْنُون) (الصافات: 94) وَفَسرهُ: بقوله: (اللُّؤْلُؤ الْمكنون) يَعْنِي: فِي الصفاء واللين، وَالْبيض جمع بَيْضَة، وَفِي التَّفْسِير: مَكْنُون أَي: مَسْتُور، وَقيل: أَي مصون، وكل شَيْء صنته فَهُوَ مَكْنُون فَكل شَيْء أضمرته فقد أكننته، وَإِنَّمَا قَالَ: مَكْنُون مَعَ أَنه صفة بيض، وَهُوَ جمع بِالنّظرِ إِلَى اللَّفْظ.
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ يُذْكَرُ بِخَيْرٍ
وَفِي بعض النّسخ: بَاب وَتَركنَا، وَفِي الْبَعْض، بَاب قَوْله: وَتَركنَا، وَهَذَا ثَبت للنسفي وَحده أَي: تركنَا على آلياسين فِي الآخرين، وَقيل: على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي (تَفْسِير النَّسَفِيّ) قَرَأَ ابْن عَامر وَنَافِع وَيَعْقُوب آل ياسين بِالْمدِّ، وَالْبَاقُونَ الياسين بِالْقطعِ وَالْكَسْر، وَمن قَرَأَ الياسين فَهِيَ لُغَة فِي النَّاس كَمَا يُقَال: ميكال فِي مِيكَائِيل، وَقيل: هُوَ أَرَادَ جمع الياس وَأَتْبَاعه من الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (يذكر) بِخَير تَفْسِير قَوْله: وَتَركنَا عَلَيْهِ، وَقيل: أَي: ثَنَاء حسنا فِي كل أمة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
يَسْتَسْخِرُونَ يَسْخَرُونَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا رَأَوْا آيَة يستسخرون} (الصافات: 41) وَفَسرهُ بقوله: (يسخرون) .
بَعْلاً: رَبّا

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَتَدعُونَ بعلاً وتذرون أحسن الْخَالِقِينَ} (الصافات: 521) وَفسّر: (بعلاً) بقوله: (رَبًّا) وَهُوَ اسْم صنم كَانُوا يعبدونه، وَمِنْه سميت مدينتهم، بعلبك، وَلم يثبت هَذَا إلاَّ للنسفي.

1 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَإنَّ يُونُسَ لِمَنْ المُرْسَلِينَ} (الصافات: 931)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن يُونُس لمن الْمُرْسلين} .

4084 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا جَرِيرٌ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي وَائلٍ عَنْ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عنهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَنْبَغِي لأحَدٍ أنْ يَكُونَ خَيْرا مِنِ ابنِ مَتَّى..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من ابْن مَتى) ويروى من يُونُس بن مَتى، وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَأَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة، والْحَدِيث قد مضى فِي أَوَاخِر سُورَة النِّسَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن سُفْيَان عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، وَمر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

5084 - حدَّثني إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِر حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ فُلَيْحٍ قَالَ حدَّثني أبِي عَنْ هِلالِ بنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِر بنِ لُؤَيٍّ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسارٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(19/136)


قَالَ مَنْ قَالَ أنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى وَمضى الحَدِيث أَيْضا فِي سُورَة النِّسَاء فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن سِنَان عَن فليح عَن هِلَال عَن عَطاء بن يسَار إِلَى إخره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصًى.

83 - (سُورَةْ: {ص} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة: {ص} مَكِّيَّة بِلَا خلاف نزلت بعد سُورَة الانشقاق وَقيل الْأَعْرَاف، وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وَسَبْعَة وَتسْعُونَ حرفا، وَسَبْعمائة وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ كلمة، وَخمْس وَثَمَانُونَ آيَة، وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ، فَعَن ابْن عَبَّاس: بَحر بِمَكَّة كَانَ عَلَيْهِ عرش الرَّحْمَن لَا ليل وَلَا نَهَار، وَعَن سعيد بن جُبَير: بَحر يحيي الله بِهِ الْمَوْتَى بَين النفختين، وَعَن الضَّحَّاك: {ص} صدق الله تَعَالَى، وَعَن مُجَاهِد: فَاتِحَة السُّورَة، وَعَن قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَعَن السّديّ: اسْم من أَسمَاء الله، وَعَن مُحَمَّد الْقرظِيّ: هُوَ مِفْتَاح أَسمَاء الله تَعَالَى إِلَى صَمد وصانع المصنوعات وصادق الْوَعْد، وَعَن ابْن سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي: اسْم حَيَّة رَأسهَا تَحت الْعَرْش وذنبها تَحت الأَرْض السُّفْلى، قَالَ: وَأَظنهُ عَن عِكْرِمَة، وَقيل: هُوَ من المصاداة من قَوْلك: صَاد فلَانا وَهُوَ أَمر من ذَلِك. فَمَعْنَاه: صَاد بعملك الْقُرْآن أَي: عَارضه لتنظر أَيْن عَمَلك. فَمن أول هَكَذَا يقْرَأ: صَاد بِكَسْر الدَّال لِأَنَّهُ أَمر، وَكَذَا رُوِيَ عَن الْحسن، وقرأه عَامَّة قراء الْأَمْصَار بِسُكُون الدَّال إلاّ عبد الله بن إِسْحَاق وَعِيسَى بن عمر فَإِنَّهُمَا يكسرانه.
بِسم الله الرحمان الرَّحِيم

سَقَطت الْبَسْمَلَة فَقَط للنسفي، وَاقْتصر الْبَاقُونَ على لفظ {ص} .

6084 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشارٍ حدَّثنا غُنْدَرٌ حدَّثنا شُعْبَةُ عَنِ العَوَّامِ قَالَ سألْتُ مُجاهدا عَنِ السَّجْدَةِ فِي ص قَالَ سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: {أُوْلَئِكَ الَّذِي هَدَي الله فَبِهُدعاهُمُ اقْتَدِهْ} (الْأَنْعَام: 09) وَكَانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَسْجُدُ فِيها..
غنْدر بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَقد مر غير مرّة، والعوام، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الواوين حَوْشَب الوَاسِطِيّ. والْحَدِيث مر فِي سُورَة الْأَنْعَام وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَالك.

7084 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الله حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ عَنِ العَوَّامِ قَالَ سَألْتُ مُجاهِدا عَنْ سَجْدَةِ ص فَقَالَ سألْتُ ابنَ عَباسٍ مِنْ أيْنَ سَجَدْتَ فَقَالَ أوَ مَا تَقْرَأُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فَسَجَدَها رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مُحَمَّد بن عبد الله. قَالَ الكلاباذي وَابْن طَاهِر: هُوَ الذهلي نِسْبَة إِلَى جده وَهُوَ مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله بن خَالِد بن فَارس بن ذُؤَيْب أَبُو عبد الله الذهلي النَّيْسَابُورِي، مَاتَ بعد البُخَارِيّ بِيَسِير، تَقْدِيره سنة سبع وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي قريب من ثَلَاثِينَ موضعا وَلم يقل: مُحَمَّد بن يحيى الذهلي مُصَرحًا بل يَقُول حَدثنَا مُحَمَّد، وَلَا يزِيد عَلَيْهِ، أَو ينْسبهُ إِلَى جده وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَنه لما دخل نيسابور فشغب عَلَيْهِ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي فِي مَسْأَلَة خلق اللَّفْظ وَكَانَ قد سمع مِنْهُ فَلم يتْرك الرِّوَايَة عَنهُ وَلم يُصَرح باسمه كَمَا يَنْبَغِي، وَقَالَ غير غَيرهمَا: يحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن عبد الله هَذَا مُحَمَّد بن عبد الله بن الْمُبَارك المَخْزُومِي فَإِنَّهُ من هَذِه الطَّبَقَة وَالله أعلم.
قَوْله: (من أَيْن سجدت) ؟ على صِيغَة الْخطاب للحاضر، ويروى على صِيغَة الْمَجْهُول للغائبة، أَي: بِأَيّ دَلِيل صَارَت سَجْدَة! قَوْله: (فسجدها دَاوُد) ، وَلم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَسجد دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِيهَا وَالرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُور بالاقتداء بِهِ وَنحن مأمورون بالاقتداء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومتابعته، وَهَذَا حجَّة على الشَّافِعِي فِي قَوْله: لَيْسَ فِي {ص} سَجْدَة عَزِيمَة وَبَاقِي الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كتاب الصَّلَاة فِي أَبْوَاب سُجُود التِّلَاوَة.
عُجابٌ: عَجِيبٌ

(19/137)


أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِن هَذَا الشَّيْء عُجاب} (ص: 5) وَذكر أَن معنى: عُجاب، بِمَعْنى: (عَجِيب) وقرىء: عُجاب، بتَشْديد الْجِيم وَالْمعْنَى وَاحِد، وَقيل: هُوَ أَكثر، وَقَالَ مقَاتل هَذَا بلغَة أَزْد شنُوءَة مثل كريم وكرام وكبير وكبار وطويل وطوال وعريض وعراض.
الْقِطُّ: الصَّحِيفَةُ هُوَ هاهُنا صَحِيفَةُ الحَسَنَاتِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا رَبنَا عجل لنا قطنا قبل يَوْم الْحساب} (ص: 61) وَقَالَ: (القط الصَّحِيفَة) مُطلقًا وَلَكِن المُرَاد هَاهُنَا صحيفَة الْحَسَنَات، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: صحيفَة الْحساب، وَكَذَا فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ، وَقَالَ الْكَلْبِيّ لما نزلت فِي الحاقة: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ} (الحاقة: 91) الْآيَة. قَالُوا على وَجه الِاسْتِهْزَاء، عجل لنا قطنا، يعنون كتَابنَا عجله لنا فِي الدُّنْيَا قبل يَوْم الْحساب، وَعَن قَتَادَة وَمُجاهد وَالسُّديّ: يعنون عقوبتنا وَمَا كتب لنا من الْعَذَاب، وَعَن عَطاء: قَالَه النَّضر بن الْحَارِث، وَعَن أبي عُبَيْدَة: القط الْكتاب وَالْجمع قطوط وقططة كقرد وقرود وقردة وَأَصله من قطّ الشَّيْء إِذا قطعه، وَيُطلق على الصَّحِيفَة لِأَنَّهَا قِطْعَة تقطع وَكَذَلِكَ الصَّك.
وَقَالَ مُجاهِدٌ فِي عِزَّةٍ مُعازِّين
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {بل الَّذين كفرُوا فِي عزة وشقاق} (ص: 2) وَأَرَادَ أَن قَوْله: (فِي عزة) فِي مَوضِع خبر وَأَنه بِمَعْنى: (معازين) أَي: مغالبين، وَقيل: فِي حمية جَاهِلِيَّة وتكبر. قَوْله: (وشقاق) ، أَي: خلاف وفراق.
المِلَّةِ الآخِرَةِ مِلَّةُ قُرَيْشٍ الاخْتِلاقُ الكَذِبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مَا سمعنَا بِهَذَا فِي الْملَّة الْآخِرَة إِن هَذَا إلاَّ اخْتِلَاق} (ص: 7) وَفسّر الْملَّة الْآخِرَة بِملَّة قُرَيْش، والاختلاق بِالْكَذِبِ، وَبِه فسر مُجَاهِد وَقَتَادَة، وَعَن ابْن عَبَّاس والقرطبي والكلبي وَمُقَاتِل: يعنون النَّصْرَانِيَّة لِأَن النَّصَارَى تجْعَل مَعَ الله إلهاا.
الأسْبابُ طُرْقُ السَّماءِ فِي أبْوابِها
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فليرتقوا فِي الْأَسْبَاب} (ص: 1) وَفسّر الْأَسْبَاب بطرق السَّمَاء فِي أَبْوَابهَا، وَكَذَا فسره مُجَاهِد وَقَتَادَة، وَفِي التَّفْسِير: فليرتقوا أَي: فليصعدوا فِي الْجبَال إِلَى السَّمَوَات فليأتوا مِنْهَا بِالْوَحْي إِلَى من يختارون ويشاؤون، وَهَذَا أَمر توبيخ وتعجيز.
جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ يَعْنِي قُرَيْشا
لغير أبي ذَر قَوْله: (جندما) إِلَى آخِره. قَوْله: (يَعْنِي قُريْشًا) ، وَهَكَذَا قَالَه مُجَاهِد. قَوْله: جند، خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَي: هم جند، وَكلمَة مَا متزيدة أَو صفة لجند. (وهنالك) يشار بِهِ إِلَى مَكَان الْمُرَاجَعَة، ومهزوم صفة جند، أَي: سيهزمون بذلك الْمَكَان وَهُوَ من الْأَخْبَار بِالْغَيْبِ لأَنهم هزموا بعد ذَلِك بِمَكَّة. وَعَن قَتَادَة وعده الله، عز وَجل، بِمَكَّة أَنهم سيهزمون، يهزمهم الله، فجَاء تَأْوِيلهَا يَوْم بدر.
أُولَئِكَ الأحْزَابُ القُرُونُ المَاضِيَةُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَصْحَاب الأيكة أُولَئِكَ الْأَحْزَاب} (ص: 31) وفسرها بقوله: (الْقُرُون الْمَاضِيَة) وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِد وَزَاد غَيره الَّذين قهروا وأهلكوا.
فَوَالِقٍ: رُجُوعٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ينظر هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة مَا لَهَا من فوَاق} (ص: 51) يَقُول: لَيْسَ لَهُم إِقَامَة وَلَا رُجُوع إِلَى الدُّنْيَا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: من فتح الْفَاء قَالَ: مَالهَا من رَاحَة، وَمن ضمهَا جعلهَا من فوَاق النَّاقة وَهُوَ مَا بَين الحليتين، وَقَرَأَ بِضَم الْفَاء حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، وَقيل الضيم وَالْفَتْح بِمَعْنى وَاحِد مثل قصاص الشّعْر جَاءَ فِيهِ الْفَتْح وَالضَّم.
قِطَّنا: عَذَابَنا
قيل هَذَا مُكَرر وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ فسر (قطنا) فِي الأول بالصحيفة، وَهَاهُنَا الْعَذَاب. أَي: عجل لنا عذابنا على أَنه لَا يُوجد فِي أَكثر النّسخ.
اتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيا احْطْنا بِهِمْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {اتخذناهم سخريا أم زاغت عَنْهُم الْأَبْصَار} وَفَسرهُ بقوله: (أحطنا بهم) كَذَا فِي الْأُصُول، وبخط

