عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 6 - (بابٌ إذَا قَالَ: فَارَقْتُكِ أوْ
سَرَّحْتُكِ أوِ: الخَلِيَّةُ أوِ البَرِيَّةُ أوْ مَا
عُنِيَ بهِ الطَّلاَقُ فَهُوَ علَى نِيَّتِهِ.)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مَا إِذا قَالَ الرجل
لامْرَأَته: فارقتك أَو سرحتك أَو أَنْت خلية أَو بَريَّة،
فَالْحكم فِي هَذِه الْأَلْفَاظ يعْتَبر بنيته وَهُوَ معنى
قَوْله: (فَهُوَ على نِيَّته) لِأَن هَذِه كنايات عَن
الطَّلَاق، فَإِن نوى الطَّلَاق وَقع وإلاَّ فَلَا يَقع
شَيْء، وَإِنَّمَا كَانَت الْكِنَايَة للطَّلَاق وَلم تكن
للنِّكَاح لِأَن النِّكَاح لَا يَصح إلاَّ بِالْإِشْهَادِ.
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: لَا صَرِيح إلاَّ لفظ
الطَّلَاق وَمَا يتَصَرَّف مِنْهُ، وَنَصّ فِي الْجَدِيد
على أَن الصَّرِيح لفظ الطَّلَاق. والفراق والسراح لوُرُود
ذَلِك فِي الْقُرْآن، وَقدر حج الطَّبَرِيّ والمحاملي
وَغَيرهمَا قَوْله الْقَدِيم، وَاخْتَارَهُ القَاضِي عبد
الْوَهَّاب من الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ أَبُو يُوسُف فِي
قَوْله: فارقتك أَو خلعتك أَو خليت سَبِيلك، أَو لَا ملك
لي عَلَيْك إِنَّه ثَلَاث، وَاخْتلفُوا فِي الخلية
والبرية، فَعَن عَليّ: أَنه ثَلَاث. وَبِه قَالَ الْحسن
الْبَصْرِيّ، وَعَن ابْن عمر: ثَلَاث فِي الْمَدْخُول
بهَا، وَبِه قَالَ مَالك ويدين فِي الَّتِي لم يدْخل بهَا
بتطليقة وَاحِدَة أَرَادَ أم ثَلَاثًا، وَقَالَ الثَّوْريّ
وَأَبُو حنيفَة تعْتَبر نِيَّته فِي ذَلِك، فَإِن نوى
ثَلَاثًا فَثَلَاث، وَإِن نوى وَاحِدَة فَوَاحِدَة
بَائِنَة، وَهِي أَحَق بِنَفسِهَا وَإِن نوى ثِنْتَيْنِ
فَهِيَ وَاحِدَة، وَفِي (التَّلْوِيح) . وَقَالَ
الشَّافِعِي: هُوَ فِي ذَلِك كُله غير مُطلق حَتَّى
يَقُول، أردْت بمخرج الْكَلَام مني طَلَاقا فَيكون مَا
نَوَاه، فَإِن نوى دون الثَّلَاث كَانَ جَمِيعًا، وَلَو
طَلقهَا وَاحِدَة بَائِنَة كَانَت رَجْعِيَّة. وَقَالَ
إِسْحَاق: هُوَ إِلَى نِيَّته يدين، وَقَالَ أَبُو ثَوْر:
هِيَ تَطْلِيقَة رَجْعِيَّة وَلَا يسْأَل عَن نِيَّته فِي
ذَلِك، وَحكى الدَّارمِيّ عَن ابْن خيران أَن من لم يعرف
إلاَّ الطَّلَاق فَهُوَ صَرِيح فِي حَقه فَقَط، وَنَحْوه
للروياني فَإِنَّهُ لَو قَالَ: اغربي فارقتك، وَلم يعرف
أَنَّهَا صَرِيحَة لَا يكون صَرِيحًا فِي حَقه،
وَاتَّفَقُوا عل أَن لفظ الطَّلَاق وَمَا يتَصَرَّف مِنْهُ
صَرِيح، لَكِن أخرج أَبُو عبيد فِي (غَرِيب الحَدِيث) من
طَرِيق عبيد الله بن شهَاب الْخَولَانِيّ عَن عمر رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه رفع إِلَيْهِ رجل قَالَت لَهُ
امْرَأَته يشبهني. فَقَالَ: كَأَنَّك ظَبْيَة. قَالَت: لَا
قَالَ: كَأَنَّك حمامة. قَالَت: لَا أرْضى حَتَّى تَقول:
أَنْت خلية طَالِق، فَقَالَ لَهُ عمر: خُذ بِيَدِهَا
فَهِيَ امْرَأَتك. قَالَ أَبُو عبيد قَوْله خلية طَالِق
أَي: نَاقَة كَانَت معقولة ثمَّ أطلقت من عقالها، وخلى
عَنْهَا فسميت خلية لِأَنَّهَا خليت عَن العقال، وَطَالِق
لِأَنَّهَا أطلقت مِنْهُ فَأَرَادَ الرجل أَنَّهَا تشبه
النَّاقة وَلم يقْصد الطَّلَاق بِمَعْنى الْفِرَاق أصلا،
فأسقط عمر عَنهُ الطَّلَاق، وَقَالَ أَبُو عبيد: وَهَذَا
أصل لكل من تكلم بِشَيْء من أَلْفَاظ الطَّلَاق، وَلم يرد
الْفِرَاق بل أَرَادَ غَيره فَالْقَوْل قَوْله فِيهِ
فِيمَا بَينه وَبَين االله تَعَالَى. وَفِي (الْمُحِيط) :
لَو قَالَ: أَنْت طَالِق، وَقَالَ: عنيت بِهِ عَن الوثاق
لَا يصدق قَضَاء وَيصدق ديانَة، وَلَو قَالَ: أَنْت طَالِق
من وثاق لم يَقع شَيْء فِي الْقَضَاء، وَلَو قَالَ: أردْت
أَنَّهَا طَالِق من الْعَمَل لم يدين فِيمَا بَينه وَبَين
الله تَعَالَى،
(20/238)
وَعَن أبي حنيفَة رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَنه يدين، لَو قَالَ: أَنْت طَالِق من هَذَا
الْعَمَل وقف فِي الْقَضَاء وَلَا يَقع فِيمَا بَينه
وَبَين الله تَعَالَى، وَلَو قَالَ؛ أَنْت طَالِق من هَذَا
الْقَيْد لم تطلق.
وَقَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ: { (33) وسرحوهن سراحا جميلا}
(الْأَحْزَاب: 94) وَقَالَ: { (33) وأسرحكن سراحا جميلا}
(الْأَحْزَاب: 82) وَقَالَ: { (2) فإمساك بِمَعْرُوف أَو
تَسْرِيح بِإِحْسَان} (الْبَقَرَة: 922) وَقَالَ: { (65)
أَو فارقوهن بِمَعْرُوف} (الطَّلَاق: 2) [/ ح.
لما ذكر فِي التَّرْجَمَة لفظ الْمُفَارقَة والتسريح ذكر
بعض هَذِه الْآيَات الَّتِي فِيهَا ذكر الله تَعَالَى
هذَيْن اللَّفْظَيْنِ مِنْهَا. قَوْله تَعَالَى: {وسرحوهن
سراحا جميلاً} وأوله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا
نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن من قبل أَن
تمَسُّوهُنَّ} أَي: من قبل أَن تجامعوهن {فَمَا لكم
عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها فمتعوهن} أَي: أعطوهن مَا
يستمتعن بِهِ. وَقَالَ قَتَادَة: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة
بقوله تَعَالَى: {فَنصف مَا فرضتم} (الْبَقَرَة: 732) قيل:
هُوَ أَمر ندب، والمتعة مُسْتَحبَّة وَنصف الْمهْر. وأجب:
وسرحوهن أَي: أرسلوهن وخلوا سبيلهن، وَقيل: أخرجوهن من
مَنَازِلكُمْ إِذْ لَيْسَ لكم عَلَيْهِنَّ عدَّة. وَكَانَ
البُخَارِيّ: أورد هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن لفظ التسريح
هُنَا بِمَعْنى الْإِرْسَال لَا بِمَعْنى الطَّلَاق، وَفِي
(تَفْسِير النَّسَفِيّ) : وَقيل: طلقوهن للسّنة، وَفِيه
نظر، لِأَنَّهُ ذكر قبله {ثمَّ طلقوهن من قبل أَن
تمَسُّوهُنَّ} يَعْنِي: قبل الدُّخُول، وَلم يبْق مَحل
للطَّلَاق بعد التَّطْلِيق قَوْله: (سراحا) نصب على
المصدرية بِمَعْنى: تسريحا. قَوْله: (جميلاً) يَعْنِي:
بِالْمَعْرُوفِ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وأسرحكن
سراحا جميلاً} وأوله قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا
النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك إِن كنتن تردن الْحَيَاة
الدُّنْيَا وَزينتهَا فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا
جميلاً} وَقَالَ بَعضهم: التسريح فِي هَذِه الْآيَة
يحْتَمل التَّطْلِيق والإرسال، فَإِذا كَانَ صَالحا
للأمرين انْتَفَى أَن يكون صَرِيحًا فِي الطَّلَاق. قلت:
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معنى قَوْله: أسرحكن، أطلقكن،
وَهَذَا ظَاهر لِأَنَّهُ لم يسْبق هُنَا طَلَاق، فَمن
أَيْن يَأْتِي الِاحْتِمَال وَلَيْسَ المُرَاد إلاَّ
التَّطْلِيق؟ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فإمساك
بِمَعْرُوف} وَقَبله قَوْله تَعَالَى: {الطَّلَاق
مَرَّتَانِ فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان}
فَالْمُرَاد بالتسريح هُنَا الطَّلقَة الثَّالِثَة.
وَالْمعْنَى: الطَّلَاق مرّة بعد مرّة يَعْنِي ثِنْتَيْنِ،
وَكَانَ الرجل إِذا طلق امْرَأَته فَهُوَ أَحَق برجعتها
وَإِن طَلقهَا ثَلَاثًا فنسخ ذَلِك فَقَالَ الله تَعَالَى
{الطَّلَاق مَرَّتَانِ} الْآيَة، وَعَن ابْن عَبَّاس،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: إِذا طلق الرجل امْرَأَته
تَطْلِيقَتَيْنِ فليتق الله فِي الثَّالِثَة فَلهُ أَن
يمْسِكهَا بِمَعْرُوف فَيحسن صحبتهَا أَو يسرحها
بِإِحْسَان فَلَا يظلهما من حَقّهَا شَيْئا، وَقد ذكرنَا
عَن قريب: أَن أَبَا رزين قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله
أَرَأَيْت قَول الله عز وَجل: {فإمساك بِمَعْرُوف أَو
تَسْرِيح بِإِحْسَان} أَيْن الثَّالِثَة؟ قَالَ: التسريح
بِالْإِحْسَانِ، وَمِنْهَا قَوْله عز وَجل: {أَو فارقوهن
بِمَعْرُوف} .
وقالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أنَّ أبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يأمْرَانِي بِفِرَاقِهِ
هَذَا التَّعْلِيق طرف من حَدِيث التَّخْيِير الَّذِي فِي
أَوَائِل تَفْسِير سُورَة الْأَحْزَاب، وَمر الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ.
7 - (بابُ مَنْ قَالَ لامْرَأتِهِ: أنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من قَالَ لامْرَأَته:
أَنْت عليَّ حرَام. وَلم يذكر جَوَاب من الَّذِي هُوَ حكم
هَذَا الْكَلَام اكْتِفَاء بِمَا ذكره فِي الْبَاب.
وَقَالَ الحَسَنُ: نِيَّتُهُ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِذا قَالَ لامْرَأَته:
أَنْت عَليّ حرَام، الِاعْتِبَار فِيهِ نِيَّته، وَوصل عبد
الرَّزَّاق هَذَا التَّعْلِيق عَن معمر عَنهُ، قَالَ: إِذا
نوى طَلَاقا فَهُوَ طَلَاق وإلاَّ فَهُوَ يَمِين انْتهى.
وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَابْن عمر، وَبِه قَالَ
النَّخعِيّ وطاووس. وَفِي (التَّوْضِيح) : فِي هَذِه
الصُّورَة أَرْبَعَة عشر مذهبا. قلت: ذكر الْقُرْطُبِيّ
ثَمَانِيَة عشر قولا. قيل: وَزَاد غَيره عَلَيْهَا، وَذكر
ابْن بطال مِنْهَا ثَمَانِيَة أَقْوَال. فَقَالَت
طَائِفَة: هِيَ ثَلَاث، وَلَا يسْأَل عَن نِيَّته، روى
ذَلِك عَن عَليّ وَزيد بن ثَابت وَابْن عمر، وَبِه قَالَ
الْحسن الْبَصْرِيّ فِي رِوَايَة الحكم بن عتيبة وَابْن
أبي ليلى وَمَالك، وروى عَنهُ وَعَن أَكثر أَصْحَابه أَن
قَالَ ذَلِك لامْرَأَته قبل الدُّخُول فَثَلَاث، إلاَّ أَن
يَقُول: نَوَيْت وَاحِدَة. وَقَالَ عبد الْعَزِيز بن أبي
سَلمَة هِيَ وَاحِدَة إلاَّ أَن يَقُول أردْت ثَلَاثًا
فَثَلَاث، وَإِن نوى وَاحِدَة فَوَاحِدَة
(20/239)
بَائِنَة وَإِن نوى يَمِينا فَهُوَ يَمِين
يكفرهَا وَإِن لم ينْو فرقة وَلَا يَمِينا فَهِيَ كذبة،
وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، غير أَنهم قَالُوا:
إِن نوى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَة، وَإِن لم ينْو
طَلَاقا فَهِيَ يَمِين وَهُوَ قَول. وَقَالَ ابْن
مَسْعُود: إِن نوى طَلَاقا فَهِيَ تطليقه وَهُوَ أملك بهَا
وَإِن لم ينْو طَلَاقا فَهِيَ يَمِين يكفرهَا. وَعَن ابْن
عمر مثله. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَيْسَ قَوْله: (أَنْت
حرَام) بِطَلَاق حَتَّى ينويه فَإِن أَرَادَ الطَّلَاق
فَهُوَ مَا أَرَادَ من الطَّلَاق، وَإِن قَالَ: أردْت
تجريما لَا طَلَاق كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين
وَلَيْسَ بقول، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يلْزمه كَفَّارَة
ظِهَار، وَهُوَ قَول أبي قلَابَة وَسَعِيد بن جُبَير
وَأحمد، وَقيل: إِنَّهَا يَمِين فيكفر، وروى عَن الصّديق
وَعمر وَابْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَسَعِيد بن الْمسيب
وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي ثَوْر، وَقيل: لَا شَيْء
فِيهِ وَلَا كَفَّارَة كتحريم المَاء، وَرُوِيَ عَن
الشّعبِيّ ومسروق وَأبي سَلمَة، وَقَالَ أَبُو سَلمَة: مَا
أَدْرِي حرمتهَا أوحرمت الْقُرْآن، وَهُوَ شذوذ.
وَقَالَ أهْلُ العِلْمِ: إذَا طَلَّقَ ثَلاَثا فَقدْ
حَرُمَتْ عَليْهِ، فَسَمَّوْهُ حَرَاما بالطَّلاَقِ
والفِرَاق، ولَيْسَ هاذَا كالَّذِي يُحَرِّمُ الطعامَ
لأنهُ لَا يُقالُ لِطَعامِ الحِلِّ: حرَامٌ، ويُقالُ
لِلْمُطَلَّقَةِ: حَرَامٌ. وَقَالَ فِي الطَّلاَقِ
ثَلاَثا: لَا تَحِلُّ لهُ حتَّى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ.
لما وضع التَّرْجَمَة بقوله: من قَالَ لامْرَأَته أَنْت
عَليّ حرَام وَلم يذكر الْجَواب فِيهَا أَشَارَ بقوله:
(وَقَالَ أهل الْعلم) الخ. إِلَى أَن تَحْرِيم الْحَلَال
لَيْسَ على إِطْلَاقه، فَإِن من طلق امْرَأَته ثَلَاثًا
تحرم عَلَيْهِ، وَهُوَ معنى قَوْله: (فقد حرمت عَلَيْهِ)
فَسَموهُ أَي: فَسَماهُ الْعلمَاء حَرَامًا بِالطَّلَاق،
أَي: بقول الرجل: طلقت امْرَأَتي ثَلَاثًا. قَوْله:
(والفراق) أَي وَبِقَوْلِهِ: فارقتك، وَمن حرم عَلَيْهِ
أكل الطَّعَام لَا يحرم عَلَيْهِ وَهُوَ معنى قَوْله:
(وَلَيْسَ هَذَا) أَي: الحكم الْمَذْكُور فِي الطَّلَاق
ثَلَاثًا كَالَّذي يحرم الطَّعَام أَي كَحكم الَّذِي
يَقُول: هَذَا الطَّعَام على حرَام لَا آكله فَإِنَّهُ لَا
يحرم، وَأَشَارَ إِلَى الْفرق بَينهمَا بقوله: لَا يُقَال
لطعام الْحل أَي الْحَلَال حرَام، وَيُقَال للمطلقة
ثَلَاثًا حرَام. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:
{فَإِن طَلقهَا} أَي: الثَّالِثَة {فَلَا تحل لَهُ حَتَّى
تنْكح زوجا غَيره} (الْبَقَرَة: 032) وَقَالَ الْمُهلب: من
نعم الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة، فِيمَا خفف عَنْهُم،
أَن من قبلهم كَانُوا إِذا حرمُوا على أنفسهم شَيْئا حرم
عَلَيْهِم، كَمَا وَقع ليعقوب، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَخفف الله ذَلِك عَن هَذِه الْأمة ونهاهم
عَن أَن يحرموا على أنفسهم شَيْئا مِمَّا أحل لَهُم،
فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا
طَيّبَات مَا أحل الله لكم} (الْمَائِدَة: 78) انْتهى.
وَحَاصِل الْكَلَام أَن بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ فرقا،
وَأَن تَحْرِيم الْمُبَاح يَمِين، وَأَن فِيهِ ردا على من
لم يفرق بَين قَوْله لامْرَأَته: أَنْت عَليّ حرَام،
وَبَين قَوْله: هَذَا الطَّعَام عَليّ حرَام، حَيْثُ لَا
يلْزمه شَيْء فيهمَا، كَمَا ذكرنَا عَن قريب من قَالَ
ذَلِك، وَذكرنَا أَقْوَال الْعلمَاء فِيهِ.
4625 - حدّثنا وَقَالَ اللَّيْثُ عنْ نافِعٍ: كانَ ابنُ
عُمَرَ إذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلاَثا، قَالَ: لوْ
طَلَّقْتَ مَرَّةً أوْ مَرَّتَيْنِ فَإِن النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أمَرَنِي بهاذَا، فإنْ طَلَّقَها ثَلاَثا
حَرُمَتْ حتَّى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَكَ.
لَا مُنَاسبَة بَينهمَا. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) :
وَكَأن البُخَارِيّ أَرَادَ بإيراد هَذَا أَن فِيهِ
لَفْظَة: حرمت عَلَيْك، وإلاَّ فَلَا مُنَاسبَة بَينهمَا
فِي الْبَاب (قلت) هَذَا أقرب إِلَيْهِ، وَصَاحب
(التَّلْوِيح) أبعد.
قَوْله: (عَن نَافِع) ويروى: حَدثنِي نَافِع (كَانَ عبد
الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِذا سُئِلَ
عَمَّن طلق امْرَأَته ثَلَاثًا) أَي ثَلَاث تَطْلِيقَات،
قَالَ: لَو طلقت مرّة أَي طَلْقَة وَاحِدَة أَو مرَّتَيْنِ
أَي: طَلْقَتَيْنِ قَالَ الْكرْمَانِي: وَجَوَاب لَو،
يَعْنِي جَزَاؤُهُ مَحْذُوف، وَهُوَ لَكَانَ خيرا، أَو
هُوَ حرف لَو لِلتَّمَنِّي فَلَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب،
وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ كَمَا قَالَ، بل الْجَواب لَكَانَ
لَك الرّجْعَة. قلت: مَقْصُود الْكرْمَانِي أَن: لَو إِذا
كَانَ للشّرط لَا بُد لَهُ من جَزَاء. فَلذَلِك قدره
بقوله: لَكَانَ خيرا، وَهُوَ معنى قَوْله: لَكَانَ لَك
الرّجْعَة، وَذَلِكَ لانسداد بَاب الرّجْعَة بعد
الثَّلَاث، بِخِلَاف مَا بعد مرّة أَو مرَّتَيْنِ. وَهَذَا
الْقُرْطُبِيّ أَيْضا قَالَ فِي هَذَا الْموضع:
فَكَأَنَّهُ قَالَ للسَّائِل: إِن طلقت تَطْلِيقَة أَو
تَطْلِيقَتَيْنِ فَأَنت مَأْمُور بالمراجعة لأجل الْحيض،
وَإِن طلقت ثَلَاثًا لم يكن لَك مُرَاجعَة، لِأَنَّهُ لَا
تحل لَك إلاَّ بعد زوج انْتهى.
(20/240)
وَهَكَذَا قدر الْجَزَاء بِمَا ذكره،
وَتَقْدِير الْكرْمَانِي مثله أَو قريب مِنْهُ، فَلَا
حَاجَة إِلَى الرَّد عَلَيْهِ بِغَيْر وَجه. قَوْله:
(فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمرنِي
بِهَذَا) أَي: بِأَن رَاجع بعد الْمَرَّتَيْنِ. قَوْله:
(فَإِن طَلقهَا) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني
بِصِيغَة الْمُفْرد الْغَائِب من الْمَاضِي: (حرمت
عَلَيْهِ) بضمير الْغَائِب، وَفِي رِوَايَة غَيره: فَإِن
طَلقتهَا بتاء الْمُخَاطب حرمت عَلَيْك. حَتَّى تنْكح أَي
الْمَرْأَة زوجا غَيْرك ويروى: غَيره. وَهَذَا لَا يَجِيء
إلاَّ على رِوَايَة الْكشميهني فَافْهَم. وَالتَّعْلِيق
الْمَذْكُور رَوَاهُ مُسلم فِي (صَحِيحه) عَن يحيى بن يحيى
وقتيبه وَمُحَمّد بن رمح عَن اللَّيْث.
5625 - حدّثنا مُحَمَّدٌ حَدثنَا أبُو مُعاوِيَةَ حَدثنَا
هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ قالَتْ:
طَلَّقَ رَجُلٌ امْرأتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوّا غَيْرَهُ
فَطَلَّقَها وكانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الهُدْبَةِ فَلَمْ
تَصِلْ مِنْهُ إِلَى شَيءٍ تُرِيدُهُ، فلَمْ يَلْبَثْ أنْ
طَلَّقَها، فأتَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فقالتْ: يَا رسُولَ الله! إنَّ زَوْجي طَلَّقَنِي، وإنِّي
تَزَوَّجْتُ زَوْجا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِي ولَمْ يَكُنْ
مَعَهُ إلاَّ مِثْلُ الهُدْبَةِ فَلمْ يَقْرَبْنِي إلاّ
هَنَةً واحِدَةً لَمْ يَصِلْ مِنِّي إِلَى شَيْء، فأحلُّ
لِزَوْجِي الأوَّل؟ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأوَّل حتَّى يَذُوقَ
الآخَرُ عُسَيْلَتَكِ وتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (لَا تحلين
لزوجك) فَإِنَّهُ كَانَ قد طَلقهَا ثَلَاثًا وَأَنه أطلق
الْحَرَام بعد الطلقات الثَّلَاث.
وَحَدِيث عَائِشَة فِي هَذَا الْبَاب قد مر، وَهَذِه
رِوَايَة أُخْرَى عَنْهَا أخرجهَا البُخَارِيّ عَن
مُحَمَّد بن سَلام عَن أبي مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن خازم
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالزَّاي عَن هِشَام بن عُرْوَة
عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا.
قَوْله: (مثل الهدبة) قد مر تَفْسِيرهَا أَنَّهَا طرف
الثَّوْب مِمَّا يَلِي طرته. قَوْله: (فَلم تصل مِنْهُ)
أَي: لم تصل الْمَرْأَة من زَوجهَا إِلَى شَيْء تريده
هِيَ، وَهُوَ الْوَطْء المشبع. قَوْله: (وإلاَّ هنة
وَاحِدَة) ، بِفَتْح الْهَاء وَتَخْفِيف النُّون، وَقد حكى
الْهَرَوِيّ تشديدها وَأنْكرهُ الْأَزْهَرِي قبله، وَقَالَ
الْخَلِيل هِيَ كلمة يكنى بهَا عَن شَيْء يستحي من ذكره
باسمه، وَقَالَ ابْن التِّين: مَعْنَاهُ لم يطأني إلاَّ
مرّة وَاحِدَة، يُقَال هُنَا: امْرَأَته إِذا غشيها، وروى
ابْن السكن بباء مُوَحدَة ثَقيلَة أَي: مرّة وَاحِدَة،
ذكره صَاحب (الْمَشَارِق) عَنهُ، وَكَذَا ذكره
الْكرْمَانِي، وَقَالَ: فِي أَكثر النّسخ بموحدة ثَقيلَة
أَي: مرّة، وَقَالَ صَاحب (الْمَشَارِق) وَعند الكافة
بالنُّون، وَقيل: هِيَ من هَب إِذا احْتَاجَ إِلَى
الْجِمَاع، يُقَال: هَب التيس يهب هبيبا.
8 - (بابٌ { (66) لم تحرم مَا أحل الله لَك} (التَّحْرِيم:
1)
وَقد مر تَفْسِيره فِي أول سُورَة التَّحْرِيم، وَلَيْسَ
فِي رِوَايَة النَّسَفِيّ لفظ: بَاب، وَوَقع عوضهَا:
قَوْله تَعَالَى: { (66) لم تحرم} .
6625 - حدّثنا الحَسَنُ بنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ الرَّبِيعَ
بنَ نافعٍ حَدثنَا مُعاوِيَةُ عنْ يَحْيى بن أبي كَثِيرٍ
عنْ يَعْلَى بنِ حَكِيمٍ هنْ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ أنّهُ
أخْبَرَهُ أنّهُ سَمِعَ ابنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إذَا
حَرَّمَ امْرَأتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ: لَكُمْ فِي
رسولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
(انْظُر الحَدِيث 1194)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْحسن بن الصَّباح
بتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة الْبَزَّار بالراء فِي آخِره
الوَاسِطِيّ، وَنزل بَغْدَاد وثقة الْجُمْهُور، وَلينه
النَّسَائِيّ قَلِيلا. وَأخرج عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير
مَوْضُوع وَلم يكثر، مَاتَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان
بَقينَ من ربيع الآخر سنة تسع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ
وللبخاري شيخ آخر يُقَال لَهُ: الْحسن بن الصَّباح
الزَّعْفَرَانِي، لَكِن إِذا وَقع هَكَذَا يكون مَنْسُوبا
لجده فَهُوَ الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَهُوَ
الَّذِي روى عَنهُ فِي الحَدِيث الثَّانِي من هَذَا
الْبَاب، وَله أَيْضا فِي الروَاة عَن شُيُوخه وَمن فِي
طبقتهم مُحَمَّد بن الصَّباح الدولابي أخرج عَنهُ فِي
الصَّلَاة والبيوع وَغَيرهمَا وَلَيْسَ هُوَ أَخا لِلْحسنِ
بن الصَّباح، وَفِيهِمْ أَيْضا مُحَمَّد بن الصَّباح
الجرجر. أخرج عَنهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَهُوَ
غير الدولابي، وَعبد الله بن الصَّباح أخرج عَنهُ
البُخَارِيّ فِي الْبيُوع وَغَيره
(20/241)
وَلَيْسَ أحد من هَؤُلَاءِ أَخا للْآخر،
وَالربيع بن نَافِع الْحلَبِي أَبُو ثوبة سكن طرسوس،
وَمُعَاوِيَة هُوَ ابْن سَلام بتَشْديد اللَّام، وَيحيى
ويعلى وَسَعِيد كلهم من التَّابِعين روى بَعضهم عَن بعض.
والْحَدِيث مر فِي أول سُورَة التَّحْرِيم عَن معَاذ بن
فضَالة.
قَوْله: (وَإِذا حرم امْرَأَته) أَي: إِذا حرم رجل
امْرَأَته بِأَن قَالَ: أَنْت عَليّ حرَام. قَوْله:
(لَيْسَ بِشَيْء) يَعْنِي هَذَا القَوْل لَيْسَ بِشَيْء
يَعْنِي: لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الحكم، وَهَذَا هَكَذَا
فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: لَيست
بِشَيْء. أَي: هَذِه الْكَلِمَة والمقالة لَيست بِشَيْء
قَوْله: (وَقَالَ: لكم فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أُسْوَة حَسَنَة) وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الأسوة
الْقدْوَة، والمواساة الْمُشَاركَة. وَفِي (الْمغرب)
الأسوة اسْم من ائتسى بِهِ إِذا اقْتدى بِهِ وَاتبعهُ،
وَأَشَارَ بِهِ ابْن عَبَّاس مستدلاً على مَا ذهب إِلَيْهِ
إِلَى قصَّة التَّحْرِيم، وبينّا ذَلِك فِي سُورَة
التَّحْرِيم.
7625 - حدّثنا الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ بنِ الصَّبَّاحِ
حَدثنَا حَجَّاجٌ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمَ عطاءٌ
أنّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ
عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، أنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدِ زَيْنَبَ ابْنَةِ
جَحْشٍ ويَشْرَبُ عِنْدَها عَسَلاً، فَتَواصَيْتُ أَنا
وحَفْصَةُ أنَّ أيَّتَنا دَخَلَ عَليْها النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَلْتَقُلْ: إنِّي أجِدُ مِنْكَ رِيحَ
مَغافِيرَ، أكَلْتَ مَغافِير؟ فَدَخَلَ عَلى إحْدَاهُمَا
فقالَتْ لهُ ذالِكَ، فَقَالَ: لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً
عِنْدَ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، ولَنْ أعُودَ لهُ.
فَنَزَلَتْ: { (66) يَا أَيهَا النَّبِي لم تحرم مَا أحل
الله لَك} { (66) إِن تَتُوبَا إِلَى الله} (التَّحْرِيم:
1 4) لِعائِشَةَ وحَفْصَةَ و { (66) إِذْ أسر النَّبِي
إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا} (التَّحْرِيم: 3) لِقَوْلِهِ:
بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَالْحسن بن مُحَمَّد بن
الصَّباح هُوَ الزَّعْفَرَانِي. وَقد مر ذكره عَن قريب،
وحجاج هُوَ ابْن مُحَمَّد الْأَعْوَر، وَابْن جريج عبد
الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي
رَبَاح، وَأهل الْحجاز يطلقون الزَّعْم على مُطلق القَوْل،
وَالْمعْنَى: قَالَ: قَالَ عَطاء، وَوَقع فِي رِوَايَة
هِشَام بن يُوسُف عَن ابْن جريج عَن عَطاء، وَقد مضى فِي
التَّفْسِير: وَعبيد بن عُمَيْر كِلَاهُمَا بِالتَّصْغِيرِ
هُوَ أَبُو عَاصِم اللَّيْثِيّ الْمَكِّيّ.
وَهنا ثَلَاثَة مكيون مُتَوَالِيَة، وهم: ابْن جريج
وَعَطَاء وَعبيد.
والْحَدِيث قد مر فِي سُورَة التَّحْرِيم. وَمضى الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ.
قَوْله: (فتواصيت) بالصَّاد الْمُهْملَة قَالَ بَعضهم من
المواصاة. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل من التواصي، وَمن لم
يفرق بَين بَاب التفاعل وَبَاب المفاعلة كَيفَ تقدم إِلَى
ميدان الشَّرْح، وَفِي رِوَايَة هِشَام: فَتَوَاطَأت
بِالطَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور
إِنَّه من المواطأة، وَلَيْسَ كَذَلِك بل هُوَ من التواطؤ.
