عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 1 - (بابُ قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ
أبْصارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلاكنْ ظَنَنْتُمْ أَن
الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْلَمُونَ} (فصلت:
22)
حَدِيث الْبَاب يُوضح معنى الْآيَة. قَوْله: (تستترون) ،
أَي: تستخفون، قَالَه أَكثر الْعلمَاء، وَعَن مُجَاهِد:
تَتَّقُون، وَعَن قَتَادَة: تظنون. قَوْله: (أَن يشْهد)
أَي: لِأَن يشْهد، وَفِي تَفْسِير النَّسَفِيّ: وَمَا
كُنْتُم تستترون، وتستخفون بالحيطان والحجب عِنْد
ارْتِكَاب الْفَوَاحِش، وَمَا كَانَ استتاركم ذَلِك خيفة
أَن تشهد عَلَيْكُم جوارحكم، لأنكم كُنْتُم غير عَالمين
بشهادتها عَلَيْكُم، بل كُنْتُم جاحدين بِالْبَعْثِ
وَالْجَزَاء أصلا.
6184 - حدَّثنا الصَّلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ حَدثنَا يَزِيدُ
بنُ زُرَيْع عَنْ رَوْحِ بنِ القاسمِ عنْ مَنْصُورٍ عَنْ
مُجاهِدٍ عَنْ أبي مَعْمَرٍ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ: {وَمَا
كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ
سَمْعُكُمْ} الْآيَة. كانَ رجلاَنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَخَتَنٌ
لَهُما مِنْ ثَقِيفَ أوْ رَجُلاَنِ مِنْ ثَقِيفَ وَخَتَنٌ
لَهُما مِنْ قُرَيْشٍ فِي بَيْتٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ أتُرَوْنَ أنَّ الله يَسْمَعُ حَديثَنَا فَقَالَ
بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ بَعْضَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَئِنْ
كانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لَقَدْ يَسْمَعَ كُلَّهُ
فأُنْزِلَتْ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَرُونَ أنْ يَشْهَدَ
عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ولاَ أبْصارُكُمْ} الْآيَة.
(مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والصلت، بِفَتْح الصَّاد
الْمُهْملَة وَسُكُون اللَّام وبالتاء الْمُثَنَّاة من
فَوق: ابْن مُحَمَّد الخاركي، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة
وبالراء الْمَفْتُوحَة وَالْكَاف: نِسْبَة إِلَى خارك،
اسْم مَوضِع من سَاحل فَارس يرابط فِيهِ، وروح بِفَتْح
الرَّاء، وَأَبُو معمر بِفَتْح الميمين عبد الله بن
سَخْبَرَة الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّوْحِيد عَن
الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَن عَمْرو بن
عَليّ. وَأخرجه مُسلم فِي التَّوْبَة عَن ابْن أبي عمر
وَعَن أبي بكر بن خَلاد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
التَّفْسِير عَن ابْن أبي عمر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعَن مُحَمَّد بن بشار.
قَوْله: (عَن ابْن مَسْعُود وَمَا كُنْتُم تستترون) ، أَي:
قَالَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُم
تستترون} قَوْله: (رجلَانِ من قُرَيْش وختن لَهما) ، الختن
كل من كَانَ من قبل الْمَرْأَة. قَوْله: (أَو رجلَانِ من
ثَقِيف) ، شكّ من أَبى معمر الرَّاوِي عَن ابْن مَسْعُود،
وَأخرجه عبد الرَّزَّاق من طَرِيق وهب بن ربيعَة عَن ابْن
مَسْعُود، بِلَفْظ ثقفي وختنان قرشيان، وَلم يشك. وَقَالَ
ابْن بشكوال فِي (المبهمات) عَن ابْن عَبَّاس قَالَ:
الْقرشِي الْأسود بن عبد
(19/154)
يَغُوث الزُّهْرِيّ، والثقفيان الْأَخْنَس
بن شريق وَالْآخر لم يسم، وَذكر الثَّعْلَبِيّ وَتَبعهُ
الْبَغَوِيّ: أَن الثَّقَفِيّ عبديا ليل بن عَمْرو بن
عُمَيْر، والقرشيان: صَفْوَان وَرَبِيعَة ابْنا أُميَّة بن
خلف، وَذكر إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد التَّيْمِيّ فِي
تَفْسِيره: إِن الْقرشِي صَفْوَان بن أُميَّة والثقفيان:
ربيعَة وحبِيب ابْنا عَمْرو، وَالله أعلم. قَوْله: (يسمع
بعضه) أَي: مَا جهرنا قَوْله: (لَئِن كَانَ يسمع بعضه لقد
يسمع كُله) بَيَان الْمُلَازمَة أَن نِسْبَة جَمِيع
المسموعات إِلَيْهِ وَاحِدَة والتخصيص تحكم.
2 - (بابُ قَوْلُهُ: {وذلِكُمْ ظَنُّكُمُ} (فصلت: 32)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وذلكم ظنكم الَّذِي
ظننتم بربكم أرادكم فأصبحتم من الخاسرين} ، وَفِي بعض
النّسخ سَاق الْآيَة بِتَمَامِهَا. قَوْله: (ذَلِكُم)
إِشَارَة إِلَى قَوْله: {وَلَكِن ظننتم أَن الله لَا يعلم
كثيرا مِمَّا تَعْمَلُونَ} (فصلت: 22) وذلكم رفع على
الِابْتِدَاء وظنكم خَبره. قَوْله: {الَّذِي ظننتم بربكم}
صفة: لظنكم، قَوْله: {أراداكم} ، خبر يعد خبر أَي: أهلككم،
وَقيل: ظنكم بدل من ذَلِكُم، وأرادكم هُوَ الْخَبَر.
7184 - حدَّثنا الحمَيْدِيُّ حَدثنَا سُفْيانُ حَدثنَا
مَنْصُورٌ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ أبي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ
الله رَضِي الله عَنهُ قَالَ اجْتَمَعَ عِنْدَ البَيْتِ
قُرْشِيَّانِ وثَقَفِيٌّ أوْ ثَقَفِيَّانِ وقُرَشِيٌّ
كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقهُ قُلُوبِهِمْ
فَقالَ أحَدُهُمْ أتُرَوْنَ أنَّ الله يَسْمَعُ مَا
نَقُولُ قَالَ الآخَرُ يَسْمَعُ إنْ جَهَرْنا ولاَ
يَسْمَعُ إنْ أخْفَيْنا وَقَالَ الآخَرُ إنْ كانَ يَسْمَعُ
إذَا جَهَرْنا فإنَّهُ يَسْمَعُ إذَا أخْفَيْنا فأنْزَلَ
الله عَزَّ وجَلَّ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ
يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أبْصارُكُمْ وَلاَ
جُلُودُكُمْ} (فصلت: 22) .
وكانَ سُفْيانُ يُحَدِّثُنا بِهاذَا فَيَقُولُ حدّثنا
مَنْصُورٌ أوِ ابنُ أبي نجِيحٍ أوْ حُمَيْدٌ أحُدهُمْ أوِ
اثْنانِ مِنْهُمْ ثُمَّ ثَبَتَ عَلَى مَنْصُورٍ وَتَرَكَ
ذالِكَ مرَارًا غَيْرَ واحِدَةٍ. (انْظُر الحَدِيث 6184
وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن عبد
الله بن الزبي رالحميدي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن
مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر عَن مُجَاهِد عَن أبي معمر عبد
الله بن سَخْبَرَة عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله
عَنهُ.
قَوْله: (عِنْد الْبَيْت) أَي: عِنْد الْكَعْبَة. قَوْله:
(كَثِيرَة شَحم بطونهم) ، بِإِضَافَة بطونهم إِلَى شَحم،
وَكَذَا إِضَافَة قُلُوبهم إِلَى قَوْله: (فقه) ، وكثيرة
وقليلة منونتان هَكَذَا عِنْد الْأَكْثَرين، ويروى: كثير
وَقَلِيل، بِدُونِ التَّاء وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجه
التَّأْنِيث إِمَّا أَن يكون الشَّحْم مُبْتَدأ واكتسب
التَّأْنِيث من الْمُضَاف إِلَيْهِ، وكثيرة خَبره،
وَإِمَّا أَن تكون التَّاء للْمُبَالَغَة نَحْو: رجل
عَلامَة، وَفِي رِوَايَة ابْن مرْدَوَيْه: عَظِيمَة بطونهم
قَلِيل فقههم. قَوْله: (إِن أخفينا) ويروى: إِن خافتنا،
وَهُوَ نَحوه لِأَن المخافتة والخفت إسرار النُّطْق.
قَوْله: (وَكَانَ سُفْيَان يحدثنا)
إِلَى آخِره من كَلَام الْحميدِي شيخ البُخَارِيّ فِيهِ
وتردده أَولا وَالْقطع آخرا ظَاهر لَا يقْدَح لِأَنَّهُ
تردد أَولا فِي أَي هَؤُلَاءِ الثِّقَات وهم: مَنْصُور بن
الْمُعْتَمِر وَعبد الله بن أبي نجيح وَحميد بِضَم الْحَاء
ابْن قيس أَبُو صَفْوَان الْأَعْرَج مولى عبد الله بن
الزبير، وَلما ثَبت لَهُ الْيَقِين اسْتَقر عَلَيْهِ.