(19/138)


الدمياطي: لَعَلَّه أحطناهم، وَقد سبقه بِهَذَا عِيَاض فَإِنَّهُ قَالَ: قَوْله أحطنا بهم لَعَلَّه أحطناهم، وَحذف مَعَ ذَلِك القَوْل الَّذِي هَذَا تَفْسِيره، وَهُوَ: {أم زاغت عَنْهُم الْأَبْصَار} (ص: 36) وَينْصَح بِالْآيَةِ الَّتِي قبلهَا وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا لنا لَا نرى رجَالًا كُنَّا نعدهم من الأشرار} (ص: 46) قَوْله: (وَقَالُوا) يَعْنِي: كفار قُرَيْش وهم فِي النَّار مَا لنا لَا نرى رجَالًا يعنون: فُقَرَاء الْمُسلمين كُنَّا نعدهم من الأشرار الأرذال الَّذين لَا خير فيهم، يَعْنِي: لَا نراهم فِي النَّار كَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِيهَا بل زاغت عَنْهُم أبصارنا فَلَا نراهم وهم فِيهَا قَوْله: (اتخذناهم) بوصل الْألف بِلَفْظ الْإِخْبَار على أَنه صفة لَرِجَالًا، هَذَا عِنْد أهل الْبَصْرَة والكوفة إلاَّ عَاصِمًا، وَالْبَاقُونَ يفتحون الْهمزَة ويقطعونها على الِاسْتِفْهَام على أَنه إِنْكَار على أنفسهم وتأنيب لَهَا فِي الاستخبار.
أتْرَابٌ: أمْثَالٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَعِنْدهم قاصرات الطّرف أتراب} (ص: 25) وَفَسرهُ بقوله: (أَمْثَال) والأتراب جمع ترب بِالْكَسْرِ وَهُوَ اللدة، وَالْمعْنَى: على سنّ وَاحِد على ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ الأيْدُ القُوَّةُ فِي العِبَادَةِ: الأبْصَارُ التبَصرُ فِي أمْرِ الله تَعَالى
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب أولى الْأَيْدِي والأبصار} (ص: 54) وَفسّر: (الأيد) بِالْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَة وَفسّر الْأَبْصَار بالتبصر فِي أَمر الله، وَهَذَا أسْندهُ الطَّبَرِيّ عَن مُحَمَّد بن سعد حَدثنِي أبي حَدثنِي عمي حَدثنِي أبي عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس بِهِ.
حُبَ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي مِنْ ذِكْرِ رَبِّي
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب} (ص: 23) أَي: قَالَ سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر أَي: الْخَيل، وَالْعرب تعاقب بَين الرَّاء وَاللَّام، فَنَقُول: إنهملت الْعين وانهمرت، وَهِي الْخَيل الَّتِي عرضت عَلَيْهِ قَوْله: (عَن ذكر رَبِّي) أَي: الصَّلَاة (حَتَّى تَوَارَتْ) أَي: الشَّمْس أَي: حَتَّى غَابَتْ. قَوْله: (من ذكر رَبِّي) أَرَادَ بِهِ أَن معنى عَن ذكر رَبِّي (من ذكر رَبِّي) وَكلمَة: عَن بِمَعْنى: من.
طَفِقَ مَسْحا يَمْسَحُ أعْرَافَ الخَيْلِ وَعَرَاقِيبَها

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق} (ص: 33) وَفسّر قَوْله طفق مسحاً بقوله: (يمسح أعراف الْخَيل) والأعراف جمع عرف بِالضَّمِّ، وَعرف الْفرس شعر عُنُقه، وَكَذَلِكَ الْمعرفَة، وطفق من أَفعَال المقاربة، وَقد ذكر غير مرّة قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وطفق أَي: أقبل يمسح سوقها وأعناقها بِالسَّيْفِ وينحرها تقربا إِلَى الله تَعَالَى، وَهَذَا وَمَا بعده ليسَا فِي رِوَايَة أبي ذَر.
الأصْفَادِ: الوَثاقِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {مُقرنين فِي الأصفاد} (ص: 82) وَفَسرهُ (بِالْوَثَاقِ) والأصفاد جمع صفد وَهُوَ الْقَيْد، وَمعنى: مُقرنين موثوقين وَهَذَا وَمَا قبله مضيا فِي تَرْجَمَة سُلَيْمَان فِي كتاب الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.

2 - (بَابُ قَوْلِهِ: {هَبْ لِي مُلْكا لَا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ} (ص: 53)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {هَب لي ملكا} إِلَى آخِره، وَأول الْآيَة: {قَالَ رب اغْفِر لي وهب لي ملكا} الْآيَة، طلب سُلَيْمَان، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْمَغْفِرَة من الله، ثمَّ قَالَ: هَب لي ملكا أَصله: أوهب، لِأَنَّهُ من وهب يهب حذفت الْوَاو مِنْهُ تبعا لفعله، وَاسْتغْنى عَن الْهمزَة فحذفت فَبَقيَ: هَب، على وزن: عل. قَوْله: (لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي) ، أَي: لَا يكون لأحد من بعدِي، قَالَه ابْن كيسَان، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح. أَي: هَب لي ملكا لَا أسلبه فِي بَاقِي عمري كَمَا سلبته فِي ماضي عمري، وَعَن مقَاتل بن حبَان: كَانَ سُلَيْمَان ملكا وَلكنه أَرَادَ بقوله: (لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي) تسخير الرِّيَاح وَالطير يدل عَلَيْهِ مَا بعده، وَعَن عمر بن عُثْمَان الصَّدَفِي: أَرَادَ بِهِ ملك النَّفس وقهرها. قَوْله: (الْوَهَّاب) الْمُعْطِي كثير الْعَطاء.

8084 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ إبْرَاهِيمَ حدَّثنا رَوْحٌ وَمُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ زِيَادٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنَّ عَفْرِيتا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أوْ كَلِمَةً

(19/139)


نَحْوَها لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ فَأمْكَنَنِي الله مِنْهُ وَأرَدْتُ أنْ أرْبِطَهُ إلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إلَيْهِ كُلَكُمْ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أخِي سُلَيْمَان رَبِّ هَبْ لِي مُلْكا لَا يَنْبَغِي لاْحَدٍ مِنْ بَعْدِي قَالَ رَوْحٌ فَرَدَّهُ خَاصا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث مر فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب الْأَسير أَو الْغَرِيم يرْبط فِي الْمَسْجِد بِعَيْنِه متْنا وسندا وَإِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم هُوَ الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، وروح، بِفَتْح الرَّاء، هُوَ ابْن عبَادَة.
قَوْله: (أَن عفريتا) ، هُوَ المبالغ من كل شَيْء. قَوْله: (تفلت) ، على وزن تفعل من التفليت، أَي: تعرض عَليّ فَجْأَة فِي البارحة. قَوْله: (قَالَ روح) ، هُوَ ابْن عبَادَة الرَّاوِي. قَوْله: (خاسئا) ، أَي: مطرودا متحيرا وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي الْبَاب الْمَذْكُور.

3 - (بَابٌ: {وَمَا أنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} (ص: 68)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنا من المتكلفين} وأوله {قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر وَمَا أَنا من المتكلفين} أَي: قل يَا مُحَمَّد مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ، أَي: على تَبْلِيغ الْوَحْي، وَهُوَ كِنَايَة عَن غير مَذْكُور، قَوْله: (من أجر) ، قَالَ الْحسن بن الْفضل: هَذِه الْآيَة ناسخة لقَوْله تَعَالَى: {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 32) قَوْله: (وَمَا أَنا من المتكلفين) أَي: المتقولين الْقُرْآن من تِلْقَاء نَفسِي، وَقَالَ النَّسَفِيّ: وَمَا أَنا من المتكلفين الَّذين يتصنعون وينتحلون بِمَا لَيْسُوا من أَهله وَمَا عرفتموني قطّ متصنعا وَلَا مُدعيًا مَا لَيْسَ عِنْدِي حَتَّى انتحل بِالنُّبُوَّةِ، والتقول بِالْقُرْآنِ {إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين} (يُوسُف: 401) للثقلين أوحى إِلَيّ بِأَن أبلغه.

9084 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حدَّثنا جَرِيرٌ عَنِ الأعْمَشِ عنْ أبِي الضُّحَى عنْ مَسْروق قَالَ دَخَلْنا عَلَى عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ قَالَ يَا أيُّها النَّاسُ مَنْ عَلِمَ شَيْئا فَلْيَقلْ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ الله أعْلَمُ فَإنَّ مِنَ العِلْمِ أنْ يَقُولَ لِما لَا يَعْلَمُ الله أعْلَمُ قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قُلْ مَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ وَمَا أنَا مِنَ المتَكَلِّمِينَ} وسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ الدُّخَانِ إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعا قُرَيْشا إلَى الإسْلامِ فأبْطؤوا عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأخَذَتْهُمْ سَنَةٌ فَحَصَّتْ كلَّ شَيْءٍ حَتَّى أكَلُوا المَيْتَةَ وَالجَلُودَ حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ دُخانا مِنَ الجُوعِ قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءِ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هاذا عَذَابٌ ألِيمٌ قَالَ فَدَعَوْا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إنَّا مُؤْمِنُونَ أنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إنَّكُمْ عَانِدُونَ} (الدُّخان: 01، 51) أفَيُكْشَفُ العَذَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ فَكُشِفَ ثُمَّ عَادُوا فِي كُفْرِهِمْ فَأخَذَهُمُ الله يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ الله تَعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنَّا مُنْتَقِمُونَ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَأَبُو الضُّحَى، بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة مَقْصُورا هُوَ مُسلم بن صبيح ومسروق هُوَ ابْن الأجدع.
والْحَدِيث قد مضى فِي سُورَة الرّوم، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان عَن مَنْصُور وَالْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى الخ، وَلَكِن بَينهمَا اخْتِلَاف فِي الْمَتْن من حَيْثُ التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَمر أَيْضا بعضه فِي الاسْتِسْقَاء أخرجه عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير عَن مَنْصُور أَيْضا عَن أبي الضُّحَى إِلَى آخِره، وَتقدم الْكَلَام فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُسْتَوفى.
قَوْله: (فحصت بالمهملتين) ، أَي: أذهبت وأفنت. قَوْله: (حَتَّى جعل الرجل) ، يرى بَينه وَبَين السَّمَاء

(19/140)


دخانا وَجه تعلقه بِمَا قبله مَا ذكر فِي سُورَة الرّوم أَنه قيل لِابْنِ مَسْعُود: أَن رجلا يَقُول يَجِيء دُخان كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ ابْن مَسْعُود: من علم شَيْئا الخ.