وَفِيه: قَوْله: (أَن أَيَّتنَا) بِفَتْح الْهمزَة
وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمَفْتُوحَة وَفتح
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهِي كلمة: أَي، أضيفت
إِلَى نون الْمُتَكَلّم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى أَن
أوتينا وَدخل علينا. قلت: وَلَا تحققت لي صِحَّتهَا،
ويروى: مَا دخل وَكلمَة: مَا زَائِدَة. قَوْله:
(مَغَافِير) بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف بعد الْفَاء فِي
جَمِيع نسخ البُخَارِيّ، وَوَقع فِي بعض النسح عِنْد مُسلم
فِي بعض الْمَوَاضِع: مغافر بِحَذْف الْيَاء، وَقَالَ
عِيَاض: الصَّوَاب إِثْبَاتهَا لِأَنَّهَا عوض عَن الْوَاو
الَّتِي للمفرد، لِأَنَّهُ جمع مغْفُور بِضَم الْمِيم
وَإِسْكَان الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَضم الْفَاء وبالواو
وَالرَّاء، وَلَيْسَ فِي كَلَامهم مفعول بِالضَّمِّ إلاَّ
مغْفُور ومغرور بالغين الْمُعْجَمَة من أَسمَاء الكماة،
ومنخور من أَسمَاء الْأنف ومغلوق بالغين الْمُعْجَمَة،
وَاحِد المغاليق وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: المغفور صمغ
حُلْو لَهُ رَائِحَة كريهة، وَذكر البُخَارِيّ: إِن
المغفور شَبيه بالصمغ يكون فِي الرمث بِكَسْر الرَّاء
وَسُكُون الْمِيم وبالثاء الْمُثَلَّثَة وَهُوَ من الشّجر
الَّتِي ترعاها الْإِبِل، وَهُوَ من الحمض، وَفِي الصمغ
الْمَذْكُور حلاوة وَذكر أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ أَن
المغفور يكون فِي الْعشْر بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح
الشين الْمُعْجَمَة وبالراء فِي الثمام بالثاء
الْمُثَلَّثَة والسدر والطلح، وَيُقَال: المغافير جمع
مغفار، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهُوَ نوع من الصمغ يحلب
عَن بعض الشّجر يحل بِالْمَاءِ وَيشْرب، وَله رَائِحَة
كريهة: وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي (كتاب النَّبَات) :
يُقَال: معثور، بالثاء الْمُثَلَّثَة مَوضِع الْفَاء،
وَقيل: الْمِيم فِيهِ زَائِدَة، وَبِه قَالَ الْفراء
وَالْجُمْهُور على أَنَّهَا أَصْلِيَّة. قَوْله: (أكلت
مَغَافِير؟) أَصله بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام فحذفت.
قَوْله: (فَدخل) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
إِحْدَاهمَا
(20/242)
أَي إِحْدَى المذكورتين وهما عَائِشَة
وَحَفْصَة، وَلم يعلم أَيَّتهمَا كَانَت قبل، وبالظن
أَنَّهَا حَفْصَة. قَوْله: (لَا بل شربت عسلاً) كَذَا فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر عَن
شُيُوخه: لَا شربت بل بل عسلاً، قَوْله: قَوْله: (وَلنْ
أَعُود لَهُ) أَي للشُّرْب، وَزَاد فِي رِوَايَة هِشَام:
وَقد حَلَفت لَا تُخْبِرِي بذلك أحدا، فَظهر بِهَذِهِ
الزِّيَادَة أَن الْكَفَّارَة فِي قَوْله: {قد فرض الله
لكم تَحِلَّة أَيْمَانكُم} (التَّحْرِيم: 2) لأجل يَمِينه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله، وَقد حَلَفت وَلم يكن
لمُجَرّد التَّحْرِيم، وبهذه الزِّيَادَة أَيْضا
مُنَاسبَة. قَوْله: (فِي رِوَايَة حجاج بن مُحَمَّد)
فَنزلت {يَا أَيهَا النَّبِي} (التَّحْرِيم: 3) الْآيَة
وَبِدُون هَذِه الزِّيَادَة لَا يظْهر لقَوْله: فَنزلت،
معنى يُطَابق مَا قبله. قَوْله إِلَى {إِن تنويا}
(التَّحْرِيم: 1) أَي قَرَأَ من أول السُّور إِلَى هَذَا
الْموضع قَوْله: (لعَائِشَة وَحَفْصَة) أَي: الْخطاب لَهما
فِي قَوْله: إِن تَتُوبَا قَوْله: {وَإِذا أسر النَّبِي}
(التَّحْرِيم: 3) إِلَى آخِره، من بَقِيَّة الحَدِيث،
وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم فِي آخر الحَدِيث،
وَكَانَ الْمَعْنى: وَأما المُرَاد بقوله تَعَالَى: {وَإِذ
أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا} (التَّحْرِيم:
3) ففهو لأجل قَوْله: (بل شربت عسلاً) .
8625 - حدّثنا فَرْوَةُ بنُ أبي المَغرَاءِ حَدثنَا
عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ
عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا، قالَتْ: كانَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُحبُّ العَسَلَ
والحَلْوَاءَ، وكانَ إِذا انصَرَفَ مِنَ العَصْرِ دَخَلَ
علَى نِسائِهِ فَيَدْنُو مِنْ إحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ علَى
حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فاحْتَبَسَ أكْثَرَ مَا كانَ
يَحْتَبِسُ فَغِرْتُ فَسألْتُ عنْ ذالِكَ فَقِيلَ لِي:
أهْدَتْ لَهَا امْرَأةٌ من قَوْمِها عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ
فَسَقَتِ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُ
شَرْبَةً فَقُلْتِ: أما وَالله لَنَحْتالَنَّ لهُ.
فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: إنَّهُ سَيَدْنُو
مِنْكِ، فإذَا دَنا منْكِ فَقُولي: أكَلْتَ مَغَافِيرَ؟
فإنَّهُ سَيقُولُ لَكِ: لَا، فَقُولِي لهُ: مَا هاذِهِ
الرِّيحُ الَّتي أجِدُ مِنْكَ؟ فإنَّهُ سَيَقُولَ لَكِ
سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَل، فَقُولي لهُ: جَرَسَتْ
نَحلُهُ العُرْفُطَ. وسأقُولُ ذَلِكِ، وقُولِي أنْتِ يَا
صَفِيَّةُ ذَاكِ، قالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: فَوَالله مَا
هُوَ إلاّ أنْ قامَ علَى البابِ، فأرَدْتُ أنْ أُبادِئَهُ
بِما أمَرْتنِي بهِ فَرَقا منْكِ، فلَمَّا دَنا مِنْها
قالَتْ لهُ سَوْدَةُ: يَا رسولَ الله أكَلْتَ مَغافِيرَ؟
قَالَ: لَا. قالَتْ: فَما هاذِهِ الرِّيحُ الّتي أجِدُ
مِنْكَ؟ قَالَ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ،
فقالَتْ: جَرِسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ، فلَمّا دارَ إليَّ
قُلْتُ لهُ نَحْوَ ذالِكَ، فَلمّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ
قالَتْ لهُ مِثلَ، فلَمّا دارَ إِلَى حَفْصَةَ قالَتْ: يَا
رسولَ الله أَلا أسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لَا حاجَة لي
فِيهِ. قالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالله لَقَدْ
حرَمْناهُ. قُلْتُ لَهَا: اسْكُتِي.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن فِيهِ منع النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَفسه عَن شرب الْعَسَل، يفهم
ذَلِك من قَوْله: (لَا حَاجَة لي فِيهِ) وَيُؤَيّد هَذَا
زِيَادَة هِشَام فِي رِوَايَته فِي الحَدِيث السَّابِق:
وَقد حَلَفت لَا تُخْبِرِي بذلك أحدا، فَنزلت: {يَا أَيهَا
النَّبِي لم تحرم} الْآيَة. وَقَالَ القَاضِي: اخْتلف فِي
سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة، فَقَالَت عَائِشَة: فِي قصَّة
الْعَسَل، وَعَن زيد بن أسلم: أَنَّهَا نزلت فِي تَحْرِيم
مَارِيَة جَارِيَته وحلفه أَن لَا يَطَأهَا. وَالصَّحِيح
فِي سَبَب نزُول الْآيَة أَنه فِي قصَّة الْعَسَل لَا فِي
قصَّة مَارِيَة الْمَرْوِيّ فِي غير (الصَّحِيحَيْنِ)
وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَلم تأت قصَّة مَارِيَة من طَرِيق
صَحِيح قَالَ النَّسَائِيّ: حَدِيث عَائِشَة فِي الْعَسَل
حَدِيث صَحِيح غَايَة.
ثمَّ إِن البُخَارِيّ أخرج طرفا من هَذَا الحَدِيث فِي
كتاب النِّكَاح فِي: بَاب دُخُول الرجل على نِسَائِهِ فِي
الْيَوْم، عَن فَرْوَة عَن عَليّ بن مسْهر عَن هِشَام عَن
أَبِيه عَن عَائِشَة، ثمَّ أخرجه هُنَا مطولا بِهَذَا
الْإِسْنَاد ثمَّ صَدره بقول عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يحب الْعَسَل والحلواء، تمهيدا لما سَيذكرُهُ من
قصَّة الْعَسَل مَعَ أَنه أفرد ذكر محبَّة الْعَسَل،
والحلواء فِي كتاب الْأَطْعِمَة، وَكتاب الْأَشْرِبَة
وَغَيرهمَا على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأخرجه مُسلم أَيْضا من طَرِيق أبي أُمَامَة عَن هِشَام
عَن أَبِيه عَن عَائِشَة مطولا نَحْو إِخْرَاج
البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: وحدثنيه سُوَيْد بن سعيد، قَالَ:
حَدثنَا عَليّ بن مسْهر عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهَذَا
الْإِسْنَاد نَحوه، مطولا وَلَكِن وَقع فِي رِوَايَة
مُسلم: (كَانَ يحب الْحَلْوَاء وَالْعَسَل) ، بِتَقْدِيم
الْحَلْوَاء على الْعَسَل، وَهَهُنَا قدم الْعَسَل على
الْحَلْوَاء. وَقَالَ
(20/243)
الْكرْمَانِي: ذكر الْعَسَل بعده
للتّنْبِيه على شرفه، وَهُوَ من بَاب عطف الْعَام على
الْخَاص. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : قَالَ
الْعلمَاء: المُرَاد بالحلواء هُنَا كل شَيْء حُلْو، وَذكر
الْعَسَل بعْدهَا تَنْبِيها على شرفه ومزيته وَهُوَ من
بَاب ذكر الْخَاص بعد الْعَام. وَقَالَ بَعضهم: ولتقديم كل
مِنْهُمَا على الآخر جِهَة من جِهَات التَّقْدِيم، فتقديم
الْعَسَل لشرفه وَلِأَنَّهُ أصل من أصُول الْحَلْوَاء
وَلِأَنَّهُ مُفْرد والحلواء مركب، وَتَقْدِيم الْحَلْوَاء
لشمولها وتنوعها لِأَنَّهَا تتَّخذ من الْعَسَل وَغَيره،
وَلَيْسَ ذَلِك من عطف الْعَام على الْخَاص كَمَا زعم
بَعضهم، وَإِنَّمَا الْعَام الَّذِي يدْخل الْجَمِيع فِيهِ
انْتهى قلت: الظَّاهِر أَن تشنيعه على الْكرْمَانِي لَا
وَجه لَهُ لِأَن الصَّرِيح من كَلَامه أَنه من بَاب عطف
الْعَام على الْخَاص كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد
آتناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} (الْحجر:
78) وَقَوله: إِنَّمَا الْعَام الَّذِي يدْخل فِيهِ
الْجَمِيع يرد عَلَيْهِ كَلَامه: لِأَن الْحَلْوَاء يدْخل
فِيهَا كل شَيْء حُلْو، كَمَا ذكره النَّوَوِيّ، فَكيف
يَقُول: وَلَيْسَ ذَلِك من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص؟
وَهَذِه مُكَابَرَة ظَاهِرَة، فَأَما النَّوَوِيّ
فَإِنَّهُ صرح بِأَنَّهُ من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام،
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {تنزل الْمَلَائِكَة وَالروح}
(الْقدر: 4) وكل مِنْهُمَا ذكر مَا يَلِيق بالْمقَام.
قَوْله: (الْعَسَل) ، وَهُوَ فِي الأَصْل يذكر وَيُؤَنث.
قَوْله: (والحلواء) فِيهِ الْمَدّ وَالْقصر، قَالَه ابْن
فَارس، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هِيَ مَقْصُورَة تكْتب
بِالْيَاءِ، وَوَقعت فِي رِوَايَة عَليّ بن مسْهر
بِالْقصرِ، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة بِالْمدِّ.
قَوْله: (من الْعَصْر) ، أَي: من صَلَاة الْعَصْر، كَذَا
ذكر فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَخَالفهُم حَمَّاد بن
سَلمَة عَن هِشَام بن عُرْوَة، فَقَالَ: من الْفجْر، أخرجه
عبد بن حميد فِي تَفْسِيره عَن أبي النُّعْمَان عَن
حَمَّاد، وتساعده رِوَايَة يزِيد بن رُومَان عَن ابْن
عَبَّاس، فَفِيهَا: وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا صلى الصُّبْح جلس فِي مُصَلَّاهُ وَجلسَ
النَّاس حوله حَتَّى تطلع الشَّمْس، ثمَّ يدْخل على
نِسَائِهِ امْرأ امْرَأَة يسلم عَلَيْهِنَّ وَيَدْعُو
لَهُنَّ، فَإِذا كَانَ يَوْم إِحْدَاهُنَّ كَانَ عِنْدهَا
... الحَدِيث أخرجه ابْن مرْدَوَيْه. (فَإِن قلت) كَيفَ
التَّوْفِيق بَين هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ؟ قلت: رِوَايَة
عَائِشَة من الْعَصْر مَحْفُوظ، وَرِوَايَة حَمَّاد
شَاذَّة وَلَئِن سلمنَا فَيمكن أَن فَيمكن أَن تحمل
رِوَايَة، إِذا انْصَرف من صَلَاة الْفجْر أَو الصُّبْح،
على أَنه كَانَ الَّذِي يَقع مِنْهُ فِي أول النَّهَار
مَحْض السَّلَام وَالدُّعَاء، وَالَّذِي كَانَ بعد
الْعَصْر الْجُلُوس والاستئناس والمحادثة، أَو نقُول:
إِنَّه كَانَ فِي أول النَّهَار تَارَة وَفِي آخِره
تَارَة، وَلم يكن مستمرا فِي وَاحِد مِنْهُمَا. قَوْله:
(دخل على نِسَائِهِ) ، وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: أجَاز
إِلَى نِسَائِهِ أَي: مضى قَوْله: (فيدنو من إِحْدَاهُنَّ)
أَي: يقرب مِنْهُنَّ. وَالْمرَاد التَّقْبِيل والمباشرة من
غير جماع. قَوْله: (فاحتبس) ، أَي: مكث زَمَانا عِنْد
حَفْصَة وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: (فاحتبس عِنْدهَا
أَكثر مَا كَانَ يحتبس) ، وَكلمَة مَا مَصْدَرِيَّة أَي:
أَكثر احتباسه خَارِجا عَن الْعَادة. قَوْله: (فغرت) أَي:
قَالَت عَائِشَة: فغرت، بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الرَّاء وَضم التَّاء: من الْغيرَة، وَهِي
الَّتِي تعرض للنِّسَاء من الضرائر. قَوْله: (فَسَأَلت عَن
ذَلِك) أَي: عَن احتباسه الْخَارِج عَن الْعَادة عِنْد
حَفْصَة، وَوَقع فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس بَيَان ذَلِك.
وَلَفظه: فأنكرت عَائِشَة احتباسه عِنْد حَفْصَة، فَقَالَت
لجويرية حبشية يُقَال لَهَا خضراء: إِذا دخل على حَفْصَة
فادخلي عَلَيْهَا فانظري مَاذَا تصنع، فَإِن قلت: فِي
الحَدِيث السَّابِق أَنه شرب فِي بَيت زَيْنَب، وَفِي
هَذَا الحَدِيث أَنه شرب فِي بَيت حَفْصَة، فَهَذَا مَا
فِي (الصَّحِيحَيْنِ) ، وروى ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق
ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن شرب الْعَسَل كَانَ
عِنْد سَوْدَة. قلت: قَالُوا طَرِيق الْجمع بَين هَذَا
الِاخْتِلَاف الْحمل على التَّعَدُّد، فَلَا يمْتَنع تعدد
السَّبَب لِلْأَمْرِ الْوَاحِد، وَأما مَا وَقع فِي
(تَفْسِير السّديّ) : أَن شرب الْعَسَل كَانَ عِنْد أم
سَلمَة، أخرجه الطَّبَرِيّ وَغَيره، فَهُوَ مَرْجُوح
لإرساله وشذوذه. قَوْله: (أَهْدَت لَهَا) أَي: لحفصة رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، (امْرَأَة من قوهمها) لم يدر
اسْمهَا (عكة من عسل) وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: عسل من
طائف، والعكة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد
الْكَاف: وَهِي الزق الصَّغِير. وَقيل: آنِية السّمن.
قَوْله: (أما وَالله) كلمة: أما، بِفَتْح الْهمزَة
وَتَخْفِيف الْمِيم حرف استفتاح، وَيكثر قبل الْقسم.
قَوْله: (لنحتالن) بِفَتْح اللَّام للتَّأْكِيد من
الاحتيال. قَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ جَازَ على أَزوَاج
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الاحتيال؟ فَأجَاب
بِأَنَّهُ من مقتضيات الْغيرَة الطبيعية للنِّسَاء وَهُوَ
صَغِيرَة مَعْفُو عَنْهَا مكفرة. قَوْله: (إِنَّه) أَي:
إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (سيدنو مِنْك) ،
وَقد مر بَيَان المُرَاد من الدنو عَن قريب. قَوْله:
(فَإِذا دنا مِنْك) وَفِي رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة:
إِذا دخل على إحداكن فلتأخذ بأنفها، فَإِذا قَالَ مَا
شَأْنك؟ فَقولِي: ريح المغافير، وَقد مر تَفْسِيره عَن
قريب. قَوْله: (سقتني حَفْصَة شربة عسل) وَفِي رِوَايَة
حَمَّاد بن سَلمَة: إِنَّمَا هِيَ عسيلة سقتنيها حَفْصَة.
ققوله: (جرست نحله العرفط) جرست بِفَتْح الْجِيم وَالرَّاء
وَالسِّين الْمُهْملَة أَي: رعت، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
أَي أكلت، وَقَالَ
(20/244)
صَاحب (الْعين) جرست النَّحْل بالعسل يجرسه
جرسا وَهُوَ لحسها إِيَّاه، والعرفط بِضَم الْعين
الْمُهْملَة وَالْفَاء وَسُكُون الرَّاء وبالطاء
الْمُهْملَة من شجر الْعضَاة، والعضاة كل شجر لَهُ شوك،
وَإِذا استيك بِهِ كَانَت لَهُ رَائِحَة حَسَنَة تشبه
رَائِحَة طيب الند، وَيُقَال: هُوَ نَبَات لَهُ ورقة عريضة
تفترش على الأَرْض لَهُ شَوْكَة حجناء وَثَمَرَة بَيْضَاء
كالقطن مثل ذَر الْقَمِيص خَبِيث الرَّائِحَة يلحسه
النَّحْل وَيَأْكُل مِنْهُ ليحصل مِنْهُ الْعَسَل، قيل:
هُوَ الشّجر الَّذِي صمغه المغافير. قَوْله: (يَا
صَفِيَّة) أَي: بنت حييّ أم الْمُؤمنِينَ قَوْله: (ذَاك)
إِشَارَة إِلَى قَوْله: (أكلت المغافير؟) قَوْله قَالَت:
تَقول سَوْدَة أَي: قَالَت عَائِشَة حِكَايَة عَن قَول
سَوْدَة لما دخل عَلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَوْله: (فوَاللَّه) إِلَى قَوْله: (فَلَمَّا دنا
مِنْهَا) مقول سَوْدَة. قَوْله: (مَا هُوَ إلاّ أَن قَامَ
على الْبَاب) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (فَأَرَدْت أَن أناديه) بالنُّون من المناداة.
هَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر، وَفِي أَكثر
الرِّوَايَات: أبادئه، بِالْبَاء الْمُوَحدَة والهمزة، من
المبادأة وَفِي رِوَايَة أبي أُسَامَة: أبادره، من
الْمُبَادرَة، وَهِي المسارعة. قَوْله: (فرقا مِنْك) أَي:
خوفًا. وَالْخطاب للعائشة. قَوْله: (فَلَمَّا دنا مِنْهَا)
أَي: فَلَمَّا دنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
سَوْدَة. قَوْله: (فَلَمَّا دَار ءلى) من الدوران،
مَعْنَاهُ: لما دخل عَلَيْهَا، وَكَذَا فِي رِوَايَة
مُسلم، قَالَ الْكرْمَانِي: فَلم دَار رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهَا وَلم يكن لَهَا نوبَة.
فَأجَاب بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يدْخل
عَلَيْهَا ويتردد إِلَيْهَا، أَو كَانَ هَذَا قبل هبة
نوبتها، وَكَذَا معنى قَوْله: (فَلَمَّا دَار إِلَى
صَفِيَّة) . قَوْله: (قَالَت لَهُ مثل ذَلِك) أَي: مثل مَا
قَالَت سَوْدَة: (جرست نحلة العرفط) فَإِن قلت: قَالَ
عِنْد إِسْنَاد القَوْل إِلَى صَفِيَّة مثل ذَلِك، وَفِي
إِسْنَاده إِلَى سَوْدَة نَحْو ذَلِك أَي نَحْو مَا قَالَت
عَائِشَة لِأَنَّهَا أَيْضا قَالَت، لِأَنَّهُ قَالَ
فِيمَا قبل عَن عَائِشَة، وسأقول ذَلِك، وَقَوْلِي أَنْت
يَا صَفِيَّة. قلت: قَالَ بَعضهم مَا ملخصه: إِن عَائِشَة
لما كَانَت مبتكرة لهَذَا الْأَمر، قيل: نَحْو ذَلِك
لهَذَا الْأَمر، وَأما صَفِيَّة فَإِنَّهَا كَانَت مأمورة
بِهِ، وَلَيْسَ لَهَا تصرف قيل مثل ذَلِك، ثمَّ قَالَ:
رجعت إِلَى سِيَاق أبي أُسَامَة فَوَجَدته عبَّر بِالْمثلِ
فِي الْمَوْضِعَيْنِ فغلب على الظَّن أَن تَغْيِير ذَلِك
من ترف الروَاة. قلت: لم يذكر جَوَابا بشفي العليل وَلَا
يروي الغليل، فَإِذا علم الْفرق بَين النُّجُوم والمثل
علمت النُّكْتَة فِيهِ، فالنحو فِي اللُّغَة عبارَة عَن
الْقَصْد، يُقَال: نحوت نَحْوك أَي: قصدت قصدك، وَمثل
الشَّيْء شُبْهَة ومماثل لَهُ، ثمَّ إِنَّهُم يستعملون لفظ
النَّحْو بِمَعْنى الْمثل إِذا كَانَ لَهُم قصد كلي فِي
بَيَان الْمُمَاثلَة، بِخِلَاف لَفْظَة الْمثل، فَإِن
فِيهَا مُجَرّد بَيَان الْمُمَاثلَة مَعَ قطع النّظر عَن
غَيرهَا، وَلما كَانَت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، قاصدة بِالْقَصْدِ الْكُلِّي تَبْلِيغ هَذِه
الْكَلِمَة، أَعنِي لفظ: (جرست نحله العرفط) قَالَت
سَوْدَة: نَحْو ذَلِك، بِخِلَاف صَفِيَّة فَإِنَّهَا لم
تقصد ذَلِك أصلا، وَلكنهَا قالته للامتثال، وَلَا
يَنْبَغِي أَن يظنّ فِي الروَاة التَّغْيِير بِالظَّنِّ
الْفَاسِد، فَأَقل الْأَمر فِيهِ أَن يُقَال: هَذَا من
بَاب التفنن فَإِن فِيهِ تَحْصِيل الرونق للْكَلَام
فَافْهَم قَوْله: (جرمناه) بتَخْفِيف الرَّاء
الْمَفْتُوحَة أَي: منعناه، من حرم يحرم من بَاب ضرب
يضْرب، يُقَال: حرمه الشَّيْء يحرمه حرما بِالْكَسْرِ
وَحرمه كَذَلِك وحريمه وحرمانا إِذا مَنعه، وَكَذَلِكَ
أحرمهُ، وَأما حرَّم الشَّيْء بِضَم الرَّاء فمصدره:
حُرْمَة بِالضَّمِّ. قَوْله: (قلت لَهَا: اسلتي) أَي:
قَالَت عَائِشَة لسودة كَأَنَّهَا خشيت أَن يفشو ذَلِك
فَيظْهر مَا دَبرته من كيدها لحفصة.
ثمَّ اعْلَم أَن فِي هَذَا الحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا: أَن
الْغيرَة مجبولة فِي النِّسَاء طبعا، فالغيري تعذر فِي منع
مَا يَقع مِنْهَا من الاحتيال فِي وَقع ضَرَر الضرة.
وَمِنْهَا: مَا فِيهِ بَيَان علو مرتبَة عَائِشَة عِنْد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى كَانَت ضَرَّتهَا
تهابها وتطيعها فِي كل شَيْء تأمرها بِهِ حَتَّى فِي مثل
هَذِه الْقَضِيَّة مَعَ الزَّوْج الَّذِي هُوَ أرفع
النَّاس قدرا. وَمِنْهَا: أَن عماد الْقسم اللَّيْل وَإِن
النَّهَار يجوز فِيهِ الِاجْتِمَاع بِالْجَمِيعِ بِشَرْط
ترك المجامعة إلاَّ مَعَ صَاحِبَة النّوبَة، وَمِنْهَا:
أَن الْأَدَب اسْتِعْمَال الْكِنَايَات فِيمَا يستحي من
ذكره كَمَا فِي قَوْله فِي الحَدِيث: فيدنو مِنْهُنَّ
وَالْمرَاد التَّقْبِيل والتحضين لَا مُجَرّد الدنو،
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ فَضِيلَة الْعَسَل والحلواء لمحبة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاهُمَا. وَمِنْهَا:
أَن فِيهِ بَيَان صَبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
غَايَة مَا يكون وَنِهَايَة حلمه وَكَرمه الْوَاسِع.
9 - (بابٌ لَا طَلاَقَ قَبْلَ النِّكاحِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَنه: لَا طَلَاق قبل وجود
النِّكَاح. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَذْهَب الْحَنَفِيَّة
صِحَة الطَّلَاق قب النِّكَاح، فَأَرَادَ البُخَارِيّ
الرَّد عَلَيْهِم. قلت: لم تقل الْحَنَفِيَّة: إِن
الطَّلَاق يَقع قبل وجود النِّكَاح، وَلَيْسَ هَذَا بِمذهب
لأحد، فالعجب من الْكرْمَانِي وَمن وَافقه فِي كَلَامه
هَذَا كَيفَ يصدر مِنْهُم مثل هَذَا الْكَلَام، ثمَّ يردون
بِهِ عَلَيْهِم من غير وَجه، وَإِنَّمَا تشبثهم فِي
(20/245)
هَذَا بِمَسْأَلَة التَّعْلِيق وَهِي مَا
إِذا قَالَ رجل لأجنبية، إِذا تَزَوَّجتك فَأَنت طَالِق،
فَإِذا تزَوجهَا يَقع الطَّلَاق عِنْد الْحَنَفِيَّة،
خلافًا للشَّافِعِيَّة، فَإِن أشلاءهم على الْحَنَفِيَّة
هَهُنَا، ويحتجون فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بقول ابْن
عَبَّاس، على مَا يَجِيء الْآن، بِمَا رَوَاهُ أَحْمد
وَابْن مَاجَه من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا نذر
لِابْنِ آدم فِيمَا لَا يملك، وَلَا طَلَاق لِابْنِ آدم
فِيمَا لَا يملك، وَلَا بيع فِيمَا لَا يملك
وَالْحَنَفِيَّة يَقُولُونَ: هَذَا تَعْلِيق بِالشّرطِ
وَهُوَ يَمِين فَلَا يتَوَقَّف صِحَّته على وجود ملك
الْمحل كاليمين بِاللَّه، وَعند وجود الشَّرْط يَقع
الطَّلَاق وَهُوَ طَلَاق بعد وجود النِّكَاح، فَكيف
يُقَال: إِنَّه طَلَاق قبل النِّكَاح؟ وَالطَّلَاق قبل
النِّكَاح فِيمَا إِذا قَالَ لأجنبيه: أَنْت طَالِق
فَهَذَا كَلَام لَغْو، وَفِي مثل هَذَا يُقَال لَا طَلَاق
قبل النِّكَاح، والْحَدِيث الْمَذْكُور لم يَصح، قَالَه
أَحْمد، وَقَالَ أَبُو الْفرج: رُوِيَ بطرِيق مخية
بِمرَّة، قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: أخبارهم لَيْسَ لَهَا
أصل فِي الصِّحَّة فَلَا تشتغل بهَا، وَلَئِن صَحَّ فَهُوَ
مَحْمُول على التَّخْيِير.
وقَوْلُ الله تَعَالَى: ياأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُو اْ
إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ
مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ
مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ
وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} (الْأَحْزَاب: 94) [/
ح.
أَكثر النّسخ هَكَذَا: بَاب {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا
إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات} الْآيَة، وَلَيْسَ فِيهِ: لَا
طَلَاق قبل النِّكَاح، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، غير
أَنه قَالَ: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} وساقها إِلَى
قَوْله: {من عدَّة} وَحذف الْبَاقِي. وَقَالَ: الْآيَة،
وَفِي رِوَايَة النَّسَفِيّ: بَاب {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات} الْآيَة، وَعَلِيهِ
أَكثر النّسخ كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ ابْن التِّين:
احتجاج البُخَارِيّ بِهَذِهِ الْآيَة على عدم الْوُقُوع
لَا دلَالَة فِيهِ، وَكَذَا قَالَ ابْن الْمُنِير: لَيْسَ
فِيهَا دَلِيل لِأَنَّهَا إِخْبَار عَن صُورَة وَقع فِيهِ
الطَّلَاق بعد النِّكَاح، وَلَا حصر هُنَاكَ، وَلَيْسَ فِي
السِّيَاق مَا يَقْتَضِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: احْتج
بِالْآيَةِ قبل البُخَارِيّ ترجمان الْقُرْآن عبد الله بن
عَبَّاس وَمرَاده هُوَ قَوْله: جعل الله الطَّلَاق بعد
النِّكَاح. قلت: هَذَا هروب من هَذَا الْقَائِل لعَجزه عَن
الْجَواب عَمَّا قَالَه ابْن التِّين وَابْن الْمُنِير،
وانباض عرق العصبية لمذهبه، ولترويج كَلَام البُخَارِيّ
فِي التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، ونتكلم فِي هَذَا الْآن
بِمَا يَقْتَضِيهِ طَرِيق الصَّوَاب من غير ميل عَن الْحق
فِي الْجَواب.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ جَعَلَ الله الطَّلاَقَ بعْدَ
النِّكاحِ
هَذَا تَعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن عبد الله بن
نمير عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، بِلَفْظ:
(لَا طَلَاق إلاَّ بعد نكاج وَلَا عتق إلاّ بعد ملك)
انْتهى، هَذَا لَا خلاف فِيهِ أَن الله جعل الطَّلَاق بعد
النِّكَاح، وَالْحَنَفِيَّة قَائِلُونَ بِهِ، فَلَا يجوز
للشَّافِعِيَّة أَن يحتجوا بِهِ عَلَيْهِم فِي مَسْأَلَة
التَّعْلِيق، فَإِن تَعْلِيق الطَّلَاق غير الطَّلَاق،
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاق فِي الْحَال، فَلَا يشْتَرط
لصِحَّته قيام الْمحل. وَحكى أَبُو بكر الرَّازِيّ عَن
الزُّهْرِيّ فِي قَوْله: لَا طَلَاق إلاَّ بعد نِكَاح،
قَالَ: هُوَ الرجل يُقَال لَهُ: تزوج فُلَانَة، فَيَقُول:
هِيَ طَالِق، فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، فَأَما من قَالَ:
إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، فَإِنَّمَا تطلق حِين
يَتَزَوَّجهَا، وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه)
فَقَالَ: أخبرنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ فِي رجل
قَالَ: كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق، وكل أمة
تشتريها فَهِيَ حرَّة، كَمَا قَالَ: فَقَالَ معمر: أَو
لَيْسَ قد جَاءَ: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح وَلَا عتق
إِلَّا بعد ملك؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِك أَن يَقُول الرجل:
امْرَأَة فلَان طَالِق وَعبد فلَان حر، وَاحْتج بَعضهم
أَيْضا بِمَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَالْبَيْهَقِيّ من
طَرِيقه عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: سُئِلَ ابْن عَبَّاس
عَن الرجل يَقُول: إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق قَالَ
لَيْسَ بِشَيْء، إِنَّمَا الطَّلَاق لما ملك. قَالُوا:
فَابْن مَسْعُود كَانَ يَقُول: إِذا وَقت وقتا فَهُوَ
كَمَا قَالَ! قَالَ: رحم الله أَبَا عبد الرَّحْمَن لَو
كَانَ كَمَا قَالَ لقَالَ الله تَعَالَى: {إِذا طلّقْتُم
الْمُؤْمِنَات ثمَّ نكحتموهن} انْتهى. قَالُوا: الْآيَة
دلّت على أَنه إِذا وجد النِّكَاح ثمَّ طلق قبل الْمَسِيس
فَلَا عدَّة، وَلم تتعرض الْآيَة لصورة النزاع أصلا،
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمر
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: حبس الأَصْل وسبل الثَّمَرَة،
فَدلَّ على جَوَاز الْمَعْقُود فِيمَا لم يملكهُ وَقت
العقد، بل فِيمَا يسْتَأْنف، وَأَجْمعُوا على أَن لَو أوصى
بِثلث مَاله أَنه يعْتَبر وَقت الْمَوْت لَا وَقت
الْوَصِيَّة، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُم من عَاهَدَ
الله لَئِن آتَانَا من فَضله لنصدقن} (التَّوْبَة: 57)
فَهَذَا نَظِير: إِن تزوجت فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، وَفِي
(الاستذكار) لم يخْتَلف عَن مَالك أَنه إِن عمم لم يلْزمه.