3 - ( {فإنْ يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (فصلت:
42)
تَمام الْآيَة: {وَإِن يستعتبوا فَمَا هم من المعتبين}
أَي: فَإِن يصبروا على أَعمال أهل النَّار فَالنَّار مثوى
لَهُم، أَي: منزل إِقَامَة لَهُم وَإِن يستعتبوا أَي:
وَإِن يسترضوا ويطلبوا العتبى فَمَا هم من المعتبين أَي:
المرضيين، والمعتب الَّذِي قد قبل عتابه، وَأجِيب إِلَى
مَا سَأَلَ، وقرىء بِضَم أَوله وَكسر التَّاء لأَنهم
فارقوا دَار الْعَمَل.
حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيّ حَدثنَا يَحْيَى حَدثنَا
سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ حدّثني مَنْصُورٌ عَنْ
مُجاهِدٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الله بِنَحْوِهِ.
(19/155)
عَمْرو بن عَليّ بن بَحر أَبُو حَفْص
الْبَصْرِيّ الصَّيْرَفِي وَهُوَ شيخ مُسلم أَيْضا وَيحيى
هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان. قَوْله: (نَحوه) أَي بِنَحْوِ
الحَدِيث الْمَذْكُور.
24 - (سورَةُ حم عسق)
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة حم عسق، وَفِي بعض
النّسخ: سُورَة حم عسق، وَفِي بَعْضهَا: وَمن سُورَة حم
عسق، قيل: قطع حم عسق وَلم يقطع كهيعص وألم والمص،
لكَونهَا بَين سور أوائلها حم فجرت مجْرى نظائرها قبلهَا
وَبعدهَا فَكَانَ حم مُبْتَدأ وعسق خَبره، وَلِأَنَّهُمَا
عدا آيَتَيْنِ وعدت أخواتها الَّتِي كتبت مَوْصُولَة آيَة
وَاحِدَة، وَقيل: لِأَنَّهَا خرجت من حيّز الْحُرُوف
وَجعلت فعلا مَعْنَاهُ: حم أَي قضى مَا هُوَ كَائِن إِلَى
يَوْم الْقِيَامَة بِخِلَاف أخواتها لِأَنَّهَا حُرُوف
التهجي لَا غير، وَذكروا فِي: حم عسق مَعَاني كَثِيرَة
لَيْسَ لَهَا مَحل هَهُنَا، وَهِي مَكِّيَّة، قَالَ
مقَاتل: وفيهَا من الْمدنِي قَوْله: {ذَلِك الَّذِي يبشر
الله عباده} (الشورى: 32) . وَقَوله: {وَالَّذين إِذا
أَصَابَهُم الْبَغي هم ينتصرون} إِلَى قَوْله: {أُولَئِكَ
مَا عَلَيْهِم من سَبِيل} (الشورى: 93 14) . وَهِي
ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَثَمَانُونَ حرفا،
وَثَمَانمِائَة وست وَسِتُّونَ كلمة، وَثَلَاث وَخَمْسُونَ
آيَة. فَافْهَم.
(بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر رَضِي الله عَنهُ.
ويُذْكَرُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَقِيماً الَّتي لَا تَلِدُ
أَي: يذكر عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {وَيجْعَل من
يَشَاء عقيماً} (الشورى: 05) الْمَرْأَة الَّتِي لَا تَلد،
وَهَذَا ذكره جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس
وَكَأن فِيهِ ضعفا وانقطاعاً، فَلذَلِك لم يجْزم بِهِ
فَقَالَ: وَيذكر.
رُوحاً مِنْ أمْرِنا: القُرْآنُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَينَا إِلَيْك روحاً من أمرنَا} (الشورى: 25) وَفسّر
الرّوح بِالْقُرْآنِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم
من طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي
الله عَنْهُمَا، وَعَن السّديّ: وَحيا، وَعَن الْحسن:
رَحْمَة.
وَقَالَ مُجاهِدٌ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ نَسْلٌ بَعْدَ نَسْلٍ
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن
الْأَنْعَام أَزْوَاجًا بذرؤكم فِيهِ} (الشورى: 11) أَن
معنى: يذرؤكم نَسْلًا بعد نسل من النَّاس والأنعام، أَي:
يخلقكم وَكَذَا فسره السّديّ، يُقَال: ذَرأ الله الْخلق
يذرأ هم ذَرأ إِذا خلقهمْ وَكَأَنَّهُ مُخْتَصّ بِخلق
الذُّرِّيَّة بِخِلَاف برأَ لِأَنَّهُ أَعم. قَوْله:
(يذرؤكم فِيهِ) قَالَ القتبي: أَي فِي الرّوح، وَخطأ من
قَالَ: فِي الرَّحِم، لِأَنَّهَا مُؤَنّثَة وَلم تذكر.
لَا حُجَّةَ بَيْنَنا: لَا خُصُومَةَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لنا أَعمالنَا وَلكم
أَعمالكُم لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم الله يجمع
بَيْننَا} (الشورى: 51) وَفسّر الْحجَّة بِالْخُصُومَةِ،
وَفِي بعض النّسخ: لَا خُصُومَة بَيْننَا وَبَيْنكُم.
مِنْ طرْفٍ خَفِيّ: ذَلِيلٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {خاشعين من الذل
ينظرُونَ من طرف خَفِي} (الشورى: 54) وَفسّر قَوْله:
(خَفِي) بقوله: (ذليل) ، وَهَكَذَا فسره مُجَاهِد، وَعَن
السّديّ: يسارقون النّظر، وَتَفْسِير مُجَاهِد من لَازم
هَذَا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى
ظَهْرِهِ} يَتَحَرَّكْنَ وَلَا يَجْرِينَ فِي البحْرِ
أَي: قَالَ غير مُجَاهِد لِأَن مَا قبله تَفْسِير مُجَاهِد
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن آيَاته الْجوَار فِي الْبَحْر
كالأعلام أَن يَشَأْ يسكن الرّيح فيظللن رواكد على ظَهره}
(الشورى: 23) وَفَسرهُ بقوله: (يتحركن وَلَا يجرين فِي
الْبَحْر) أَي: يضطربن بالأمواج وَلَا يجرين فِي الْبَحْر
لسكون الرّيح. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا أَيْضا
عَن مُجَاهِد، ورد عَلَيْهِ بقوله: وَقَالَ غَيره: أَي:
غير مُجَاهِد كَمَا ذكرنَا. قَوْله: (وَمن آيَاته) أَي:
وَمن علاماته الدَّالَّة على عَظمته ووحدانيته،
الْجَوَارِي يَعْنِي: السفن وَهِي جمع جَارِيَة وَهِي
السائرة فِي الْبَحْر. قَوْله: (كالاعلام) أَي: كالجبال
جمع علم بِفتْحَتَيْنِ، وَعَن الْخَلِيل: كل شَيْء
مُرْتَفع عِنْد الْعَرَب فَهُوَ علم. قَوْله: (واكد) أَي:
ثوابت وقوفاً (على ظَهره) أَي: ظهر المَاء لَا تجْرِي.
فَإِن قلت: بَين قَوْله: راوكد، وَبَين قَوْله: يتحركن،
مُنَافَاة؟ لِأَن الراكد لَا يَتَحَرَّك. قلت: هَذَا أَمر
نسبي، وَأَيْضًا لَا يلْزم من وُقُوفه فِي المَاء عدم
الْحَرَكَة أصلا لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون راكداً وَهُوَ
يَتَحَرَّك، وَلَيْسَ هَذَا الركود على ظهر المَاء كالركود
على ظهر الأَرْض، وَبِهَذَا يسْقط قَول من زعم أَن كَلمه:
لَا، سَقَطت من قَوْله يتحركن، قَالَ: لأَنهم فسروا رواكد
بسواكن.
(19/156)
شَرَعُوا ابْتَدَعُوا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {أم لَهُم شُرَكَاء شرعوا
لَهُم من الدّين مَا لم يَأْذَن بِهِ الله} (الشورى: 12)
وَفسّر: (شرعوا) بقوله: (ابتدعوا) وَلَكِن لَيْسَ هَذَا
الْموضع مَحل ذكره لِأَنَّهُ فِي سُورَة حم عسق.
1 - (بابُ قَوْلِهِ: {إلاَّ المَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
(الشورى: 32)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {لَا أسئلكم
عَلَيْهِ أجرا إلاَّ الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} وَفِي
التَّفْسِير: لما قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الْمَدِينَة كَانَت تنوبه نَوَائِب وَحُقُوق وَلَيْسَ فِي
يَده سَعَة، فَقَالَ الْأَنْصَار: يَا رَسُول الله! قد
هدَانَا الله تَعَالَى على يَديك وتنوبك نَوَائِب وَحُقُوق
وَلَيْسَ فِي يدك سَعَة فنجمع لَك من أَمْوَالنَا
فَاسْتَعِنْ بِهِ على ذَلِك. فَنزلت هَذِه الْآيَة، قل:
يَا مُحَمَّد لَا أسئلكم على مَا أتيتكم بِهِ من
الْبَينَات وَالْهدى أجرا إلاَّ الْمَوَدَّة فِي
الْقُرْبَى إلاَّ أَن تودوا الله عز وَجل وتقربوا إِلَيْهِ
بِطَاعَتِهِ، قَالَه الْحسن الْبَصْرِيّ، رَضِي الله
عَنهُ، فَقَالَ هُوَ الْقُرْبَى إِلَى الله تَعَالَى،
وَعَن عِكْرِمَة وَمُجاهد وَالسُّديّ وَالضَّحَّاك
وَقَتَادَة: مَعْنَاهُ إلاَّ أَن تودوا قَرَابَتي وعترتي
وتحفظوني فيهم، وَاخْتلف فِي قرَابَته صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَقيل: عَليّ وَفَاطِمَة وابناهما، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، ولد عبد الْمطلب، وَقيل: هم الَّذين
تحرم عَلَيْهِم الصَّدَقَة وَيقسم عَلَيْهِم الْخمس وهم
بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب الَّذين لم يفترقوا فِي
الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام.