93 - (سُورَةُ: {الزُّمَر} )

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الزمر. قَالَ ابْن عَبَّاس هِيَ مَكِّيَّة إلاَّ آيتان مدنيتان. {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا} (الزمر: 35) أنزلت فِي وَحشِي. حَرْب {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} (الزمر: 76) وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد سُورَة سبأ وَقبل سُورَة الْمُؤمن، وَهِي أَرْبَعَة آلَاف وَسَبْعمائة وَثَمَانِية أحرف، وَألف وَمِائَة وَاثْنَانِ وَسَبْعُونَ كلمة، وَخمْس وَسَبْعُونَ آيَة.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: {أفَمَنْ يَتقَّى بِوَجْهِهِ} . يَجُر عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أمَّنْ يَأتِي آمِنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَمَن يتقى بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة} (الزمر: 42) الْآيَة. قَوْله: (أَفَمَن يَتَّقِي) ، يُقَال: اتَّقَاهُ بدرقته استقبله بهَا فوقى بهَا نَفسه واتقاء بِيَدِهِ، وَتَقْدِيره: أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب كمن أَمن الْعَذَاب؟ فَحذف الْخَبَر، وَسُوء الْعَذَاب شدته، وَعَن مُجَاهِد: يجر على وَجهه فِي النَّار، وَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى هَذَا بقوله: يجر على وَجهه فِي النَّار، وَأَشَارَ بقوله: وَهُوَ قَوْله: {أَفَمَن يلقى فِي النَّار} إِلَى آخِره إِلَى أَن قَوْله أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ يجر على وَجهه فِي النَّار، مثل قَوْله: (أَفَمَن يلقى فِي النَّار) إِلَى آخِره وَوجه التَّشْبِيه بَيَان حَاله فِي أَن ثمَّ محذوفا تَقْدِيره: أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سوء الْعَذَاب كمن أَمن الْعَذَاب كَمَا ذَكرْنَاهُ لِأَن، وَلَفظ: يجر، بِالْجِيم عِنْد الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَحده بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.
غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَبْسٍ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {قُرْآنًا عَرَبيا غير ذِي عوج لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ} (الزمر: 82) وَفسّر العوج باللبس وَهُوَ الالتباس، وَهَذَا التَّفْسِير باللازم لِأَن الَّذِي فِيهِ لَيْسَ يسْتَلْزم العوج فِي الْمَعْنى، وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه من وَجْهَيْن ضعيفين عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: (غير ذِي عوج) ، قَالَ: لَيْسَ بمخلوق.
وَرَجُلاً سِلْما لِرَجُلٍ صَالِحا مَثَلٌ لإلاهِهِمِ الباطِلِ وَالإلاهِ الحَقِّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلاً سالما لرجل هَل يستويان مثلا} (الزمر: 92) قَوْله: (ورجلاً) عطف على رجلا الأول، وَهُوَ مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، أَي: ضرب الله مثلا لرجل أوفى رجل قَوْله: (سلما) بِكَسْر السِّين وَهُوَ قِرَاءَة الْعَامَّة، وَهُوَ الَّذِي لَا تنَازع فِيهِ، وَقَرَأَ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب: سالما وَهُوَ الْخَالِص ضد الشّرك. قَوْله: (صَالحا) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: خَالِصا وَسَقَطت هَذِه اللَّفْظَة للنسفي. قَوْله: (مثل) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. أَي: (هَذَا مثل لإلاههم الْبَاطِل والإلاه الْحق) ، وَالْمعْنَى: هَل تستوى صفاتهما وتمييزهما، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: هَذَا مثل ضربه الله للْكَافِرِ الَّذِي يعبد آلِهَة شَتَّى وَالْمُؤمن الَّذِي لَا يعبد إلاَّ الله عز وَجل. قَوْله: (متشاكسون) ، مُخْتَلفُونَ متنازعون متشاحون سَيِّئَة أَخْلَاقهم.
{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (الزمر: 63) بِالاْوْثَانِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَلَيْسَ الله بكاف عَبده ويخوفونك بالذين من دونه} أَي يخوفك الْمُشْركُونَ بمضرة الْأَوْثَان. قَالُوا: إِنَّك تعيب آلِهَتنَا وتذكرها بِسوء لتكفن عَن ذكرهَا أَو تصيبك بِسوء. قَوْله: (الْأَوْثَان) ، ويروى أَي: بالأوثان، وَهَذَا أولى.
خَوَّلْنا: أعْطَيْنا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ إِذا خولناه نعْمَة منا} (الزمر: 94) وَفَسرهُ بقوله: أعطنا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل مَال أَعْطيته فقد خولته.
{وَالَّذِي جَاءِ بِالصِّدْقِ} (الزمر: 33) القُرْآنِ وَصَدَقَ بِهِ المُؤْمِنُ يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَقُولُ هاذا الَّذِي أعْطَيْتَنِي عَمِلْتُ بِمَا فِيهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون} وَفسّر قَوْله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ) بقوله:

(19/141)


الْقُرْآن وَقَالَ السّديّ: الَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السلاة، جَاءَ بِالْقُرْآنِ، وَصدق بِهِ يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تَلقاهُ بِالْقبُولِ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ. يَعْنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ بِلَا إلاه إلاَّ الله وَصدق بِهِ هُوَ أَيْضا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلغه إِلَى الْخلق وَعَن عَليّ بن أبي طَالب وَأبي الْعَالِيَة والكلبي، وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصدق بِهِ أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن قَتَادَة وَمُقَاتِل: وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصدق بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَعَن عَطاء، وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَصدق بِهِ الأتباع، فعلى هَذَا يكون الَّذِي بِمَعْنى الَّذين كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وخضتم كَالَّذي خَاضُوا} (التَّوْبَة: 96) قَوْله: (يَقُول هَذَا الَّذِي) إِلَى آخِره، فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ لَا غير.
متَشاكِسُونَ الرَّجُلُ الشَّكِسُ العَسِرُ لاَ يَرْضَى بالإنْصافِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: (رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون) (الزمر: 92) ، أَي: مُخْتَلفُونَ، فقد ذَكرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (الشكس) ، أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنه من مَادَّة متشاكسون غير أَن الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن من بَاب التفاعل للمشاركة بَين الْقَوْم. والشكس مُفْرد صفة مشبهة. قَالَ فِي (الباهر) : رجل شكس، بِالْفَتْح والتسكين: صَعب الْخلق، وَقوم شكس بِالضَّمِّ مِثَال رجل صدق وَقوم صدق، وَقيل: الشكس بِالْكَسْرِ والإسكان، والشكس بِالْفَتْح وَكسر الْكَاف: السيء يُقَال: شكس شكسأ وشكاسة، وَفسّر البُخَارِيّ الشكس بقوله: (الْعسر لَا يرضى بالإنصاف) والعسر مثل الحذر صفة مشبهة، ويروى: العسير على وزن فعيل، وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ غَيره: الشكس. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : يَعْنِي غير مُجَاهِد فَكَأَنَّهُ وَالله أعلم يُرِيد بِالْغَيْر عبد الرَّحْمَن بن زيد بن زيد بن أسلم فَإِن الطَّبَرِيّ رَوَاهُ عَن يُونُس عَن ابْن وهب عَنهُ.
ورَجُلاً سَلماً ويُقالُ سالِماً صالِحاً
لَيْسَ هَذَا بمذكور فِي غَالب من النّسخ لِأَنَّهُ كالمكر لِأَنَّهُ ذكر عَن قريب، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: إِنَّه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن سين، سلما، جَاءَ فِيهَا الْفَتْح وَالْكَسْر فَيكون أَحدهمَا إِشَارَة إِلَى الْكسر وَالْآخر إِلَى الْفَتْح، وَقَالَ الزّجاج: سلما وسلماً مصدران وصف بهما على معنى، ورجلاً ذَا سلم.
اشْمَأزَّتْ نفَرَتْ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا ذكر الله وَحده اشمأزت قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} (الزمر: 54) الْآيَة، وَفَسرهُ بقوله: نفرت وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن مُحَمَّد: حَدثنَا أَحْمد حَدثنَا أَسْبَاط عَن السّديّ وَعَن مُجَاهِد، قَالَ: انقبضت، وَعَن قَتَادَة أَي: كفرت قُلُوبهم واستكبرت.
بِمَفازَتِهِمْ مِنَ الفَوْزِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وينجي الله الَّذين اتَّقوا بمفازتهم} (الزمر: 16) ، أَي: فوزهم وَهُوَ مصدر ميمي قَرَأَ أهل الْكُوفَة إلاَّ حفصاً بِالْألف على الْجمع، وَالْبَاقُونَ بِغَيْر الْألف على الْوَاحِد.
حافِّين مُطِيفِينَ بِحِفافَيْهِ بِجَوَانِبِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَترى الْمَلَائِكَة حافين من حول الْعَرْش} (الزمر: 57) وَفسّر: (حافين) ، بقوله: (مطيفين) من الإطافة وَهُوَ الدوران حول الشَّيْء. قَوْله: (بحفافية) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالفاء المخففة وَبعد الْألف فَاء أُخْرَى تَثْنِيَة حفاف وَهُوَ الْجَانِب، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: بجانبيه، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي بجوانبه أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (بجوانبه) وَأَشَارَ إِلَى أَن معنى متشابهاً وَهُوَ أَيْضا مثل التَّفْسِير لما قبله، وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بحافته.
مُتَشابِهاً لَيْسَ مِنَ الاشْتِبَاهِ ولاكِنْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضاً فِي التَّصْدِيقِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابهاً} (الزمر: 32) وَأَشَارَ إِلَى أَن معنى: متشابهاً لَيْسَ من الِاشْتِبَاه الَّذِي بِمَعْنى الالتباس والاختلاط، وَلَكِن مَعْنَاهُ أَنه يشبه بعضه بَعْضًا فِي التَّصْدِيق لِأَن الْقُرْآن يُفَسر بعضه بَعْضًا، وَقيل: فِي تَصْدِيق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي رسَالَته بِسَبَب إعجازه، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن جرير عَن ابْن حميد عَن جرير عَن يَعْقُوب عَن جَعْفَر عَن سعيد بن جُبَير.

(19/142)


1 - (بابُ قَوْلُهُ: {يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 35)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا} الْآيَة ... اخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة، فَعَن ابْن عَبَّاس: نزلت فِي أهل مَكَّة، قَالُوا: يزْعم مُحَمَّد أَنه من قتل النَّفس الَّتِي حرمهَا الله وَعبد الْأَوْثَان لم يغْفر لَهُ، فَكيف نهاجر ونسلم وَقد عَبدنَا مَعَ الله آلهاً آخر وقتلنا النَّفس الَّتِي حرمهَا الله؟ فَأنْزل الله هَذِه الْآيَة، وَعنهُ أَنَّهَا نزلت فِي وَحشِي قَاتل حَمْزَة، وَعَن قَتَادَة: نَاس أَصَابُوا ذنوباً عَظِيمَة فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام اشفقوا أَن لَا يُتَاب عَلَيْهِم فَدَعَاهُمْ الله تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَة إِلَى الْإِسْلَام. وَعَن ابْن عمر: نزلت فِي عَيَّاش بن أبي ربيعَة والوليد بن الْوَلِيد وَنَفر من الْمُسلمين كَانُوا قد أَسْلمُوا ثمَّ فتنُوا وعذبوا فافتتنوا فَكُنَّا نقُول: لَا يقبل الله مِنْهُم صرفا وَلَا عدلا أبدا، قوم أَسْلمُوا ثمَّ تركُوا دينهم لعذاب عذبُوا بِهِ، فَنزلت.

0184 - حدَّثني إبْراهِيمُ بنُ مُوساى أخبرنَا هِشامُ بنُ يُوسُفَ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ يَعْلاى أنَّ سَعِيدَ بنَ جُبَيْرٍ أخبرَهُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُمَا أنَّ نَاسا مِنْ أهْلِ الشِّرْكِ كانُوا قَدْ قَتَلوا وَأكْثَرُوا وَزَنَوْا وأكْثَرُوا فأتَوْا مُحَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالُوا إنَّ الَّذِي تَقُولُ وتَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنا أنَّ لِما عَملْنا كَفَّارَةً فَنَزَلَ: {والَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلاهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إلاَّ بالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} (الْفرْقَان: 86) . وَنَزَلَ: {قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إنَّ الله يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعاً} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن إِبْرَاهِيم بن دِينَار وَغَيره، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفِتَن عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْمُحَاربَة وَفِي التَّفْسِير عَن الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي.
قَوْله: (قَالَ يعلى) ، أَي قَالَ: قَالَ يعلى، سقط خطأ وَثَبت لفظا، ويعلى هُوَ ابْن مُسلم بن هُرْمُز روى عَنهُ ابْن جريج فِي: (الصَّحِيحَيْنِ) : قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : يعلى هَذَا هُوَ ابْن حَكِيم كَمَا ذكره أَبُو دَاوُد مُصَرحًا بِهِ فِي إِسْنَاده، وَقَالَ الْكرْمَانِي: إعلم أَن يعلى بن مُسلم ويعلى بن حَكِيم كليهمَا يرويان عَن سعيد بن جُبَير، وَابْن جريج يروي عَنْهُمَا، ولأقدح فِي الْإِسْنَاد بِهَذَا الالتباس لِأَن كلاًّ مِنْهُم على شَرط البُخَارِيّ. قلت: أما صَاحب (التَّوْضِيح) : فَإِنَّهُ نسب إِلَى أبي دَاوُد أَنه صرح بِأَنَّهُ يعلى بن حَكِيم وَلَيْسَ كَمَا ذكره فَإِنَّهُ لم يُصَرح بِهِ فِي إِسْنَاده بل ذكره البُخَارِيّ من غير نِسْبَة، وَأما الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ سلك طَرِيق السَّلامَة وَلم يجْزم بِأحد يعليين، وَلَا خلاف أَنه يعلى بن مُسلم هَهُنَا، وَيُؤَيِّدهُ أَن الْحَافِظ الْمزي ذكر فِي (الْأَطْرَاف) : على رَأس هَذَا الحَدِيث أَنه يعلى ابْن مُسلم، كَمَا وَقع بِهِ مُصَرحًا عِنْد مُسلم. قَوْله: (إِن نَاسا من أهل الشّرك) أخرج الطَّبَرَانِيّ من وَجه آخر عَن ابْن عَبَّاس أَن السَّائِل عَن ذَلِك هُوَ وَحشِي بن حَرْب. قَوْله: (أَن لما) ، أَي: الَّذِي (عَمِلْنَاهُ كَفَّارَة) نصب على إِنَّه إسم: إِن تقدم عَلَيْهِ الْخَبَر.

2 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} (الزمر: 76)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَوْله عز وَجل: وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: بَاب. قَوْله: {وَمَا قدرُوا الله} أَي: مَا عظموه حق عَظمته حِين أشركوا بِهِ.