وَإِن سمى امْرَأَة أَو أَرضًا أَو قَبيلَة لزمَه، وَبِه
قَالَ ابْن أبي ليلى وَالْحسن
(20/246)
بن صَالح وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث، وروى عَن الثَّوْريّ،
وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا عبد الله بن نمير وَأَبُو
أُسَامَة عَن يحيى بن سعيد، قَالَ: كَانَ الْقَاسِم
وَسَالم وَعمر بن عبد الْعَزِيز يرَوْنَ الطَّلَاق جَائِزا
عَلَيْهِ إِذا عين، وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة عَن
عمر بن حَمْزَة أَنه سَأَلَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد وسالما
وَأَبا بكر بن عبد الرَّحْمَن وَأَبا بكر بن مُحَمَّد بن
عَمْرو بن حزم وَعبد الله بن عبد الرَّحْمَن عَن رجل
قَالَ: يَوْم أَتزوّج فُلَانَة فَهِيَ طَالِق الْبَتَّةَ،
فَقَالُوا كلهم: لَا يَتَزَوَّجهَا وَقَالَ أَيْضا:
حَدثنَا حَفْص بن غياث عَن عبيد الله بن عمر، قَالَ:
سَأَلت الْقَاسِم عَن رجل قَالَ: يَوْم أَتزوّج فُلَانَة
فَهِيَ طَالِق، قَالَ: هِيَ طَالِق.
ويُرْوَى فِي ذالِكَ عنْ علِيٍّ وسعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ
وعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ وَأبي بَكْرِ بنِ عبْدِ
الرَّحْمانِ وعُبَيْدِ الله بنِ عبْدِ الله بن عُتْبَةَ
وأبانَ بنِ عُثْمَانَ وعليِّ بنِ حُسَيْنٍ وشَريحٍ
وسَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ والقاسِمِ وسالِمٍ وطاوُوس
والحَسَنِ وعِكْرِمَةَ وعَطاءِ وعامِرِ بنِ سَعْدٍ وجابِرِ
بنِ زَيْدٍ ونافِعِ بنِ جُبَيْرٍ ومَحَمَّدِ بنِ كَعْبٍ
وسُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ ومُجاهِدٍ والقاسِمِ بنِ عبْدِ
الرَّحْمانِ وعَمْرٍ وبنِ هَرِمِ والشَّعْبِيِّ: أنَّها
لَا تَطْلُقُ.
أَي: يرْوى فِي أَن لَا طَلَاق قبل النِّكَاح، عَن عَليّ
بن أبي طَالب إِلَى آخِره، وَذكر الرِّوَايَة عَنْهُم
بِصِيغَة التمريض، وَلَو ثَبت عِنْده فِي ذَلِك خبر
مَرْفُوع صَحِيح لذكره، وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة
وَعِشْرُونَ ذَهَبُوا إِلَى أَن لَا طَلَاق قبل النِّكَاح،
وَهَؤُلَاء كلهم تابعيون، إلاَّ أَوَّلهمْ وَهُوَ عَليّ بن
أبي طَالب، وإلاَّ ابْن هرم فَإِنَّهُ من أَتبَاع
التَّابِعين. أما التَّعْلِيق عَن عَليّ بن أبي طَالب،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن
مُحَمَّد بن فضل عَن لَيْث عَن عبد الْملك بن ميسرَة عَن
النزال عَنهُ، وَأما التَّعْلِيق عَن عُرْوَة فَرَوَاهُ
أَيْضا عَن الثَّقَفِيّ عَن عُرْوَة فَذكره، وَأما
التَّعْلِيق عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث
بن هِشَام فَرَوَاهُ يَعْقُوب بن سُفْيَان وَالْبَيْهَقِيّ
من طَرِيقه عَن يزِيد بن الْهَاد عَن الْمُنْذر بن عَليّ
بن أبي الحكم أَن ابْن أَخِيه خطب ابْنة عَمه، فتشاجروا
فِي بعض الْأَمر فَقَالَ الْفَتى: هِيَ طَالِق إِن نكحتها
حَتَّى آكل الغضيض، قَالَ: والغضيض طلع النّخل الذّكر،
ثمَّ ندموا على مَا كَانَ من الْأَمر، فَقَالَ الْمُنْذر:
أَنا آتيكم بِالْبَيَانِ من ذَلِك، فَانْطَلق إِلَى سعيد
بن الْمسيب فَذكر لَهُ فَقَالَ ابْن الْمسيب: لَيْسَ
عَلَيْهِ شَيْء طلق مَا لَا يملك. وَلَا طَلَاق لَهُ
فِيمَا لَا يملك قَالَ: ثمَّ إِنِّي سَأَلت عُرْوَة بن
الزبير فَقَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ سَأَلت أَبَا سَلمَة بن
عبد الرَّحْمَن فَقَالَ مثل ذَلِك. ثمَّ سَأَلت أَبَا بكر
بن عبد الرَّحْمَن بن هِشَام فَقَالَ مثل ذَلِك، ثمَّ
سَأَلت عبيد الله بن عتيبة بن مَسْعُود فَقَالَ مثل ذَلِك،
ثمَّ سَأَلت عمر بن عبد الْعَزِيز، فَقَالَ: هَل سَأَلت
أحدا؟ قلت: نعم. فسماهم قَالَ: ثمَّ رجعت إِلَى الْقَوْم
فَأَخْبَرتهمْ، وَأما تَعْلِيق عبيد الله بن عبد الله بن
عتيبة فَفِي مَا ذكره يَعْقُوب بن سُفْيَان الْمَذْكُور
الْآن، وَأما تَعْلِيق أبان بن عُثْمَان فَلم يذكرهُ أحد
من الشُّرَّاح، وَأما تَعْلِيق عَليّ بن حُسَيْن بن عَليّ
الْمَشْهُور بزين العابدين فَذكره فِي (الغيلانيات) من
طَرِيق شُعْبَة عَن الحكم هُوَ ابْن عتيبة؛ سَمِعت عَليّ
بن حُسَيْن بن عَليّ يَقُول: (لَا طَلَاق إلاَّ بعد
نِكَاح) ، وَأخرجه أَيْضا ابْن أبي شيبَة عَن غنْدر عَن
شُعْبَة. وَأما تَعْلِيق شُرَيْح القَاضِي فَرَوَاهُ
أَيْضا ابْن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة ووكيع حَدثنَا
شُعْبَة عَن سعيد بن جُبَير عَنهُ، قَالَ: لَا طَلَاق قبل
نِكَاح. وَأما تَعْلِيق سعيد بن جُبَير فَرَوَاهُ ابْن أبي
شيبَة أَيْضا عَن عبد الله بن نمير عَن عبد الْملك بن أبي
سُلَيْمَان عَن سعيد بن جُبَير فِي الرجل يَقُول: يَوْم
أَتزوّج فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، قَالَ: لَيْسَ بِشَيْء،
إِنَّمَا الطَّلَاق بعد النِّكَاح. وَأما تَعْلِيق
الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي (كتاب
النِّكَاح) لَهُ عَن هشيم، وَيزِيد بن هَارُون كِلَاهُمَا
عَن يحيى بن سعيد، قَالَ: كَانَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد
وَسَالم بن عبد الله بن عمر وَعمر بن عبد الْعَزِيز لَا
يرَوْنَ الطَّلَاق قبل النِّكَاح. وَأما تَعْلِيق سَالم بن
عبد الله فَهُوَ الْمَذْكُور الْآن وَأما تَعْلِيق طَاوُوس
فَرَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة أَيْضا عَن مُعْتَمر عَن
لَيْث عَن عَطاء. وطاووس بِهِ. وَأما تَعْلِيق الْحسن
فَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الْحسن وَقَتَادَة
قَالَا: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح وَلَا عتق قبل الْملك.
وَأما تَعْلِيق عِكْرِمَة فَرَوَاهُ أَبُو بكر الْأَثْرَم
عَن الْفضل بن دُكَيْن عَن سُوَيْد بن نجيح، قَالَ: سَأَلت
عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. قلت: رجل قَالُوا لَهُ: تزوج
فُلَانَة
(20/247)
قَالَ: هِيَ يَوْم أَتَزَوَّجهَا طَالِق.
كَذَا، وَكَذَا قَالَ: إِنَّمَا الطَّلَاق بعد النِّكَاح.
وَأما تَعْلِيق عَطاء فقد مر مَعَ طَاوُوس. وَأما تَعْلِيق
عَامر بن سعد، قيل: البَجلِيّ الْكُوفِي من كبار
التَّابِعين. فَلم أَقف على أَثَره. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
هُوَ عَامر بن سعد بن أبي وَقاص، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ
نظر. قلت: لم يذكر صَاحب (رجال الصَّحِيحَيْنِ) عَامر بن
سعد البَجلِيّ هَذَا، وَالظَّاهِر أَنه عَامر بن سعد بن
أبي وَقاص فَإِنَّهُ أَيْضا من كبار التَّابِعين. وَأما
تَعْلِيق جَابر بن زيد وَهُوَ أَبُو الشعْثَاء الْبَصْرِيّ
فَأخْرجهُ سعيد بن مَنْصُور من طَرِيقه وَأما تَعْلِيق
نَافِع بن جُبَير بن مطعم وَمُحَمّد بن كَعْب الْقرظِيّ
فَأخْرجهُ ابْن أبي شيبَة عَن جَعْفَر بن عون عَن أُسَامَة
بن زيد عَنْهُمَا قَالَا: لَا طَلَاق إلاَّ بعد نِكَاح
وَأما تَعْلِيق سُلَيْمَان بن يسَار فَأخْرجهُ سعيد بن
مَنْصُور عَن عتاب بن بشير عَن خصيف عَن سُلَيْمَان بن
يسَار أَنه حلف فِي امْرَأَة إِن تزَوجهَا فَهِيَ طَالِق،
فَتَزَوجهَا فَأخْبر بذلك عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ أَمِير على الْمَدِينَة، فَأرْسل
إِلَيْهِ: بَلغنِي أَنَّك حَلَفت فِي كَذَا؟ قَالَ: نعم
قَالَ: أَفلا تخلي سَبِيلهَا؟ قَالَ؛ لَا، فَتَركه عَمْرو
وَلم يفرق بَينهمَا. وَأما تَعْلِيق مُجَاهِد فَرَوَاهُ
ابْن أبي شيبَة من طَرِيق الْحُسَيْن بن الرماح، سَأَلت
سعيد بن الْمسيب ومجاهدا وَعَطَاء عَن رجل قَالَ: يَوْم
أَتزوّج فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، فكلهم قَالُوا: لَيْسَ
بِشَيْء زَاد سعيد: أَيكُون سيل قبل مطر؟ وَأما تَعْلِيق
الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن مَسْعُود
فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن مَعْرُوف بن
وَاصل، قَالَ: سَأَلت الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن،
فَقَالَ: لَا طَلَاق إلاَّ بعد نِكَاح. وَأما تَعْلِيق
عَمْرو بن هرم الْأَزْدِيّ، من أَتبَاع التَّابِعين،
فَأخْرجهُ أَبُو عبيد من طَرِيقه، قَالَه بعض الشُّرَّاح.
وَأما تَعْلِيق عَامر الشّعبِيّ فَرَوَاهُ وَكِيع عَن
مَنْصُور عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن الشّعبِيّ.
أَنه قَالَ: كل امْرَأَة تزَوجهَا فَهِيَ طَالِق، فَلَيْسَ
بِشَيْء وَإِذا وَقت لزمَه، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت
البُخَارِيّ وَقد ذكر هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين بصيعة
التمريض وَنسب جَمِيع من ذكر عَنْهُم إِلَى القَوْل
بِعَدَمِ الْوُقُوع مُطلقًا مَعَ أَن فِي بعض من ذكر عَنهُ
تَفْصِيلًا، وَفِي سَنَد الْبَعْض كلَاما على مَا نشِير
إِلَى الْبَعْض.
فَنَقُول: أثر عَليّ بن أبي طَالب رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق
من طَرِيق الْحسن الْبَصْرِيّ، وَالْحسن لم يسمع من عَليّ.
وَأما رِوَايَة ابْن أبي شيبَة عَن عبد الْملك بن ميسرَة
ضعفه يحيى بن معِين، فَإِن قلت: أخرج ابْن مَاجَه عَن
جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن النزار بن سُبْرَة عَن عَليّ
بن أبي طَالب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: لَا طَلَاق قبل النِّكَاح. قلت: جُوَيْبِر بن سعيد
الْبَلْخِي ضَعِيف. فَإِن قلت: روى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا
أَحْمد بن منيع حَدثنَا حَدثنَا هشيم عَامر الْأَحول عَن
عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده. قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا نذر لإبن آدم
فِيمَا لَا يملك وَلَا عتق لَهُ فِيمَا لَا يملك. وَقَالَ:
حَدِيث عبد الله بن عَمْرو حَدِيث حسن صَحِيح، وَهُوَ أحسن
شَيْء رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب. قلت: رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَابْن مَاجَه أَيْضا، وَفِي رِوَايَة عَمْرو بن
شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده كَلَام كثير فَمن النَّاس من
رده فَعَن أَحْمد: عَمْرو بن شُعَيْب لَهُ أَشْيَاء
مَنَاكِير، وَإِنَّمَا يكْتب حَدِيثه وَيعْتَبر بِهِ
فَأَما أَن يكون حجَّة فَلَا. وَقَالَ أَبُو عبيد
الْآجُرِيّ: قيل لأبي دَاوُد عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه
عَن جده، قَالَ: لَا وَلَا نصف حجَّة. وَقَالَ
البُخَارِيّ: رَأَيْت أَحْمد بن حَنْبَل، وَعلي بن
الْمَدِينِيّ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبا عبيد
وَعَامة أَصْحَابنَا يحتجون بِحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب
عَن أَبِيه عَن جده: مَا تَركه أحد من الْمُسلمين قَالَ
البُخَارِيّ من النَّاس بعدهمْ، وَأجَاب أَصْحَابنَا بعد
التَّسْلِيم بِصِحَّتِهِ. أَنا أَيْضا قَائِلُونَ
بِأَنَّهُ لَا طَلَاق للرجل فِيمَا لَا يملك، وَوُقُوع
الطَّلَاق فِيمَا قُلْنَا بعد أَن يملك بِالتَّزْوِيجِ
الْمُعَلق فَيكون الطَّلَاق بعد النِّكَاح، كَمَا ذكرنَا
فِي أول الْبَاب، وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ هَذَا الحَدِيث
قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ ومعاذ بن جبل وَجَابِر
وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
قلت: حَدِيث عَليّ قد ذَكرْنَاهُ، وَحَدِيث معَاذ بن جبل
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة عبد الحميد وَهُوَ
ابْن رواد عَن ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن
طَاوُوس عَن معَاذ بن جبل أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا طَلَاق قبل نِكَاح وَلَا نذر
فِيمَا لَا يملك. قلت: وطاووس عَن معَاذ مُنْقَطع،
وَرَوَاهُ أَيْضا من رِوَايَة يزِيد بن عِيَاض عَن
الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن معَاذ بن جبل، قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا طَلَاق
إلاَّ بعد نِكَاح، وَإِن سميت الْمَرْأَة بِعَينهَا. قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: يزِيد بن عِيَاض ضَعِيف، وَقَالَ
شَيخنَا: ابْن الْمسيب عَن معَاذ مُرْسل، وَرَوَاهُ ابْن
عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة عمر بن عَمْرو السقلاني
عَن أبي فَاطِمَة النَّخعِيّ عَن ثَوْر بن يزِيد عَن
خَالِد بن معدان عَن معَاذ بن جبل مَرْفُوعا لإِطْلَاق
إلاَّ بعد ملك، وَعمر بن عَمْرو
(20/248)
يروي الموضوعات، وَأَبُو فَاطِمَة لَا
يعرف. وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي
(الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَن عَطاء عَن
جَابر قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُول: لَا طَلَاق لمن لم يملك وَلَا عتاق لمن لم يملك.
وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم
يخرجَاهُ. قلت: قَالَ شَيخنَا: وَاخْتلف فِي عَليّ بن أبي
ذِئْب فَرَوَاهُ أَبُو مجلز الْحَنَفِيّ هَكَذَا،
وَخَالفهُ وَكِيع فَرَوَاهُ عَنهُ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر
عَن جَابر يرفعهُ. وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَأخْرجهُ
الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة سُلَيْمَان بن أبي
سُلَيْمَان عَن يحيى بن أبي كثير عَن طَاوُوس عَن ابْن
عَبَّاس قَالَ: قَالَ رسو الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
لَا نذر إلاَّ فِيمَا أطيع الله فِيهِ وَلَا يَمِين فِي
قطيعة رحم وَلَا عتاق وَلَا طَلَاق فِيمَا لَا يملك. قلت:
ذكره عبد الْحق فِي أَحْكَامه من جِهَة الدَّارَقُطْنِيّ،
وَقَالَ: إِسْنَاده ضَعِيف، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: وعلته
سُلَيْمَان بن أبي سُلَيْمَان فَإِنَّهُ شيخ ضَعِيف
الحَدِيث، قَالَه أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ، وَقَالَ صَاحب
(التَّنْقِيح) : هَذَا حَدِيث لَا يَصح فَإِن سُلَيْمَان
بن أبي سُلَيْمَان بن دَاوُد الْيَمَانِيّ مُتَّفق على
ضعفه، وَقَالَ ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ
البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ ابْن عدي: عَامَّة
مَا يرويهِ لَا يُتَابع عَلَيْهِ وَأما حَدِيث عَائِشَة
فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة الْوَلِيد بن
سَلمَة الْأَزْدِيّ عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن غروة
عَن عَائِشَة، قَالَت: بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أَبَا سُفْيَان بن حَرْب فَكَانَ فِيمَا عهد
إِلَيْهِ أَن لَا يُطلق الرجل مَا يتَزَوَّج وَلَا يعْتق
مَا لَا يملك قلت: قَالَ: فِي (التَّنْقِيح) : الْوَلَد بن
سَلمَة الْأَزْدِيّ قَالَ ابْن حبَان كَانَ يضع الحَدِيث.
فَإِن قلت: وَفِي الْبَاب عَن الْمسور بن مخرمَة وَعبد
الله بن عَمْرو وَأبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي. أما حَدِيث
الْمسور فَأخْرجهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة هِشَام بن سعد
المَخْزُومِي عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن الْمسور بن
مخرمَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا
طَلَاق قبل النِّكَاح وَلَا عتق قبل ملك قلت: أوردهُ ابْن
عدي فِي (الْكَامِل) فِي تَرْجَمَة هِشَام بن سعد وَضَعفه،
وَقَالَ: رَوَاهُ مرّة مَرْفُوعا وَمرَّة عَن عُرْوَة
مُرْسلا وَأما حَدِيث عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ
الدَّارَقُطْنِيّ من رِوَايَة أبي خَالِد الوَاسِطِيّ عَن
أبي هَاشم الرماني عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عمر عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه سُئِلَ عَن رجل
قَالَ يَوْم أَتزوّج فُلَانَة فَهِيَ طَالِق، قَالَ: طلق
مَا لَا يملك. قَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) هَذَا حَدِيث
بَاطِل، وَأَبُو خَالِد الوَاسِطِيّ هُوَ عَمْرو بن خَالِد
وضَّاع. وَقَالَ أَحْمد وَيحيى: كَذَّاب. وَأما حَدِيث أبي
ثَعْلَبَة الْخُشَنِي فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن
عَليّ بن قرين حَدثنَا بَقِيَّة عَن الثور بن يزِيد عَن
خَالِد بن معدان عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي قَالَ:
قَالَ عَم لي: أعمل لي عملا حَتَّى أزَوجك ابْنَتي
فَقَالَ: إِن تزوجهتا فَهِيَ طَالِق ثَلَاثًا ثمَّ بدا لي
أَن أَتَزَوَّجهَا، فَأتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَسَأَلته، فَقَالَ: تزَوجهَا فَإِنَّهُ لَا طَلَاق
إلاَّ بعد النِّكَاح، قَالَ: فتزوجتها فَولدت لي سَعْدا
وسعيدا. قلت: قَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) : هَذَا أَيْضا
بَاطِل، وَعلي بن قرين كذبه يحيى بن معِين وَغَيره،
وَقَالَ ابْن عدي: يسرق الحَدِيث. قلت: أَبُو ثَعْلَبَة
الْخُشَنِي اخْتلف فِي اسْمه وَفِي اسْم أَبِيه اخْتِلَافا
كثيرا. فَقيل: اسْمه جرهم، وَقيل: جر ثوم. وَقيل: ابْن
ناشب، وَقيل: ابْن ناشم وَقيل: بل اسْمه عَمْرو بن جر ثوم،
وَقيل غير ذَلِك، وَلم يَخْتَلِفُوا فِي صحبته، وَقَالَ
أَبُو عمر: بَايع تَحت الشَّجَرَة ثمَّ نزل الشَّام وَمَات
فِي خِلَافه مُعَاوِيَة، ونسبته إِلَى خشين بِضَم الْخَاء
وَفتح الشين المعجمتين وَهُوَ وَائِل بن الثَّمر بن وبرة
بن ثَعْلَبَة بن حلوان بن عمرَان بن ألحاف بن قضاعة،
وَالله أعلم.
01 - (بابٌ إِذا قَالَ لامْرأتِهِ وهْوَ مُكْرَهٌ هاذِهِ
أُخْتِي، فَلاَ شيءَ عليْهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من قَالَ لامْرَأَته،
وَالْحَال أَنه مكره: هَذِه أُخْتِي، فَلَا شَيْء
عَلَيْهِ، يَعْنِي: لَا يكون طَلَاقا وَلَا ظِهَارًا.
قَالَ إبْراهيمُ لِسَارَةَ هاذِهِ أخْتِي، وَذَلِكَ فِي
ذَات الله عز وَجل.
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم خَلِيل الله عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لزوجته سارة أم إِسْحَاق عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام وَوَقع فِي (شرح الْكرْمَانِي) : أم
إِسْمَاعِيل، وَهُوَ خطأ، وَالظَّاهِر أَنه من النَّاسِخ،
وَأم إِسْمَاعِيل هَاجر وَسَارة ابْنة عَم إِبْرَاهِيم
هاران أُخْت لوط، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَلقَوْل إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
هَذِه أُخْتِي قصَّة، وَهِي أَن الشَّام وَقع فِيهِ قحط
فَسَار إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى
مصر وَمَعَهُ سارة وَلُوط،، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَكَانَ بهَا فِرْعَوْن وَهُوَ أول الفراعنة
عَاشَ دهرا طَويلا، وَكَانَت سارة من أجمل النِّسَاء،
فَأتى إِلَى فِرْعَوْن رجل وَأخْبرهُ بِأَنَّهُ قدم رجل
وَمَعَهُ امْرَأَة من أحسن
(20/249)
النِّسَاء فَأرْسل إِلَى إِبْرَاهِيم،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: مَا هَذِه
الْمَرْأَة مِنْك؟ قَالَ: أُخْتِي وَخَافَ أَن يَقُول لَهُ
هَذِه امْرَأَتي أَن يقْتله، فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ
أَهْوى إِلَيْهَا بِيَدِهِ فيبست إِلَى صَدره، فَقَالَ
لَهَا: سَلِي إلهك أَن يُطلق عني فَقَالَت سارة أللهم إِن
كَانَ صَادِقا فَأطلق لَهُ يَده، فأطلقها الله، قيل: فعل
ذَلِك مَرَّات، فَلَمَّا رأى ذَلِك ردهَا إِلَى
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ووهب لَهَا
هَاجر وَهِي جَارِيَة قبطية. قَوْله: (وَذَلِكَ فِي ذَات
الله تَعَالَى) أَي: قَول إِبْرَاهِيم لسارة: أُخْتِي لرضا
الله تَعَالَى، لِأَنَّهَا كَانَت أُخْته فِي الدّين وَلم
يكن يَوْمئِذٍ مُسلم غَيره وَغير سارة وَلُوط، وَقَالَ
ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا التَّبْوِيب رد
قَول من نهى أَن يَقُول الرجل لامْرَأَته: يَا أُخْتِي،
فَمن قَالَ لامْرَأَته كَذَلِك وَهُوَ يَنْوِي مَا نَوَاه
إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَا
يضرّهُ شَيْء قَالَ أَبُو يُوسُف: إِن لم يكن لَهُ نِيَّة
فَهُوَ تَحْرِيم، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: هُوَ ظِهَار
إِذا لم يكن لَهُ نِيَّة، ذكره الْخطابِيّ، وَقَالَ
بَعضهم: وَقيد البُخَارِيّ بِكَوْن قَائِل ذَلِك إِذا
كَانَ مكْرها لم يضرّهُ، وَتعقبه بعض الشُّرَّاح بِأَنَّهُ
لم يَقع فِي قصَّة إِبْرَاهِيم إِكْرَاه، وَهُوَ كَذَلِك.
قلت: لَا تعقب على البُخَارِيّ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذكر
قصَّة إِبْرَاهِيم الِاسْتِدْلَال على أَن من قَالَ ذَلِك
فِي حَالَة الْإِكْرَاه لَا يضرّهُ، قِيَاسا على مَا وَقع
فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
قلت: قَوْله: وَهُوَ كَذَلِك، لَيْسَ كَذَلِك لِأَن
إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ
يتَحَقَّق أَن هَذَا الفرعون كَانَ يقتل من خَالفه فِيمَا
يردهُ، وَكَانَ حَاله فِي ذَلِك الْوَقْت مثل حَال
الْمُكْره، بل أقوى، لشدَّة كفر هَذ الفرعون وَشدَّة ظلمه
وتعذيبه لمن يُخَالِفهُ بِأَدْنَى شَيْء فَكيف إِذا خَالفه
من حَاله فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة؟ وَالله أعلم.
11 - (بابُ الطَّلاقِ فِي الإغْلاقِ والكُرْهِ
والسَّكْرَانِ والمَجْنُونِ وأمْرِهما والغَلَطِ
والنِّسْيان فِي الطَّلاَقِ والشِّرْكِ وغيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الإغلاق أَي: الْإِكْرَاه،
لِأَن الْمُكْره يغلق عَلَيْهِ فِي أمره. وَيُقَال:
كَأَنَّهُ يغلق عَلَيْهِ الْبَاب ويضيق عَلَيْهِ حَتَّى
يُطلق. وَقيل: لَا يُطلق التطليقات فِي دفْعَة وَاحِدَة
حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُ شَيْء، لَكِن يُطلق طَلَاق
السّنة. وَفِي (الْمُحكم) وَغَيره: احتد فلَان فنشب فِي
حِدته وغلق فِي (الْجَامِع) : غلق إِذا غضب غَضبا شَدِيدا،
وَلما ذكر الْفَارِسِي فِي كِتَابه (مجمع الغرائب) قَول من
قَالَ: الإغلاق الْغَضَب، قَالَ: هَذَا غلط لِأَن أَكثر
طَلَاق النَّاس فِي الْغَضَب إِنَّمَا هُوَ الْإِكْرَاه،
وَأخرج أَبُو دَاوُد حَدِيث عَائِشَة: (لَا طَلَاق وَلَا
عتاق فِي إغلاق) ، قَالَ أَبُو دَاوُد: الغلاق أَظُنهُ
الْغَضَب، وَترْجم على الحَدِيث الطَّلَاق على غيظ، وَوَقع
عِنْده بِغَيْر ألف فِي أَوله، وَحكى الْبَيْهَقِيّ أَنه
روى بِالْوَجْهَيْنِ، فَوَقع عِنْد ابْن مَاجَه فِي هَذَا
الحَدِيث: الإغلاق، بِالْألف، وَترْجم عَلَيْهِ: طَلَاق
الْمُكْره، وَقَالَ ابْن المرابط: الإغلاق حرج النَّفس
وَلَيْسَ يَقع على أَن مرتكبه فَارق عقله حَتَّى صَار
مَجْنُونا فيدعى أَنه كَانَ فِي غير عقله، وَلَو جَازَ
هَذَا لَكَانَ لكل وَاحِد من خلق الله عز وَجل مِمَّن يجوز
عَلَيْهِ الْحَرج أَن يَدعِي فِي كل مَا جناه أَنه كَانَ
فِي حَال إغلاق فَتسقط عَنهُ الْحُدُود وَتصير الْحُدُود
خَاصَّة لَا عَامَّة لغير الْحَرج، وَقَالَ ابْن بطال:
فَإِذا ضيق على الْمُكْره وشدد عَلَيْهِ لم يَقع حكم
طَلَاقه، فَكَأَنَّهُ لم يُطلق. وَفِي (مُصَنف ابْن أبي
شيبَة) : أَن الشّعبِيّ كَانَ يرى طَلَاق الْمُكْره
جَائِزا، وَكَذَا قَالَه إِبْرَاهِيم وَأَبُو قلَابَة
وَابْن الْمسيب وَشُرَيْح. وَقَالَ ابْن حزم: وَصَحَّ
أَيْضا عَن الزُّهْرِيّ وَقَتَادَة وَسَعِيد بن جُبَير.
وَبِه أَخذ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه، وروى الْفرج بن
فضَالة عَن عَمْرو بن شرَاحِيل أَن امْرَأَة أكرهت زَوجهَا
على طَلاقهَا فَطلقهَا، فَرفع ذَلِك إِلَى عمر فَأمْضى
طَلاقهَا. وَعَن ابْن عمر نَحوه، وَكَذَا عَن عمر بن عبد
الْعَزِيز، وَأما من لم يره شَيْئا فعلي بن أبي طلب وَابْن
عمر وَابْن الزبير وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء
وَالْحسن بن أبي الْحسن وَعبد الله بن عَبَّاس وَعمر بن
الْخطاب وَالضَّحَّاك. قَالَ ابْن حزم: وَصَحَّ أَيْضا عَن
طَاوُوس وَجَابِر بن زيد قَالَ: وَهُوَ قَول مَالك
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن بن حيى وَالشَّافِعِيّ وَأبي
سُلَيْمَان وأصحابهم، وَعَن إِبْرَاهِيم تَفْصِيل آخر،
وَهُوَ أَنه: إِن ورى الْمُكْره لم يَقع، وإلاَّ وَقع.
وَقَالَ الشّعبِيّ: إِن أكرهه اللُّصُوص وَقع وَإِن أكرهه
السُّلْطَان فَلَا، أخرجه ابْن أبي شيبَة. قَوْله:
(والكره) بِضَم الْكَاف وسكوت الرَّاء فِي النّسخ كلهَا
وَهُوَ بِالْجَرِّ ظَاهره أَنه عطف على قَوْله: (فِي
الإغلاق) لَكِن هَذَا لَا يَسْتَقِيم إلاَّ إِذا فسر
الإغلاق بِالْغَضَبِ كَمَا فسره أَبُو دَاوُد وَترْجم
عَلَيْهِ بقوله: الطَّلَاق على غيظ. وَلَكِن فِي رِوَايَته
الغلاق، بِدُونِ الْألف فِي أَوله. وَقد فسروه أَيْضا مَعَ
وجود الْألف فِي أَوله بِالْغَضَبِ، وَلَكِن إِن قدر قبل
الْكَاف مِيم لِأَنَّهُ
(20/250)
عطف عَلَيْهِ لفظ السَّكْرَان فيستقيم
الْكَلَام وَيكون الْمَعْنى: بَاب حكم الطَّلَاق فِي
الإغلاق وَحكم الْمُكْره والسكران إِلَى آخِره، فَهَذِهِ
التَّرْجَمَة تشْتَمل على أَحْكَام وَلم يذكرهَا اكْتِفَاء
بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذكره.