8184 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّار حدَّثنا مُحَمَّدُ
بنُ جَعْفَرٍ حدَّثنا عَنْ عَبْدِ المَلِكَ بنِ مَيْسَرَةَ
قَالَ سَمِعْتُ طَاوُسا عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله
عَنهُما أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إلاَّ المَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى} فَقَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى آلِ
مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَال ابنُ عَبَّاسٍ
عَجِلْتَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ
يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلاَّ كَانَ لَهُ فِيهمْ
قَرَابَةٌ فَقَالَ إلاَّ أنْ تصِلُوا مَا بَيْنِي
وَبَيْنَكُمْ مِنَ القَرَابَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث أخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن ابْن بشار بِهِ.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن
غنْدر بِهِ، وَحَاصِل كَلَام ابْن عَبَّاس أَن جَمِيع
قُرَيْش أقَارِب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَلَيْسَ المُرَاد من الْآيَة بَنو هَاشم وَنَحْوهم، كَمَا
يتَبَادَر الذِّهْن إِلَى قَول سعيد بن جُبَير، وَالله
أعلم.
( {سُورَةُ حم الزُّخْرُفِ} )
أَي: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة حم الزخرف، وَفِي بعض
النّسخ سُورَة الزخرف، وَفِي بَعْضهَا وَمن سُورَة حم
الزخرف. قَالَ مقَاتل: هِيَ مَكِّيَّة غير آيَة وَاحِدَة
وَهِي: {واسأل من أرسلنَا} (الزخرف: 54) الْآيَة. وَقَالَ
أَبُو الْعَبَّاس: مَكِّيَّة لَا اخْتِلَاف فِيهَا وَهِي
ثَلَاثَة آلَاف وَأَرْبَعمِائَة حرف، وَثَمَانمِائَة
وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ كلمة، وتسع وَثَمَانُونَ آيَة
وَقَالَ ابْن سَيّده: الزخرف الذَّهَب، هَذَا الأَصْل ثمَّ
سعى كل زِينَة زخرفا، وزخرف الْبَيْت زينته، وكل مَا زوق
وزين فقد زخرف.
{بِسم الله الرحمان الرَّحِيم}
عَلَى أُمَّةٍ عَلَى إمَامٍ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى {بل قَالُوا إِنَّا
وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون}
(الزخرف: 22) كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة أبي ذَر. وَقَالَ مُجَاهِد: فَذكره. فَقَالَ
بَعضهم: وَالْأول أولى. قلت: لَيْت شعري مَا وَجه
الْأَوْلَوِيَّة، وَفسّر الْأمة بِالْإِمَامِ، وَكَذَا
فسره أَبُو عُبَيْدَة، وروى عبد بن حميد من طَرِيق ابْن
أبي نجيح عَن مُجَاهِد على مِلَّة، وروى الطَّبَرِيّ من
طَرِيق عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، على أمة.
أَي: على دين، وَمن طَرِيق السّديّ مثله.
{وَقِيلَهُ يَا رَبِّ} تَفْسِيرُهُ أيَحْسَبُونَ أنَّا لَا
نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَلا نَسْمَعُ
قِبلَهُمْ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وقيله يَا رب إِن
هَؤُلَاءِ قوم لَا يُؤمنُونَ} (الزخرف: 88) وَفسّر؟ (قيله
يَا رب) بقوله: (أيحسبون) إِلَى آخِره، وَبَعْضهمْ أنكر
هَذَا التَّفْسِير. فَقَالَ: إِنَّمَا يَصح لَو كَانَت
التِّلَاوَة وقيلهم، وَإِنَّمَا الضَّمِير فِيهِ يرجع
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ
الثَّعْلَبِيّ: وقيله يَا رب، يَعْنِي: وَقَول مُحَمَّد،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شاكيا إِلَى ربه، وَقيل؛
مَعْنَاهُ وَعِنْده علم السَّاعَة وَعلم قيله، وَقَالَ
النَّسَفِيّ: قَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة، وقيله بِكَسْر
اللَّام على معنى: {وَعِنْده علم السَّاعَة} (الزخرف: 58)
وَعلم قيله. وَهَذَا الْعَطف غير قوي فِي الْمَعْنى مَعَ
وُقُوع
(19/157)
الْفَصْل بَين الْمَعْطُوف والمعطوف
عَلَيْهِ بِمَا لَا يحسن اعتراضا مَعَ تنافر النّظم،
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْح اللَّام وَالْأَوْجه أَن
يكون الْجَرّ وَالنّصب على إِضْمَار حرف الْقسم وحذفه،
وَيكون قَوْله: إِن هَؤُلَاءِ قوم، جَوَاب الْقسم
كَأَنَّهُ قيل: وَأقسم بقيله يَا رب إِن هَؤُلَاءِ قوم لَا
يُؤمنُونَ، وَالضَّمِير فِي قيله. للرسول، وأقسام الله
بقيله رفع مِنْهُ وتعظيم لرعايته والتجائه إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: {وَلَوْلا أنْ يَكُونَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً} لَوْلا أنّ جَعلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ
كُفَّارا لَجَعَلْتُ لِبُيُوتِ الكُفَّارِ سُقُفا مِنْ
فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ مِنْ فِضَّةٍ وَهِيَ دَرَجٌ: وَسُرُرَ
فِضَةٍ.
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلَا
أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن
لبيوتهم سقفا من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا يظهرون} وَقد فسر
ابْن عَبَّاس هَذِه الْآيَة بِمَا ذكره البُخَارِيّ بقوله:
لَوْلَا أَن جعل النَّاس إِلَى آخِره، وَهَذَا رَوَاهُ
ابْن جرير عَن أبي عَاصِم، حَدثنَا يحيى حَدثنَا وَرْقَاء
عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد عَنهُ، وَفِي التَّفْسِير:
لَوْلَا أَن يكون النَّاس مُجْتَمعين على الْكفْر فيصيروا
كلهم كفَّارًا. قَالَه أَكثر الْمُفَسّرين، وَعَن ابْن
زيد، يَعْنِي لَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة فِي
طلب الدُّنْيَا واختيارها على العقبى لجعلنا لمن يكفر
بالرحمن، لبيوتهم، بدل اشتماله من قَوْله: لمن يكفر،
وَيجوز أَن يَكُونَا بِمَنْزِلَة اللامين فِي قَوْلك: وهبت
لَهُ ثوبا لقميصه. قَوْله: (سقفا) ، قَرَأَ ابْن كثير
وَأَبُو عمر وبفتح السِّين على الْوَاحِد وَمَعْنَاهُ
الْجمع، وَالْبَاقُونَ بِضَم السِّين، وَالْقَاف على
الْجمع، وَقيل: هُوَ جمع سقوف جمع الْجمع. قَوْله:
(ومعارج) يَعْنِي: مصاعد ومراقي ودرجا وسلاليم، وَهُوَ جمع
معرج، وَاسم جمع لمعراج. قَوْله: (عَلَيْهَا يظهرون) أَي:
على المعارج يعلونها يَعْنِي: يعلون سطوحها.
مُقْرِنِينَ مِطِيقِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي
سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين} (الزخرف: 31)
وَفَسرهُ بقوله: (مطيقين) وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيّ
بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس وَفِي التَّفْسِير:
مُقرنين أَي: مطيقين ضابطين قاهرين، وَقيل: هُوَ من
الْقرن، كَأَنَّهُ أَرَادَ: وَمَا كُنَّا لَهُ مقاومين فِي
الْقُوَّة.
آسَفُونا أسْخَطُونا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا آسفونا
انتقمنا مِنْهُم فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} (الزخرف: 55)
وَفَسرهُ: (آسفونا) بقوله: (أسخطونا) كَذَا فسره ابْن
عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِيمَا رَوَاهُ
ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق عَليّ بن أبي طلة، عَنهُ وَقيل:
مَعْنَاهُ أغضبونا. وَقيل: خالفونا وَالْكل مُتَقَارب.
يَعْشُ يَعْمَى
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن يَعش عَن ذكر
الرَّحْمَن نقيض لَهُ شَيْطَانا فَهُوَ لَهُ قرين} وَفسّر:
(يَعش) بقوله: (يعمى) من عشا يعشو، وَهُوَ النّظر ببصر
ضَعِيف، وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِالضَّمِّ، وَقَرَأَ ابْن
عَبَّاس بِالْفَتْح أَي: يظلم عَنهُ ويضعف بَصَره، وَعَن
الْقرظِيّ: وَمن يول ظَهره، (وَذكر الرَّحْمَن) هُوَ
الْقُرْآن. قَوْله: (نقيض لَهُ) أَي: نضمه إِلَيْهِ ونسلطه
عَلَيْهِ، (فَهُوَ لَهُ قرين) فَلَا يُفَارِقهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذِّكْرَ}
(الزخرف: 5) أيْ تُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ ثُمَّ لَا
تُعَاقِبُونَ عَلَيْهِ.