1184 - حدَّثنا آدَمُ حدّثنا شَيْبانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ جاءَ حَبْرٌ مِنَ الأحْبارِ إلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّا نَجِدُ أنَّ الله يَجْعَلُ السَّماوات عَلَى إصْبَعِ والأرَضِينَ عَلَى إصْبَعِ والشَّجَرَ عَلَى إصْبَعِ والماءَ والثَّرَى عَلَى إصْبَعٍ وسائِرَ

(19/143)


الخَلائِق عَلَى إصْبَعٍ فَيَقُولُ أَنا المَلِكُ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَتْ نَواجِذُهُ تَصْدِيقاً لِقَوْلِ الْحَبْرِ ثُمَّ قَرَأ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {وَمَا قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ} (الزمر: 76) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وآدَم هُوَ ابْن أبي إِيَاس عبد الرَّحْمَن، وشيبان هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن، وَمَنْصُور هُوَ ابْن الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَعبيدَة بِفَتْح الْعين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: السَّلمَانِي، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن عُثْمَان وَعَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن بنْدَار. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ وَعَن غَيره.
قَوْله: (حبر) بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، و: الْعَالم، بِالْفَتْح وَمَا يكْتب بِهِ بِالْكَسْرِ. قَوْله: (على إِصْبَع) المُرَاد مِنْهُ الْقُدْرَة، وَقَالَ ابْن فورك: المُرَاد بِهِ هُنَا إِصْبَع بعض مخلوقاته، وَهُوَ غير مُمْتَنع، وَقَالَ مُحَمَّد ابْن شُجَاع الثَّلْجِي: يحْتَمل أَن يكون خلق خلقه الله تَعَالَى يُوَافق اسْمه إسم الإصبع، وَمَا ورد فِي بعض الرِّوَايَات من أَصَابِع الرَّحْمَن يؤول بِالْقُدْرَةِ أَو الْملك، وَقَالَ الْخطابِيّ: الأَصْل فِي الإصبع وَنَحْوهَا أَن لَا يُطلق على الله إلاَّ أَن يكون بِكِتَاب أَو خبر مَقْطُوع بِصِحَّتِهِ، فَإِن لم يَكُونَا فالتوقف عَن الْإِطْلَاق وَاجِب، وَذكر الْأَصَابِع لم يُوجد فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة القطعية، وَلَيْسَ معنى الْيَد فِي الصِّفَات بِمَعْنى الْجَارِحَة حَتَّى يتَوَهَّم من ثُبُوتهَا ثُبُوت الإصبع، وَقد روى هَذَا الحَدِيث كثير من أَصْحَاب عبد الله من طَرِيق عُبَيْدَة فَلم يذكرُوا فِيهِ تَصْدِيقًا لقَوْل الحبر، وَقد ثَبت أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَا حَدثكُمْ بِهِ أهل الْكتاب فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم) ، وَالدَّلِيل على أَنه لم ينْطق فِيهِ بِحرف تَصْدِيقًا لَهُ وتكذيباً، وَإِنَّمَا ظهر مِنْهُ الضحك المخيل للرضاء مرّة، وللتعجب وَالْإِنْكَار أُخْرَى، وَقَول من قَالَ: إِنَّمَا ظهر مِنْهُ الضحك تَصْدِيقًا للحبر ظن مِنْهُ، وَالِاسْتِدْلَال فِي مثل هَذَا الْأَمر الْجَلِيل غير جَائِز، وَلَو صَحَّ الْخَبَر لَا بُد من التَّأْوِيل بِنَوْع من الْمجَاز، وَقد يَقُول الْإِنْسَان فِي الْأَمر الشاق إِذا أضيف إِلَى الرجل الْقوي المستقل المستظهر إِنَّه يعمله بإصبع أَو بخنصر وَنَحْوه، يُرِيد الِاسْتِظْهَار فِي الْقُدْرَة عَلَيْهِ والاستهانة بِهِ، فَعلم أَن ذَلِك من تَحْرِيف الْيَهُودِيّ، فَإِن ضحكه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا كَانَ على معنى التَّعَجُّب والتكبر لَهُ، وَقَالَ التَّمِيمِي تكلّف الْخطابِيّ فِيهِ، وأتى فِي مَعْنَاهُ مَا لم يَأْتِ بِهِ السّلف، وَالصَّحَابَة كَانُوا أعلم بِمَا رَوَوْهُ، وَقَالُوا: إِنَّه ضحك تَصْدِيقًا لَهُ، وَثَبت فِي السّنة الصَّحِيحَة: (مَا من قلب إِلَّا وَهُوَ بَين إِصْبَعَيْنِ من أَصَابِع الرَّحْمَن) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْأمة فِي مثلهَا طَائِفَتَانِ مفوضة ومؤولة واقفون على قَوْله: {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} (آل عمرَان: 7) وَقَالَ النَّوَوِيّ، رَحمَه الله: وَظَاهر السِّيَاق يدل على أَنه ضحك تَصْدِيقًا بِدَلِيل قِرَاءَته الْآيَة الَّتِي تدل على صِحَة مَا قَالَ الحبر. قَوْله: (نَوَاجِذه) ، بالنُّون وَالْجِيم والذال الْمُعْجَمَة، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هِيَ الأضراس كلهَا لَا أقْصَى الْأَسْنَان، وَالْأَحْسَن مَا قَالَه ابْن الْأَثِير: النواجذ من الْإِنْسَان الضواحك، وَهِي الَّتِي تبدو عِنْد الضحك، وَالْأَكْثَر الْأَشْهر أَنَّهَا أقْصَى الْأَسْنَان، وَالْمرَاد الأول لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا كَانَ يبلغ بِهِ الضحك حَتَّى يَبْدُو آخر أَضْرَاسه، كَيفَ وَقد جَاءَ فِي صفة ضحكه: (جلّ ضحكه التبسم) ، وَإِن أُرِيد بهَا الْأَوَاخِر فَالْوَجْه فِيهِ أَن يُرَاد مُبَالغَة مثله فِي الضحك من غير أَن يُرَاد ظُهُور نَوَاجِذه فِي الضحك، وَهُوَ أَقيس الْقَوْلَيْنِ لاشتهار النواجذ بأواخر الْأَسْنَان.

3 - (بابُ قَوْلِهِ: {والأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 76)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَالْأَرْض جَمِيعًا} الْآيَة ... وَلم يذكر لفظ: بَاب، فِي بعض النّسخ، وَلما أخبر الله تَعَالَى عَن عَظمته قبل هَذِه الْآيَة ذكر أَن من جملَة عَظمته أَن الأَرْض جَمِيعًا قَبضته أَي: ملكه يَوْم الْقِيَامَة بِلَا مُنَازع وَلَا مدافع، قَالَ الْأَخْفَش: هَذَا كَمَا يُقَال: خُرَاسَان فِي قَبْضَة فلَان، لَيْسَ يُرِيد أَنَّهَا فِي كَفه، إِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا ملكه، وَلما وَقع الأَرْض مُفردا حسن تأكيده بقوله: جَمِيعًا، أَشَارَ إِلَى أَن المُرَاد جَمِيع الْأَرَاضِي. قَوْله: (مَطْوِيَّات) للطي معَان: (الإدراج) : كطي القرطاس وَالثَّوْب، بَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم نطوي السَّمَاء كطي السّجل للكتب} (الْأَنْبِيَاء: 401) ، (والإخفاء) ، يُقَال: طويت فلَانا عَن أعين النَّاس، واطوِ هَذَا الحَدِيث عني أَي: استره، والإعراض، يُقَال: طويت عَن فلَان أَعرَضت عَنهُ، (والإفناء) : يَقُول الْعَرَب: طويت فلَانا بسيفي أَي أفنيته، وَإِنَّمَا ذكر الْيَمين للْمُبَالَغَة فِي الاقتدار، وَقيل: هُوَ بِمَعْنى الْقُوَّة، وَقيل: الْيَمين الْقسم لِأَنَّهُ حلف أَنه يطويها وينفيها، ثمَّ نزه الله عز وَجل فَقَالَ سُبْحَانَهُ الْآيَة.

(19/144)


2184 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدّثني اللَّيْثُ قَالَ حدّثني عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ خالِدِ ابنِ مُسافِرٍ عنِ ابنِ شِهابٍ عَنْ أبي سَلَمَةَ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ يَقْبِضُ الله الأرْضَ وَيَطْوِي السَّماواتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنا المَلِكُ أيْنَ مُلوكُ الأرْضِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسَعِيد بن عفير، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ إسم جده، وَسَعِيد بن كثير بن عفير بن مُسلم أَبُو عُثْمَان الْمصْرِيّ وَهُوَ من رجال مُسلم أَيْضا، والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن يُونُس بن يزِيد. قَوْله: (بِيَمِينِهِ) يُرِيد بِهِ: الْقُوَّة.

4 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ونُفِخَ فِي الصُّوَرِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ومنْ فِي الأرْضِ إلاَّ مَنْ شاءَ الله ثمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإذَا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} (الزمر: 86)

أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَنفخ فِي الصُّور} ، الْآيَة. قَوْله: (فِي الصُّور) ، هُوَ قرن ينْفخ فِيهِ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَصعِقَ) ، أَي: مَاتَ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الأَرْض. قَوْله: (إِلَّا من شَاءَ الله) ، اخْتلفُوا فِيهِ، فَقيل: هم الشُّهَدَاء عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ جبرل عَن هَذِه الْآيَة {من أُولَئِكَ الَّذين لم يَشَأْ الله قَالَ هُوَ الشُّهَدَاء) متقلدين أسيافهم حول الْعَرْش، وَقيل: هم جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل، رَوَاهُ أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن كَعْب الْأَحْبَار: هم إثنا عشر: حَملَة الْعَرْش ثَمَانِيَة وجبرائيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت، وَعَن الضَّحَّاك: هم رضوَان والحور الْعين وَمَالك والزبانية، وَعَن الْحسن: {إلاَّ من شَاءَ الله} يَعْنِي: الله وَحده، وَقيل: عقارب النَّار وحياتها. قَوْله: (ثمَّ نفخ فِيهِ أُخْرَى) أَي: ثمَّ نفخ فِي الصُّور نفخة أُخْرَى. قَوْله: (فَإِذا هم قيام) ، أَي: من قُبُورهم (ينظرُونَ) إِلَى الْبَعْث، وَقيل: ينظرُونَ أَمر الله تَعَالَى فيهم.

3184 - حدَّثني الْحَسَنُ حدّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ خَلِيلٍ أخبرنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بنِ أبي زَائِدَةَ عَنْ عامِرٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنهُ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إنِّي أوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الآخِرَةِ فإذَا أَنا بِمُوسَى مُتَعَلِّقٌ بالعَرْشِ فَلاَ أدْرِي أكَذَلِكَ كانَ أمْ بَعْدَ النَّفْخَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: بعد النفخة الْآخِرَة. وَالْحسن، كَذَا وَقع غير مَنْسُوب فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَذكر فِي كتاب (رجال الصَّحِيحَيْنِ) : كَانَ سهل بن السّري الْحَافِظ يَقُول: إِن الْحسن بن شُجَاع أَبُو عَليّ الْحَافِظ الْبَلْخِي، فَإِن كَانَ هُوَ فَإِنَّهُ مَاتَ يَوْم الِاثْنَيْنِ النّصْف من شَوَّال سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ابْن تسع وَأَرْبَعين. قلت: فعلى هَذَا هُوَ أَصْغَر من البُخَارِيّ وَمَات قبله، وَكَانَ سهل بن السّري أَيْضا يَقُول: إِنَّه الْحسن بن مُحَمَّد الزَّعْفَرَانِي عِنْدِي. قلت: الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح أَبُو عَليّ الزَّعْفَرَانِي، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع، مَاتَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان بَقينَ من رَمَضَان سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَوَقع فِي كتاب البرقاني أَن البُخَارِيّ قَالَ، هَذَا فِي حَدِيث: حَدثنَا الْحُسَيْن، بِضَم أَوله مُصَغرًا، وَنقل عَن الْحَاكِم أَنه الْحُسَيْن بن مُحَمَّد القباني، وَإِسْمَاعِيل ابْن خَلِيل أَبُو عبد الله الخزاز الْكُوفِي وَهُوَ من مَشَايِخ البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا وَقَالَ البُخَارِيّ جَاءَنَا نعيه سنة خَمْسَة وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الرَّحِيم هُوَ ابْن سُلَيْمَان أَبُو عَليّ الرَّازِيّ سكن الْكُوفَة، وزكرياء بن أبي زَائِدَة بن مَيْمُون الْهَمدَانِي الْأَعْمَى الْكُوفِي أَبُو يحيى، وَاسم أبي زَائِدَة خَالِد، وَيُقَال: هُبَيْرَة، مَاتَ سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة، وعامر هُوَ ابْن شرَاحِيل الشّعبِيّ.
والْحَدِيث قد مضى مطولا فِي أول: بَاب الإشخاص، وَمضى أَيْضا فِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، فِي: بَاب وَفَاة مُوسَى.
قَوْله: (بعد النفخة الْآخِرَة) ، وَهِي نفخة الْإِحْيَاء، والنفخة الأولى نفخة الإماتة. قَوْله: (فَلَا أَدْرِي أَكَذَلِك كَانَ) ، أَي: أَنه لم يمت عِنْد النفخة الأولى، وَاكْتفى بصعقة الطّور أم أحيى بعد النفخة الثَّانِيَة قبلي، وَتعلق بالعرش؟ هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْموضع

(19/145)


أَن يُقَال: إِن حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي مضى فِي الإشخاص: أَن النَّاس يصعقون يَوْم الْقِيَامَة فيصعق مَعَهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيكون النَّبِي أول من يفِيق، فَإِذا أَفَاق يرى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، مُتَعَلقا بالعرش وَلَا يدْرِي أَنه كَانَ فِيمَن صعق فأفاق قبله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو كَانَ مِمَّن اسْتثْنى الله عز وَجل، وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ مَضْمُون ذَلِك الحَدِيث الَّذِي أخرجه فِي الإشخاص وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.