أما حكم الطَّلَاق فِي الْغَضَب فَإِنَّهُ يَقع، وَفِي
رِوَايَة عَن الْحَنَابِلَة إِنَّه لَا يَقع، قيل:
وَأَرَادَ البُخَارِيّ بذلك الرَّد على مَذْهَب من يرى أَن
الطَّلَاق فِي الْغَضَب لَا يَقع، وَأما حكم الْإِكْرَاه
فقد مر، وَأما طَلَاق السَّكْرَان هَل يَقع أم لَا؟ فَإِن
النَّاس اخْتلفُوا فِيهِ، فَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّه لَا
يَقع، عُثْمَان بن عَفَّان وَجَابِر بن زيد وَعَطَاء
وطاووس وَعِكْرِمَة وَالقَاسِم وَعمر بن عبد الْعَزِيز،
ذكره ابْن أبي شيبَة، وَزَاد ابْن الْمُنْذر عَن ابْن
عَبَّاس وَرَبِيعَة وَاللَّيْث وَإِسْحَاق والمزني،
وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ، وَذهب مُجَاهِد إِلَى أَن
طَلَاقه يَقع، وَكَذَا قَالَه مُحَمَّد وَالْحسن وَسَعِيد
بن الْمسيب وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد النَّخعِيّ وَمَيْمُون
بن مهْرَان وَحميد بن عبد الرَّحْمَن وَسليمَان بن يسَار
وَالزهْرِيّ وَالشعْبِيّ وَسَالم بن عبد الله
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي
حنيفَة، وَاخْتلف فِيهِ قَول الشَّافِعِي، فَأَجَازَهُ
مرّة وَمنعه أُخْرَى، وألزمه مَالك الطَّلَاق والقود من
الْجراح وَمن الْقَتْل وَلم يلْزمه النِّكَاح وَالْبيع،
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَقُول السَّكْرَان وعقوده كلهَا
ثَابِتَة كَفعل الصاحي إلاَّ الردَّة فَإِذا ارْتَدَّ لَا
تبين امْرَأَته اسْتِحْسَانًا، قَالَ أَبُو يُوسُف: يكون
مُرْتَدا فِي حَال سكره وَهُوَ قَول الشَّافِعِي إلاَّ
إِنَّا لَا نَقْتُلهُ فِي حَال سكره وَلَا نستتيبه، وَأما
الْمَجْنُون فالإجماع وَاقع على أَن طَلَاق الْمَجْنُون
وَالْمَعْتُوه وَاقع، وقا لمَالِك: وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون
الَّذِي يفِيق أَحْيَانًا يُطلق فِي حَال جُنُونه والمبرسم
قد رفع عَنهُ الْقَلَم لغَلَبَة الْعلم بِأَنَّهُ فَاسد
الْمَقَاصِد، وَأما حكم طَلَاق الغالط أَو النَّاسِي
فَإِنَّهُ وَاقع، وَهُوَ قَول عَطاء وَالشَّافِعِيّ فِي
قَول، وَإِسْحَاق وَمَالك وَالثَّوْري وَابْن أبي ليلى
وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيين، وَعَن الْحسن: أَن النَّاسِي
كالعامد إلاَّ أَن اشْترط فَقَالَ: إلاَّ أَن أنسي، وَأما
المخطىء فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه لَا يَقع طَلَاقه،
وَعند الْحَنَفِيَّة إِذا أَرَادَ رجل أَن يَقُول
لامْرَأَته شَيْئا فَسبق لِسَانه، فَقَالَ: أَنْت طَالِق،
يلْزمه الطَّلَاق.
قَوْله: (وَأَمرهمَا) أَي: أَمر السَّكْرَان
وَالْمَجْنُون، أَي: فِي بَيَان أَمرهمَا من أقوالهما
وأفعالهما هَل حكمهمَا وَاحِد أَو مُخْتَلف؟ على مَا
يَجِيء. قَوْله: (والغلط وَالنِّسْيَان) أَي: وَفِي بَيَان
الْغَلَط وَالنِّسْيَان الحاصلين فِي الطَّلَاق، أَرَادَ
أَنه لَو وَقع من الْمُكَلف مَا يَقْتَضِي الطَّلَاق غَلطا
أَو نِسْيَانا. قَوْله: (والشرك) ، أَي؛ وَفِي بَيَان
الشّرك لَو وَقع من الْمُكَلف مَا يَقْتَضِي الشّرك غَلطا
أَو نِسْيَانا هَل يحكم عَلَيْهِ بِهِ؟ وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) وَقع فِي كثير من النّسخ: وَالنِّسْيَان فِي
الطَّلَاق والشرك بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون
الرَّاء فَهُوَ خطأ وَالصَّوَاب فِي الشَّك، مَكَان
الشّرك. قلت: سبقه بِهَذَا ابْن بطال حَيْثُ قَالَ: وَقع
فِي كثير من النّسخ. وَالنِّسْيَان فِي الطَّلَاق والشرك
وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب: وَالشَّكّ مَكَان الشّرك، وَأما
طَلَاق الْمُشرك فجَاء عَن الْحسن وَقَتَادَة وَرَبِيعَة
أَنه لَا يَقع، وَنسب إِلَى مَالك وَدَاوُد، وَذهب
الْجُمْهُور إِلَى أَنه يُوقع كَمَا يَصح نِكَاحه وعتقه
وَغير ذَلِك من أَحْكَامه. قَوْله: (وَغَيره) قَالَ
بَعضهم: أَي: وَغير الشّرك مِمَّا هُوَ دونه. قلت: لَيْسَ
مَعْنَاهُ كَذَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: وَغير الْمَذْكُور
من الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة نَحْو الْخَطَأ وَسبق
اللِّسَان والهزل، وَقد ذكرنَا الْآن حكم الْخَطَأ وَسبق
اللِّسَان، وَأما حكم الهازل فِي طَلَاقه ونكاحه ورجعته
فَإِنَّهُ يُؤْخَذ بِهِ، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَوْله: (كنت
هازلاً) وَلَا يدين أَيْضا فِيمَا بَينه وَبَين الله
تَعَالَى، وَذَلِكَ لما روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ثَلَاث جدهن جد وهزلهن جد: النِّكَاح وَالطَّلَاق
وَالرَّجْعَة، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن
غَرِيب وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاعْلَم أَنه ذكر
هَذِه الْأَشْيَاء وَلم يذكر مَا الْجَواب فِيهَا
اكْتِفَاء بقوله.
لقَوْلِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الأعْمَالُ
بالنِّيَّةِ ولِكُلِّ امْرىءٍ مَا نَوى
أَشَارَ بِهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي سبق ذكره فِي
أول الْكتاب على اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ أَن
الِاعْتِبَار فِي الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة النِّيَّة،
لِأَن الحكم فِي الأَصْل إِنَّمَا يتَوَجَّه على الْعَاقِل
الْمُخْتَار الْعَامِد الذاكر وَالْمكْره غير مُخْتَار
والسكران غير عَاقل فِي سكره، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون فِي
حَال جُنُونه، والغالط وَالنَّاسِي غير ذاكرين، وَقد
ذكرنَا الْأَحْكَام فِيهَا مستقصاة.
وتلاَ الشَّعْبِيُّ: { (2) لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا
أَو أَخْطَأنَا} (الْبَقَرَة: 682)
(20/251)
أَي: قَرَأَ عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ
هَذِه الْآيَة لما سُئِلَ عَن طَلَاق النَّاسِي والمخطىء،
وَاحْتج بهَا على عدم وُقُوع طَلَاق النَّاسِي والمخطىء،
وَجه الِاسْتِدْلَال بهَا ظَاهر.
وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ إقْرَارِ المُوسْوِس
هُوَ عطف على قَوْله: الطَّلَاق فِي الإغلاق،
وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان مَا لَا يجوز من إِقْرَار
الموسوس على صِيغَة الْفَاعِل وسوس توسوس نَفسه إِلَيْهِ،
والوسوسة حَدِيث النَّفس وَلَا مُؤَاخذَة بِمَا يَقع فِي
النَّفس.
وَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِلَّذِي أقَرَّ
علَى نفْسِهِ أبِكَ جُنُونٌ؟
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الِاسْتِدْلَال بِهِ فِي عدم وُقُوع
طَلَاق الْمَجْنُون، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث أخرجه فِي
المتحاربين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: أَتَى رجلٌ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِد
فناداه، فَقَالَ: يَا رَسُول الله! إِنِّي زَنَيْت،
فَأَعْرض عَنهُ حَتَّى ردده عَلَيْهِ أَربع مَرَّات،
فَلَمَّا شهد على نَفسه أَربع شَهَادَات دَعَاهُ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أبك جُنُون؟ فَقَالَ:
لَا ... الحَدِيث، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ فِي
مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى قَوْله: (للَّذي أقرّ)
أَي: الرجل الَّذِي أقرّ على نَفسه بِالزِّنَا، وَإِنَّمَا
قَالَ لَهُ: أبك جُنُون؟ لِأَنَّهُ لَو كَانَ ثَبت عَنهُ
أَنه مَجْنُون كَانَ أسقط الْحَد عَنهُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ: بقَر حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شارِفَيَّ،
فَطَفِقَ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَلُومُ
حَمْزَةَ، فإذَا حَمْزَةُ قدْ ثَمِلَ مُحَمَرَةٌ عَيْنَاهُ
ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ هَلْ أنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لأبي؟
فَعَرَفَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ ثَمِلَ،
فَخَرَجَ وخَرَجْنَا معَهُ.
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الِاسْتِدْلَال بِأَن السَّكْرَان
لَا يُؤَاخذ بِمَا صدر مِنْهُ فِي حَال سكره من طَلَاق
وَغَيره، وَعلي هُوَ ابْن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ،
وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث قد مَضَت فِي غَزْوَة بدر فِي
بَاب مُجَرّد عقيب: بَاب شُهُود الْمَلَائِكَة بَدْرًا.
مطولا. قَوْله: (بقر) بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَتَخْفِيف الْقَاف أَي: شقّ قَوْله: (خواصر) جمع خاصرة.
قَوْله: (شارفي) تَثْنِيَة شَارف أضيف إِلَى يَاء
الْمُتَكَلّم وَالْفَاء الْمَفْتُوحَة وَالْيَاء
مُشَدّدَة، والشارف بالشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء
وَهِي المسنة من النوق قَوْله: (فَطَفِقَ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: شرع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يلوم حَمْزَة بن عبد الْمطلب على فعله هَذَا قَوْله
فَإِذا كلمة مفاجأة وَحَمْزَة مُبْتَدأ وَقد ثمل خَبره
بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكسر الْمِيم أَي: قد
أَخذه الشَّرَاب وَالرجل ثمل بِكَسْر الْمِيم أَيْضا،
وَلكنه فِي الحَدِيث مَاض فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَفِي
قَوْلنَا: الرجل ثمل، صفة مشبهة فَافْهَم، ويروى: فَإِذا
حَمْزَة ثمل، على صِيغَة الصّفة المشبهة فَافْهَم. قَوْله:
(محمرة عَيناهُ) خبر بعد خبر وَيجوز أَن يكون حَالا
فَحِينَئِذٍ تنصب محمرة، قَوْله: (فَخرج) أَي: النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عِنْد حَمْزَة وَخَرجْنَا
مَعَه. وَاعْترض الْمُهلب بِأَن الْخمر حِينَئِذٍ كَانَت
مُبَاحَة، قَالَ: فبذلك سقط عَنهُ حكم مَا نطق بِهِ فِي
تِلْكَ الْحَال، قَالَ: وبسب هَذِه الْقِصَّة كَانَ
تَحْرِيم الْخمر، ورد عَلَيْهِ بِأَن الِاحْتِجَاج
بِهَذِهِ الْقِصَّة إِنَّمَا هُوَ بِعَدَمِ مُؤَاخذَة
السَّكْرَان. لما يصدر مِنْهُ، وَلَا يفْتَرق الْحَال بَين
أَن يكون الشّرْب فِيهِ مُبَاحا أَولا، وبسبب هَذِه القسعة
كَانَ تَحْرِيم الْخمر، غير صَحِيح، لِأَن قصَّة الشارفين
كَانَت قبل أحد اتِّفَاقًا، لِأَن حَمْزَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، اسْتشْهد بِأحد وَكَانَ ذَلِك بَين بدر
وَأحد عِنْد تَزْوِيج عَليّ بفاطمة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، وَقد ثَبت فِي (الصَّحِيح) أَن جمَاعَة اصطحبوا
الْخمر يَوْم أحد واستشهدوا فِي ذَلِك الْيَوْم، فَكَانَ
تَحْرِيم الْخمر بعد أحد لهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح.
وَقَالَ عُثْمانُ لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ
طلاقٌ
أَي: قَالَ عُثْمَان بن عَفَّان أَمِير الْمُؤمنِينَ:
لَيْسَ لمَجْنُون وَلَا لسكران طَلَاق، يَعْنِي: لَا يَقع
طلاقهما، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع بِسَنَد
صَحِيح: حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن الزُّهْرِيّ عَن أبان
بن عُثْمَان عَنهُ بِلَفْظ: كَانَ لَا يُجِيز طَلَاق
السَّكْرَان وَالْمَجْنُون، وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز
يُجِيز ذَلِك جتى حَدثهُ أبان بِهَذَا.
قَالَ ابنُ عبّاس: طَلاَقُ السَّكْرَانِ والمُسْتَكْرَهِ
ليْسَ بجَائِزٍ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح:
عَن هشيم عَن عبد الله بن طَلْحَة الْخُزَاعِيّ عَن أبي
يزِيد الْمَدِينِيّ عَن عِكْرِمَة
(20/252)
عَن ابْن عَبَّاس بِلَفْظ: لَيْسَ لسكران
وَلَا لمضطهد طَلَاق، يَعْنِي المغلوب المقهور والمضطهد
بضاد مُعْجمَة سَاكِنة ثمَّ طاء مُهْملَة مَفْتُوحَة ثمَّ
هَاء ثمَّ دَال مُهْملَة. قَوْله: (لَيْسَ بجائز) لَيْسَ
باقع.
وَقَالَ عُقْبَةُ بنُ عامِر: لَا يَجُوزُ طَلاقُ
المُوَسْوِس
عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف: ابْن عَامر بن عبس
الْجُهَنِيّ من جُهَيْنَة ابْن زيد بن سود بن أسلم بن
عَمْرو بن الحاف ابْن قضاعة، وَقَالَ أَبُو عمر: سكن عقبَة
بن عَامر مصر وَكَانَ واليا عَلَيْهَا وابتنى بهَا دَارا،
وَتُوفِّي فِي آخر خِلَافه مُعَاوِيَة قلت: ولي مصر من قبل
مُعَاوِيَة سنة أَربع وَأَرْبَعين، ثمَّ عَزله بِمسلمَة بن
مخلد، وَكَانَ لَهُ دَار بِدِمَشْق بِنَاحِيَة قنطرة
سِنَان من بَاب تومما، وَذكر خَليفَة بن خياط قتل أَبُو
عَامر عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ يَوْم النهروان شَهِيدا،
وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ، قَالَ أَبُو عمر:
هَذَا غلط مِنْهُ، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: شهد صفّين مَعَ
مُعَاوِيَة وتحول إِلَى مصر وَتُوفِّي آخر خِلَافه
مُعَاوِيَة وَدفن بالمقطم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: عقبَة بن
عَامر الْجُهَنِيّ الصَّحَابِيّ الشريف الْمقري الفرضي
الفصيح، هُوَ كَانَ الْبَرِيد إِلَى عمر بن الْخطاب رَضِي
الله تَعَالَى عَن، بِفَتْح دمشق، وَوصل إِلَى الْمَدِينَة
فِي سَبْعَة أَيَّام وَرجع مِنْهَا إِلَى الشَّام فِي
يَوْمَيْنِ وَنصف بدعائه عِنْد قبر النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بذلك، وَإِنَّمَا قَالَ: لَا يجوز طَلَاق
الموسوس لِأَن الوسوسة حَدِيث النَّفس، وَلَا مُؤَاخذَة
بِمَا يَقع فِي النَّفس.
وَقَالَ عَطاءٌ: إذَا بَدَأ بالطّلاَق فلهُ شَرْطُهُ
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (إِذا بَدَأَ
بِالطَّلَاق) يَعْنِي إِذا أَرَادَ أَن يُطلق وَبَدَأَ
(فَلهُ شَرطه) أَي فَلهُ أَن يشْتَرط ويعلق طَلاقهَا على
شَرط، يَعْنِي: لَا يلْزم أَن يكون الشَّرْط مقدما على
الطَّلَاق، بل يَصح أَن يُقَال: أَنْت طَالِق إِن دخلت
الدَّار، كَمَا فِي الْعَكْس، وَنقل عَن الْبَعْض أَنه لَا
ينْتَفع بِشَرْطِهِ.
وَقَالَ نافِعٌ: طَلَّقَ رجُلٌ امْرَأتهُ البَتَّةَ إِن
خَرَجَتْ، فَقَالَ ابْن عُمَر: إِن خَرَجَتْ فقَدْ بتّتْ
مِنْهُ، وإنْ لمْ تَخْرُجْ فلَيْسَ بشَيْءٍ.
أَي: قَالَ نَافِع مولى ابْن عمر لَهُ: مَا حكم رجل طلق
امْرَأَته الْبَتَّةَ يَعْنِي: بَائِنا إِن خرجت من
الدَّار؟ فَأجَاب ابْن عمر: إِن خرجت وَقع طَلَاقه
بَائِنا، وَإِن لم تخرج لَا يَقع شَيْء، لِأَنَّهُ
تَعْلِيق بِالشّرطِ فَلَا يتنجز إلاَّ عِنْد وجود
الشَّرْط. قَوْله: (الْبَتَّةَ) نصب على المصدرية من بته
بَيته ويبته بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسرهَا، والبت
الْقطع، وَيُقَال: لَا أَفعلهُ بتة، وَلَا أَفعلهُ
الْبَتَّةَ، لكل أَمر لَا رَجْعَة فِيهِ، وَيُقَال:
طَلقهَا ثَلَاثًا بتة، أَي قَاطِعَة. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: قَالَت النُّحَاة: قطع همزَة الْبَتَّةَ
بمعزل عَن الْقيَاس، وَقَالَ بَعضهم فِي دَعْوَى أَنَّهَا
تقال بِالْقطعِ نظر، فَإِن ألف الْبَتَّةَ ألف وصل قطعا،
وَالَّذِي قَالَه أهل اللُّغَة الْبَتَّةَ: الْقطع، وَهُوَ
تَفْسِيرهَا بمرادفها لِأَن المُرَاد أَنَّهَا تقال
بِالْقطعِ قلت النُّحَاة لم يَقُولُوا الْبَتَّةَ الْقطع
فَحسب، وَإِنَّمَا قَالُوا: قطع همزَة الْبَتَّةَ، بتصريح
نِسْبَة الْقطع إِلَى الْهمزَة قَوْله: (فقد بتت) على
صِيغَة الْمَجْهُول أَي: انْقَطَعت عَن الزَّوْج بِحَيْثُ
لَا رَجْعَة فِيهَا، ويروى: فقد بَانَتْ. قَوْله: (وَإِن
لم تخرج) أَي: وَإِن لم يحصل الشَّرْط فَلَا شَيْء
عَلَيْهِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ: إنْ لَمْ أفْعَلْ
كَذا وكَذا فامْرأتي طالِقٌ ثَلاَثا عمَّا يسْأَل قَالَ
وعقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حينَ حلَفَ بتِلْكَ اليَمِينِ،
فإنْ سَمَّى أَََجَلًا أرادَهُ وعَقَدَ علَيْهِ قَبُهُ
حِينَ حَلَفَ جُعِلَ ذَلِكَ فِي دينِهِ وأمانَتِهِ.
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ: صور
الْمَسْأَلَة ظَاهِرَة لِأَنَّهَا تَعْلِيق يتنجز عِنْد
وجود الشَّرْط غير أَن الزُّهْرِيّ زَاد فِيهَا قَوْله:
يسْأَل عَمَّا قَالَ ... إِلَى آخِره. قَوْله: (جعل ذَلِك
فِي دينه) يَعْنِي: يدين بَينه وَبَين الله تَعَالَى.
وَقَالَ إبْراهِميمُ: إنْ قَالَ: لَا حاجَةَ لِي فِيكَ،
نِيّتُهُ
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: إِن قَالَ رجل
لامْرَأَته: لَا حَاجَة لي فِيك نِيَّته. أَي تعْتَبر
فِيهِ نِيَّته، فَإِن قصد طَلَاقا طلقت، وإلاَّ فَلَا.
وَأخرجه ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص هُوَ ابْن غياث عَن
إِسْمَاعِيل عَن إِبْرَاهِيم فِي رجل قَالَ لامْرَأَته:
لَا حَاجَة لي فِيك، قَالَ: نِيَّته.
(20/253)
وطَلاَقُ كُلِّ قوْمٍ بلِسانِهِمْ
أَي: قَالَ إِبْرَاهِيم: طَلَاق كل قوم من عَرَبِيّ وعجمي
جَائِز بلسانهم، وروى ابْن أبي شيبَة عَن ابْن إِدْرِيس
وَجَرِير، فَالْأول: عَن مطرف، وَالثَّانِي: عَن مُغيرَة
كِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم، قَالَ: طَلَاق العجمي
بِلِسَانِهِ جَائِز، وَقَالَ صَاحب (الْمُحِيط) :
الطَّلَاق بِالْفَارِسِيَّةِ المتعارفة أَرْبَعَة:
أَحدهَا: لَو قَالَ لَهَا: هشتم ترا، أَو بهشتم ترا أززني،
روى ابْن رستم فِي (نوادره) عَن أبي حنيفَة: لَا يكون
طَلَاقا إِلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَن مَعْنَاهُ يؤول إِلَى
معنى التَّخْلِيَة وَلَفظ التَّخْلِيَة لَا يَصح إلاَّ
بِالنِّيَّةِ وَاللَّفْظ الثَّانِي: لَو قَالَ؛ بله كردم،
وَاللَّفْظ الثَّالِث: لَو قَالَ: اي كشادة كردم، يَقع
راجعيا بِلَا نِيَّة. وَاللَّفْظ الرَّابِع: لَو قَالَ:
دست باز داشتم، قيل: يكون رَجْعِيًا، وَقيل: بَائِنا،
وَلَو قَالَ: جهار رَاه برتو كشاده است، لَا يَقع وَإِن
نوى. وَلَو قَالَ بالتركي: (بو شادم سني بر طَلَاق) تقع
وَاحِدَة رَجْعِيَّة، وَلَو قَالَ: (إيكي طَلَاق) يَقع
ثتنان، وَلَو قَالَ: (أوج طَلَاق) يَقع ثَلَاث.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذا قَالَ؛ إِذا حَمَلْتِ فأنْتِ
طالِقٌ ثَلاثا، يَغْشَاها عنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً،
فَإِن اسْتَبانَ حَمْلُها فقَدْ بانَتْ مِنْهُ.
أَي: قَالَ قَتَادَة بن دعامة: إِذا قَالَ رجل لامْرَأَته:
إِذا حملت فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا، يَغْشَاهَا أَي؛
يُجَامِعهَا فِي كل طهر مرّة لَا مرَّتَيْنِ لاحْتِمَال
أَنه بِالْجِمَاعِ الأول صَارَت حَامِلا، فَطلقت بِهِ.
وَقَالَ ابْن سِيرِين: يَغْشَاهَا حَتَّى تحمل، وَبِه
قَالَ الْجُمْهُور، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي
شيبَة عَن عبد الْأَعْلَى عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن
قَتَادَة نَحوه.
وَقَالَ الحَسَنُ: إِذا قَالَ: إلْحَقِي بأهْلِكِ، نيّتُهُ
أَي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِذا قَالَ لامْرَأَته:
إلحقي بأهلك تعْتَبر نِيَّته أَرَادَ أَنه كِنَايَة
يعْتَبر فِيهِ قَصده إِن نوى الطَّلَاق وَقع وإلاَّ فَلَا.
وروى عبد الرَّزَّاق بِلَفْظ: هُوَ مَا نوى.
وَقَالَ ابنُ عبّاسٍ: الطّلاَقُ عنْ وطَرِ والعَتاقُ مَا
أرِيدَ بهِ وَجْهُ الله تَعَالَى
أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: الطَّلَاق عَن حَاجَة أَرَادَ
بِهِ أَنه لَا يُطلق امْرَأَته إلاَّ عِنْد الْحَاجة مثل
النُّشُوز، وَكلمَة: عَن، تتَعَلَّق بِمَحْذُوف أَي:
الطَّلَاق لَا يَنْبَغِي وُقُوعه إلاَّ عِنْد الْحَاجة،
والوطر بِفتْحَتَيْنِ، قَالَ أهل اللُّغَة: لَا يَبْنِي
مِنْهُ فعل. قَوْله: وَالْعتاق أُرِيد بِهِ وَجه الله،
يَعْنِي: الْعتاق لله فَهُوَ مَطْلُوب دَائِما.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِن قَالَ: مَا أنْتِ بامْرَأتِي
نِيّتُهُ، وإنْ نَوَى طلاَقا فهوَ مَا نَوَى
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ: إِن قَالَ رجل
لامْرَأَته: مَا أَنْت بامرأتي تعْتَبر نِيَّته، فَإِن نوى
طَلَاقا فَهُوَ مَا نوى، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة
وَالْأَوْزَاعِيّ، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: لَيْسَ
بِطَلَاق، وَقَالَ اللَّيْث: هِيَ كذبة.
وَقَالَ علِيٌّ: ألَمْ تَعْلَمَ أنَّ القلَمَ رُفِعَ عنْ
ثَلاثَةٍ: عنِ المَجْنُونِ حتّى يُفِيقَ. وعنِ الصَّبيِّ
حتّى يُدْرِكَ وعنِ النَّائِمِ حتّى يَسْتَيْقِظ
أَي: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
ألم تعلم؟ يُخَاطب بِهِ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَذَلِكَ أَن عمر أَتَى بمجنونة قد زنت
وَهِي حُبْلَى، فَأَرَادَ أَن يرجمها، فَقَالَ عَليّ لَهُ:
ألم تعلم ... إِلَى آخِره، وَذكر بِصِيغَة جزم لِأَنَّهُ
حَدِيث ثَابت، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: ثَبت أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: رفع الْقَلَم ...
الحَدِيث، وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) مَرْفُوعا من حَدِيث ابْن وهب عَن جرير عَن
الْأَعْمَش عَن أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس عَن عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: مر على عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، بمجنونة، وَفِيه فَقَالَ عَليّ: أَو مَا تذكر أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (رفع
الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن الْمَجْنُون المغلوب على عقله،
عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى
يَحْتَلِم؟ قَالَ: صدقت) وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من
رِوَايَة ابْن جريج عَن الْقَاسِم بن يزِيد عَن عَليّ أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(20/254)
قَالَ: (رفع الْقَلَم عَن الصَّغِير وَعَن
الْمَجْنُون وَعَن النَّائِم) قَوْله: (حَتَّى يدْرك) أَي:
حَتَّى يبلغ، وَفِي (الْفَتَاوَى الصُّغْرَى) لأبي
يَعْقُوب بن يُوسُف الجصاصي: إِن الْجُنُون الطَّبَق عَن
أبي يُوسُف أَكثر السّنة وَفِي رِوَايَة عَنهُ أَكثر من
يَوْم وَلَيْلَة، وَفِي رِوَايَة سَبْعَة أشهر،
وَالصَّحِيح ثَلَاثَة أَيَّام. وَاخْتلفُوا فِي طَلَاق
الصَّبِي، فَعَن ابْن الْمسيب وَالْحسن: يلْزم إِذا عقل
وميز، وَحده عِنْد أَحْمد أَن يُطيق الصّيام ويحصي، وَعند
عَطاء إِذا بلغ اثْنَتَيْ عشر سنة، وَعَن مَالك رِوَايَة
إِذا ناهز الِاحْتِلَام.
وَقَالَ عليٌّ وكُلُّ الطَّلاَقِ جائِزٌ إلاّ طَلاقَ
المَعْتُوهُ
أَي: قَالَ عَليّ بن أبي طَالب، وَذكره أَيْضا بِصِيغَة
الْجَزْم لِأَنَّهُ ثَابت، وَوَصله الْبَغَوِيّ فِي
(الجعديات) عَن عَليّ بن الْجَعْد عَن شُعْبَة عَن
الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم النحعي عَن عَابس بن ربيعَة:
أَن عليا قَالَ: كل طَلَاق جَائِز إلاّ طَلَاق
الْمَعْتُوه، وَالْمَعْتُوه، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون
الْعين الْمُهْملَة وَضم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَسُكُون الْوَاو بعْدهَا: وَهُوَ النَّاقِص الْعقل
فَيدْخل فِيهِ الطِّفْل وَالْمَجْنُون والسكران. وَقد روى
التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى
حَدثنَا مَرْوَان بن أبي مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ عَن عَطاء
بن عجلَان عَن عِكْرِمَة بن خَالِد عَن أبي هُرَيْرَة
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل
طَلَاق جَائِز إلاَّ طَلَاق الْمَعْتُوه والمغلوب على
عقله) . قَالَ: هَذَا حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إلاَّ من
حَدِيث عَطاء بن عجلَان، وَهُوَ ضَعِيف ذَاهِب الحَدِيث،
وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم من أَصْحَاب
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيرهم: إِن طَلَاق
الْمَعْتُوه المغلوب على عقله لَا يجوز إلاَّ أَن يكون
معتوها يفِيق الأحيان فيطلق فِي حَال إِفَاقَته. وَقَالَ
شَيخنَا زين الدّين هَذَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة انْفَرد
بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ، وَعَطَاء بن عجلَان لَيْسَ
لَهُ عِنْد التِّرْمِذِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد،
وَلَيْسَ لَهُ فِي بَقِيَّة الْكتاب السِّتَّة شَيْء،
وَهُوَ حَنَفِيّ بَصرِي يكنى أَبَا مُحَمَّد، وَيعرف
بالعطار، اتَّفقُوا على ضعفه. قَالَ ابْن معِين
وَالْفَلَّاس: كَذَّاب، وَقَالَ أَبُو حَاتِم
وَالْبُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، زَاد أَبُو حَاتِم جدا،
وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث. قَوْله: (وكل طَلَاق) ، ويروى:
(وكل الطَّلَاق) ، بِالْألف وَاللَّام. قَوْله: (جَائِز)
أَي: وَاقع.
9625 - حدّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ حَدثنَا هَشامٌ
حدَّثنا قَتادَةُ عنْ زُرَارَة بنِ أوْفَى عنِ أبي
هُرَيْرَةَ، رَضِي الله عنهْ عَن النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: إنَّ الله تجاوَزَ عَن أمّتي مَا
حَدَّثَتْ بهِ أنْفُسَها مَا لمْ تَعْمَلْ أوْ
تَتَكَلَّمْ.
(انْظُر الحَدِيث 8252 وطرفه)
مطابقته للتَّرْجَمَة يُمكن أَن يكون بَينه وَبَين حَدِيث
عقبَة بن عَامر الْمَذْكُور فِي أَخْبَار بَاب
التَّرْجَمَة الْمَذْكُورَة، وَهُوَ قَوْله: لَا يجوز
طَلَاق الموسوس، وَقد أعلم أَن الوسوسة من أَحَادِيث
النَّفس، فَإِذا تجَاوز الله عَن عَبده مَا حدثت بِهِ
نَفسه يدْخل فِيهِ طَلَاق الموسوس أَنه لَا يَقع.
وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، وزرارة بِضَم الزَّاي وخفة
الرَّاء الأولى ابْن أوفى على وزن أفعل من الْوَفَاء
العامري قَاضِي الْبَصْرَة.
والْحَدِيث مضى فِي الْعتْق فِي: بَاب الْخَطَأ
وَالنِّسْيَان فِي الْعتَاقَة وَالطَّلَاق، فَإِنَّهُ
أخرجه هُنَاكَ عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن مسعر عَن
قَتَادَة ... إِلَى آخِره، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَن
الحَدِيث أخرجه الْجَمَاعَة وَمضى الْكَلَام فِيهِ
هُنَاكَ.
قَوْله: (مَا حدثت بِهِ أَنْفسهَا) بِالْفَتْح على
المفعولية، وَذكر المطرزي عَن أهل اللُّغَة أَنهم
يَقُولُونَهُ بِالضَّمِّ يُرِيدُونَ بِغَيْر اخْتِيَارهَا.