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {أفنضرب عَنْكُم
الذّكر صفحا إِن كُنْتُم قوما مسرفين} وَفَسرهُ بقوله:
{أَي تكذبون بِالْقُرْآنِ ثمَّ لَا تعاقبون} ؟ يَعْنِي:
أفنعرض عَن المكذبين بِالْقُرْآنِ وَلَا تعاقبهم؟ وَقيل:
مَعْنَاهُ أفنضرب عَنْكُم الْعَذَاب ونمسك ونعرض عَنْكُم
ونترككم فَلَا نعاقبكم على كفركم، وَرُوِيَ هَذَا أَيْضا
عَن ابْن عَبَّاس، وَالسُّديّ، وَعَن الْكسَائي: أفنطوي
عَنْكُم الذّكر طيا فَلَا تدعون وَلَا توعظون؟ وَهَذَا من
فصيحات الْقُرْآن، وَالْعرب تَقول لمن أمسك على الشَّيْء
مَا أعرض عَنهُ صفحا والأصلح فِي ذَلِك أَنَّك إِذا
أَعرَضت عَنهُ وليته صفحة عُنُقك، وَضربت عَن كَذَا وأضربت
إِذا تركته، وَأَمْسَكت عَنهُ، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ،
وَقَالَ مُجَاهِد.
وَمَضَى مَثَلُ الأوَّلِينَ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله: {فأهلكنا أَشد مِنْهُم بطشا
وَمضى مثل الْأَوَّلين} وَفَسرهُ بقوله: (سنة الْأَوَّلين)
وَقيل: سنتهمْ وعقوبتهم.
{وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} يَعْنِي الإبِلَ
وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ
(19/158)
قد مر عَن قريب معنى، مُقرنين، وَالضَّمِير
فِي: لَهُ، يرجع إِلَى الْأَنْعَام الْمَذْكُورَة قبله،
وَإِنَّمَا ذكر الضَّمِير لِأَن الْأَنْعَام فِي معنى
الْجمع كالجند والجيش والرهط وَنَحْوهَا من أَسمَاء
الْجِنْس، قَالَه الْفراء، وَقيل: ردهَا إِلَى مَا.
يَنْشأُ فِي الحِلْيَةِ الجَوَارِي جَعَلْتُمُوهُنَّ
لِلرَّحْمانِ وَلَدا فَكَيْفَ تَحْكُمُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو من ينشأ فِي
الْحِلْية وَهُوَ فِي الْخِصَام غير مُبين} (الزخرف: 81)
قَوْله: (ينشأ) ، أَي يكبر وَيثبت فِي الْحِلْية أَي فِي
الزِّينَة، وَفَسرهُ بقوله: الْجَوَارِي يَعْنِي: جعلتم
الْإِنَاث ولد الله حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَة بَنَات
الله فَكيف تحكمون بذلك وَلما ترْضونَ بِهِ لأنفسكم؟
وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة. فِي
قَوْله: (أَو من ينشأ فِي الْحِلْية) ، قَالَ: الْبَنَات.
وَقِرَاءَة الْجُمْهُور: ينشاه، بِفَتْح أَوله مخففا،
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وَحَفْص بِضَم أَوله
مُثقلًا وَقَرَأَ الجحدري بِضَم أَوله مخففا.
{لَوْ شَاءَ الرَّحْمانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} يَعْنُونَ
الأوْثانَ يَقُولُ الله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ
مِنْ علْم} (الزخرف: 02) أيْ الأوْثانُ إنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَو شَاءَ
الرحمان مَا عبدناهم مَا لَهُم بذلك من علم إِن هم إِلَّا
يخرصون} ، قَوْله: (يعنون الْأَوْثَان) ، هُوَ قَول
مُجَاهِد، وَقَالَ قَتَادَة: يعنون الْمَلَائِكَة
وَالضَّمِير فِي: مَا عبدناهم، يرجع إِلَى الْأَوْثَان
عِنْد عَامَّة الْمُفَسّرين، وَنزلت منزلَة من يعقل فَذكر
الضَّمِير. قَوْله: (مَا لَهُم بذلك) ، أَي: فِيمَا
يَقُولُونَ: (إِن هم أَلا يخرصون) أَي: يكذبُون.
فِي عَقبِهِ: وَلَدِهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَجعلهَا كلمة
بَاقِيَة فِي عقبَة لَعَلَّهُم يرجعُونَ} (الزخرف: 82)
وَفسّر الْعقب بِالْوَلَدِ وَالْمرَاد بِهِ الْجِنْس
حَتَّى يدْخل ولد الْوَلَد، وَقَالَ ابْن فَارس: بل
الْوَرَثَة كلهم عقب، والكلمة الْبَاقِيَة. قَوْله: (لَا
إلاه إِلَّا الله) .
مُقْتَرِنِينَ يَمْسُونَ مَعا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَو جَاءَ مَعَه
الْمَلَائِكَة مقترنين} (الزخرف: 35) وَفسّر: (مُقرنين)
بقوله: (يَمْشُونَ مَعًا) أَي: يَمْشُونَ مُجْتَمعين مَعًا
ويمشون مُتَتَابعين يعاون بَعضهم بَعْضًا.
سَلَفا قَوْمُ فِرْعُونَ سَلَفا لِكُفَّارِ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمَثَلاً عِبْرَةً.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فجعلناهم سلفا
ومثلاً للآخرين} قَوْله: (جعلناهم) ، أَي: جعلنَا قوم
فِرْعَوْن سلفا لكفار هَذِه الْأمة، وَفِي التَّفْسِير:
سلفا: هم الماضون المتقدمون من الْأُمَم. قَوْله: (ومثلاً)
، أَي: عِبْرَة للآخرين أَي؛ لمن يَجِيء بعدهمْ، وقرىء
بِضَم السِّين وَاللَّام وفتحهما.
يَصِدُّونَ يَضِجُّونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {إِذا قَوْمك مِنْهُم
يصدون} (الزخرف: 75) وَفَسرهُ بقوله: {يضجون} بِالْجِيم
وبكسر الضَّاد، وَمن قَرَأَ بِالضَّمِّ فَالْمَعْنى:
يعرضون، وَقَالَ الْكسَائي: هما لُغَتَانِ بِمَعْنى،
وَأنكر بَعضهم الضَّم وَقَالَ: لَو كَانَ مضموما لَكَانَ
يُقَال: عَنهُ، وَلم يقل: مِنْهُ وَقيل: معنى، مِنْهُ، من
أَجله فَلَا إِنْكَار فِي الضَّم.
مُبْرِمُونَ مجْمعُونَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أم أبرموا أمرا
فَإنَّا مبرمون} (الزخرف: 97) وَفَسرهُ بقوله: (مجمعون)
وَقيل: محكمون، وَالْمعْنَى: أم أحكموا أمرا فِي الْمَكْر
برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإنَّا مبرمون
محكمون.
أوَّلُ العَابِدِينَ أوَّلُ المُؤْمِنِينَ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {قل إِن كَانَ للرحمان
ولد فَأَنا أول العابدين} (الزخرف: 18) وَفسّر العابدين
بِالْمُؤْمِنِينَ، وَوَصله الْفرْيَابِيّ عَن مُجَاهِد
بِلَفْظ: أول الْمُؤمنِينَ بِاللَّه فَقولُوا مَا شِئْتُم،
وَفِي التَّفْسِير: يَعْنِي: إِن كَانَ للرحمن ولد فِي
زعمكم وقولكم فَأَنا أول الْمُوَحِّدين الْمُؤمنِينَ
بِاللَّه فِي تكذيبكم والجاحدين مَا قُلْتُمْ من أَن لَهُ
ولدا، وَعَن ابْن عَبَّاس: يَعْنِي مَا كَانَ للرحمان ولد
وَأَنا أول الشَّاهِدين لَهُ بذلك.
وَقَالَ غَيْرُهُ: {إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}
(الزخرف: 62) العَرَبُ تَقُولُ نَحْنُ مِنْكَ البَرَاء
وَالخَلاءُ وَالوَاحِدُ وَالاثنانِ
(19/159)
وَالجَمْعُ مِنَ المُذَكَّرِ وَالمُؤَنَثِ
يُقالُ فِيهِ بَرَاءٌ لأنَّهُ مَصْدَرٌ وَلَوْ قَالَ
بَرِيءٌ لَقِيلَ فِي الاثْنَيْنِ بَرِيَآنِ وَفِي الجَمَعِ
بَرِيؤُنَ: وَقَرَأَ عَبْدُ الله إنَّنِي بَرِيءٌ
بِالْيَاءِ.