4184 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْص حدّثنا أبي قَالَ حدّثنا الأعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صالِحٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا بَينَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ قَالُوا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أرْبَعُونَ يَوْماً قَالَ أبَيْتُ قَالَ أرْبَعُونَ سَنَةً قَالَ أبَيْتُ قَالَ أرْبَعُونَ شَهْراً قَالَ أبَيْتُ وَسَيُبْلَى كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الإنْسَانِ إلاّ عَجْبَ ذَنَبِهِ فِيهِ يُرَكَّبُ الخَلْقُ.
(انْظُر الحَدِيث 4184 طرفه فِي: 5394) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ اشتماله على النفخ. وَشَيخ البُخَارِيّ يروي عَن أَبِيه حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ الْكُوفِي قاضيها، وَهُوَ يروي عَن سلميان الْأَعْمَش عَن أبي صَالح ذكْوَان السمان.
قَوْله: (مَا بَين النفختين) وهما النفخة الأولى والنفخة الثَّانِيَة. قَوْله: (قَالُوا) ، أَي: أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة. قَوْله: (أَبيت) من الإباء وَهُوَ الِامْتِنَاع أَي: امْتنعت من تعْيين ذَلِك بِالْأَيَّامِ والسنين والشهور، لِأَنَّهُ لم يكن عِنْده علم بذلك، وَقَالَ بَعضهم: وَزعم بعض الشُّرَّاح أَنه وَقع عِنْد مُسلم: أَرْبَعِينَ سنة، وَلَا وجود لذَلِك. انْتهى. قلت: إِن كَانَ مُرَاده من بعض الشُّرَّاح صَاحب (التَّوْضِيح) : فَهُوَ لم يقل كَذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَ: وَقد جَاءَت مفسرة فِي رِوَايَة غَيره فِي غير مُسلم: أَرْبَعُونَ سنة، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مَا رَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق سعيد بن الصَّلْت عَن الْأَعْمَش فِي هَذَا الْإِسْنَاد: أَرْبَعُونَ سنة، وَهُوَ شَاذ، وَمن وَجه ضَعِيف عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: مَا بَين النفخة والنفخة أَرْبَعُونَ سنة. قَوْله: (وسيبلى) أَي: سيخلق، من: بلَى الثَّوْب يبلي بلَى بِكَسْر الْبَاء، فَإِن فتحتها مددتها. وأبليت الثَّوْب. قَوْله: (إلاَّ عجب ذَنبه) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم، وَهُوَ أصل الذَّنب وَهُوَ عظم لطيف فِي أصل الصلب، وَهُوَ رَأس العصعص، وروى ابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب (الْبَعْث) من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قيل: يَا رَسُول الله! مَا الْعجب؟ قَالَ: مثل حَبَّة خَرْدَل. انْتهى. وَيُقَال لَهُ: عجم، بِالْمِيم كلاب ولازم، وَهُوَ أول مَخْلُوق من الْآدَمِيّ، وَهُوَ الَّذِي يبْقى ليركب عَلَيْهِ الْخلق، وَفَائِدَة إبْقَاء هَذَا الْعظم دون غَيره مَا قَالَه ابْن عقيل: لله عز وَجل فِي هَذَا سر لَا نعلمهُ لِأَن من يظْهر الْوُجُود من الْعَدَم لَا يحْتَاج إِلَى أَن يكون لفعله شَيْء يبْنى عَلَيْهِ وَلَا خميرة، فَإِن علل هَذَا يتجوز أَن يكون الْبَارِي جلت عَظمته جعل ذَلِك عَلامَة للْمَلَائكَة، على أَن يحيى كل إِنْسَان بجواهره بِأَعْيَانِهَا وَلَا يحصل الْعلم للْمَلَائكَة بذلك إلاَّ بإبقاء عظم كل شخص ليعلم أَنه إِنَّمَا أَرَادَ بذلك إِعَادَة الْأَرْوَاح إِلَى تِلْكَ الْأَعْيَان الَّتِي هِيَ جُزْءا مِنْهَا، كَمَا أَنه لما مَاتَ عُزَيْرًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَحِمَاره، أبقى عِظَام الْحمار فكساها ليعلم أَن ذَلِك المنشى ذَلِك الْحمار لَا غَيره، وَلَوْلَا إبْقَاء شَيْء لجوزت الْمَلَائِكَة أَن تكون الْإِعَادَة للأرواح إِلَى أَمْثَال الأجساد لَا إِلَى أعيانها. فَإِن قلت: فِي (الصَّحِيح) يبْلى كل شَيْء من الْإِنْسَان، وَهنا يبْلى إلاَّ عجب الذَّنب؟ قلت: هَذَا لَيْسَ بِأول عَام خص. ولأباول مُجمل فصل، كَمَا نقُول: إِن هذَيْن الْحَدِيثين خص مِنْهُمَا الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام، لِأَن الله تَعَالَى حرم على الأَرْض أَن تَأْكُل أَجْسَادهم وَألْحق ابْن عبد الْبر الشُّهَدَاء بهم، والقرطبي الْمُؤَذّن الْمُحْتَسب. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص الْعجب بِعَدَمِ البلى دون غَيره؟ قلت: لِأَن أصل الْخلق مِنْهُ وَمِنْه يركب، وَهُوَ قَاعِدَة بَدْء الْإِنْسَان وأسه الَّذِي يبْنى عَلَيْهِ، فَهُوَ أَصْلَب من الْجَمِيع كقاعدة الْجِدَار، وَقَالَ بَعضهم: زعم بعض الشُّرَّاح أَن المُرَاد بِأَنَّهُ لَا يبْلى أَي: يطول بَقَاؤُهُ لَا أَنه لَا يبْلى أصلا، وَهَذَا مَرْدُود لِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر بِغَيْر دَلِيل. انْتهى. قلت: بعض الشُّرَّاح هَذَا هُوَ شَارِح (المصابيح) الَّذِي يُسمى شَرحه مظْهرا، وَلَيْسَ هُوَ شَارِح البُخَارِيّ، وَلَيْسَ هُوَ بمنفرد بِهَذَا القَوْل، وَبِه قَالَ الْمُزنِيّ أَيْضا، فَإِنَّهُ قَالَ: إلاَّ، هُنَا بِمَعْنى الْوَاو، أَي: وَعجب الذَّنب أَيْضا يبْلى، وَجَاء عَن الْفراء والأخفش: مَجِيء إلاَّ بِمَعْنى الْوَاو، لَكِن هَذَا خلاف الظَّاهِر، وَكَيف لَا وَقد جَاءَ عَن أبي هُرَيْرَة من طَرِيق همام عَنهُ: أَن للْإنْسَان عظما لَا تَأْكُله الأَرْض

(19/146)


أبدا، فِيهِ يركب يَوْم الْقِيَامَة؟ قَالُوا: أَي عظم هُوَ؟ قَالَ: عجب الذَّنب، رَوَاهُ مُسلم. قَوْله: (فِيهِ يركب الْخلق) ، لَا يُعَارضهُ حَدِيث سلمَان: إِن أول مَا خلق من آدم رَأسه، لِأَن هَذَا فِي حق آدم وَذَاكَ فِي حق بنيه، وَقيل: المُرَاد بقول سُلَيْمَان: نفخ الرّوح فِي آدم لَا خلق جسده.

04 - (سورَةُ المُؤْمِنِ)

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة الْمُؤمن، وَفِي بعض النّسخ الْمُؤمن، بِغَيْر لفظ: سُورَة، وَفِي بَعْضهَا: سُورَة الْمُؤمن حم.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر، وَهِي مَكِّيَّة بِلَا خلاف، وَقَالَ السخاوي: نزلت بعد الزمر وَقبل حم السَّجْدَة وَبعد السَّجْدَة الشورى ثمَّ الزخرف ثمَّ الدُّخان ثمَّ الجاثية ثمَّ الْأَحْقَاف، وَهِي أَرْبَعَة آلَاف وَتِسْعمِائَة وَسِتُّونَ حرفا، وَألف وَمِائَة وتسع وَتسْعُونَ كلمة، وَخمْس وَثَمَانُونَ آيَة.
قَالَ مُجاهِدٌ: حم مَجازُها مَجازُ أوَائِلِ السُّوَرِ

قَوْله: (حم) فِي مَحل الِابْتِدَاء: (ومجازها) ، مُبْتَدأ ثَان. وَقَوله: (مجَاز أَوَائِل السُّور) ، خَبره، وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، ومجازها بِالْجِيم وَالزَّاي أَي: طريقها أَي حكمهَا حكم سَائِر الْحُرُوف الْمُقطعَة الَّتِي فِي أَوَائِل السُّور للتّنْبِيه على أَن هَذَا الْقُرْآن من جنس هَذِه الْحُرُوف، وَقيل: القرع الْعَصَا عَلَيْهِم. وَعَن عِكْرِمَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حم إسم من أَسمَاء الله تَعَالَى، وَهِي مِفْتَاح خَزَائِن رَبك، جلّ جَلَاله، وَعَن ابْن عَبَّاس: هُوَ إسم الله الْأَعْظَم، وَعنهُ: قسم أقسم الله بِهِ، وَعَن قَتَادَة: إسم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَعَن الشّعبِيّ: شعار السُّورَة، وَعَن عَطاء الْخُرَاسَانِي: الْحَاء افْتِتَاح أَسمَاء الله تَعَالَى: حَلِيم وَحميد وَحي وحنان وَحَكِيم وحفيظ وحبِيب، وَالْمِيم افْتِتَاح اسْمه: مَالك ومجيد ومنان. وَعَن الضَّحَّاك وَالْكسَائِيّ: مَعْنَاهُ قضى مَا هُوَ كَائِن، كَأَنَّهُمَا أَرَادَا الْإِشَارَة إِلَى: حم، بِضَم الْحَاء وَتَشْديد الْمِيم.
ويُقالُ: بَلْ هُوَ إسْمٌ، لِقَوْلِ شُرَيْحِ بنِ أبي أوْفَى العَبْسِيِّ:
(يُذَكِّرُني حامِيمَ والرُّمْحُ شاجِرٌ ... فَهَلاَّ تَلاَ حامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ)

الْقَائِلُونَ بِأَن لفظ: حم إسم هم الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ الْآن، وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقول الشَّاعِر الْمَذْكُور حَيْثُ وَقع لفظ: حم، فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَنْصُوبًا على المفعولية، وَكَذَا قَرَأَ عِيسَى بن عمر: أَعنِي بِفَتْح الْمِيم، وَقيل: يجوز أَن يكون لالتقاء الساكنين. قلت: الْقَاعِدَة أَن السَّاكِن إِذا حرك حرك بِالْكَسْرِ، وَيجوز الْفَتْح وَالْكَسْر فِي الْحَاء وهما قراءتان. قَوْله: (وَيُقَال) فِي رِوَايَة أبي ذَر: قَالَ البُخَارِيّ: وَيُقَال قَوْله: (شُرَيْح بن أبي أوفى) هَكَذَا وَقع ابْن أبي أوفى فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ، وَلَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ شُرَيْح بن أوفى الْعَبْسِي، وَكَانَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ، يَوْم الْجمل، وَكَانَ شعار أَصْحَاب عَليّ رَضِي الله عَنهُ، يومئذٍ حم، فَلَمَّا نهد شُرَيْح لمُحَمد بن طَلْحَة بن عبيد الله الملقب بالسجاد وطعنه، قَالَ: حم، فَقَالَ شُرَيْح: يذكرنِي حَامِيم، الْفَاعِل فِيهِ مُحَمَّد السَّجَّاد، وَقيل، لما طعنه شُرَيْح قَالَ: {أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله} (غَافِر: 82) فَهُوَ معنى قَوْله: (يذكرنِي حَامِيم) . قَوْله: (وَالرمْح شَاجر) جملَة إسمية وَقعت حَالا من: شجر الْأَمر يشجر شجوراً إِذا اخْتَلَط، واشتجر الْقَوْم وتشاجروا إِذا تنازعوا وَاخْتلفُوا وَالْمعْنَى هُنَا: وَالرمْح مشتبك مختلط. قَوْله: (فَهَلا) حرف تحضيض مُخْتَصّ بالجمل الفعلية الخبرية، وَالْمعْنَى: هلا كَانَ هَذَا قبل تشاجر الرماح عِنْد قيام الْحَرْب، قَوْله: (قبل التَّقَدُّم) ، أَي: إِلَى الْحَرْب، وَأول هَذَا الْبَيْت على مَا ذكره الْحسن بن المظفر النَّيْسَابُورِي فِي: (مأدبة الأدباء) :
(وَأَشْعَث قوّام بآيَات ربه ... قَلِيل الْأَذَى فِيمَا ترى الْعين مُسلم)

(هتكت بصدر الرمْح جيب قَمِيصه ... فَخر صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ)

(على غير شَيْء غير أَن لَيْسَ تَابعا ... عليا وَمن لَا يتبع الْحق يظلم)

يذكرنِي حميم ... .
وَذكر عمر بن شبة بِإِسْنَادِهِ عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق: أَن مَالِكًا الأشتر النَّخعِيّ قتل مُحَمَّد بن طَلْحَة، وَقَالَ فِي ذَلِك شعرًا وَهُوَ:

(19/147)


(واشعث قوام بآيَات ربه ... الأبيات)