قلت قَوْله: بِالضَّمِّ، لَيْسَ بجيد، بل الصَّوَاب
بِالرَّفْع، وَلَا تعلق لَهُ بِأَهْل اللُّغَة بل الْكل
سَائِغ فِي اللُّغَة: حدثت نَفسِي بِكَذَا، وحدثتني نَفسِي
بِكَذَا. قَوْله: (مَا لم تعْمل) ، أَي: فِي العمليات (أَو
تَتَكَلَّم) فِي القوليات. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا:
من عزم على ترك وَاجِب أَو فعل محرم وَلَو بعد عشْرين سنة
مثلا عصى فِي الْحَال. وَأجَاب بِأَن المُرَاد بِحَدِيث
النَّفس مَا لم يبلغ إِلَى حد الْجَزْم وَلم يسْتَقرّ. أما
إِذا عقد قلبه بِهِ وَاسْتقر عَلَيْهِ فَهُوَ مُؤَاخذَة
بذلك الْجَزْم، نعم لَو بَقِي ذَلِك الخاطر وَلم يتْركهُ
يسْتَقرّ لَا يؤاخذه خُذ بِهِ بل يكْتَسب لَهُ بِهِ
حَسَنَة. وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن هَذَا من خَصَائِص
هَذِه الْأمة، وَأَن الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة كَانُوا
يؤاخذون بذلك، وَقد اخْتلف أَيْضا: هَل كَانَ ذَلِك
يُؤَاخذ بِهِ فِي أول الْإِسْلَام؟ ثمَّ نسخ وخفف ذَلِك
عَنْهُم، أَو هُوَ تَخْصِيص وَلَيْسَ بنسخ، وَذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو
تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ الله} (الْبَقَرَة: 482) فقد قَالَ
غير وَاحِد من الصَّحَابَة، مِنْهُم: أَبُو هُرَيْرَة
وَابْن عَبَّاس وَابْن عَسَاكِر: إِنَّهَا مَنْسُوخَة
بقوله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا}
(الْبَقَرَة: 682) وَاعْلَم أَن المُرَاد بالْكلَام كَلَام
اللِّسَان لِأَن الْكَلَام حَقِيقَة، وَقَول ابْن
الْعَرَبِيّ المُرَاد بِهِ الْكَلَام النَّفْسِيّ، وَإِن
(20/255)
القَوْل الْحَقِيقِيّ هُوَ الْمَوْجُود
بِالْقَلْبِ الْمُوَافق للْعلم، مَرْدُود عَلَيْهِ،
وَإِنَّمَا قَالَه تعصبا لما حكى عَن مذْهبه من وُقُوع
الطَّلَاق بالعزم وَإِن لم يتَلَفَّظ، وَلَيْسَ لأحد خلاف
أَنه إِذا نوى الطَّلَاق بِقَلْبِه وَلم يتَلَفَّظ بِهِ
أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ إِلَّا مَا حَكَاهُ الْخطابِيّ
عَن الزُّهْرِيّ وَمَالك: أَنه يَقع بالعزم، وَحَكَاهُ
ابْن الْعَرَبِيّ عَن رِوَايَة أَشهب عَن مَالك فِي
الطَّلَاق وَالْعِتْق وَالنّذر أَنه يَكْفِي فِيهِ عزمه
وجزمه فِي قلبه بِكَلَامِهِ النَّفْسِيّ، وَهَذَا فِي
غَايَة الْبعد ونقضه الْخطابِيّ على قَائِله بالظهار
وَغَيره، فَإِنَّهُم أَجمعُوا على أَنه لَو عزم على
الظِّهَار لم يلْزمه حَتَّى يتَلَفَّظ بِهِ، وَلَو حدث
نَفسه بِالْقَذْفِ لم يكن قَاذِفا، وَلَو حدث نَفسه فِي
الصَّلَاة لم يكن عَلَيْهِ إِعَادَة. وَقد حرم الله
الْكَلَام فِي الصَّلَاة، فَلَو كَانَ حَدِيث النَّفس فِي
معنى الْكَلَام لكَانَتْ صلَاته تبطل، وَقد قَالَ عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِنِّي لأجهز جيشي وَأَنا فِي
الصَّلَاة، وَمِمَّنْ قَالَ: إِن طَلَاق النَّفس لَا يُؤثر
عَطاء بن أبي رَبَاح وَابْن سِيرِين وَالْحسن وَسَعِيد بن
جُبَير وَالشعْبِيّ وَجَابِر بن زيد وَقَتَادَة
وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه الشَّافِعِي
وَأحمد وَإِسْحَاق وَاسْتدلَّ بِهِ جمَاعَة أَنه إِذا كتب
بِالطَّلَاق وَقع لِأَن الْكِتَابَة عمل، وَهُوَ قَول
مُحَمَّد بن الْحسن وَأحمد بن حَنْبَل، وَشرط فِيهِ مَالك
الْإِشْهَاد على الْكِتَابَة، وَجعله الشَّافِعِي غَايَة
إِن نوى بِهِ الطَّلَاق وَقع وإلاَّ فَلَا، وَفِي
(الْمُحِيط) : إِذا كتاب طَلَاق امْرَأَته فِي كتاب أَو
لوح أَو على حَائِض أَو أَرض وَكَانَ مستبينا وَنوى بِهِ
الطَّلَاق يَقع، وَإِن لم يكن مستبينا أَو كتب فِي
الْهَوَاء وَالْمَاء لَا يَقع، وَإِن نوى.
وَقال قَتَادَةُ: إِذا طَلَّقَ فِي نفْسِهِ فلَيْسَ
بِشَيْءٍ
وَقع هَذَا فِي بعض النّسخ قبل الحَدِيث الْمَذْكُور،
وَهنا أنسب كَمَا لَا يخفى على الفطن، وَوَصله عبد
الرَّزَّاق عَن معمر عَن قتاد وَالْحسن قَالَا: من طلق سرا
فِي نَفسه فَلَيْسَ طَلَاقه ذَلِك بِشَيْء.
0725 - حدّثنا أصْبَغُ أخْبرنا ابنُ وهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ
ابنِ شهَاب قَالَ: أَخْبرنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ
الرَّحْمانِ عنْ جابِرٍ أنَّ رجُلاً مِن أسْلَم أتَى
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ فِي المَسْجِدِ
فَقَالَ: إنَّهُ قَدْ زَنَى، فأعْرَضَ عنْهُ فَتَنَحَّى
لِشِقِّهِ الَّذِي أعْرَضَ، فَشَهِدَ علَى نَفْسِهِ
أرْبَعَ شَهادَاتٍ، فَدَعَاهُ فَقَالَ: هَلْ بِك جُنُونٌ؟
هَلْ أحْصِنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فأمَرَ بِهِ أنْ يُرْجَمَ
بالمُصَلَّى، فَلَمَّا أذْلَقَتْهُ الحَجَارَةُ جَمَزَ
حتَّى أُدْرِكَ بالحَرَّةِ فَقُتِلَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله فِي التَّرْجَمَة:
وَالْمَجْنُون، فَإِن الرجل الَّذِي قتل لَو كَانَ
مَجْنُونا لم يعْمل بِإِقْرَارِهِ.
وإصبغ هُوَ ابْن الْفرج بِالْجِيم أَبُو عبد الله
الْمصْرِيّ يروي عَن عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ عَن
يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن
شهَاب الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف عَن جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمُحَاربين عَن
مُحَمَّد بن مقَاتل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَغَيره. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن المتَوَكل. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن يحيى وَفِي الرَّجْم عَن ابْن
السَّرْح وَغَيره.
قَوْله: (أَن رجلا) هُوَ مَاعِز بِكَسْر الْعين
الْمُهْملَة وبالزاي ابْن مَالك الْأَسْلَمِيّ، مَعْدُود
فِي الْمَدَنِيين ونسبته إِلَى أسلم قَبيلَة. قَوْله:
(فَتنحّى) قَالَ الْخطابِيّ: تفعل من نحى إِذا قصد
الْجِهَة، أَي: الَّتِي إِلَيْهَا وَجهه ونحى نَحوه،
وَيُقَال: قصد شقَّه الَّذِي أعرض إِلَيْهِ. قَوْله:
(فَشهد على نَفسه أَربع شَهَادَات) المُرَاد بهَا أَربع
أقارير.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: جَاءَ مَاعِز
بن مَالك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
إِن الْأَبْعَد زنى، فَقَالَ لَهُ: ويل لَك، مَا يدْريك من
الزِّنَا. فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج، ثمَّ أَتَاهُ
الثَّانِيَة فَقَالَ مثل ذَلِك، فَأمر بِهِ فطرد وَأخرج،
ثمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَة فَقَالَ ذَلِك فَأمر بِهِ فطرد
وَأخرج. ثمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَة، فَقَالَ مثل ذَلِك،
قَالَ: أدخلت وأخرجت؟ قَالَ: نعم، فَأمر بِهِ أَن يرْجم.
وَسَنذكر الْخلاف فِيهِ بَين الْأَئِمَّة. وَأخرج أَبُو
دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَأحمد من حَدِيث هِشَام بن سعد:
أَخْبرنِي يزِيد بن نعيم بن هزال عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ
مَاعِز بن مَالك فِي حجر أبي فَأصَاب جَارِيَة من الْحَيّ.
فَقَالَ لَهُ أبي: ائْتِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَأخْبرهُ بِمَا صنعت لَعَلَّه يسْتَغْفر لَك،
وَإِنَّمَا يُرِيد بذلك رَجَاء أَن يكون لَهُ مخرج،
فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِنِّي زَنَيْت فأقم
عَليّ كتاب الله عز وَجل، فَأَعْرض عَنهُ إِلَى أَن
أَتَاهُ الرَّابِعَة، قَالَ: هَل باشرتها؟ قَالَ: نعم.
قَالَ: هَل جامعتها. قَالَ: نعم. فَأمر بِهِ فرجم. فَوجدَ
مس الْحِجَارَة فَخرج
(20/256)
يشْتَد فَلَقِيَهُ عبد بن أنيس فَنزع لَهُ
بوظيف بعير فَقتله، وَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هلا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّه
يَتُوب فيتوب الله عَلَيْهِ. وَزَاد فِيهِ أَحْمد: قَالَ
هِشَام فَحَدثني يزِيد بن نعيم عَن أَبِيه أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ حِين رَآهُ يَا هزال
{لَو كنت سترته لَكَانَ خيرا لَك مِمَّا صنعت بِهِ. قَالَ
فِي (التَّنْقِيح) إِسْنَاده صَالح وَهِشَام بن سعد روى
لَهُ مُسلم وَكَذَلِكَ روى ليزِيد بن نعيم. قلت: يزِيد بن
نعيم بن هزال وَيزِيد من رجال مُسلم كَمَا ذكرنَا ونعيم
مُخْتَلف فِي صحبته وهزال هُوَ ابْن دياب بن يزِيد بن
كُلَيْب الْأَسْلَمِيّ روى عَنهُ ابْنه وَمُحَمّد بن
الْمُنْكَدر حَدِيثا وَاحِدًا، قَالَ أَبُو عمر مَا أَظن
لَهُ غَيره، وَهُوَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: يَا هزال لَو سترته بردائك.
قَوْله: (هَل بك جُنُون) إِنَّمَا قَالَ ذَلِك ليتَحَقَّق
حَاله، فَإِن الْغَالِب أَن الْإِنْسَان لَا يصر على مَا
يَقْتَضِي قَتله مَعَ أَن لَهُ طَرِيقا إِلَى سُقُوط
الْإِثْم بِالتَّوْبَةِ. قَوْله: (هَل أحصنت؟) على صِيغَة
الْمَجْهُول أَي: هَل تزوجت قطّ؟ قَوْله: (بالمصلى) وَهُوَ
الْموضع الَّذِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يُصَلِّي فِيهِ الأعياد وعَلى الْمَوْتَى، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَالْأَكْثَر على أَنه مصلى الْجَنَائِز
وَهُوَ بَقِيع الفرقد. قَوْله: (فَلَمَّا أذلقته
الْحِجَارَة) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وباللام وَالْقَاف
أَي أقلقته يَعْنِي: بلغ مِنْهُ الْجهد حَتَّى قلق،
وَيُقَال: أَي أَصَابَته بحدها فعقرته، وذلق كل شَيْء
حَده. قَوْله: (جمز) بِالْجِيم وَالْمِيم والزاء أَي:
أسْرع هَارِبا من الْقَتْل، يُقَال: جمز يجمز جمزا من بَاب
ضرب يضْرب. قَوْله: (حَتَّى أدْرك) على صِيغَة
الْمَجْهُول. قَوْله: (بِالْحرَّةِ) بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء، وَهِي أَرض ذَات حِجَارَة
سود خَارج الْمَدِينَة. قَوْله: (فَقتل) على صِيغَة
الْمَجْهُول.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَحْكَام:
الأول: فِيهِ فَضِيلَة مَاعِز حَيْثُ لم يرجع عَن
إِقْرَاره بِالزِّنَا حَتَّى رجم، وَقَالَ فِي حَدِيث
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة
فِي قصَّة مَاعِز، وَفِي آخِره: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ
إِنَّه الْآن لفي أَنهَار الْجنَّة ينغمس فِيهَا، وَفِي
حَدِيث أخرجه أَحْمد عَن أبي ذَر فِي قصَّة مَاعِز، وَفِي
آخِره قَالَ: يَا أَبَا ذَر} ألم تَرَ إِلَى صَاحبكُم؟ غفر
لَهُ وَأدْخل الْجنَّة.
الثَّانِي: أَنه لَا يجب حد الزَّانِي على الْمُعْتَرف
بِالزِّنَا حَتَّى يقر بِهِ على نَفسه أَربع مَرَّات،
وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن أبي ليلى وَالْحكم
بن عتيبة وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه وَأحمد فِي الْأَصَح
وَإِسْحَاق، وَاحْتَجُّوا فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بقوله:
(فَشهد على نَفسه أَربع شَهَادَات) وَقَالَ حَمَّاد بن أبي
سُلَيْمَان وَعُثْمَان البتي وَالْحسن بن حَيّ وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة، وَأَبُو ثَوْر: إِذا
أقرّ الزَّانِي بِالزِّنَا مرّة وَاحِدَة يجب عَلَيْهِ
الْحَد، وَلَا يحْتَاج إِلَى مرَّتَيْنِ أَو أَكثر،
وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِحَدِيث الغامدية، فَإِنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لأنيس: أغد يَا أنيس فارجمها،
وَكَانَت اعْترفت مرّة وَاحِدَة، وَأجَاب الطَّحَاوِيّ
بِأَنَّهُ قد يجوز أَن يكون أنيس قد كَانَ على
الِاعْتِرَاف الَّذِي يُوجب الْحَد على الْمُعْتَرف مَا
هُوَ بِمَا علمهمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي
مَاعِز وَغَيره، وَقيل أَيْضا: إِن الرَّاوِي قد يختصر
الحَدِيث فَلَا يلْزم من عدم الذّكر عدم الْوُقُوع، على
أَنه قد ورد فِي بعض طرق حَدِيث الغامدية أَنه ردهَا أَربع
مَرَّات، أخرجه الْبَزَّار فِي (مُسْنده) فَإِن قلت:
الْإِقْرَار حجَّة فِي الشَّرْع لرجحان جَانب الصدْق على
جَانب الْكَذِب، وَهَذَا الْمَعْنى عِنْد التّكْرَار
والتوحيد سَوَاء. قلت: هَذَا هُوَ الْقيَاس، وَلَكنَّا
تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ أَنه رد ماعزا أَربع
مَرَّات. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون رده أَربع
مَرَّات لكَونه اتهمه بِأَنَّهُ لَا يدْرِي مَا الزِّنَا؟
قلت: روى مُسلم من حَدِيث عبد الله بن بُرَيْدَة عَن
أَبِيه: أَن مَاعِز بن مَالك الْأَسْلَمِيّ أَتَى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله
إِنِّي قد ظلمت نَفسِي وزنيت، وَإِنِّي أُرِيد أَن تطهرني
فَرده، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد أَتَاهُ فَقَالَ: يَا
رَسُول الله! إِنِّي قد زَنَيْت، فَرده الثَّانِيَة،
فَأرْسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى قومه
فَقَالَ: أتعلمون بعقله بَأْسا تنكرون مِنْهُ شَيْئا؟
فَقَالُوا: مَا تعلمه إلاَّ وَفِي الْعقل من صالحينا
فِيمَا نرى، فَأَتَاهُ الثَّالِثَة فَأرْسل إِلَيْهِم
أَيْضا فَسَأَلَهُمْ عَنهُ فأخبروه أَنه لَا بَأْس بِهِ
وَلَا بعقله، فَلَمَّا كَانَت الرَّابِعَة حفر لَهُ
حُفْرَة ... الحَدِيث، فقد غفل الْكرْمَانِي عَن هَذَا
الحَدِيث حَيْثُ قَالَ: الْإِقْرَار بالأربع لم يكن على
سَبِيل الْوُجُوب بِدَلِيل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: أغد يَا أنيس على امْرَأَة هَذَا، فَإِن اعْترفت
فارجمها، وَلم يشْتَرط عددا، وَقد مر الْجَواب الْآن عَن
حَدِيث أنيس وَكَيف لَا يشْتَرط الْعدَد، وَقد ورد فِي
حَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لماعز: إِنَّك
قد قلتهَا أَربع مَرَّات، وَفِي لفظ لَهُ عَن ابْن
عَبَّاس: إِنَّك شهِدت على نَفسك أَربع مَرَّات، وَفِي لفظ
لِابْنِ أبي شيبَة: أَلَيْسَ أَنَّك قلتهَا أَربع مَرَّات؟
فرتب الرَّجْم على الْأَرْبَع، وإلاَّ فَمن الْمَعْلُوم
أَنه قَالَهَا أَربع مَرَّات.
(20/257)
الثَّالِث: أَن الْإِحْصَان شَرط فِي
الرَّجْم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (هَل أحصنت)
والإحصان على نَوْعَيْنِ: إِحْصَان الرَّجْم وإحصان
الْقَذْف. أما إِحْصَان الرَّجْم فَهُوَ فِي الشَّرْع
عبارَة عَن اجْتِمَاع صِفَات اعتبرها لوُجُوب الرَّجْم
وَهِي سَبْعَة: الْعقل وَالْبُلُوغ، وَالْحريَّة،
والاسلام، وَالنِّكَاح الصَّحِيح، وَالدُّخُول فِي
النِّكَاح الصَّحِيح. وَأما إِحْصَان الْقَذْف فخمسة:
الْعقل، والبلوع وَالْحريَّة، وَالْإِسْلَام، والعفة عَن
الزِّنَا. وَشرط أَبُو حنيفَة الْإِسْلَام فِي الْإِحْصَان
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أشرك بِاللَّه
فَلَيْسَ بمحصن. رَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي
(مُسْنده) من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: من أشرك بِاللَّه فَلَيْسَ بمحصن.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَيْسَ
الْإِسْلَام بِشَرْط فِي الْإِحْصَان لِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رجم يهوديين. قُلْنَا: كَانَ ذَلِك بِحكم
التَّوْرَاة قبل نزُول آيَة الْجلد فِي أول مَا دخل صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة فَصَارَ مَنْسُوخا بهَا،
ثمَّ نسخ الْجلد فِي حق الزَّانِي الْمُحصن.
الرَّابِع: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجمع فِي
مَاعِز بَين الْجلد وَالرَّجم، وَقَالَ الشّعبِيّ وَالْحسن
الْبَصْرِيّ وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَأحمد فِي رِوَايَة:
يجلد الْمُحصن ثمَّ يرْجم، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهُوَ
مَذْهَب جمَاعَة من الصَّحَابَة. مِنْهُم: عَليّ بن أبي
طَالب وَأبي بن كَعْب وَعبد الله بن مَسْعُود وَغَيرهم،
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث جَابر: أَن رجلا زنى فَأمر بِهِ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجلد، ثمَّ أخبر أَنه
كَانَ قد أحصن فَأمر بِهِ فرجم، رَوَاهُ أَب دَاوُد
والطَّحَاوِي، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالزهْرِيّ
وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَعبد الله بن الْمُبَارك
وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو
يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي
الْأَصَح: حد الْمُحصن الرَّجْم فَقَط لحَدِيث مَاعِز.
فَإِن قلت: روى عبَادَة بن الصَّامِت أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: خُذُوا عني، قد جعل الله
لَهُنَّ سَبِيلا: الْبكر يجلد وينفى، وَالثَّيِّب يجلد
ويرجم، رَوَاهُ مُسلم وَغَيره. قلت: حَدِيث عبَادَة
مَنْسُوخ بِحَدِيث العسيف، أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم عَن
أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: فَإِن اعْترفت فارجمها ...
الحَدِيث، وَهَذَا آخر الْأَمريْنِ، لِأَن أَبَا هُرَيْرَة
مُتَأَخِّرَة الْإِسْلَام وَلم يتَعَرَّض فِيهِ للجلد،
وَاسْتدلَّ الأصوليون أَيْضا على تَخْصِيص الْكتاب
بِالسنةِ بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم ماعزا
وَلم يجلده، وَآيَة الْجلد شَامِلَة للمحصن وَغَيره.
الْخَامِس: فِيهِ: الاستفسار عَن حَال الَّذِي اعْترف
فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لماعز: (هَل
أحصنت؟) وَجَاء فِي حَدِيثه أَيْضا: هَل جامعتها وَهل
باشرتها، فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَفِي رِوَايَة
لَهُ: فَأقبل فِي الْخَامِسَة، فَقَالَ: أنكحتها؟ قَالَ:
نعم. قَالَ حَتَّى غَابَ ذَلِك مِنْك فِي ذَلِك مِنْهَا؟
قَالَ: نعم، قَالَ: كَمَا يغيب المرود فِي المكحلة والرشاء
فِي الْبِئْر؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَهَل تَدْرِي مَا
الزِّنَا؟ قَالَ: نعم، أتيت مِنْهَا حَرَامًا مثل مَا
أَتَى الرجل من امْرَأَته حَلَالا ... الحَدِيث.
وَفِي حَدِيث مَاعِز يُسْتَفَاد أَحْكَام أُخْرَى غير مَا
ذكرنَا هُنَا.
مِنْهَا: أَن السّتْر فِيهِ مَنْدُوب لقَوْل النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لهزال لما أرسل ماعزا إِلَى النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ لَهُ: لَو سترته بثوبك
لَكَانَ خير لَك، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن
يزِيد بن نعيم عَن أَبِيه، وروى مُسلم من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: من ستر مُسلما ستره الله فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة.
وَمِنْهَا: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخر الْحَد إِلَى
أَن يتم الْإِقْرَار أَربع مَرَّات. وَمِنْهَا: أَن على
الإِمَام أَن يرادد الْمقر بِالزِّنَا بقوله: لَعَلَّك
قبلت أَو مسست، وَفِي لفظ البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي:
لَعَلَّك قبلت أَو غمزت أَو نظرت. قَالَ: لَا. قَالَ:
أفنلتها؟ قَالَ: نعم.
وَمِنْهَا: أَن المرجوم يصلى عَلَيْهِ، كَمَا روى
البُخَارِيّ على مَا سَيَأْتِي فِي كتاب الْمُحَاربين: عَن
مَحْمُود بن غيلَان عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن
الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن جَابر، فَذكر قصَّة
مَاعِز، وَفِي آخِره، ثمَّ أَمر بِهِ فرجم، وَقَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خيرا، وَصلى عَلَيْهِ.
فَإِن قلت: قيل للْبُخَارِيّ قَوْله: وَصلى عَلَيْهِ،
قَالَه غير معمر، قَالَ: لَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن
مُحَمَّد بن المتَوَكل وَالْحسن بن عَليّ كِلَاهُمَا عَن
عبد الرَّزَّاق بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن الْحسن
بن عَليّ بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ
النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن يحيى
وَمُحَمّد بن رَافع ونوح بن حبيب، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد
الرَّزَّاق بِهِ، وَقَالُوا كلهم فِيهِ: وَلم يصل
عَلَيْهِ. قلت: أُجِيب بِأَن معنى قَوْله: فصلى عَلَيْهِ،
دَعَا لَهُ، وَبِهَذَا تتفق الْأَخْبَار، وَلَكِن يُعَكر
على هَذَا مَا رَوَاهُ أَبُو قُرَّة الزبيرِي عَن ابْن
جريج عَن عبد الله بن أبي بكر عَن أبي أَيُّوب عَن أبي
أُمَامَة بن سهل الْأنْصَارِيّ: أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر يَوْم رجم مَاعِز، فطول فِي
الْأَوليين حَتَّى كَاد النَّاس يعجزون من طول الصَّلَاة،
فَلَمَّا انْصَرف وَمر بِهِ فرجم فَلم يصل حَتَّى رَمَاه
عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِلحي بعير
فَأصَاب رَأسه فَقتله، وَصلى عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد فِي
(سنَنه) عَن أبي عوَانَة عَن أبي بشر: حَدثنِي ثِقَة من
أهل الْبَصْرَة عَن أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ: أَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يصل على مَاعِز بن مَالك
وَلم ينْه عَن الصَّلَاة عَلَيْهِ. قلت: ضعفه ابْن
الْجَوْزِيّ فِي (التَّحْقِيق) بِأَن فِيهِ مَجَاهِيل.
فَإِن قلت:
(20/258)
أخرج أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن ابْن
عَبَّاس: أَن مَاعِز بن مَالك أَتَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنَّه زنى، فَأمر بِهِ فرجم وَلم
يصل عَلَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي (الْخُلَاصَة) :
إِسْنَاده صَحِيح. قلت: أخرجه النَّسَائِيّ مُرْسلا،
وَلَئِن سلمنَا صِحَّته فَإِن رِوَايَة الْإِثْبَات
مُقَدّمَة لِأَنَّهَا زِيَادَة علم.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا يفعل بالمرجوم كَمَا يفعل بِسَائِر
الْمَوْتَى لما روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) فِي كتاب
الْجَنَائِز حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن أبي حنيفَة عَن
عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن ابْن بُرَيْدَة عَن أَبِيه،
قَالَ: (لما رجم مَاعِز قَالُوا: يَا رَسُول الله {مَا
نصْنَع بِهِ؟ قَالَ: اصنعوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بموتاكم
من الْغسْل والكفن والحنوط وَالصَّلَاة عَلَيْهِ) .
وَمِنْهَا: أَنه يحْفر للمرجوم، لما رَوَاهُ أَحْمد فِي
(مُسْنده) من حَدِيث أبي ذَر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَأَتَاهُ رجل يُقَال إِنَّه زنى، فَأَعْرض عَنهُ ثمَّ ثنى
ثمَّ ثلث ثمَّ ربع فَأمرنَا فَحَفَرْنَا لَهُ فرجم.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي (شرح مُسلم) : أما الْحفر للمرجوم
والمرجومة فَفِيهِ مَذَاهِب للْعُلَمَاء، قَالَ مَالك
وَأَبُو حنيفَة وَأحمد فِي الْمَشْهُور عَنْهُم: لَا يحْفر
لوَاحِد مِنْهُمَا. وَقَالَ قَتَادَة وَأَبُو ثَوْر
وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو حنيفَة فِي رِوَايَة: يحْفر لَهما،
وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة وأصحابنا: لَا يحْفر للرجل
سَوَاء ثَبت زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ أم بِالْإِقْرَارِ،
وَأما الْمَرْأَة فَفِيهَا ثَلَاثَة أوجه لِأَصْحَابِنَا:
أَحدهَا: يسْتَحبّ الْحفر إِلَى صدرها ليَكُون أستر لَهَا.
وَالثَّانِي: لَا يسْتَحبّ وَلَا يكره بل هُوَ إِلَى خيرة
الإِمَام. وَالثَّالِث: وَهُوَ الْأَصَح: إِن ثَبت زنَاهَا
بِالْبَيِّنَةِ اسْتحبَّ، وَإِن ثَبت بِالْإِقْرَارِ فَلَا
يُمكنهَا الْهَرَب إِن رجعت فَإِن قلت: فِي حَدِيث أبي ذَر
الْمَذْكُور الْحفر، وَجَاء فِي حَدِيث أبي سعيد أخرجه
مُسلم: أَن رجلا من أسلم ... الحَدِيث. وَفِيه: فَمَا
وثقناه وَلَا حفرنا لَهُ قلت: قَالُوا: إِن المُرَاد فِي
قَوْله: وَلَا حفرنا لَهُ، يَعْنِي: حُفْرَة عَظِيمَة.
وَمِنْهَا: دَرْء الْحَد عَن الْمُعْتَرف إِذا رَجَعَ
كَمَا ورد فِي حَدِيث مَاعِز، أخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: (جَاءَ مَاعِز الْأَسْلَمِيّ إِلَى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِنَّه قد
زنى) الحَدِيث، وَفِي آخِره: هلا تركتموني؟ يَعْنِي حِين
ولى ماعزها هَارِبا من ألم الْحِجَارَة، وَأخْبر بِهِ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: ذَلِك.
وَمِنْهَا: أَن المرجوم والمقتول فِي الْحُدُود والمحاربة
وَغَيرهم يصلى عَلَيْهِم، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لَا
يُصَلِّي أحد على المرجوم وَقَاتل نَفسه، وَأَبُو يُوسُف
مَعَه فِي قَاتل النَّفس، وَقَالَ قَتَادَة: لَا يُصَلِّي
على ولد الزِّنَا.
وَمِنْهَا: أَن الإِمَام وَأهل الْفضل يصلونَ على المرجوم
كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيرهم، خلافًا لبَعض
الْمَالِكِيَّة.
وَمِنْهَا: أَن التَّلْقِين للرُّجُوع يسْتَحبّ لِأَن حذ
الزِّنَا لَا يحْتَاط لَهُ بالتحرير والتنقير عَنهُ بل
الِاحْتِيَاط فِي دَفعه، وَقد روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث
الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (ادرؤا الْحُدُود عَن الْمُسلمين مَا
اسْتَطَعْتُم فَإِن كَانَ لَهُ مخرج فَخلوا سَبيله، فَإِن
الإِمَام لَو يخطىء فِي الْعَفو خير لَهُ من أَن يخطىء فِي
الْعقُوبَة) . وَانْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ التِّرْمِذِيّ،
وَأخرج ابْن مَاجَه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إدفعوا الْحُدُود مَا
وجدْتُم لَهُ مدفعا) . وَفِي سَنَده إِبْرَاهِيم بن الْفضل
وَهُوَ ضَعِيف. وَأخرج أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من
حَدِيث ابْن جريج عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن
عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (تعافوا الْحُدُود فِيمَا بَيْنكُم
فَمَا بَلغنِي من حد فقد وَجب) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ
وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة مُخْتَار التمار عَن أبي مطر
عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: سَمِعت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (إدرؤا الْحُدُود) ومختار
هُوَ ابْن نَافِع ضَعِيف، وروى ابْن عدي من رِوَايَة ابْن
لَهِيعَة عَن يزِيد بن أبي حبيب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن
عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إدرؤا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ، وأقيلوا
الْكِرَام عثراتهم إلاَّ فِي حد من حُدُود الله) .
1725 - حدّثنا أبُو اليَمانِ أخْبرنا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْرِي قَالَ: أخبَرَني أبُو سلَمةَ بنُ عبْدِ
الرحْمانِ وسعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
قَالَ: أتَى رجُلٌ مِنْ أسْلَمَ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وهْوَ فِي المَسْجِدِ فَنادَاهُ فَقَالَ:
يَا رسولَ الله} إنَّ الآخِرَ قَدْ زَنَى، يَعْنِي
نَفْسَهُ، فأعْرَضَ عنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ وجِهِهِ
الَّذِي أعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُول الله إنَّ
الآخرَ قَدْ زَنَى، فأعْرضَ عَنْهُ فَتَنَحَّى لِشِقِّ
وجْهِهِ الَّذِي أعْرَضَ قِبَلَهُ، فَقَالَ لهُ ذالِكَ،
فأعْرَضَ عنهُ فَتَنَحَّى لهُ الرَّابِعَةَ، فَلمَّا
شَهِدَ علَى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ
(20/259)
دعاهُ فَقَالَ: هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ:
لَا. فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اذْهَبُوا
بِهِ فارْجُمُوهُ، وكانَ قَدْ أُحْصِنَ. حدّثنا وعنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبرنِي مَنْ سَمِعَ جابِرَ بنَ
عَبْدِ الله الأنْصَارِيَّ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ
رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بالمُصَلَّى بالمَدِينَةِ،
فلَمَّا أذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ جَمَزَ حتَّى أدْرَكْناهُ
بالحَرَّةِ فَرَجَمْناهُ حتَّى ماتَ.
هَذَا حَدِيث آخر فِي قصَّة مَاعِز عَن أبي هُرَيْرَة
أخرجه عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع عَن شُعَيْب بن
أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. وَأخرجه
مُسلم أَيْضا فِي الْحُدُود عَن عبد الله بن عبد
الرَّحْمَن الدَّارمِيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الرَّجْم عَن عَمْرو بن مَنْصُور كِلَاهُمَا عَن أبي
الْيَمَان.
قَوْله: (أَتَى رجل) ، هُوَ مَاعِز بن مَالك
الْأَسْلَمِيّ. قَوْله: (وَهُوَ فِي الْمَسْجِد) الْوَاو
فِيهِ للْحَال. قَوْله: (أَن الآخِر) ، بِفَتْح الْهمزَة
وَكسر الْخَاء أَي الْمُتَأَخر عَن السَّعَادَة الْمُدبر
المنحوس، وَقيل: الأرذل، وَقيل اللَّئِيم. قَوْله: (قبله)
بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة.
قَوْله: (وَعَن الزُّهْرِيّ) عطف على قَوْله: شُعَيْب عَن
الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، إِنَّمَا لم يبين الزُّهْرِيّ
هُنَا من هُوَ الَّذِي سَمعه مِنْهُ، وَقد صرح فِيمَا قبله
بِأَن الَّذِي سَمعه مِنْهُ هُوَ أَبُو سَلمَة بن عبد
الرَّحْمَن وَسَعِيد بن الْمسيب إِشَارَة إِلَى أَن لَهُ
شَيخا آخر غير أبي سَلمَة، وَسَعِيد قد سمع عَن أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
21 - (بابُ الخُلْعِ وكَيْفَ الطَّلاَقُ فِيهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْخلْع، بِضَم الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام، مَأْخُوذ من خلع الثَّوْب
والنعل وَنَحْوهمَا، وَذَلِكَ لِأَن الْمَرْأَة لِبَاس
للرجل، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {هن لِبَاس لكم
وَأَنْتُم لِبَاس لَهُنَّ} (الْبَقَرَة: 781) وَإِنَّمَا
جَاءَ مصدره بِضَم الْخَاء تَفْرِقَة بَين الإجرام
والمعاني، يُقَال خلع ثَوْبه وَنَعله خلعا بِفَتْح
الْخَاء، وخلع امْرَأَته خلعا وخلعة بِالضَّمِّ، وَأما
حَقِيقَته الشَّرْعِيَّة فَهُوَ فِرَاق الرجل امْرَأَته
على عوض يحصل لَهُ، هَكَذَا قَالَه شَيخنَا فِي (شرح
التِّرْمِذِيّ) وَقَالَ: هُوَ الصَّوَاب، وَقَالَ كثير من
الْفُقَهَاء: هُوَ مُفَارقَة الرجل امْرَأَته على مَال،
وَلَيْسَ بجيد، فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط كَون عرض الْخلْع
مَالا، فَإِنَّهُ لَو خَالعهَا عَلَيْهِ من دين أَو
خَالعهَا على قصاص لَهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ صَحِيح، وَإِن
لم يَأْخُذ الزَّوْج مِنْهَا شَيْئا فَلذَلِك عبرت بالحصول
لَا بِالْأَخْذِ. قلت: قَالَ أَصْحَابنَا: الْخلْع
إِزَالَة الزَّوْجِيَّة بِمَا يُعْطِيهِ من المَال.