أَي: وَقَالَ غير مُجَاهِد لِأَن مَا قبله قَوْله
مُجَاهِد، وَلَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ، وَقَالَ غَيره:
قَوْله: (إِنَّنِي برَاء) ، وأوله: {وَإِذ قَالَ
إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ وَقَومه إِنَّنِي برَاء} (الزخرف:
62) يَعْنِي: وَاذْكُر يَا مُحَمَّد إِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيم إِلَى آخِره، وَهَذَا كُله ظَاهر. قَوْله:
(يُقَال فِيهِ برَاء) ، لِأَنَّهُ مصدر وضع مَوضِع
النَّعْت. يُقَال: بَرِئت مِنْك وَمن الدُّيُون والعيوب
بَرَاءَة، وبرئت من الْمَرَض برَاء بِالضَّمِّ، وَأهل
الْحجاز يَقُولُونَ: ابرأت من الْمَرَض برَاء بِالْفَتْح.
قَوْله: (وَفِي الْجمع: بريئون) ، وَيُقَال أَيْضا: بُرَآء
مثل فَقِيه وفقهاء، وبراء أَيْضا بِكَسْر الْبَاء مثل:
كريم وكرام، وأبراء مثل شرِيف وأشراف، وأبرياء مثل نصيب
وأنصباء، وَفِي الْمُؤَنَّث، يُقَال: امْرَأَة بريئة وهما
بريئتان وَهن بريئات وبرايا، وَهَذِه لُغَة أهل نجد،
وَالْأولَى لُغَة أهل الْحجاز. قَوْله: (وَقَرَأَ عبد
الله) ، أَي: ابْن مَسْعُود، ذكره الْفضل بن شَاذان فِي
كتاب (الْقرَاءَات) بِإِسْنَادِهِ عَن طَلْحَة بن مصرف عَن
يحيى بن وثاب عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله.
وَالزُّخْرُفُ الذَّهَبُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {ولبيوتهم أبوابا
وسررا عَلَيْهَا يتكؤون وزخرفا} (الزخرف: 43، 53) وَفَسرهُ
بِالذَّهَب، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ فِي أول الْبَاب.
مَلائِكَةٌ يَخْلُفونَ يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَو نشَاء لجعلنا
مِنْكُم مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون} وَفسّر (يخلفون)
بقوله: (يخلف بَعضهم بَعْضًا) وَأخرجه عبد الرَّزَّاق عَن
معمر عَن قَتَادَة، وَزَاد فِي آخِره مَكَان ابْن آدم.
1 - (بابٌ قَوْلِهِ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ
عَلَيْنَا رَبُّكَ} (الزخرف: 77) الآيَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {وَنَادَوْا} أَي:
الْكفَّار فِي النَّار ينادون لمَالِك خَازِن النَّار {ليق
علينا رَبك} أَي: ليمتنا فنستريح، فَيُجِيبهُمْ مَالك بعد
ألف سنة: إِنَّكُم مَاكِثُونَ فِي الْعَذَاب، وَفِي
تَفْسِير الْجَوْزِيّ: ينادون مَالِكًا أَرْبَعِينَ سنة
فَيُجِيبهُمْ بعْدهَا إِنَّكُم مَاكِثُونَ. ثمَّ ينادون رب
الْعِزَّة رَبنَا أخرجنَا مِنْهَا فَلَا يُجِيبهُمْ مثل
عمر الدُّنْيَا، ثمَّ يَقُول: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا
تكَلمُون.
9184 - حدَّثنا حَجَّاجُ بنُ مِنْهالٍ حدَّثنا سُفْيَانُ
بنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْروٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ
ابنِ يَعْلَى عَنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقْرَأُ عَلَى المِنْبَرَ: {وَنَادُوا يَا
مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَعَمْرو هُوَ ابْن
دِينَار، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح ويعلى بن أُميَّة
والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب بَدْء الدُّنْيَا فِي بَاب صفة
النَّار فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة بن سعيد
عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار إِلَى آخِره.
وَقَالَ قَتادَةُ مَثَلاً لِلآخِرِينَ عِظَةَ لِمَنْ
بَعْدَهُ
أَي: قَالَ قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {فجعلناهم سلفا
ومثلاً للآخرين} (الزخرف: 65) أَي: عظة لمن يَأْتِي
بعدهمْ، والعظة الموعظة أَصْلهَا وعظة، حذفت الْوَاو تبعا
للحذف فِي فعلهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُ مُقْرِنِينَ ضَابِطِينَ يُقالُ فُلانٌ
مُقْرِنٌ لِفُلانٍ ضَابِطٌ لَهُ
أَي: قَالَ غير قَتَادَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا
كُنَّا لَهُ مُقرنين} وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
وَالأكْوَابُ الأبَارِيقُ الَّتِي لَا خَرَاطِيمَ لَهَا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يُطَاف عَلَيْهِم
بصحاف من ذهب وأكواب} الْآيَة. وَهُوَ جمع كوبة. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: الكوب الْكوز بِلَا عُرْوَة.
(19/160)
{أَوَّلُ العَابِدِينَ} أيْ: مَا كَانَ
فَأنَا أوَّلُ الآنِفِينَ وَهُمَا لُغَتَانِ رَجُلٌ
عَابِدٌ وَعَبْدٌ، وَقَرَأَ عَبْدُ الله وَقَالَ
الرَّسُولُ يَا رَبِّ وَيُقَالُ أوَّلُ الْعابِدِينَ
الجَاحِدِينَ مِنْ عَبْدَ يَعْبَدُ
قد مر عَن قريب. قَوْله: {أول العابدين} أول الْمُؤمنِينَ،
وَمضى الْكَلَام فِيهِ، وَأعَاد هُنَا أَيْضا لأجل معنى
آخر على مَا لَا يخفى وَلكنه لَو ذكر كُله فِي مَوضِع
وَاحِد لَكَانَ أولى، وَفسّر هُنَا. أول العابدين، بقوله:
أَي مَا كَانَ فَأَنا أول الآنفين. فَقَوله: (أَي مَا
كَانَ) تَفْسِير قَوْله: {إِن كَانَ للرحمن ولد} وَكلمَة
أَن نَافِيَة أَي: مَا كَانَ لَهُ ولد قَوْله: (فَأَنا أول
الآنفين) تَفْسِير قَوْله: (أول العابدين) لِأَن العابدين
هُنَا مُشْتَقّ من عبد بِكَسْر الْبَاء إِذا أنف واشتدت
أنفته. قَوْله: (وهما لُغَتَانِ) ، يَعْنِي: عَابِد وَعبد،
فَالْأول بِمَعْنى الْمُؤمن، وَالثَّانِي بِمَعْنى الآنف،
وَعبد بِكَسْر كَذَا بِخَط الدمياطي، وَقَالَ ابْن
التِّين: ضبط بِفَتْحِهَا، وَقَالَ: وَكَذَا ضبط فِي كتاب
ابْن فَارس، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: العَبْد،
بِالتَّحْرِيكِ: الْغَضَب، وَعبد بِالْكَسْرِ إِذا أنف.
قَوْله: (من عبد يعبد) ، بِمَعْنى: جحد بِكَسْر الْبَاء
فِي الْمَاضِي وَفتحهَا فِي الْمُضَارع هَكَذَا هُوَ فِي
أَكثر النّسخ، ويروى بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالضَّم
فِي الْمُضَارع، وَجَاء الْكسر فِي الْمُضَارع أَيْضا
وَقَالَ ابْن التِّين، وَلم يذكر أهل اللُّغَة عبد
بِمَعْنى جحد، ورد عَلَيْهِ بِمَا ذكره مُحَمَّد بن عَزِيز
السجسْتانِي صَاحب (غَرِيب الْقُرْآن) أَن معنى العابدين
الآنفين الجاحدين، وَفسّر على هَذَا {إِن كَانَ لَهُ ولد
فَأَنا أول الجاحدين} وَهَذَا مَعْرُوف من قَول الْعَرَب
إِن كَانَ هَذَا الْأَمر قطّ يَعْنِي: مَا كَانَ، وَعَن
السّديّ: إِن بِمَعْنى: لَو أَي لَو كَانَ للرحمن ولد كنت
أول من عَبده بذلك، لَكِن لَا ولد لَهُ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدَة، إِن بِمَعْنى: مَا وَالْفَاء بِمَعْنى:
الْوَاو. أَي: مَا كَانَ للرحمن ولد وَأَنا أول العابدين.
قَوْله: (وَقَرَأَ عبد الله) ، يَعْنِي: ابْن مَسْعُود،
وَقَالَ الرَّسُول: يَا رب مَوضِع {وقيله يَا رب} (الزخرف:
88) وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر هَذَا عِنْد قَوْله:
(وقيله يَا رب) ، على مَا لَا يخفى.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي أُمِّ الكِتابِ: جُمْلَةِ الكِتابِ
أصْلِ الكِتابِ.
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ فِي أم
الْكتاب لدينا لعَلي حَكِيم} (الزخرف: 4) وَفسّر قَتَادَة
بقوله جملَة الْكتاب وَأَصله وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ أم
الْكتاب اللَّوْح الْمَحْفُوظ الَّذِي عِنْد الله تَعَالَى
مِنْهُ نسخ.