وَذكر أَبُو محنف لوط فِي كِتَابه (حَرْب الْجمل) : الَّذِي قتل مُحَمَّدًا مُدْلِج بن كَعْب، رجل من بني سعد بن بكر، وَفِي كتاب الزبير بن أبي بكر: كَانَ مُحَمَّد أَمرته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، بِأَن يكف يَده فَكَانَ كلما حمل عَلَيْهِ رجل قَالَ: نشدتك بحاميم، حَتَّى شدّ عَلَيْهِ رجل من بني أَسد بن خُزَيْمَة يُقَال لَهُ: حَدِيد فنشده بحاميم فَلم ينْتَه وَقَتله، وَقيل: قَتله كَعْب بن مُدْلِج من بني منقذ بن طريف، وَيُقَال: قَتله عِصَام بن مُقْشَعِر النصري، وَعَلِيهِ كَثْرَة الحَدِيث وَقَالَ المرزباني: هُوَ الثبت وَهُوَ يخدش فِي إِسْنَاد البُخَارِيّ لِأَن هذَيْن الْإِمَامَيْنِ إِلَيْهِمَا يرجع فِي هَذَا الْبَاب. قلت: الزَّمَخْشَرِيّ الْعَلامَة ذكر هَذَا الْبَيْت فِي أول سُورَة الْبَقَرَة وَنسبه إِلَى شُرَيْح بن أوفى الْمَذْكُور، وَفِي (الحماسة) البحترية قَالَ عدي بن حَاتِم.
(من مبلغ أفناء مذْحج انني ... ثأرت بحالي ثمَّ لم أتأثم)

(تركت أَبَا بكر ينوء بصدره ... بصفين مخضوب الكعوب من الدَّم)

(يذكرنِي ثَأْرِي غَدَاة لَقيته ... فأجررته رُمْحِي فَخر على الْفَم)

(يذكرنِي ياسين حِين طعنته ... فَهَلا تَلا ياسين قبل التَّقَدُّم)

الطَّوْلُ التَّفَضُّلُ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {شَدِيد الْعقَاب ذِي الطول} (غَافِر: 3) وَفَسرهُ بالتفضل، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَزَاد: تَقول الْعَرَب للرجل إِنَّه لذُو طول على قومه أَي: ذُو فضل عَلَيْهِم، وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. فِي قَوْله: (ذِي الطول، قَالَ: ذِي السعَة والغنى، وَمن طَرِيق عِكْرِمَة: ذِي المنن، وَمن طَرِيق قَتَادَة، قَالَ: ذِي النعماء.
داخِرِينَ خَاضِعِينَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {سيدخلون جَهَنَّم داخرين} (غَافِر: 06) وَفَسرهُ بقوله: (خاضعين) ، وَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة، وَعَن السّديّ: صاغرين.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: إلَى النَّجاةِ إِلَى الْإِيمَان
أَي قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَا قوم مَالِي أدعوكم إِلَى النجَاة وتدعونني إِلَى النَّار} (غَافِر: 14) وَفسّر قَوْله: إِلَى النجَاة، بقوله: إِلَى الْإِيمَان.
لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ يَعْنِي لِلْوَثَنِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا جرم إِنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَة فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة} (غَافِر: 34) وَقَالَ: لَيْسَ للوثن دَعْوَة، هَذَا من تَتِمَّة كَلَام الرجل الَّذِي آمن بمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ الَّذِي أخبر الله تَعَالَى عَنهُ بقوله: {وَقَالَ الَّذِي آمن يَا قوم اتبعوني أهدكم سَبِيل الرشاد} (غَافِر: 83) وَكَانَ من آل فِرْعَوْن يكتم إيمَانه مِنْهُ وَمن قومه، وَعَن السّديّ وَمُقَاتِل: كَانَ ابْن عَم فِرْعَوْن، وَعَن ابْن عَبَّاس، أَن اسْمه حزقيل، وَعَن وهب بن مُنَبّه: خزيبال، وَعَن إِسْحَاق: خزبيل، وَقيل: حبيب.
يُسْجَرُونَ: تُوقَدُ بِهِمُ النَّارُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {إِذا الأغلال فِي أَعْنَاقهم والسلاسل يسْحَبُونَ فِي الْحَمِيم ثمَّ فِي النَّار يسجرون} (غَافِر: 27) وَفَسرهُ بقوله: (توقد بهم النَّار) . وَعَن مُجَاهِد: يصيرون وقوداً فِي النَّار.
تَمْرَحُونَ: تَبْطَرُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكُم بِمَا كُنْتُم تفرحون فِي الأَرْض بِغَيْر الْحق وَبِمَا كُنْتُم تمرحون} (غَافِر: 57) وَفَسرهُ بقوله: تبطرون، من البطر بِالْبَاء الْمُوَحدَة والطاء الْمُهْملَة.
وكانَ العلاَءُ بنُ زِيادٍ يُذَكِّرُ النَّارَ فَقَالَ رجُلٌ لِمَ تُقَنِّطُ النَّاسَ قَالَ وَأَنا أقْدِرُ أنْ أُقَنِّطُ النَّاسَ وَالله عَزَّ وجلَّ يَقُولُ: {يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله} (الزمر: 35) ويَقُولُ: {وأنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أصْحابُ النَّارِ} (غَافِر: 34) ولكنَّكُمْ تُحِبُّونَ أنْ تُبَشَّرُوا بالجَنَّةِ عَلَى مَساوِيءِ أعْمالِكُم وإنَّما بَعَثَ الله مُحَمَّداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُبَشِّراً بالجَنَّةِ لَمِنْ أطاعَهُ ومُنْذِراً بالنَّارِ مَنْ عَصاهُ.

(19/148)


الْعَلَاء بن زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف الْعَدوي الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ الزَّاهِد، قَلِيل الحَدِيث وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ ذكر إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، مَاتَ قَدِيما سنة أَربع وَتِسْعين. قَوْله: (يذكر النَّار) ، قَالَ بَعضهم: هُوَ بتَشْديد الْكَاف. قلت: لَيْسَ بِصَحِيح بل هُوَ بِالتَّخْفِيفِ على مَا لَا يخفى. قَوْله: (لم تقنط النَّاس) ؟ من التقنيط لَا من قنط يقنط قنوطاً، وَهُوَ أَشد الْيَأْس من الشَّيْء، وأصل: لم لما فحذفت الْألف وَهِي اسْتِفْهَام. قَوْله: (أَن تبشروا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول من التبشير. قَوْله: (ومنذراً) ، ويروى: ينذر. قَوْله: (من عَصَاهُ) ، ويروى: لمن عَصَاهُ.

5184 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله حَدثنَا الوَلِيدُ بنُ مُسْلِمٍ حَدثنَا الأوْزَاعِيُّ قَالَ حَدثنِي يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ قَالَ حَدثنِي مُحَمَّدُ بنُ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ قَالَ حَدثنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ الله بنِ عَمْروِ بنِ العاصِ أخْبَرَنِي بأشَدِّ مَا صَنَعَ المُشْرِكُونَ برَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ بَيْنا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِفِناءِ الكَعْبَةِ إذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بنُ أبِي مُعَيْطٍ فأخَذَ بِمَنْكِبِ رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولَوَى ثَوْبَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقاً شَديداً فأقْبَلَ أبُو بَكْرٍ فأخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَ عَنْ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: {أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جاءَكُمْ بالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (غَافِر: 82) .
(انْظُر الحَدِيث 8763 وطرفه) .
الْوَلِيد بن مُسلم الدِّمَشْقِي يروي عَن عبد الرَّحْمَن الْأَوْزَاعِيّ. والْحَدِيث مضى فِي آخر مَنَاقِب أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن مُحَمَّد بن يزِيد الْكُوفِي عَن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ إِلَى آخِره، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ.

14 - (سورَةُ حم السَّجْدَةِ)

أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة حم السَّجْدَة، وَهِي مَكِّيَّة بِلَا خلاف نزلت بعد الْمُؤمن وَقبل الشورى، وَهِي ثَلَاثَة آلَاف وثلثمائة وَخَمْسُونَ حرفا، وَسَبْعمائة وست وَسَبْعُونَ كلمة، وَأَرْبع وَخَمْسُونَ آيَة.
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.

(بابٌ: وَقَالَ طاوُوسٌ عَن ابنِ عبَّاسٍ {ائْتِيا طَوْعاً أَو كَرَها} (فصلت: 11)
لَيْسَ فِي كثير من النّسخ لفظ: بَاب، أَي: قَالَ طَاوُوس عَن عبد الله بن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {ائتيا طَوْعًا أَو كرها} وَفسّر: ائتيا. بقوله: (اعطيا) ، هُوَ صِيغَة أَمر للتثنية من الْإِعْطَاء، وَفسّر: أَتَيْنَا من الْإِتْيَان بقوله: (أعطينا) ، وَهُوَ الْفِعْل الْمَاضِي للمتكلم مَعَ الْغَيْر وروى هَذَا التَّعْلِيق أَبُو مُحَمَّد الْحَنْظَلِي عَن عَليّ بن الْمدْرك كِتَابَة، قَالَ: أخبرنَا زيد بن الْمُبَارك أخبرنَا ابْن ثَوْر عَن ابْن جريج عَن سُلَيْمَان الْأَحول عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: وَقَالَ ابْن التِّين: لَيْسَ (أَتَيْنَا) بِمَعْنى (أعطينا) فِي كَلَامهم إلاَّ أَن يكون ابْن عَبَّاس قَرَأَ بِالْمدِّ، لِأَن أَتَى مَقْصُورا مَعْنَاهُ: جَاءَ، وممدوداً رباعياً مَعْنَاهُ: أعْطى، وَنقل عَن سعيد بن جُبَير أَنه قَرَأَهَا آتِيَا، بِالْمدِّ على معنى أعطيا الطَّاعَة، وَأَن ابْن عَبَّاس قَرَأَ: آتَيْنَا بِالْمدِّ أَيْضا على الْمَعْنى الْمَذْكُور، وَقَالَ عِيَاض: لَيْسَ، أَتَى: هَهُنَا بِمَعْنى: أعْطى، وَإِنَّمَا هُوَ من الْإِتْيَان وَهُوَ الْمَجِيء، وَبِهَذَا فسره الْمُفَسِّرُونَ قلت: فِي (تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ) (طَوْعًا وَكرها) أَي: جيئا بِمَا خلقت فيكما من الْمَنَافِع وأخرجاها وَأظْهر الخلقي، وَعَن ابْن عَبَّاس، قَالَ الله عز وَجل لِلسَّمَوَاتِ: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وَقَالَ للْأَرْض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك، وَقَالَ السُّهيْلي فِي: (أَمَالِيهِ) : قيل: إِن البُخَارِيّ وَقع لَهُ فِي: أَتَى، من الْقُرْآن وهم: فَإِن كَانَ هَذَا وإلاَّ فَهِيَ قِرَاءَة بلغته وَوَجهه أعطيا الطَّاعَة كَمَا يُقَال فلَان يعْطى الطَّاعَة وَقَالَ وَقد قرى ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها بِالْمدِّ وَالْقصر والفتنة ضد الطَّاعَة، وَإِذا جَازَ فِي إِحْدَاهمَا جَازَ فِي الْأُخْرَى. انْتهى، وَجوز بعض الْمُفَسّرين أَن: آتِيَا، بِالْمدِّ بِمَعْنى الْمُوَافقَة، وَبِه جزم

(19/149)