وَقَالَ النَّسَفِيّ: الْخلْع الْفَصْل من النِّكَاح بِأخذ
المَال بِلَفْظ الْخلْع، وَشَرطه شَرط الطَّلَاق، وَحكمه
وُقُوع الطَّلَاق الْبَائِن، وَهُوَ من جِهَته يَمِين وَمن
جِهَتهَا مُعَاوضَة. وَأجْمع الْعلمَاء على مَشْرُوعِيَّة
الْخلْع إلاَّ بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ التَّابِعِيّ
الْمَشْهُور، حَكَاهُ ابْن عبد الْبر فِي (التَّمْهِيد)
قَالَ عقبَة بن أبي الصَّهْبَاء: سَأَلت بكر بن عبد الله
الْمُزنِيّ عَن الرجل يُرِيد أَن يخالع امْرَأَته،
فَقَالَ: لَا يحل لَهُ أَن يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا. قلت:
فَأَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِن خِفْتُمْ أَن لَا
يُقِيمَا حُدُود الله فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا
افتدت} (الْبَقَرَة: 922) قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَة. قلت:
وَمَا نسخهَا؟ قَالَ: مَا فِي سُورَة النِّسَاء، قَوْله
تَعَالَى: {وَإِن أردتم استبدال زوج مَكَان زوج وَآتَيْتُم
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (النِّسَاء: 02) الْآيَة قَالَ
ابْن عبد الْبر: قَول بكر بن عبد الله هَذَا خلاف السّنة
الثَّابِتَة فِي قصَّة ثَابت بن قيس وحبيبة بنت سهل
وَخَالف جمَاعَة الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء بالحجاز
وَالْعراق وَالشَّام انْتهى وخصص ابْن سِيرِين وَأَبُو
قلَابَة جَوَازه بِوُقُوع الْفَاحِشَة فَكَانَا
يَقُولَانِ: لَا يحل للزَّوْج الْخلْع حَتَّى يجد على
بَطنهَا رجلا، لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {إِلَّا أَن
يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة} (النِّسَاء: 91، الطَّلَاق:
1) قَالَ أَبُو قلَابَة: فَإِذا كَانَ ذلكف قد جَازَ لَهُ
أَن يضارها ويشق عَلَيْهَا حَتَّى تختلع مِنْهُ. قَالَ
أَبُو عمر: لَيْسَ هَذَا بِشَيْء لِأَن لَهُ أَن يطلقهَا
أَو يلاعنها، وَأما أَن يضارها ليَأْخُذ مَالهَا فَلَيْسَ
لَهُ ذَلِك. قَوْله: وَكَيف الطَّلَاق فِيهِ؟ أَي: كَيفَ
حكم الطَّلَاق فِي الْخلْع؟ هَل تقع الطَّلَاق
بِمُجَرَّدِهِ أَو لَا يَقع حَتَّى يذكر الطَّلَاق إِمَّا
اللَّفْظ أَو بِالنِّيَّةِ؟ وللفقهاء فِيهِ خلاف فَعِنْدَ
أَصْحَابنَا الْوَاقِع بِلَفْظ الْخلْع وَالْوَاقِع
بِالطَّلَاق على مَال بَائِن. وَعند الشَّافِعِي فِي
الْقَدِيم فسخ وَلَيْسَ بِطَلَاق، يرْوى ذَلِك عَن ابْن
عَبَّاس، حَتَّى لَو خَالعهَا مرَارًا ينْعَقد النِّكَاح
بَينهمَا بِغَيْر تزوج بِزَوْج آخر، وَبِه قَالَ أَحْمد،
وَفِي قَول الشَّافِعِي: إِنَّه رَجْعِيّ، وَفِي قَول
وَهُوَ أصح أَقْوَاله: إِنَّه طَلَاق بَائِن كمذهبنا
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْخلْع تَطْلِيقَة
بَائِنَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد نَص الشَّافِعِي فِي
الْإِمْلَاء على أَنه من صرائح الطَّلَاق.
وَفِي (التَّوْضِيح) : اخْتلف الْعلمَاء فِي الْبَيْنُونَة
بِالْخلْعِ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: إِنَّه تَطْلِيقَة
بَائِنَة، رُوِيَ عَن عُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود،
إِلَّا أَن تكون سمت ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاث، وَهُوَ قَول
مَالك وَالثَّوْري
(20/260)
وَالْأَوْزَاعِيّ والكوفيين وَأحد قولي
الشَّافِعِي. وَالثَّانِي: إِنَّه فسخ وَلَيْسَ بِطَلَاق
إِلَّا أَن ينويه، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وطاووس
وَعِكْرِمَة، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو
ثَوْر. وَهُوَ قَول الشَّافِعِي الآخر. انْتهى. والْحَدِيث
الَّذِي احْتج بِهِ أَصْحَابنَا وذكروه فِي كتبهمْ
مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ
وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سُنَنهمَا) من حَدِيث عباد بن كثير
عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: جعل الْخلْع تَطْلِيقَة
بَائِنَة، وَرَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَأعله
بعباد بن كثير الثَّقَفِيّ وَأسْندَ عَن البُخَارِيّ،
قَالَ: تَرَكُوهُ، وَعَن النَّسَائِيّ مَتْرُوك الحَدِيث،
وَعَن شُعْبَة: إحذروا حَدِيثه، وَسكت عَنهُ
الدَّارَقُطْنِيّ إلاَّ أَنه أخرجه عَن ابْن عَبَّاس
خِلَافه من رِوَايَة طَاوُوس عَنهُ، قَالَ: الْخلْع فرقة
وَلَيْسَ بِطَلَاق وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) :
حَدثنَا بن جريج عَن دَاوُد بن أبي عَاصِم عَن سعيد بن
الْمسيب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل الْخلْع
تَطْلِيقَة، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي
(مُصَنفه) .
وقَوْلِ الله تَعَالَى: { (2) وَلَا يحل لكم أَن
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا} إِلَى قَوْله:
{ (2) الظَّالِمُونَ} (الْبَقَرَة: 922)
وَقَول الله بِالْجَرِّ عطف على قَوْله الْخلْع، الْمُضَاف
إِلَيْهِ لفظ الْبَاب، وَفِي لفظ رِوَايَة أبي ذَر: وَقَول
الله: {وَلَا يحل لكم} إِلَى قَوْله: {إِلَّا أَن يُقِيمَا
حُدُود الله} (الْبَقَرَة: 922) وَفِي رِوَايَة
النَّسَفِيّ: وَقَول الله تَعَالَى: {وَلَا يحل لكم} إِلَى
قَوْله: {إِلَّا أَن يخافا} وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا من
أول الْآيَة إِلَى قَوْله: {الظَّالِمُونَ} وَهَذَا كُله
لَيْسَ مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ، بل ذكر بعض الْآيَة كافٍ،
وَإِنَّمَا ذكر هَذِه الْآيَة لِأَنَّهَا نزلت فِي
قَضِيَّة امْرَأَة ثَابت ابْن قيس بن شماس الَّتِي اخْتلعت
مِنْهُ، وَهُوَ أول خلع كَانَ فِي الْإِسْلَام، وفيهَا
بَيَان مَا يفعل فِي الْخلْع. قَوْله: (وَلَا يحل لكم أَن
تَأْخُذُوا) أَي: لَا يحل لكم أَن تضاجروهن وتضيقوا
عَلَيْهِنَّ ليفتدين مِنْكُم بِمَا أعطيتموهن من الأصدقة
أَو بِبَعْضِه. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: إِن قلت الْخطاب
للأزواج لم يطابقه: {فَإِن أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله}
وَإِن قلت للأئمة والحكام، فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا بآخذين
مِنْهُم وَلَا بمؤتيهن. ثمَّ أجَاب بِأَنَّهُ يجوز
الْأَمْرَانِ جَمِيعًا أَن يكون أول الْخطاب للأزواج
وَآخره للأئمة والحكام، وَأَن يكون الْخطاب كُله للأئمة
والحكام لأَنهم الَّذين يأمرون بِالْأَخْذِ والإيتاء
عندالترافع إِلَيْهِم، فكأنهم الآخذون والمؤتون. قَوْله:
(مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ) أَي: مِمَّا أعطيتموهن من
الصَّدقَات. قَوْله: (إِلَّا أَن يخافا) أَي: الزَّوْجَانِ
{أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله} أَي: أَلا يُقِيمَا مَا
يلْزمهُمَا من مواجب الزَّوْجِيَّة لما يحدث من نشوز
الْمَرْأَة وَسُوء خلقهَا، وَقَرَأَ الْأَعْرَج وَحَمْزَة:
يخافا بِضَم الْيَاء وَفِي قِرَاءَة عبد الله: إِلَّا أَن
يخَافُوا. قَوْله: {فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا} أَي: على
الزَّوْج فِيمَا أَخذ وعَلى الْمَرْأَة فِيمَا أَعْطَتْ،
وَأما إِذا لم يكن لَهَا عذر وَسَأَلت الافتداء مِنْهُ فقد
دخلت فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيّمَا
امْرَأَة سَأَلت زَوجهَا طَلاقهَا من غير بَأْس فَحَرَام
عَلَيْهَا رَائِحَة الْجنَّة. أخرجه التِّرْمِذِيّ من
حَدِيث ثَوْبَان، وَرَوَاهُ ابْن جرير أَيْضا، وَفِي آخِره
قَالَ: المختلعات من المنافقات.
وأجازَ عُمَرُ الخلْعَ دُونَ السلْطَانِ
أَي: أجَاز عمر بن الْخطاب الْخلْع دون السُّلْطَان، أَي:
بِغَيْر حُضُور السُّلْطَان، وَأَرَادَ بِهِ الْحَاكِم،
وَوَصله ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن شُعْبَة عَن الحكم
عَن خَيْثَمَة، قَالَ: أَتَى بشر بن مَرْوَان فِي خلع
كَانَ بَين رجل وَامْرَأَته، فَلم يجزه، فَقَالَ لَهُ عبد
الله بن شهَاب: شهِدت عمر بن الْخطاب أَتَى فِي خلع كَانَ
بَين رجل وَامْرَأَته فَأَجَازَهُ، وَحَكَاهُ أَيْضا عَن
ابْن سِيرِين وَالشعْبِيّ وَمُحَمّد بن شهَاب وَيحيى بن
سعيد، وَقَالَ الْحسن: لَا يكون الْخلْع دون السُّلْطَان،
أخرجه سعيد بن مَنْصُور عَن هشيم عَن يُونُس عَنهُ.
وأجازَ عُثْمانُ الخُلْعَ دُونَ عِقاصِ رأسِها
أَي: أجَاز عُثْمَان بن عَفَّان الْخلْع دون عقَاص رَأسهَا
أَي: رَأس الْمَرْأَة والعقاص بِكَسْر الْعين جمع عقصة أَو
عقيصة، وَهِي الضفيرة. وَقيل: هُوَ الْخَيط الَّذِي يعقص
بِهِ أَطْرَاف الذوائب. قَالَ ابْن الْأَثِير: وَالْأول
أوجه، وَالْمعْنَى أَن المختلعة إِذا افتدت نَفسهَا من
زَوجهَا بِجَمِيعِ مَا تملك كَانَ لَهُ أَن يَأْخُذ مَا
دون عقَاص شعرهَا من جَمِيع ملكهَا. وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) : هَذَا اللَّفْظ يَعْنِي قَوْله: أجَاز
عُثْمَان الْخلْع دون عقَاص رَأسهَا، لم أره إلاَّ عَن
أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، رَوَاهُ أَبُو بكر عَن عَفَّان: حَدثنَا همام
حَدثنَا مطر عَن ثَابت عَن عبد الله بن رَبَاح: أَن عمر
قَالَ: اخْلَعْهَا بِمَا دون عقاصها، وَفِي لفظ
(20/261)
اخْلَعْهَا وَلَو من قُرْطهَا، وَعَن ابْن
عَبَّاس: حَتَّى من عقاصها. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح)
وَأثر عُثْمَان لَا يحضرني نعم أخرجه ابْن أبي شيبَة عَن
عَفَّان ... الخ نَحْو مَا قَالَه صَاحب (التَّلْوِيح)
وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه رَوَاهُ مَوْصُولا فِي (أمالي أبي
الْقَاسِم) من طَرِيق شريك عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن
عقيل عَن الرّبيع بنت معوذ قَالَت: اخْتلعت من زَوجي بِمَا
دون عقَاص رَأْسِي، فَأجَاز ذَلِك عُثْمَان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق روح بن
الْقَاسِم عَن ابْن عقيل مطولا، وَقَالَ فِي آخِره: فَدفعت
إِلَيْهِ كل شَيْء حَتَّى أجفت الْبَاب بيني وَبَينه،
وَهَذَا يدل على أَن معنى: دون، سوى أَي: أجَاز للرجل أَن
يَأْخُذ من الْمَرْأَة فِي الْخلْع مَا سوى عقَاص رَأسهَا.
انْتهى. قلت: قَول ابْن عَبَّاس الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا
يدل على أَنه يَأْخُذ عقَاص شعرهَا، وَهُوَ الْخَيط
الَّذِي يعقص بِهِ أَطْرَاف الذوائب، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَقَالَ ابْن كثير: وَمعنى هَذَا أَنه لَا يجوز أَن
يَأْخُذ كل مَا بِيَدِهَا من قَلِيل وَكثير، وَلَا يتْرك
لَهَا سوى عقَاص شعرهَا، وَبِه قَالَ مُجَاهِد
وَإِبْرَاهِيم، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وبنحوه قَالَ ابْن
عمر وَعُثْمَان بن عَفَّان وَالضَّحَّاك وَعِكْرِمَة،
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَدَاوُد وروى عبد الرَّزَّاق عَن
الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان عَن لَيْث بن أبي سليم عَن
الحكم بن عتيبة: أَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا يَأْخُذ من المختلعة فَوق مَا
أَعْطَاهَا. وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا لَا يَصح عَن عَليّ
لِأَنَّهُ مُنْقَطع، وَفِيه لَيْث، وَذكر هَذَا ابْن أبي
شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن عَطاء وطاووس وَعِكْرِمَة
وَالْحسن وَمُحَمّد بن شهَاب الزُّهْرِيّ وَعَمْرو بن
شُعَيْب وَالْحكم وَحَمَّاد وَقبيصَة بن ذُؤَيْب، وَقَالَ
ابْن كثير فِي (تَفْسِيره) : وَهَذَا مَذْهَب مَالك
وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ وَأبي ثَوْر، وَاخْتَارَهُ ابْن
جرير، وَقَالَ أَصْحَاب أبي حنيفَة: إِن كَانَ الْإِضْرَار
من جِهَته لم يجز أَن يَأْخُذ مِنْهَا شَيْئا، وَإِن أَخذ
جَازَ فِي الْقَضَاء وَفِي (التَّلْوِيح) قَالَ أَبُو
حنيفَة: فَإِن أَخذ أَكثر مِمَّا أَعْطَاهُم فليتصدق بِهِ.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد وَأَبُو عبيد وَإِسْحَاق: لَا
يجوز أَن يَأْخُذ أَكثر مِمَّا أَعْطَاهَا، وَعَن مَيْمُون
بن مهْرَان: إِن أَخذ أَكثر مِمَّا أَعْطَاهَا فَلم يسرح
بِإِحْسَان، وَعَن عبد االملك الْجَزرِي: لَا أحب أَن
يَأْخُذ مِنْهَا كل مَا أَعْطَاهَا حَتَّى يدع لَهَا مَا
يعيشها.
وَقَالَ طاوُوسٌ: { (2) إِلَّا أَن يخافا أَن لَا يُقِيمَا
حُدُود الله} (الْبَقَرَة: 922) فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ
واحِدٍ منْهُما علَى صاحبِهِ فِي العِشْرَةِ والصُّحْبَةِ،
ولَمْ يَقَلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ لَا يحِلُّ حتَّى
تَقُولَ: لَا أغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جنَابَةٍ.
أَي: قَالَ طَاوُوس فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا
أَن يخافا} أَي: الزَّوْجَانِ {أَن لَا يُقِيمَا حُدُود
الله} ... الخ قَوْله: (لم يقل) أَي: وَلم يقل الله (قَول
السُّفَهَاء) : لَا يحل لكم أَن تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئا إِلَّا أَن تَقول الْمَرْأَة: لَا
أَغْتَسِل لَك من جَنَابَة، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تصير
نَاشِزَة فَيحل الْأَخْذ مِنْهَا. وَقَوْلها: (لَا اغْتسل)
إِمَّا كِنَايَة عَن الْوَطْء وَإِمَّا حَقِيقَة. وَهَذَا
التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن ابْن علية حَدثنَا
ابْن جريج عَنهُ بِلَفْظ: يحل لَهُ الْفِدَاء، كَمَا قَالَ
الله عز وَجل: {إِلَّا أَن يخافا أَن لَا يُقِيمَا حُدُود
الله} وَلم يكن يَقُول قَول السُّفَهَاء حَتَّى تَقول: لَا
أَغْتَسِل لَك من جَنَابَة، وَلكنه كَانَ يَقُول: {إِلَّا
أَن يخافا أَن لَا يُقِيمَا حُدُود الله} فِيمَا افْترض
لكل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه فِي الْعشْرَة.
3725 - حدّثنا أزْهَرُ بنُ جَمِيلٍ حَدثنَا عبْدُ
الوَهَّابِ الثقَفِيُّ حَدثنَا خالِدٌ عنُ عِكْرمَةَ عنِ
ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ امْرَأةَ ثابِتِ بن قَيْسً أتَت
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فقالَتْ: يَا رسولَ الله
{ثابِتٌ بن قَسْسٍ} مَا أعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلقٍ ولاَ
دِينٍ، ولَكنِّي أكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإسْلاَمِ. فَقَالَ
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتَرُدِّينَ علَيْهه
حَدِيقَتَهُ؟ قالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اقْبَل الحَدِيقَةَ وطَلِّقْها
تَطْلِيقَةً.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ بَيَان كَيفَ
الطَّلَاق فِي الْخلْع. وأزهر، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون
الزَّاي وَفتح الْهَاء: ابْن جميل بِفَتْح الْجِيم أَبُو
مُحَمَّد الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَخمسين
وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ من أَفْرَاده لم يخرج عَنهُ فِي
الْخلْع غير هَذَا الْموضع. وَقد أخرجه النَّسَائِيّ عَنهُ
أَيْضا، وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ
بالثاء الْمُثَلَّثَة وَالْقَاف وَالْفَاء، وخَالِد هُوَ
ابْن مهْرَان الْحذاء.
قَوْله: (أَن امْرَأَة ثَابت بن قيس) أبهم البُخَارِيّ
اسْمهَا هُنَا وَفِي الطَّرِيق الَّتِي بعْدهَا، وسماها
فِي آخر الْبَاب بجميلة، بِفَتْح الْجِيم وَكسر الْمِيم.
قَالَ
(20/262)
أَبُو عمر: جميلَة بنت أبي بن سلول
امْرَأَة ثَابت بن قيس الَّتِي خالعته وَردت عَلَيْهِ
حديقته، هَكَذَا روى البصريون، وَخَالفهُم أهل الْمَدِينَة
فَقَالُوا: إِنَّهَا حَبِيبَة بنت سهل الْأنْصَارِيّ،
قَالَ: وَكَانَت جميلَة قبل ثَابت بن قيس تَحت حَنْظَلَة
بن أبي عَامر الغسيل، ثمَّ تزَوجهَا بعده ثَابت بن قيس بن
مَالك بن دخشم ثمَّ تزَوجهَا بعده حبيب بن أساف
الْأنْصَارِيّ.
وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى:
اخْتلفت طرق الحَدِيث فِي اسْم امْرَأَة ثَابت بن قيس
الَّتِي خَالعهَا، فَفِي أَكثر طرقه أَن اسْمهَا: حَبِيبَة
بنت سهل، هَكَذَا عِنْد مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) من
حَدِيثهَا وَمن طَرِيقه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ، وَكَذَا فِي حَدِيث عَائِشَة عِنْد أبي
دَاوُد، وَكَذَا فِي حَدِيث عبد الله بن عمر، وَعند ابْن
مَاجَه بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس: إِنَّهَا
جميلَة بنت سلول، وسلول هِيَ أمهَا، وَيُقَال: اخْتلف فِي
سلول: هَل هِيَ أم أبي أَو امْرَأَته، وَوَقع فِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث الرّبيع بنت
معوذ: جميلَة بنت عبد الله بن أبي، وَبِذَلِك جزم ابْن سعد
فِي (الطَّبَقَات) فَقَالَ: جميلَة بنت عبد الله بن أبي،
وَوَقع فِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن عِكْرِمَة: أُخْت عبد
الله بن أبي، وَهُوَ كَبِير الْخَزْرَج وَرَأس النِّفَاق،
وَقع عِنْد النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد جيد من
حَدِيث الرّبيع بنت معوذ أَن اسْمهَا: مَرْيَم المغالية،
وَعند الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة أبي
الزبير: أَن ثَابت بن قيس كَانَت عِنْده زَيْنَب بنت عبد
الله بن أبي بن سلول. قَالَ الشَّيْخ: وَأَصَح طرقه حَدِيث
حَبِيبَة بنت سهل على أَنه يجوز أَن يكون الْخلْع قد تعدد
غير مرّة من ثَابت بن قيس لهَذِهِ فَإِن فِي بعض طرقه:
أصدقهَا حديقة، وَفِي بَعْضهَا: حديقتين، وَلَا مَانع أَن
يكون وَاقِعَتَيْنِ فَأكْثر. وَقد صَحَّ كَونهَا حَبِيبَة
وَصَحَّ كَونهَا جميلَة، وَصَحَّ كَونهَا مَرْيَم، وَأما
تَسْمِيَتهَا زَيْنَب فَلم يَصح قلت: لم يذكر أَبُو عمر
مَرْيَم وَذكرهَا الذَّهَبِيّ، وَقَالَ: مَرْيَم
الْأَنْصَارِيَّة المغالية من بني مغالة امْرَأَة ثَابت بن
قيس، لَهَا ذكر فِي حَدِيث الرّبيع انْتهى. وثابت بن قيس
بن شماس بن مَالك بن امرىء الْقَيْس الخزرجي، وَكَانَ خطيب
الْأَنْصَار، وَيُقَال: خطيب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا يُقَال لحسان بن ثَابت: شَاعِر
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شهد أحدا وَمَا
بعْدهَا من الْمشَاهد وَقتل يَوْم الْيَمَامَة شَهِيدا فِي
خلَافَة أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (وَمَا أَعتب) ، بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق وَكسرهَا من عتب عَلَيْهِ إِذا وجد عَلَيْهِ يُقَال:
عتب على فلَان أَعتب عتبا وَالِاسْم المعتبة، والعتاب هُوَ
الْخطاب بإدلال، ويروى: وَمَا أعيب، بِالْيَاءِ آخر
الْحُرُوف من الْعَيْب أَي: لَا أغضب عَلَيْهِ، وَلَا
أُرِيد مُفَارقَته لسوء خلقه وَلَا لنُقْصَان دينه،
وَلَكِن أكرهه طبعا فَأَخَاف على نَفسِي فِي الْإِسْلَام
مَا يُنَافِي مُقْتَضى الْإِسْلَام باسم مَا يُنَافِي فِي
نفس الْإِسْلَام، وَهُوَ الْكفْر، وَيحْتَمل أَن يكون من
بَاب الْإِضْمَار أَي: لكني أكره لَوَازِم الْكفْر من
المعاداة والنفاق وَالْخُصُومَة وَنَحْوهَا، وَجَاء فِي
رِوَايَة جرير بن حَازِم إلاَّ أَنِّي أَخَاف الْكفْر،
قيل: كَأَنَّهَا أشارت إِلَى أَنَّهَا قد تحملهَا شدَّة
كراهتها على إِظْهَار الْكفْر لينفسخ نِكَاحهَا مِنْهُ،
وَهِي تعرف أَن ذَلِك حرَام، لَكِن خشيت أَن يحملهَا شدَّة
البغض على الْوُقُوع فِيهِ. وَقيل: يحْتَمل أَن يُرِيد
بالْكفْر كفران العشير إِذْ هُوَ تَقْصِير الْمَرْأَة فِي
حق الزَّوْج، وَجَاء فِي رِوَايَة ابْن جرير: وَالله مَا
كرهت مِنْهُ خلقا وَلَا ذَنبا إلاَّ أَنِّي كرهت دمامته،
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ قَالَت: يَا رَسُول الله {لَا
يجمع رَأْسِي وَرَأسه شَيْئا أبدا إِنِّي رفعت جَانب
الْحيَاء فرأيته أقبل فِي عدَّة فَإِذا هُوَ أَشَّدهم
سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وَجها ... الحَدِيث، وَفِي
رِوَايَة ابْن مَاجَه: كَانَ رجلا دميما، فَقَالَت: يَا
رَسُول الله} وَالله لَوْلَا مَخَافَة الله إِذا دخل عَليّ
بصقت فِي وَجهه وَعَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، قَالَ:
بَلغنِي أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله! وَبِي من
الْجمال مَا ترى وثابت رجل دميم فَإِن قلت: جَاءَ فِي
رِوَايَة النَّسَائِيّ: أَنه كسر يَدهَا فَكيف تَقول لَا
أَعتب ... الخ؟ قلت: أردْت أَنه سيء الْخلق لَكِنَّهَا مَا
تعيبته بذلك، وَلَكِن تعييبها إِيَّاه كَانَ بالوجوه
الَّتِي ذَكرنَاهَا. قَوْله: (حديقته) ، أَي: بستانه
الَّذِي أَعْطَاهَا. قَوْله: (وطلِّقها) الْأَمر فِيهِ
للإرشاد والاستصلاح لَا للْإِيجَاب والإلزام، وَوَقع فِي
رِوَايَة جرير بن حَازِم: فَردَّتْ عَلَيْهِ فَأمره
ففارقها.
قَالَ أبُو عبْدِ الله: لَا يُتابَعُ فِيهِ عنِ ابنِ
عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه أَي: لَا يُتَابع
أَزْهَر بن جميل على ذكر ابْن عَبَّاس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي هَذَا الحَدِيث بل أرْسلهُ غَيره،
وَمرَاده بذلك خُصُوص طَرِيق خَالِد الْحذاء عَن
عِكْرِمَة، وَلِهَذَا عقبه بِرِوَايَة خَالِد على مَا
يَأْتِي الْآن.
(20/263)
4725 - إسْحاقُ الوَاسِطِيُّ حَدثنَا
خالِدٌ عنْ خَالِد الحَذَّاء عنْ عِكْرِمَةَ: أنَّ أُخْتَ
عبْدِ الله بن أُبَيٍّ بهاذَا، وَقَالَ: تَرُدِّينَ
حَدِيقَتَهُ؟ قالَتْ: نَعَمْ، فَرَدَّتْها وأمَرَهُ
يُطَلِّقْها وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ عنْ خالِدٍ
عنْ عِكْرِمَةَ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر هَذَا تأييدا لقَوْله: لَا يُتَابع فِيهِ عَن ابْن
عَبَّاس، أَرَادَ أَنه عَن عِكْرِمَة فَقَط أخرجه عَن
إِسْحَاق الوَاسِطِيّ وَهُوَ إِسْحَاق ابْن شاهين أَبُو
بشر، يروي عَن خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان عَن خَالِد
الْحذاء عَن عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، مُرْسلا.
قَوْله: (وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن طهْمَان) بِفَتْح الطَّاء
الْمُهْملَة وَسُكُون الْهَاء: الْهَرَوِيّ وَسكن نيسابور،
ويروي عَن خَالِد الْحذاء عَن عِكْرِمَة عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يذكر فِيهِ ابْن عَبَّاس، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بل أرْسلهُ، وَوصل هَذَا
الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن إِبْرَاهِيم عَن أَيُّوب بن أبي
تَمِيمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، على مَا يَجِيء
الْآن.
6725 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عبدِ الله بنِ المُبارَكِ
المخَرِّمِيُّ حَدثنَا قُرَادٌ أبُو نُوحٍ حَدثنَا جَرِيرُ
بنُ جازِمٍ عَن أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاس،
رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: جاءَتِ امْرَأةُ ثابتِ بن
قَيْسِ بن شَمَّاسٍ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فقالَتْ: يَا سولَ الله! ماأنْقمُ علَى ثابِتٍ فِي دِينٍ
وَلَا خُلُقٍ إلاّ أنِّي أخافُ اللكُفْرَ. فقالَ رسولُ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَتَرُدِّينَ عَليْهِ
حَديقَتَهُ؟ فقالَتْ: نَعَمْ. فَرُدَّتْ عَليْهِ وأمَرَهُ
ففارَقَها.
هَذَا طَرِيق آخر وَهُوَ مَوْصُول أخرجه عَن مُحَمَّد بن
عبد الله بن الْمُبَارك المخرمي، بِضَم الْمِيم وَفتح
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة:
مَنْسُوب إِلَى محلّة من محَال بَغْدَاد أبي جَعْفَر
الْحَافِظ قَاضِي حلوان، مَاتَ سنة أَربع وَخمسين
وَمِائَتَيْنِ، وقراد بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الرَّاء
لقب، واسْمه عبد الرَّحْمَن بن غَزوَان، وكنيته أَبُو نوح
وَهُوَ من كبار الْحفاظ وثقوه، وَلَكِن خَطؤُهُ فِي حَدِيث
وَاحِد حدث بِهِ عَن اللَّيْث خُولِفَ فِيهِ، وَلَيْسَ
لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الْموضع.
قَوْله: (فَردَّتْ عَلَيْهِ) بِصِيغَة الْمَجْهُول أَي:
ردَّتْ الحديقة على ثَابت. قَوْله: (وَأمره) أَي: وَأمره
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ففارقها.
7725 - حدّثنا سُلَيْمَانُ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ
عنْ عِكْرِمَةَ أنَّ جَمِيلَةَ فَذَكَرَ الحَدِيثَ.
(انْظُر الحَدِيث 3725 أَطْرَافه)
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اسْم الْمَرْأَة الَّتِي
خَالعهَا ثَابت بن قيس جميلَة بِالْجِيم، وَقد ذكرنَا
الِاخْتِلَاف فِيهِ عَن قريب، أخرجه عَن سُلَيْمَان بن
حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ،
فَذكر الحَدِيث الْمَذْكُور الخ.
31 - (بابُ الشِّقاقِ وهَلْ يُشِيرُ بالخُلْعِ عِنْدَ
الضَّرُورَةِ)
(20/264)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الشقاق
الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ شقَاق
بَينهمَا} قَالَ ابْن عَبَّاس الْخَوْف هُنَا بمهنى الْعلم
والشقاق بِالْكَسْرِ: الْخلاف، وَقيل: الْخِصَام. قَوْله:
(هَل يُشِير بِالْخلْعِ) فَاعل يُشِير مَحْذُوف وَهُوَ
إِمَّا الحكم من أحد الزَّوْجَيْنِ أَو الْوَلِيّ أَو أحد
مِنْهُمَا أَو الْحَاكِم إِذا ترافعا إِلَيْهِ، والقرينة
الحالية والمقالية تدل على ذَلِك. قَوْله: (عِنْد
الضَّرُورَة) وَعند النَّسَفِيّ للضَّرَر أَي لأجل
الضَّرَر الْحَاصِل لأحد الزَّوْجَيْنِ أَو لَهما.
وقَوْلهِ تَعَالَى: { (4) وَإِن خِفْتُمْ شقَاق بَينهمَا
فَابْعَثُوا حكما من أَهله} إلَى قَوْلِه { (4) خَبِيرا}
(النِّسَاء: 53) .