2 - (بابٌ: {أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذِّكْرَ صَفْحا إنْ
كُنْتُمْ قَوْما مُسْرِفِينَ} (الزخرف: 5) مُشْرِكِينَ
وَالله لَوْ أنَّ هَذا القُرْآنَ رُفِعَ حَيْثُ رَدَّهُ
أوَائِلُ هَذِهِ الأُمَّةِ لَهَلَكُوا)
مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب فِي قَوْله: {أفنضرب عَنْكُم
الذّكر} أَي: يكذبُون بِالْقُرْآنِ. قَوْله: (إِن كُنْتُم)
، يَعْنِي: بِأَن كُنْتُم على معنى الْمُضِيّ، وَقيل:
مَعْنَاهُ: إِذْ كُنْتُم. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين}
(الْبَقَرَة: 872) وَقَوله: إِن أردن تَحَصُّنًا. قَوْله:
(مسرفين) ، أَي: مُشْرِكين مجاوزين الْحَد وَأمر الله
تَعَالَى، وَقَالَ قَتَادَة: وَالله لَو كَانَ هَذَا
الْقُرْآن رفع حِين رده أَوَائِل هَذِه الْأمة لهلكوا
وَلَكِن الله عز وَجل عَاد بِعِبَادَتِهِ وَرَحمته فكرره
عَلَيْهِم ودعاهم إِلَيْهِ عشْرين سنة أَو مَا شَاءَ الله
من ذَلِك.
{فَأَهْلَكْنا أشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشا وَمَضَى مَثَلُ
الأوَّلِينَ} (الزخرف: 8) عُقُوبَةُ الأوَّلِينَ
كَذَا رُوِيَ عَن قَتَادَة، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن
معمر عَنهُ، وَفسّر: (مثل الْأَوَّلين) بقوله: (عُقُوبَة
الْأَوَّلين) .
جُزْءًا عِدْلاً
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله عز وَجل: {وَجعلُوا لَهُ من
عباده جُزْءا إِن الْإِنْسَان لكفور مُبين} (الزخرف: 51)
وَفسّر جُزْءا بقوله: (عدلا) بِكَسْر الْعين، وَكَذَا
رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة، وَفِي
التَّفْسِير: أَي: نَصِيبا وبعضا. وَذَلِكَ قَوْلهم:
الْمَلَائِكَة بَنَات الله تَعَالَى الله عَن ذَلِك.
قَوْله: (وَجعلُوا) ، أَي: الْمُشْركُونَ. قَوْله: (لَهُ)
، أَي: الله تَعَالَى.
44 - ( {سُورَةُ ح م الدُّخَانِ} )
: هَذَا فِي تَفْسِير بعض سُورَة ح م الدُّخان، وَفِي بعض
النّسخ: الدُّخان بِدُونِ لفظ: ح م، وَفِي أَكثر النّسخ
سُورَة ح م الدُّخان، قَالَ مقَاتل: مَكِّيَّة كلهَا.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: لَا خلاف فِي ذَلِك، وَهِي ألف
وَأَرْبَعمِائَة وَوَاحِد وثلاون حرفا وثلاثمائة وست
وَأَرْبَعُونَ كلمة وتسع وَخَمْسُونَ آيَة وروى
التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: من
قَرَأَ ح م الدُّخان فِي لَيْلَة أصبح يسْتَغْفر لَهُ
سَبْعُونَ
(19/161)
ألف ملك. وَقَالَ: غَرِيب، وَعنهُ: من
قَرَأَ الدُّخان فِي لَيْلَة الْجُمُعَة غفر لَهُ.
(بِسم الله الرحمان الرَّحِيم) .
لم تثبت الْبَسْمَلَة إلاَّ لأبي ذَر.
وَقَالَ مُجاهِدٌ رَهْوا طَرِيقا يَابِسا وَيُقالُ رهْوَاً
ساكِنا
أَي: قَالَ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {واترك الْبَحْر
رهوا إِنَّهُم جند مغرقون} (الدُّخان: 42) وَفسّر: (رهوا)
بقوله: (طَرِيقا يَابسا) وَعَن ابْن عَبَّاس: شعبًا.
وَعنهُ: هُوَ أَن يتْرك كَمَا كَانَ، وَعَن ربيع: سهلاً.
وَعَن الضَّحَّاك: دميا، وَيُقَال: طَرِيقا يَابسا، هُوَ
قَول أبي عُبَيْدَة.
عَلَى عِلْمِ عَلَى الْعَالَمِينَ عَلَى مَنْ بَيْنَ
ظَهْرَيْهِ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد اخترناهم
على علم على الْعَالمين} (الدُّخان: 23) وَفَسرهُ بقوله:
(على من بَين ظهريه) أَي: على أهل عصره، وَهُوَ أَيْضا
قَول مُجَاهِد. قَوْله: (وَلَقَد اخترناهم) ، يَعْنِي:
مُوسَى وَبني إِسْرَائِيل. قَوْله: (على الْعَالمين) ،
يَعْنِي: عالمي زمانهم.
فَاعْتُلُوهُ ادْفَعُوهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {خذوه فاعتلوه إِلَى
سَوَاء الْجَحِيم} (الدُّخان: 74) وَفسّر (فاعتلوه) بقوله:
(ادفعوه) وَفِي التَّفْسِير: سوقوه إِلَى النَّار يُقَال:
عتله يعتله عتلاً إِذا سَاقه بالعنف وَالدَّفْع والجذب،
وَالضَّمِير فِي: خذوه، يرجع إِلَى الأثيم. قَوْله: (إِلَى
سَوَاء الْجَحِيم) ، أَي: وسط الْجَحِيم.
وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عينٍ أنْكَحْنَاهُمْ حُورا عِينا
يَحَارُ فِيها الطَّرْفُ
هَذَا ظَاهر، وروى الْفرْيَابِيّ من طَرِيق مُجَاهِد
بِلَفْظ: أنكحناهم الْحور الْعين الَّتِي يحار فِيهَا
الطّرف، بَيَان مخ سوقهن من وَرَاء ثيابهن، وَيرى النَّاظر
وَجهه فِي كبد إِحْدَاهُنَّ كالمرآة من رقة الْجلد وصفاء
اللُّؤْلُؤ وَعَن مُجَاهِد: يرى النَّاظر وَجهه فِي كَعْب
إِحْدَاهُنَّ كالمرآة، وَفِي حرف ابْن مَسْعُود: بعس عين
وَهن الْبيض. وَمِنْه قيل لِلْإِبِلِ الْبيض عيس، بِكَسْر
الْعين، واحده بعير أعيس وناقة عيساه، والحور جمع أحور،
وَالْعين بِالْكَسْرِ جمع العيناء وَهِي الْعَظِيمَة
الْعَينَيْنِ.
تَرْجُمُونِ القَتْلُ
وَكَذَا قَالَه قَتَادَة، وَعَن ابْن عَبَّاس: ترجمون
تشتمون. وَيَقُولُونَ: سَاحر، وَوَقع عِنْد غير أبي ذَر،
وَيُقَال إِن ترجمون الْقَتْل.
وَرَهوَا سَاكِنا
هَذَا مُكَرر وَقد مضى عَن قريب، وَوَقع هَذَا أَيْضا لغير
أبي ذَر.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ كَالمُهْلِ أسُودُ كَمُهْلِ
الزَّيْتِ
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن
شَجَرَة الزقوم طَعَام الأثيم كَالْمهْلِ يغلي فِي
الْبُطُون} (الدُّخان: 34، 54) رَوَاهُ جُوَيْبِر فِي
تَفْسِيره عَن الضَّحَّاك عَنهُ، وَعَن الْأَزْهَرِي. من
الْمهل: الرصاص الْمُذَاب أَو الصفر أَو الْفضة، وكل مَا
أديب من هَذِه الْأَشْيَاء فَهُوَ مهل، وَقيل: الْمهل دردي
الزَّيْت، وَقيل: الْمهل الصديد الَّذِي يسيل من جُلُود
أهل النَّار، وَقَالَ اللَّيْث: الْمهل ضرب من القطران
إلاَّ أَنه رَقِيق يضْرب إِلَى الصُّفْرَة وَهُوَ دسم تدهن
بِهِ الْإِبِل فِي الشتَاء، وَقيل: السم، وَعَن
الْأَصْمَعِي بِفَتْح الْمِيم الصديد وَمَا يسيل من
الْمَيِّت، وَقيل: عكر الزَّيْت، والمهل أَيْضا كل شَيْء
يتحات عَن الخبزة من الرماد وَغَيره، وَقيل: الْمهل إِذا
ذهب الْجَمْر إلاّ بقايا مِنْهُ فِي الرماد تبينها إِذا
حركها والرماد حَار من أجل تِلْكَ الْبَقِيَّة، وَقيل:
هُوَ خشارة الزَّيْت، وَفِي (الْمُحكم) قيل: هُوَ خبث
الْجَوَاهِر، يَعْنِي الذَّهَب وَالْفِضَّة والرصاص
وَالْحَدِيد، وَفِي (تَفْسِير عبد عَن ابْن جُبَير) الْمهل
الَّذِي انْتهى حره.
وَقَالَ غَيْرُهُ التُّبَّعُ مُلُوكُ اليَمَنِ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى تُبَّعا لأنَّهُ يَتْبَعُ
صَاحِبَهُ وَالظِّلُّ يُسَمَّى تُبَّعا لأنَّهُ يَتْبَعُ
الشَّمْسَ
أَي: قَالَ غير ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى: {أهم
خير أم قوم تبع} (الدُّخان: 73) وَفسّر التبع بقوله:
(مُلُوك الْيمن) وَهَذَا كل من ملك الْيمن يُسمى تبعا
كَمَا أَن كل من ملك فَارِسًا يُسمى كسْرَى، وكل من ملك
الرّوم يُسمى قيصرا. وكل من ملك الْحَبَشَة يُسمى
النَّجَاشِيّ، وكل من ملك التّرْك يُسمى خاقَان.