صَاحب (الْكَشَّاف) ، فعلى هَذَا يكون الْمَحْذُوف مَفْعُولا وَاحِدًا، وَالتَّقْدِير: ليُوَافق كل مِنْكُمَا الْأُخْرَى. قَالَتَا: فَوَافَقنَا، وعَلى الأول يكون الْمَحْذُوف مفعولين، وَالتَّقْدِير: أعطيا من أمركما الطَّاعَة من أنفسكما، قَالَتَا: أعطيناه الطَّاعَة، وَإِنَّمَا جمع: طائعين، بِالْيَاءِ وَالنُّون، وَإِن كَانَ هَذَا الْجمع مُخْتَصًّا بِمن يعقل، لِأَن مَعْنَاهُ آتَيْنَا بِمن فيهمَا، أَو لِأَنَّهُ لما أخبر عَنهُ بِفعل من يعقل جَاءَ فِيهِنَّ بِالْيَاءِ وَالنُّون، كَمَا فِي قَوْله: {رَأَيْتهمْ لي ساجدين} (يُوسُف: 4) . وَأَجَازَ الْكسَائي أَن يجمع بِالْيَاءِ وَالنُّون وَالْوَاو وَالنُّون، وَفِيه بعد.
وَقَالَ المِنْهالُ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ إنِّي أجِدُ فِي القُرْآنِ أشْياءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، قَالَ: {فَلاَ أنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 101) و {أقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَساءَلُونَ} (الصافات: 72 و 05 وَالطور: 52) . {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} . {وَلَا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} (النِّسَاء: 24) {وَالله رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الْأَنْعَام: 32) فَقَدْ كَتَمُوا فِي هاذِهِ الْآيَة، وَقَالَ: {أم السَّماءُ بَناها} إِلَى قَوْلِهِ: {دَحاها} (النازعات: 72 و 03) فَذَكَرَ خَلْقَ السَّماءِ قَبْلَ خَلْقِ الأرْضِ، ثُمَّ قَالَ: {أئِنَّكُمْ لَتكْفُرُونَ بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى {طائعين} (فصلت: 9 و 11) فَذَكَرَ فِي هاذِهِ خَلْقَ الأرْض قَبْلَ السَّماءِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وكانَ الله غَفُوراً رَحِيماً} . عَزِيزاً حَكِيماً. سَميعاً بَصِيراً. فَكأنَّهُ كانَ ثُمَّ مَضَى، فَقَالَ: فَلاَ أنْسابَ بَيْنَهُمْ فِي النَّفْخَةِ الأولى {ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّور فصَعِقَ مَنْ فِي السَّماوَاتِ ومَنْ فِي الأرْضِ إلاَّ مَنْ شاءَ الله فَلاَ أنْسابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذالِكَ وَلاَ يَتَساءَلُونَ} ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الآخِرَةِ. {أقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} وأمّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} . {وَلَا يَكْتُمُونَ الله حدِيثاً} فإنَّ الله يَغْفِرُ لأهْلِ الإخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ، وَقَالَ المُشْرِكُونَ: تَعالَوْا نقُولُ: لَمْ نكُنْ مُشرِكينَ، فَخُتِمَ عَلَى أفْواهِهِمْ فَتَنْطِقُ أيْدِيهِمْ فَعِنْدَ ذالِكَ عُرِفَ أنَّ الله لَا يُكْتَمُ حَدِيثاً. وعِنْدَهُ: {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النِّسَاء: 24) . و {خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَينِ ثُمَّ خَلَقَ السَّماءَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحا الأرْضَ ودَحْوُها أنْ أخْرَجَ مِنْهَا المَاءَ والمرْعَى وخَلَقَ الجِبالَ والجمالَ والآكامَ وَمَا بَيْنَهُما فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ} فذلِكَ قَوْلُهُ: {دحاها} وقَوْلُهُ: {خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9) فَجُعِلَتِ الأرْضُ وَمَا فِيها مِنْ شَيْءٍ فِي أرْبَعَةِ أيَّامٍ وخُلِقَتِ السَّماوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ وكانَ الله غَفُوراً سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ وذَلِكَ. قَوْلُهُ: أيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ فإنَّ الله لَمْ يُرِدْ شَيْئاً إلاَّ أصابَ بِهِ الَّذِي أرَادَ، فَلاَ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ القُرْآنُ، فإِنَّ كُلاًّ مِنْ عِنْدَ الله.
لما ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة الْكَرِيمَة خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ذكر مَا علقه من الْمنْهَال أَولا، ثمَّ أسْندهُ عَقِيبه، وَهُوَ بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون: ابْن عَمْرو الْأَسدي مَوْلَاهُم الْكُوفِي، صَدُوق من طبقَة الْأَعْمَش وَثَّقَهُ ابْن معِين وَالنَّسَائِيّ وَالْعجلِي وَآخَرُونَ، وَتَركه شُعْبَة لأمر لَا يُوجب فِيهِ قدحاً، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث، وَآخر تقدم فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام. قَوْله: (عَن سعيد) ، هُوَ ابْن جُبَير، وَصرح بِهِ الْأصيلِيّ والنسفي فِي روايتهما. قَوْله: (قَالَ: قَالَ رجل) ، الظَّاهِر أَنه نَافِع بن الْأَزْرَق الَّذِي صَار بعد ذَلِك رَأس الْأزَارِقَة من الْخَوَارِج، وَكَانَ يُجَالس ابْن عَبَّاس بِمَكَّة ويسأله ويعارضه، وَحَاصِل سُؤَاله فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع على مَا نذكرهُ. قَوْله: (يخْتَلف عَليّ) ، أَي: يشكل ويضطرب عَليّ، إِذْ بَين ظواهرها تنافٍ وتدافع، أَو تفِيد شَيْئا لَا يَصح عقلا: الأول: من الأسئلة قَالَ: {فَلَا أَنْسَاب بَينهم} إِلَى قَوْله: {وَلَا يتساءلون} فَإِن بَين قَوْله: وَلَا يتساءلون، وَبَين قَوْله: يتساءلون، تدافعاً ظَاهرا. الثَّانِي: قَوْله: {وَلَا يكتمون الله حَدِيثا} فَإِن بَينه وَبَين قَوْله: {مَا كنامشركين} تدافعاً ظَاهرا لِأَنَّهُ علم من الأول أَنهم لَا يكتمون الله حَدِيثا، وَمن الثَّانِي: أَنهم يكتمون كَونهم مُشْرِكين. الثَّالِث: قَوْله: {أم السَّمَاء بناها} إِلَى قَوْله: قبل خلق السَّمَاء

(19/150)


فَإِن فِي الْآيَتَيْنِ المذكورتين تدافعاً لِأَن فِي إِحْدَاهمَا خلق السَّمَاء قبل الأَرْض، وَفِي الْأُخْرَى بِالْعَكْسِ، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر: {وَالسَّمَاء وَمَا بناها} (الشَّمْس: 5) وَهُوَ فِي سُورَة الشَّمْس، وَقَوله: {وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها} (النازعات: 03) يدل على أَن المُرَاد {أم السَّمَاء بناها} (النازعات: 72) الَّذِي فِي سُورَة والنازعات، الرَّابِع: (وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما) إِلَى قَوْله: ثمَّ مضى، فَإِن قَوْله: (وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما وسميعاً بَصيرًا) يدل على أَنه كَانَ مَوْصُوفا بِهَذِهِ الصِّفَات فِي الزَّمَان الْمَاضِي ثمَّ تغير عَن ذَلِك، وَهُوَ معنى قَوْله: فَكَأَنَّهُ كَانَ ثمَّ مضى. قَوْله: (فَقَالَ: فَلَا أَنْسَاب إِلَى قَوْله وَلَا يتساءلون) جَوَاب عَن سُؤال الأول، أَي قَالَ: فَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْجَواب مَا ملخصه: أَن التساؤل بعد النفخة الثَّانِيَة وَعدم التساؤل قبلهَا، وَعَن السّديّ: أَن نفي المساءلة عِنْد تشاغلهم بالصعق والمحاسبة وَالْجَوَاز على الصِّرَاط وإثباتها فِيمَا عدا ذَلِك. قَوْله: وَأما قَوْله: {مَا كُنَّا مُشْرِكين} إِلَى قَوْله: {يود الَّذين كفرُوا} فَهُوَ جَوَاب عَن السُّؤَال الثَّانِي وَمُلَخَّصه: أَن الكتمان قبل إنطاق الْجَوَارِح وَعَدَمه بعده. قَوْله: (فَعِنْدَ ذَلِك) أَي: عِنْد نطق أَيْديهم. قَوْله: (وَعِنْده يود الَّذين كفرُوا) أَي: وَعند علمهمْ أَن الله لَا يكتم حَدِيثا يود الَّذين كفرُوا هَذَا فِي سُورَة النِّسَاء. وَهُوَ قَوْله: {يومئذٍ يود الَّذين كفرُوا وعصوا الرَّسُول لَو تسوى بهم الأَرْض وَلَا يكتمون الله حَدِيثا} (النِّسَاء: 24) ، أَي: يَوْم الْقِيَامَة يود الَّذين كفرُوا بِاللَّه وعصوا رَسُوله لَو تسوى بهم الأَرْض أَي لَو تسوت بهم الأَرْض وصاروا هم وَالْأَرْض شَيْئا وَاحِدًا، أَو أَنهم لم يكتموا أَمر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا نَعته، لِأَن مَا عملوه لَا يخفى على الله تَعَالَى فَلَا يقدرُونَ كِتْمَانه، لِأَن جوارحهم تشهد عَلَيْهِم. قَوْله: {وَخلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9) إِلَى قَوْله وَخلق السَّمَوَات فِي يَوْمَيْنِ جَوَاب عَن السُّؤَال الثَّالِث ملخصه: أَن خلق نفس الأَرْض قبل السَّمَاء ودحوها بعده، يُقَال: دحوت الشَّيْء دحوا بسطته بسطاً، وَقيل فِي جَوَابه: إِن خلق بِمَعْنى قدر. قَوْله: (ان أخرج) بِأَن أخرج فَإِن مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (والآكام) ، جمع أكمة بِفتْحَتَيْنِ وَهُوَ الْموضع الْمُرْتَفع من الأَرْض كَالتَّلِّ والرابية، ويروى: والأكوام. جمع كوم قَوْله: {وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} (النِّسَاء: 69 و 001 و 251 وَالْفرْقَان: 072 والأحزاب: 5 و 05 و 95 و 37 وَالْفَتْح: 41) . الخ جَوَاب عَن السُّؤَال الرَّابِع، وَمُلَخَّصه: أَنه سمى نَفسه بِكَوْنِهِ غَفُورًا رحِيما، وَهَذِه التَّسْمِيَة مَضَت لِأَن التَّعَلُّق انْقَطع، وَأما معنى الغفورية والرحيمية فَلَا يزَال كَذَلِك لَا يَنْقَطِع، وَأَن الله إِذا أَرَادَ الْمَغْفِرَة أَو الرَّحْمَة أَو غَيرهمَا من الْأَشْيَاء فِي الْحَال أَو الِاسْتِقْبَال فَلَا بُد من وُقُوع مُرَاده قطعا. قَوْله: (سمى نَفسه ذَلِك) ، أَي: سمى الله تَعَالَى ذَاته بالغفور والرحيم وَنَحْوهمَا، وَذَلِكَ قَوْله: (وَإنَّهُ لَا يزَال كَذَلِك لَا يَنْقَطِع وَأَن مَا شَاءَ كَانَ) ، وَقَالَت النُّحَاة: كَانَ لثُبُوت خَبَرهَا مَاضِيا دَائِما، وَلِهَذَا لَا يُقَال: صَار مَوضِع: كَانَ، لِأَن مَعْنَاهُ التجدد والحدوث، فَلَا يُقَال فِي حق الله ذَلِك. قَوْله: (فَلَا يخْتَلف) بِالْجَزْمِ، أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس للسَّائِل الْمَذْكُور: لَا يخْتَلف عَلَيْك الْقُرْآن فَإِنَّهُ من عِنْد الله {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} (النِّسَاء: 28) .
حَدَّثَنِيهِ يُوسُفُ بنُ عَدِيّ حَدثنَا عُبَيْدُ الله بنُ عَمْرٍ وَعَنْ زَيْدِ بنِ أنَيْسَةَ عَنِ المِنْهالِ بِهاذَا
أسْند الحَدِيث الْمَذْكُور بعد أَن علقه كَمَا ذَكرْنَاهُ، قَالَ الْكرْمَانِي: لَعَلَّه سمع أَولا مُرْسلا وآخراً مُسْندًا فنقله كَمَا سَمعه، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْإِسْنَاد لَيْسَ بِشَرْطِهِ، واستبعد بَعضهم كَلَام الْكرْمَانِي هَذَا، وليت شعري مَا وَجه بعده وَمَا برهانه على ذَلِك؟ بل الظَّاهِر هُوَ الَّذِي ذكره، وَقَول الْكرْمَانِي: وَفِيه إِشَارَة ... إِلَى آخِره يُؤَيّدهُ كَلَام البرقاني حَيْثُ قَالَ: وَلم يخرج البُخَارِيّ ليوسف وَلَا لِعبيد الله بن عَمْرو وَلَا لزيد بن أبي أنيسَة مُسْندًا، سواهُ وَفِي مغايرته سِيَاق الْإِسْنَاد عَن ترتيبه الْمَعْهُود إِشَارَة إِلَى أَنه لَيْسَ على شَرطه، وَإِن صَارَت صورته صُورَة الْمَوْصُول. قَوْله: (حَدَّثَنِيهِ يُوسُف بن عدي) ، وَقع فِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ: حَدَّثَنِيهِ عَن يُوسُف، بِزِيَادَة: عَن، وَهُوَ غلط وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: حَدَّثَنِيهِ ... إِلَى آخِره، وَكَذَا سقط من رِوَايَة أبي نعيم عَن الْجِرْجَانِيّ عَن الفريري، وَلَكِن ذكر البرقاني فَقَالَ: قَالَ لي مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الأزدستاني: شوهدت نُسْخَة بِكِتَاب: (الْجَامِع) للْبُخَارِيّ فِيهَا على الْحَاشِيَة: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم أخبرنَا يُوسُف بن عدي، فَذكره وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أَحْمد بن زَنْجوَيْه: أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن خَالِد الرقي: حَدثنَا عبيد الله بن عَمْرو عَن زيد عَن الْمنْهَال. قلت: يُوسُف بن عدي بن زُرَيْق التَّيْمِيّ الْكُوفِي نزيل مصر، وَهُوَ أَخُو زَكَرِيَّاء بن عدي، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَعبيد الله بن عَمْرو بِالْفَتْح الرقي بالراء وَالْقَاف، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة، وَزيد بن أبي أنيسَة مصغر الأنسة بالنُّون وَالسِّين الْمُهْملَة الجزيري، سكن الرها، قيل: إسم أبي أنيسَة زيد، وَمَات زيد الرَّاوِي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة.