وَقَوله بِالْجَرِّ عطف على: الشقاق، الْمَجْرُور
بِالْإِضَافَة، وَفِي بعض النّسخ: وَقَول الله تَعَالَى،
وَعند أبي ذَر والنسفي: وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن خِفْتُمْ
شقَاق بَينهمَا} الْآيَة، وَزَاد غَيرهمَا. {فَابْعَثُوا
حكما من أَهله وَحكما من أَهلهَا} إِلَى قَوْله: {خَبِيرا}
قَوْله: (وَإِن خِفْتُمْ) الْخطاب للحكام، وشقاق مُضَاف
إِلَى قَوْله: بَينهمَا، على طَرِيق الاتساع كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {بل مكر اللَّيْل وَالنَّهَار} (سبأ: 33)
وَالضَّمِير يرجع إِلَى الزَّوْجَيْنِ وَلم يجر ذكرهمَا
لجري ذكر مَا يدل عَلَيْهِمَا، وَهُوَ الرِّجَال
وَالنِّسَاء، وَقَالَ ابْن بطال: المُرَاد بقوله: {إِن
يُرِيد إصلاحا} الحكمان، وَإِن الْحكمَيْنِ يكون أَحدهمَا
من جِهَة الرجل وَالْآخر من جِهَة الْمَرْأَة إلاَّ أَن
لَا يُوجد من أهلهما من يصلح فَيجوز أَن يكون من
الْأَجَانِب مِمَّن يصلح لذَلِك، وأنهما إِذا اخْتلفَا لم
ينفذ قَوْلهمَا، وَإِن اتفقَا نفذ فِي الْجَمِيع بَينهمَا
من غير تَوْكِيل.
وَاخْتلفُوا فِيمَا إِذا اتفقَا على الْفرْقَة، فَقَالَ
مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق: ينفذ من غير تَوْكِيل
وَلَا إِذن من الزَّوْجَيْنِ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: يحتاجان إِلَى الْإِذْن، لِأَن
الطَّلَاق بيد الزَّوْج، فَإِن أذن فِي ذَلِك وإلاَّ
فالحاكم طلق عَلَيْهِ، وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ: الحكمان بهما يجمع الله
وَبِهِمَا يفرق. وَقَالَ الشّعبِيّ: مَا قضى الحكمان
جَازَ، وَقَالَ أَبُو سَلمَة: الحكمان إِن شاءا جمعا وَإِن
شاءا فرقا. وَقَالَ مُجَاهِد نَحوه، وَعَن الْحسن: إِذا
اخْتلفَا جعل غَيرهمَا وَإِن اتفقَا جَازَ حكمهمَا.
وَسُئِلَ عَامر عَن رجل وَامْرَأَة حكَّما رجلا ثمَّ بدا
لَهما أَن يرجعا، فَقَالَ: ذَلِك لَهما مَا لم يتكلما،
فَإِذا تكلما فَلَيْسَ لَهما أَن يرجعا. وَقَالَ مَالك فِي
الْحكمَيْنِ يطلقان ثَلَاثًا، قَالَ: تكون وَاحِدَة
وَلَيْسَ لَهما الْفِرَاق بِأَكْثَرَ من وَاحِدَة
بَائِنَة. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يلْزم الثَّلَاث إِن
اجْتمعَا عَلَيْهِ، وَقَالَ الْمُغيرَة وَأَشْهَب وَابْن
الْمَاجشون وإصبغ: وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز: إِن حكم
أَحدهمَا بِوَاحِدَة وَالْآخر بِثَلَاث فَهِيَ وَاحِدَة،
وَحكى ابْن حبيب عَن إصبغ أَن ذَلِك لَيْسَ بِشَيْء.
23 - (حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا اللَّيْث عَن ابْن
أبي مليكَة عَن الْمسور بن مخرمَة الزُّهْرِيّ قَالَ
سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَقُول إِن بني الْمُغيرَة اسْتَأْذنُوا فِي أَن ينْكح
عَليّ ابنتهم فَلَا آذن) قَالَ ابْن التِّين لَيْسَ فِي
الحَدِيث دلَالَة على مَا ترْجم أَرَادَ أَنه لَا
مُطَابقَة بَين الحَدِيث والترجمة وَعَن الْمُهلب حاول
البُخَارِيّ بإيراده أَن يَجْعَل قَول النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلَا آذن خلعا وَلَا يقوى
ذَلِك لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْخَبَر إِلَّا أَن يُرِيد
ابْن أبي طَالب أَن يُطلق ابْنَتي فَدلَّ على الطَّلَاق
فَإِن أَرَادَ أَن يسْتَدلّ بِالطَّلَاق على الْخلْع
فَهُوَ ضَعِيف وَقيل فِي بَيَان الْمُطَابقَة بَين
الحَدِيث والترجمة بقوله يُمكن أَن تُؤْخَذ من كَونه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَشَارَ بقوله فَلَا
آذن إِلَى أَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يتْرك
الْخطْبَة فَإِذا سَاغَ جَوَاز الْإِشَارَة بِعَدَمِ
النِّكَاح الْتحق بِهِ جَوَاز الْإِشَارَة بِقطع النِّكَاح
انْتهى وَأحسن من هَذَا وأوجه مَا قَالَه الْكرْمَانِي
بقوله أورد هَذَا الحَدِيث هُنَا لِأَن فَاطِمَة رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا مَا كَانَت ترْضى بذلك وَكَانَ
الشقاق بَينهَا وَبَين عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
متوقعا فَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
دفع وُقُوعه انْتهى وَقيل يحْتَمل أَن يكون وَجه
الْمُطَابقَة من بَاقِي الحَدِيث وَهُوَ إِلَّا أَن يُرِيد
عَليّ أَن يُطلق ابْنَتي فَيكون من بَاب الْإِشَارَة
بِالْخلْعِ وَفِيه تَأمل وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد
الْملك الطَّيَالِسِيّ وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد الله بن
عبد الرَّحْمَن بن أبي ملكية واسْمه زُهَيْر الْمَكِّيّ
القَاضِي على عهد ابْن الزبير والمسور بِكَسْر الْمِيم
ابْن مخرمَة بِفَتْح الميمين الزُّهْرِيّ وَهَذَا قِطْعَة
من حَدِيث فِي خطْبَة عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بنت
أبي جهل وَقد مر فِي كتاب النِّكَاح فِي بَاب ذب الرجل عَن
ابْنَته فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة عَن
اللَّيْث عَن أبي مليكَة عَن الْمسور بن مخرمَة إِلَى
آخِره وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ
(20/265)
41 - (بابٌ لَا يَكُونُ بَيْعُ الأمَةِ
طَلاَقا)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ لَا يكون بيع الْأمة
الْمُزَوجَة طَلَاقا، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي
طَلاقهَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عمر وَعبد الرَّحْمَن بن
عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص، وَمذهب كَافَّة الْفُقَهَاء،
وَقَالَ آخَرُونَ: بيعهَا طَلَاق، رُوِيَ عَن ابْن
مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَابْن السيب
وَالْحسن وَمُجاهد.
9725 - حدّثنا إسْماعِيلُ بنُ عبْدِ الله قَالَ: حدّثني
مالِكٌ عنْ رَبِيعَةَ بن أبي عبْدِ الرَّحْمانِ عنِ
القاسِمِ بن مُحَمَّدٍ عنْ عائِشَةَ، رَضِي الله عَنْهَا،
زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قالَتْ: كانَ فِي
بَرِيرَةَ ثَلاَثُ سُنَنٍ: إحْدَى السُّنَنِ أنَّها
أُعْتِقَتْ فخيرت فِي زَوْجِها، وَقَالَ رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: الوَلاء لِمَنْ أعْتَقَ، ودَخَل
رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والبُرْمَةُ تَفُورُ
بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إلَيْهِ خُبْزٌ وأُدْمٌ مِنْ أُدْمِ
البَيْتِ، فَقَالَ: ألَمْ أرَ البُرْمَةَ فِيهَا لَحمٌ؟
قالُوا: بَلى ولَكِنْ ذَلِكَ لَحْمٌ تُصَدِّقَ بِهِ علَى
بَرِيرَةَ وأنْتَ لَا تأكُلُ الصَّدَقَةَ. قَالَ: علَيْها
صَدَقَةٌ ولَنا هَدِيَّةٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْعتْق إِذا لم يكن
طَلَاقا فَالْبيع بطرِيق الأولى، وَلَو كَانَ ذَلِك
طَلَاقا لما خَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَإِسْمَاعِيل بن عبد الله هُوَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس
ابْن أُخْت مَالك، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر
الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وقصة بَرِيرَة مَضَت فِي سَبْعَة عشر موضعا. وَأخرج أَولا
فِي كتاب الصَّلَاة فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على
الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، وَمَضَت أَيْضا فِي عدَّة
مَوَاضِع مِنْهَا فِي: بَاب الْمكَاتب فِي مَوَاضِع،
وَمِنْهَا فِي الْهِبَة فِي: بَاب قبُول الْهَدِيَّة،
وَمِنْهَا فِي الشُّرُوط فِي: بَاب الشُّرُوط فِي
الْوَلَاء، وَفِي: بَاب الْمكَاتب وَمَا لَا يحل من
الشُّرُوط، وَمِنْهَا فِي آخر كتاب الْعتْق وَمضى
الْكَلَام فِيهِ.
وبريرة بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الأولى
مولاة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قيل:
إِنَّهَا نبطية بِفَتْح النُّون وَالْبَاء الْمُوَحدَة،
وَقيل: قبطية بِكَسْر الْقَاف وَسُكُون الْبَاء
الْمُوَحدَة، وَاخْتلف فِي مواليها فَفِي رِوَايَة
أُسَامَة بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن عبد
الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة أَن
بَرِيرَة كَانَت لناس من الْأَنْصَار، وَكَذَا عِنْد
النَّسَائِيّ من رِوَايَة سماك عَن عبد الرَّحْمَن، وَقيل:
لآل بني هِلَال أخرجه التِّرْمِذِيّ من رِوَايَة جرير عَن
هِشَام.
قَوْله: (ثَلَاث سنَن) وَفِي رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة
عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن أَبِيه: ثَلَاث
قضيات، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد أَحْمد وَأبي
دَاوُد قضى فِيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَربع
قضيات، فَذكر نَحْو حَدِيث عَائِشَة، وَزَاد: وأمرها أَن
تَعْتَد عدَّة الْحرَّة، أخرجهَا الدَّارَقُطْنِيّ، وَلم
تقع هَذِه الزِّيَادَة فِي حَدِيث عَائِشَة، فَلذَلِك
اقتصرت عَليّ ثَلَاث. قَوْله: (أعتقت فخيرت) كِلَاهُمَا
على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فِي زَوجهَا) قد ذكرنَا
فِيمَا مضى أَن اسْمه مغيث، وَكَانَ عبدا أسود. قَوْله:
(وَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: دخل
بَيت عَائِشَة، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن
جَعْفَر. قَوْله: (والبرمة) الْوَاو فِيهِ للْحَال،
والبرمة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَهِي الْقدر مُطلقًا،
وَهِي فِي الأَصْل المتخدة من الْحجر الْمَعْرُوف بالحجاز
واليمن. قَوْله: (وأدم) بِضَم الْهمزَة الأدام، وَقد أَكثر
النَّاس فِي الْكَلَام فِي معنى هَذَا الحَدِيث وَتَخْرِيج
وجوهه، وَلِلنَّاسِ فِيهِ تصانيف، وَقد استقصينا الْكَلَام
فِيهِ فِي مَوَاضِع مُتعَدِّدَة.
51 - (بابُ خِيارِ الأمَةِ تَحْتَ العَبْدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْخِيَار للْأمة
الَّتِي كَانَت تَحت العَبْد إِذا أعتقت، وَهَذِه
التَّرْجَمَة تدل على أَن البُخَارِيّ ترجح عِنْده قَول من
قَالَ: كَانَ زوج بَرِيرَة عبدا، وَاعْترض عَلَيْهِ
بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب أَن زَوجهَا كَانَ
عبدا وَأجِيب: بِأَن عَادَته أَنه يُشِير إِلَى مَا فِي
بعض طرق الحَدِيث الَّذِي يُورِدهُ، وقصة بَرِيرَة لم
تَتَعَدَّد فترجح عِنْده أَنه كَانَ عبدا أسود. وَأخرج
الْجَمَاعَة إلاَّ مُسلما عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس
أَن زوج بَرِيرَة كَانَ عبدا أسود فَالْبُخَارِي أخرجه فِي
هَذَا الْبَاب وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق
(20/266)
عَن قَتَادَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فِي الرَّضَاع عَن أَيُّوب وَقَتَادَة عَن عِكْرِمَة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقَضَاء عَن خَالِد الْحذاء
بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّلَاق عَن خَالِد
الْحذاء عَن عِكْرِمَة بِهِ. وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ
وَزَاد فِيهِ: وأمرها أَن تَعْتَد عدَّة الْحرَّة، هَكَذَا
عزاهُ عبد الْحق فِي أَحْكَامه للدارقطني وَلم أَجِدهُ
فَليُرَاجع لكنه فِي ابْن مَاجَه من حَدِيث عَائِشَة:
وأمرها أَن تَعْتَد ثَلَاث حيض، وَإِلَيْهِ ذهب عَطاء بن
أبي رَبَاح وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن الْبَصْرِيّ
وَابْن أبي ليلى وَالْأَوْزَاعِيّ وَالزهْرِيّ وَاللَّيْث
بن سعد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بِمَا أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد
عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن عَائِشَة محيلاً على مَا قبله
فِي قصَّة بَرِيرَة، وَزَاد وَقَالَ: وَكَانَ زَوجهَا عبدا
فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَاخْتَارَتْ نَفسهَا، وَلَو كَانَ حرا لم يخيرها. انْتهى.
قيل: هَذَا الْأَخير من كَلَام عُرْوَة قطعا لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه قَالَ: وفاعله مُذَكّر. وَالثَّانِي: أَن
النَّسَائِيّ صرح فِيهِ بقوله: قَالَ عُرْوَة. وَلَو كَانَ
حرا مَا خَيرهَا، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن حبَان فِي
(صَحِيحه) بِلَفْظ النَّسَائِيّ، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ:
يحْتَمل أَن يكون هَذَا من كَلَام عَائِشَة، وَيحْتَمل أَن
يكون من كَلَام عُرْوَة. فبالاحتمال الأول: لَا يثبت
الِاحْتِجَاج الْقطعِي، وَلَئِن سلمنَا أَنه من كَلَام
عَائِشَة، وَلَكِن قد تَعَارَضَت روايتاها فَسقط
الِاحْتِجَاج بهما. فَإِن قلت: رِوَايَة الْأسود قد عارضها
من هُوَ ألصق بعائشة وأقعد بهَا من الْأسود، وهما:
الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَعُرْوَة بن الزبير، فرويا عَنْهَا
أَنه كَانَ عبدا، وَالْأسود كُوفِي سمع مِنْهَا من وَرَاء
الْحجاب، وَعُرْوَة وَالقَاسِم كَانَا يسمعان مِنْهَا
بِغَيْر حجاب، لِأَنَّهَا خَالَة عُرْوَة وعمة الْقَاسِم
فهما أقعد بهَا من الْأسود. قلت: لَا كَلَام فِي صِحَة
الطَّرِيقَيْنِ، والأقعدية لَا تنَافِي التَّعَارُض،
فَافْهَم. واستدلت طَائِفَة بِأَنَّهُ كَانَ حرا بِحَدِيث
أخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم عَن الْأسود
عَن عَائِشَة، قَالَت: كَانَ زوج بَرِيرَة حرا حِين أعتقت
وَأَنَّهَا خيرت وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه: كَانَ حرا. وَذهب طَائِفَة أَنه كَانَ حرا
وهم: الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري وَمُحَمّد بن
سِيرِين وطاووس وَمُجاهد وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو حنيفَة
وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَآخَرُونَ، وَلَكنهُمْ قَالُوا:
الْأمة إِذا أعتقت فلهَا الْخِيَار فِي نَفسهَا سَوَاء
أَكَانَ زَوجهَا حرا أَو عبدا، وَإِلَيْهِ ذهب
الظَّاهِرِيَّة. وَقَالَت الطَّائِفَة الأولى: إِن كَانَ
زَوجهَا عبدا فلهَا الْخِيَار، وَإِن كَانَ حرا فَلَا
خِيَار لَهَا.
0825 - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ حَدثنَا شُعْبَةُ وهَمَّامٌ
عنْ قَتَادَةَ عنْ عِكِرْمَةَ عنِ ابنِ عباسٍ قَالَ:
رَأيْتُهُ عَبْدا، يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام.
وَقد مر عَن قريب، وَهَمَّام بِالتَّشْدِيدِ ابْن يحيى
الْبَصْرِيّ.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن
عُثْمَان بن أبي شيبَة، والاحتجاج بِهِ على أَنه كَانَ
عبدا حِين أعتقت بَرِيرَة غير قوي لِأَن قَوْله: (رَأَيْته
عبدا يَعْنِي زوج بَرِيرَة) لَا يدل على أَنه كَانَ عبدا
حِين أعتقت بَرِيرَة، لِأَن الظَّاهِر أَنه يخبر بِأَنَّهُ
كَانَ عبدا فَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ. وَالتَّحْقِيق
فِيهِ أَن نقُول: إِن اخْتلَافهمْ فِيهِ فِي صفتين لَا
يَجْتَمِعَانِ فِي حَالَة وَاحِدَة فنجعلها فِي حالتين
بِمَعْنى أَنه كَانَ عبدا فِي حَالَة، حرا فِي أُخْرَى، فب
الضَّرُورَة تكون إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ مُتَأَخِّرَة عَن
الْأُخْرَى، وَقد علم أَن الرّقّ تعقبه الْحُرِّيَّة
وَالْحريَّة لَا يعقبها الرّقّ، وَهَذَا مِمَّا لَا نزاع
فِيهِ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك جعلنَا حَال الْعُبُودِيَّة
مُتَقَدّمَة وَحَال الْحُرِّيَّة مُتَأَخِّرَة، فَثَبت
بِهَذَا الطَّرِيق أَنه كَانَ حرا فِي الْوَقْت الَّذِي
خيرت فِيهِ بَرِيرَة وعبدا قبل ذَلِك فَيكون قَول من قَالَ
كَانَ عبدا، مَحْمُولا على الْحَالة الْمُتَقَدّمَة،
وَقَول من قَالَ: كَانَ حرا، مَحْمُولا على الْحَالة
الْمُتَأَخِّرَة، فَإِذا لَا يبْقى تعَارض، وَيثبت قَول من
قَالَ: إِنَّه كَانَ حرا فَيتَعَلَّق الحكم بِهِ، وَلَئِن
سلمنَا أَن جَمِيع الرِّوَايَات أخْبرت بِأَنَّهُ كَانَ
عبدا فَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على صِحَة مَا يذهب مِمَّن
يذهب أَن زوج الْأمة إِذا كَانَ حرا فأعتقت الْأمة لَيْسَ
لَهَا الْخِيَار. لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على
ذَلِك، لِأَنَّهُ لم يَأْتِ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَنه قَالَ: إِنَّمَا خيرتها لِأَن زَوجهَا عبد، وَهَذَا
لَا يُوجد أصلا فِي الْآثَار، فَثَبت أَنه خَيرهَا
لكَونهَا قد أعتقت، فَحِينَئِذٍ يَسْتَوِي فِيهِ أَن يكون
زَوجهَا حرا أَو عبدا، ورد بِهَذَا على صَاحب
(التَّوْضِيح) فِي قَوْله: (لِأَن خِيَارهَا إِنَّمَا وَقع
من أجل كَونه عبدا) وَلَو اطلع هَذَا على مَا قُلْنَا من
التَّحْقِيق لما قَالَ هَكَذَا.
(20/267)
1825 - حدّثنا عَبْدُ الأعْلَى بنُ
حَمَّادٍ حَدثنَا وُهَيْبٌ حَدثنَا أيُّوبُ عنْ عِكْرِمَةَ
عنِ ابنِ عبَّاس قَالَ: ذَاكَ مُغَيثٌ عبْدُ ببَني
فُلاَنٍ، يَعْنِي: زَوْجَ بَرِيرَةَ كأنِّي أنْظُرُ
إلَيْهِ يَتْبَعُها فِي سِكَكِ المَدِينَةِ يَبْكِي
عَليْها.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. ووهيب مصغر وهب، وَأَيوب
هُوَ السّخْتِيَانِيّ.
والْحَدِيث مضى فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن
الثَّقَفِيّ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن
هناد.
قَوْله: (ذَاك) إِشَارَة إِلَى زوج بررة، وَقد وضحه بقوله:
(يَعْنِي زوج بَرِيرَة) قَوْله: (مغيث) بِضَم الْمِيم
وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة، وَوَقع عِنْد
العسكري بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء
وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَالظَّاهِر أَنه تَصْحِيف،
وَذكر ابْن عبد الْبر مغيثا هَذَا فِي الصَّحَابَة، قَالَ:
وَكَانَ عبدا لبَعض بني مُطِيع، وَفِي رِوَايَة
التِّرْمِذِيّ: كَانَ عبدا أسود لِابْنِ الْمُغيرَة، فِي
رِوَايَة هشيم عِنْد سعيد بن مَنْصُور: وَكَانَ عبدا لآل
بني الْمُغيرَة من بني مَخْزُوم، وَوَقع فِي (الْمعرفَة)
لِابْنِ مَنْدَه: مغيث مولى ابْن أَحْمد بن جحش، وَفِي
رِوَايَة أبي دَاوُد: عبدا لآل أبي أَحْمد، وَالْجمع
بَينهم بعيد، إلاَّ أَن يُقَال: إِنَّه كَانَ مُشْتَركا
بَينهم، وَفِيه تَأمل. قَوْله: (فِي سِكَك الْمَدِينَة)
جمع سكَّة، وَالسِّكَّة فِي الأَصْل المصطفة من النّخل،
وَمِنْهَا قيل للأزقة: سِكَك، لاصطفاف الدّور فِيهَا.
2825 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ حَدثنَا عبْدُ
الوَهَّابِ عنْ أيُّوبَ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ
رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ: كانَ زَوْجُ بَرِرَةَ عَبْدا
أسْوَدَ يُقالُ لهُ: مُغِيثٌ، عَبْدا لِبَنِي فُلان كأنِّي
أنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ ورَاءَها فِي سِكَكِ المَدِينَةِ.
)
هَذَا طَرِيق آخر فِي حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس
أخرجه عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد الْوَهَّاب
الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن خَالِد
الْحذاء ... الخ، ويروى هَهُنَا أَيْضا: يبكي عَلَيْهَا
كَمَا فِي الرِّوَايَة الأولى.
61 - (بابُ شَفَاعَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
زَوجِ بَرِيرَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَفَاعَة النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَفِي زوج بَرِيرَة لأجل أَن تعود بَرِيرَة
إِلَى عصمته. قيل: مَوضِع هَذِه التَّرْجَمَة من الْفِقْه:
تسويغ الشَّفَاعَة للْحَاكِم عِنْد الْخصم فِي خَصمه أَن
يحط عَنهُ أَو يسْقط أَو يتْرك دَعْوَاهُ وَنَحْو ذَلِك،
وَاعْترض على هَذَا بِأَن قصَّة بَرِيرَة لم يَقع
الشَّفَاعَة فِيهَا عِنْد الترافع. قلت: هَذَا
الِاعْتِرَاض سَاقِط لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ لَهَا: لَو راجعته، فَلم يكن هَذَا إلاَّ عِنْد
الترافع.
3825 - حدّثنا مُحَمَّدٌ أخْبَرنا عبْدُ الوَهَّابِ
حَدثنَا خالِدٌ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ: أنَّ
زَوْجَ بَرِيرَةَ كانَ عبْدا يُقالُ لَهُ مُغِيثٌ، كأنِّي
أنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي ودُمُوعُهُ
تَسِيلُ علَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِعَبَّاسٍ: يَا عَبَّاسُ {ألاَ تَعْجَبُ
مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ ومِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ
مُغِيثا؟ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لوْ
رَاجَعْتِهِ؟ قالَتْ: يَا رسولَ الله} تأمُرُنِي؟ قَالَ:
إنَّما أَنا أشْفَعُ. قالَنْ: لَا حاجَةَ لي فِيهِ.
)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّمَا أشفع) .
وَمُحَمّد هُوَ ابْن سَلام البيكندي البُخَارِيّ،
وَيحْتَمل أَن يكون مُحَمَّد بن بشار أَو مُحَمَّد بن
الْمثنى فَإِنَّهُمَا من شُيُوخ البُخَارِيّ، فَإِن
النَّسَائِيّ أخرجه عَن مُحَمَّد بن بشار، وَابْن مَاجَه
من حَدِيث مُحَمَّد بن مثنى وكلاهمنا رويا عَن عبد
الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وخَالِد هوالحذاء.
قَوْله: (لعباس) ، هُوَ ابْن عبد الْمطلب عَم النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ووالد رَاوِي الحَدِيث، قيل: هَذَا
يدل على أَن قصَّة بَرِيرَة كَانَت مُتَأَخِّرَة فِي
السّنة التَّاسِعَة أَو الْعَاشِرَة، لِأَن الْعَبَّاس
إِنَّمَا سكن الْمَدِينَة بعد رجوعهم من غَزْوَة
الطَّائِف. وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان،
وَيُؤَيّد هَذَا قَول ابْن عَبَّاس: إِنَّه شَاهد ذَلِك،
وَهُوَ إِنَّمَا قدم الْمَدِينَة مَعَ أَبَوَيْهِ، وَهَذَا
يرد قَوْله من قَالَ: إِن قصَّة بَرِيرَة قبل الْإِفْك،
وَالَّذِي حمل هَذَا الْقَائِل على هَذَا وُقُوع ذكرهَا
فِي حَدِيث الْإِفْك. قَوْله: (أَلا تعجب) ؟ مَحل
التَّعَجُّب هُنَا هُوَ أَن الْغَالِب فِي الْعَادة أَن
الْمُحب لَا يكون إلاَّ محبوبا وَبِالْعَكْسِ. قَوْله:
(لَو راجعته) كَذَا فِي الْأُصُول بِكَسْر
(20/268)
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا
ضمير، وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: لَو راجعتيه،
بِإِثْبَات الْيَاء آخر الْحُرُوف بعد التَّاء، وَهِي
لُغَة ضَعِيفَة، قَالَه بَعضهم قلت: إِن صَحَّ هَذَا فِي
الرِّوَايَة فَهِيَ لُغَة فصيحة لِأَنَّهَا من أفْصح
الْخلق، وَزَاد ابْن مَاجَه فِي رِوَايَته: فَإِنَّهُ
أَبُو ولدك. قَوْله: (تَأْمُرنِي؟) وَوَقع فِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ بعده. قَالَ: لَا قيل فِيهِ إِشْعَار
بِأَن صِيغَة الْأَمر لَا تَنْحَصِر فِي لفظ: افْعَل،
وَفِيه نظر، لِأَن الْأَمر هُوَ قَول الْقَائِل إفعل،
وَإِنَّمَا معنى قَوْلهَا: أتأمرني؟ أَشَيْء وَاجِب عَليّ؟
كَمَا وَقع هَكَذَا فِي مُرْسل ابْن سِيرِين فَقَالَ: يَا
رَسُول الله! أَشَيْء وَاجِب عَليّ؟ قَالَ: لَا.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ فَوَائِد الأولى: استشفاع الإِمَام
والعالم والخليفة فِي حوائج الرّعية، وَقد قَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (اشفعوا تؤجروا وَيَقْضِي الله على لِسَان
نبيه مَا شَاءَ) ، والساعي فِيهِ مأجور وَإِن لم تنقض
الْحَاجة. الثَّانِيَة: أَنه لَا حرج على الإِمَام
وَالْحَاكِم إِذا ثَبت الْحق على أحد الْخَصْمَيْنِ إِذا
سَأَلَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق أَن يسْأَل من الَّذِي
ثَبت لَهُ تَأْخِير حَقه، أَو وَضعه عَنهُ. الثَّالِثَة:
أَن من يسْأَل من الْأُمُور مِمَّا هُوَ غير واحب عَلَيْهِ
فعله فَلهُ رد سائله وَترك قَضَاء حَاجته، وَإِن كَانَ
الشَّفِيع سُلْطَانا أَو عَالما أَو شريفا، لِأَنَّهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُنكر على بَرِيرَة ردهَا إِيَّاه
فِيمَا شفع فِيهِ. الرَّابِعَة: أَن بغض الرجل للرجل
الْمُسلم لَا على وَجه الْعَدَاوَة لَهُ، وَلمن لاختيار
الْبعد عَنهُ لسوء خلقه وخبث عشرته، أَو لأجل شَيْء يكرههُ
النَّاس جَائِز كَمَا فِي قصَّة امْرَأَة ثَابت بن قيس بن
شماس، فَإِنَّهَا بغضته مَعَ مكانته مَعَ الدّين وَالْفضل
لغير بَأْس لأجل دمامته وَسُوء خلقه، حَتَّى افتدت مِنْهُ.
الْخَامِسَة: أَنه لَا حرج على مُسلم فِي هوى امْرَأَة
مسلمة وحبه لَهَا، ظهر ذَلِك أَو خَفِي، لَا إِثْم
عَلَيْهِ فِي ذَلِك؟ وَإِن أفرط مَا لم بَات محرما وَلم
يغش إِثْمًا.
71 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب ذكره مُجَردا لِأَنَّهُ كالفصل لما قبله
وَقد جرت عَادَته بذلك كَمَا يذكر الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ
فصل، بعد ذكر لَفظه: كتاب أَو بَاب.
4825 - حدّثنا عَبْدُ الله بنُ رَجاءِ أخبرنَا شُعْبَةُ
عَنِ الحَكَمِ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ أنَّ
عَائِشَةَ أَرَادَتْ أنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ، فأبَى
مَوَالِيها إلاّ أنْ يَشْتَرِطوا الْوَلاَءَ، فَذَكَرَتْ
للِنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: اشتَرِيها
وأعْتِقِيها فإنَّما الْوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ، وَأُتِيَ
النبيُّ بِلَحْمِ فَقِيلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إنَّ
هاذا مَا تُصُدِّقَ بِهِ علَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: هُو
لَهَا صَدَقَةٌ ولَنا هَدِيّةٌ.
مَا ذكر هَذَا هُنَا، لِأَنَّهُ من تعلقات قصَّة بَرِيرَة
الَّتِي ذكرت مرَارًا عديدة. أخرجه عَن عبد الله بن رَجَاء
ضد الْإِيَاس، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ضد الْخَوْف،
وَلَيْسَ كَذَلِك الغداني الْبَصْرِيّ، وروى مُسلم عَنهُ
بِوَاسِطَة. . وَالْحكم بِفتْحَتَيْنِ ابْن عتيبة بِضَم
الْعين الْمُهْملَة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَالْأسود بن
يزِيد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ غير مرّة.
قَوْله: (ومواليها) ، أَي: ملاكها الَّذين باعوها،
قَالُوا: لَا نبيعها إلاّ بِشَرْط أَن يكونَ ولاؤها لنا.
حدّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ، وزَادَ: فَخُيِّرَتْ مِنْ
زَوْجها.
هَذَا طَرِيق آخر أخرجه عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة
وَلم يسق لَفظه لَكِن قَالَ: (وَزَاد فخيرت من زَوجهَا)
وَقد أخرجه فِي الزَّكَاة بِهَذَا الْإِسْنَاد وَلم يذكر
هَذِه الزِّيَادَة. وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من وَجه آخر عَن
آدم شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، فَجعل هَذِه الزِّيَادَة من
قَول إِبْرَاهِيم وَلَفظه فِي آخِره: قَالَ الحكم: قَالَ
إِبْرَاهِيم: وَكَانَ زَوجهَا حرا فخيرت من زَوجهَا، فَظهر
أَن هَذِه الزِّيَادَة مدرجة، لم يذكرهَا فِي الزَّكَاة.