(19/162)
1 - (بابٌ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأتِي
السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {فَارْتَقِبْ} أَي:
انْتظر يَا مُحَمَّد، كَمَا يَجِيء الْآن. قَوْله:
(بِدُخَان مُبين) ، ظَاهر.
قَالَ قَتَادَةُ فَارْتَقِبْ فَانْتَظِرْ
أَي: قَالَ قَتَادَة فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
فَارْتَقِبْ، فانتظر يَا مُحَمَّد، وَيُقَال ذَلِك فِي
الْمَكْرُوه، وَالْمعْنَى: انْتظر عَذَابهمْ، فَحذف مفعول
فَارْتَقِبْ لدلَالَة مَا ذكر بعده عَلَيْهِ وَهُوَ
قَوْله: {هَذَا عَذَاب أَلِيم} (الدُّخان: 11) وَقيل:
(يَوْم تَأتي السَّمَاء) مفعول فَارْتَقِبْ، يُقَال: رقبته
فارتقبته نَحْو نظرته فانتظرته.
0284 - حدَّثنا عَبْدَانُ عَنْ أبِي حَمْزَةَ عَنْ
الأعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الله
قَالَ مَضَى خَمْسٌ الدُّخانُ وَالرُّومُ وَالقَمَرُ
وَالبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: الدُّخان، وعبدان هُوَ
لقب عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي، وَأَبُو حَمْزَة
بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي: مُحَمَّد ابْن الميمون
السكرِي، وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان، وَمُسلم هُوَ ابْن صبيح
أَبُو الضُّحَى، ومسروق بن الأجدع، وَعبد الله بن
مَسْعُود.
والْحَدِيث قد مضى فِي تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان، وَذكر
فِيهِ خَمْسَة أَشْيَاء الدُّخان يَجِيء قبل قيام
السَّاعَة فَيدْخل فِي أسماع الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ
حَتَّى يكون كالرأس الحنيذ ويعتري الْمُؤمن مِنْهُ
كَهَيئَةِ الزُّكَام وَتَكون الأَرْض كلهَا كبيت أوقد
فِيهِ النَّار وَلم يَأْتِ بعد وَهُوَ آتٍ، وَالروم فِيمَا
قَالَ تَعَالَى: {ألم غلبت الرّوم} (الرّوم: 1) وَالْقَمَر
فِيمَا قَالَ تَعَالَى: {وَانْشَقَّ الْقَمَر} (الْقَمَر:
1) وَالْبَطْشَة فِيمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْم نبطش
البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) أَي: الْقَتْل يَوْم
بدر، وَاللزَام فِيمَا قَالَ تَعَالَى: {فَسَوف يكون
لزاما} (الْفرْقَان: 77) أَي: أسرى يَوْم بدر أَيْضا،
وَقيل: هُوَ الْقَتْل.
2 - (بابٌ: {يَغْشَى النَّاسَ هاذَا عَذَابٌ ألِيمٌ}
(الْفرْقَان: 11)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {يغشى النَّاس} ،
وَلَيْسَ فِي عَامَّة النّسخ لفظ بَاب. قَوْله: (يغشى
النَّاس) ، أَي: يُحِيط النَّاس يمْلَأ مَا بَين الْمشرق
وَالْمغْرب يمْكث أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَة أما
الْمُؤمن فَيُصِيبهُ مِنْهُ كَهَيئَةِ الزُّكَام، وَأما
الْكَافِر فَيصير كَالسَّكْرَانِ يخرج من مَنْخرَيْهِ
وَأُذُنَيْهِ وَدبره. قَوْله: (هَذَا عَذَاب أَلِيم) ،
أَي: يَقُول الله ذَلِك، وَقيل: يَقُوله النَّاس.
1284 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا أبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ
الأعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ
عَبْدِ الله إنَّمَا كَانَ هاذا لأنَّ قُرَيْشا لَمَّا
اسْتَعْصوْا عَلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا
عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنيْ يُوصُفَ فأصابَهُمْ قَحْطٌ
وَجَهْدٌ حَتَّى أكَلُوا العِظامَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ
يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَها
كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الجَهْدِ فأنْزَلَ الله
تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأتِي السَّمَاءُ
بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (الدُّخان: 51) فَلَمَّا أصَابَتْهُمْ
الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إلَى حَالِهِمْ حِينَ أصَابَتْهُمْ
الرَّفَاهِيَةُ فَأنْزَلَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ
نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنَّا مُنْتَقِمُونَ} قَالَ
يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: يغش النَّاس، وَيحيى
هُوَ ابْن مُوسَى الْبَلْخِي، وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد
بن خازم، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي وَالْأَعْمَش
سُلَيْمَان، وَمُسلم هُوَ ابْن صبيح أَبُو الضُّحَى،
ومسروق هُوَ ابْن الأجدع، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود،
وَقد ترْجم لهَذَا الحَدِيث ثَلَاث تراجم بعد هَذَا، وسَاق
الحَدِيث بِعَيْنِه مطولا ومختصرا. وَقد مضى أَيْضا فِي
الاسْتِسْقَاء وَفِي تَفْسِير الْفرْقَان
(19/163)
مُخْتَصرا، وَفِي تَفْسِير الرّوم وَفِي
تَفْسِير صَاد مطولا.
قَوْله: (إِنَّمَا كَانَ هَذَا) ، يَعْنِي: الْقَحْط
والجهد اللَّذين أصابا قُريْشًا حَتَّى رَأَوْا بَينهم
وَبَين السَّمَاء كالدخان. قَوْله: (لما استعصوا) ، أَي:
حِين أظهرُوا الْعِصْيَان وَلم يتْركُوا الشّرك. قَوْله:
(كَسِنِي يُوسُف) ، وَهِي الَّتِي أخبر الله تَعَالَى
عَنْهَا بقوله: {ثمَّ يَأْتِي من بعد ذَلِك سبع شَدَّاد}
(يُوسُف: 84) . قَوْله: (فَأَصَابَهُمْ) ، تَفْسِير لما
قبله، فَلذَلِك أَتَى بِالْفَاءِ. قَوْله: (جهد) ،
بِالْفَتْح وَهُوَ الْمَشَقَّة الشَّديد. قَوْله:
(فَأَنِّي) ، بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول،
والآتي هُوَ أَبُو سُفْيَان وَكَانَ كَبِير مُضر فِي ذَلِك
الْوَقْت. قَوْله: (قَالَ لمضر) أَي: لأبي سُفْيَان،
وَأطلق عَلَيْهِ مُضر لكَونه كَبِيرهمْ وَالْعرب تَقول قتل
قُرَيْش فلَانا يُرِيدُونَ بِهِ شخصا معينا مِنْهُم،
وَكَثِيرًا يضيفون الْأَمر إِلَى الْقَبِيلَة وَالْأَمر
فِي الْوَاقِع مُضَاف إِلَى وَاحِد مِنْهُم. قَوْله:
(إِنَّك لجريء) أَي: ذُو جرْأَة حَيْثُ تشرك بِاللَّه
وتطلب الرَّحْمَة مِنْهُ، وَإِذا كشف عَنْكُم الْعَذَاب
إِنَّكُم عائدون إِلَى شرككم والإصرار عَلَيْهِ، قَوْله:
(فسقوا) بِضَم السِّين وَالْقَاف على صِيغَة الْمَجْهُول.
قَوْله: (الرَّفَاهِيَة) ، يتخفيف الْفَاء وَكسر الْهَاء
وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ التَّوَسُّع
والراحة.
3 - (بابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنا اكْشِفْ عَنَّا
العَذَابَ إنَّا مُؤْمِنُونَ} (الدُّخان: 21)
قَالَ الله تَعَالَى حِكَايَة عَن الْمُشْركين لما
أَصَابَهُم قحط وَجهد (قَالُوا رَبنَا اكشف عَنَّا
الْعَذَاب) وَهُوَ الْقَحْط الَّذِي أكلُوا فِيهِ الميتات
والجلود. قَالُوا: {إِنَّا مُؤمنُونَ} قَالَ الله عز وَجل:
{إِنَّا كاشفو الْعَذَاب قَلِيلا إِنَّكُم عائدون}
(الدُّخان: 51) أَي: إِلَى كفرهم، فعادوا فانتقم الله
مِنْهُم يَوْم بدر.
2284 - حدَّثنا يَحْيَى حدَّثنا وَكِيعٌ عَنِ الأعْمَشِ
عَنْ أبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى
عَبْدِ الله فَقَالَ إنَّ مِنَ العِلْمِ أنْ تَقُولَ لِما
لَا تَعْلَمُ الله أعْلَمُ إنَّ الله قَالَ لِنَبِيِّهِ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
مِنْ أجْرٍ وَمَا أنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} (ص: 68)
إنَّ قُرَيْشا لَمَا غَلَبُوا النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ أعِنِّي
عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأخَذَتْهُمْ
سَنَةٌ أكَلُوا فِيهَا العِظامَ المَيِّتَةَ مِنَ الجَهْدِ
حَتَّى جَعَلَ أحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الجُوعِ، {قَالُوا
رَبَّنا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إنَّا مُؤْمُنُونَ}
فَقِيلَ لَهُ أنَّا إنْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَادُوا فَدَعا
رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَعَادُوا فَانْتَقَمَ الله
مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (الدُّخان:
61) إلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إنَّا مُنْتَقِمُونَ}
..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمَذْكُور،
وَيحيى شَيْخه هُوَ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث السَّابِق،
وَبَقِيَّة رِجَاله قد ذكرُوا عَن قريب.