(19/151)


وَقَالَ مُجاهِدٌ: {لَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (فصلت: 8) مَحْسُوب

ويروي قَالَ: غير مَحْسُوب، رَوَاهُ عبد بن حميد فِي تَفْسِيره عَن عَمْرو بن سعد عَن سُفْيَان عَن ابْن جريج عَن مُجَاهِد، وروى الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، فِي قَوْله: غير ممنون، قَالَ: غير مَنْقُوص.
أقْوَاتَها أرْزَاقَها

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَبَارك فِيهَا وَقدر فهيا أقواتها} (فصلت: 01) وَفسّر (أقواتها) بقوله: (أرزاقها) وَهَذَا أَيْضا تَفْسِير مُجَاهِد، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وأحدها قوت، وَهُوَ الرزق.
فِي كُلِّ سَماء أمْرَها مِمَّا أمَرَ بِهِ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأوحى فِي كل سَمَاء أمرهَا} (فصلت: 21) وَفَسرهُ بقوله: (مِمَّا أَمر بِهِ) وَهُوَ أَيْضا عَن مُجَاهِد. وَفِي لفظ: مِمَّا أَمر بِهِ، وأراده، وأراده أَي: من خلق النيرَان والنجوم والرجوم وَغير ذَلِك. وَعَن قَتَادَة وَالسُّديّ: خلق فِيهَا شمسها وقمرها ونجومها، وَخلق فِي كل سَمَاء من الْمَلَائِكَة والخلق الَّذِي فِيهَا من الْبحار وجبال الْبر دَوْمًا لَا يعلم.
نَحِساتٍ: مَشائيمَ

أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّام نحسات} (فصلت: 61) وَفَسرهُ بقوله: (مشائيم) جمع مشومة، وَهُوَ أَيْضا عَن مُجَاهِد، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الصرصر شَدِيدَة الصَّوْت الْعَاصِفَة، نحسات ذَوَات نحوس أَي: مشائيم.
{وقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ} (فصلت: 52) قُرَنَّا بِهِمْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ المَوْتِ
كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي وَجَمَاعَة وَعند الْأصيلِيّ: {وقيضنا لَهُم قرناء} قرناهم بهم تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة عِنْد الْمَوْت وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَلَيْسَ قَوْله: {تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة} (فصلت: 03) عِنْد الْمَوْت تَفْسِير قَوْله: {وقيضنا لَهُم قرناء} وَفِي التَّفْسِير معنى: قيضنا سلطنا وبعثنا لَهُم قرناء يَعْنِي نظراء من الشَّيَاطِين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وقيضنا لَهُم قَدرنَا لَهُم، وَعَن مُجَاهِد: قرناء شياطين، وَقَالَ فِي قَوْله: {تتنزل عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة أَن لَا تخافوا وَلَا تحزنوا} قَالَ: عِنْد الْمَوْت، وَكَذَا قَالَ الطَّبَرِيّ مفرقاً فِي موضِعين.
اهْتزَّتْ بالنباتِ ورَبَتْ ارْتَفَعَتْ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت وربت} (فصلت: 93) وَفسّر: اهتزت يَعْنِي بالنبات وربت يَعْنِي ارْتَفَعت من الربو وَهُوَ النمو وَالزِّيَادَة، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر والنسفي، وَعند غَيرهمَا بِزِيَادَة وَهِي قَوْله:
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أكْمامِها حِينَ تَطلعُ
أَي: وَقَالَ غير مُجَاهِد: معنى وربت ارْتَفَعت من أكمامها حِين تطلع، والأكمام جمع كم بِالْكَسْرِ، وَهُوَ وعَاء الطّلع، وَإِنَّمَا قُلْنَا غير مُجَاهِد لِأَن مَا قبله من قَوْله: قَالَ مُجَاهِد ... إِلَى هُنَا كُله عَن مُجَاهِد، وَلم يعْمل الشُّرَّاح هَهُنَا شَيْئا يجدي.
لَيَقُولَنَّ هاذَا لي أيْ بِعَملِي أَنا مَحْقُوقٌ بِهاذَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِن أذقناه رَحْمَة منا من بعد ضراء مسته ليَقُولن هَذَا لي} (فصلت: 05) وَفَسرهُ بقوله: (أَي بعملي)
إِلَى آخِره، وَمعنى قَوْله: أَنا محقوق، أَي: مُسْتَحقّ لَهُ، وَقَالَ النَّسَفِيّ: ليَقُولن هَذَا لي أَي هَذَا حَقي وصل إِلَيّ لِأَنِّي استوجبه بِمَا عِنْدِي من خير وَفضل وأعمال بر، وَقيل: هَذَا لي لَا يَزُول.
وَقَالَ غَيْرُهُ سَوَاءً لِلسائِلِينَ قَدَّرَها سَوَاءً
لَيْسَ فِي رِوَايَة غير أبي ذَر والنسفي. قَوْله: (وَقَالَ غَيره) ، أَي: قَالَ غير مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقدر فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَة أَيَّام سَوَاء للسائلين} (فصلت: 01) قَوْله: (فِيهَا) ، أَي: فِي الأَرْض، أقواتها أَي: أرزاق أَهلهَا ومعائشهم وَمَا يصلحهم. قَوْله: (فِي أَرْبَعَة أَيَّام) يَعْنِي: هَذَا مَعَ قَوْله خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ أَرْبَعَة أَيَّام وَأُرِيد باليومين يَوْم الْأَحَد والإثنين. قَوْله: (سَوَاء) ، فسره بقوله: (قدرهَا سَوَاء) أَي: سَوَاء للسائلين عَن ذَلِك، قَالَ الثَّعْلَبِيّ: سَوَاء بِالنّصب على المصدرية، أَي: اسْتَوَت سواهُ، وَقيل: على الْحَال، وبالرفع

(19/152)


أَي: هُوَ سَوَاء، وبالجر على نعت أَرْبَعَة أَيَّام، وَقيل معنى للسائلين أَي للسائلين الله حوائجهم، وع ابْن زيد: قدر ذَلِك على قدر مسائلهم، وَقيل: مَعْنَاهُ للسائلين وَغير السَّائِلين، يَعْنِي أَنه بَين أَمر خلق الأَرْض وَمَا فِيهَا للسائلين ولغير السَّائِلين، وَيُعْطِي لمن سَأَلَ وَلمن لَا يسْأَل.
فَهَدَيْناهُمْ لَلْناهُمْ على الخَيْرِ والشَّرِّ كَقَوْلِهِ: {وهَدَيْناهُ النَّجُدَينِ} (الْبَلَد: 01) وكَقَوْلِهِ: {هَدَيْناهُ السَّبِيلَ} (الْإِنْسَان: 3) والهُدَى الَّذِي هُوَ الإرْشادُ بِمَنْزِلَةِ أسْعَدْناهُ وَمِنْ ذالِكَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الْأَنْعَام: 09) .

أَشَارَ بقوله: (فهديناهم) إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى} (فصلت: 71) وَفسّر: فهديناهم بقوله: (دللناهم على الْخَيْر وَالشَّر) أَرَادَ أَن الْهِدَايَة هُنَا بِمَعْنى الدّلَالَة الْمُطلقَة فِيهِ وَفِي أَمْثَاله، كَقَوْلِه: {وهديناه النجدين} أَي: دللناه الثديين، قَالَه سعيد بن الْمسيب وَالضَّحَّاك، والنجد طَرِيق فِي ارْتِفَاع، وَقَالَ أَكثر الْمُفَسّرين: بَينا لَهُ طَرِيق الْخَيْر وَالشَّر وَالْحق وَالْبَاطِل وَالْهدى والضلالة، وَكَذَلِكَ الْهِدَايَة بِمَعْنى الدّلَالَة فِي قَوْله: {هديناه السَّبِيل} وَهُوَ فِي سُورَة الْإِنْسَان {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكراً وَإِمَّا كفوراً} قَوْله: (وَالْهدى الَّذِي هُوَ الْإِرْشَاد)
إِلَى آخِره، وَالْمعْنَى هُنَا الدّلَالَة الموصلة إِلَى البغية، وَعبر عَنهُ البُخَارِيّ بالإرشاد والإسعاد فَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده} وَنَحْوه، وغرضه أَن الْهِدَايَة فِي بعض الْآيَات بِمَعْنى الدّلَالَة، وَفِي بَعْضهَا بِمَعْنى الدّلَالَة الموصلة إِلَى الْمَقْصُود، وَهل هُوَ مُشْتَرك فيهمَا أَو حَقِيقَة ومجاز؟ وَفِيه خلاف.
يُوزَعُونَ: يُكَفُّونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم يحْشر أَعدَاء الله إِلَى النَّار فهم يُوزعُونَ} (فصلت: 91) وَفَسرهُ بقوله: (يكفون) ، وَعَن أبي عُبَيْدَة: يدْفَعُونَ، من وزعت إِذا كَفَفْت ومنعت، وَقيل: مَعْنَاهُ يساقون ويدفعون إِلَى النَّار.
مِنْ أكْمامِها قِشْرُ الكُفرَّى هِيَ الكُمُّ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمَا تخرج من ثَمَرَات من أكمامها} (فصلت: 74) وَفسّر أكمامها بقوله: (قشر الكفرى) بِضَم الْكَاف وَفتح الْفَاء وَضمّهَا أَيْضا وَتَشْديد الرَّاء مَقْصُور، وَفَسرهُ بقوله: (هِيَ الْكمّ) قد ذكرنَا أَنه بِكَسْر الْكَاف، وَقَالَ بَعضهم: كَاف الْكمّ مَضْمُومَة ككم الْقَمِيص وَعَلِيهِ يدل كَلَام أبي عُبَيْدَة وَبِه جزم الرَّاغِب، وَوَقع فِي (الْكَشَّاف) بِكَسْر الْكَاف، فَإِن ثَبت فلعلها لُغَة فِيهِ دون كم الْقَمِيص. انْتهى. قلت: لَا اعْتِبَار لأحد فِي هَذَا الْبَاب مَعَ الزَّمَخْشَرِيّ فَإِنَّهُ فرق بَين كم الْقَمِيص وَكم الثَّمَرَة بِالضَّمِّ فِي الأول وَالْكَسْر فِي الثَّانِي، وَكَذَلِكَ فرق بَينهمَا الْجَوْهَرِي وَغَيره، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: قشر الكفرى الْكمّ بِدُونِ لفظ: هِيَ، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: وَاحِدهَا، يَعْنِي: الْكمّ وَاحِد الأكمام، وَعَن أبي عُبَيْدَة: من أكمامها، أَي: أوعيتها، وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: أكمامها أوعيتها وَاحِدهَا كمة وَهِي كل ظرف لمَال وَغَيره، وَلذَلِك سمى قشر الطّلع أَي الكفراة الَّتِي تَنْشَق عَن الثَّمَرَة كمة، وَعَن ابْن عَبَّاس: يَعْنِي الكفرى قبل أَن تَنْشَق فَإِذا انشقت فَلَيْسَتْ بأكمام.
ويُقالُ لِلْعِنَبِ إِذا خَرَجَ أيْضاً كافُورٌ وكُفُرَّى
هَذَا لم يثبت إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده، وَفِي بعض النّسخ: وَقَالَ غَيره وَيُقَال ... إِلَى آخِره، وَقَالَ الْأَصْمَعِي وَغَيره: قَالُوا: وعَاء كل شَيْء كافورة.
وَلِيَ حَمِيمٌ قَرِيبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا الَّذِي بَيْنك وَبَينه عَدَاوَة كَأَنَّهُ ولي حميم} (فصلت: 43) وَفسّر الْحَمِيم بقوله. (قريب) ويروى: الْقَرِيب، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَعند النَّسَفِيّ قَالَ معمر ... فَذكره، وَمعمر بِفَتْح الميمين هُوَ ابْن الْمثنى أَبُو عُبَيْدَة.
مِنْ مَحِيصٍ حاصَ عَنْهُ حادَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وظنوا مَا لَهُم من محيص} (فصلت: 84) وَفَسرهُ من فعله، وَهُوَ حَاص يحيص، وَفسّر حَاص بقوله: حاد، ويروى: حَاص عَنهُ حاد عَنهُ، حَاصِل الْمَعْنى: مَا لَهُم من مهرب، وَكلمَة: مَا، حرف وَلَيْسَت باسم فَلذَلِك لم يعْمل فِيهِ، قَوْله: ظنُّوا، وَجعل الْفِعْل ملغًى.

(19/153)


مِريَةٍ ومُرْيَةٍ واحِدٌ أَي امْتِرَاءٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُم فِي مرية من لِقَاء رَبهم} (فصلت: 45) وَقَالَ: مرية، بِكَسْر الْمِيم ومرية بضَمهَا وَاحِد، وَمَعْنَاهَا: الامتراء، وَقِرَاءَة الْجُمْهُور بِالْكَسْرِ، وَقِرَاءَة الْحسن الْبَصْرِيّ بِالضَّمِّ.
وَقَالَ مُجاهدٌ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمُ الوَعِيدُ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم إِنَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (فصلت: 04) قَوْله: (الْوَعيد) ويروى: هُوَ وَعِيد، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، أَرَادَ أَن الْأَمر هُنَا لَيْسَ على حَقِيقَته بل هُوَ أَمر تهديد وتوعيد وتوبيخ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاس: {أدْفَعْ بالتِي هِيَ أحْسَنُ} (فصلت: 43) الصَّبْرُ عِنْدَ الغَضَب والعَفْوُ عِنْدَ الإساءَةِ فإذَا فَعَلُوهُ عَصَمَهُمُ الله وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ: {كأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 43) [/ ح.
فسر عبد الله بن عَبَّاس. قَوْله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحسنُ) بقوله: (الصَّبْر) إِلَى آخِره، وَقد وَصله الطَّبَرِيّ من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَنهُ. قَوْله: (كَأَنَّهُ ولي حميم) ، لم يثبت فِي رِوَايَة أبي ذَر. قَوْله: (بِالَّتِي هِيَ أحسن) ، أَي: بالخصلة الَّتِي هِيَ أحسن، وَعَن مُجَاهِد: هِيَ الْإِسْلَام.