81 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: { (2) وَلَا تنْكِحُوا
المشركات حَتَّى يُؤمن وَلأمة مؤمونة خير من مُشركَة وَلَو
أَعجبتكُم} )
قَالَ: فحجز النَّاس عَنْهُن حَتَّى نزلت الْآيَة الَّتِي
بعْدهَا:؛ وَالْمُحصنَات الَّذين أُوتُوا الْكتاب من
قبلكُمْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَول الله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا
المشركات} وَهَذَا الْمِقْدَار فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين،
وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة إِلَى قَوْله: {وَلَو أَعجبتكُم}
وَإِنَّمَا ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة تَوْطِئَة
للأحاديث الَّتِي ذكرهَا فِي هَذَا الْبَاب وَفِي
الْبَابَيْنِ اللَّذين بعده، وَإِنَّمَا لم يُنَبه على
الْمَقْصُود من إيرادها للِاخْتِلَاف الْقَائِم فِيهَا،
وَقد أَخذ ابْن عمر بِعُمُوم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا
تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} حَتَّى كره نِكَاح
(20/269)
أهل الْكتاب، وَأَشَارَ إِلَيْهِ
البُخَارِيّ بإيراد حَدِيثه فِي هَذَا الْبَاب: وَعَن ابْن
عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى اسْتثْنى من ذَلِك نسَاء أهل
الْكتاب فخصت هَذِه الْآيَة بِالْآيَةِ الَّتِي فِي
الْمَائِدَة، وَهِي قَوْله عز وَجل: {وَالْمُحصنَات من
الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ} (الْمَائِدَة: 5)
وروى ابْن أبي حَاتِم بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس،
قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات
حَتَّى يُؤمن} (الْبَقَرَة: 122) فنكح النَّاس نسَاء أهل
الْكتاب، ونكح جمَاعَة من الصَّحَابَة نسَاء نصرانيات،
وَلم يرَوا بذلك بَأْسا، وَقَالَ أَبُو عبيد: وَبِه جَاءَت
الْآثَار، وَعَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَأهل الْعلم
بعدهمْ: أَن نِكَاح الكتابيات حَلَال، وَبِه قَالَ مَالك
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري والكوفيون وَالشَّافِعِيّ
وَعَامة الْعلمَاء، وَقَالَ غَيره: وَلَا يرْوى خلاف ذَلِك
إلاَّ عَن ابْن عمر، فَإِنَّهُ شَذَّ عَن جمَاعَة
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَلم يجز نِكَاح
الْيَهُودِيَّة والنصرانية وَخَالف ظَاهر قَوْله
وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب وَلم يلْتَفت
أحد من الْعلمَاء إِلَى قَوْله: (وَقد تزوج) عُثْمَان بن
عَفَّان نائلة بنت الفرافضة الْكَلْبِيَّة، وَهِي
نَصْرَانِيَّة تزَوجهَا على نِسَائِهِ، وَتزَوج طَلْحَة بن
عبيد الله يَهُودِيَّة، وَتزَوج حُذَيْفَة يَهُودِيَّة
وَعِنْده حرتان مسلمتان، وَعنهُ إِبَاحَة نِكَاح
الْمَجُوسِيَّة، وَتَأَول قَوْله تَعَالَى: {وَلأمة
مُؤمنَة خير من مُشركَة} (الْبَقَرَة: 122) على أَن هَذَا
لَيْسَ بِلَفْظ التَّحْرِيم، وَقيل: بني على أَن لَهُم
كتابا. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة عَن عبد الله بن
إِدْرِيس عَن الصَّلْت عَن شَقِيق بن سَلمَة، قَالَ: تزوج
حُذَيْفَة يَهُودِيَّة، وَمن طَرِيق أُخْرَى: وَعِنْده
عربيتان، فَكتب إِلَيْهِ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
أَنه خل سَبِيلهَا. قلت: أرسل حُذَيْفَة إِلَيْهِ: أحرام
هِيَ؟ فَكتب إِلَيْهِ عمر: لَا، وَلَكِن أَخَاف أَن يتواقع
الْمُؤْمِنَات مِنْهُنَّ؟ يَعْنِي الزواني مِنْهُنَّ،
وَقَالَ أَبُو عبيد: والمسلمون الْيَوْم على الرُّخْصَة
فِي نسَاء أهل الْكتاب، ويرون أَن التَّحْلِيل نَاسخ
للتَّحْرِيم، قلت: فَدلَّ هَذَا على أَن قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تنْكِحُوا المشركات} (الْبَقَرَة: 122) مَنْسُوخ
بقوله تَعَالَى: {وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا
الْكتاب} (الْمَائِدَة: 5) وروى أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس
أَنه قَالَ: إِن آيَة الْبَقَرَة مَنْسُوخَة بِآيَة
الْمَائِدَة، وَقيل: المُرَاد بقوله: {وَلَا تنْكِحُوا
المشركات} (الْبَقَرَة: 122) يَعْنِي من عَبدة
الْأَوْثَان. وَقَالَ ابْن كثير فِي (تَفْسِيره)
{وَالْمُحصنَات من الْمُؤْمِنَات} (الْمَائِدَة: 5) قيل:
الْحَرَائِر دون الْإِمَاء؟ وَالظَّاهِر أَن المُرَاد
بالمحصنات العفائف عَن الزِّنَا، كَمَا قَالَ فِي آيَة
أُخْرَى: {محصنات غير مسافحات وَلَا متخذات أخدان}
(النِّسَاء: 52) ثمَّ اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ أَنه: هَل
يعم كل كِتَابِيَّة عفيفة سَوَاء كَانَت حرَّة أَو أمة؟
فَقيل: الْحَرَائِر العفيفات، وَقيل: المُرَاد بِأَهْل
الْكتاب هَهُنَا الْإسْرَائِيلِيات، وَهُوَ مَذْهَب
الشَّافِعِي، وَقيل: المُرَاد بذلك الذميات دون الحربيات،
وَالله أعلم.
5825 - حدّثنا قُتَيْبَةُ حَدثنَا لَ يْثٌ عنْ نافِعٍ أنَّ
ابنَ عمَرَ كانَ إذَا سئِلَ عنْ نِكاحِ النَّصْرَانِيَّةِ
وَالْيَهُودِيّةِ قَالَ: إنَّ الله حَرَّمَ المُشْرِكاتِ
على المُؤْمِنِينَ، وَلَا أعْلَمُ مِنَ الإشْرَاكِ شَيْئاً
أكْبَرَ مِنْ أنْ تَقُولَ المَرْأَةُ: رَبُّها عِيسَى،
وهْوَ عبدٌ مِنْ عِبادِ الله.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن ابْن عمر قد عمل
بِعُمُوم الْآيَة الَّتِي هِيَ التَّرْجَمَة وَلم يرهَا
مَخْصُوصَة وَلَا مَنْسُوخَة.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
قَوْله: (أكبر) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبالمثلثة، وَهُوَ
إِشَارَة إِلَى مَا قَالَت النَّصَارَى: الْمَسِيح ابْن
الله، وَالْيَهُود قَالُوا: عُزَيْر ابْن الله قَوْله:
(وَهُوَ) أَي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام عبد من عباد الله.
91 - (بابُ نِكاحِ مَنْ أسْلَمَ مِنَ المُشْرِكَاتِ
وعِدَّتِهِنَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من أسلم من المشركات
وَبَيَان حم عدتهن؛ فَإِذا أسلمت المشركة وَهَاجَرت إِلَى
الْمُسلمين فقد وَقعت الْفرْقَة بإسلامها بَينهَا وَبَين
زَوجهَا الْكَافِر عِنْد جمَاعَة الْفُقَهَاء، وَوَجَب
استبراؤها بِثَلَاث حيض ثمَّ تحل للأزواج، هَذَا قَول
مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد
وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ:
لَا عدَّة عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا عَلَيْهَا اسْتِبْرَاء
رَحمهَا بِحَيْضَة، وَاحْتج بِأَن الْعدة إِنَّمَا تكون
عَن طَلَاق، وإسلامها فسخ وَلَيْسَ بِطَلَاق.
6825 - حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسى أخبرنَا هِشامٌ عنِ
ابنِ جُرَيجٍ، وَقَالَ عَطاءٌ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: كانَ
المُشْرِكُونَ علَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم والمُؤْمِنِينَ: كانُوا مُشْرِكِي أهْلِ
حَرْبٍ
(20/270)
يُقاتِلُهُمْ ويَقاتِلُونَهُ، ومُشْرِكِي
أهْلِ عَهْدٍ لَا يُقاتِلُهُمْ وَلَا يُقاتِلُونَهُ، وكانَ
إِذا هاجَرَتِ امْرَأةٌ منْ أهْلِ الحَرْبِ لمْ تُخْطَبْ
حَتَّى تَحِيضَ وتَطْهُرَ فَإِذا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا
النِّكاحُ، فإنْ هاجَرَ زَوْجُها قبْلَ أنْ تَنْكِحَ
رُدَّتْ إليْهِ، وإنْ هاجَرَ عبْدٌ مِنْهُمْ أوْ أمَةٌ
فهُما حُرَّانِ ولَهما مَا لِلْمُهاجِرِينَ، ثمَّ ذكَرَ
منْ أهْلِ العَهْدِ مثلَ حَدِيثِ مُجاهِدٍ، وإنْ هاجَرَ
عبْدٌ أوْ أمَةٌ للْمُشْرِكِينَ أهْلِ العَهْدِ لمْ
يُرَدُّوا ورُدَّتْ أثمانُهُمْ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَإِبْرَاهِيم بن يزِيد
الْفراء الرَّازِيّ أَبُو إِسْحَاق يعرف بالصغير، وَهِشَام
هُوَ ابْن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ أَبُو عبد الرحمان
الْيَمَانِيّ قاضيها وَابْن جريج هُوَ عبد الْملك بن عبد
الْعَزِيز بن جريج قَوْله: (وَقَالَ عَطاء مَعْطُوف على
شَيْء مَحْذُوف) ، كَأَنَّهُ كَانَ فِي جملَة أَحَادِيث
حدث بهَا ابْن جريج عَن عَطاء، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ عَطاء
عَن ابْن عَبَّاس.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده. وَقَالَ أَبُو مَسْعُود
الدِّمَشْقِي: هَذَا الحَدِيث فِي (تَفْسِير ابْن جريج) :
عَن عَطاء الْخُرَاسَانِي عَن ابْن عَبَّاس، وَكَانَ
البُخَارِيّ ظَنّه عَطاء بن أبي رَبَاح، وَابْن جريج لم
يسمع التَّفْسِير من عَطاء الْخُرَاسَانِي، بل إِنَّمَا
أَخذ الْكتاب من ابْنه وَنظر فِيهِ، وَنبهَ على هَذِه
الْعلَّة أَيْضا شيخ البُخَارِيّ عَليّ بن الْمَدِينِيّ
الَّذِي عَلَيْهِ الْعُمْدَة فِي هَذَا الْفَنّ على مَا
لَا يخفى. وَأجِيب: بِأَنَّهُ يجوز أَن يكون الحَدِيث
عِنْد ابْن جريج بالإسنادين لِأَن مثل ذَلِك لَا يخفى على
البُخَارِيّ مَعَ تشدده فِي شَرط الا تصال.
قَوْله: (لم تخْطب) بِصِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله:
(مِنْهُم) ، أَي من أهل الْحَرْب. قَوْله: (وَلَهُمَا)
أَي: للْعَبد والأمَة (مَا للمهاجرين) من مَكَّة إِلَى
الْمَدِينَة فِي تَمام حُرْمَة الْإِسْلَام وَالْحريَّة.
قَوْله: (ثمَّ ذكر) أَي: عَطاء. قَوْله: (من أهل الْعَهْد)
أَي: من قصَّة أهل الْعَهْد (مثل حَدِيث مُجَاهِد) الَّذِي
وَصفه بالمثلية، وَهُوَ مَا ذكره بعده من قَوْله: (وَإِن
هَاجر عبد أَو أمة للْمُشْرِكين أهل الْعَهْد لم يردوا
وَردت أثمانهم) وَهَذَا من بَاب فدَاء أسرى الْمُؤمنِينَ
وَلم يجز تملكهم لانْتِفَاء عِلّة الاسترقاق الَّتِي هِيَ
الْكفْر فيهم، وَقيل: يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ كلَاما آخر
يتَعَلَّق بنساء أهل الْعَهْد، وَهُوَ أولى لِأَنَّهُ قسم
الْمُشْركين على قسمَيْنِ من أهل حَرْب وَأهل عهد، وَذكر
حكم نسَاء أهل الْحل وَالْحَرب، ثمَّ ذكر أرقاءهم
فَكَأَنَّهُ أحَال حكم نسَاء أهل الْعَهْد على حَدِيث
مُجَاهِد، ثمَّ عقبه بِذكر أرقائهم وَحَدِيث مُجَاهِد
وَصله عبد بن حميد من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ فِي
قَوْله: {وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار
فعاقبتم} (الممتحنة: 11) أَي: إِن أصبْتُم مغنماً من
قُرَيْش فأعطوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم مثل مَا أَنْفقُوا
عوضا.
7825 - حدّثنا وَقَالَ عَطَاءٌ عنِ ابنِ عبّاسٍ: كانَتْ
قَرِيبَةُ بنْتُ أبي أُميةَ عنْدَ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ
فَطلّقهَا فَتَزوَّجَها مُعاوِيَةُ ابنُ أبي سُفْيانَ،
وكانَتْ أُمُّ الحَكمِ ابْنَةُ أبِي سُفْيانَ تَحْتَ
عِياضِ بنِ غَنْم الفِهْرِيِّ فطَلَّقها فَتَزَوَّجَهَا
عَبْدُ الله بنُ عُثْمانَ الثَّقَفِيُّ.
هُوَ مَعْطُوف على قَوْله: عَن ابْن جريج، وَقَالَ عَطاء
عَن ابْن عَبَّاس بالتقدير الَّذِي مر ذكره هُنَاكَ.
قَوْله: (قريبَة) بِضَم الْقَاف وَفتح الرَّاء مصغر قربَة
كَذَا هُوَ فِي أَكثر النّسخ، وضبطها الْحَافِظ الدمياطي
فتح الْقَاف وكسرا الرَّاء وَكَذَا فِي حَدِيث عَائِشَة
الَّذِي مضى فِي الشُّرُوط، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
الْكشميهني وَهِي بنت أبي أُميَّة أُخْت أم سَلمَة أم
الْمُؤمنِينَ، وَأَبُو أُميَّة ابْن الْمُغيرَة ابْن عبد
الله بن عمر بن مَخْزُوم، وَاسم أبي أُميَّة حُذَيْفَة،
وَقيل سُهَيْل، وَاسم أم سَلمَة: هِنْد، وَقَرِيبَة ذكرت
فِي الصحابيات ذكرهَا الذَّهَبِيّ أَيْضا، وَكَانَت
حَاضِرَة بِبِنَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
على أُخْتهَا، وَأم الحكم أسلمت يَوْم الْفَتْح وَكَانَت
أُخْت أم حَبِيبَة وَمُعَاوِيَة لأبيهما، وَقَالَ أَبُو
عمر: كَانَت فِي حِين نزُول: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر}
(الممتحنة: 01) تحتب عِيَاض بن غنم الفِهري فَطلقهَا
حينئذٍ فَتَزَوجهَا عبد الله بن عُثْمَان الثَّقَفِيّ،
وَهِي أم عبد الرَّحْمَن بن الحكم، وَقَالَ ابْن سعد:
أمهَا هِنْد بنت عتبَة بن ربيعَة، وعياض ابْن غنم بِفَتْح
الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون، قَالَ أَبُو عمر:
لَا أعلم خلافًا أَنه افْتتح عَامَّة بِلَاد الجزيرة
والرقة وَصَالَحَهُ وُجُوه أَهلهَا، وَهُوَ أول من أجَاز
الدَّرْب إِلَى الرّوم، وَكَانَ شريفاً فِي قومه، مَاتَ
بِالشَّام سنة عشْرين وَهُوَ ابْن سِتِّينَ سنة، وَعبد
الله بن عُثْمَان الثَّقَفِيّ، بالثاء الْمُثَلَّثَة.
(20/271)
02 - (بابٌ إِذا أسلْمَتِ المُشْرِكَةُ أوِ
النَّصْرَانِيّةُ تَحْتَ الذِّمِّيِّ أَو الحَرْبِيِّ.)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا إِذا أسلمت المشركة أَو
النَّصْرَانِيَّة، واقتصاره على النَّصْرَانِيَّة لَيْسَ
بِقَيْد لِأَن الْيَهُودِيَّة أَيْضا مثلهَا. وَلَو قَالَ:
إِذا أسلمت المشركة أَو الذِّمِّيَّة لَكَانَ أحسن وأشمل،
وَلم يذكر جَوَاب: إِذا الَّذِي هُوَ الحكم لإشكاله. قَالَ
بَعضهم: قلت: هَذَا غير موجه فَإِذا كَانَ مُشكلا فَمَا
فَائِدَة وضع التَّرْجَمَة؟ بل جرت عَادَته على أَنه يذكر
غَالب التراجم مُجَرّدَة عَن بَيَان الحكم فِيهَا
اكْتِفَاء بِمَا يعلم الحكم من أَحَادِيث الْبَاب الَّتِي
فِيهِ، وَحكم الْمَسْأَلَة الَّتِي وضعت التَّرْجَمَة لَهُ
هُوَ أَن الْمَرْأَة إِذا أسلمت قبل زَوجهَا هَل تقع
الْفرْقَة بَينهمَا بِمُجَرَّد إسْلَامهَا أَو يثبت لَهَا
الْخِيَار أَو يُوقف فِي الْعدة؟ فَإِن أسلم اسْتمرّ
النِّكَاح وإلاَّ وَقعت الْفرْقَة بَينهمَا.
وَفِيه اخْتِلَاف مَشْهُور. وَقَالَ ابْن بطال: الَّذِي
ذهب إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس وَعَطَاء إِن إِسْلَام
النَّصْرَانِيَّة قبل زَوجهَا فاسخ لنكاحها لعُمُوم قَوْله
عز وَجل: {لَا هن حل لَهُم وَلَا هم يحلونَ لَهُنَّ}
(الممتحنة: 01) فَلم يخص وَقت الْعدة من غَيرهَا، وروى
مثله عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ قَول
طَاوُوس وَأبي ثَوْر. وَقَالَت طَائِفَة: إِذا أسلم فِي
الْعدة تزَوجهَا، هَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة، وَبِه
قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَإِسْحَاق وَأَبُو عبيد. وَقَالَت طَائِفَة: إِذا عرض على
زَوجهَا الْإِسْلَام فَإِن أسلم فهما على نِكَاحهمَا وَإِن
أَبى أَن يسلم فرق بَينهمَا، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأبي
حنيفَة إِذا كَانَا فِي دَار الْإِسْلَام، وَأما فِي دَار
الْحَرْب فَإِذا أسلمت وَخرجت إِلَيْنَا بَانَتْ مِنْهُ
بافتراق الدَّاريْنِ، وَفِيه قَول آخر يرْوى عَن عمر بن
الْخطاب أَنه: خيَّر نَصْرَانِيَّة أسلمت وَزوجهَا
نَصْرَانِيّ إِن شَاءَت فارقته وَإِن شَاءَت أَقَامَت
مَعَه.
وَقَالَ عبْدُ الوَارِث: عنْ خالِدٍ عنْ عِكْرِمَةَ عَن
ابنِ عَبّاسٍ: إِذا أسْلمَتِ النَّصْرَانِيّةُ قبْلَ
زَوْجِها بِساعةٍ حَرُمَتْ علَيْهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وتوضيح التَّرْجَمَة
أَيْضا أوردهُ مُعَلّقا عَن عبد الْوَارِث بن سعيد
التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ عَن خَالِد الْحذاء إِلَى آخِره،
وَهُوَ من أَفْرَاده، وَهُوَ عَام يَشْمَل الْمَدْخُول
بهَا وَغَيرهَا.
وَقَالَ داوُدُ: عنْ إبْرااهِيم الصَّائِغِ سُئِلَ عَطَاءٌ
عنِ امْرَأةٍ منْ أهْلِ العَهْدِ أسْلَمتْ ثُمَّ أسْلَمَ
زَوْجُها فِي العِدَّةِ أهِيَ امْرَأتُه؟ قَالَ: لَا،
إلاَّ أنْ تَشاءَ هِيَ بِنكاحٍ جدِيد وصَدَاقِ.
أخرج هَذَا الْمُعَلق عَن دَاوُد ن أبي الْفُرَات واسْمه
عَمْرو بن الْفُرَات عَن إِبْرَاهِيم بن مَيْمُون
الصَّائِغ الْمروزِي، قتل سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ
وَمِائَة، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (من أهل
الْعَهْد) أَي: من أهل الذِّمَّة إِلَى آخِره. وَأخرج ابْن
أبي شيبَة بِمَعْنَاهُ: عَن عبَادَة بن الْعَوام عَن حجاج
عَن عَطاء فِي النَّصْرَانِيَّة تسلم تَحت زَوجهَا، قَالَ:
يفرق بَينهمَا.
وَقَالَ مُجاهِدٌ: إِذا أسْلَمَ فِي العِدَّةِ
يتَزَوِّجُها.
أخرج هَذَا الْمُعَلق أَيْضا عَن مُجَاهِد: إِذا أسلم
ذمِّي فِي عدَّة الْمَرْأَة صورته أسلمت امْرَأَته، ثمَّ
أسلم هُوَ فِي عدتهَا لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا، وَوَصله
الطَّبَرِيّ من طَرِيق ابْن أبي نجيح عَنهُ.
وَقَالَ الله تَعَالَى: { (60) لَا هن حل لَهُم وَلَا هم
يحلونَ لَهُنَّ} (الممتحنة: 01) [/ ح.
أورد البُخَارِيّ هَذِه الْآيَة للاستدلال بهَا فِي
تَقْوِيَة قَول عَطاء الْمَذْكُور (الْآن) وَأَنه اخْتَار
هَذَا القَوْل، وَهُوَ أَن النَّصْرَانِيَّة إِذا أسلمت
ثمَّ أسلم زَوجهَا فِي الْعدة فَإِنَّهَا لَا تحل لَهُ
إلاّ بِنِكَاح جَدِيد وصداق. فَإِن قلت: روى عَطاء فِي
الْبَاب الَّذِي قبله عَن ابْن عَبَّاس أَن الْمَرْأَة
إِذا هَاجَرت من أهل الْحَرْب لم تخْطب حَتَّى تحيض وتطهر،
فَإِذا طهرت حل لَهَا النِّكَاح، فَإِن هَاجر زَوجهَا قبل
أَن تنْكح ردَّتْ إِلَيْهِ. . الحَدِيث، فَبين قَوْله،
وَرِوَايَته عَن ابْن عَبَّاس تعَارض. قلت: أُجِيب بِأَن
قَوْله: لم تخْطب حَتَّى تحيض وتطهر، يحْتَمل أَن يُرَاد
بِهِ انْتِظَار إِسْلَام زَوجهَا مَا دَامَت هِيَ فِي
عدتهَا، وَيحْتَمل أَيْضا أَن تَأْخِير الْخطْبَة إِنَّمَا
هُوَ لكَون الْمُعْتَدَّة لَا تخْطب مَا دَامَت فِي
الْعدة، فَإِذا حمل على الِاحْتِمَال الثَّانِي يَنْتَفِي
التَّعَارُض.
(20/272)
وَقَالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ فِي
مَجُوسِيَّيْنِ أسْلمَا: هُما عَلى نِكاحِهما، وإذَا
سَبَقَ أحَدُهُما صاحِبَهُ وأبَى الآخَرُ بانَتْ، لَا
سَبِيلَ لهُ علَيْها.
أَي قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة ن دعامة. إِلَى
آخِره، وَهُوَ ظَاهر، وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن كل
مِنْهُمَا نَحوه.
وَقَالَ ابنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطاءٍ: امْرَأةٌ منَ
المُشرِكِينَ جاءَتْ إِلَى المُسْلِمِينَ، أيُعاوَضُ
زَوْجُها مِنْها؟ لقَوْلِهِ تَعَالَى { (60) وَآتُوهُمْ
مَا أَنْفقُوا} (الممتحنة: 01) قَالَ: لَا! إنَّمَا كانَ
ذَاكَ بَيْنَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبَيْنَ
أهْلِ العَهْدِ.
أَي: قَالَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج إِلَى
آخِره. . قَوْله: (أيعاوض) على صِيغَة الْمَجْهُول، من
الْمُعَاوضَة، ويروى: أيعاض، من الْعِوَض أَرَادَ: هَل
يعْطى زَوجهَا الْمُشرك عوض صَدَاقهَا؟ قَالَ عَطاء: لَا
يعْطى لِأَن قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا}
إِنَّمَا كَانَ فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بَينه وَبَين الْمُشْركين من أهل الْعَهْد، وَكَانَ
الصُّلْح انْعَقَد بَينهم على ذَلِك، وَأما الْيَوْم
فَلَا. وَأخرج عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج قَالَ: قلت
لعطاء ... إِلَى آخِره نَحوه.
وَقَالَ مُجاهدٌ: هَذَا كُلهُ فِي صُلْحِ بَيْنَ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبَيْنَ قُرَيْشٍ.
أَشَارَ بقوله هَذَا إِلَى إِعْطَاء الْمَرْأَة الَّتِي
جَاءَت إِلَى الْمُسلمين زَوجهَا الْمُشرك عوض صَدَاقهَا.
ويوضح هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق ابْن
أبي نجيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {واسألوا مَا
أنفقتم وليسألوا مَا أَنْفقُوا} (الممتحنة: 01) قَالَ: من
ذهب من أَزوَاج الْمُسلمين إِلَى الْكفَّار فليعطهم
الْكفَّار صدقاتهن وليمسكوهن، وَمن ذهب من أَزوَاج
الْكفَّار إِلَى أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَكَذَلِك، هَذَا كُله فِي صلح كَانَ بَين النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين قُرَيْش.
8825 - حدّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ حدثَنا اللَّيْثُ عنْ
عُقَيْلٍ عَن ابنِ شِهابٍ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بنُ
المُنْذِرِ: حدّثني ابنُ وهْبٍ حَدثنِي يُونسُ قَالَ ابنُ
شهَاب: أخْبرِني عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ أنَّ عائِشَةَ
رَضِي الله عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، قالَتْ: كانَتِ المُؤْمِناتُ إذَا هاجَرْنَ إِلَى
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يمْتَحِنُهُنَّ بقَوْلِ
الله تَعَالَى: { (60) يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا
جَاءَكُم. . فامتحنوهن} (الممتحنة: 01) إِلَى آخرِ الآيةِ.
قالَتْ عائِشَةُ: فَمنْ أقَرَّ بهاذا الشَّرْطِ من
المُؤْمِناتِ فقَدْ أقَرَّ بالْمِحْنَةِ، فكانَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إذَا أقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ
قوْلهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: انْطَلِقْنَ فقَدْ بايَعْتُكُنَّ لَا وَالله مَا
مَسَّتْ يَدُ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. يَدَ
امْرَأةٍ قَطُّ غيْرَ أنّهُ بايَعَهُنَّ بالكَلاَمِ،
وَالله مَا أخَذَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على
النِّساءِ إلاّ بمَا أمَرَهُ الله يقُولُ لهُنَّ إذَا
أخَذَ عَلَيْهِنَّ: قَدْ بايَعْتُكُنَّ كَلاَماً.
ابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن لَهُ تعلقاً بِأَصْل
الْمَسْأَلَة الَّذِي تضمنتها التَّرْجَمَة وَلَا يلْزم
التنقير فِي وَجه الْمُطَابقَة، بل الْوَجْه الْيَسِير
كافٍ فَافْهَم.
وَأخرج هَذَا الحَدِيث من طَرِيقين: أَحدهمَا مَوْصُول:
عَن يحيى بن بكير وَهُوَ يحيى بن عبد الله ابْن بكير
المَخْزُومِي الْمصْرِيّ عَن اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ
عَن عقيل بِضَم الْعين ابْن خَالِد الْأمَوِي الْأَيْلِي
عَن مُحَمَّد بن مُسلم ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ. وَالْآخر
مُعَلّق: عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد الله
الْمَدِينِيّ عَن عبد الله بن وهب عَن يُونُس بن يزِيد
الْأَيْلِي عَن ابْن شهَاب فرواية الْمَوْصُول تقدّمت فِي
أول الشُّرُوط فِيمَا مضى، والمعَلق وَصله ابْن مَسْعُود
عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر.
قَوْله: (إِذا هَاجَرْنَ) أَي: من مَكَّة إِلَى
الْمَدِينَة قبل عَام الْفَتْح. قَوْله: (يمتحنهن) أَي:
يختبرهن فِيمَا يتَعَلَّق بِالْإِيمَان فِيمَا يرجع إِلَى
ظَاهر الْحَال دون الإطلاع على مَا فِي الْقُلُوب، وَإِلَى
ذَلِك الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى: {الله اعْلَم بإيمانهن}
(الممتحنة: 01) قَوْله: (وَالْمُؤْمِنَات) سماهن مؤمنات
لتصديقهن بألسنتهن ونطقهن بِكَلِمَة الشَّهَادَة. وَلم
يظْهر مِنْهُنَّ مَا ينافى ذَلِك قَوْله: (مهاجرات) نصب
على الْحَال جمع مهاجرة
(20/273)
أَي: حَال كونهن مهاجرات من دَار الْكفْر إِلَى دَار
الْإِسْلَام. قَوْله تَعَالَى: {فامتحنوهن} (الممتحنة: 01)
أَي: فابتلوهن بِالْحلف وَالنَّظَر فِي الأمارات ليغلب على
ظنونكم صدق إيمانهن. وَعَن ابْن عَبَّاس: معنى امتحانهن
أَن يستحلفن مَا خرجن من بغض زوج، وَمَا خرجن رَغْبَة من
أَرض إِلَى أَرض، وَمَا خرجن لالتماس دنيا، وَمَا خرجن
إلاَّ حبًّا لله وَرَسُوله. قَوْله: (الله أعلم بإيمانهن)
يَعْنِي: أعلم مِنْكُم لأنكم لَا تكسبون فِيهِ علما تطمئِن
مَعَه نفوسكم وَإِن استحلفتموهن. وَعند الله حَقِيقَة
الْعلم بِهِ، فَإِن علمتموهن مؤمنات الْعلم الَّذِي تبلغه
طاقتكم، وَهُوَ الظَّن الْغَالِب بِالْحلف وَظُهُور
الأمارات، فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار يَعْنِي: لَا
تردوهن إِلَى أَزوَاجهنَّ الْكفَّار، لَا هن حل لَهُم
وَلَا هم يحلونَ لهنَّ لِأَنَّهُ أَي: لَا حل بَين المؤمنة
والمشرك، وَآتُوهُمْ مَا أَنْفقُوا مثل مَا دفعُوا
إلَيْهِنَّ من الْمهْر. وَلَا جنَاح عَلَيْكُم أَن تنكحوهن
إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ أَي: مهورهن، وَإِن كَانَ
لَهُنَّ أَزوَاج كفار فِي دَار الْحَرْب لِأَنَّهُ فرق
الْإِسْلَام بَينهم. قَوْله: (وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر)
(الممتحنة: 01) قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تَأْخُذُوا بِعقد
الكوافر، فَمن كَانَت لَهُ امْرَأَة كَافِرَة بِمَكَّة
فَلَا يعتدن بهَا فقد انْقَطَعت عصمتها مِنْهُ وَلَيْسَت
لَهُ بِامْرَأَة، وَإِن جَاءَت امْرَأَة من أهل مَكَّة
وَلها بهَا زوج فَلَا تعتدن بِهِ فقد انْقَطَعت عصمته
مِنْهَا، والعصم جمع عصمَة وَهِي مَا يعتصم بِهِ من عقد.
قَوْله: (واسألوا مَا أنفقتم) أَي: أسالوا أَيهَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذين ذهبت أَزوَاجهم فلحقن بالمشركين
مَا أنفقتم عَلَيْهِنَّ من الصَدَاق من يزوجهن مِنْهُم.
قَوْله: (وليسألوا) يَعْنِي الْمُشْركين الَّذين لحقت
أَزوَاجهم بكم مؤمنات إِذا تزوجهن فِيكُم من يَتَزَوَّجهَا
مِنْكُم مَا أَنْفقُوا، أَي: أَزوَاجهنَّ الْمُشْركُونَ من
الْمهْر. قَوْله: (ذَلِكُم) إِشَارَة إِلَى جَمِيع مَا ذكر
فِي هَذِه الْآيَة، حكم الله يحكم بَيْنكُم كَلَام
مُسْتَأْنف، وَقيل: حَال من حكم الله على حذف الضَّمِير
أَي: يحكمه الله بَيْنكُم وَالله عليم بِجَمِيعِ أحوالكم،
حَكِيم يضع الْأَشْيَاء فِي محلهَا، وَإِنَّمَا فسرت هَذِه
الْآيَة بكمالها لِأَنَّهُ قَالَ: (فامتحنوهن. .) الْآيَة.
قَوْله: (قَالَت عَائِشَة) مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور. قَوْله: (فَمن أقرّ بِهَذَا الشَّرْط) وَهُوَ
أَن لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّه شَيْئا وَلَا يَسْرِقن وَلَا
يَزْنِين. قَوْله: (فقد أقرّ بالمحنة) أَي: بالامتحان،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا المُرَاد بِالْإِقْرَارِ
بالمحنة؟ فَأجَاب بقوله: من أقرّ بِعَدَمِ الْإِشْرَاك
وَنَحْوه فقد أقرّ بِوُقُوع المحنة وَلم يحوجه فِي
وُقُوعهَا إِلَى الْمُبَايعَة بِالْيَدِ وَنَحْوهَا،
وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَقِيَّة الرِّوَايَة: إِن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا التزمن هَذِه الْأُمُور
كَانَ يَقُول: انطلقن، يَعْنِي: فقد حصل الامتحان. قَوْله:
(انطلقن فقد بايعتكن) بيّنت هَذَا بعد ذَلِك بقولِهَا فِي
آخر الحَدِيث: فقد بايعتكن كلَاما، أَي: بقوله، وَوَقع فِي
رِوَايَة عقيل: كلَاما مَا يكلمها بِهِ وَلَا يُبَايع
بِضَرْب الْيَد على الْيَد كَمَا كَانَ يُبَايع الرِّجَال،
وأوضحت ذَلِك بقولِهَا: لَا وَالله مَا مست يَد رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره. وَفِي
رِوَايَة عقيل فِي الْمُبَايعَة: غير أَنه بايعهن
بالْكلَام. |