قَوْله: (لما لَا تعلم) ، تَعْرِيض بِالرجلِ القاض الَّذِي
كَانَ يَقُول: يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة كَذَا، فَأنْكر
ابْن مَسْعُود ذَلِك، وَقَالَ: لَا تتكلفوا فِيمَا لَا
تعلمُونَ، وَبَين قصَّة الدُّخان، وَقَالَ: إِنَّه
كَهَيْئَته وَذَلِكَ قد كَانَ وَوَقع قلت: فِيهِ خلاف
فَإِنَّهُ روى عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَزيد بن عَليّ
وَالْحسن: إِنَّه دُخان يَجِيء قبل قيام السَّاعَة، وَالله
أعلم. قَوْله: (لما غلبوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) وَيرى: (لما غلبوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) ، وَالْمرَاد من هَذِه الْغَلَبَة خُرُوجهمْ عَن
الطَّاعَة وتماديهم فِي الْكفْر. وَقَوله: (واستعصوا)
يُوضح ذَلِك. قَوْله: (سنة) بِفَتْح السِّين. قَوْله:
(وَالْميتَة) بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف، وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقيل:
بِكَسْر النُّون مَوضِع الْيَاء الَّتِي فِي الْميتَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وهمزة، وَهُوَ: الْجلد أول
مَا يدبغ قَوْله: (من الْجهد) بِضَم الْجِيم وَفتحهَا
لُغَتَانِ، وَقيل: بِالضَّمِّ الْجُوع، وبالفتح
الْمَشَقَّة.
4 - (بَابٌ: {أنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ
رَسُولٌ مُبِينٌ} (الدُّخان: 31)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله عز وَجل: {أَنى لَهُم الذكرى}
، وَفِي بعض النّسخ لَيْسَ فِيهِ لفظ بَاب قَوْله: {أَنى
لَهُم الذكرى} أَي: من أَيْن لَهُم
(19/164)
الذكرى والاتعاظ بعد نزُول الْبلَاء وحلول
الْعَذَاب، قَوْله: {رَسُول مُبين} مُحَمَّد صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم.
الذِّكْرُ وَالذِّكْرَى وَاحِدٌ
أَي: فِي الْمَعْنى والمصدرية. قَالَ الْجَوْهَرِي: الذّكر
والذكرى بِالْكَسْرِ نقيض النسْيَان وَكَذَلِكَ الذكرة.
3284 - حدَّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ حدَّثنا جَرِيرُ
بنُ حَازِمٍ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي الضُّحَى عَنْ
مَسْرُوق قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ الله ثُمَّ قَالَ
إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَا دَعَا
قُرَيْشا كَذَّبُوهُ وَاسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ
اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ فَأصَابَتْهُمْ
سنَةٌ حصَّتْ يَعْنِي كلَّ شَيْءٍ حَتَّى كَانُوا
يَأْكُلُونَ المَيْتَةَ فَكَانَ يَقُومُ أحَدُهُمْ فَكَانَ
يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ مِثْلَ الدُّخَانِ
مِنَ الجَهْدِ وَالجُوعِ ثُمَّ قَرَأَ: {فَارْتَقِبْ
يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى
النَّاسَ هاذا عَذَابٌ ألِيمٌ} حَتَّى بَلَغَ: {إنَّا
كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إنَّكُمْ عَائِدُونَ}
(الرحمان: 1، 11) حَتَّى بَلَغَ: {إنَّا كَاشِفُوا
العَذَابِ قَلِيلاً إنَّكُمْ عَائِدُونَ} قَالَ عَبْدُ
الله أفَيُكْشَفُ عَنْهُمُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ
قَالَ وَالبَطْشَةُ الكُبْرَى يَوْمَ بَدْرٍ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عبد الله الْمَذْكُور، وَمضى
الْكَلَام فِيهِ. قَوْله: (حصت) ، بالمهملتين أَي: أذهبت،
وَسنة حصَّاء أَي: جرداء لَا خير فِيهَا. قَوْله:
(وَالْبَطْشَة الْكُبْرَى) تَفْسِير قَوْله تَعَالَى:
{يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى} (الدُّخان: 61) .
5 - (بابٌ: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ
مَجْنُونٌ} (الدُّخان: 41)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ توَلّوا
عَنهُ} أَي: أَعرضُوا عَن الرَّسُول فَلم يقبلوه
{وَقَالُوا: معلم مَجْنُون} بادعائه النُّبُوَّة.
4284 - حدَّثنا بِشْرُ بنُ خَالِدٍ أخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ
عَنْ شَعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ عَنْ أبِي
الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ الله إنَّ
الله بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ:
{قُلْ مَا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ وَمَا أنَا
مِنَ المُتَكَلِّفِينَ} (ص: 68) فإنَّ رَسُولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا رأى قُرَيْشا اسْتَعْصَوْا
عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَيْهِمْ سَبْعٍ
كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأخَذَتْهُمُ السَّنةُ حَتَّى حَصَّتْ
كلَّ شَيْءٍ حَتَّى أكَلُوا العِظَامَ وَالْجُلُودَ فَقَال
أحَدُهُمْ حَتَّى أكَلُوا الجُلُودَ وَالمَيْتَةَ وَجَعَلَ
يَخْرُجُ مِنَ الأرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ فَأتاهُ أبُو
سُفْيَانَ فَقَالَ: أيْ مُحَمدُ: إنَّ قَوْمَكَ قَدْ
هَلَكُوا فَادْعُ الله أنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ فَدَعَا
ثُمَّ قَالَ تَعُودُوا بَعْدَ هاذَا فِي حَدِيثِ مَنْصُورٍ
ثُمَّ قَرَأَ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأتِي السَّمَاءُ
بِدُخَانٍ مُبِينٍ} إلَى {عَائِذُونَ} أيُكْشَفُ عَذَابُ
الآخِرَةِ فَقَدْ مَضَى الدُّخَانُ وَالبَطْشَةُ
وَاللِّزَامُ: وَقَال أحَدُهُمُ القَمَرُ وَقَالَ الآخَرُ
الرُّومُ..
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور أخرجه عَن بشر،
بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة
ابْن خَالِد بن مُحَمَّد العسكري عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر
وَهُوَ غنْدر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش،
وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر كِلَاهُمَا عَن أبي الضُّحَى
مُسلم عَن مَسْرُوق عَن عبد الله بن مَسْعُود.
قَوْله: (وَجعل يخرج من الأَرْض) ، فَاعل جعل مَحْذُوف
تَقْدِيره جعل شَيْء يخرج من الأَرْض فَإِن قلت: بَينه
وَبَين قَوْله: فَكَانَ يرى بَينه وَبَين السَّمَاء مثل
الدُّخان تدافع ظَاهر. قلت: لَا تدافع إِذْ لَا مَحْذُور
أَن يكون مبدأه الأَرْض ومنتهاه ذَلِك. فَإِن قلت: لفظ
يخرج يدل على أَن ثمَّة كَانَ أمرا متخيلاً لَهُم لشدَّة
حرارة الْجُوع. قلت: يحْتَمل أَن يكون ثمَّة خَارج من
الدُّخان حَقِيقَة وَأَنَّهُمْ كَانُوا يرَوْنَ بَينهم
وَبَين السَّمَاء مثله لفرط حرارتهم من المجاعة، أَو كَانَ
يخرج من الأَرْض على حسبانهم التخيل من غشاوة أَبْصَارهم
من فرط الْجُوع. قَوْله: (أَي مُحَمَّد) ، يَعْنِي: يَا
مُحَمَّد. قَوْله: (إِن قَوْمك) ، وَفِي الرِّوَايَة
الْمَاضِيَة
(19/165)
استسق الله لمضر فَإِنَّهَا قد هَلَكت، وَلَا مُنَافَاة
بَينهمَا لِأَن مُضر أَيْضا قومه. قَوْله: (فِي حَدِيث
مَنْصُور) هُوَ مَنْصُور الرَّاوِي عَن أبي الضُّحَى، وَلم
يذكر هَذَا فِي حَدِيث سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن أبي
الضُّحَى. قَوْله: (وَقَالَ أحدهم) كَانَ الْقيَاس أَن
يُقَال: أَحدهمَا إِذا المُرَاد سُلَيْمَان وَمَنْصُور،
لَكِن هَذَا على مَذْهَب من قَالَ: أقل الْجمع اثْنَان،
هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي وَتَبعهُ بَعضهم. قلت:
يحْتَمل أَن يكون مَعَهُمَا فِي ذَلِك الْوَقْت ثَالِث
فَجمع بِاعْتِبَار الثَّلَاثَة. قَوْله: (الْقَمَر)
يَعْنِي: انْشِقَاق الْقَمَر. قَوْله: (وَالْآخر الرّوم)
يَعْنِي: غَلَبَة الرّوم. ( |